تفسير سورة البقرة

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سموّ الهمّة للمواصلات بسرائره لم يجد لطائف الذكر عند قالته، ولا كرائم القرب فى صفاء حالته.
[فصل] معنى الله: الذي له الإلهية، والإلهية استحقاق نعوت الجلال. فمعنى بسم الله:
باسم من تفرّد بالقوة والقدرة. الرحمن الرحيم من توحّد فى ابتداء الفضل والنصرة. فسماع الإلهية يوجب الهيبة والاصطلام، وسماع الرحمة يوجب القربة والإكرام. وكلّ من لاطفه الحق سبحانه عند سماع هذه الآية ردّه بين صحو ومحو، وبقاء وفناء، فإذا كاشفه بنعت الإلهية أشهده جلاله، فحاله محو. وإذا كاشفه بنعت الرحمة أشهده جماله فحاله صحو:
أغيب إذا شهدتك ثم أحيا فكم أحيا لديك وكم أبيد
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١)
هذه الحروف المقطعة فى أوائل السورة من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله- عند قوم، ويقولون لكل كتاب سر، وسر الله فى القرآن هذه الحروف المقطعة. وعند قوم إنها مفاتح أسمائه، فالألف من اسم «الله»، واللام يدل على اسمه «اللطيف»، والميم يدل على اسمه «المجيد» و «الملك».
وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه.
وقيل إنها أسماء السور.
وقيل الألف تدل على اسم «الله» واللام تدل على اسم «جبريل» والميم تدل على اسم «محمد» صلى عليه وسلم، فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
والألف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف فى الخط وسائر الحروف يتصل بها إلا حروف يسيرة، فينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة إلى احتياج الخلق بجملتهم إليه، واستغنائه عن الجميع.
ويقال يتذكر العبد المخلص «١» من حالة الألف تقدّس الحق سبحانه وتعالى عن التخصص
(١) وردت في ص (المخلض) وهى خطأ من الناسخ.
بالمكان فإن سائر الحروف لها محل من الحلق أو الشفة «١» أو اللسان إلى غيره من المدارج «٢» غير الألف فإنها هويته، لا تضاف إلى محل.
ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه وتعالى فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه.
ويقال يطالب العبد فى سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين جانبه فى (مراعاة) حقه، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه.
ويقال اختص كل حرف بصيغة مخصوصة وانفردت الألف باستواء القامة، والتميز عن الاتصال بشىء من أضرابها من الحروف، فجعل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن من تجرّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حظى بالرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوى، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هى غير مركبة، على سنة الأحباب فى ستر الحال، وإخفاء الأمر على الأجنبى من القصة- قال شاعرهم:
قلت لها قفى لنا قالت قاف لا تحسبى أنّا نسينا لا يخاف ولم يقل وقفت سترا على الرقيب ولم يقل لا أقف مراعاة لقلب الحبيب بل: «قالت قاف».
ويقال تكثر العبارات «٣» للعموم والرموز والإشارات للخصوص، أسمع موسى كلامه فى ألف موطن، وقال لنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم: ألف... وقال عليه السّلام: أوتيت جوامع الكلم «٤» فاختصر لى الكلام اختصارا» وقال بعضهم: قال لى مولاى: ما هذا الدنف؟
قلت: تهوانى؟ قال: لام الف قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)
(١) وردت فى ص (الشفق) وهى خطأ من الناسخ.
(٢) معناها المخارج- كما جاء فى الهامش.
(٣) وردت فى ص (العبادات) والأصح بالراء لأن القشيري فى مواضع كثيرة يقابل بين العبارة والإشارة.
(٤) وردت فى ص (القلم) وهى خطأ من الناسخ. وسيأتى تخريج الحديث فى هامش قريب.
قيل ذلك الكتاب أي هذا الكتاب، وقيل إشارة إلى ما تقدم إنزاله من الخطاب، وقيل ذلك الكتاب الذي وعدتك إنزاله عليك يوم الميثاق.
لا ريب فيه، فهذا وقت إنزاله. وقيل ذلك الكتاب الذي كتبت فيه الرحمة على نفسى لامتك- لا شك فيه، فتحقق بقولي.
وقيل الكتاب الذي هو سابق حكمى، وقديم قضائى لمن حكمت له بالسعادة، أو ختمت عليه بالشقاوة لا شك فيه.
وقيل (حكمى الذي أخبرت أن رحمتى سبقت على غضبى لا شك فيه «١» ).
وقيل إشارة إلى ما كتب فى قلوب أوليائه من الإيمان والعرفان، والمحبة والإحسان، وإن كتاب الأحباب عزيز على الأحباب، لا سيما عند فقد اللقاء، وبكتاب الأحباب سلوتهم وأنسهم، وفيه شفاؤهم وروحهم، وفى معناه أنشدوا:
وكتبك حولى لا تفارق مضجعى وفيها شفاء للذى أنا كاتم
وأنشدوا:
ورد الكتاب بما أقرّ عيوننا وشفى القلوب فنلن غايات المنى
وتقاسم الناس المسرة بينهم قسما وكان أجلهم حظّا أنا «٢»
قوله جل ذكره: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي بيانا وحجة، وضياء ومحجة، لمن وقاه الحق سبحانه وتعالى من ظلمات الجهل، وبصّره بأنوار العقل، واستخلصه بحقائق الوصل. وهذا الكتاب للأولياء شفاء، وعلى الأعداء عمّى وبلاء. المتّقى من اتقى رؤية تقاه، ولم يستند إلى تقواه، ولم ير نجاته إلا بفضل مولاه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
(١) ما بين القوسين تكملة استدرك بها الناسخ فأثبتها فى هامش الصفحة.
(٢) لم يكن الناسخ يظهر اهتماما بأبيات الشعر فوصلتنا رديئة الخط كثيرة الأخطاء فقمنا بتصحيحها بقدر الإمكان حتى تبدو ذات معنى، وذلك استنادا إلى حالة لها اكثر ضبطا إما في مواضع أخرى من هذا الكتاب أو من كتب القشيري الأخرى.
55
حقيقة الإيمان التصديق ثم التحقيق، وموجب الأمرين التوفيق. والتصديق بالعقل والتحقيق ببذل الجهد، فى حفظ العهد، ومراعاة الحد. فالمؤمنون هم الذين صدّقوا باعتقادهم ثم الذين صدقوا فى اجتهادهم.
وأمّا الغيب فما يعلمه «١» العبد مما خرج عن حد الاضطرار فكل أمر دينى أدركه العبد بضرب استدلال، ونوع فكر واستشهاد فالإيمان به غيبيّ. فالرب سبحانه وتعالى غيب.
وما أخبر الحق عنه من الحشر والنشر، والثواب والمآب، والحساب والعذاب- غيب.
وقيل إنما يؤمن بالغيب من كان معه سراج الغيب، وأن من أيّدوا ببرهان العقول آمنوا بدلالة العلم وإشارة اليقين، فأوردهم صدق الاستدلال ساحات الاستبصار، وأوصلهم صائب الاستشهاد إلى مراتب السكون فإيمانهم بالغيب بمزاحمة علومهم دواعى الريب.
ومن كوشف بأنواع التعريف أسبل عليهم سجوف الأنوار، فأغناهم بلوائح البيان عن كل فكر وروية، وطلب بخواطر ذكية، وردّ وردع لدواع ردية، فطلعت شموس أسرارهم فاستغنوا عن مصابيح استدلالهم، وفى معناه أنشدوا:
ليلى من وجهك شمس الضحى وظلامه فى الناس سارى
والناس فى سدف الظلا م ونحن فى ضوء النهار
وأنشدوا:
طلعت شمس من أحبّك ليلا فاستضاءت ومالها من غروب
إن شمس النهار تغرب بالليل وشمس القلوب ليست تغيب «٢»
ومن آمن بالغيب بشهود الغيب غاب فى شهود الغيب فصار غيبا يغيب.
وأمّا إقامة الصلاة فالقيام بأركانها وسننها ثم الغيبة «٣» عن شهودها برؤية من يصلّى له «٤»
(١) وردت (يعمله) والأرجح أن تكون (يعلمه) حتى تتلاءم مع طبيعة الغيب.
(٢) وردت (مما لها)، (وتغيب بالليل)، (ليت تغيب) وقد صححنا ذلك بما يتلاءم مع الوزن والمعنى
(٣) وردت (ثم الغيت) وهى خطأ من الناسخ والأصح (الغيبة) كما سنجد فى الهامش التالي.
(٤) القشيري هنا متأثر بفكرة الواسطي حينما دخل نيسابور وسأل أصحاب أبى عثمان: بماذا كان يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالتزام الطاعات ورؤية التقصير فيها. فقال «.... هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشئها ومجريها» الرسالة ص ٣٤.
56
فيحفظ عليه أحكام الأمر بما يجرى عليه منه، وهو عن ملاحظتها محو، فنفوسهم مستقبلة القبلة، وقلوبهم مستغرقة فى حقائق الوصلة:
أرانى إذا صلّيت يمّمت نحوها بوجهي وإن كان المصلّى ورائيا
أصلى فلا أدرى إذا ما قضيتها أثنتين صليت الضحى أم ثمانيا؟
وإن أصحاب العموم يجتهدون عند افتتاح الصلاة ليردوا قلوبهم إلى معرفة ما يؤدون من الفرض، ولكن عن أودية الغفلة ما يرجعون. أما أهل الخصوص فيردون قلوبهم إلى معرفة ما يؤدون ولكن عن حقائق الوصلة ما يرجعون فشتّان بين غائب يحضر أحكام الشرع ولكن عند أوطان الغفلة، وبين غائب يرجع إلى أحكام الشرع ولكن عند حقائق الوصلة.
قوله جل ذكره: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ الرزق ما تمكّن الإنسان من الانتفاع به، وعلى لسان التفسير أنهم ينفقون أموالهم إمّا نفلا وإما فرضا على موجب تفصيل «١» العلم. وبيان الإشارة أنهم لا يدخرون عن الله سبحانه وتعالى شيئا من ميسورهم فينفقون نفوسهم فى آداب العبودية، وينفقون قلوبهم على دوام مشاهدة الربوبية. فإنفاق أصحاب الشريعة من حيث الأموال، وإنفاق أرباب الحقيقة من حيث الأحوال، فهؤلاء يكتفى منهم عشرين بنصف ومن المائتين بخمس «٢»، وعلى هذا السّنن جميع الأموال يعتبر فيه النّصاب. وأمّا أهل الحقائق فلو جعلوا من جميع أحوالهم- لأنفسهم ولحظوظهم- لحظة قامت عليهم القيامة.
[فصل] الزاهدون أنفقوا فى طريقة متابعة هواهم، فآثروا رضاء الله على مناهم، والعابدون أنفقوا فى سبيل الله وسعهم وقواهم، فلازموا سرا وعلنا نفوسهم. والمريدون أنفقوا فى سبيله ما يشغلهم عن ذكر مولاهم فلم يلتفتوا إلى شىء من دنياهم وعقباهم. والعارفون أنفقوا فى سبيل الله ما هو سوى مولاهم فقرّبهم الحق سبحانه وأجزاهم، وبحكم الإفراد به لقّاهم.
(١) وردت (تفضيل) ولا يرجحها السياق فالمقصود ما يفصله العلم من مقادير زكاة المال. [.....]
(٢) إشارة إلى ان زكاة الأموال مقدارها ربع العشر.
57
[فصل] الأغنياء أنفقوا من نعمهم على عاقبتهم. والفقراء أنفقوا من هممهم على منابتهم «١» ويقال العبد بقلبه وببدنه وبماله، فبإيمانهم بالغيب قاموا بقلوبهم، وبصلاتهم قاموا بنفوسهم، وبإنفاقهم قاموا بأموالهم، فاستحقوا خصائص القربة من معبودهم، وحين قاموا لحقّه بالكلية استوجبوا كمال الخصوصية.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
إيمانهم بالغيب اقتضى إيمانهم بالقرآن، وبما أنزل الله من الكتب قبل القرآن، ولكنه أعاد ذكر الإيمان هاهنا على جهة التخصيص والتأكيد، وتصديق الواسطة صلّى الله عليه وسلّم فى بعض ما أخبر يوجب تصديقه فى جميع ما أخبر، فإن دلالة صدقه تشهد على الإطلاق دون التخصيص، وإنما أيقنوا بالآخرة لأنهم شهدوا على الغيب فإن حارثة لما قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف أصبحت؟ قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا، وكأنى بأهل الجنة يتزاورون وكأنى بأهل النار يتعاوون «٢» وكأنى بعرش ربى بارزا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أصبت فالزم.
وهذا عامر بن عبد القيس يقول: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا». وحقيقة اليقين التخلص عن تردد التخمين، والتقصي عن مجوزات الظنون.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
يعنى على بيان
(١) من (أناب) وعند القشيري: التوبة بداية والأوبة نهاية والإنابة واسطتهما، فكل من تاب لخوف عقوبة فهو صاحب توبة ومن تاب طمعا فى الثواب فهو صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة للأمر لا لرغبة في الثواب، او رهبة من العقاب فهو صاحب اوبة (الرسالة ص ٥٠).
(٢) وردت (وكانى بأهل النار تعاويون) ووردت فى موضع آخر من الكتاب عند تفسير الآية ٤٩ من سورة البقرة (يتعادون). وبالرجوع إلى مصادر الحديث وجدناه على النحو التالي: «سأل النبي (ص) حارثة فقال: لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسى عن الدنيا، فأسهرت ليلى، واظمأت نهارى، وكأنى انظر إلى عرش ربى بارزا، وكأنى انظر إلى اهل الجنة يتزاورون، وإلى اهل النار فى النار كيف يتعاوون. فقال له النبي (ص) : عرفت فالزم.».
البزاز بسند ضعيف عن انس، والطبراني فى الكبير من حديث الحارث بن مالك، وسنده ضعيف ايضا
من ربهم ويقين وكشف وتحقيق، وذلك أنه تجلّى لقلوبهم أولا بآياته ثم تجلّى لها بصفاته ثم تجلى لها بحقه وذاته.
وقوم «عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» بدلائل العقول وضعوها فى موضعهما فوصلوا إلى حقائق العلوم، وقوم على بصيرة ملاطفات التقريب فبمشاهدة الرحمة والكرم وصلوا إلى بيان اليقين، وآخرون ظهرت الحقيقة لأسرارهم فشهدوا بالغيب حقيقة الصمدية، فوصلوا بحكم العرفان إلى عين الاستبصار.
«وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الفلاح الظفر بالبغية «١»، والفوز بالطلبة، ولقد نال القوم البقاء فى مشهد اللقاء فظفروا بقهر الأعداء، وهى غانمة «٢» النفوس من هواجسها، ثم زلات القلوب من خواطرها «٣»، فوقفوا بالحق للحق بلا واسطة من عقل، أو رجوع إلى ذكر وفكر.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦)
من كان فى غطاء وصفه محجوبا عن شهود حقه فالإشارة لنعته أنه سيان عنده قول من دلّه على الحق، وقول من أعانه على استجلاب الحظ، بل هو إلى دواعى الغفلة أميل، وفى الإصغاء إليها أرغب. كيف لا؟ وهو بكىّ الفرقة موسوم، وفى سجن الغيبة محبوس، وعن محل القربة ممنوع، لا يحصل منهم إيمان، لأنه ليس لهم من الحق أمان فلمّا لم يؤمنوا لم يؤمنوا. حكم سبق من الله حتم، وقول له فصل، وإن القدرة لا تعارض، ومن زاحم الحق فى القضية «٤» كبسته سطوات العزة، وقصمته بواده «٥» الحكم.
ويقال إن الكافر لا يرعوى عن ضلالته لما سبق من شقاوته، وكذلك المربوط بأغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه، فهو لا يبصر رشده، ولا يسلك قصده. ويقال إن
(١) وردت فى ص (بالبغتة) وهى خطأ من الناسخ.
(٢) الغاغة مرعى البهائم.
(٣) يقول القشيري فى رسالته: إن الهاجس خاص بالنفس والخاطر خاص بالقلب ص ٤٦، ٤٧.
(٤) القضية هنا معناها القضاء.
(٥) البواده ما يفجأ القلب من الغيب على سبيل الوهلة (الرسالة ص ٤٤).
الذي بقي فى ظلمات رعونته سواء عنده نصح المرشدين وتسويلات المبطلين، لأن الله سبحانه وتعالى نزع عن أحواله بركات الإنصاف، فلا يدرك بسمع القبول، ولا يصغى إلى داعى الرشاد، كما قيل:
وعلى النصوح نصيحتى... وعلىّ عصيان النصوح
ويقال من ضلّ عن شهود المنّة عليه فى سابق القسمة توهّم أن الأمر من حركاته وسكناته فاتّكل على أعماله، وتعامى عن شهود أفضاله.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٧]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
الختم على الشيء يمنع ما ليس فيه أن يدخله وما فيه أن يخرج منه، وكذلك حكم الحقّ سبحانه بألا يفارق قلوب أعدائه ما فيها من الجهالة والضلالة، ولا يدخلها شىء من البصيرة والهداية. على أسماع قلوبهم غطاء الخذلان، سدّت تلك المسامع عن إدراك خطاب الحق من حيث الإيمان، فوساوس الشيطان وهواجس النفوس شغلتها عن استماع خواطر الحق.
وأمّا الخواص فخواطر العلوم وجولان تحقيقات المسائل فى قلوبهم شغلت قلوبهم عن ورود أسرار الحق عليهم بلا واسطة، وإنما ذلك لخاص الخاص، لذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد كان فى الأمم محدّثون فإن يكن فى أمتى فعمر» «١» فهذا المحدّث مخصوص من الخواص كما أن صاحب العلوم مخصوص من بين العوام. وعلى بصائر الأجانب غشاوة فلا يشهدون لا ببصر العلوم ولا ببصيرة الحقائق، ولهم عذاب عظيم لحسبانهم أنهم على شىء، وغفلتهم عما منوا من المحنة (و... ) »
فى الحال والمال «٣»، فى العاجل فرقته، وفى الآجل حرقته.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٨]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)
(١) للحديث صورة أخرى «إن من أمتى مكلّمين ومحدّثين وإن عمر منهم».
(٢) مشتبهة فى ص.
(٣) والأرجح أنها (فى الحال والمآل) حتى تنسجم مع العاجل والآجل.
ثبتوا على نفاقهم، ودأبوا على أن يلبّسوا على المسلمين، فهتك الله أستارهم بقوله: وما هم بمؤمنين كذا قيل:
من تحلى بغير ما هو فيه فضح الامتحان ما يدّعيه
ولما تجردت أقوالهم عن المعاني كان وبال ما حصلوه منها أكثر من النفع الذي توهموه فيها، لأنه تعالى قال: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» ولولا نفاقهم لم يزدد عذابهم.
ويقال لما عدموا صدق الأحوال لم ينفعهم صدق الأقوال، فإن الله تعالى قال: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» فكانوا يقولون نشهد إنك لرسول الله، وكذلك من أظهر من نفسه ما لم يتحقق به افتضح عند أرباب التحقيق فى الحال، وقيل:
أيها المدعى سليمى هواها لست منها ولا قلامة ظفر
إنما أنت فى هواها كواو ألصقت فى الهجاء ظلما بعمرو
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٩]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩)
عاد وبال خداعهم والعقوبة عليه «١» إلى أنفسهم فصاروا فى التحقيق كأنهم خادعوا أنفسهم، فما استهانوا إلا بأقدارهم، وما استخفّوا إلا بأنفسهم، وما ذاق وبال فعلهم سواهم، وما قطعوا إلا وتينهم. ومن كان عالما بحقائق المعلومات فمن رام خداعه إنما يخدع نفسه.
والإشارة فى هذه الآية أن من تناسى لطفه السابق وقال لى ربى ومنى وأنا يقع فى وهمه وظنه لك وبك ومنك وأنت، وهذا التوهم أصعب العقوبات «٢» لأنه يرى سرابا فيظنه شرابا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوقّاه حسابه.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
فى قلوب المنافقين مرض الشك، ويزيدهم الله مرضا بتوهمهم أنهم نجوا بما لبّسوا
(١) وردت فى ص (عليها) والأصح أن تكون عليه لأن الضمير يعود على الخداع وربما قصد القشيري عودة الضمير على مفهوم، وهو جريمة الخداع.
(٢) جاء فى رسالة القشيري «التوحيد إسقاط الياءات فلا تقول لى وبي ومنى وإلى» ص ١٤٩
61
على المسلمين، ثم لهم عذاب أليم مؤلم، يخلص وجعه إليهم فى المآل. (وفى) الإشارة يحصل لمن خلط قصده بحظّه، وشاب إرادته بهواه (أن) يتقدم فى الإرادة بقدم، ويتأخر بالحظوظ ومتابعة النفس بأخرى، فهو لا مريد صادق ولا عاقل متثبت. ولو أن المنافقين أخلصوا فى عقائدهم لأمنوا «١» فى الآخرة من العقوبة كما أمنوا فى الدنيا من نحو بذل الجزية وغير ذلك مما هو صفة أهل الشرك والذمة «٢»، كذلك لو صدق المريد فى إرادته لوصل بقلبه إلى حقائق الوصلة، ولأدركته بركات الصدق فيما رامه من الظفر بالبغية، ولكن حاله كما قيل:
فما ثبتنا فيثبت لنا عدل بلا حنف... ولو خلصنا تخلصنا من المحن «٣»
وإن من سقمت عبادته حيل بينه وبين درجات الجنات، ومن سقمت إرادته حيل بينه وبين مواصلات القرب والمناجاة. وأمّا من ركن إلى الدنيا واتّبع الهوى فسكونهم «٤» إلى دار الغرور سقم لقلوبهم، والزيادة فى علتهم تكون بزيادة حرصهم كلما وجدوا منها شيئا- عجّل لهم العقوبة عليه- يتضاعف حرصهم على ما لم يجدوه.
ثم من العقوبات العاجلة لهم تشتت همومهم ثم تنغّص عيشهم فيبغون بها عن مولاهم، ولم يكن لهم استمتاع ولا راحة فيما آثروه من متابعة هواهم، وهذا جزاء من أعرض عن صحبة مولاه، وفى معناه قيل:
تبدلت فتبدلنا وا حسرتا... لمن ابتغى عوضا ليسلو فلم يجد «٥»
والإشارة فى العذاب الأليم بما كانوا يكذبون إنما هى الحسرة يوم الكشف إذا رأوا أشكالهم الذين صدقوا كيف وصلوا، ورأوا أنفسهم كيف خسروا.
(١) وردت (لآمنوا) وهى خطأ من الناسخ. [.....]
(٢) وردت (وألزمته) وهى خطأ فى الكتابة.
(٣) أصلحنا قليلا فى البيت لكى يؤدى معنى، لأن ما فى البيت من اخطاء كتابية تفقده كل قيمة، وترجح أنها (حيف) لا (حنف) وإن كان الحنف معناه الميل إلا أن الحيف وهو الظلم أقرب.
(٤) ويحتمل ايضا انها فى الأصل (فركونهم) حتى تتلاءم مع (ومن ركن... )، وكلاهما مقبول.
(٥) وزن البيت غير سليم وقد ورد فيه (وا خسرانا) و (ليلى) ويبدو أن الناسخ قد وقع فى اخطاء أخرى عند النقل.
62
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١ الى ١٢]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)
الإشارة منها: أنه إذا دعاهم واعظ فى قلوبهم من خفى خواطرهم إلى ما فيه رشدهم تتبعوا رخص التأويل، ولبّسوا على أنفسهم ما يشهد بقساوة قلوبهم، وحين جحدوا برهان الحق من خواطر قلوبهم نزع الله البركة من أحوالهم، وأبدلهم تصامما عن الحق، وابتلاهم بالاعتراض على الطريقة «١» وسلبهم الإيمان بها.
وكما أن المرتد أشد على المسلمين عداوة كذلك من رجع عن الإرادة إلى الدنيا والعادة فهو أشد الناس إنكارا لهذه الطريقة، وأبعد من أهلها، وفى المثل: من اخترق كدسه «٢» تمنى أن يقع بجميع الناس ما أصابه.
وإرفاق المرتدين عن طريق الإرادة- عند الصادقين منهم- غير مقبول كما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقبل زكاة ثعلبة.
ويقال كفى لصاحب الكذب فضيحة بأن يقال له فى وجهه كذبت، فهم لمّا قالوا إنما نحن مصلحون، أكذبهم الحق سبحانه فقال: «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ» : إنّا نعلمهم فنفضحهم.
قوله عز ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
الإشارة منها أن المنافقين لما دعوا إلى الحق وصفوا المسلمين بالسّفه، وكذلك أصحاب الغنى إذا أمروا بترك الدنيا وصفوا أهل الرشد بالكسل والعجز، ويقولون إن الفقراء ليسوا على شىء، لأنه لا مال لهم ولا جاه ولا راحة ولا عيش، وفى الحقيقة هم الفقراء وهم أصحاب المحنة وقعوا فى الذل مخالفة الذل، ومارسوا الهوان خشية الهوان، شيّدوا القصور ولكن
(١) يقصد القشيري طريقة الصوفية.
(٢) الكدس بضم الكاف وتسكين الدال: المجتمع من كل شىء كالحب المحصود والتمر والدرام والرمل والجمع اكداس (الوسيط واللسان).
سكنوا القبور، زيّنوا المهد ولكن أدرجوا اللحد، ركضوا فى ميدان الغفلة ولكن عثروا فى أودية الحسرة، وعن قريب سيعلمون، ولكن حين لا ينفعهم علمهم، ولا يغنى عنهم شىء.
سوف ترى إذا انجلى الغبار... أفرس تحتك أم حمار
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
أراد المنافقون أن يجمعوا بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين، فإذا برزوا للمسلمين قالوا نحن معكم، وإذا خلوا بأضرابهم من الكفار أظهروا الإخلاص لهم، فأرادوا الجمع بين الأمرين فنفوا عنهما. قال الله تعالى: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ»، وكذلك من رام أن يجمع بين طريق الإرادة وما عليه أهل العادة لا يلتئم ذلك، فالضدان لا يجتمعان، و «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم»، وإذا ادلهم الليل من هاهنا أدبر النهار من هاهنا، ومن كان له فى كل ناحية خليط، وفى زاوية من قلبه ربيط كان نهبا للطوارق، ينتابه كل قوم، وينزل فى قلبه كل (....) «١»، فقلبه أبدا خراب، لا يهنأ بعيش، ولا له فى التحقيق رزق من قلبه، قال قائلهم:
أراك بقية من قوم موسى... فهم لا يصبرون على طعام
ولما قال المنافقون إنما نحن مستهزئون قال الله تعالى: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» أي يجازيهم على استهزائهم، كذلك لما ألقى القوم أزمّتهم فى أيدى الشهوات استهوتهم فى أودية التفرقة، فلم يستقر لهم قدم على مقام فتطوحوا فى متاهات الغيبة، وكما يمد المنافقين فى طغيانهم يعمهون يطيل مدة «٢» هؤلاء فى مخايل الأمل فيكونون عند اقتراب آجالهم أطول ما كانوا أملا، وأسوأ ما كانوا عملا، ذلك جزاء ما عملوا، ووبال ما صنعوا. وتحسين أعمالهم القبيحة فى أعينهم من
(١) مشتبهة فى ص.
(٢) وربما كانت يطيل (مد) والسياق يقبل كليهما.
أشد العقوبات لهم، ورضاؤهم بما فيه من الفترة «١» أجلّ مصيبة لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
الإشارة منها أن من بقي عن الحقوق بالبقاء فى أوطان الحظوظ خسرت صفقتهم:
وما ربحت تجارتهم. والذي رضى بالدنيا عن العقبى لفى خسران ظاهر.
ومن آثر الدنيا أو العقبى على الحق تعالى لأشد خسرانا.
وإذا كان المصاب «٢» بفوات النعيم مغبونا فالذى مني بالبعاد عن المناجاة وانحاز «٣» بقلبه عن مولاه، وبقي فى أسر الشهوات، لا إلى قلبه رسول، ولا لروحه وصول، ولا معه مناجاة، ولا عليه إقبال، ولا فى سرّه شهود- فهذا هو المصاب والممتحن.
وإن من فاته وقت فقد فاته ربه، فالأوقات لا خلف عنها ولا بدل منها، ولقد قال بعضهم:
كنت السواد لمقلتى... فبكى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت... فعليك كنت أحاذر
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧)
هذا مثل ضربه الله سبحانه للمنافقين بمن استوقد نارا «٤» فى ابتداء ليلته ثم أطفئت النيران فبقى صاحبها فى الظلمة، كذلك المنافق ظهر عليه شىء من العوافي فى الدنيا بظاهره ثم امتحنوا فى الآخرة بأليم العقوبة، أو لاح شىء من إقرارهم ثم بقوا فى ظلمة إنكارهم.
والإشارة من هذه الآية لمن له بداية جميلة يسلك طريق الإرادة، ويتعنّي مدة، ويقاسى بعد الشدة شدة، ثم يرجع إلى الدنيا قبل الوصول إلى الحقيقة، ويعود إلى ما كان فيه من ظلمات البشرية. أورق عوده ثم لم يثمر، وأزهر غصنه ثم لم يدركه، وعجّل كسوف الفترة على
(١) الفترة رجوع عن الإرادة وخروج منها، والوقفة سكون عن السير باستحلاء حالات الكسل، ووقفة المريد شر من فترته (الرسالة ص ١٩٩).
(٢) وردت (المصايب) فى ص وهى غير ملائمة.
(٣) وردت (وأنجاز) والأرجح ما اخترنا.
(٤) وردت (نارى) والأرجح ما اخترنا.
أقمار حضوره، وردّته يد القهر بعد ما أحضره لسان اللطف، فوطن عن القرب قلبه، وغلّ من الطالبين نفسه، فكان كما قيل.
حين قرّ الهوى وقلنا سررنا... وحسبنا من الفراق أمنّا
بعث البين رسله فى خفاء... فأبادوا من شملنا ما جمعنا
وكذلك تحصل الإشارة فى هذه الآية لمن له أدنى شىء من المعاني فيظهر الدعاوى فوق ما هو به، فإذا انقطع عنه (... ) «١» ماله من أحواله بقي فى ظلمة دعاواه.
وكذلك الذي يركن إلى حطام الدنيا وزخرفها، فإذا استتبت الأحوال وساعد الأمل وارتفع المراد- برز عليه الموت من مكامن المكر فيترك الكل ويحمل الكلّ.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨]
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)
صم عن سماع دواعى الحق بآذان قلوبهم، بكم عن مناجاة الحق بألسنة أسرارهم، عمى عن شهود جريان المقادير بعيون بصائرهم، فهم لا يرجعون عن تماديهم فى تهتكهم، ولا يرتدعون عن انهماكهم فى ضلالتهم.
ويقال صم عن السماع بالحق، بكم عن النطق بالحق، وعمى عن مطالعة الخلق بالحق.
لم يسبق لهم الحكم بالإقلاع، ولم تساعدهم القسمة بالارتداع.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)
معنى قوله أو لإباحته ضرب مثلهم إمّا بهذا وإما بذلك شبّه القرآن بمطر ينزل من السماء، وشبّه ما فى القرآن من الوعد والوعيد بما فى المطر من الرعد والبرق، وشبه التجاءهم إلى الفرار عند سماع أصوات الرعد. كذلك الإشارة لأصحاب الغفلات إذا طرق أسماعهم وعظ الواعظين، أو لاحت لقلوبهم أنوار السعادة ولو أقلعوا عمّاهم فيه من الغفلة لسعدوا، لكنهم ركنوا إلى التشاغل بآمالهم الكاذبة، وأصروا على طريقتهم الفاسدة، وتعللوا بأعذار واهية،
(١) هنا كلمات زائدة وضع الناسخ عليها علامات مميزة توضح ضرورة الاستغناء عنها.
ويحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، يهلكون أنفسهم، ويسعون فى الخطر بأيمانهم «١» :
إن الكريم إذا حباك بودّه ستر القبيح وأظهر الإحسانا
وكذا الملول «٢» إذا أراد قطيعة ملّ «٣» الوصال وقال كان وكانا
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠]
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
من تمام مثل المنافقين- كذلك أصحاب الغفلات- إذا حضروا مشاهد الوعظ، أو جنحت «٤» قلوبهم إلى الرقة، أو داخلهم شىء من الوهلة تقرب أحوالهم من التوبة، وتقوى رغبتهم فى الإنابة حتى إذا رجعوا إلى تدبرهم، وشاوروا إلى قرنائهم، أشار الأهل والولد عليهم بالعود إلى دنياهم، وبسطوا فيهم لسان النصح، وهدّدوهم بالضعف والعجز، فيضعف قصودهم، وتسقط إرادتهم، وصاروا كما قيل:
إذا ارعوى، عاد إلى جهله كذى الضنى عاد إلى نكسة
وقال: «ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم» يعني سمع المنافقين الظاهر وأبصارهم الظاهرة، كما أصمهم وأعماهم بالسر، فكذلك أرباب الغفلة، والقانعون من الإسلام بالظواهر- فالله تعالى قادر على سلبهم التوفيق فيما يستعملونه من ظاهر الطاعات، كما سلبهم التحقيق فيما يستبطنونه من صفاء الحالات.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)
العبادة موافقة الأمر، وهى استفراغ الطاقة فى مطالبات تحقيق الغيب، ويدخل فيه التوحيد بالقلب، والتجريد بالسر، والتفريد بالقصد، والخضوع بالنفس، والاستسلام للحكم.
ويقال اعبدوه بالتجرد عن المحظورات، والتجلد فى أداء الطاعات، ومقابلة الواجبات
(١) جمع يمين ومعناها هنا اليد. [.....]
(٢) وردت (الملوك) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) وردت (ملا) وهى خطأ فى النسخ.
(٤) وردت في ص (جنهت) وهى خطأ فى النسخ.
بالخشوع والاستكانة، والتجافي عن التعريج فى منازل الكسل والاستهانة.
قوله: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» : تقريب الأمر عليهم وتسهيله، ولقد وقفهم بهذه الكلمة- أعنى لعلّ- على حد الخوف والرجاء.
وحقيقة التقوى التحرز والوفاء (بالطاعة) «١» عن متوعدات العقاب.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
تعرّف إليهم بذكر ما منّ به عليهم من خلق السماء لهم سقفا «٢» مرفوعا، وإنشاء الأرض لهم فرشا موضوعا، وإخراج النبات لهم بالمطر رزقا مجموعا. ويقال أعتقهم عن منّة الأمثال بما أزاح لهم من العلة فيما لا بدّ منه، فكافيهم السماء لهم غطاء، والأرض وطاء، والمباحات رزقا، والطاعة حرفة، والعبادة شغلا، والذكر مؤنسا، والرب وكيلا- فلا تجعلوا لله أندادا، ولا تعلّقوا قلوبكم بالأغيار فى طلب ما تحتاجون إليه فإن الحق سبحانه وتعالى متوحّد بالإبداع، لا محدث سواه، فإذا توهمتم أن شيئا من الحادثات من نفع أو ضرر، أو خير أو شر يحدث من مخلوق كان ذلك- فى التحقيق شركا.
وقوله عز وجل: «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أن من له حاجة فى نفسه لا يصلح أن ترفع حاجتك إليه.
وتعلّق المحتاج بالمحتاج، واعتماد الضعيف على الضعيف يزيد فى الفقر، ولا يزيل هواجم الضر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
(١) هذه كلمة احتاجها السياق فآضفناها مستفيدين من اقوال القشيري فى موقف مماثل فى الرسالة ص ٥٦ (وحقيقة الاتقاء التحرز......).
(٢) وردت (شقفا) وهى خطأ فى النسخ.
لبّس على بصائر الأجانب حتى لم يشهدوا حبيبه صلوات الله عليه، فتاهوا فى أودية الظنون لما فقدوا نور العناية، فلم يزدد الرسول عليهم إتيانا بالآيات، وإظهارا من المعجزات إلا ازدادوا ريبا على ريب وشكّا على شك، وهكذا سبيل من أعرض عن الحق سبحانه، لا يزيده ضياء الحجج إلا عمى عن الحقيقة قال الله تعالى: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ»، وليبلغ عليهم فى إلزام الحجة عرّفهم عجزهم عن معارضة ما آتاهم من معجزة القرآن الذي قهر الأنام من أولهم إلى آخرهم، وقدّر عليهم أنهم لو تظاهروا فيما بينهم، واعتضدوا بأشكالهم، واستفرغوا كنه طاقتهم واحتيالهم لم يقدروا على الإتيان بسورة مثل سورة القرآن. ثم قال فإن لم تفعلوا- وأخبر أنهم قطعا لا يقدرون على ذلك ولا يفعلون فقال:
«ولن تفعلوا»، فكان كما قال- فانظروا لأنفسكم، واحذروا الشّرك الذي يوجب لكم عقوبة النار التي من (سطوتها) «١» بحيث وقودها الناس والحجارة، فإذا كانت تلك النار التي لا تثبت لها الحجارة مع صلابتها () «٢» فكيف يطيقها الناس مع ضعفهم، وحين أشرفت «٣» قلوب المؤمنين على غاية الإشفاق من سماع ذكر النار تداركها بحكم التثبيت فقال: «أعدّت للكافرين، ففى ذلك بشارة للمؤمنين. وهذه سنّة من الحق سبحانه: إذا خوّف أعداءه «٤» بشّر مع ذلك أولياءه.
وكما أنّ كيد الكافرين يضمحل فى مقابلة معجزات الرسل عليهم السلام فكذلك دعاوى الملبسين تتلاشى عند ظهور أنوار الصديقين، وأمارة المبطل فى دعواه رجوع الزجر منه إلى القلوب، وعلامة الصادق فى معناه وقوع القهر «٥» منه على القلوب. وعزيز من فصلّ وميّز بين رجوع الزجر وبين وقوع القهر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
(١) وردت بالصاد وعند ذلك يكون الخطأ من الناسخ، وربما كانت فى الأصل (صفتها)، وقد تخيرنا (سطوتها) لأنها أقرب إلى الشكل الوارد ولتلاؤمها مع المعنى والسياق.
(٢) هنا كلمة زائدة وضع الناسخ عليها علامة مميزة.
(٣) وردت بالقاف وهى خطأ فى النسخ.
(٤) وردت هكذا (اعداويه) وهى خطأ فى النسخ.
(٥) وردت (التهم) ولكن ما جاء بعدها يثبت خطأ الناسخ، فضلا عن أنها غير ذات معنى هنا.
هذه البشارة بالجنان تتضمن تعريفا بنعم مؤجلة لعموم المؤمنين على الوصف الذي يشرح بلسان التفسير. ويشير إلى البشارة للخواص بنعم معجّلة مضافة إلى تلك النعم يتيح (ها) الله لهم على التخصيص، فتلك المؤجلة «١» جنان المثوبة وهذه جنان القربة، وتلك رياض النزهة وهذه رياض الزّلفة، بل تلك حدائق الأفضال وهذه حقائق الوصال، وتلك رفع الدرجات وهذه روح المناجاة، وتلك قضية جوده، هذه الاشتعال بوجوده، وتلك راحة الأبشار وهذه نزهة الأسرار، وتلك لطف العطاء للظواهر وهذه كشف الغطاء عن السرائر، وتلك لطف نواله وأفضاله وهذه كشف جماله وجلاله.
قوله جل ذكره: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ.
كما أن أهل الجنة تتجدد «٢» عليهم النعم فى كل وقت، فالثانى عندهم- على ما يظنون- كالأول، فإذا ذاقوه وجدوه فوق ما تقدّم- فكذلك أهل الحقائق: أحوالهم فى السرائر أبدا فى الترقي، فإذا رقىّ أحدهم عن محلّه توهّم أن الذي سيلقاه فى هذا النّفس مثل ما تقدم فإذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم:
مازلت أنزل من ودادك منزلا تتحيّر الألباب دون نزوله
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦)
الاستحياء من الله تعالى بمعنى التّرك، فإذا وصف نفسه بأنه يستحى من شىء فمعناه أنه لا يفعل ذلك وإذا قيل لا يستحى فمعناه لا يبالى بفعل ذلك.
والخلق فى التحقيق- بالإضافة إلى وجود الحق- أقلّ من ذرة من الهباء فى الهواء،
(١) وقع الناسخ فى خطأ فكتبها (المعجلة) والسياق يرفضها لأن الإشارة للبعيد بتلك وللقريب بهذه.
(٢) وردت (يحدد) والسياق برفضها ويقبل (تتجدد) وربما كانت (يجدد) أي الحق سبحانه وتعالى يجدد.
70
لأن هذا استهلاك محدود فى محدود. فسيّان- فى قدرته»
- العرش والبعوضة، فلا خلق العرش أشق وأعسر، ولا خلق البعوضة أخف عليه وأيسر، فإنه سبحانه متقدّس عن لحوق العسر واليسر.
فإذا كان الأمر بذلك الوصف، فلا يستحى أن يضرب بالبعوضة مثلا كما لا يستحى أن يضرب بالعرش- فما دونه- مثلا.
وقيل إن جهة ضرب المثل بالبعوضة أنها إذا جاعت فرّت «١» وطارت، وإذا شبعت تشققت فتلفت كذلك (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).
وقيل ما فوقها يعنى الذباب، وجهة الإشارة فيه إلى وقاحته، حتى إنه ليعود عند البلاغ فى الذب، ولو كان ذلك فى الأسد لم ينج منه أحد من الخلق، ولكنه لمّا خلق القوة فى الأسد خلق فيه تنافرا من الناس، ولمّا خلق الوقاحة فى الذباب خلق فيه الضعف، تنبيها منه سبحانه على كمال حكمته، ونفاذ قدرته.
قوله جل ذكره: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا.
فأمّا من فتحت أبصار سرائره فلا ينظر إلى الأغيار والآثار إلا بنظر الاعتبار، ولا يزداد إلا نفاذ الاستبصار. وأمّا الذين سكرت أبصارهم بحكم الغفلة فلا يزيدهم ضرب الأمثال إلا زيادة الجهل والإشكال والأنكال.
قوله جل ذكره: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ.
هذا الكتاب لقوم شفاء ورحمة، ولآخرين شقاء وفتنة. فمن تعرّف إليه يوم الميثاق بأنوار العناية حين سمعوا قوله: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» تذكّروا عند ورود الواسطة- صلوات الله عليه وعلى آله- قديم عهده، وسابق ودّه فازدادوا بصيرة على بصيرة، ومن رسمه بذلّ القطيعة، وأنطقه ذلك اليوم عن الحسبان والرهبة ما ازدادوا عند حصول الدعوة
(١) وردت (فريت) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) وردت (قدرة). [.....]
71
النبوية إلا جحدا على جحد، وما خفى عليهم اليوم صادق الدلالة، إلا لما تقدم لهم سابق الضلالة. لذلك قال الله تعالى: «وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧]
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
الإشارة فيه إلى حال من سلك طريق الإرادة، ثم رجع إلى ما هو عليه أهل العادة، قال بترك نفسه ثم لم يصدق حين عزم الأمر، ونزل من إشارة الحقيقة إلى رخص الشريعة «١»، وكما أنّ من سلك الطريق بنفسه- مادام يبقى درهم فى كيسه- فغير محمود رجوعه فكذلك من قصد بقلبه- مادام يبقى نفس من روحه- فغير مرضىّ رجوعه:
إن الألى ماتوا على دين الهدى وجدوا المنية منهلّا معلولا «٢»
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل: وصل أسباب الحق بقطع أسباب الخلق، ولا يتم وصل ماله إلا بقطع ما لك، فإذا كان الأمر بالعكس كان الحال بالضد.
ومما أمر العبد بوصله: حفظه ذمام أهل هذه الطريقة، والإنفاق على تحصيل ذلك بصدق الهمم لا ببذل النّعم، فهممهم على اتصال أسباب هذه الطريقة وانتظام أحوالها موقوفة، وقلوبهم إلى توقع الحراسة من الله تعالى لأهلها مصروفة. وفساد هذه الطريقة فى الأرض:
أما من لهم حواشى أحوالهم، وإطراق أمورهم فيتشاغلون عن إرشاد مريد بكلامهم، وإشحاذ قاصد بهممهم وذلك مما لا يرضى به الحق سبحانه منهم.
ومن نقض العهد أيضا أن يحيد سرّك لحظة عن شهوده، ومن قطع ما أمرت بوصله
(١) من عناصر المذهب الصوفي عند القشيري إلحاحه الدائم على ألا يلجأ الصوفي إلى الاسترخاص، ذلك لأن الرخصة- وإن كانت متاحة بأمر الشريعة- إلا أنها- أي الشريعة- للعموم، وفيها يؤخذ فى الاعتبار أمر المستضعفين وأصحاب الأشغال والحوائج أما «هؤلاء الطائفة فليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه، فإذا انحط الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة فقد فسخ عهده مع الله تعالى».
الرسالة ص ١٩٩.
(٢) وردت (الهوى) وفى موضع آخر من اللطائف (و ١٦٥) وردت: (منهلا معسولا).
أن يتخلل أوقاتك نفس لحظّك دون القيام بحقه، ومن فسادك فى الأرض ساعة تجرى عليك ولم تره فيها. ألا إن ذلك هو الخسران المبين، والمحنة العظمة، والرزية الكبرى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)
هذه كلمة تعجيب وتعظيم لما فيه العبد، أي لا ينبغى مع ظهور الآيات أن يجنح إلى الكفر قلبه.
ويقال تعرّف إلى الخلق بلوائح دلالاته، ولوامع آياته. فقال: «وَكُنْتُمْ أَمْواتاً» يعنى نطفة، أجزاؤها متساوية، «فَأَحْياكُمْ» : بشرا اختصّ بعض أجزاء النطفة بكونه عظما، وبعضها بكونه لحما، وبعضها بكونه شعرا، وبعضها بكونه جلدا... إلى غير ذلك.
«ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» بأن يجعلكم عظاما ورفاتا، «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» بأن يحشركم بعد ما صرتم أمواتا، «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» أي إلى ما سبق به حكم من السعادة والشقاوة.
ويقال «كُنْتُمْ أَمْواتاً» بجهلكم عنّا، «فَأَحْياكُمْ» بمعرفتكم بنا، «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» عن شواهدكم، «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» به بأن يأخذكم عنكم، «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» أي بحفظ أحكام الشرع بإجراء الحق «١».
ويقال «كُنْتُمْ أَمْواتاً» لبقاء نفوسكم فأحياكم بفناء نفوسكم ثم يميتكم عنكم عن شهود ذلك لئلا تلاحظوه فيفسد عليكم، ثم يحييكم بأن يأخذكم عنكم ثم إليه ترجعون بتقلبكم فى قبضته سبحانه وتعالى.
ويقال يحبس عليهم الأحوال فلا حياة بالدوام ولا فناء بالكلية، كلّما قالوا هذه حياة- وبيناهم كذلك- إذ أدال عليهم فأفناهم، فإذا صاروا إلى الفناء أثبتهم وأبقاهم، فهم أبدا بين نفى وإثبات، وبين بقاء وفناء، وبين صحو ومحو... كذلك جرت سنته سبحانه معهم.
(١) وردت (بأجزاء) وهى خطأ قطعا.
والمقصود بإجراء الحق هنا هو ما سبق ان نوّهنا به فى هامش سابق عن حالة الفرق الثاني حيث «يرد العبد إلى الصحو عند اوقات أداء الفرائض ليجرى عليه الفرائض فى أوقاتها فيكون رجوعا لله بالله.
فالحق مجرى أفعاله وأحواله عليه»
الرسالة ص ٣٩.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٩]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
سخّر لهم جميع المخلوقات على معنى حصول انتفاعهم بكل شىء منها، فعلى الأرض يستقرون وتحت السماء يسكنون، وبالنجم يهتدون، وبكل مخلوق بوجه آخر ينتفعون. لا بل ما من عين وأثر فكروا فيه إلا وكمال قدرته وظهور ربوبيته به يعرفون.
ويقال مهّد لهم سبيل العرفان، ونبّههم إلى ما خصّهم به من الإحسان، ثم علمهم علوّ الهمة حيث استخلص لنفسه أعمالهم وأحوالهم فقال «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ».
قوله جل ذكره: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
فالأكوان بقدرته استوت، لا أن الحق سبحانه بذاته- على مخلوق- استوى، وأنّى بذلك! والأحدية والصمدية حقه وما توهموه من جواز التخصيص بمكان فمحال ما توهموه، إذ المكان به استوى، لا الحق سبحانه على مكان بذاته استوى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٠]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠)
هذا ابتداء إظهار سرّه فى آدم وذريته. أمر حتى سلّ من كل بقعة طينة ثم أمر بأن يخمر طينه أربعين صباحا، وكل واحد من الملائكة يفضى «١» العجب: ما حكم هذه الطينة؟ فلمّا ركب صورته لم يكونوا رأوا مثلها فى بديع الصنعة وعجيب الحكمة، فحين قال «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ... » ترجّمت الظنون، وتقسّمت القلوب، وتجنّت الأقاويل، وكان كما قيل:
وكم أبصرت من حسن ولكن عليك من الورى وقع اختياري
ويقال إن الله سبحانه وتعالى خلق ما خلق من الأشياء ولم يقل فى شأن شىء منه ما قال فى حديث آدم حيث قال: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، فظاهر هذا الخطاب يشبه المشاورة
(١) وردت فى ص (يقصى) بالقاف والصواب أن تكون (يفضى) بالفاء.
74
لو كان من المخلوقين. والحق سبحانه وتعالى خلق الجنان بما فيها، والعرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء وكمال الصورة، ولم يقل إنى خالق عرشا أو جنة أو ملكا، وإنما قال تشريفا وتخصيصا لآدم إنى جاعل فى الأرض خليفة.
[فصل] ولم يكن قول الملائكة: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» على وجه الاعتراض على التقدير ولكن على جهة الاستفهام، فإن حمل الخطاب على ما يوجب تنزيه الملائكة أولى لأنهم معصومون... قال تعالى «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ».
ويقال استخرج الحق سبحانه منهم ما استكنّ فى قلوبهم من استعظام طاعاتهم والملاحظة إلى أفعالهم بهذا الخطاب فأفصحوا عن خفايا أسرارهم بقولهم: «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ». ثم إن الحق سبحانه عرّفهم أن الفضيلة بالعلم أتمّ من الفضيلة بالفعل، فهم كانوا أكثر فعلا وأقدمه، وآدم كان أكثر علما وأوفره، فظهرت فضيلته ومرتبته.
ويقال لم يقل الحق سبحانه أنتم لا تفسدون فيها ولا تسفكون الدماء بل قال: «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ»، من غفرانى لهم.
ويقال: فى تسبيحهم إظهار فعلهم واشتهار خصائصهم وفضلهم «١»، ومن غفرانه لمعاصى بنى آدم إظهار كرمه سبحانه ورحمته، والحق سبحانه غنى عن طاعات كل مطيع، فلئن ظهر بتسبيحهم استحقاق تمدحهم ثبت بالغفران استحقاق تمدح الخالق سبحانه.
ويقال إنى أعلم ما لا تعلمون من صفاء عقائد المؤمنين منهم فى محبتنا، وذكاء سرائرهم فى حفظ عهودنا وإن تدنّس بالعصيان ظاهرهم، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد... جاءت محاسنه بألف «٢» شفيع
ويقال إنى أعلم ما لا تعلمون من محبتى لهم، وأنتم تظهرون أحوالكم، وأنا أخفى عليهم أسرارى فيهم، وفى معناه أنشدوا:
ما حطّك الواشون عن رتبة... عندى ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا- ولم يعلموا-... عليك عندى بالذي عابوا «٣»
(١) نلاحظ هنا تأثر القشيري بفكرة الملامة النيسابورية التي ظهرت فى موطنه، والتي من أصولها عدم إظهار الفعل، لأن فى ذلك ملاحظة واستجلاب، ملاحظة لفعل الإنسان وهو مهما بلغ تافه حقير، واستجلاب لرضاء الناس والاشتهار بينهم، وكلا الأمرين- فى نظر الملامتية- شرك خفى.
(٢) وردت (بألفى) وبها ينكر الوزن.
(٣) وردت أخطاء كثيرة فى البيتين مثل (ضربك) ولم (يعلموا علمك).
75
ويقال إنى أعلم ما لا تعلمون من انكسار قلوبهم وإن ارتكبوا قبيح أفعالهم، وصولة قلوبكم عند إظهار تسبيحكم وتقديسكم، فأنتم فى رتبة وفاقكم وفى عصمة أفعالكم، وفى تجميل تسبيحكم، وهم منكرون عن شواهدهم، متذللون بقلوبهم، وإن لانكسار قلوب العباد عندنا لذماما قويا.
ويقال أي خطر لتسبيحكم لولا فضلى، وأي ضرر من ذنوبهم إذا كان عفوى؟ ويقال لبّستكم طاعتكم ولبستهم رحمتى، فأنتم فى صدار «١» طاعتكم وفى حلّة تقديسكم وتسبيحكم، وهم فى تغمد عفوى وفى ستر رحمتى ألبستهم ثوب كرمى، وجللتهم رداء عفوى.
ويقال: إن أسعدتكم عصمتى فلقد أدركتهم رحمتى.
وإيصال عصمتى بكم عنده وجودكم وتعلّق رحمتى بهم فى أزلى.
ويقال: لئن كان محسنكم عتيق العصمة فإن مجرمهم غريق الرحمة.
ويقال: اتكالهم علىّ زكّى أحوالهم فألجأهم إلى الاعتراف بالجهالة حتى يتبرأوا عن المعارف إلا بمقدار ما منّ به الحق عليهم فقالوا: «سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣١]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١)
عموم قوله الأسماء يقتضى الاستغراق، واقتران قوله سبحانه بكلها يوجب الشمول والتحقيق، وكما علّمه أسماء المخلوقات كلها- على ما نطق به تفسير ابن عباس وغيره- علّمه أسماء الحق سبحانه، ولكن إنما أظهر لهم «٢» محل تخصصه فى علمه أسماء المخلوقات وبذلك المقدار بان رجحانه عليهم، فأما انفراده بمعرفة أسمائه- سبحانه- فذلك سرّ لم يطّلع عليه ملك مقرّب. ومن ليس له رتبة مساواة آدم فى معرفة أسماء المخلوقات فأى طمع فى مداناته فى أسماء الحق، ووقوفه على أسرار الغيب؟
وإذا كان التخصيص بمعرفة أسماء المخلوقات يتقضى أن يصحّ (به سجود) «٣» الملائكة
(١) الصدار قميص صغير يلى الجسد، ولاحظ مقابلة القشيري بين الصدار للملائكة وبين الثوب والرداء للإنسان لتدرك مقاصده البعيدة.
(٢) أي للملائكة.
(٣) وردت فى ص (بسجود) ونرجح أنها كما أثبتنا.
فما الظن بالتخصيص بمعرفة أسماء الحق سبحانه؟ ما الذي يوجب لمن أكرم به؟
ويقال خصوصية الملائكة بالتسبيح والتقديس وهذه طاعات تليق بالمخلوقين فإنّ الطاعة سمة العبيد ولا تتعداهم، والعلم فى الجملة صفة مدح يجب فى نعت الحق سبحانه واجبا لا يصحّ لغيره، فالذى يكرمه بما يتصف هو سبحانه (بيانه وإن كان للمساواة أتم من الكرام بما يكون مخلوقا على جنس المخلوقات) «١».
ويقال أكرمه فى السر بما علّمه ثم بيّن تخصيصه يوم الجهر وقدّمه. ويقال قوله: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ» ثم: حرف تراخ ومهلة.. إمّا على آدم فإنه أمهله من الوقت ما تقرر ذلك فى قلبه، وتحقق المعلوم له بحقه ثم حينئذ استخبره عما تحقّق به واستيقنه. وإمّا على الملائكة فقال لهم على وجه الوهلة: «أَنْبِئُونِي» فلمّا لم يتقدم لهم تعريف تحيّروا، ولمّا تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر، ونطق وأفلح، إظهارا لعنايته السابقة- سبحانه- بشأنه.
وقوله: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» فيه إشارة إلى أنهم تعرّضوا لدعوى الخصوصية، والفضيلة والمزية على آدم، فعرّفهم أن الفضل ليس بتقديم تسبيحهم لكنه فى قديم تخصيصه. ولمّا علم الحقّ سبحانه تقاصر علومهم عن معرفة أسماء المخلوقات ثم كلّفهم الإنباء عنها صار فيه أوضح دلالة على أنّ الأمر أمره، والحكم حكمه، فله تكليف المستطيع، ردا على من توهّم أن أحكام الحق سبحانه معلّلة باستحسان أرباب الغفلة بما يدعونه من قضايا العقول، لا بل له أن يلزم ما يشاء لمن يشاء، الحسن ما حكم بتحسينه والقبيح ما حكم بتقبيحه «٢».
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٢]
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)
قدّموا الثناء على ذكر ما اعتذروا به، ونزّهوا حقيقة حكمه عن أن يكون يعرض وهم المعترضون «٣»، يعنى لا علم لنا بما سألتنا عنه، ولا يتوجّه عليك لوم فى تكليف العاجز
(١) هكذا جاءت العبارة فى ص وهى لا تخلو من غموض ولكننا آثرنا عدم التدخل فى إصلاحها نظرا لخطورة الموقف الذي تصفه، ونرجح أن الناسخ مخطئ فى نقله.
(٢) يغمز القشيري هنا بالمعتزلة الذين يقيسون الأفعال الإلهية بمقاييس إنسانية عقلية (ولكنهم نزهوا الله من حيث العقل فأخطأوا ونزهه الصوفية من حيث العلم فأصابوا) الرسالة ص ٢٩.
(٣) وردت (المعترضين)، ويعرض هنا مضارع عرض فى الآية السابقة.
بما علمت أنه غير مستطيع له، إنك أنت العليم الحكيم أي ما تفعله فهو حقّ صدق ليس لأحد عليك حكم، ولا منك سفه وقبح.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٣]
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
من آثار العناية بآدم عليه السّلام أنّه لمّا قال للملائكة: «أَنْبِئُونِي» داخلهم من هيبة الخطاب ما أخذهم عنهم، لا سيما حين طالبهم بإنبائهم إياه ما لم تحط به علومهم. ولما كان حديث آدم عليه السّلام ردّه فى الإنباء إليهم فقال: «أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» ومخاطبة آدم عليه السلام الملائكة لم يوجب له الاستغراق فى الهيبة. فلما أخبرهم آدم عليه السّلام بأسماء ما تقاصرت عنها علومهم ظهرت فضيلته عليهم فقال: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يعنى ما تقاصرت عنه علوم الخلق، وأعلم ما تبدون من الطاعات، وتكتمون من اعتقاد الخيرية على آدم عليه السّلام والصلاة.
[فصل] ولمّا أراد الحق سبحانه أن ينجّى «١» آدم عصمه، وعلّمه، وأظهر عليه آثار الرعاية حتى أخبر بما أخبر به، وحين أراد إمضاء حكمه فيه أدخل عليه النسيان حتى نسى فى الحضرة عهده، وجاوز حدّه، فقال الله تعالى: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» فالوقت الذي ساعدته العناية تقدم على الجملة بالعلم والإحسان، والوقت الذي أمضى عليه الحكم ردّه إلى حال النسيان والعصيان، كذا أحكام الحق سبحانه فيما تجرى وتمضى، ذلّ بحكمه العبيد، وهو فعّال لما يريد.
[فصل] ولمّا توهموا حصول تفضيلهم بتسبيحهم وتقديسهم عرّفهم أن بساط العز مقدس عن التجمل بطاعة مطيع أو التدنس بزلة جاحد عنيد، فردّهم إلى السجود لآدم أظهر الغناء عن كل وفاق وخلاف «٢».
(١) وردت (ينجب) وهى بلا ريب خطأ فى النسخ ويمكن أن تكون ينجى آدم- كما أثبتنا- أو ينجو آدم، والأرجح ما اخترناه. [.....]
(٢) وردت (وخلاق) وهى خطأ فى النسخ، وقد اخترنا ما يلائم السياق.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٤]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)
السجود لا يكون عبادة لعينه «١» ولكن لموافقة أمره سبحانه، فكأن سجودهم لآدم عبادة لله لأنه كان بأمره، وتعظيما لآدم لأنه أمرهم به تشريفا لشأنه، فكأن ذلك النوع خضوع له ولكن لا يسمى عبادة، لأن حقيقة العبادة نهاية الخضوع وذلك لا يصحّ لغيره سبحانه.
ويقال بيّن أن تقدّسه- سبحانه- بجلاله لا بأفعالهم، وأن التجمّل بتقديسهم وتسبيحهم عائد إليهم، فهو الذي يجل من أجلّه بإجلاله لا بأفعالهم، ويعز من أعزّ قدره سبحانه بإعزازه، جلّ عن إجلال الخلق قدره، وعزّ عن إعزاز الخلق ذكره.
قوله تعالى: «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» أبى بقلبه، واستكبر عن السجود بنفسه، وكان من الكافرين فى سابق حكمه وعلمه. ولقد كان إبليس مدة فى دلال طاعته يختال فى صدار موافقته، سلّموا له رتبة التقدم، واعتقدوا فيه استحقاق التخصيص، فصار أمره كما قيل:
وكان سراج الوصل أزهر بيننا فهبّت به ريح من البين فانطفا
كان يحسب لنفسه استيجاب الخيرية، ويحسب استحقاق الزلفة والخصوصية:
فبات بخير والدنى «٢» مطمئنة وأصبح يوما والزمان تقلبا
فلا سالف طاعة نفعه، ولا آنف رجعة رفعه، ولا شفاعة شفيع أدركته، ولا سابق عناية أمسكته. ومن غلبه القضاء لا ينفعه العناء.
ولقد حصلت من آدم هفوة بشرية، فتداركته رحمة أحدية، وأما إبليس فأدركته شقوة أزلية، وغلبته قسمة وقضية. خاب رجاؤه، وضلّ عناؤه.
(١) الضمير عائد على آدم أي ليس السجود لآدم عينه، ويحتمل أنها (لغيره) بدليل قوله فيما بعد (وذلك لا يصح لغيره سبحانه)
(٢) وردت (والزمان) وقد صححنا البيت طبقا لما ورد فى عيون الأخبار لابن قتيبة.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٥]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)
«١» أسكنه الجنة ولكن أثبت مع دخوله شجرة المحنة، ولولا سابق التقدير لكان يبدل تلك الشجرة بالنضارة ذبولا، وبالخضرة يبسا، وبالوجود فقدا، وكانت لا تصل يد آدم إلى الأوراق ليخصفها على نفسه- ويقع منه ما يقع.
ولو تطاولت تلك الشجرة حتى كانت لا تصل إليها يده حين مدّها لم يقع فى شأنه كل ذلك التشويش ولكن بدا من التقدير ما سبق به الحكم.
ولا مكان أفضل من الجنة ولا بشر أكيس من آدم، ولا ناصح يقابل قولة إشارة الحق عليه، ولا غريبة (منه) قبل ارتكابه ما ارتكب، ولا عزيمة أشد من عزيمته- ولكنّ القدرة لا تكابر، والحكم لا يعارض.
ويقال لما قال له: «اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً» كان فيه إشارة إلى أن الذي يليق بالخلق السكون إلى الخلق، والقيام باستجلاب الحظ، وآدم عليه السّلام وحده كان بكل خير وكل عافية، فلمّا جاء الشكل والزوج ظهرت أنياب الفتنة، وانفتح باب المحنة فحين ساكن حواء أطاعها فيما أشارت عليه بالأكل، فوقع فيما وقع، ولقد قيل:
داء قديم فى بنى آدم... صبوة إنسان بإنسان
[فصل] وكلّ ما منع «٢» منه ابن آدم توفرت دواعيه إلى الاقتراب منه.
فهذا آدم عليه السّلام أبيحت له الجنة بجملتها ونهى عن شجرة واحدة، فليس فى المنقول أنه مدّ يده إلى شىء من جملة ما أبيح، وكان عيل صبره حتى واقع ما نهى عنه- هكذا صفة الخلق.
[فصل] وإنما نبّه على عاقبة دخول آدم الجنة من ارتكابه ما يوجب خروجه منها حين قال: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» فإذا أخبر أنه جاعله خليفته فى الأرض كيف يمكن بقاؤه فى الجنة؟
(١) وردت خطأ (فكلا)، والصحيح (وكلا) البقرة: ٣٥.
(٢) وردت (امتنع) ثم استدرك الناسخ فصححها على هذا النحو فى الهامش.
ويقال أصبح آدم عليه السّلام محمود الملائكة، مسجود الكافة، على رأسه تاج الوصلة، وعلى وسطه نطاق القربة، وفى جيده (....) «١» الزلفة، لا أحد فوقه فى الرتبة، ولا شخص مثله فى الرفعة، يتوالى عليه النداء فى كل لحظة يا آدم يا آدم. فلم يمس حتى نزع عنه لباسه، وسلب استئناسه، والملائكة يدفعونه بعنف أن اخرج بغير مكث:
وأمنته فأتاح لى من مأمنى مكرا، كذا من يأمن الأحبابا
ولمّا تاه آدم عليه السّلام فى مشيته لم يلبث إلا ساعة حتى خرج بألف ألف عتاب، وكان كما قيل:
لله درّهم من فتية بكروا مثل الملوك وراحوا كالمساكين
[فصل] نهاه عن قرب الشجرة بأمره، وألقاه فيما نهاه عنه بقهره، ولبّس عليه ما أخفاه فيه من سرّه.
قوله جلّ ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٦]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)
أزلهما أي حملها على الزّلة، وفى التحقيق: ما صرّفتهما إلا القدرة «٢»، وما كان تقلبهما إلا فى القضية، أخرجهما عما كانا فيه من الرتبة والدرجة جهرا، ولكن ما ازداد- فى حكم الحق سبحانه- شأنهما إلا رفعة وقدرا.
قوله جل ذكره: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.
أوقع العداوة بينهما وبين الشيطان، ولكن كان سبحانه مع آدم (وحرب وهو معهم محالهم بالظفر «٣» ).
[فصل] لم يكن للشيطان من الخطر ما يكون لعداوته إثبات، فإن خصوصية الحق سبحانه عزيزه قال تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ».
[فصل] لو كان لإبليس سلطان على غواية غيره لكان له إمكان فى هداية نفسه،
(١) مشتبهة ولكن يحتمل انها (نضار) فهى قريبة من ذلك فى الرسم.
(٢) هذا رأى على جانب كبير من الأهمية.
(٣) هكذا وردت العبارة فى ص وقد أثبتناها كما هى دون تصرف حتى فى رسم الحروف.
وكيف يكون ذلك؟ والتفرد بالإبداع لكل شىء من خصائص نعته سبحانه.
قوله جل ذكره: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ.
مشهد الأشباح ومألفها أقطار الأرض، ومعهد الأرواح ومرتعها رداء العرش، ولفظ الرداء استعارة وتوسع فكيف يكون للهمم بالحدثان تعلّق، ولصعود القصود إلى الحقائق على الأغيار وقوع.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٧]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)
جرت على لسان آدم مع الحق- سبحانه- كلمات، وأسمع الحقّ- سبحانه- آدم كلمات، وأنشدوا:
وإذا خفنا من الرقباء عينا تكلمت السرائر فى القلوب
وأجمل الحقّ سبحانه القول فى ذلك إجمالا ليبقى القصة مستورة، أو ليكون للاحتمال والظنون مساغ، ولما يحتمله الحال من التأويل مطرح «١».
ويحتمل أن تكون كلمات آدم عليه السّلام اعتذارا وتنصلا، وكلمات الحق سبحانه قبولا وتفضلا. وعلى لسان التفسير أن قوله تعالى له: أفرارا منا يا آدم؟ كذلك قوله عليه السلام: ربنا ظلمنا أنفسنا. وقوله: أمخرجى أنت من الجنة؟ فقال: نعم، فقال أتردني إليها؟ فقال: نعم.
ويقال حين أمر بخروجه من الجنة جعل ما أسمعه إياه من عزيز خطابه زادا، ليكون له تذكرة وعتادا:
وأذكر أيام الحمى ثم انثني على على كبدى «٢» من خشية أن تقطّعا
ومخاطبات الأحباب لا تحتمل الشرح، ولا يحيط الأجانب بها علما، وعلى طريق الإشارة لا على معنى التفسير والتأويل، والحكم على الغيب بأنه كان كذلك وأراد به الحق سبحانه
(١) مطرح أي موضع.
(٢) وردت على (كبد). (والأصل فى البيت) (تصدعا) بدلا من (تقطعا).
ذلك يحتمل فى حال الأحباب عند المفارقة، وأوقات الوداع أن بقال إذا خرجت من عندى فلا تنس عهدى، وإن تقاصر عنك يوما خبرى فإياك أن تؤثر علىّ غيرى، ومن المحتمل أيضا أن يقال إن فاتنى وصولك فلا يتأخّرنّ عنى رسولك.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٨]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)
سوء الأدب على البساط يوجب الرد إلى الباب، فلما أساء آدم عليه السّلام الأدب فى عين القربة قال الله تعالى: «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ، بعد أن كان لكم فى محل القربة قرار وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، يستمتعون يسيرا ولكن (فى) آخرهم يعودون إلى الفقر، وأنشدوا:
إذا افتقروا عادوا إلى الفقر حسبة «١» وإن أيسروا عادوا سراعا إلى الفقر
وحين أخرجه من الجنة وأنزله إلى الأرض بشّره بأنه يردّه إلى حاله لو جنح بقلبه إلى الرجوع فقال: «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
والذين قابلوا النعمة بغير الشكر، وغفلوا عن التصديق والتحقيق فلهم عذاب أليم مؤجلّ، وفراق معجّل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٠]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)
حقيقة النعمة على لسان العلماء «٢» لذة خالصة عن الشوائب، وما يوجب مثلها فهى أيضا عندهم نعمة، وعند أهل الحقيقة النعمة ما أشهدك المنعم أو ما ذكّرك بالمنعم أو ما أوصلك إلى إلى المنعم أو ما لم يحجبك عن المنعم.
(١) حسبة أي احتسابا- هكذا فى الهامش.
(٢) واضح أن مقصود القشيري من (لسان العلماء) و (لسان التفسير) هو التفسير العادي، أما (عند أهل الحقيقة) و (الإشارة منه) ونحو ذلك فهو التفسير الصوفي.
83
وتنقسم إلى نعمة أبشار وظواهر، ونعمة أرواح وسرائر، فالأولى وجوه الراحات والثانية صنوف المشاهدات والمكاشفات. فمن النعم الباطنة عرفان القلوب ومحاب الأرواح ومشاهدات السرائر «١».
[فصل] ويقال أمر بنى إسرائيل بذكر النّعم وأمر أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم بذكر المنعم، وفرق بين من يقال له اذكر نعمتى وبين من يقال له: فاذكرونى أذكركم.
قوله جل ذكره: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
عهده- سبحانه- حفظ المعرفة وعهدنا اتصال المغفرة، عهده حفظ محابه وعهدنا لطف ثوابه، عهده حضور الباب وعهدنا جزيل المآب.
أوفوا بعهدي بحفظ السر أوف بعهدكم بجميل البر، أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق، أوفوا بعهدي فى ألا تؤثروا علىّ غيرى أوف بعهدكم فى ألا أمنع عنكم لطفى وخيرى، أوفوا بعهدي برعاية ما أثبتّ فيكم من الودائع أوف بعهدكم بما أديم لكم من شوارق اللوامع وزواهر الطوالع «٢»، أوفوا بعهدي بحفظ أسرارى أوف بعهدكم بجميل مبارّى، أوفوا بعهدي باستدامة عرفانى أوف بعهدكم فى إدامة إحسانى، أوفوا بعهدي فى القيام بخدمتي أوف بعهدكم فى المنّة عليكم بقبولها منكم، أوفوا بعهدي فى القيام بحسن المجاهدة والمعاملة أوف بعهدكم بدوام المواصلة والمشاهدة، أوفوا بعهدي بالتبري عن الحول والمنّة أوف بعهدكم بالإكرام بالطول والمنّة، أوفوا بعهدي بالتفضيل والتوكل أوف بعهدكم بالكفاية والتفضل، أوفوا بعهدي بصدق المحبة أوف بعهدكم بكمال القربة، أوفوا بعهدي اكتفوا منى بي أوف بعهدكم أرضى بكم عنكم، أوفوا بعهدي فى دار الغيبة على بساط الخدمة بشدّ نطاق الطاعة، وبذل الوسع والاستطاعة أوف بعهدكم فى دار القربة على بساط الوصلة بإدامة الأنس والرؤية وسماع الخطاب وتمام الزلفة، أوفوا بعهدي فى المطالبات بترك
(١) نعرف من هذا ان الملكات الباطنة عند القشيري هى فضلا عن النفس التي هى محل المحظورات والمعلولات، والعقل الذي به تصحيح الإيمان فى البداية- القلب وهو مستودع المعرفة والروح وهى مستودع المحبة ثم السر وهو الذي يشاهد الحقائق، وله فوق ذلك ملكة أخرى هى سر السر أو عين السر لا يطلع عليها سوى الحق.
(٢) اللوامع تسبق الطوالع فى الظهور، والطوالع أبقى وقتا وأقوم سلطانا وأدوم مكثا وأذهب للظلمة وانفى للتهمة (الرسالة ص ٤٣، ٤٤). [.....]
84
الشهوات أوف بعهدكم بكفايتكم تلك المطالبات، أوفوا بعهدي بأن تقولوا أبدا: ربى ربى أوف بعهدكم بأن أقول لكم عبدى عبدى. وإياى فارهبون، أي أفردونى بالخشية لانفرادى بالقدرة على الإيجاد فلا تصح الخشية ممن ليس له ذرة ولا منّة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤١]
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١)
الإشارة أن يقرن (العبد) إيمانه من حيث البيان بإيمانه من حيث البرهان، وجمهور المؤمنين لهم إيمان برهان بشرط الاستدلال، وخواص المؤمنين لهم إيمان من حيث البيان بحق الإقبال، وأقبل الحق سبحانه عليهم فآمنوا بالله، وآخر أحوالهم الإيمان من حيث العيان، وذلك لخواص الخواص.
ولا تكونوا أول كافر به، ولا تسنّوا «١» الكفر سنّة فإن وزر المبتدئ فيما يسنّ أعظم من وزر المقتدى فيما يتابع.
«ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا» لا تؤثروا على عظيم حقى خسيس حظّكم. «وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ» كثير «٢» من يتقى عقوبته وعزيز من يهاب اطلاعه ورؤيته.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٢]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)
«٣» لا تتوهموا أن يلتئم لكم جمع الضدين، والكون فى حالة واحدة فى محلين «٤»، (فالعبد) إما مبسوط بحق أو مربوط بحظ، وأمّا حصول الأمرين فمحال من الظن.
«وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ» تدنيس، «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ» تلبيس، «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أن حق الحق تقديس، وأنشدوا:
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله، كيف يلتقيان؟!
هى شامية إذا ما استهلت وسهيل إذا استهل يمانى!
(١) وردت (ولا تنسوا) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) وردت (كثيرا) وهى خطأ حيث يجب الرفع على تقدير (من يتقى عقوبته كثير).
(٣) أخطأ الناسخ إذ كتبها. (ولا تلبس) والصحيح ولا تلبسوا (البقرة: ٤١).
(٤) وردت فى (محلى) وهى خطأ فى النسخ.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٣]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
احفظوا آداب الحضرة فحفظ الآداب أتمّ فى الخدمة من الخدمة، والإشارة فى إيتاء الزكاة إلى زكاة الهمم كما تؤدّى زكاة النّعم، قال قائلهم:
كلّ شىء له زكاة تؤدّى... وزكاة الجمال رحمة مثلى
فيفيض من زوائد هممه ولطائف نظره على المتّبعين والمربين بما ينتعشون به و (... ) «١»،
«وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» : تقتدى بآثار السلف فى الأحوال، وتجتنب سنن الانفراد فإن الكون فى غمار الجمع أسلم من الامتياز من الكافة «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٤]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤)
أتحرّضون الناس على البدار «٣» وترضون بالتخلّف؟ ويقال أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنّا؟ أتسرحون الوفود وتقصرون فى الورود «٤» ؟ أتنافسون الخلق «٥» وتنافرونهم بدقائق الأحوال وترضون بإفلاسكم عن ظواهرها؟
ويقال أتبصرون من الحق مثقال الذّر ومقياس الحبّ وتساهمون لأنفسكم أمثال الرّمال والجبال؟ قال قائلهم:
وتبصر فى العين منى القذى... وفى عينك الجذع لا تبصر؟!
ويقال أتسقون بالنّجب «٦» ولا تشربون بالنّوب؟
(١) هنا لفظتان مشتبهتان وفيهما شطب.
(٢) الاشارة وإن كانت لصلاة الجماعة إلا أنها توضح أيضا حرص القشيري على الاهتمام بالإجماع كمصدر من مصادر الشريعة.
(٣) وردت بالياء وهى خطأ فى النسخ.
(٤) من ورد الماء أي ذهب ليستسقى.
(٥) وردت أتنافسون (الحق) وواضح أنها خطا فى النسخ.
(٦) نجب الأشياء وتجائبها لبابها وخالصها، وربما كانت النخب (بالخاء) ج نخب وهو الشربة العظيمة الوسيط ص ٩١٥.
«وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ» ثم تعاندون بخفايا الدعاوى وتجحدون بما شام قلوبكم من فضيحات الخواطر وصريحات الزواجر.
«أَفَلا تَعْقِلُونَ» إن ذلك ذميم من الخصال وقبيح من الفعال.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٥]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥)
الصبر فطم النفس عن المألوفات، والصلاة التعرّض لحصول المواصلات، فالصبر يشير إلى هجران الغير، والصلاة تشير إلى دوام الوقوف بحضرة الغيب، وإن الاستعانة بهما لخصلة شديدة إلا على من تجلّى الحق لسرّه فإن فى الخبر المنقول: «إن الله تعالى إذا تجلّى لشىء «١» خشع له». وإذا تجلّى الحق، خفّ وسهل ما توقّى الخلق لأن التوالي للطاعات يوجب التكليف بموجب مقاساة الكلفة، والتجلي بالمشاهدات- بحكم التحقيق- يوجب تمام الوصلة ودوام الزلفة.
ويقال استعينوا بي على الصبر معى، واستعينوا بحفظي لكم على صلاتكم لى، حتى لا تستغرقكم واردات الكشف والهيبة، فلا تقدرون على إقامة الخدمة.
وإن تخفيف سطوات الوجود على القلب فى أوان الكشف حتى يقوى «٢» العبد على القيام بأحكام الفرق لمنّة عظيمة من الحق «٣».
وأقسام الصبر كلها محمودة الصبر فى الله، والصبر لله، والصبر بالله والصبر مع الله إلا صبرا واحدا وهو الصبر عن «٤» الله:
والصبر يخسن فى المواطن كلها إلا عليك فإنه مذموم «٥»
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٦]
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦).
(١) وردت بدون اللام، والأصح بها.
(٢) وردت حتى (يقول) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) يشير القشيري بذلك إلى الفرق الثاني، ويعتبر أن من علامة قبول العبد عند ربه أن يساعده على الرجوع إلى هذا الفرق حتى يستطيع أداء ما عليه من فريضة
(٤) الأرجح أنها (على) بدليل ورودها فى البيت الشاهد، كذا في «الرسالة» فى سياق مماثل. [.....]
(٥) ورد البيت فى الرسالة هكذا (والصبر يجمل) و (فإنه لا يجمل) ص ٩٣.
الظن يذكر، ويقال المراد به اليقين، وهو الأظهر هاهنا.
ويذكر ويراد به الحسبان فمن ظنّ ظن يقين فصاحب وصلة.
ومن ظنّ ظن تخمين فصاحب فرقة. وملاقو ربهم، صيغة تصلح لماضى الزمان والحاضر وهم ملاقون ربهم فى المستقبل. ولكن القوم «١» لتحققهم بما يكون من أحكام الغيب صاروا كأن الوعد لهم تقرّر، والغيب لهم حضور.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٧]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧)
أشهد بنى إسرائيل فضل أنفسهم فقال: «وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ».
وأشهد المسلمين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فضل نفسه فقال: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» «٢».
فشتّان بين من مشهوده فضل نفسه، وبين من مشهوده فضل ربه فشهود العبد فضل نفسه يوجب له الشكر وهو خطر الإعجاب، وشهود العبد فضل الحق- الذي هو جلاله فى وصفه وجماله فى استحقاق نعته- يقتضى الثناء وهو يوجب الإيجاب «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٨]
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
العوام خوّفهم بأفعاله فقال: «وَاتَّقُوا يَوْماً» «وَاتَّقُوا النَّارَ».
والخواص خوّفهم بصفاته فقال: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ» وقال:
«وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ إلى قوله إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً» «٤».
وخاص الخاص خوّفهم بنفسه فقال: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ».
(١) يقصد الصوفية.
(٢) سورة يونس آية ٥٨.
(٣) الإيجاب- الاستحقاق والقبول.
(٤) يونس آية ٦١.
والعدل الفداء.
ويوم القيامة لا تسمع الشفاعة إلا لمن أمر الحق بالشفاعة له، وأذن فيه، فهو الشفيع الأكبر- على التحقيق- وإن كان لا يطلق عليه لفظ الشفيع لعدم التوقيف «١».
وفى معناه قيل:
الحمد لله شكرا... فكلّ خير لديه
صار الحبيب شفيعا... إلى شفيع إليه
والذين أصابتهم نكبة القسمة لا تنفعهم شفاعة الشافعين، وما لهم من ناصرين، فلا يقبل منهم فداء، ولو افتدوا بملء السموات وملء الأرضين.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٩]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)
من صبر فى الله على بلاء أعدائه عوّضه الله صحبة أوليائه، وأتاح «٢» له جميل عطائه فهؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه فجعل منهم أنبياءهم، وجعلهم ملوكا، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين. «وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» : قيل نعمة عظيمة وقيل محنة شديدة. وفى الحقيقة ما كان من الله- فى الظاهر- محنة فهو- فى الحقيقة لمن عرفه- نعمة ومنّة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٠]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)
تقاصرت بصائر بنى إسرائيل فأراهم المعجزات عيانا، ونفذت بصائر هذه الأمة فكاشفهم بآياته سرا، وبذلك جرت سنّته سبحانه، وكل من كان أشحذ بصيرة كان الأمر عليه أغمض،
(١) وردت (التوفيق) وهى خطأ فى النسخ، والقشيري- كغيره من الباحثين- يرى أنه لا ينبغى إضافة اسماء وصفات لما ورد فى الحديث المروىّ عن أبى هريرة والذي أبلغها تسعة وتسعين، فلا يصح أن يسمى الله عاقلا ولا ذكيا ونحو ذلك.
(٢) وردت (بالخاء) وهى خطأ فى النسخ.
والإشارات معه أوفر، قال صلّى الله عليه وسلّم» : أوتيت جوامع الكلم واختصر لى الكلام اختصارا» «١».
وحين شاهدوا ظاهر تلك الآيات من فلق البحر وإغراق آل فرعون- داخلهم ريب فقالوا: إنه لم يغرق «٢» حتى قذفهم البحر، فنظر بنو إسرائيل إليهم وهم مغرقون. وهذه الأمة لفظ تصديقهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله، وقوة بصائرهم (أن) قال واحد من أفتاء «٣» الناس: «كأنى بأهل الجنة يتزاورون وكأنى بأهل النار يتعاوون وكأنى أنظر عرش ربى بارزا» «٤» فشتّان بين من يعاين فيرتاب مع عيانه، وبين من يسمع فكالعيان حاله من قوة إيمانه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥١]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١)
شتّان بين أمة وأمة فأمّة موسى عليه السّلام- غاب نبيّهم عليه السّلام أربعين يوما فاتخذوا العجل معبودهم، ورضوا بأن يكون لهم بمثل العجل معبودا، فقالوا:
«هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ» «٥» وأمة محمد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم مضى من وقت نبيّهم سنون كثيرة فلو سمعوا واحدا يذكر فى وصف معبودهم ما يوجب تشبيها لما أبقوا على حشاشتهم ولو كان فى ذلك ذهاب أرواحهم «٦».
(١) «إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه واختصر لى الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوكون» البيهقي فى شعب الإيمان عن أبى قتادة مرسلا (المنتخب من كنز العمال ٤ ص ٣٠٢).
والتهوك الاضطراب فى القول وأن يكون على غير استقامة.
(٢) الفعل بالمفرد هنا لأنه عائد على لفظ آل أو على فرعون، ثم تحدث بعد ذلك بالجمع حين أعاده على المعنى
(٣) إفتاء وفتاء جمع فتّى وهو الشاب من إنسان أو حيوان الوسيط ص ٦١٠.
(٤) خرّجتا هذا الحديث المروي عن حارثة فى هامش سبق.
(٥) سورة طه آية ٨٨.
(٦) يغمز القشيري هنا بالمشبهة، فيلحق من يقول بالتشبيه بعيدة العجل، فكلاهما توقح ونسب للالوهية ما ينبغى أن تتنزه عنه. وأهل السنة يرفضون رفضا قاطعا كل ما يشين الذات الإلهية من تصورات مادية.
ويقال إن موسى- صلوات الله عليه- سلّم أمته إلى أخيه فقال: اخلفني فى قومى، وحين رجع وجدهم وقعوا فى الفتنة، ونبيّنا- صلوات الله عليه- توكّل على الله فلم يشر على أحد فى أمر الأمة وكان يقول فى آخر حاله: الرفيق الأعلى. فانظر كيف تولّى الحق رعاية أمته فى حفظ التوحيد عليهم. لعمرى يضيّعون حدودهم ولكن لا ينقضون «١» توحيدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٢]
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢)
سرعة العفو على عظيم الجرم تدل على حقارة قدر المعفو عنه، يشهد لذلك قوله تعالى (مخاطبا أمهات المسلمين) :«مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ»، هؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال الله تعالى: «ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ»، وقال لهذه الأمة (يقصد أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم) :«وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٣]
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
فرقان هذه الأمة الذي اختصّوا به نور فى قلوبهم، به يفرّقون بين الحق والباطل، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لوابصة: «استفت قلبك» «٢».
وقال: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» «٣».
وقال الله تعالى: «إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» وذلك الفرقان ميراث ما قدّموه من الإحسان.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)
أي ما أضررتم إلا بأنفسكم فيما ارتكبتم من ذنوبكم، فأمّا الحق سبحانه فعزيز الوصف، لا يعود إلى عزّه من ظلم الظالمين شىء، ومن وافق هواه واتّبع مناه فعجله ما علّق به همّه، وأفرد له قصده.
(١) وردت (ينقصون) بالصاد والأقوى أن تكون بالضاد لأن المقصود هو تمسك أمة محمد (ص) بعدم (نقض) التوحيد. [.....]
(٢) هكذا رواه أحمد فى مسنده والبخاري فى تاريخه والدارمي فى سننه وحسنه النووي فى رياض الصالحين بلفظ «استفت نفسك وإن أفتاك المفتون».
(٣) الترمذي والطبراني من حديث أبى أمامة والترمذي من حديث أبى سعد والطبراني وابو نعيم عن انس
قوله جل ذكره: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ.
الإشارة إلى حقيقة التوبة بالخروج إلى الله بالكلية.
قوله جل ذكره: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ.
التوبة بقتل النفوس غير (... ) «١» إلا أن بنى إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهرا، وهذه الأمة توبتهم بقتل أنفسهم في أنفسهم سرا، فأوّل قدم فى القصد إلى الله الخروج عن النفس.
[فصل] ولقد توهم الناس أن توبة بنى إسرائيل كانت أشق، ولا كما توهموا فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة واحدة، وأمّا أهل الخصوص من هذه (الأمة) «٢» ففى كل لحظة قتل، ولهذا:
ليس من مات فاستراح بميت... إنما الميت ميت الأحياء
وقتل النفس فى الحقيقة التبري عن حولها وقوتها أو شهود شىء منها، ورد دعواها إليها، وتشويش تدبيرها عليها، وتسليم الأمور إلى الحق- سبحانه- بجملتها، وانسلاخها من اختيارها وإرادتها، وانمحاء آثار البشرية عنها، فأمّا بقاء الرسوم والهياكل فلا خطر له ولا عبرة به.
قوله جل ذكره: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
كونه لكم عنكم أتمّ من كونكم لأنفسكم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٥]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥)
التعرض بمطالعة الذات على غير نعمة إلهية إفصاح بترك الحرمة، وذلك من أمارات البعد والشقوة.
(١) هنا كلمة مشتبهة.
(٢) يقصد أمة المصطفى صلوات الله عليه وسلامه.
وإثبات نعت التولي بمكاشفات العزة مقرونا بملاطفات القربة من علامات الوصلة دلالات السعادة.
فلا جرم لما أطلقوا لسان الجهل بتقوية ترك الحشمة أخذتهم الرجفة والصعقة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٦]
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)
أعادهم إلى حال الإحساس بعد ما استوفتهم سطوات العذاب إملاء لهم بمقتضى الحكم، وإجراء للسنّة فى الصفح عن الجرم، ومن قضايا الكرم إسبال الستر على هنات الخدم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٧]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)
لمّا طرحهم فى متاهات الغربة لم يرض إلا بأن ظلّلهم، وبلبسة الكفايات جلّلهم، وعن تكلف التكسّب أغناهم، وبجميل صنعه فيما احتاجوا إليه تولّاهم فلا شعورهم كانت تطول، ولا أظفارهم كانت تنبت، ولا ثيابهم كانت تتسخ، ولا شعاع الشمس عليهم كان ينبسط. وكذلك سنّته لمن حال بينه وبين اختياره، يكون ما يختاره سبحانه له خيرا مما يختاره لنفسه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٨]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
() «١» بنو إسرائيل على تضييع ما كانوا يؤمرون، حتى قالة أوصوا بحفظها فبدّلوها، وحالة من السجود أمروا بأن يدخلوا عليها فحوّلوها، وعرّضوا أنفسهم لهام الغيب، ثم لم يطيقوا الإصابة بقرعها «٢»، وتعرضوا لمفاجات العقوبة فلم يثبتوا عند صدمات وقعها.
(١) كلمة مشتبهة فى ص.
(٢) وردت بدون الباء فى ص وقد أضفناها ليستقيم المعنى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٩]
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)
لم يمكنهم أن يردوا باب السماء باحتيالهم، أو يصدوا من دونهم أسباب البلاء بما ركنوا إليه من أحوالهم، فزعوا من الندم لما عضّهم ناب»
الألم، وهيهات أن ينفعهم ذلك لأنه محال من الحسبان.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٠]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
إن الذي قدر عل إخراج الماء من الصخرة الصمّاء كان قادرا على إروائهم بغير ماء ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه، وإيصال محل الاستغاثة إليه، وليكون على موسى عليه السّلام- أيضا فى نقل الحجر- مع نفسه شغل، ولتكليفه أن يضرب بالعصا مقاساة نوع من معالجة ما أمضى حكمه عند استسقائه لقومه «٢».
ثم أراد الحق سبحانه أن يكون كل قوم جاريا على سنّة، ملازما لحدّه، غير مزاحم لصاحبه فأفرد لكل سبطة علامة يعرفون بها مشربهم، فهؤلاء لا يردون مشرب الآخرين، والآخرون لا يردون مشرب الأولين.
وحين كفاهم ما طلبوا أمرهم بالشكر، وحفظ الأمر، وترك اختيار الوزر، فقال:
ولا تعثوا فى الأرض مفسدين.
والمناهل مختلفة، والمشارب متفاوتة، وكلّ يرد مشربه فمشرب عذب فرات، ومشرب ملح أجاج، ومشرب صاف زلال، ومشرب رتق أوشال «٣». وسائق كلّ قوم
(١) وردت (تاب) بالتاء وهى خطأ فى النسخ.
(٢) لاحظ هنا مذهب القشيري فى التوكل، وكيف أنه لا يتعارض مع السعى.
(٣) أوشال: جمع وشل وهو الماء القليل يتحلّب من جبل أو صخرة ولا يتصل قطره الوسيط ص ١٠٤٧.
يقودهم، ورائد كلّ طائفة يسوقهم فالنفوس ترد مناهل المنى والشهوات، والقلوب ترد مشارب التقوى والطاعات، والأرواح ترد مناهل الكشف والمشاهدات، والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف عن الكون والمرسومات، ثم عن الإحساس والصفات ثم بالاستهلاك فى حقيقة الوجود والذات.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٦١]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
لم يرضوا بحسن اختياره لهم، ولم يصبروا على قيامه بتولي ما كان يهمّهم من كفاية مأكولهم وملبوسهم، فنزلوا فى التحير إلى ما جرت «١» عليه عاداتهم من أكل الخسيس من الطعام، والرضا بالدون من الحال، فردّهم إلى مقاساة الهوان، وربطهم بإدامة الخذلان، حتى سفكوا دماء الأنبياء وهتكوا حرمة الأمر بقلّة الاستحياء، وترك الاروعاء، فعاقبهم على قبيح فعالهم، وردّهم إلى ما اختاره لأنفسهم من خسائس أحوالهم، وحين لم تنجح فيهم «٢» النصيحة، أدركتهم النقمة والفضيحة. ويقال كان بنو إسرائيل متفرقى الهموم مشتّتي القصود لم يرضوا لأنفسهم بطعام واحد، ولم يكتفوا فى تدينهم بمعبود واحد، حتى قالوا لموسى عليه السّلام- لمّا رأوا قوما يعبدون الصنم «٣» - يا موسى: اجعل لنا إلها كما لهم إله،
(١) وردت فى ص (مرت) وهى بالجيم أصوب.
(٢) وردت (فهيم) وهى خطأ في النسخ.
(٣) وردت (الضم) وهى خطأ فى النسخ.
وهكذا صفة أرباب التفرقة. والصبر مع الواحد شديد، قال تعالى: «وإذا ذكرت ربك فى القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
اختلاف الطريق مع اتحاد الأصل لا يمنع من حسن القبول، فمن صدّق الحق سبحانه فى آياته، وآمن بما أخبر من حقه وصفاته، فتباين الشرع واختلاف وقوع الاسم غير قادح فى استحقاق الرضوان، لذلك «١» قال: «إن الذين آمنوا والذين هادوا» ثم قال: «من آمن منهم، أي إذا اتفقوا فى المعارف فالكلّ لهم حسن المآب، وجزيل الثواب. والمؤمن من كان فى أمان الحق سبحانه، ومن كان فى أمانه- سبحانه وتعالى- فبالحرىّ ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)
أخذ سبحانه ميثاق جميع المكلّفين، ولكنّ قوما أجابوا طوعا لأنه تعرّف إليهم فوحّدوه وقوما أجابوه كرها لأنه ستر عليهم فجحدوه، ولا حجّة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور- وهو الجبل- ولكن عدموا نور البصيرة، فلا ينفعهم عيان البصر. قال الله تعالى «ثم توليتم من بعد ذلك»
، أي رجعتم إلى العصيان بعد ما شاهدتم تلك الآيات بالعيان، ولولا حكمه بإمهاله، وحلمه بأفضاله لعاجلكم بالعقوبة، وأحلّ عليكم عظيم المصيبة ولخسرت صفقتكم بالكلّية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٥]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥).
(١) وردت (كذلك).
مسخ هذه الأمة حصل على القلوب، فكما أنهم لما تركوا الأمر واستهانوا بما ألزموا به من الشرع- عجلت عقوبتهم بالخسف والمسخ وغير ذلك من ضروب ما ورد به النّصّ، فهذه الأمة من نقض العهد ورفض الحدّ عوقبت بمسخ القلوب، وتبديل الأحوال، قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ «١» » وعقوبات القلوب أنكى من عقوبات النفوس، وفى معناه أنشدوا:
يا سائلى: كيف كنت بعده؟... لقيت ما ساءنى وسرّه
ما زلت أختال فى وصالى حتى... أمنت من الزمان مكره «٢»
طال علىّ الصدود حتى... لم يبق مما شهدت ذرّة
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٦]
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
هكذا من منى بالهجران، ووسم بالخذلان صارت أحواله عبرة، وتجرّع- من ملاحظته لحاله- عليه الحسرة، وصار المسكين- بعد عزّه لكلّ خسيس سخرة. هكذا آثار سخط الملوك وإعراض السادة عن الأصاغر:
وقد أحدق الصبيان بي وتجمعوا... علىّ وأشلوا بالكلاب ورائيا
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨)
كان الواجب عليهم استقبال الأمر بالاعتناق ولكنهم تعللوا ببقاء الأشكال توهما بأن يكون لهم (... ) «٣» تفضى بالإخلاد إلى الاعتدال «٤» عن عهدة الإلزام فتضاعفت عليهم المشقة وحلّ بهم «٥» ما حذروه من الافتضاح.
[فصل] ولما قال إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك، أي ليست بفتية ولا مسنّة بل هى بين السّنّين. حصلت الإشارة أن الذي يصلح لهذه الطريقة من لا يستهويه
(١) سورة الأنعام آية ١١٠. [.....]
(٢) ورد في البيت (أحتال) و (وجال) و (أتيت) من الزمان وقد أصلحنا ليستقيم المعنى والوزن.
(٣) سقطت هنا لفظة من الناسخ وهو ينتقل من ورقة إلى أخرى
(٤) الاعتدال هنا بمعنى العدول عن الشيء.
(٥) وردت (وجلبهم) وهى غير ملائمة للمعنى والسياق.
نزق الشباب وسكره، ولم يعطّله عجز المشيب وضعفه، بل هو صاح استفاق عن سكره، وبقيت له- بعد «١» - نضارة من عمره.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠)
كما كان يأخذ لونها الأبصار فالإشارة منها أن من كان من أهل القصة «٢» يستغرق شاهده القلوب لما ألبس من رداء الجبروت، وأقيم به من شاهد الغيب «٣» حتى أن من لاحظه تناسى أحوال البشرية، واستولى عليه ذكر الحق، كذا فى الخبر المنقول: أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر الله (....) «٤»
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٧١]
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
«٥» كما أن تلك البقرة لم يذللها العمل، ولم تبتذل فى المكاسب، لا لون فيها يخالف عظم لونها فالإشارة منه أن أهل الولاية «٦» الذين لم يتبذلوا بالأغيار لتحصيل ما طلبوا من الأسباب، ولم يركنوا بقلوبهم إلى الأشكال والأمثال، ولم يتكلوا على الاختيار والاحتيال، وليسوا نهبا لمطالبات المنى، ولا صيدا فى مخلب الدنيا، ولا حكم للشهوات عليهم، ولا سلطان للبشرية تملّكهم، ولم يسعوا قط فى تحصيل مرادهم، ولم يشقوا لدرك بغيتهم، وليس عليهم رقم الأغيار، ولا سمة الأسباب- فهم قائمون بالله، فانون عما سوى الله، بل هم محو، مصرّفهم الله. والغالب- على قلوبهم- الله.
وكما أن معبودهم الله كذلك مقصودهم الله.
(١) ربما صحت على هذا ويكون المعنى ما زالت فيه بقية من نضارة عمره، ويحتمل أن تكون فى الأصل (بعض) ويكون المعنى وبقيت له بعض نضارة من عمره.
(٢) يقصد أهل التصوف.
(٣) وردت (الغير) ولا معنى لها هنا لأن شهود الغيب هو الذي يحدث ذلك الأثر.
(٤) فى (ص) علامات تدل على أن الكلام مبتور، ونرجح أن (ذاكر) بدل (ذكر).
(٥) أخطأ الناسخ عند كتابة هذه اللفظة من الآية الكريمة حيث وردت (قال) الآية ٧٠ من سورة البقرة.
(٦) فى ص (ولاية) بدون تعريف والأصح بها.
وكما أن مقصودهم الله كذلك مشهودهم الله، وموجودهم الله، بل هم محو بالله و (....) «١»
عنهم الله، وأنشد قائلهم.
إذا شئت أن أرضى وترضى وتملكى زمامى- ما عشنا معا- وعنانى
إذن فارمقى الدنيا بعيني واسمعي بأذنى وانطقى بلساني
قوله جل ذكره: قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ.
طلبوا الحيلة ما أمكنهم فلما ضاقت بهم الحيل استسلموا للحكم فتخلصوا من شدائد المطالبات، ولو أنهم فعلوا ما أمروا به لما تضاعفت عليهم المشاق.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٢]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢)
الخائن خائف، ولخشية أن يظهر سرّه يركن إلى التلبيس والتدليس، والإنكار والجحود ولا محالة ينكشف عواره، وتتضح أسراره، وتهتك عن شين فعله أستاره. قال الله تعالى:
«وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٣]
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)
أراد الله سبحانه أن يحيى ميتهم ليفضح بالشهادة على قاتله فأمر بقتل حيوان لهم فجعل سبب حياة مقتولهم قتل حيوان لهم، صارت الإشارة منه:
أن من أراد حياة قلبه لا يصل إليه إلا بذبح نفسه فمن ذبح نفسه بالمجاهدات حيى قلبه بأنوار المشاهدات، وكذلك من أراد الله حياة ذكره فى الأبدال «٢» أمات فى الدنيا ذكره بالخمول «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٤]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤).
(١) مشتبهة فى ص.
(٢) ربما كانت فى الأصل (الأبد)
(٣) أي منع عنه الاشتهار بين الخلق لأن المهم مرتبته لدى الحق.
بيّن أنهم- وإن شاهدوا عظيم الآيات وطالعوا واضح البينات- فحين لم تساعدهم العناية ولم يخلق الله (لهم) الهداية، لم تزدهم كثرة الآيات إلا قسوة، ولم تبرز لهم من مكامن التقدير إلا شقوة (على شقوة، وشبّه قلوبهم بالحجارة لأنها لا تنبت ولا تزكو، وكذلك قلوبهم لا تفهم «١»، ولا تغنى «٢». ثم بيّن أنها أشد (......) «٣» من الحجارة، فإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار، ومنها ما تظهر عليه آثار خشية الله «٤»، وأمّا قلوبهم فخالية عن كل خير، وكيف لا وفد منيت بإعراض الحقّ عنها، وخصّت بانتزاع الخيرات منها.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦)
أنبأهم عن إيمانهم، وذكر أنهم بعد سماع الخطاب من الله- سبحانه- حرّفوا وبدّلوا فكيف يؤمنون لكم وإنما يسمعون بواسطة الرسالة، ومن لم يبق على الإيمان بعد العيان فكيف يؤمن بالبرهان، والذي لم يصلح للحق لا يصلح لكم، ومن لم (يحتشم من الحق) فكيف يحتشم منكم؟.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٧]
أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧)
تواصوا فيما بينهم بإنكار الحق، وإخفاء الحال على المسلمين، ولم يعلموا أن الله يطلع رسوله عليه السّلام على أسرارهم، وأن نورا أظهره الغيب لا ينطفئ بمزاولة الأغيار. وموافقة اللّسان مع مخالفة العقيدة لا يزيد إلا زيادة الفرقة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩).
(١) تكملة فى الهامش استدرك بها الناسخ أثبتناها فى موضعها. [.....]
(٢) أي لا تغنى عنهم من الله شيئا، وربما كانت فى الأصل (ولا تعى) حتى تتلاءم مع (لا نفهم).
(٣) زيادة ميزها الناسخ- لا لزوم لها.
(٤) إشارة إلى قوله تعالى: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ».
أخبر أنهم متفاوتون فى نقائص كفرهم، فقوم منهم أخسّ درجة وأكثر جهلا ركنوا إلى التقليد، ولم يملكهم استيلاء شبهة بل اغتروا بظنّ وتخمين، فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم إلا قراءتها، دون معرفة معانيها. ومنهم من أكثر شأنه ما يتمناه فى نفسه، ولا يساعده إمكان، ولا لظنونه قط تحقيق. ثم أخبر عن سوء عاقبتهم بقوله جل ذكره:
«فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ».
أي خسروا فى الحال والمآل، والإشارة فى هذه الآية لمن عدم الإخلاص فى الصحبة فى طريق الحق ينضمّ إلى الأولياء ظاهرا ثم لا تصدق له إرادة فهو مع أهل الغفلة مصاحب، وله مع هذه الطريقة جانب، كلما دعته هواتف الحظوظ تسارع إلى الإجابة طوعا، وإذا قادته دواعى الحق- سبحانه- يتكلف شيئا، فبئست الحالة حين لم يخلص، وما أشد ندمه فيما ادّخر عن الله! ثم لا يفلح.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٠]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠)
الإشارة فى هذه الآية لمن مرت على قلبه دعاواه العريضة، وغلب عليه حسبانه، فحكم لنفسه- لفرط غفلته- بأنه من أهل القصة «١»، ويخلد إلى هواجس مناه، فيحكم على الغيب بأنه يتجاوز عنه نسى قبائح ما أسلفه، ويذكر مغاليط ما ظنّه، فهو عبد نفسه، يغلب عليه حسن ظنه، وفى الحقيقة تعتريه نتائج غفلته ومكره، قال تعالى: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٨١]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١)
الذي أحاطت به خطيئته هو الكافر- على لسان العلم «٢».
(١) أي من أهل الطريق الصوفي.
(٢) أي على لسان التفسير العادي أي غير الاشارى.
ولكنّ الإشارة منه إلى من سكن قلبه على استغاثاته على وجه الدوام، فإن أصحاب الحقائق كالحبّ «١» على المقلى- فى أوقات صحوهم، فمن سكن فلفرط عزّته- لا يفترون «٢».
ومن استند إلى طاعة يتوسّل بها ويظن أنه يقرب بها ينبغى أن يتباعد عن السكون إليها ومن تحقّق بالتوحيد علم ألا وسيلة إليه إلا به.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
فى الحال جنان الوصل.........
(..........)
(..........)
(.........) «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٥]
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)
... أضرابكم وقرنائكم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، الإشارة فيه أن نصرتكم لإخوانكم على ما فيه بلاؤهم نصرة عليهم بما فيه شقاؤهم، فالأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو.
قوله جل ذكره: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى «٤» تُفادُوهُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.
أي كما تراعون- بالفداء عنهم- حقوقهم، فكذلك يفترض عليكم كفّ أيديكم عنهم، وترك إزعاجهم عن أوطانهم، فإذا قمتم ببعض ما يجب عليكم فما الذي يقعدكم
(١) وردت (كالحسب) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) من الفترة، وقد أوضحنا رأى المصنف فى الفترة والوقفة فى هامش سبق.
(٣) حدث سقوط فيما بين (الوصل) و (أضرابكم) وبذلك لم يصلنا تفسير الآيات الكريمة من رقم ٨٢ إلى ٨٤.
(٤) يستخرج القشيري من لفظة أسارى إشارات معينة بعد قليل.
عن الباقي، حتى تقوموا به كما أمرتم؟ أما علمتم أن من فرّق بين ما أمر به فآمن ببعض وكفر ببعض فقد حبط- بما ضيّعه- أجر ما عمله.
قوله جل ذكره: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أي ظنوا أن ما فعلوه نفعهم، فانكشف لهم فى الآخرة أن جميع ما فعلوه- لمّا مزجوه بالآفات وجرّدوه عن الصدق والإخلاص- غير مقبول منهم.
والأسراء أصناف: فمن أسير غرق فى بحار الهوى فإنقاذه بأن تدلّه على الهدى.
ومن أسير بقي فى أيدى الوساوس فافتداؤه أن ترشده إلى اليقين بلوائح البراهين لتنقذه من الشك والتخمين، وتخرجه عن ظلمات التقليد فيما تقوده إلى اليقين. ومن أسير تجده فى أسر هواجسه استأسرته غاغة نفسه، ففكّ أسره بأن تدلّه على شهود المنن، بتبرّيه عن حسبان كلّ حول يخلق وغير. ومن أسير تجده فى ربيطة ذاته ففكّ أسره إنشاده «١» إلى إقلاعه، وإنجاده على ارتداعه. ومن أسير تجده فى أسر صفاته ففكّ أسره أن تدله على الحق بما يحل عليه من وثائق الكون»
، ومن أسير تجده فى قبضة الحق فتخبره أنه ليس لأسرائهم فداء، ولا لقتلاهم عود، ولا لربيطهم خلاص، ولا عنهم بدّ، ولا إليهم سبيل، ولا من دونهم حيلة، ولا مع سواهم راحة، ولا لحكمهم ردّ.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
إن الذين آثروا عليه شيئا خسروا فى الدنيا والآخرة كما قالوا:
(١) إنشاده إلى إقلاعه أي مطالبته والنصح له.
(٢) وردت (المكون) والأصوب الكون لأن المقصود يقتضى ذلك.
أناس أعرضوا عنّا... بلا جرم ولا معنى
فإن كانوا «١» قد استغنوا... فإنّا عنهم أغنى
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٧]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧)
الإشارة: أوصلنا لهم الخطاب، وأردفنا رسولا بعد رسول، والجميع دعوا إلى واحد.
ولكنهم أصغوا إلى دعاء الداعين بسمع الهوى، فما استلذته النفوس قبلوه، وما استثقلته «٢» أهواؤهم جحدوه «٣»، فإذا كان الهوى «٤» صفتهم ثم عبدوه، صارت للمعبود «٥» صفات العابد، فلا جرم الويل لهم ثم الويل! قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٨]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨)
لو كان منهم شىء بمجرد الدعوى لهان وجود المعاني، ولكن عند مطالبات التحقيق تفترّ أنياب المتلبّسين عن أسنان شاحذة بل (.....) «٦» وقيل:
إذا انسكبت دموع فى خدود... تبيّن من بكى ممن تباكى
(١) اللفظة ناقصة فى المتن ومصححة فى الهامش على اليسار.
(٢) وردت (استسقلته) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) وردت (هجدوه) ثم تصحيح لها فى الهامش (جهدوه) ولا يستبعد أنها: (جحدوه) على أساس نكرانهم للتوحيد. [.....]
(٤) وردت (الهوا) والصحيح (الهوى).
(٥) وردت (المعبود) وهى خطأ فى النسخ.
(٦) هنا كلمة مشتبهة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٩]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩)
الإشارة فيه لمن عزم على الصفاء، ووعد من نفسه تحقيق الوفاء، ونشر أعلام النشاط عند البروز «١» إلى القتال، تنادى بالنّزال وصدق القتال- انهدم عند التفات «٢» الصفوف، وانجزل عن الجملة خشية هجوم المحذور، قال تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٠]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠)
أنزلهم التحاسد عن مقر العزّ «٣» إلى حضيض الخزي، وسامهم ذلّ الصّغر حين لم يرضوا بمقتضى الحكم، فأضافوا استيجاب مقت آنف إلى استحقاق مقت سالف.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٩١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١).
(١) وردت (البرود) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) وردت هكذا فى (ص)، وربما كانت فى الأصل (التقاء) الصفوف أو (التفاف) كذلك يحتمل (انهزم) بدلا من (انهدم).
(٣) وردت (العسر) وهى خطأ فى النسخ.
الإشارة فيه: إذا قيل لهم حقّقوا ما أظهرتم من حكم الوفاق بتحقيق الحال وإقامة البرهان سمحت نفوسهم ببعض ما التبس عندهم لما يوافق أهواءهم، ثم يكفرون بما وراء حظوظهم، (....) «١» بعدا عن زمرة الخواص، غير معدودين فى جملة أرباب الاختصاص.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٢]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢)
«٢» أي دعاكم إلى التوحيد، وإفراد المعبود عن كل معبود ومحدود، ولكنكم لم تجنحوا إلا إلى عبادة ما يليق بكم من عجل اتخذتموه، وصنم تمنيتموه. فرفع ذلك من بين أيديهم، لكن بقيت آثاره فى قلوبهم وقلوب أعقابهم، ولذلك يقول أكثر اليهود بالتشبيه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
كرّر الإخبار عن غلوّهم فى حبّ العجل، ونبوّهم عن قبول الحق، و (.........) «٣»
وتعريفهم معاجلتهم بالعقوبة على ما يسيئون من العمل، فلا النصح نجع فيهم، ولا العقوبة أوجبت إقلاعهم عن معاصيهم، ولا بالذم فيهم احتفلوا «٤»، ولا بموجب الأمر عملوا.
(١) هنا لقطة مشتبهة.
(٢) أخطأ الناسخ حين كتبها (جاءهم) فصححناها طبقا للاية ٩٢.
(٣) هنا عبارة غامضة كتابة وبالتالى معنى.
(٤) وردت (اختلفوا، والملائم للسياق (احتفلوا) أي أظهروا الاهتمام.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)
من علامات الاشتياق تمنى الموت على بساط العوافي فمن وثق بأن له الجنة قطعا- فلا محالة- يشتاق إليها، ولمّا لم يتمنوا الموت «١» - وأخبر الله سبحانه أنهم لن يتمنوه أبدا- صار هذا التعريف معجزة للرسول صلوات الله عليه وعلى آله إذ كان كما قال.
وفى هذا بشارة «٢» للمؤمنين الذين يشتاقون إلى الموت أنهم مغفور لهم، ولا يرزقهم الاشتياق إلا وتحقق لهم الوصول إلى الجنة، وقديما قيل: كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء.
قال الله تعالى: «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٦]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)
«٣» حبّ الحياة فى الدنيا نتيجة الغفلة عن الله، وأشد منه غفلة أحبّهم للبقاء فى الدنيا. وحال المؤمن من هذا على الضدّ. وأما أهل الغفلة وأصحاب التهتك فإنما حرصهم على الحياة لعلمهم بما فقدوا فيها من طاعتهم فالعبد الآبق لا يريد رجوعا إلى سيّده. والانقلاب إلى من هو خيره مرجو خير للمؤمنين من البقاء مع من شرّه غير مأمون، ثم إن امتداد العمر مع يقين
(١) فى النسخة (الجنة) ولكن الآية الكريمة والسياق يشيران إلى تمنى الموت ثم إن الضمير فيما بعد في (لن يتمنوه أبدا) ضمير مذكر وليس ضمير مؤنث.
(٢) وردت (وفى هذا إشارة) والمعنى يتطلب (بشارة) مما يرجح هذه على تلك.
(٣) أسقط الناسخ من الآية من أول (وما هو) إلى (أن يعمر) فأثبتناه.
الموت (لا قيمة له) إذا فاجأ الأمر وانقطع العمر. وكلّ ما هو آت فقريب، وإذا انقضت المدّة فلا مردّ لهجوم الأجل على أكتاف الأمل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)
زعمت اليهود أن جبريل لا يأتى بالخير، وأنهم لا يحبونه، ولو كان ميكائيل لكانوا آمنوا به، فأكذبهم الحقّ سبحانه فقال: من كان عدوا لجبريل لأنه لا يأتى بالخير فأى خير أعظم مما نزل به من القرآن؟! ثم قال إن من عادى «١» جبريل وميكائيل فإن الله عدو له فإنّ رسول الحبيب إلى الحبيب العزيز المورد- كريم المنزلة، عظيم الشرف. وما ضرّت جبريل- عليه السّلام- عداوة الكفار، والحق سبحانه وتعالى وليّه، ومن عادى جبريل فالحقّ عدوّه، وما أعزز «٢» بهذا الشرف وما أجلّه! وما أكبر علوه! قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)
لم يكفر بواضح آياته إلا من سدّت عن الإدراك بصائره، وسبقت من الله بالشقاوة
(١) وردت (عبادى) وهى خطأ في النسخ، فعادى مناسبة لعدم محبتهم لجبريل كما سبق. [.....]
(٢) الصحيح ان يقال وأعزز بهذا الشرف أو: ما أعز هذا الشرف فليس فى التعجب ما أفعل به فما حدث هو خطأ من الناسخ لأن القشيري- كما تعلم من سيرته- حريص أشد الحرص على قواعد النحو.
قسمته، ولا عقل لمن يجحد أنّ النهار نهار، وكذلك لا وصل لمن لم تساعده من الحق أنوار واستبصار. أو كلّما عاهدوا عهدا سابق التقدير لهم كان يشوّش عليهم، وينقض عهدهم لا حق التدبير منهم، والله غالب على أمره.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠١]
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)
«١» جحدوا رسل الحق إلى قلوبهم من حيث الخواطر، وكذّبوا رسلهم الذين أتوهم فى الظاهر، فيا جهلا ما فيه شظية من العرفان! ويا حرمانا قارنه خذلان! قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٢]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)
من فرّقته الأهواء وقع فى كل مطرح من مطارح الغفلة، فيستقبله كل جنس من قضايا
(١) أخطأ الناسخ فكتبها (مصدقا) والصحيح (مصدق) الآية ١٠١.
الجهالة، ثم إن من طالت به الغيبة صار للناس عبرة، ولمن سلك طريقه فتنة، فمن اقتدى به فى غيّه انخرط فى سلكه، والتحقق بجنسه، هكذا صفة هاروت وماروت فيما استقبلهما، صارا للخلق فتنة بل عبرة، فمن أصغى إلى قيلهما، ولم يعتبر بجهلهما تعلّق به بلاؤهما، وأصابه فى الآخرة عناؤهما.
والإشارة من قصتهما إلى من مال فى هذه الطريقة إلى تمويه وتلبيس، وإظهار دعوى بتدليس، فهو يستهوى من اتّبعه «١»، ويلقيه فى جهنم بباطله، (............) «٢»
ومن تهتك بالجنوح إلى أباطيله تهتكت أستاره، وظهر لذوى البصائر عواره.
وإن هاروت وماروت لما اغترّا بحاصل ما اعتاداه من المعصية بسطا لسان الملامة فى عصاة بنى آدم، فلما ركّب فيهما من نوازع الشهوات، ودواعى الفتن والآفات، اقتحما فى العصيان، وظهر منهما ما انتشر ذكره على ألسنة القصاص، وهما منكّسان إلى يوم القيامة ولولا الرفق بهما وبشأنهما لما انتهى فى القيامة عذابهما، ولكنّ لطف الله مع الكافة كثير. ولمّا قال الله تعالى: «وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» علم أهل التحصيل أن العلم بكل معلوم- وإن كان صفة مدح- ففيه غير مرغوب فيه، بل هو مستعاذ منه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أعوذ بك من علم لا ينفع.
قوله جل ذكره: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
لو علم المغبون ماذا أبقى وماذا أبلى لتقطعت أحشاؤه حسرات، ولكن سيعلم- يوم تبلى السرائر- الذي فاته من الكرائم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٣]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)
ولو آثروا الإقبال على الله على اشتغالهم عن الله، لحصّلوا ذخر الدارين، ووصلوا إلى
(١) وردت (التبعة) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) هنا عبارة غامضة كتابة ومعنى، ويرجح أن الناسخ قد وقع فى أخطاء نقلية.
عزّ الكونين، ولكن كبستهم سطوات القهر، فأثبتهم فى مواطن الهجر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
قصود الأعداء فى جميع أحوالهم- من أعمالهم وأقوالهم- قصود خبيثة فهم- على مناهجهم- يبنون فيما يأتون ويذرون. فسبيل الأولياء التّحرز عن مشابهتهم، والأخذ فى طريق غير طريقهم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٥]
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)
كراهية الأعداء لانتظام صلاح الأولياء متصلة مستدامة، ولكن الحسود لا يسود، ولا يحصل له مقصود وخصائص الرحمة للأولياء كافية- وإن زعم من الأعداء أفّاك أنه انهدمت من أوطان فرحهم أكناف وأطراف.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٦]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)
النسخ الإزالة أي ما ينقلك من حال إلى ما هى فوقها وأعلى منها، فغصن وصلك أبدا ناضر، ونجم عزّك أبدا ظاهر، فلا ننسخ من آثار العبادة شيئا إلا وأبدلنا عنه أشياء من أنوار العبودية، ولا نسخنا من أنوار العبودية أشياء إلا أقمنا مكانها أشياء من أقمار العبودة «١».
(١) وردت (من أقمار العبودية) وهى خطأ من الناسخ، لأن السياق هنا يتطلب (العبودة) -
فأبدا «١» سرّك فى الترقي، وقدرك فى الزيادة بحسن التّولّي وقيل ما رقّاك عن محل العبودية إلا سلكك بساحات الحرية، وما رفع عنك شيئا من صفات «٢» البشرية إلا أقامك بشاهد من شواهد الألوهية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٧]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧)
سنّته- سبحانه- أن يجذب أولياءه عن شهود ملكه إلى رؤية ملكه «٣»، ثم يأخذهم من مطالعة ملكه إلى شهود حقّه، فيأخذهم من رؤية آياته إلى رؤية صفاته، ومن رؤية صفاته إلى شهود ذاته.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٨]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
إنّ بنى إسرائيل آذوا موسى عليه السّلام، فنهى المسلمون عن فعل ما أسلفوه، وأمروا
- فنحن نعرف من مذهب القشيري ان العبادة للعوام من المؤمنين، والعبودية للخواص، والعبودة لخاص الخاص.
العبادة لأصحاب المجاهدات، والعبودية لأرباب المكابدات، والعبودة صفة أهل المشاهدات...
وهكذا- ومن أسانيد كثيرة فى باب العبودية فى «الرسالة» - نلحظ أن الدرجة القصوى في الأمر هى (العبودة)، والترتيب هنا يمشى هكذا آثار العبادة، أنوار العبودية، أقمار العبودية، وهو ترتيب فى غاية الدقة، يعطى كل درجة قدرها.
(١) وردت (فأبد) بدون تنوين.
(٢) تلقت النظر هنا إلى أهمية كلمة صفات البشرية، أي أن المقصود- حسب مذهب القشيري- ليس سقوط البشرية فى حد ذاتها، وإنما صفاتها المعلولة، وينبغى أن يكون واضحا تمام الوضوح أن التصوف الإسلامى الحق- والقشيري من أفضل المعبرين عنه- لا يقول بأدنى تداخل بين البشرية والألوهية فالعبد عبد والرب رب.
(٣) ضبطنا ملك وملك مستفيدين من كلام القشيري فى كتابه «التحبير» ضمن اسم «الملك».
بمراعاة أن حشمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بغاية ما يتسع فى الإمكان. فكانوا بحضرته كأنّ على رءوسهم الطير. قال تعالى: «تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ» وحسن الأدب- فى الظاهر- عنوان حسن الأدب مع الله فى الباطن.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٩]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)
من لحقه خسران الفهم من أصحاب الغفلة ودّ ألا يطلع لأحد بالسلامة نجم، ومن اعتراه الحسد أراد ألا تنبسط على محسوده شمس.
وكذلك كانت صفات الكفار، فأرغم الله أنفهم، وكبّهم على «١» وجوههم.
والإشارة من هذا إلى حال أصحاب الإرادة فى البداية إذا رغبوا فى السلوك، فمن لم يساعده التوفيق (فى الصحبة، وعاشر أناسا مترسّمين بالظواهر) «٢» فإنهم يمنعون هؤلاء من السلوك ولا يزالون يخاطبونهم بلسان النصح، والتخويف بالعجز والتهديد بالفقر حتى ينقلوهم إلى سبيل الغفلة، ويقطعوا عليهم طريق الإرادة، أولئك أعداء الله حقا، أدركهم مقت الوقت.
وعقوبتهم حرمانهم من أن يشموا شيئا من روائح الصدق.
«فاعفوا واصفحوا... » فسبيل المريد أن يحفظ عن الأغيار سرّه، ويستعمل مع كل أحد ضلة «٣»، ويبذل فى الطلب رفعة «٤»، فعن قريب يفتح الحق عليه طريقه.
(١) فى النسخة ص (وكبهم لوجوههم) وقد آثرنا عليها (على وجوههم).
(٢) أصلحنا فى هذه العبارة قليلا لكى يتضح معناها طبقا لوصايا القشيري للمريدين فى «رسالته»
(٣) هكذا وردت فى (ص) وقد نقلناها كما جاءت، وربما كانت فى الأصل (خلة) بمعنى الصفة اى أن يحافظ على سره مع ربه عن طريق اتصافه مع صحبته بصفات ملائمة. تضمن أن يكون سره محفوظا
(٤) ربما كانت فى الأصل (ويبذل فى الطلب وسعه).
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٠]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)
الواجب على المريد إقامة المواصلات، وإدامة التوسل بفنون «١» القربات، واثقا بأن ما يقدمه من صدق المجاهدات تدرك «٢» ثمرته فى أواخر الحالات.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١١]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١)
«٣» كلّ حزب يمهّد الأمل لنفسه، ويظنّ النجاة لحاله، ويدعى الوسل «٤» من سهمه.
ولكنّ مجرد الحسبان دون تحقق البرهان لا يأتى بحاصل، ولا يحوز بطائل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٢]
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)
«٥» أسلم وجهه أي أخلص لله قصده، وأفرد لله وجهه، وطهّر عن الشوائب عقله.
«وهو محسن». عالم بحقيقة ما يفعله وحقيقة ما يستعمله، وهو محسن فى المآل كما أنه مسلم فى الحال.
ويقال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فتكون مستسلما بظاهرك، مشاهدا بسرائرك، فى الظاهر جهد وسجود وفى الباطن كشف ووجود.
(١) جاءت هكذا فى ص (يقنون) ثم صححها الناسخ فى الهامش. [.....]
(٢) جاءت فى ص (تدركوا).
(٣) أخطأ الناسخ إذ كتبها (يدخلوا) والصحيح (يدخل) الآية ١١١.
(٤) الوسل والوسيلة والواسلة الوصلة والقربى من الله (الوسيط ص ١٠٤٤).
(٥) أسقط الناسخ (بلى) والصحيح وجودها الآية ١١٢.
ويقال «أسلم وجهه» بالتزام الطاعات، «وهو محسن» قائم بآداب الخدمة بحسن آداب الحضور، فهؤلاء ليس عليهم خوف الهجر، ولا يلحقهم خفىّ المكر، فلا الدنيا تشغلهم عن المشاهدة ولا الآخرة تشغلهم غدا عن الرؤية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
الإشارة فى هذه الآية على العكس من حكم الظاهر فالأعداء يتبرأ بعضهم من بعض اليوم، والأولياء من وجه كذلك، ولذا قالوا: لا زالت الصوفية بخير ما تنافروا، ولا يقبل بعضهم بعضا لأنه لو قبل بعضهم بعضا بقي بعضهم مع بعض.
لكنّ الأعداء كلهم على الباطل. عند تبرّى بعضهم من بعض أمّا الأولياء فكلّهم على الحق- وهذه ما ذكرنا من حكم العكس.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤)
الإشارة فيه أن الظالم من خرّب أوطان العبادة بالشهوات، وأوطان العبادة نفوس العابدين. وخرّب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات، وأوطان المعرفة قلوب العارفين.
وخرّب أوطان المحبة بالحظوظ والمساكنات، وهى أرواح الواجدين. وخرّب أوطان
المشاهدات بالالتفات إلى القربات وهى أسرار الموحدين «١».
قوله جلّ ذكره: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
لأهل الإشارة خزى الدنيا بذل الحجاب، وعذاب الآخرة الامتناع بالدرجات.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٥]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
الإشارة منها إلى مشارق القلوب ومغاربها. وللقلوب شوارق وطوارق. وطوارقها هواجس النفوس تطرق فى ظلمات المنى والشهوات.
وشوارقها نجوم العلوم وأقمار الحضور وشموس المعارف.
فما دامت الشوارق طالعة فقبلة القلوب، واضحة ظاهرة، فإذا استولت «٢» الحقائق خفى سلطان الشوارق، كالنجوم تستتر عند طلوع الشمس، كذلك عند ظهور الحق يحصل اصطلام وقهر، فلا شهود رسم، ولا بقاء حسّ وفهم، ولا سلطان عقل وعلم، ولا ضياء عرفان.
فإن وجدان «٣» هذه الجملة صفات لائقة ببقاء البشرية، وإذا صار الموصوف محوا فأنّى لهم ببقاء الصفة! قال تعالى: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» مادام يبقى من الإحساس والتمييز بقية- ولو شظية- فالقبلة مقصودة، فإن لم تكن معلومة تكون مطلوبة. وعلى لسان العلم إذا اشتبهت الدلائل بكلّ وجهة، ولا معرفة بالقبلة تساوت الجهات فى جواز الصلاة إلى كل واحد منها إذا لم يكن للنية ترجيح.
(١) نعرف من مذهب القشيري أن الأسرار (للموحدين) ولذا نرجح أن الناسخ أخطأ حينما كتبها (الواجدين) وقد أثبتناها هنا على هذا الترجيح.
(٢) وردت (سولت) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) وجدان، ووجود مصدران لوجد، غير أن القشيري يؤثر استعمال لفظة (الوجود) بمعناها الاصطلاحي الدقيق فى موضعها للائم (التواجد بداية والوجد واسطة والوجود نهاية).
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٦]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦)
مكر بهم لم يفنهم- من الإفناء- فى الحال، بل جعل موجب اغترارهم طول الإمهال، فنطقوا بعظيم الفرية على الله، واستنبطوا عجيب المرية فى وصف الله، فوصفوه بالولد! وأنّي بالولد وهو أحدى الذات؟! لا حدّ لذاته، ولا تجوز الشهوة فى صفاته.
قوله جل ذكره: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ.
أي ليس فى الكون شىء من الآثار المفتقرة أو الأعيان المستقلة إلا وتنادى عليه آثار الخلقة، وتفصح منه شواهد الفطرة، وكل صامت منها ناطق، وعلى وحدانيته- سبحانه- دليل وشاهد.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٧]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)
البديع عند العلماء موجد العين لا على مثل، وعند أهل الإشارة الذي ليس له شىء مثله. فهذا الاسم يشير إلى نفى المثل عن ذاته، ونفى المثال عن أفعاله، فهو الأحد الذي لا عدد يجمعه، والصمد الذي لا أمد يقطعه، والحق الذي لا وهم يصوّره، والموجود الذي لا فهم يقدره. وإذا قضى أمرا فلا يعارض «١» عليه مقدور، ولا ينفك من حكمه محظور.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٨]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
«٢» «٣»
(١) الصواب أن تكون (فلا يعتاص)، فهكذا يعبر القشيري فى مثل هذا السياق.
(٢) وردت (لولا يكلمهم) وهى خطأ، وقد صححناها طبقا للآية ١١٧.
(٣) وردت خطأ (بيّن) والصحيح (بينا) الآية ١١٧.
كلام الله سبحانه متعلق بجميع المخلوقات بأعيانها وآثارها، وأمر التكوين (يتناول المكلفين وأفعال المكلفين) «١»، لكن من عدم سمع الفهم تصامم «٢» عن استماع الحق، فإنه- سبحانه- خاطب قوما من أهل الكتاب، وأسمعهم خطابه «٣»، فلم يطيقوا سماعه، وبعد ما رأوا من عظيم الآيات حرّفوا وبدّلوا. وفى الآيات التي أظهرها ما يزيح العلّة من الأغيار، ويشفى الغلّة من الأخيار، ولكن ما تغني الدلائل- وإن وضحت- عمن حقّت لهم الشقاوة وسبقت؟
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٩]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩)
أفردناك بخصائص لم نظهرها على غيرك فالجمهور والكافة تحت لوائك، والمقبول من وافقك، والمردود من خالفك، وليس عليك من أحوال الأغيار سؤال، ولا عنك لأحد (... ) «٤».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٠]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠)
لا تبال برضاء الأعداء بعد ما حصل لك رضانا، فإنهم لا يرضون عنك إلا بمتابعة أديانهم، ودون ذلك لهم حظ القتال فأعلن «٥» التبري منهم، وأظهر الخلاف معهم، وانصب العداوة
(١) العبارة التي فى (ص) مضطربة فى الخط والمعنى، وقد صحناها طبقا لما نعرف من آراء القشيري الكلامية: إن الله خالق العباد وأفعال العباد (فالله خالق كل شىء، أما الإنسان فليس له أن يوصف بذلك لأن كل من لحقه وصف التكوين لا يصح منه الإيجاد).
(٢) وردت (تصامح) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) وردت أسمعهم (خاطبهم) والأرجح أنها فى الأصل أسمعهم (خطابه).
(٤) مشتبهة. [.....]
(٥) وردت (ما علف) وهى خطأ فى النسخ، وقد جعلناها (فأعلن) لتلائم (وأظهر) بعدها.
لهم، وأعلم أن مساكنتهم إلى ما يرضون سبب الشقاوة المؤبدة، فاحرص ألا يخطر ذلك ببالك «١»، وادع- إلى البراءة عنهم وعن طريقتهم- أمّتك، وكن بنا لنا، متبرّيا عمن سوانا، واثقا بنصرتنا، فإنّك بنا ولنا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢١]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١)
الذين فتحنا أبصارهم بشهود حقنا وكلنا أسماع قلوبهم بسماع خطابنا، وخصصناهم بإسبال نور العناية عليهم، وأيّدناهم بتحقيق التعريف فى أسرارهم، يقومون بحق التلاوة، ويتصفون بخصائص الإيمان والمعرفة فهم أهل التخصيص، ومن سواهم أصحاب الرد.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٢]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢)
جرت سنته- سبحانه- فى الخطاب مع قوم موسى عليه السّلام أن يناديهم بنداء العلامة فيقول: يا بنى إسرائيل اذكروا، أي يا بنى يعقوب، ومع هذه الأمة «٢» أن يخاطبهم بنداء الكرامة فيقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٣]
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)
أمّا الأعداء فلا يقبل منهم شيئا، وأما الأولياء فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة»، والكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين فهذا حكم كل أمة مع نبيّها، وأمّا المؤمنون- فعلى التخصيص- تنفعهم شفاعة نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم.
(١) جاءت الجملة فى ص هكذا (فاحرس عن أخطار ذلك ببالك) وسمحنا لأنفسنا بشىء من التصرف يقبح فهم المعنى، وربما كان أقرب إلى الأصل.
(٢) يقصد أمة المصطفى صلوات الله عليه وسلامه.
وكلّ أحد يقول يومئذ نفسى نفسى ونبيّنا صلّى الله عليه وسلّم يقول: أمتى أمتى «١».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٤]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)
البلاء تحقيق الولاء، فأصدقهم ولاء أشدّهم بلاء.
ولقد ابتلى الحق- سبحانه- خليله عليه السّلام بما فرض عليه وشرع له، فقام بشرط وجوبها، ووفّى بحكم مقتضاها، فأثنى عليه سبحانه بقوله: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» - من التوقية- أي لم يقصّر بوجه البتة.
يقال حمّله أعباء النبوة، وطالبه بأحكام الخلّة، وأشد بلاء له كان قيامه بشرائط الخلة، والانفراد له بالتجافي عن كل واحد وكل شىء، فقام بتصحيح ذلك مختليا عن جميع ما سواه، سرّا وعلنا. «٢»
كذلك لم يلاحظ جبريل عليه السّلام حين تعرض له وهو يقذف فى لجة الهلاك، فقال:
هل من حاجة؟ فقال: أمّا إليك.... فلا.
ومن كمال بلائه تعرض جبريل عليه السّلام فى تلك الحالة، وأي بقية كانت بقيت له منه حتى يكون لمخلوق فيه مساغ كائنا من كان؟!
(١) أخطأ الناسخ حين نقلها «كل عهد يقول... والصواب» كل أحد... وقد سمع القشيري هذه العبارة من أستاذه الدقاق- كما يقول فى رسالته فى باب الفتوة.
(٢) هذا هو رأى القشيري فى «الخلّة»، ونرى لزاما علينا أن ننبه إلى بعض الآراء الأخرى فيها.
فالمعتزلة- الذين يبتعدون عن كل ما يحمل على التشبيه- يبذلون جهدهم فى الاستعانة باللغة للحصول على تأويلات للنص القرآنى تخدم هذه الغاية، فلما لم يرضهم حمل لفظة الخليل على ظاهرها فى الآية «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» (النساء: ١٢٥) استشهدوا ببيت من الشعر القديم لزهير وهو:
وإن أتاه خليل يوم مسألة يقول لا غائب مالى ولا حرم
(ديوان زهير نشر دار الكتب ص ١٥٣) وفيه خليل بمعنى محتاج، وقد أورد القشيري هذا الرأى ضمن تفسيره للآية ١٢٤ النساء، أي أنه لا يعارض أن تحتمل اللفظة هذا المعنى.
ويفسر دكتور عبد الرحمن بدوي قول أبى طالب المكي (إن رابعة قد ارتفعت إلى وصف معنى الخلة) بما يلى: (على أن مقام الخلة هذا يمكن أن يفسر على أساس أنه شعور بتجاوز الخير والشر، ذلك أن القيم الأخلاقية لا اعتبار لها إلا بالنسبة إلى بنى الإنسان والدنيا. أما- رابعة ورباح- فقد تجاوزا نطاق البشرية وصارا يلوذان بجوار الألوهية واطرحا الناسوت وشاع فيهما اللاهوت».
شهيد العشق الإلهي ص ٦٣، ٦٤
120
وفى هذا إشارة دقيقة إلى الفرق بين حال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم وحال إبراهيم عليه السّلام، لأنه تعرض جبريل للخليل وعرض عليه نفسه:
فقال: أمّا إليك.. فلا. ولم يطق جبريل صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم فنطق بلسان العجز وقال:
لو دنوت أنملة لاحترقت «١».
وشتّان بين حالة يكون فيها جبريل عليه السّلام من قوّته بحيث يعرض للخليل عليه السّلام نفسه، وبين حالة يعترف للحبيب- صلوات الله عليه- فيها بعجزه.
قوله جل ذكره: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً.
الإمام من يقتدى به، وقد حقّق له هذا حتى خاطب جميع الخلائق إلى يوم القيامة بالاقتداء به فقال: «ملة أبيكم إبراهيم» أي اتبعوا ملة إبراهيم يعنى التوحيد، وقال:
«واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى».
هذا هو تحقيق الإمامة. ورتبة الإمامة أن يفهم عن الحق ثم يفهم الخلق فيكون واسطة بين الحق والخلق، يكون بظاهره مع الخلق لا يفتر عن تبليغ الرسالة، وبباطنه مشاهدا للحق، لا يتغير له صفاء الحالة، ويقول للخلق ما يقوله له الحق.
قوله جل ذكره: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي.
نطق بمقتضى الشفقة عليهم، فطلب لهم ما أكرم به. فأخبره أن ذلك ليس باستحقاق نسب، أو باستيجاب سبب، وإنما هى أقسام مضت بها أحكام فقال له: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»
(١) يشير بهذا إلى ما حدث ليلة الاسراء والمعراج فى الملأ الأعلى (انظر كتاب المعراج) للقشيرى نشره دكتور على عبد القادر. ط. (الكتب الحديثة) سنة ١٩٦٤.
121
وليس هذا كنعيم الدنيا وسعة الأرزاق فيها، فهى لا ادّخار لها عن أحد وإن كان كافرا، ولذلك:
قال جلّ ذكره: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
فقال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٦]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)
يعنى ليس للدنيا من الخطر ما يمنعها عن الكفار، ولكن عهدى لا يناله إلا من اخترته من خواص عبادى.
أمّا الطعام والشراب فغير ممنوع من أحد.
أمّا الإسلام والمحاب فغير مبذول لكل أحد.
قوله جل ذكره: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً.
واذكر يا محمد حين جعلنا البيت- يعنى الكعبة- مثابة للناس إليه يثوبون، ومأمنا لهم إليه يرجعون، وإياه من كل نحو يقصدون.
هو بيت خلقته من الحجر ولكن أضفته إلى الأزل فمن نظر إلى البيت بعين الخلقة انفصل، ومن نظر إليه بعين الإضافة وصل واتصل «١»، وكلّ من التجأ إلى ذلك البيت أمن من عقوبة الآخرة إذا كان التجاؤه على جهة الإعظام والاحترام، والتوبة عن الآثام.
ويقال بنى البيت من الحجر لكنه حجر يجذب القلوب كحجر المغناطيس يجذب الحديد.
بيت من وقع عليه ظلّه أناخ بعقوة «٢» الأمن.
(١) قارن رأى القشيري الصوفي الحريص بآراء بعض الصوفية الذين أوتوا حظا من الجرأة فى التعبير.
عن هذا الموضوع، من ذلك مثلا قول رابعة «لا أريد الكعبة بل رب الكعبة أما الكعبة فماذا أفعل بها ولم تشأ أن تنظر إليها (تذكرة الأولياء. العطار ج ١ ص ٦١).
وقول الحلاج: «إن شوقنا إلى الله يجب أن يمحو عقليا فى نفوسنا صورة الكعبة، كيما نجد من أقامها «شخصيات قلقة فى الإسلام. د. بدوي ص ٦٨.
(٢) العقوة- الموضع المتسع أمام الدار أو المحلة أو حولهما (الوسيط ص ٦٢٤).
122
بيت من وقع عليه طرفه بشّر بتحقيق الغفران.
بيت من طاف حوله طافت اللطائف بقلبه، فطوفة بطوفة، وشوطة بشوطة وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
بيت ما خسر من أنفق على الوصول «١» إليه ماله.
بيت ما ربح من ضنّ عليه بشىء من زاره نسى مزاره، وهجر دياره.
بيت لا تستبعد إليه المسافة، بيت لا تترك زيارته لحصول مخافة، أو هجوم آفة، بيت ليس له بمهجة الفقراء آفة.
بيت من قعد عن زيارته فلعدم فتوّته، أو لقلة محبته.
بيت من صبر عنه فقلبه أقسى من الحجارة. بيت من وقع عليه شعاع أنواره تسلّى عن شموسه وأقماره.
بيت ليس العجب ممن بقي (عنه) «٢» كيف يصبر، إنما العجب ممن حضره كيف يرجع! قوله جل ذكره: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى.
عبد رفع لله سبحانه قدما فإلى القيامة جعل أثر قدمه قبلة لجميع المسلمين إكراما لا مدى له.
قوله جل ذكره: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ
(١) وردت (الوصل) وهى خطا فى النسخ.
(٢) (عنه) تكملة جاءت فى هامش الصفحة وهى تكملة ضرورية.
123
قَلِيلًا، ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
الأمر فى الظاهر بتطهير البيت، والإشارة من الآية إلى تطهير القلب.
وتطهير البيت بصونه عن الأدناس والأوضار، وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار.
وطواف الحجاج حول البيت معلوم بلسان الشرع، وطواف المعاني معلوم لأهل الحق فقلوب العارفين المعاني فيها طائفة، وقلوب الموحّدين الحقائق فيها عاكفة، فهؤلاء أصحاب التلوين «١» وهؤلاء أرباب التمكين.
وقلوب القاصدين بملازمة الخضوع على باب الجود أبدا واقفة.
وقلوب الموحّدين على بساط الوصل أبدا راكعة.
وقلوب الواجدين على بساط القرب أبدا ساجدة.
ويقال صواعد نوازع الطالبين بباب الكرم أبدا واقفة، وسوامى قصود المريدين بمشهد الجود أبدا طائفة، ووفود همم العارفين بحضرة العزّ أبدا عاكفة.
قوله جل ذكره: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً.
السؤال إذا لم يكن مشوبا بحظّ العبد كان مستجابا، ولم يكن سؤال إبراهيم هذا لحظّ نفسه، وإنما كان لحقّ ربّه عزّ وجلّ.
ولمّا حفظ شرط الأدب طلب الرزق لمن آمن منهم على الخصوص أجيب فيهم
(١) وردت (التكوين) وهى خطأ من الناسخ، والصحيح أنها (التلوين).
والتلوين والتمكين لفظان اصطلاحيان: (التلوين صفة ارباب الأحوال والتمكين صفة أهل الحقائق، فما دام العبد فى الطريق فهو صاحب تلوين لأنه يرتقى من حال إلى حال، وينتقل من وصف إلى وصف وهو أبدا فى الزيادة أما صاحب التمكين فوصل ثم اتصل، وأمارة أنه اتصل أنه بالكلية عن كليته بطل.
والتغير بما يرد على العبد إما لقوة الوارد او لضعف صاحبه، والسكون إما لقوته أو لضعف الوارد عليه) الرسالة ص ٤٤
124
وفى الذين لم يؤمنوا. ولمّا قال فى حديث الإمامة: «ومن ذرّيتى» من غير إذن منع وقيل له:
«لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٧]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧)
نجح السؤال فى صدق الابتهال فلما فزعا إلى الخضوع فى الدعاء أتاهما المدد، وتحقيق السؤال.
«إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ» لأقوالنا «الْعَلِيمُ» بأحوالنا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٨]
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)
«مُسْلِمَيْنِ» : منقادين لحكمك حتى لا يتحرك منّا عرق بغير رضاك، واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك لتقوم بعدنا مقامنا فى القيام بحقوقك، وشتان بين من يطلب وارثا لماله، وبين من يطلب نائبا بعده يقوم بطاعته فى أحواله.
«وَأَرِنا مَناسِكَنا» إذ لا سبيل إلى معرفة الموافقات إلا بطريق التوفيق والإعلام.
«وَتُبْ عَلَيْنا» : بعد قيامنا بجميع ما أمرتنا حتى لا نلاحظ حركاتنا وسكناتنا، ونرجع إليك عن شهود أفعالنا لئلا يكون خطر الشّرك الخفىّ فى توهّم شىء منّا بنا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٩]
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
إن الواجبات لمّا كانت من قبل الرسل دون مجرد المعقول سأل ألا يتركهم سدى، وألا يخليهم عن رسول وشرع. وطلب فى ذلك الموقف أن يكون الرسول «مِنْهُمْ» ليكونوا أسكن إليه وأسهل عليهم، ويصحّ أن يكون معناه أنه لما عرّفه- سبحانه- حال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم سأل إنجاز ما وعده على الوجه الذي به (أمره «١» ).
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٠]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)
أخبر أنه آثر الخليل صلوات الله عليه على البرية، فجعل الدين دينه، والتوحيد شعاره والمعرفة صفته فمن رغب عن دينه أو حاد عن سنّته فالباطل مطرحه، والكفر مهواه إذ ليست الأنوار بجملتها إلا مقتبسة من نوره.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣١]
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١)
الإسلام هو الإخلاص وهو الاستسلام، وحقيقته الخروج عن أحوال البشرية بالكلية من منازعات الاختيار ومعارضات النفس، قال: «أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» : قابلت الأمر بالسمع والطاعة، واعتنقت الحكم على حسب الاستطاعة. ولم يدخر شيئا من ماله وبدنه وولده، وحين أمر بذبح الولد قصد الذبح، وحين قال له خلّه من الأسر (عمل) «٢» ما أمر به، فلم يكن له فى الحالين «اختيار» ولا تدبير.
ويقال إن قوله: «أَسْلَمْتُ» : ليس بدعوى من قبله لأن حقيقة الإسلام إنما هو التّبرى من الحول والقوة، فإذا قال: «أَسْلَمْتُ» فكأنه قال أقمنى فيما كلفتنى، وحقّق منى ما به أمرتنى. فهو أحال الأمر عليه، لا لإظهار معنى أو ضمان شىء من قبل نفسه.
ويقال أمره بأن يستأثر بمطالبات القدرة فإن من حلّ فى الخلّة محلّه يحل به- لا محالة- ما حلّ به.
(١) نرجح أنها فى الأصل (أخبره) حتى تتلاءم مع السياق وبذا يكون الناسخ مخطئا فى نقلها.
(٢) فى ص (فعلم) ويمكن أن يحتملها المعنى، ولكن ترجيح (عمل) أقوى فى الدلالة على الامتثال.
ويسأل هاهنا سؤال فيقال: كيف قال إبراهيم صلوات الله عليه: «أَسْلَمْتُ» ولم يقل نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم حينما قيل له اعلم «علمت» ؟.
والجواب عن ذلك من وجوه: منها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «أنا أعلمكم بالله «١» » ولكن لم يرد بعده شرع فكان يخبر عنه بأنه قال علمت.
ويقال: إن الله سبحانه أخبر عن الرسول عليه السّلام بقوله: «آمن الرسول» لأن الإيمان هو العلم بالله سبحانه وتعالى، وقول الحق وإخباره عنه أتمّ من إخباره- عليه السّلام- عن نفسه.
والآخر أن إبراهيم لما أخبر بقوله: «أسلمت» اقترنت به البلوى، ونبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- يتحرز عما هو صورة الدعوى فحفظ وكفى.
والآخر أن إبراهيم عليه السّلام أمر بما يجرى مجرى الأفعال، فإن الاستسلام به إليه يشير. ونبينا صلّى الله عليه وسلّم أمر بالعلم، (ولطائف العلم أقسام) «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٢]
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
أخبر أن إبراهيم عليه السّلام وصّى بنيه، وكذلك يعقوب عليه السّلام قال لبنيه لا يصيبنكم الموت إلا وأنتم يوصف الإسلام. فشرائعهم- وإن اختلفت فى الأفعال- فالأصل واحد، ومشرب التوحيد لا ثانى- له فى التقسيم- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ»
(١) «أنا أعلمكم بالله وأخشاكم لله».
البخارى عن أنس «والله إنى لأخشاكم وأتقاكم له».
والشيخان عن عائشة «والله إنى لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية». [.....]
(٢) هنا وضع الناسخ علامة تدل على أنه أخطأ فى الثقل، ولهذا فإن العبارة التى وردت فى (ص) مضطربة وقد آثرنا أن نلتقط منها ما نرجح أنه ملائم للمعنى. فالمقصود أن إبراهيم عليه السّلام عبّر بقوله «أسلمت» وهذا فعل إنسانى بينما لم يقل الرسول (ص) «علمت» لأن العلم ليس كسبا للعبد وإنما هو قسمة له أى أنه من عين الجود لا من قبيل المجهود، والله أعلم.
بشارة بما تقوى به دواعيهم على الرغبة فيما يكلفهم من الإسلام، لأنهم إذا تحققوا أن الله سبحانه اصطفى لهم ذلك علموا أنه لا محالة يعينهم فيسهل عليهم القيام بحق الإسلام.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٣]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)
جروا كلهم- صلوات الله عليهم- على منهاج واحد فى التوحيد والإسلام، وتوارثوا ذلك خلفا عن سلف، فهم أهل بيت الزلفة، ومستحقو القربة، والمطهّرون من قبل الله- على الحقيقة.
قوله جل ذكره: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
لم يقولوا إلهنا مراعاة لخصوصية قدره، حيث سلموا له المزية، ورأوا أنفسهم ملحقين بمقامه، ثم أخبروا عن أنفسهم أنهم طيّع له «١» بقولهم «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٤]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)
أنزل الحقّ- سبحانه- كلّا بمحلّه، وأفرد لكل واحد قدرا بموجب حكمه، فلا لهؤلاء عن أشكالهم خبر، ولا بما خصّ به كل طائفة إلى آخرين أثر، وكلّ فى إقليمه ملك، ولكل يدور بالسعادة فلك.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٥]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥).
(١) وردت (طبع لهم) ونرجح أن الناسخ قد أخطأ فى النقل لأن «ونحن له مسلمون» معناه (ونحن طيّع له) وطيّع جمع طائع مثل ركّع وسجّد من راكع وساجد.
معناه إذا تجاذبتك الفرق، واختلفت عليك المطالبات بالموافقة، فاحكم بتقابل دعاواهم، وأزد من توجهك إلينا، جاريا على منهاج الخليل عليه السّلام فى اعتزال الجملة، سواء كان أباه، أو كان ممن لا يوافق مولاه، ولذا قال «وأعتزلكم وما تدعون من دون الله» للحق بالحق.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٦]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)
لمّا آمن نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم بجميع ما أنزل من قبله أكرم بجميع ما أكرمه من قبله، فلمّا أظهر موافقة الجميع أمر الكلّ بالكون تحت لوائه فقال: «آدم ومن دونه تحت لوائى يوم القيامة» ».
ولمّا آمنت أمّته بجميع ما أنزل الله على رسله «٢»، ولم يفرقوا بين أحد فهم ضربوا فى التكريم بالسّهم الأعلى فتقدموا على كافة الأمم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٧]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)
إن سلكوا طريقتكم، وأخذوا بسبيلكم، أكرموا بما أكرمتم، ووصلوا إلى ما وصلتم، وإن أبوا إلا امتيازا أبينا إلا هوانهم. فإنّ نظرنا لمن خدمك يا محمد بالوصلة،
(١) «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما نبى يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائى».
من أحاديث الشفاعة رواه الترمذي (٧٩/ ٦ منتخب كنز العمال).
(٢) وردت رسوله، والأولى أن تكون رسله لأن السياق يقتضى ذلك.
وإعراضنا عمن باينك وخالفك (... ) «١»، من خالفك فهو فى شق الأعداء، ومن خدمك فهو فى شق «٢» الأولياء.
«فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» : كفاية الله متحققة لأن عناية الله بكم متعلقة، فمن نابذكم قصمته أيادى النصرة، ومن خالفكم قهرته قضايا القسمة، وهو السميع لمناجاة أسراركم معنا على وصف الدوام، العليم باستحقاقكم (منا) «٣» خصائص اللطف والإكرام.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٨]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨)
معناه الزموا صبغة الله، فهو نصب بإضمار فعل.
والإشارة أن العبرة بما وضع الحق لا بما جمع العبد، فما يتكلفه الخلق فإلى الزوال مآله، وما أثبت الحقّ عليه الفطرة فبإثباته العبرة.
وللقلوب صبغة وللأرواح صبغة وللأسرار صبغة وللظواهر صبغة. صبغة الأشباح والظواهر بآثار التوفيق، وصبغة الأرواح والسرائر بأنوار التحقيق.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٩]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)
«٤» كيف تصحّ محاجة الأجانب «٥» وهم تحت غطاء الغيبة، وفى ظلال الحجبة. والأولياء فى ضياء الكشف وظهر الشهود؟
(١) هنا كلمة (بالواجب) ونظن أنها فى الأصل (بالفرقة) او ما فى معناها لتقابل (الوصلة).
(٢) وردت (سك) والمعنى يرفضها تماما مما يدل على أنها خطأ من الناسخ وربما كانت (سلك).
(٣) وردت (من) وهى مقبولة، ولكن الأجمل أن تكون (منا) حتى تنسجم الموسيقى الداخلية- وهذه خصيصة فى أسلوب القشيري- مع (معنا) فى الجملة السابقة عليها، فضلا عن أن فيها إعادة كل فضل إلى الله.
(٤) أخطأ الناسخ وكتبها (مصلحون) وصحة الآية (١٣٨) (.. مخلصون).
(٥) وردت (الاجابة) وهى خطأ من الناسخ.
ومتى يستوى حال من هو بنعت الإفلاس بغيبته مع حال من هو فى حكم الاختصاص والإخلاص لانغراقه فى قربته؟ هيهات لا سواء! قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٠]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠)
من نظر من نفسه إلى الخلق يتخيّل كلّا برقمه، ويحسب الجميع بنعت مثله فلمّا كانوا بحكم الأجنبيّة حكم الأنبياء- عليهم السّلام- بمثل حالتهم، فردّ الحقّ- سبحانه- عليهم ظنّهم و (... ) «١» فيهم رأيهم. وهل يكون المجدوب عن شاهده كالمحجوب فى شاهده؟
وهل يتساوى المختطف «٢» عن كلّه بالمردود إلى مثله؟
ذلك ظن الذين كفروا فتعسا «٣» لهم! قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤١]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
حالت بينكم وبينهم حواجز من القسمة فهم على الفرقة والغفلة أسسوا بنيانهم، وأنتم على الزلفة والوصلة ضربتم خيامكم. وعتيق فضلنا لا يشبه طريد قهرنا «٤».
(١) مشتبهة فى (ص).
(٢) وردت (المختلف) وهى خطأ من الناسخ، فمن معرفتنا بأسلوب القشيري نجزم أنها (المختطف) عن كله خذ مثلا قوله فى مستهل رسالته معبرا عن الفكرة ذاتها... واختطفوا عنهم بالكلية).
(٣) وردت (فتعاسا) والصحيح (فتعسا).
(٤) أخطأ أحد قراء النسخة (ص) حينما فهم (عتيق) هنا على معنى قديم والمقصود هنا- حسب السياق العام- أنها بمعنى حر، فمعنى العبارة: إن من يتحرر فى أكناف فضل الله ليس كمن يشرد في متاهات قهره.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٢]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
سقمت بصائر الكفار فلم يلح لهم وجه الصواب فى جميع أحوال المؤمنين، فطالعوها بعين الاستقباح، وانطلقت ألسنتهم بالاعتراض «١» فى كل ما كان ويكون منهم، فلم يروا شيئا جديدا إلا أتوا عليه باعتراض جديد.
فمن ذلك تغير أمر القبلة حينما حوّلت إلى الكعبة قالوا إن كانت قبلتهم حقا فما الذي ولّاهم «٢» عنها؟ فقال جل ذكره:
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
يتعبّد العباد إلى أي قطر و (... ) ونحو شاءوا، وكذلك أصحاب الغيبة والحجبة- عن شهود تصريف الحق لأوليائه- يطلبون وجوها من الأمر، يحملون عليها أحوالهم، ولو طالعوا الجميع من عين واحدة لتخلصوا عن ألم توزّع الفكر، وشغل ترجّم الخاطر، ومطالبات تقسّم الظنون، ولكنّ الله يهدى لنوره من شاء.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
الوسط الخيار، فجعل هذه الأمة خيار الأمم، وجعل هذه الطائفة «٣» خيار هذه الأمة فهم خيار الخيار. فكما أن هذه الأمة شهداء على الأمم فى القيامة فهذه الطائفة هم الأصول، وعليهم المدار، وهم القطب، وبهم يحفظ الله جميع الأمة، وكلّ من قبلته قلوبهم فهو المقبول، ومن ردّته «٤» قلوبهم فهو المردود. فالحكم الصادق لفراستهم، والصحيح حكمهم، والصائب نظرهم
(١) وردت (بالأعراض) وربما يقبلها المعنى، ولكن النطق (بالاعتراض) أكثر ملاءمة، خصوصا وقد جاءت (الاعتراض) بعد قليل. [.....]
(٢) وردت (وليهم) وهى خطأ فى الكتابة.
(٣) يقصد أهل الحقائق.
(٤) فى النسخة (روية) ومصححة فى الهامش (ردّته) وهى الصحيحة.
عصم جميع الأمة (عن) «١» الاجتماع على الخطأ، وعصم هذه الطائفة عن الخطأ فى النظر والحكم، والقبول والرد، ثم إن بناء أمرهم مستند إلى سنّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وكل ما لا يكون فيه اقتداء بالرسول «٢» عليه السّلام فهو عليه ردّ «٣»، وصاحبه على لا شىء.
قوله جل ذكره: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
بيّن أن الحكم فى تقرير أمر القبلة إلى وقت التحويل، وتحويلها من وقت التبديل كان اختبارا لهم من الحق ليتميز الصادق من المارق «٤»، ومن نظر إلى الأمر بعين التفرقة لكبر عليه أمر التحويل، ومن نظر بعين الحقيقة ظهرت لبصيرته وجوه الصواب. ثم قال:
«وما كان الله ليضيع إيمانكم» أي من كان مع الله فى جميع الأحوال على قلب واحد فالمختلفات من الأحوال له واحدة، فسواء غيّر أو قرّر، وأثبت أو بدّل، وحقّق أو حوّل فهم به له فى جميع الأحوال، قال قائلهم:
كيفما دارت الزجاجة درنا يحسب الجاهلون أنّا جننّا
فإن قابلوا شرقا أو واجهوا غربا، وإن استقبلوا حجرا أو قاربوا مدرا، فمقصود قلوبهم واحد، وما كان للواحد فحكم الجميع فيه واحد.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٤]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤).
(١) وردت (على) والصحيح عصم (عن) وقد استعملت (عن) فى الجملة التالية فى المعنى نفسه.
(٢) أخطأ الناسخ فكتبها (بالوصل).
(٣) جاءت (فهو عليهم رد) والصواب أن تكون (فهو عليه رد).
(٤) وردت (المارن) وقد جعلناها (المارق) لملاء منها للمعنى. ونرجح أنها كذلك فى الأصل.
حفظ- صلوات الله عليه- الآداب حيث سكت بلسانه عن سؤال ما تمنّاه من أمر القبلة بقلبه، فلاحظ السماء لأنها طريق جبريل عليه السّلام، فأنزل الله عزّ وجل: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ» أي علمنا سؤلك عمّا لم تفصح عنه بلسان الدعاء، فلقد غيّرنا القبلة لأجلك، وهذه غاية ما يفعل الحبيب لأجل الحبيب.
كلّ العبيد يجتهدون فى طلب رضائى وأنا أطلب رضاك: فلنولينك قبلة ترضاها».
«فولّ وجهك شطر المسجد الحرام» : ولكن لا تعلّق قلبك بالأحجار والآثار، وأفرد قلبك لى، ولتكن القبلة مقصود نفسك، والحقّ مشهود قلبك، وحيثما كنتم أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطره، ولكن أخلصوا قلوبكم لى وأفردوا شهودكم بي.
قوله جل ذكره: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
ولكنه علم لا يكون عليهم حجة، ولا تكون لهم فيه راحة أو منه زيادة، «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» تهويلا على الأعداء، وتأميلا على الأولياء.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٥]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
«١» سبق لكم من قديم الحكم ( ) «٢» انفراد بطريق الحق، ووقوع أعدائكم فى شق
(١) وقع الناسخ فى الخطأ حين وضع مكان (إنك إذا لمن الظالمين) مالك من الله من ولى ولا نصير، فأصلحناه.
(٢) هنا كلمة (القرب) ثم استبعدها الناسخ لزيادتها.
البعد، فبينكما برزخ لا يبغيان، فما هم بتابعى قبلتكم وإن أريتهم من الآثار ما هو أظهر من الشموس والأقمار، ولا أنت- بتابع قبلتهم وإن أتوا بكل احتيال، حكما من الله- سبحانه- بذلك فى سابق الأزل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٦]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)
حملتهم مستكنّات الحسد على مكابرة ما علموه بالاضطرار، فكذلك المغلوب فى ظلمات نفسه، ألقى «١» جلباب الحياء فلم ينجع فيه ملام، ولم يردعه عن انهماكه كلام.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٧]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
أي بعد ما طلعت لك شموس اليقين فلا تذعن «٢» إلى مجوزات التخمين «٣». والخطاب له والمراد به الأمة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٨]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)
الإشارة منه: أنّ كل قوم اشتغلوا عنّا بشىء حال بينهم وبيننا، فكونوا أنتم أيها المؤمنون لنا وبنا، وأنشد بعضهم:
إذا الأشغال ألهونى عنك بشغلهم جعلتك أشغالى فأنسيتنى شغلى
(١) وردت (تلقى) وهى خطأ من الناسخ.
(٢) وردت (فلا ترعن). والصواب أن تكون (فلا تذعن) بالذال.
(٣) يغمز القشيري هنا بما بين علوم أرباب الأحوال وبين العلوم العقلية، لأننا نعرف من مذهبه أنه مع احترامه للعقل فى البداية إلا أنه محتمل للإصابة بالتجويز والتخمين وغيرهما من الآفات التي لا تجعله جديرا- وحده- بالوصول إلى المعارف العليا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٩]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩)
كما تستقبلون أينما كنتم القبلة- قربتم منها أم بعدتم- فكذلك أقبلوا علينا بقلوبكم كيفما كنتم حظيتم منا أو منيتم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٠]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)
إذا أردت ألا يكون لأحد عليك سبيل، ولا يقع لمخلوق عليك ظلّ، ولا تصل إليك بالسوء يد، فحيثما كنت وأينما كنت وكيفما كنت كن لنا وكن منّا، فإنّ من انقطع إلينا لا يتطرق إليه حدثان.
قوله جل ذكره: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي.
إذا كانوا محوا عن كونهم رسوما تجرى عليهم أحكامنا- فأنّى بالخشية منهم!؟
قوله جل ذكره: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
إتمام النعمة إضافة الكشف إلى اللطف، فإن من كفاه بمقتضى جوده دون من أغناه بحق وجوده، وفى معناه أنشدوا:
نحن فى أكمل السرور ولكن ليس إلا بكم يتمّ السرور
عيب ما نحن فيه- يا أهل ودّى- أنّكم غيّب ونحن الحضور
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥١]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)
«١»
(١) أخطأ الناسخ حين كتبها (يتلون).
إرسال الرسول مفاتحة لأبواب الوصول، فكان فى سابق علمه- سبحانه- أن قلوب أوليائه متعطشة إلى لقائه. ولا سبيل لأحد إليه إلا بواسطة الرسل فأقوام ألزمهم- بإرسال الرسل إليهم الكلف، وآخرون أكرمهم- بإرسال الرسل إليهم- بفنون القرب والزّلف، وشتّان بين قوم وقوم! قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٢]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)
الذكر استغراق الذاكر فى شهود المذكور، ثم استهلاكه فى وجود المذكور، حتى لا يبقى منك أثر يذكر، فيقال قد كان مرة فلان.
«فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» أي كونوا مستهلكين فى وجودنا، نذكركم بعد فنائكم عنكم، قال الله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ» كانوا وقتا ولكنهم بانوا دائما «١» :
أناس حديث حسن... فكن حديثا حسنا لمن وعنى «٢»
وطريقة أهل العبارة «٣» (فَاذْكُرُونِي) بالموافقات (أَذْكُرْكُمْ) بالكرامات، وطريقة أهل الإشارة (فَاذْكُرُونِي) بترك كل حظ (أَذْكُرْكُمْ) بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم.
(فَاذْكُرُونِي) مكتفين بي «٤» عن عطائى وأفضالى (أَذْكُرْكُمْ) راضيا بكم دون أفعالكم.
(فَاذْكُرُونِي) بذكرى لكم ما تذكرون، ولولا سابق ذكرى لما كان لاحق ذكركم.
(فَاذْكُرُونِي) بقطع العلائق (أَذْكُرْكُمْ) بنعوت الحقائق.
ويقال اذكرني لكل من لقيته أذكرك لمن خاطبته، فمن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم.
(١) يقول يحيى بن معاذ: العارف كائن بائن. ومرة قال: المعارف كان فبان (الرسالة ص ١٥٧). [.....]
(٢) البيت منقول كما جاء فى ص، لم نحاول أن نبدل فى كتابته وهو مضطرب وزنا ومعنى.
(٣) وردت (العبادة) والأصوب أن يكون احتمال ورودها فى الأصل (العبارة) لتعبّر عن درجة أدنى من درجة أهل (الإشارة).
(٤) وردت (مكتفيا لى) والأقرب الى المعنى أن تجعلها فى صورة الجمع وأن يكون حرف الباء أولى من اللام حيث يقال اكتفيت بالله عن عطاء الله.
ويقال (وَاشْكُرُوا لِي) على عظيم المنّة عليكم بأن قلت: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).
ويقال الشكر من قبيل الذكر، وقوله (وَلا تَكْفُرُونِ) النهى عن الكفران أمر بالشكر، الشكر ذكر، فكرر عليك الأمر بالذكر، والثلاث أول حدّ الكثرة، والأمر بالذكر الكثير أمر بالمحبة لأنّ فى الخبر: «من أحب شيئا أكثر ذكره» فهذا- فى الحقيقة- أمر بالمحبة أي أحببني أحبك «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» أي أحبونى أحببكم.
ويقال: (فَاذْكُرُونِي) بالتذلل (أَذْكُرْكُمْ) بالتفضّل.
(فَاذْكُرُونِي) بالانكسار (أَذْكُرْكُمْ) بالمبار.
(فَاذْكُرُونِي) باللسان (أَذْكُرْكُمْ) بالجنان.
(فَاذْكُرُونِي) بقلوبكم (أَذْكُرْكُمْ) بتحقيق مطلوبكم.
(فَاذْكُرُونِي) على الباب من حيث الخدمة (أَذْكُرْكُمْ) بالإيجاب على بساط القربة بإكمال النعمة.
(فَاذْكُرُونِي) بتصفية السّر (أَذْكُرْكُمْ) بتوفية البرّ.
(فَاذْكُرُونِي) بالجهد والعناء (أَذْكُرْكُمْ) بالجود والعطاء.
(فَاذْكُرُونِي) بوصف السلامة (أَذْكُرْكُمْ) يوم القيامة يوم لا تنفع الندامة.
(فَاذْكُرُونِي) بالرهبة (أَذْكُرْكُمْ) بتحقيق الرغبة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)
استعينوا بالصبر على الصلاة أي بصبركم- عند جريان أحكام الحق عليكم- استحقاقكم صلاة ربكم عليكم، ولذا فإنه تعالى بعد «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» يقول: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ».
ويقال استوجب الصابرون نهاية الذخر، وعلو القدر حيث نالوا معيّة الله قال تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٤]
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤)
فاتتهم الحياة فى الدنيا ولكن وصلوا إلى الحياة الأبدية فى العقبى، فهم فى الحقيقة أحياء، يجدون من الله فنون الكرامات.
ويقال هم أحياء لأن الخلف عنهم الله ومن كان الخلف عنه الله لا يكون ميتا، قال قائلهم فى مخلوق:
إن يكن عنّا مضى بسبيله فما مات من يبقى له مثل خالد
ويقال هم أحياء بذكر الله لهم، والذي هو مذكور الحق بالجميل يذكره السرمدي ليس بميت.
ويقال إنّ أشباحهم وإن كانت متفرقة، فإنّ أرواحهم- بالحق سبحانه- متحققة.
ولئن فنيت بالله أشباحهم فلقد بقيت بالله أرواحهم لأنّ من كان فناؤه بالله كان بقاؤه بالله.
ويقال هم أحياء بشواهد التعظيم، عليهم رداء الهيبة وهم فى ظلال الأنس، يبسطهم جماله مرة، ويستغرقهم جلاله أخرى «١».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٥]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)
ابتلاهم بالنعمة ليظهر شكرهم، وابتلاهم بالمحنة ليظهر صبرهم، فلما أدخل المعلوم من حالهم فى الوجود، ورسمهم بالرقم الذي قسمه، وأثبتهم على الوصف الذي علمه، ابتلاهم
(١) شبيه بذلك ما يقوله القشيري فى كتابه «التحبير فى التذكير» حينما شرح «المحيي المميت» و «الجليل الجميل» :«من كاشفه بجلاله أفناه، ومن كاشفه بجماله أحياه، فكشف الجلال يوجب محوا وغيبة، وكشف الجمال يوجب صحوا وقربة».
بالخوف وفيه تصفية لصدورهم، وبالجوع وفيه تنقية لأبدانهم، وبنقص من الأموال تزكو به نفوسهم، وبمصائب النفوس يعظم بها عند الله أجرهم، وبآفة الثمرات يتضاعف من الله خلفهم.
«وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» يعنى الذين لا اعتراض لهم على تقديره فيما أمضاه.
ويقال طالبهم بالخوف (ابتعادا) عن عقوبته ثم بمقاساة الجوع ابتغاء قربته وكرامته، ونقص من الأموال بتصدّق الأموال والخروج عنها طلبا للخير منه بحصول معرفته.
«وَالْأَنْفُسِ» تسليما لها إلى عبادته. «وَالثَّمَراتِ» القول بترك ما يأملونه من الزوائد فى نعمته «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» على استحسان قضيته، والانقياد لجريان قدرته.
ومطالبات الغيب إما أن تكون بالمال أو بالنفس أو بالأقارب فمن أوقف المال لله فله النجاة «١»، ومن بذل لحكمه النّفس فله الدرجات، ومن صبر عند مصائب الأقارب فله الخلف والقربات، ومن لم يدخر عنه الروح فله دوام المواصلات.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٦]
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦)
... الآية.
قابلوا الأمر بالصبر لا بل بالشكر لا بل بالفرح والفخر.
ومن طالع الأشياء ملكا للحق رأى نفسه أجنبيا بينه وبين حكمه فمنشىء الخلق أولى بالخلق من الخلق.
ويقال من شهد المصائب شهد نفسه لله وإلى الله، ومن شاهد المبلى علم أن ما يكون من الله فهو عبد بالله، وشتان بين من كان لله وبين من كان بالله الذي كان لله فصابر واقف، والذي هو بالله فساقط الاختيار والحكم، إن أثبته ثبت، وإن محاه انمحى، وإن حرّكه تحرك، وإن سكّنه سكن، فهو عن اختياراته فان، وفى القبضة مصرّف.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٧]
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧).
(١) ربما كانت فى الأصل (الجنات).
بصلواته «١» عليهم ابتداء وصلوا إلى صبرهم ووقوفهم عند مطالبات التقدير، لا بصبرهم ووقوفهم وصلوا إلى صلواته، فلولا رحمته الأزلية لما حصلت طاعتهم بشرط العبودية، فعنايته السابقة أوجبت لهم هداية خالصة «٢».
قال تعالى: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» لما رحمهم فى البداية اهتدوا فى النهاية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٨]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
تلك المشاهد والرسوم، وتلك الأطلال والرقوم، تعظّم «٣» وتزار، وتشدّ إليها الرحال «٤» لأنها أطلال الأحباب، وهنالك تلوح الآثار:
أهوى الديار لمن قد كان ساكنها وليس فى الدار هم ولا طرب «٥»
وإن لتراب طريقهم بل لغبار آثارهم- عند حاجة الأحباب- أقدارا عظيمة، وكل غبرة تقع على (حافظات طريقهم) «٦» لأعزّ من المسك الأذفر:
وما ذاك إلا أن مشت عليه أميمة فى تربها وجرّت به بردا
قوله جل ذكره: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ.
حظى الصفا والمروة بجوار البيت فشرع السعى بينهما كما شرع للبيت الطواف، فكما أن الطواف ركن فى النّسك فالسعى أيضا ركن، والجار يكرم لأجل الجار.
(١) وردت (بصلواتهم) وهى خطأ من الناسخ لأن السياق يؤدى إلى (صلاته) سبحانه عليهم فى سابق الأزل، كذلك تشير الآية الكريمة إلى صلاته لا إلى صلواتهم.
(٢) لاحظ هنا معارضة القشيري لفكرة وجوب إثابة المطيع على الله. فالله فى رأى القشيري تنزه عن أن يجب عليه شىء، لأن طاعة المطيع أو لا فضل من الله، وليست بفضل العبد.
(٣) وردت (تعظيم) وهى خطأ فى النسخ.
(٤) وردت (الرجال) وهى خطأ فى النسخ.
(٥) إما أن تكون (همّ) صحيحة، أي لا حزن ولا فرح، واما أنها فى الأصل (همس) لتناسب الطرب، وليتناسبا مع خلو الدار من أقل أثر للحياة.
(٦) هكذا وردت فى (ص).
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩)
الإشارة فى هذه الآية لمن كاشفه الحقّ سبحانه بعلم من آداب السلوك ثم ضنّ «١» بإظهاره للمريدين على وجه النصيحة والإرشاد استوجب المقت فى الوقت، ويخشى عليه نزع البركة عن علمه متى قصّر فيه لما أخّر من تعليم المستحق.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٠]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
تداركوا ما سلف من تقصيرهم بحسن الرّجعى، والقيام للمريدين على وجه النصيحة، وبيّنوا لهم- بجميل البيان وإقامة البرهان على ما يقولون- حسن قيامهم بمعاملاتهم.
فإنّ أظهر الحجج لبيان أفعالك وأصدق الشهادة لتصحيح ما تدعو به الخلق إلى الله- ألا يخالف بمعاملتك ما تشير إليه بمقالتك، قال الله تعالى: «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦١ الى ١٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
الإشارة فيه أن الذين بدا لهم بعد ما سلكوا طريق الإرادة (أن) يرجعوا إلى أحوال العادة، ثم فى تلك الوحشة قبضوا، وعلى تلك الحالة من الدنيا خرجوا، أولئك أصحاب الفرقة،
(١) وردت (ضمن) وهى خطأ من الناسخ وقد استندنا فى الوصول إلى أنها (ضنّ) من كلمة (بخل) التي سجلها الناسخ تحتها. والسياق يؤيدها.
فلا على أرواحهم إقبال ولا لمصيبتهم جبران، ولا لأحد عليهم ترحم، خسروا فى الدنيا والآخرة، يلعنهم البقّ فى الهواء والنقع على الماء.
خالِدِينَ أي مقيمين أبدا فى هوانهم وصغرهم، لا تخفيف ولا إسعاف، ولا رفق ولا ألطاف.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٣]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)
شرّفهم غاية التشريف بقوله وإلهكم. وإن شيوخ هذه الطائفة قالوا: علامة من يعدّه من خاصّ الخواص أن يقول له: عبدى، وذلك أتمّ من هذا بكثير لأن قوله:
«وَإِلهُكُمْ» : وإضافة نعته أتمّ من إضافته إياك إلى نفسه لأن إلهيته لك بلا علّة، وكونك له عبد يعوّض كل نقصك وآفتك. ومتى قال لكم «وَإِلهُكُمْ» ؟
حين كانت طاعتك وحركاتك وسكناتك أو ذاتك وصفاتك لا بل قبل ذلك أزل الأزل حين لا حين ولا أوان، ولا رسم ولا حدثان.
و «الواحد» من لا مثل له يدانيه، ولا شكل يلاقيه. لا قسيم يجانسه ولا قديم يؤانسه.
لا شريك يعاضده ولا معين يساعده ولا منازع يعانده.
أحدىّ الحق صمدىّ العين ديمومّى البقاء أبدىّ العز أزلىّ الذات.
واحد فى عز سنائه فرد فى جلال بهائه، وتر فى جبروت كبريائه، قديم فى سلطان عزّه، مجيد فى جمال ملكوته. وكل من أطنب فى وصفه أصبح منسوبا إلى العمى «١» (ف) لولا أنه الرحمن الرحيم لتلاشى العبد إذا تعرّض لعرفانه عند أول ساطع من باديات عزّه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
(١) وردت (الأعمى) فى ص ويمكن قبولها على أنها اسم جنس.
تعرّف إلى قلوب الطالبين من أصحاب الاستدلال وأرباب العقول بدلالات قدرته، وأمارات وجوده، وسمات ربوبيته التي هى أقسام أفعاله. ونبههم على وجود الحكمة ودلالات الوحدانية بما أثبت فيها من براهين تلطف عن العبارة، ووجوه من الدلالات تدقّ عن الإشارة، فما من عين من العدم محصولة- من شخص أو طلل، أو رسم أو أثر، أو سماء أو فضاء «١»، أو هواء أو ماء، أو شمس أو قمر، أو قطر أو مطر، أو رمل أو حجر، أو نجم أو شجر- إلا وهو على الوحدانية دليل، ولمن يقصد وجوده سبيل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٥]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥)
هؤلاء قوم لم يجعلهم الحق سبحانه أهل المحبة، فشغلهم بمحبة الأغيار حتى رضوا لأنفسهم أن يحبوا كل ما هوته أنفسهم، فرضوا بمعمول لهم أن يعبدوه، ومنحوت- من دونه- أن يحبوه.
قوله جل ذكره: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ.
ليس المقصود من هذا ذكر محبة الأغيار للأصنام، ولكن المراد منه مدح المؤمنين على محبتهم، ولا تحتاج إلى كثير محبة حتى تزيد على محبة الكفار للأصنام، ولكن من أحبّ حبيبا استكثر ذكره، بل استحسن كل شىء منه.
ويقال وجه رجحان محبة المؤمنين لله على محبة الكفار لأصنامهم أن (هذه) محبة الجنس
(١) وردت (قضاء) فى ص. [.....]
للجنس، وقد يميل الجنس إلى الجنس، وتلك محبة من ليس بجنس لهم فذلك أعزّ وأحق.
ويقال إنهم أحبوا ما شاهدوه، وليس بعجيب محبة ما هو لك مشهود، وأمّا المؤمنون فإنهم أحبوا من حال بينهم وبين (شهوده) رداء الكبرياء على وجهه.
ويقال الذين آمنوا أشد حبا لله لأنهم لا يتبرأون من الله سبحانه وإن عذّبهم. والكافر تبرأ من الصنم والصنم من الكافر كما قال تعالى: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا... » الآية.
ويقال محبة المؤمنين حاصلة من محبة الله لهم فهى أتم، قال تعالى: «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ».
ومحبتهم للأصنام من قضايا هواهم.
ويقال محبة المؤمنين أتمّ وأشدّ لأنها على موافقة الأمر، ومحبة الكفار على موافقة الهوى والطبع، ويقال إنهم كانوا إذا صلحت أحوالهم، واتسعت ذات يدهم اتخذوا أصناما أحسن من التي كانوا يعبدونها قبل ذلك فى حال فقرهم فكانوا يتخذون من الفضة- عند غناهم- أصناما ويهجرون ما كان من الحديد... وعلى هذا القياس! وأمّا المؤمنون فأشدّ حبا لله لأنهم عبدوا إلها واحدا فى السّرّاء والضراء.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٦]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦)
إذا بدت لهم أوائل العذاب اتضح أنهم لم يقفوا من الصدق على قدم، وأمّا المؤمنون فيسلبهم أرواحهم وأملاكهم وأزواجهم وأولادهم، ويسكن (أولئك) «١» فى القبور سنين ثم يبتليهم فى القيامة بطول الآجال «٢» وسوء الأعمال ثم يلقيهم فى النار.
(١) أضفنا (أولئك) ليمتنع اللبس.
(٢) فى ص (طول الأحوال) ونرجح أنها فى الأصل (الآجال) لأن وصف الأحوال بالطول غير ملائم فضلا عن أننا نفترض أن القشيري لا يستعمل الأحوال الا لأرباب الأحوال. وطول الآجال فى جهنم معناه تأبيد العذاب.
(أما المؤمنون) «١» فيأتى عليهم طول الأيام والأعمال فلا يزدادون إلا محبة (على محبة) «٢» ولذلك قال: والذين آمنوا أشدّ حبا لله.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٧]
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
عند «٣» ذلك يعرفون مرارة طعم صحبة المخلوقين ولكن لا يحصلون إلا على حسرات.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨)
الحرام- وإن استلذّ فى الحال- فهو وبيء فى المآل، والحلال- وإن استكره فى الحال- فهو مرىء فى المآل.
والحلال الصافي ما لم ينس مكتسبه الحقّ فى حال اكتسابه «٤».
ويقال الحلال ما حصله الجامع له والمكتسب على شهود الحق فى كل حال.
وكلّ ما يحملك على نسيان الحق أو عصيان الحق فهو من خطوات الشيطان.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٩]
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)
لاجترائه على الله يدعوك به إلى افترائك على الله.
(١) أضفناها ليستقيم السياق إذ يبدو أنها سقطت أثناء النسخ.
(٢) فى الهامش مستدركة وعليها علامة بموضعها.
(٣) وردت (عن) والأصح (عند).
(٤) القشيري هنا مستفيد من تعريف سهل بن عبد الله التستري للحلال الصافي (الرسالة ص ٥٩).
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)
لا ترفع أبصارهم عن أشكالهم وأصنافهم، من أضرابهم وأسلافهم، فبنوا على منهاجهم، فلا جرم انخرطوا فى النار، وانسلكوا فى سلكهم، ولو علموا أن أسلافهم لا عقل يردعهم، ولا رشد يجمعهم لنابذوهم مناصبين، وعاندوهم مخالفين، ولكن سلبوا أنوار البصيرة، وحرموا دلائل اليقين.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧١]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)
عدموا سمع الفهم والقبول، فلم ينفعهم سمع الظاهر، فنزلوا منزلة البهائم فى الخلوّ عن التحصيل، ومن رضى أن يكون كالبهيمة لم يقع عليه كثير قيمة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)
الحلال ما لا تبعة عليه، والطيب الذي ليس لمخلوق فيه منّة، وإذا وجد العبد (طعاما) يجتمع فيه الوصفان فهو الحلال الطيب.
وحقيقة الشكر عليه ألا تتنفس فى غير رضاء الحق ما دام تبقى فيك القوة لذلك الطعام.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٣]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
حرّم على الظواهر هذه المعدودات وهى ما أهل به لغير الله، وحرّم على السرائر صحبة.
غير الله بل شهود غير الله، فمن اضطر- أي لم يجد إلى الاستهلاك فى حقائق الحق وصولا- فلا يسلكنّ غير سبيل الشرع سبيلا، فإما أن يكون محوا فى الله، أو يكون قائما بالله، أو عاملا لله، والرابع همج لا خطر له.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٤]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤)
العلماء مطالبون بنشر دلائل العلم، والأولياء مأمورون بحفظ ودائع السّر فإن كتم هؤلاء براهين العلوم ألجموا بلجام من النار، وإن أظهر هؤلاء شظية من السر عوجلوا ببعاد الأسرار، وسلب ما أوتوا «١» من الأنوار. ولكل حدّ، وعلى كل أمر قطيعة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٥ الى ١٧٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
إن الذين آثروا الغير على الغيب، والخلق على الحقّ، والنفس على الأنس، ما أقسى قلوبهم، وما أوقح محبوبهم ومطلوبهم، وما أخسّ «٢» قدرهم، وما أفضح «٣» لذوى الأبصار أمرهم! ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق، وأمضى القضاء والحكم فيه بالصدق، وأوصلهم إلى ما له أهّلهم، وأثبتهم على الوجه الذي عليه جبلهم.
(١) وردت (أتوا) والصواب (أوتوا) لتناسب المعنى.
(٢) وردت (أخص) والصواب أخس لتناسب المعنى.
(٣) وردت ما (أفصح) ونرجح أنها فى الأصل ما (افضح).
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
«١» والإشارة أن الظواهر ليس لها كثير اعتبار إنما الخبر عن الله عزيز.
وكثرة الأوراد- وإن جلّت- فحرفة العجائز، وإخلاص الطاعات- وإن عزّ- فصفة العوام، ووصل الليل بالنهار فى وظائف كثيرة ومجاهدات غزيرة عظيم الخطر فى استحقاق الثواب، ولكنّ معرفة الحق عزيزة.
وما ذكر فى هذه الآية من فنون الإحسان، ووجوه قضايا الإيمان، وإيتاء المال، وتصفية الأعمال، وصلة الرحم، والتمسك بفنون الذّمم والعصم، والوفاء بالعهود، ومراعاة الحدود- عظيم الأثر، كثير الخطر، محبوب الحق شرعا، ومطلوبه أمرا لكنّ قيام الحق عنك بعد فنائك، وامتحانك من شاهدك، واستهلاكك فى وجود القدم، وتعطل رسومك عن مساكنات إحساسك- أتمّ وأعلى فى المعنى لأن التوحيد لا يبقى رسما ولا أثرا، ولا يغادر غيرا ولا غبرا «٢»
(١) اخطأ الناسخ فكتها (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة).
(٢) الغير السوي أما (الغبر) فمعروف.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨)
حق القصاص مشروع، والعفو خير، فمن جنح إلى استيفاء حقه فمسلّم له، ومن نزل عن ابتغاء حقه فمحسن، فالأول صاحب عبادة بل عبودية، والثاني صاحب فتوة بل حرية والدم المراق يجرى فيه القصاص على لسان أهل العلم، وأمّا على لسان الإشارة لأهل القصة «١» فدماؤهم مطلولة وأرواحهم هدرة قال:
وإن فؤدا رعته لك حامد... وإنّ دما أجريته بك فاخر
وسفك دماء الأحباب (فوق) «٢» بساط «٣» القرب خلوف أهل الوصال، قال النبي
صلّى الله عليه وسلّم: «اللون لون الدم... والريح ريح المسك»
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٩]
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
فى استيفاء القصاص حياة لأنه إذا علم أنه إذا قتل قتل أمسك عن القتل وفى ذلك حياة القاتل والمقتول.
ولكن ترك القصاص- على بيان الإشارة- فيه أعظم الحياة لأنه إذا تلف فيه (سبحانه)
(١) أهل القصة هم أرباب الأحوال.
(٢) وردت (فى) والأصوب فوق.
(٣) وردت (سباط) وقد رجحنا (بساط) القرب لورودها فى مواضع أخرى هكذا. [.....]
فهو الخلف عنه، وحياته عنه أتم له من بقائه بنفسه، وإذا كان الوارث عنهم الله والخلف عنهم الله فبقاء الخلف «١» أعزّ من حياة من ورد عليه التلف.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٠]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)
من ترك مالا فالوصية له فى ماله مستحبة، ومن لم يترك شيئا فأنّى بالوصية!! فى حالة الأغنياء يوصون فى آخر أعمارهم بالثلث، أمّا الأولياء فيخرجون فى حياتهم عن الكلّ، فلا تبقى منهم إلا همة انفصلت عنهم ولم تتصل بشىء لأن الحق لا سبيل للهمة إليه، والهمة لا تعلّق لها بمخلوق، فبقيت وحيدة منفصلة غير متصلة، وأنشدوا:
أحبكم ما دمت حيا فإن أمت يحبكم عظمى فى التراب رميم
هذه وصيتهم: وقال بعضهم:
(..............) «٢»
لا بل كما قال قائلهم:
وأتى الرسول فأخبر أنهم رحلوا قريبا رجعوا إلى أوطانهم فجرى له دمعى صبيبا
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨١]
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)
من حرّف نطقا جرى بحقّه لحقه شؤم ذلك ووباله.
وعقوبته أن يحرم رائحة الصدق أن يشمه. فمن أعان الدين أعانه الله، ومن أعان على الدين خذله الله.
(١) وردت (الخلق) والصواب (الخلف).
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٢]
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
الإشارة فيه: أن من تفرّس «١» فى بعض المريدين ضعفا، أو رأى فى بعض «٢» أهل البداية رخاوة قصد أو وجد بعض الناصحين يتكلم بالصدق المحض على من لم يحتمله- فرأى أن يرفق بذلك المريد بما يكون ترخيصا له أو استمالة له أو مداراة أو رضا بتعاطى مباح- فلا بأس به فإن حمل الناس على الصدق المحض مما لم يثبت له كثير أجر. فالرّفق بأهل البداية- إذا لم يكن لهم صارم عزم، ولا صادق جهد- ركن فى ابتغاء الصلاح عظيم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)
الصوم على ضربين: صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوبا بالنية، وصوم باطن وهو صون القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكنات، ثم صون السّرّ عن الملاحظات.
ويقال صوم العابدين شرطه- حتى يكمل- صون اللسان عن الغيبة، وصون الطرف عن النظر بالريبة كما فى الخبر: (من صام فليصم سمعه وبصره... )... الخبر «٣»، وأما صوم العارفين فهو حفظ السر عن شهود كل غيره.
وإن من أمسك عن المفطرات فنهاية صومه إذا هجم الليل، ومن أمسك عن الأغيار فنهاية صومه أن يشهد الحق، قال صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» : الهاء فى قوله
(١) وردت بالصاد وهى خطأ من الناسخ.
(٢) وردت (فى أهل بعض البداية) وواضح أنها خطأ من الناسخ.
(٣) (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك ويدك: معناه من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه).
رواه البخاري وأصحاب السنن عن أبى هريرة.
عليه السّلام- لرؤيته- عائدة عند أهل التحقيق إلى الحق سبحانه، فالعلماء يقولون معناه عندهم صوموا إذا رأيتم هلال رمضان وأفطروا لرؤية هلال شوال، وأما الخواص فصومهم لله لأن شهودهم الله وفطرهم بالله وإقبالهم على الله والغالب عليهم الله، والذي «١» هم به محو- الله.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٤]
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
من شهد الشهر صام لله، ومن شهد خالق الشهر صام بالله، فالصوم لله يوجب المثوبة، والصوم بالله يوجب القربة. الصوم لله تحقيق العبادة والصوم بالله تصحيح الإرادة. الصوم لله صفة كل عابد والصوم بالله نعت كل قاصد. الصوم لله قيام بالظواهر والصوم بالله قيام بالضمائر. الصوم لله إمساك من حيث عبادات الشريعة والصوم بالله إمساك بإشارات الحقيقة.
من شهد الشهر أمسك عن المفطرات ومن شهد الحق أمسك فى جميع أوقاته عن شهود المخلوقات.
من صام بنفسه سقى شراب السلسبيل والزنجبيل، ومن صام بقلبه سقى شراب المحاب بنعمة الإيجاب.
ومن صام بسرّه فهم الذين قال فيهم الله تعالى: «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً».
شراب يا له من شراب!! شراب لا يدار على الكف لكنه يبدو له من اللطف.
شراب استئناس لا شراب كاس.
قوله تعالى: «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» أي من أفطر لهذه الأعذار فعليه صوم عدة أيام بعدد ما أفطر قضاء لذلك. الإشارة لمن سقمت إرادته عن الصحة فيرجع إلى غيره إما لرخصة تأويل أو لقلة قوة واحتمال، أو عجز للقيام بأعباء أحكام الحقيقة
(١) وردت (والذين) وهو خطأ من الناسخ.
فليمهل حتى تقوى عزيمته وتشتد إرادته، فعند ذلك يستدرك منه ما رخّص له بالأخذ بالتأويل، وتلك سنّة الله سبحانه وتعالى فى التسهيل على أهل البداية، ثم استيفاء ذلك منهم واجب فى آخر الحال.
قوله جل ذكره: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ «١»............ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
الإشارة منه أنّ من فيه بقية من القوة للوقوف لمطالبات الحقيقة ويرجع إلى تسهيل الشريعة وينحط إلى رخصة التأويل فعليه الغرامة بواجب الحال وهو الخروج عما بقي له من معلوم مال أو مرسوم حال ويبقى مجردا للواحد.
[فصل] ويقال إنه لما علم أن التكليف يقتضى المشقة خففه عليك ذلك بأن قلّل أيام الصوم فى قلبك فقال: «أياما معدودات» أي مدة هذا الصوم أيام قليلة فلا يهولنكم سماع ذكره، وهذا كقوله تعالى: وجاهدوا فى الله حق جهاده. ثم قال: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي لا يلحقكم كثير مشقة فى القيام بحق جهاده.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٥]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
رمضان يرمض ذنوب قوم ويرمض رسوم قوم، وشتان بين من تحرق ذنوبه رحمته وبين من تحرق رسومه حقيقته.
(١) وقع الناسخ فى سهو حين أعاد ثلاثة أسطر مما سبق له أن كتبه، ووقعت هذه الأسطر المعادة بين كلمتى (فدية، وطعام) فى الآية الكريمة.
شهر رمضان شهر مفاتحة الخطاب، شهر إنزال الكتاب، شهر حصول الثواب، شهر التقريب والإيجاب. شهر تخفيف الكلفة، شهر تحقيق الزلفة. شهر نزول الرحمة، شهر وفور النعمة.
شهر النجاة، شهر المناجاة.
قوله جل ذكره: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
أراد بك اليسر (وأنت تظن) أنه أراد بك العسر.
ومن أمارات أنه أراد بعبده اليسر أنه (أقامه) «١» بطلب اليسر ولو لم يرد به اليسر لما جعله راغبا فى اليسر، قال قائلهم:
(٢) هنا شاهد شعرى عجزنا تماما عن قراءته أو إصلاحه وما أكثر خطأ الناسخ فى نقل شواهد الشعر!!
لو لم ترد نيل ما أرجوا وأطلبه من فيض جودك ما علمتنى الطلبا
حقّق الرجاء وأكّد الطمع وأوجب التحقيق حيث قال: «ولا يريد بكم العسر» لينفى عن حقيقة التخصيص مجوزات الظنون.
قوله جل ذكره: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ.
على لسان العلم تكملوا مدة الصوم.
وعلى لسان الإشارة لتقرنوا بصفاء الحال (وفاء) «٢» (المآل) «٣» ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون» فى النّفس الأخير، وتخرجوا من مدة عمركم بسلامة إيمانكم. والتوفيق فى أن تكمل صوم شهرك عظيم لكن تحقيق أنه يختم عمرك بالسعادة- أعظم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٦]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
(١) جاءت (أقام) وقد جعلناها (أقامه) ليزداد وضوح المعنى.
(٢) جاءت (ووفاء) ونظن أن الواو الأولى زائدة من الناسخ.
(٣) جاءت (المال) وقد اعتاد الناسخ أن يكتب المال مثل المآل أي بدون علامة على المد، وآثرنا هنا أن نضعها، فالمقصود الإعداد لليوم الآخر بالطاعات والعبادات، وغاية التمام أن تجمع بين الحقيقة والشريعة. هذا فضلا عن أن الإشارة للصوفية، والصوفية قوم لا مال لهم.
155
سؤال كل أحد يدلّ على حاله لم يسألوا عن حكم ولا عن مخلوق ولا عن دين «١» ولا عن دنيا ولا عن عقبى بل سألوا عنه فقال تعالى: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي». وليس هؤلاء من جملة من قال: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ»، ولا من جملة من قال: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى»، ولا من جملة من قال: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ»، ولا من جملة من قال: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ»، ولا من جملة من قال: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ»، و «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ».
هؤلاء قوم مخصوصون: «وَإِذا سَأَلَكَ «٢».... عِبادِي عَنِّي».
أي إذا سألك عبادى عنى فبماذا تجيبهم؟ ليس هذا الجواب بلسانك يا محمد، فأنت وإن كنت السفير بيننا وبين الخلق فهذا الجواب أنا أتولاه «فَإِنِّي قَرِيبٌ» (رفع الواسطة من الأغيار عن القربة فلم يقل قل لهم إنى قريب بل قال جل شأنه: فإنى قريب) «٣».
ثم بيّن أن تلك القربة ما هى: حيث تقدّس الحقّ سبحانه عن كل اقتراب بجهة أو ابتعاد بجهة أو اختصاص ببقعة فقال: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ» وإن الحق سبحانه قريب- من الجملة والكافة- بالعلم والقدرة والسماع والرؤية، وهو قريب من المؤمنين على وجه التبرية والنصرة وإجابة الدعوة، وجلّ وتقدّس عن أن يكون قريبا من أحد بالذات والبقعة فإنه أحدىّ لا يتجه فى الأقطار، وعزيز لا يتصف بالكنه والمقدار.
قوله جل ذكره: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.
لم يعد إجابة من كان باستحقاق زهد أو فى زمان عبادة بل قال دعوة الداعي متى دعانى وكيفما دعانى وحيثما دعانى ثم قال: «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي» هذا تكليف، وقوله:
(١) تكررت كلمة (دنيا) مرتين فرجحنا أن تكون الأولى (دين) وتركنا الثانية (دنيا) لتتقابل مع (عقبى).
(٢) وضع الناسخ علامة تشعر بوجود كلمات زائدة بين (سألك) (وعبادى) فحذفنا الزائدة.
(٣) ما بين القوسين تكملة من الهامش استدركها الناسخ فوضعناها فى موضعها.
156
«أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ» تعريف وتخفيف، قدّم التخفيف على التكليف، وكأنه قال: إذا دعوتنى- عبدى- أجبتك، فأجبنى أيضا إذا دعوتك، أنا لا أرضى بردّ دعائك فلا ترض- عبدى- بردّى من نفسك. إجابتى لك بالخير تحملك- عبدى- على دعائى، ولا دعاؤك يحملنى على إجابتك. «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، وَلْيُؤْمِنُوا بِي» : وليثقوا فى، فإنى أجيب من دعانى، قال قائلهم:
يا عزّ أقسم بالذي أنا عبده وله الحجيج وما حوت عرفات «١»
لا أبتغى بدلا سواك خليلة فثقى بقولي والكرام ثقات
ثم قال فى آخر الآية: «لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» أي ليس القصد من تكليفك ودعائك إلا وصولك إلى إرشادك.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٧]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
أخبر أنه- فى الحقيقة- لا يعود إليه عائد من أوصاف الخلق إن كنت فى العبادة التي هى حق الحق أو فى أحكام العادة من صحبة جنسك التي هى غاية النفس والحظ، فسيّان فى حالك إذا أورد فيه الإذن.
(١) جاءت (عرفان) وهى خطأ فى النسخ. [.....]
نزلت الآية فى زلّة بدرت من الفاروق «١»، فجعل ذلك سبب رخصة لجميع «٢» المسلمين إلى القيامة. وهكذا أحكام العناية.
ويقال علم أنه لا بدّ للعبد عن الحظوظ فقسم الليل والنهار فى هذا الشهر بين حقه وحظّك، فقال أما حقى ف «أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ»، وأما حظك ف «كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ».
قوله جل ذكره: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
أخبر أن محل القدرة مقدّس عن اجتلاب الحظوظ، وقال إذا كنتم مشاغيل بنفوسكم كنتم محجوبين بكم فيكم، وإذا كنتم قائمين بنا فلا تعودوا منّا إليكم.
ويقال غيرة الحق سبحانه على الأوقات أن يمزج الجدّ بالهزل، قالت عائشة رضى الله عنها: يا رسول الله إنى أحبك وأحب قربك فقال عليه السّلام: ذريتى يا ابنة أبى أبكر أتعبد ربى. وقال صلّى الله عليه وسلّم لى وقت لا يسعنى غير ربى «٣» قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٨]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨).
(١) أي عمر بن الخطاب. قال هشام عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال قام عمر ابن الخطاب رضى الله عنه فقال: يا رسول الله إنى أردت أهلى البارحة على ما يريد الرجل أهله فقالت إنها قد نامت فظننتها تعتلّ فواقعتها فنزل فى عمر (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) وهكذا روى عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة (تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ١ ص ٢٢٠، ٢٢١ ط الحلبي).
(٢) وردت (جميع).
(٣) للحديث صورة أخرى «لى مع الله وقت لا يسعنى فيه شىء غير الله عز وجلّ» والمعنى صحيح ولكن سنده غير معروف.
إذا تحاكم إلى المخلوقين فاعلموا أن الله مطلع عليكم، وعلمه محيط بكم، فراقبوا موضع الاستحياء من الحق سبحانه، ولئن كان المخلوقون «١» عالمين بالظواهر فالحق- سبحانه وتعالى- متولى السرائر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
الأهلة- جمع هلال- مواقيت للناس لأشغالهم ومحاسباتهم.
وهى مواقيت لأهل القصة فى تفاوت أحوالهم فللزاهدين مواقيت أورادهم، وأما أقوام مخصوصون فهى لهم مواقيت لحالاتهم، قال قائلهم.
أعد الليالى ليلة بعد ليلة وقد كنت قدما لا أعد اللبالبا
وقال آخر:
ثمان قد مضين بلا تلاق وما فى الصبر فضل عن ثمان
وقال آخر:
شهور ينقضين وما شعرنا بأنصاف لهن ولا سرار «٢»
قوله جل ذكره: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
يعنى ليس البر مراعاة الأمور الظاهرة، بل البر تصفية السرائر وتنقية الضمائر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٠]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)
لتكن نفوسكم عندكم ودائع الحق إن أمر بإمساكها أمسكوها وصونوها، وإن أمر
(١) وردت (المخلوقين) وهى خطأ من الناسخ لأن اسم كان مرفوع بالواو.
(٢) سرار النهر وسراره (بالكسر والفتح) آخر ليلة فيه (الوسيط ص ٤٢٨).
بتسليمها إلى القتل فلا تدّخروها عن أمره، وهذا معنى قوله: «وَلا تَعْتَدُوا» وهو أن تقف حيثما أوقفت، وتفعل ما به أمرت.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩١]
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١)
يعنى عليكم بنصب العداوة مع أعدائى- كما أن عليكم إثبات الولاية والموالاة مع أوليائى- فلا تشفقوا «١» عليهم وإن كان بينكم واصد «٢» الرحم ووشائج القرابة.
«وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ». أولا أخرجوا حبّهم وموالاتهم من قلوبكم، ثم (....) «٣» عن أوطان الإسلام ليكون الصغار جاريا عليهم.
قوله جل ذكره: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.
والإشارة: أنّ المحنة التي ترد على القلوب من طوارق الحجب أشد من المحنة التي ترد على النفوس من بذل الروح، لأن فوات حياة القلب أشد من فوات حياة النّفس، إذ النفوس حياتها بمألوفاتها، ولكن حياة القلب لا تكون إلا بالله.
ويقال الفتنة أشد من القتل: أن «٤» تنأى عن الله أعظم من أن تنأى عن روحك وحياتك.
قوله جل ذكره: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ.
الإشارة منه: لا تشوش وقتك «٥» مع الله إذا كان بوصف الصفات بما تدخله على نفسك
(١) ووردت (فلا تشقوا) والمعنى والسياق يرفضانها رفضا قاطعا وقد صوبناها بما يتلاءم.
(٢) الواصد والآصد العهد. مثل الورث والإرث والوحد والأحد وربما كانت أواصر.
(٣) مشتبهة فى ص وربما كانت: ثم (أخرجوهم).
(٤) وردت (تنقى) والمعنى والسياق يرفضانها رفضا قاطعا وقد صوبناها بما يتلاءم.
(٥) قال الدقاق- شيخ القشيري- فى تعريف الوقت: الوقت ما أنت فيه فإن كنت بالدنيا فوقتك الدنيا، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور فوقتك السرور، وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن.
ويعلّق القشيري على رأى أستاذه قائلا: يريد بهذا أن الوقت ما كان هو الغالب على الإنسان. ويقولون الصوفي ابن وقته يريدون بذلك أنه مشتغل بما هو أولى به فى الحال، قائم بما هو مطالب به فى الحين. وينبغى ألا يفرط العبد فيما يقتضيه حق الشرع.
وإن كانت نوافل من الطاعات، فإن زاحمك مزاحم يشغلك عن الله فاقطع مادة ذلك عن نفسك بكل ما أمكنك لئلا تبقى لك علاقة تصدك «١» عن الله.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٢]
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)
الإشارة منه: إذا انقطعت عنك غاغة خواطرك وأعداء نفسك، مما يخرجك عنه ويزاحمك، فلم حديث النفس ودع مجاهداتها فإنّ من طولب بحفظ الأسرار لا يتفرغ إلى مجاهدات النفوس بفنون المخالفات «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٣]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)
الإشارة من الآية إلى مجاهدات النفوس فإنّ أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك.
أي استوف أحكام الرياضات حتى لا يبقى للآثار البشرية شىء، وتسلم النّفس والقلب لله، فلا يكون معارض ولا منازع منك لا بالتوقي ولا بالتلقى، لا بالتدبير ولا بالاختيار- بحال من الأحوال تجرى عليك صروفه «٣» كما يريد، وتكون «٤» محوا عن الاختيارات، بخلاف ما يرد به الحكم، فاذا استسلمت النفس فلا عدوان إلا على أرباب التقصير، فأمّا من قام بحق الأمر تقصى عن عهدة الإلزام.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٤]
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤).
(١) وردت (تصدق) والمعنى والسياق يرفضانها رفضا قاطعا وقد صوبناها بما يتلاءم:
(٢) يريد القشيري بهذه الفقرة أن تنزل على حكم المرحلة التي وصلت إليها، فإذا اجتاز بك فضل الله مرحلة جهادك مع نفسك إلى ما فوقها فلا تشغلنّ وقتك إلا بما صرت عليه، بمعنى أن تنزل على حكم الوقت.
(٣) وردت (حروفه) والصواب صروفه، وقد جاء فى الرسالة هذا الشاهد:
تجرى عليك صروفه... وهموم سرك مطرقة (الرسالة ص ٦٣)
(٤) وردت (يكون) وهى خطأ من الناسخ. [.....]
الإشارة فيه: إذا تقابل حقان كلاهما لله فسلّم الوقت بحكم الوقت، ودل مع إشارات الوقت، وإياك أن ترجح أحدهما على الآخر بمالك من حظ- وإن قلّ- فتحجب عن شهود الحق، وتعمى بصيرة قلبك. وكلّ ما كان إلى خلاف هواك أقرب، وعن استجلابك وسكونك إليه أبعد- كان ذلك فى نفسه أصوب.
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» : الذين اتقوا إيثار هواهم على ما فيه رضاه، فإذا قاموا لله- فيما يأتون- لا لهم فإن الله تعالى بالنصرة معهم، قال تعالى: «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ»
- قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٥]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
إنفاق الأغنياء من أموالهم، وإنفاق العابدين بنفوسهم لا يدخرونها عن العبادات والوظائف، وإنفاق العارفين بقلوبهم لا يدخرونها عن أحكامه، وإنفاق المحبين بأرواحهم لا يدخرونها عن حبّه.
إنفاق الأغنياء من النّعم وإنفاق الفقراء من الهمم.
إنفاق الأغنياء إخراج المال من الكيس، وإنفاق الفقراء إخراج الروح عن أنفس النفيس، وإنفاق الموحّدين إخراج الخلق من السّر.
قوله تعالى: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» الإشارة فيه إلى إمساك يدك عن البذل فمن أمسك يده وادّخر شيئا لنفسه فقد ألقى بيده إلى التهلكة. ويقال: إلى إيثار هواك على رضاه.
ويقال «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» أي الغفلة عنه بالاختيار.
ويقال توهّم أنك تعيش من دون لطفه وإقباله لحظة.
ويقال الرضا بما أنت فيه من الفترة والحجاب.
ويقال إمساك اللسان عن دوام الاستغاثة فى كل نفس.
قوله تعالى: «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» الإحسان أن ترفق مع كل أحد
إلا معك فإحسانك إلى نفسك فى صورة إساءتك إليها فى ظن الاعتماد، وذلك لارتكابك كل شديدة، ومقاساتك فيه كل عظيمة. والإحسان أيضا ترك جميع حظوظك من غير بقية، والإحسان أيضا تفرغك الى قضاء حق كل أحد علّق عليك حديثه. والإحسان أن تعبده على غير غفلة. والإحسان أن تعبده وأنت بوصف المشاهدة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٦]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيئته، وإراقة الدماء التي تجب فيها (دون) التقصير فى بعض أحوالها.
وفى التفسير أن تحرم بهما من دويرة أهلك «١».
وعلى لسان الإشارة الحج هو القصد فقصد إلى بيت الحق وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص.
وكما أن الذي يحج بنفسه يحرم ويقف ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق، فكذلك من يحج بقلبه فإحرامه بعقد صحيح على قصد صريح، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته، ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى، وإطلاق خواطر المنى، وما فى هذا المعنى. ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع، ثم تلبية الأسرار باستجابة كل جزء منك.
وأفضل الحج الشجّ والعجّ الشّجّ صبّ الدّم والعجّ رفع الصوت بالتلبية، فكذلك سفك دم النفس بسكاكين الخلاف «٢»، ورفع أصوات السّر بدوام الاستغاثة، وحسن الاستجابة ثم الوقوف بساحات القربة باستكمال أوصاف الهيبة. وموقف النفوس عرفات وموقف
(١) قال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن على أنه قال فى هذه الآية (وأتموا الحج والعمرة لله) قال أن تحرم من دويرة أهلك، وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس.
(تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ١ ص ٢٣٠ ط الحلبي).
(٢) الخلاف هنا معناها (المخالفة) أي مخالفة النفس وأهوائها.
163
القلوب الأسامى والصفات لعزّ الذات (عند) «١» المواصلات. ثم طواف القلوب حول (مشاهدة) «٢» العز، والسعى بالأسرار بين صفّىّ كشف الجلال ولطف الجمال.
ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيارات، والمنى والمعارضات.. بكل وجه.
قوله جل ذكره: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
الحصر بأمرين بعدو أو مرض.
والإشارة فيه إن استولى عدو النفس فلم تجد بدا من الإناخة بعقوة الرّخص وتأويلات العلم فعند ذلك تتحلل بموجب العذر والاضطرار إذ لا مزاحمة مع الحكم. «والهدى» الذي يهدى به عند التحلل بالعذر، والخروج عن المعلوم، وتسليمه للفقراء، وانتظار أن يزول الحصر فيستأنف الأمر. وإن مرضت الواردات وسقمت القصود وآل الأمر إلى التكليف فليجتهد ألا ينصرف كما أنه فى الحج الظاهر يجتهد بألا ينصرف لكل مرض أو إن احتاج إلى اللبس والحلق وغير ذلك- بشرط الفدية.
ثم إن عجز، اشترط أن محله حيث حسبه فكذلك يقوم ويقعد فى أوصاف القصد وأحكام الإرادة، فإن رجع- والعياذ بالله- لم يقابل إلا بالردّ والصد، وقيل:
فلا عن قلى كان التقرب بيننا ولكنه دهر يشتّ ويجمع
وقال الآخر:
ولست- وإن أحببت من يسكن الفضا بأوّل راج حاجة لا ينالها
قوله جل ذكره: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
(١) وردت (عن) فى ص، والأسامى والصفات مقصود بها أسماء الله الحسنى وصفاته.
(٢) نرجح أنها فى الأصل (مشاهد) جمع مشهد لتناظر (مشاهد) الحج.
164
يبذل ما أمكنه، ويخرج عن جميع ما يملكه، وعليه آثار الحسرة، واستشعار أحزان الحجبة.
«فمن كان منكم مريضا... » إلخ: الإشارة منه أن يبتهل ويجتهد بالطواف على الأولياء، والخدمة للفقراء، والتقرب بما أمكنه من وجود الاحتيال والدعاء.
قوله جل ذكره: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
فإذا تجلت أقمار القصود عن كشوف التعزز، وانجلت غيابة الحجبة عن شموس الوصلة وأشرق نور الإقبال فى تضاعيف أيام الوقفة، فليستأنف للوصلة وقتا، وليفرش للقربة بساطا، وليجدد للقيام بحق السرور نشاطا، وليقل: حىّ على البهجة! فقد مضت أيام المحنة.
وليكمل الحج والعمرة، وليستدم القيام بأحكام الصحبة والخدمة.
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» بالحجاب لمن لم يره أهلّة الوصلة والاقتراب.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٧]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
كما أن الحج بالنفوس أشهر معلومات لا ينعقد الإحرام به إلا فيها، ولا يجوز فعل الحج فى جميع السّنة إلا فى وقت مخصوص، من فاته ذلك الوقت فاته الحج- فكذلك حج القلوب له أوقات معلومة لا يصح إلا فيها، وهى أيام الشباب فمن لم تكن له إرادة فى حال شبابه فليست له وصلة فى حال مشيبه، وكذلك من فاته وقت قصده وحال إرادته فلا يصلح إلا للعبادة التي آخرها الجنة، فأما الإرادة التي آخرها الوصلة.. فلا.
قوله جل ذكره: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ.
كذلك الإشارة لمن سلك طريق الإرادة ألا يعرّج على شىء فى الطريق، ولا يمزج إرادته بشىء. فمن نازعه أو عارضه أو زاحمه- سلّم الكل للكل، فلا لأجل الدنيا مع أحد يخاصم، ولا لشىء من حظوظ النّفس والجاه مع أحد يزاحم، قال تعالى: «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً».
قوله جل ذكره: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.
تكتفى بعلمه وحكمه عن شهود خلقه وحكم خلقه وعلم خلقه.
قوله جل ذكره: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ.
تقوى العامة مجانبة الزلات، وتقوى الخواص مجانبة الأغيار بالسرائر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٨]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)
الإشارة فيه أن ما تبتغى من فضل الله مما يعنيك على قضاء حقّه، ويكون فيه نصيب للمسلمين أو قوة للدين- فهو محمود. وما تطلبه لاستيفاء حظك أو لما فيه نصيب لنفسك- فهو معلول.
قوله جل ذكره: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ.
الإشارة فيه إذا وقفت حتى قمت بحق طلبه فاذكر فضله معك فلولا أنه أرادك لما أردته، ولولا أنه اختارك لما آثرت رضاه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٩]
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
الإشارة فيه ألا تعلم نفسك بما تمتاز عن أشكالك فى الظاهر لا بلبسة ولا بخرقة ولا بصفة،
بل تكون كواحد من الناس، وإذا خطر ببالك أنك فعلت شيئا، أو بك أو لك أو معك شىء فاستغفر الله، وجدّد إيمانك فإنه شرك خفى خامر قلبك.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٠]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠)
«قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ» إشارة إلى القيام بحق العبودية.
«فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» إشارة إلى القيام بحق المحبة.
قضاء المناسك قيام بالنفس.
«فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» قيام له بالقلب على استدامة الوقت واستغراق العمر.
ويقال كما أنّ الأغيار يفتخرون بآبائهم، ويستبشرون بأسلافهم فليكن افتخاركم بنا واستبشاركم بنا.
ويقال إن كان لآبائكم عليكم حقّ التربية فحقّنا عليكم أوجب، وأفضالنا عليكم أتم.
ويقال إن كان لأسلافكم مآثر ومناقب «١»، فاستحقاقنا لنعوت الجلال فوق ما لآبائكم من حسن الحال.
ويقال إنك لا تملّ ذكر أبيك ولا تنساه على غالب أحوالك، فاستدم ذكرنا، ولا تعترضنّك ملالة أو سآمة «٢» أو نسيان.
ويقال إن طعن فى نسبك طاعن لم ترض فكذلك ما تسمع من أقاويل أهل الضلال والبدع فذبّ عنّا.
ويقال الأب يذكر بالحرمة والحشمة فكذلك اذكرنا بالهيبة مع ذكر لطيف القربة بحسن التربية.
وقال «كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» ولم يقل أمهاتكم لأن الأب يذكر احتراما والأم تذكر شفقة عليها، والله يرحم ولا يرحم.
(١) وردت (مثاقب) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) وردت (مسامة) وهى خطأ فى النسخ.
«أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» لأن الحقّ أحقّ، ولأنك قد تستوحش كثيرا عن أبيك، والحقّ سبحانه منزّه عن أن يخطر ببال من يعرفه أنه بخلاف ما يقتضى الواجب حتى إن كان ذرة.
وقوله «كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ» الأب على ما يستحقه والرب على ما يستحقه.
قوله جل ذكره: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا «١» وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.
خطاب لوقاله مخلوق لك كان شاكرا «٢»، ولو أنه شكا منك كما شكا إليك لساءت الحالة، ولكن بفضله أحلّك محل أن يشكو إليك فقال: من الناس من لا يجنح قلبه إلينا، ويرضى بدوننا عنّا، فلا يبصر غير نفسه وحظّه، ولا يمكن إيمان له بربه وحقّه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠١]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١)
إنما أراد بها حسنة تنتظم بوجودها جميع الحسنات، والحسنة التي بها تحصل جميع الحسنات فى الدنيا- حفظ الإيمان عليهم فى المآل فإنّ من خرج من الدنيا مؤمنا لا يخلد فى النار، وبفوات هذا لا يحصل شىء. والحسنة التي تنتظم بها حسنات الآخرة- المغفرة، فإذا غفر فبعدها ليس إلا كل خير.
ويقال الحسنة فى الدنيا العروف عنها، والحسنة فى الآخرة الصون عن مساكنتها.
والوقاية من النار ونيران الفرقة إذ اللام فى قوله «النار» لام جنس فتحصل الاستعاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة جميعا.
ويقال الحسنة فى الدنيا شهود بالأسرار وفى الآخرة رؤية بالأبصار.
ويقال حسنة الدنيا ألا يغنيك عنك وحسنة الآخرة ألا يردك إليك.
(١) التبس على الناسخ نقل هذه الآية بالآية التي تليها فوضع هنا (حسنة) وهى زائدة.
(٢) نرجح أنها (شاكيا) فى الأصل.
ويقال حسنة الدنيا توفيق الخدمة وحسنة الآخرة تحقيق الوصلة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٢]
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
إن كان خيرا فخير وإن كان غير فغير. «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» للعوام فى الفرصة، وللخواص فى كل نفس.
ويقال ذكر فريقين: منهم من يقول ربنا آتنا فى الدنيا، والثاني يقول فى الدنيا والعقبى، وثالث لم يذكرهم وهم الراضون بقضائه، المستسلمون لأمره، الساكنون عن كل دعاء واقتضاء.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٣]
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
هذه صفة أواخر النسك، وهو الرمي فى أيام مني لما قدموا بأركان الحج خفّف عنهم بأن خيّرهم فى المقام والإفاضة والتعجيل فى التفريق.
والإشارة منه أنّ من خمدت نفسه، وحبى قلبه، واستدام بحقائق الشهود (سرّه) «١» - فإن سقط عنه شىء من فروع الأوراد ففيما هو له مستديم من آداب الحضور عوض عن الذي يفوت.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٤]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤)
أخبر أن قوما أعرض الحق سبحانه وتعالى عن قلوبهم فأعطاهم فى الظاهر بسطة فى اللسان ولكن ربط على قلوبهم أسباب الحرمان فهم فى غطاء جهلهم، ليس وراءهم معنى، ولا على قولهم اعتماد، ولا على إيمانهم اتّكال، ولا بهم ثقة بوجه.
(١) نعلم من مذهب القشيري أن حقائق الشهود متصلة بالسر، وما دام قد ذكر النفس والقلب فقد وجدنا من الضروري للتوضيح ذكر (سره) حيث نرجح أنها سقطت من الناسخ.
والإشارة إلى أهل الظاهر الذين لم تساعدهم أنوار البصيرة فهم مربوطون بأحكام الظاهر لا لهم بهذا الحديث إيمان، ولا بهذه الجملة استبصار، فالواجب صون الأسرار عنهم فإنهم لا يقابلون هذا الحديث إلا بالإنكار «١»، وإن أهل الوداعة «٢» من العوام الذين فى قلوبهم تعظيم لهذه الطريقة، ولهم إيمان على الجملة بهذا الحديث لأقرب إلى هذه الطريقة من كثير ممن عدّ نفسه من الخواص وهو بمعزل عن الإيمان بهذا الأمر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٥]
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥)
الإشارة لمن سعيه مقصور على استجلاب حظوظه، فهو لا يبالى بما ينحلّ من عرى الدين، ويهى من أسباب الإسلام، بعد ما تشتد حبال دنياهم، وتنتظم أسباب مناهم، من حرام جمعوه، وحطام حصّلوه. فإذا خلوا لوساوسهم وقصودهم الردية سعوا بالفساد بأحكام أسباب الدنيا، واستعمالهم من يستعينون بهم فى تمشية أمورهم من القوم الذين نزع الله البصيرة من قلوبهم.
«والله لا يحب الفساد» : ما كان فيه خراب الأمور الدينية ونظام الأحوال الدنيوية فهو الفساد الظاهر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٦]
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦)
هؤلاء أقوام استولى عليهم التكبّر، وزال عنهم خضوع الإنصاف فشمخت آنافهم عن قبول الحق فإذا أمرته بمعروف قال: ألمثلي يقال هذا؟!
(١) هنا نلاحظ أن القشيري يرى عدم البوح باسرار الطريقة وأن الكتمان خير- وهذا موقف هام فى مسألة على جانب عظيم من الخطورة.
(٢) وردت (الاوداعة) ونرجح أنها الوداعة لأنها أقرب إلى السياق.
وأنا كذا وكذا! ثم يكبر عليك (... ) «١» فيقول: وأنت أولى بأن تؤمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فإن من حالك وقصتك كذا وكذا.
أو لو ساعده التوفيق وأدركته الرحمة، وتقلّد المنة بمن هداه إلى رؤية خطئه، ونبهه على سوء «٢» وصفه، لم يطو على نصيحة جنبيه وتبقى فى القلب- إلى سنين- آثارها.
قال تعالى «فحسبه جهنم» يعنى ما هو فيه فى الحال من الوحشة وظلمات النّفس وضيق الاختيار حتى لا يسعى فى شىء غير مراده، فيقع فى كل لحظة غير مرة فى العقوبة والمحنة، ثم إنه منقول من هذا العذاب إلى العذاب الأكبر، قال الله تعالى: «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
أولئك الذين أدركتهم خصائص الرحمة، ونعتتهم سوابق القسمة، فآثروا رضاء الحق على أنفسهم، واستسلموا بالكلية لمولاهم، والله رءوف بالعباد: ولرأفته بهم وصلوا إلى هذه الأحوال، لا بهذه الأحوال استوجبوا رأفته.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨)
كلّف المؤمن بأن يسالم كل أحد إلا نفسه فإنها لا تتحرك إلا بمخالفة سيده فإن من سالم نفسه فتر عن مجاهداته، وذلك سبب انقطاع كل قاصد، وموجب فترة كل مريد.
و «خطوات الشيطان» ما يوسوسه إليك من عجزك عن القيام باستيفاء أحكام المعاملة، وترك نزعات لا عبرة بها، ولا ينبغى أن يلتفت إليها، بل كما قال الله تعالى: «فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» ثم أبصر ما الذي فعل به حين ألقته، وكيف مدّه إليها بعد ما نجّاه.
(١) مشتبهة.
(٢) وردت (سواء) وهى خطأ فى النسخ.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٩]
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)
الزّلة الواحدة بعد كشف البرهان أقبح من كثير منها قبل ذلك، ومن عرف فى الخيانة لا يعتمد عليه فى الأمانة. ومحنة الأكابر «١» إذا حلّت كان فيها استئصالهم بالكلية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٠]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)
استبطأ القوم قيام الساعة فأخبروا عن شدة الأمر إذا قامت الساعة بتفصيل ما ذكر.
وتلك أفعال فى معنى الأحوال، يظهرها الله سبحانه بما يزيل عنهم الإشكال فى علو شأنه سبحانه وتعالى، ونفاذ قدرته فيما يريد. «وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» أي انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير السابق. ولقد استغنت قلوب الموحدين لما فيها من أنوار البصائر عن طلب التأويل لهذه الآية وأمثالها إذ الحق سبحانه منزّه عن كل انتقال وزوال، واختصاص بمكان أو زمان، تقدس عن كل حركة وإتيان «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١١]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١)
فائدة السؤال ليقرر عليهم بالسؤال الحجة، لا ليقرّر للرسول صلّى الله عليه وسلّم بسؤالهم ما أشكل عليهم من واضح المحبة.
«وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» بزوال تلك النعمة. وعند ذلك يعرفون قدرها، ثم يندبونها ولا يصلون إليها قط، قال قائلهم:
ستهجرنى وتتركنى... فتطلبنى فلا تجد
(١) محنة الأكابر المقصود بها هنا زلات الأكابر، وعقوبتها أشد، وقد استدل القشيري على ذلك فى موضع سابق بأن من ترتكب فاحشة من أمهات المسلمين يضاعف لها العذاب ضعفين. [.....]
(٢) إشارة إلى ما فى الآية الكريمة (يأتيهم الله).
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٢]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
مكروا «١» فلم يشعروا، وحملهم اشتداد الظلمة على بصائرهم على الوقيعة فى أوليائه سبحانه، والسخرية منهم، وحين تقشعت غواية الجهل عن قلوبهم (.....) «٢» علموا من الخاسر منهم من الذي كان فى ضلال بعيد.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٣]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)
يعنى الغيبة عن الحق جمعتهم، فلما أتتهم الرسل تباينوا على حسب ما رزقوا من أنوار البصيرة وحرموها. ويقال كانوا على ما سبق لهم من الاختيار القديم، وبمجىء الرسل تهود قوم وتنصّر قوم، ثم فى العاقبة يردّ كل واحد إلى ما سبق له من التقدير، وإن الناس اجتمعوا كلهم فى علمه سبحانه ثم تفرّقوا فى حكمه، فقوم هداهم وقوم أغواهم، وقوم حجهم وقوم
(١) ربما كانت فى الأصل (مكر بهم) فلم يشعروا، فالآية تقول (زيّن للذين ) فهم لم يشعروا بأن تزيين الدنيا لهم مكر من الله والله خير الماكرين.
(٢) زائدة.
جذبهم، وقوم ربطهم بالخذلان وقوم بسطهم بالإحسان، فلا من المقبولين أمر مكتسب، ولا لردّ المردودين سبب، بل هو حكم بتّ وقضاء جزم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٤]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
خلق الله الجنة وحفّها بالمصائب، وخلق النار وحفّها بالشهوات والرغائب، فمن احتشم ركوب الأهوال بقي عن إدراك الآمال. ثم إن الحق سبحانه ابتلى الأولين بفنون من مقاساة الشدائد، وكلّ من ألحق بهم من خلف الأولياء أدخلهم فى سلكهم، وأدرجهم فى غمارهم، فمن ظنّ غير ذلك فسراب ظنّه ماء، وحكم لم يحصل على ما ظنه تأويلا. ولقد مضت سنّة الله سبحانه مع الأولياء أنهم لا ينيخون بعقوة الظفر إلا بعد إشرافهم على عرصات اليأس، فحين طال بهم الترقّب صادفهم اللطف بغتة وتحقق لهم المبتغى فجأة. قال تعالى «أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٥]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
علموا أن العبد غير منفرد بالفاعلية أن يفعل، فإنّ العبد ليس له فعل شىء إلا بإذن مولاه فتوقفوا فى الإنفاق على ما يشير إليه تفصيل الإذن، لأنّ العبوديّة الوقوف حيثما أوقفك الأمر.
ويقال لم ينفقوا على إشارات الهوى. وإنّ ما طالعوه تفاصيل الأمر وإشارات الشرع والواو فى هذه الآية فى قوله: «وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى» تشير إلى نوع من الترتيب فالأولى بمعروفك والداك ثم أقاربك ثم على الترتيب الذي قاله.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٦]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦)
صعبت على النفوس مباشرة القتال، فبيّن أن راحات النفوس مؤجلة لأنها فى حكم التأديب، وبالعكس من هذا راحات القلوب فإنها معجلة إذ هى فى وصف التقريب، فالسادة فى مخالفة النفوس فمن وافقها حاد عن المحبة المثلى، كما أن السعادة فى موافقة القلوب فمن خالفها زاغ عن السنّة العليا.
وبشرى ضمان الحق باليسر أولى أن تقبل من محذرات هواجس النفوس فى حلول العسر وحصول الضر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧)
من المعاصي ما يكون أشد من غيره وأصعب فى المعنى، فسوء الأدب على الباب لا يوجب ما يوجبه على البساط فإذا حصلت الزلة بالنّفس فأثرها بالعقوبة المؤجلة وهى الاحتراق، وإذا زلّ «١» القلب فالعقوبة معجلة وهى بالفراق، وأثر الغفلة على القلوب أعظم من ضرر الزلة
(١) وردت (زال) وهى قطعا خطأ فى النسخ.
على النفوس، فإن النفس عن الحظ تبقى، والقلب عن الحق يبقى قوله جل ذكره: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
الإشارة من هذا أن أهل الغفلة إذا راودوك أرادوا صرفك إلى ما هم عليه من الغفلة، فلا يرضون إلا بأن تفسخ عقد إرادتك بما تعود إليه من سابق حالتك، ومن فسخ مع الله عهده مسخ قلبه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
إن الذين صدقوا فى قصدهم، وأخلصوا فى عهدهم، ولم يرتدوا فى الإرادة على أعقابهم، أولئك الذين عاشوا فى روح الرجاء إلى أن يصلوا إلى كمال البقاء ودار اللقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)
الخمر ما خامر العقول، وكما أن الخمر حرام بعينها فالسكر حرام بقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«حرّمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب»، فمن سكر من شراب الغفلة استحق ما يستحق شارب الخمر من حيث الإشارات، فكما أنّ السكران ممنوع من الصلاة فصاحب السكر بالغفلة محجوب عن المواصلات وأوضح شواهد الوجود، فمن لم يصدّق فليجرّب.
ومعنى القمار موجود فى أكثر معاملات أهل الغفلة إذا سلكوا طريق الحيل والخداع والكذب فى المقال. وبذل الصدق والإنصاف عزيز.
قوله جل ذكره: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.
قيل العفو ما فضل عن حاجتك، وهذا للخواص يخرجون من فاضل أموالهم عن قدر كفاياتهم، فأمّا خواص الخواص فطريقهم الإيثار وهو أن يؤثر به غيره على نفسه وبه فاقة إلى ما يخرج وإن كان صاحبه الذي يؤثر به غيبا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٠]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
إصلاح حالهم بما يكون فيه تأديبهم أتمّ من إصلاح مالهم، ثم الصبر على الاحتمال عنهم مع بذل النصح، و (مفارقة المال من من إرشادهم خير من الترخص بأن يقول إنه لا يتوجه على فرضيهم) «١».
قوله جل ذكره: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
فيعامل كلا على سواكن قلبه من القصود لا على ظواهر كسبه من جميع الفنون.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
(١) فيما بين قوسين غموض ربما نتج عن خطأ فى النقل.
صلة حبل الدين والتمسك بعصمة المسلمين أتم من الرضا بأن تنتهى إلى أحد يسلك إلى الكفر، ولئن كانت رخصة الشريعة حاصلة فى فعله فإشارة الحقيقة مانعة من حيث التبرئة عن اختياره، هذا فى الكتابيات اللاتي يجوز مواصلتهن، فأما أهل الشرك فحرام مواصلتهم قطعا، وأوجه مباينتهم فى هذا الباب حكم جزم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٢]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)
ليس كل ما يكون موجب الاستحياء والنفور مما هو باختيار العبد، فقد يكون من النقائص ما ليس للعبد فيه كسب، وهو ابتداء حكم الحق، فمن ذلك ما كتب الله على بنات آدم من تلك الحالة، ثم أمرن باعتزال المصلّى فى أوان تلك الحالة، فالمصلّى مناج ربّه، فنحيّن عن محل المناجاة حكما من الله لا جرما لهن. وفى هذا إشارة فيقال: إنهن- وإن منعن عن الصلاة التي هى حضور بالبدن فلم يحجبن عن استدامة الذكر بالقلب واللسان، وذلك تعرض بساط القرب، قال صلّى الله عليه وسلّم مخبرا عنه تعالى: «أنا جليس من ذكرنى».
قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.
يقال يحب التوابين من الذنوب، والمتطهرين من العيوب.
ويقال التوابين من الزلة، والمتطهرين من التوهم أن نجاتهم بالتوبة.
ويقال التوّابين من ارتكاب المحظورات، والمتطهرين من المساكنات والملاحظات.
ويقال التوّابين بماء الاستغفار والمتطهرين بصوب ماء الخجل بنعت الانكسار.
ويقال التوّابين من الزلة، والمتطهرين من الغفلة.
ويقال التوّابين من شهود التوبة، والمتطهرين من توهم أن شيئا بالزلة بل الحكم ابتداء من الله تعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٣]
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
لمّا كانت النفوس بوصف الغيبة عن الحقيقة أباح لها السكون إلى أشكالها إذا كان على وصف الإذن، فلمّا كانت القلوب فى محل الحضور حرم عليها المساكنة إلى جميع الأغيار والمخلوقات.
«وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ» من الأعمال الصالحة ما ينفعكم يوم إفلاسكم، لذلك قال:
«وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ» فانظروا لأنفسكم بتقديم ما يسركم وجدانه عند ربكم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٤]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)
نزّهوا ذكر ربكم عن ابتذاله بأى حظ من الحظوظ.
ويقال لا تجعلوا ذكر الله شركا يصطاد به حطام الدنيا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٥]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
ما جرى به اللسان على مقتضى السهو فليس له كثير خطر فى الخير والشر، ولكن ما انطوت عليه الضمائر، واحتوت عليه السرائر، من قصود صحيحة، وعزائم قوية فذلك الذي يؤخذ به إن كان خيرا فجزاء جميل، وإن كان شرا فعناء طويل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٦]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦)
إذا كان حق صحبة الأشكال محفوظا عليك- حتى لو أخللت به- وأخذك بحكمه:
فحقّ الحقّ أحقّ بأن تجب مراعاته. «فَإِنْ فاؤُ» أي رجعوا إلى إحياء ما أماتوا، واستدراك ما ضيّعوا «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فلما تقاصر لسان الزوجة- لكونها أسيرا فى يد الزوج- تولّى الله- سبحانه- الأمر بمراعاة حقها فأمر الزوج بالرجوع إليها أو تسريحها.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٧]
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
إن ملّ حق صحبتها، وأكّد العزم على مفارقتها فإن الله مطلع على حاله وسره، فإن بدا له باد من ندم فلا يلبس بأركان الطلاق فإن الله سبحانه عليم أنه طلّقها.
ولمّا كان الفراق شديدا عزّى المرأة بأن قال إنه «سَمِيعٌ» أي سمعنا موحش تلك القالة، فهذا تعزية لها من الحق سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٨]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
أمر المطلقات بالعدّة احتراما لصحبة الأزواج، يعنى إن انقطعت العلاقة بينكما فأقيموا على شرط الوفاء لما سلف من الصحبة، ولا تقيموا غيره مقامه بهذه السرعة فاصبروا حتى يمضى مقدار من المدة. ألا ترى أن غير المدخول بها لم تؤمر بالعدة حيث لم تقم بينهما صحبة؟
ثم قال جل ذكره: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
يعنى إن انقطع بينكما السبب فلا تقطعوا ما أثبت الله من النّسب.
ثم قال جل ذكره: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ.
يعنى من سبق له الصحبة فهو أحق بالرجعة لما وقع فى النكاح من الثلمة فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً.
يعنى أن يكون القصد بالرجعة استدراك ما حصل من الجفاء لا تطويل العدة عليها بأن يعزم على طلاقها بعد ما أرجعها.
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
يعنى إن كان له عليها حق ما أنفق من المال فلها حق الخدمة لما سلف من الحال.
وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
فى الفضيلة، ولهن مزية فى الضعف وعجز البشرية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٩]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
ندب إلى تفريق الطلاق لئلا تسارع إلى إتمام الفراق، وقيل فى معناه:
إن تبيّنت أنّ عزمك قتلى فذرينى أضنى قليلا قليلا
ثم قال جلّ ذكره: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
إمّا صحبة جميلة أو فرقة جميلة. فأمّا سوء العشرة وإذهاب لذة العيش بالأخلاق الذميمة فغير مرضى فى الطريقة، ولا محمود فى الشريعة.
قوله جل ذكره: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً.
فإن فى الخبر «العائد فى هبته كالعائد فى قيئه» والرجوع فيما خرجت عنه خسّة.
ثم قال جل ذكره: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.
يعنى إن أرادت المرأة أن تتخلص من زوجها فلا جناح عليها فيما تبذل من مال، فإنّ النفس تساوى لصاحبها كل شىء، والرجل إذا فاتته صحبة المرأة فلو اعتاض عنها شيئا فلا أقلّ من ذلك، حتى إذا فاتته راحة الحال يصل إلى يده شىء من المال.
قوله جل ذكره: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
هذه آداب يعلّمكمها الله ويسنّها لكم، فحافظوا على حدوده، وداوموا على معرفة حقوقه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٠]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
الرجل يشقّ عليه أن ينكح زوجته غيره فمنعه عن اختيار الفراق بغاية الفراق بغية المنع «١» لما بيّن أنها لا تحل له إن فارقها إلا بأن تفعل «٢» غاية ما يشق عليه وهو الزواج الثاني ليحذر الطلاق ما أمكنه. ثم قال «فَإِنْ طَلَّقَها» يعنى الزوج «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا» يعنى تتزوج بالزوج الأول.
والإشارة فيه أن استيلاء المحبة على القلب يهوّن مقاساة كلّ شديدة فلو انطوى الزوجان بعد الفرقة على التحسّر على ما فاتهما من الوصلة، وندما على ذلك غاية الندامة فلا جناح عليهما أن يتراجعا، والمرأة فى هذه الحالة كأنها (... ) «٣» من الزوج الأول بمكان الزوج الثاني والزوج كالآتى على نفسه فى احتمال ذلك.
ثم قال جل ذكره: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
يعنى لا يعودان بعد ذلك إلى الفراق ثانيا إذا علما حاجة أحدهما إلى صاحبه، قال قائلهم:
ولقد حلفت لئن لقيتك مرة... ألا أعود إلى فراقك ثانية
(١) وردت (بغاية المنع) والأرجح أنها (بغية المنع) فإن السياق يتطلب ذلك.
(٢) وردت (يفعل) والأصوب أن تعود على المرأة لأنها هى التي ستتزوج ثانية وهذا هو ما يشق على الزوج الأول.
(٣) هنا كلمة رسمها هكذا (الميشور) وربما كانت (المبتور).
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣١]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)
تضمنت الآية الأمر بحسن العشرة، وترك المغايظة مع الزوجة، والمحك على وجه اللجاج فإمّا تخلية سبيل من غير جفاء أو قيام بحق الصحبة على شرط الوفاء.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٢]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
تضمنت الآية نهى الأولياء «١» عن مضارتهن، وترك حمية الجاهلية، والانقياد لحكم الله فى تزويج النساء إن أردن النكاح من دون استشعار الأنفة والحمية.
بل إذا رضيت بكفو يخطبها فحرام عليكم ظلمها. والتذويب عن أوصاف البشرية بقهر النفس أشدّ مجاهدة وأصدق معاملة لله.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٣]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣).
(١) الأولياء هنا من ولاية الرجل على المرأة وليست من الولاية فى باب التصوف.
183
غاية الرحمة التي يضرب بها المثل رحمة الأمهات فأمر الله سبحانه الأمهات بإكمال الرحمة بإرضاع المولود حولين كاملين، وقطع الرضاعة عنه قبل الحولين إشارة إلى أن رحمة الله بالعبد أتمّ من رحمة الأمهات.
ثم قال جل ذكره: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
يعنى الأب عليه رزقهن وكسوتهن- أي المرضعات- بالمعروف. لمّا ينبن عنك وجب حقّهن عليك، فإنّ من لك كله فعليك كله.
ثم قال جل ذكره: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها.
ادخار المستطاع بخل، والوقوف- عند العجز- عذر.
ثم قال جل ذكره: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها.
فى الإرضاع وما يجب عليه.
وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ.
يعنى الوالد «١» بولده يعنى فيما يلزم من النفقة والشفقة. فكما يجب حق المولود على الوالدين يجب حق الوالدين على المولود.
ثم قوله جل ذكره: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
يعنى فطاما قبل الحولين، فلا جناح بعد ما كان القصد الصلاح. اشتملت الآية على تمهيد طريق الصحبة، وتعليم محاسن الأخلاق فى أحكام العسرة وإن من لا يرحم لا يرحم.
وقال صلّى الله عليه وسلّم لمن ذكر أنه لم يقبّل أولاده: «إن الله لا ينزع الرحمة إلا من قلب شقى».
(١) وردت (الولد) والسياق يقتضى أن تكون (الوالد) بعد أن تحدث عن (الوالدة).
184
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٤]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
لمّا كان حق الميت أعظم لأن فراقه لم يكن بالاختيار كانت مدة الوفاء له أطول. وكانت عدة الوفاة فى ابتداء الإسلام سنة، ثم ردت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام لتتحق براءة الرحم عن ماء الزوج، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج بزوج آخر. والميت لا يستديم وفاءه إلى آخر العمر أحد كما قيل:
وكما تبلى وجوه فى الثرى فكذا يبلى عليهن الحزن
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٥]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
أبيح من ذلك ما كان فيه استجلاب للمودة، وتأسيس لحال الوصلة. وحرّم منه ما فيه ارتكاب المحظورات من إلمام بذنب أو عدة بجرم «١».
قوله جل ذكره: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
(١) وردت بالحاء والصحيح أن تكون بالجيم.
أي تنقضى عدة الأول فإن حرمة الماضي لا تضيع.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٦]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)
إن ابتلاء تمّ بوصيلة «١» أشكالكم ثم بدا لكم فلا جناح «٢» عليكم فى اختيار الفرقة- إذا أردتم- فإن الذي لا يجوز اختيار فرقته- واحد فأمّا صحبة الخلق بعضهم مع بعض فليس بواجب، بل غاية وصفه أنه جائز.
ولمّا وقع عليهن اسمكم فنصف المسمّى يجب لهن، فإن الفراق- كيفما كان- فهو شديد، فجعل ما يستحق من العوض كالخلف لها عند تجرع كأس الفرقة.
فإن لم يكن مسمّى فلا يخلو العقد من متعة فإن تجرع الفرقة- مجردا عن الراحة- بلاء عظيم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٧]
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
ثم ذكر أن العفو أتم وأحسن، إمّا من جهة المرأة فى النصف المستحق لها، أو من قبل الزوج فى النصف العائد إليه.
(١) وردت (بوصيلة) وربما كانت الياء زائدة وأنها (بوصلة) أشكالكم.
(٢) وردت (فلاح جرح) وهى خطأ من الناسخ، وقد صححناها (فلا جناح) طبقا للآية، ويحتمل أيضا أنها فى الأصل (فلا جرم).
ثم قال جلّ ذكره: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
يقال من أخذ بالفضل واقتصر على الفرض فعن قريب يخل «١» بالفرض.
ويقال نسيان الفضل يقرب صاحبه من البخل، وإن من سنّة الكرام إذا خفيت عليهم مواضع الكرم أن يشحذوا بصائر الجود لتطالع لطائف الكرم فتتوفر دواعيهم فى اقتناء أسباب الفضل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٨]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨)
المحافظة على الصلاة أن يدخلها بالهيبة، ويخرج بالتعظيم، ويستديم بدوام الشهود بنعت الأدب، والصلاة الوسطى (أيهم ذكرها على البيت) «٢» لتراعى الجميع اعتقادا منك لكل واحدة أنها هى لئلا يقع منك تقصير فى شىء منها.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٩]
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
أي لا تخلّوا بمناجاتي لأوقاتها على الوصف الذي أمكنكم فان ما تحسونه «٣» من أعدائكم أنا سلّطتهم عليكم، فاذا خلوتم بي بقلوبكم قصرت أيديهم عنكم، وجعلت لكم الظفر عليهم، ثم إذا زال عنكم الخوف وأمنتم فعودوا إلى استقراركم باستفراغ أوقاتكم فى الاعتكاف بحضرتي سرا وجهرا.
(١) يحتمل انها (بخل) و (يخلّ)، فإذا عرفنا أن الصوفية عموما يتشددون في التعبد ويتفوقون فيه على الكافة أمكن القول أن المعنى ممكن أن ينصرف إلى بخل بمعنى أن القشيري يحذر من أن الاكتفاء بالفرض قد يؤدى إلى البخل به، وهذا بدوره يؤدى إلى أن بخل بشأنه وقد وردت بخل وبخل فى السياق فيما بعد- والله أعلم. [.....]
(٢) وردت هكذا وقد نقلناها من النص دون تعديل وربما كانت (أبهم ذكرها عن البت).
(٣) يحتمل أن تكون (تخشونه) من أعدائكم وكلاهما مقبول، وإن كنا نؤثر (تخشونه) لتناسب «فَإِنْ خِفْتُمْ» فى الآية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٠]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)
كانت عدّة الوفاة فى ابتداء الإسلام سنة مستديمة كقول العرب وفعلهم ذلك حيث يقول قائلهم:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكم... ومن لبّاك حولا كاملا فقد اعتذر
ثم نسخ ذلك إلى أربعة أشهر وعشرة أيام إذ لا بد من انتهاء مدة الحداد ولقد قال قائلهم:
قال: لو متّ لم أعش... قلت: نافقت فاسكت
أي حى رأيته... مات وجدا بميّت؟! «١»
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤١ الى ٢٤٢]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
الإشارة ألا تجمعوا عليهن الفراق والحرمان فيتضاعف عليهن البلاء.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الدلائل، فتتأدبوا بما أشير عليكم، وتفلحوا بما تعقلون من إشارات حكمى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣).
(١) فى الشعر أخطاء كثيرة وقع فيها الناسخ فحاولنا إصلاحها بقدر الممكن ليكون مفهوما.
لمّا استبعدوا قدرة الله فى الإعادة أراهم فى أنفسهم عيانا، ثم لم ينفع إظهار ذلك لمن لم يشحذ بصيرته فى التوحيد. ومن قويت بصيرته لم يضره عدم تلك المشاهدات فإنهم تحققوا بما أخبروا، لما آمنوا به بالغيب.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٤]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)
يعنى إن مسّكم ألم فتصاعد «١» منكم أنين فاعلموا أن الله سميع لأنينكم، عليم بأحوالكم، بصير بأموركم. والآية توجب تسهيل ما يقاسونه من الألم، وقالوا:
إذا ما تمنى الناس روحا وراحة... تمنيت أن أشكو إليك فتسمع
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٥]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
سمّى القرض قرضا لأنه يقطع «٢» من ماله شيئا ليعطيه للمقترض، والمتصدّق لما يقطع الصدقة من ماله سميت صدقته قرضا، فالقرض القطع، ولكن هذه التسمية لحفظ قلوب الأحباب حيث خاطبك فى باب الصدقة باسم القرض ولفظه.
ويقال دلّت الآية على عظم رتبة الغنيّ حيث سأل منه القرض، ولكن رتبة الفقير فى هذا أعظم لأنه سأل لأجله القرض، وقد يسأل القرض من «٣» كل أحد ولكن لا يسأل لأجل كل أحد. وفى الخبر «مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودرعه مرهونة عند أبى شحمة اليهودي على شعير أخذه لقوت عياله «٤» أبصر ممّن اقترض ولأجل من اقترض! ويقال القرض الحسن ما لا تتطلع عليه لجزاء ولا تطلب بسببه العوض.
(١) وردت (فقصاعد) وواضح أنها خطأ فى النسخ.
(٢) أخطأ الناسخ فجاءت (يقع) وقد اخترنا (يقطع) لتناسب القرض... القطع كما سيذكر بعد.
(٣) وردت (عن) والصحيح والملائم للسياق أن يقال (من).
(٤) للحديث بقية (... ولم يترك دينارا ولا درهما، ولم يقسم له ميراث ولم يوجد له فى بيت أثاث) البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة (توفي ودرعه مرهونة عند يهودى بثلاثين)، وعن البيهقي بثلاثين صاعا من الشعير، والترمذي والنسائي والبيهقي عن ابن عباس بعشرين صاعا من طعام أخذه لأهله. وسنده حسن، ولم يترك ولا درهما، مسلم عن عائشة.
189
ويقال القرض الحسن ألا يعطى على الغفلة، وإنما يعطى عن شهود.
ويقال القرض الحسن من العلماء «١» إذا كان عند ظهر الغنى، ومن الأكابر إذا كان بشرط الإيثار يعطى ما لا بد منه.
ويقال القرض الحسن من العلماء عن مائتين خمسة «٢»، وعلى لسان القوم بذل الكل، وزيادة الروح على ما يبذل.
قوله جل ذكره: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
يقبض الصدقة من الأغنياء قبض قبوله، ويبسط عليهم بسط خلفه.
ويقال يقبض الرزق أي يضيق، يبسط الرزق أي يوسّع يقبض على الفقراء ليمتحنهم بالصبر، ويبسط على الأغنياء ليطالبهم بالشكر.
ويقال يقبض تسلية للفقراء ليطالبهم حتى لا يروا من الأغنياء، ويبسط لئلا يتقلدوا المنّة من الأغنياء.
ويقال قال للأغنياء: إذا أنا قبضت الرزق على الفقراء فلا تذروهم، وإذا أنا بسطت عليكم فلا تروا ذلك لفضيلة لكم.
ويقال قبض القلوب بإعراضه وبسطها بإقباله.
ويقال القبض لما غلب القلوب من الخوف، والبسط لما يغلب عليها من الرجاء.
ويقال القبض لقهره والبسط لبرّه.
ويقال القبض لسرّه والبسط لكشفه.
ويقال القبض للمريدين والبسط للمرادين.
ويقال القبض للمتسابقين «٣» والبسط للعارفين.
ويقال يقبضك عنك ثم يبسطك به.
(١) يقصد القشيري بالعلماء. على لسان الشريعة، وبالأكابر- على لسان الحقيقة.
(٢) يشير بذلك إلى مقدار زكاة المال وهى ربع العشر.
(٣) ربما كانت «للسابقين» إشارة إلى قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ».
190
ويقال القبض حقه، والبسط حظك.
ويقال القبض لمن تولّى عن الحق، والبسط لمن تجلّى له الحق.
ويقال يقبض إذا أشهدك فعلك، ويبسط إذا أشهدك فضله.
ويقال يقبض بذكر العذاب ويبسط بذكر الإيجاب.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦)
استقبلوا الأمر بالاختيار، واقترحوا على نبيّهم بسؤال الإذن لهم فى القتال، فلمّا أجيبوا إلى ما ضمنوه من أنفسهم ركنوا إلى التكاسل، وعرّجوا في أوطان التجادل والتغافل. ويقال إنهم أظهروا التصلب والجد فى القتال ذبّا عن أموالهم ومنازلهم حيث:
قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
فلذلك لم يتم قصدهم لأنه لم يخلص- لحقّ الله- عزمهم، ولو أنهم قالوا وما لنا ألا نقاتل فى سبيل الله لأنه قد أمرنا، وأوجب علينا، فإنه سيدنا ومولانا، ويجب علينا أمره- لعلّهم وفّقوا لإتمام ما قصدوه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٧]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
نسوا حق الاختيار فنظروا إلى الحال بعين الظاهر فاستبعدوا أن يكون طالوت ملكا لأنه «١» كان فقيرا لا مال له، فبيّن لهم أن الفضيلة باختيار الحق، وأنه وإن عدم المال فقد زاده الله علما ففضلكم بعلمه وجسمه، وقيل أراد أنه محمود خصال النفس ولم يرد عظيم البنية فإن فى المثل: «فلان اسم بلا جسم» أي ذكر بلا معنى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٨]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨)
إن الله سبحانه إذا أظهر نورا أمدّه بتأييد من قبله، فلما ملك طالوت عليهم أزال الإشكال عن صفته بما أظهر من آياته الدالة على صدق قول نبيّهم فى اختياره، فردّ عليهم التابوت الذي فيه السكينة، فاتضحت لهم آية ملكه، وأن نبيهم عليه السّلام صدقهم فيما أخبرهم.
ويقال إن الله تعالى جعل سكينة بنى إسرائيل فى التابوت الذي رضوا عن الألواح، وعصا موسى عليه السّلام، وآثار صاحب نبوتهم. وجعل سكينة هذه الأمة «٢» فى قلوبهم، فقال: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» ثم إن التابوت كان تتداوله أيدى الأعداء وغيرهم فمرّة كان يدفن ومرة كان يغلب عليه فيحمل، ومرة يرد ومرة ومرة...
وأما قلوب المؤمنين فحال بين أربابها وبينها، ولم يستودعها ملكا ولا نبيا، ولا سماء ولا هواء، ولا مكانا ولا شخصا، وقال صلّى الله عليه وسلّم:
(١) وردت (كأنه) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) يقصد أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
«قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» يعنى فى قبضة الحق سبحانه، وتحت تغليبه وتصريفه، والمراد منه «القدرة»، وشتّان بين أمة سكينتهم فيما للأعداء عليه تسلّط وأمة سكينتهم فيما ليس لمخلوق عليه سلطان.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٩]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)
الإشارة من هذه الآية أن الله سبحانه ابتلى الخلق بصحبة الخلق وبالدنيا وبالنّفس، ومن كانت صحبته مع هذه الأشياء على حدّ الاضطرار بمقدار القوام، وما لا بد منه نجا وسلم «١»، ومن جاوز حد الاضطرار وانبسط فى صحبته مع شىء من ذلك من الدنيا والنفس والخلق بموجب الشهادة «٢» والاختيار- فليس من الله فى شىء إن كان ارتكاب محظور، وليس من هذه الطريقة فى شىء إن كان على جهة الفضيلة وماله منه بد.
ثم قال جل ذكره: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
كذلك الخواص فى كل وقت يقل عددهم ولكن يجل قدرهم.
قوله جل ذكره: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ.
فنظروا إلى الحال بعين الظاهر فداخلهم شىء من رعب البشرية، فربط الله على قلوبهم بما ذكرهم من نصرة الحق سبحانه لأوليائه إذا شاء.
(١) هذه درجة فى الاعتدال يتسم بها مذهب القشيري، يوفق بها بين الشريعة والحقيقة فى النظر إلى الدنيا والنفس والناس فى عرف أرباب القلوب.
(٢) أي أن يشهد الدنيا والنفس والخلق في شىء من الأشياء والواجب أن يشهد الله فى كل شىء، غير أننا لا نستبعد أنها ربما كانت فى الأصل (الشهوة) أي أنه ليس من الله فى شىء من ينظر إلى هذه الأمور بشهوة واختيار. [.....]
قوله جل ذكره: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
لا بهم ولكن بإذن الله، بمشيئته وعونه ونصرته، والله مع الصابرين بالنصرة والتأييد والقوة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٠]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠)
كان أهم أمورهم الصبر والوقوف للعدو، ثم بعده النصرة عليهم، فإن الصبر حق الحق، والنصرة نصيبهم، فقدّموا تحقيق حقه- سبحانه- وتوفيقه لهم، ثم وجود حظّهم من النصرة، ثم أشاروا إلى أنهم يطلبون النصرة عليهم- لا للانتقام منهم لأجل ما فاتهم من نصيبهم- ولكن لكونهم كافرين، أعداء الله.
فقاموا بكل وجه لله بالله فلذلك نصروا ووجدوا الظفر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥١]
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١)
هيّب الله الأعداء بطالوت لما زاده من البسطة فى الجسم ولكن عند القتال جعل الظفر على يدى داود. وكان كما فى القصة ربع القامة غير عظيم الجثة، مختصر الشخص، ولم يكن معه من السلاح إلا مقلاع، ولكن الظفر كان له لأن نصرة الله سبحانه كانت معه.
قوله جل ذكره: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ.
فلم يبق منهم أثر ولا عين، وقتل داود جالوت. وداود بالإضافة إلى جالوت فى الضخامة والجسامة كان بحيث لا تتوهم غلبته إياه ولكن كما قال قائلهم.
استقبلني وسيفه مسلول وقال لى واحدنا معذول «١»
قوله جل ذكره: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ.
لو تظاهر الخلق وتوافقوا بأجمعهم لهلك المستضعفون لغلبة الأقوياء ولكن شغل بعضهم ببعض ليدفع بتشاغلهم شرّهم عن قوم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٢]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
لم يكن فى علمك ولا فى وسع احتيالك الوقوف على هذه الغائبات من الكائنات التي سلفت، وإنما وقفت عليها بتعريف من قبل الله سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٣]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣)
جمعتهم الرسالة ولكن تباينوا فى خصائص التفضيل، لكل واحد منهم أنوار، ولأنوارهم مطارح، فمنهم من هو أعلى نورا، وأتم من الرفعة وفورا. فلم تكن فضائلهم استحقاقهم على أفعالهم وأحوالهم، بل حكم بالحسنى أدركهم، وعاقبة بالجميل تداركتهم.
قوله جل ذكره: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا، وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ.
(١) ربما كانت (مخذول).
ولكنهم مصرّفون بالمشيئة الأزلية، ومسلوبون من الاختيار الذي عليه المدار وبه الاعتبار. والعبودية شدّ نطاق الخدمة وشهود سابق القسمة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
يعنى اغتنموا مساعدة الإمكان فى تقديم الإحسان قبل فتور الجلد وانقضاء الأمل.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٥]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
«الله» اسم تفرّد به الحق- سبحانه فلا سمىّ له فيه. قال الله تعالى: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» أي هل تعرف أحدا غيره تسمّى «الله» ؟
من اعتبر فى هذا الاسم الاشتقاق فهو كالمتعارض، فهذا اسم يدل على استحقاق صفات الجلال لا على اشتقاق الألفاظ، فلا يعارض ما لا يعارض فيه من الأقوال.
قوله «لا إله إلا هو» : إخبار عن نفى النظير والشبيه، بما استوجب من التقديس والتنزيه. ومن تحقق بهذه القالة لا يرى ذرّة من الإثبات بغيره أو من غيره فلا يرفع إلى غيره حاجته، ولا يشهد من غيره ذرة، فيصدق إليه انقطاعه، ويديم لوجوده انفراده، فلا يسمع إلا من الله وبالله، ولا يشهد إلا بالله، ولا يقبل إلا على الله، ولا يشتغل إلا بالله، فهو محو عما سوى الله، فما له شكوى ولا دعوى، ولا يتحرك منه لغيره عرق، فاذا استوفى الحق عبدا لم يبق للحظوظ- البتة- مساغ.
ثم إن هذه القالة تقتضى التحقق بها، والفناء عن الموسومات بجملتها، والتحقق بأنه لا سبيل لمخلوق إلى وجود الحق- سبحانه، فلا وصل ولا فصل ولا قرب ولا بعد، فإن ذلك أجمع آفات لا تليق بالقدم.
وقوله «الحي القيوم» : المتولى لأمور عباده، القائم بكل حركة، و (المحوى) «١»، لكل عين وأثر.
(١) وردت هكذا ويحتمل أن تكون فى الأصل إما (المحيي) لتتلاءم مع (الحي) أو أن تكون (المجرى) أي القائم أو (القيوم) على ملكه:
196
«لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ» لأنه أحدى لا ترهقه غفلة، وصمد لا تمسه علة، وعزيز لا تقاربه قلة، وجبار لا تميزه عزلة، وفرد لا تضمه جثة، ووتر لا تحده جهة، وقديم لا تلحقه آفة، وعظيم لا تدركه مسافة.
تقدّس من جماله جلاله، وجلاله جماله، وسناؤه بهاؤه، وبهاؤه سناؤه، وأزله أبده، وأبده سرمده، وسرمده قدمه، وقدمه وجوده قوله جل ذكره: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
ملكا وإبداعا، وخلقا واختراعا.
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
من ذا الذي يتنفس بنفس (... ) «١» إلا بإجرائه، أو يتوسل إليه من دون إذنه وإبدائه. ومن ظنّ أنه يتوسل إليه باستحقاق أو عمل، أو تذلل أو أمل، أو قربة أو نسب، أو علة أو سبب- فالظنّ وطنه والجهل مألفه والغلط غايته والبعد قصاراه.
قوله جل ذكره: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ.
لأنه لا يخرج عن علمه معلوم، ولا يلتبس عليه موجود ولا معدوم.
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ.
يعنى من معلوماته، أي تقاصرت العلوم عن الإحاطة بمعلوماته إلا باذنه.
فأى طمع لها فى الإحاطة بذاته وحقه؟ وأنّى تجوز الإحاطة عليه وهو لا يقطعه فى عزّه أمد، ولا يدركه حدّ؟! قوله جل ذكره: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
خطاب لهم على قدر فهمهم. وإلا فأى خطر للأكوان عند صفاته؟
جلّ قدره عن التعزز بعرش أو كرسى، والتجمل بجن أو إنسى.
(١) مشتبهة فى (ص) ويحتمل أن تكون مشطوبة لزيادتها فهناك شبه علامة على ذلك.
197
قوله جل ذكره: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
كيف تتعب المخلوقات من خلق الذرة والكون بجملته- له سواء فلا من القليل له نيسّر، ولا من الكثير عليه تعسّر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٦]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)
فإن الحجج لائحة، والبراهين ظاهرة واضحة.
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.
وامتاز الليل بظلامه عن النهار بضيائه، والحقوق الأزلية معلومة، والحدود الأولية معلولة فهذا بنعت القدم وهذا بوصف العدم.
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وطاغوت كلّ واحد ما يشغله عن ربه وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ والإيمان حياة القلب بالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى الاستمساك بالعروة الوثقى الوقوف عند الأمر والنهى، وهو سلوك طريق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله.
لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
فمن تحقق بها سرا، وتعلّق بها جهرا فاز فى الدارين وسعد فى الكونين.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٧]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)
الولي بمعنى المتولى لأمورهم، والمتفرد بإصلاح شئونهم، ويصح أن يكون الولي على وزن فعيل فى معنى المفعول فالمؤمنون يقولون «١» طاعته. وكلاهما حق: فالأول جمع والثاني فرق،
(١) أخطا الناسخ فكتبها (يقولون) بالقاف ونرجح أنها (يتولون) بالتاء.
وكلّ جمع لا يكون مقيدا بفرق وكلّ فرق لا يكون مؤيدا بجمع فذلك خطأ وصاحبه مبطل «١» والآية تحمل عليهما جميعا.
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعنى بحكمه الأزلى صانهم عن الظلمات التي هى الضلال والبدع، لأنهم «٢» ما كانوا فى الظلمات فط فى سابق علمه.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ما استهواهم من دواعى الكفر يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
باستيلاء الشبه على قلوبهم، فيجحدون الربوبية، أولئك الذين بقوا عن الحق بقاء أبديا.
ويقال يخرجهم من ظلمات تدبيرهم إلى سمة شهود تقديره.
ويقال يخرجهم من ظلمات ظنونهم أنهم يتوسلون أو يصلون إليه بشىء من سكناتهم وحركاتهم.
ويقال يخرجهم من ظلماتهم بأن يرفع عنهم ظلّ أنفسهم ويدخلهم في ظل عنايته.
ويقال يخلصهم عن حسبان النجاة بهم.
ويقال يحول بينهم وبين الاعتماد على أعمالهم والاستناد إلى أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)
(١) يقصد القشيري من ذلك أن الفرق ضرورى وهام إذ يتسنى للعبد خلاله أن يؤدى ما عليه من فرائض، وهذا ركن أساسى فى مذهب القشيري وغيره من الشيوخ الثقات.
(٢) سقطت (ما) والمعنى يتطلبها.
عجّل الحق سبحانه لاعدائه عقوبة الفرقة قبل أن يعاقبهم بالحرقة، وهذه العقوبة أشد أثرا فى التحقيق- لو كانت لهم عين البصيرة. وإن الحق سبحانه أخبر أن إبراهيم عليه السّلام انتقل مع العدو اللعين من الحجة الصحيحة إلى أخرى، أوضح منها- لا لخلل فى الحجة- ولكن لقصور فى فهم الكافر، ومحكّ من سدّت بصائره عن التحقيق تضييع الوقت بلا فائدة تجدى، لا بمقدار ما يكون من الحاجة لأمر لا بدّ منه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٩]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)
لم يكن ذلك سؤال جحد، ولا قضية جهل، ولا دلالة شك فى القدرة، فإن هذا الخبر عن عزير النبي عليه السّلام، والأنبياء عليهم السّلام لا يجوز عليهم الشّكّ والجهل، ولكنه كان سؤال تعجّب، وأراد بهذه المقالة زيادة اليقين، فأراه الله ذلك فى نفسه، بأن أماته
ثم أحياه ثم بعث حماره وهو ينظر إليه، فازداد يقينا على يقين. وسؤال اليقين من الله، والحيلة فى ردّ الخواطر المشكلة، ديدن المتعرفين، ولذلك (.....) «١» الله سبحانه عزيرا فى هذه المقالة حتى قدّر عليه ما طلب من زيادة اليقين فيه. ثم قال «واعلم أن الله على كل شىء قدير» من الإحياء والإماتة أي ازددت معرفة بذلك، وأرانى من عظيم الآيات ما ازداد به يقينا فإنّ طعامه وشرابه لم يتغيرا فى طول تلك المدة، وحماره مات بلا عظام.
والطعام والشراب بالتغيير أولى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
قيل كان فى طلب فى زيادة اليقين، فأراد أن يقرن حق اليقين بما كان له حاصلا من عين اليقين «٢».
وقيل استجلب خطابه بهذه المقالة إلى قوله سبحانه: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى» كنت أومن ولكنى اشتقت إلى قولك لى أو لم تؤمن، فإن بقولك لى «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ» تطمينا لقلبى.
والمحبّ أبدا يجتهد فى أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه.
(١) مشتبهة.
(٢) من أقوال القشيري التي تتناثر فى كتبه نجد أنه ينظر للمعرفة على أنها ثلاث درجات.
١- عقلية ونورها البرهان أو علم اليقين.
٢- قلبية ونورها البيان أو عين اليقين:
٣- كشفية ونورها العرفان أو حق اليقين، ويقول: (علم اليقين كالنجوم يطلع عليها بدر عين اليقين، ولكن كل الأنوار تتبدد أمام شمس حق اليقين).
اللطائف- التحبير فى التذكير ص ٧٠- الرسالة ص ٤٣، ٤٤ والواقع أن القشيري التزم بهذا الترتيب التزاما دقيقا ولم يتخل عنه فى كل ما كتب.
201
وقيل إنه طلب رؤية الحق سبحانه ولكن بالرمز والإشارة فمنع منها بالإشارة بقوله «وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». وإن موسى- عليه السّلام- لما سأل الرؤية جهرا وقال:
«رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» فردّ بالجهر صريحا وقيل له «لن ترانى».
وقيل إنما طلب حياة قلبه فأشير إليه بأن ذلك بذبح هذه الطيور، وفى الطيور الأربعة طاووس، والإشارة إلى ذبحه تعنى زينة الدنيا، وزهرتها، والغراب لحرصه، والديك لمشيته، والبط لطلبه لرزقه.
ولما قال إبراهيم عليه السّلام: أرنى كيف تحيى الموتى؟ قيل له: وأرنى كيف تذبح الحي؟
يعنى إسماعيل، مطالبة بمطالبة. فلمّا وفّى بما طولب به وفّى الحق سبحانه بحكم ما طلب.
وقيل كان تحت ميعاد من الحق- سبحانه- أن يتخذه خليلا، وأمارة ذلك إحياء الموتى على يده، فجرى ما جرى.
ووصل بين «١» قصة الخليل صلّى الله عليه وسلّم فيما أراه وأظهره على يده من إحياء الموتى وبين عزير إذ أراه فى نفسه لأن الخليل يرجح على عزير فى السؤال وفى الحال، فإن إبراهيم- عليه السّلام- لم يردّ عليه فى شىء ولكنه تلطّف فى السؤال، وعزير كلمه كلام من يشبه قوله قول المستبعد، فأراد الحق أن يظهر له أقوى معجزة وأتمّ دلالة حيث أظهر إحياء الموتى على يده حين التبس على نمرود ما قال إبراهيم- عليه السّلام- ربى الذي يحيى ويميت، فقال «أنا أحيى وأميت» أراد إبراهيم أن يريه الله سبحانه إحياء الموتى ليعلم أنه ليس هو الذي ادّعى.
وفى هاتين الآيتين رخصة لمن طلب زيادة اليقين من الله سبحانه وتعالى فى حال النظر «٢».
ويقال إن إبراهيم أراد إحياء القلب بنور الوصلة بحكم التمام، فقيل له: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ» يعنى أما تذكر حال طلبك إيانا حين كنت تقول لكل شىء رأيته «هذا ربى» فلم تدر كيف بلّغناك إلى هذه الغاية، فكذلك يوصلك إلى ما سمعت إليه همّتك.
(١) جميل من القشيري أن يوضح التماسك والالتئام فى السياق القرآنى بين قصة وقصة.
(٢) خصوصا فى مرحلة البداية من أجل تصحيح الإيمان.
202
والإشارة من هذا أن حياة القلب لا تكون إلا بذبح هذه الأشياء يعنى النفس فمن لم يذبح نفسه بالمجاهدات لم يحى قلبه بالله.
وفيه إشارة أيضا وهو أنه قال قطّع بيدك هذه الطيور، وفرّق أجزاءها، ثم ادعهنّ يأتينك سعيا، فما كان مذبوحا بيد صاحب الخلة، مقطعا مفرّقا بيده- فإذا ناداه استجاب له كل جزء مفرّق.. كذلك الذي فرّقه الحق وشتّته فإذا ناداه استجاب:
ولو أنّ فوقى تربة ودعوتني لأجبت صوتك، والعظام رفات
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦١]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)
فالخلف لهم الجنة، والذين ينفقون أرواحهم فى سبيل الله فالخلف عنهم الحقّ سبحانه، وشتان بين خلف من أنفق ماله فوجد مثوبته، ومن أنفق حاله فوجد قربته فإنفاق المال فى سبيله بالصدقة، وإنفاق الأحوال فى سبيله بملازمة الصدق، وبنفي كل حظ ونصيب، فترضى لجريان حكمه عليك من غير تعبيس القلب، قال قائلهم:
أريد وصاله ويريد هجرى فأترك ما أريد لما يريد
والإنفاق على ضربين: إنفاق العابدين وإنفاق الواجدين. أمّا العابدون فاذا أنفقوا حبّة ضاعف لهم سبعين إلى ما ليس فيه حساب، وأما الواجدون فكما قيل:
فلا حسن نأتى به يقبلونه ولا إن أسأنا كان عندهم محو
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٢]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢)
المنّ شهود ما تفعله، والأذى تذكيرك- لمن أحسنت إليه- إحسانك.
ويقال ينفقون ما ينفقون ثم لا يشهدون البتة أفعالهم ولا أعمالهم.
ويقال كيف يمنون بشىء تستعذرونه وتستحقونه.
ويقال لا يمنون بفعلهم بل يشهدون المنة لله بتوفيق ذلك عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٣]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)
يعنى قول- للفقير المجرد- يرد به من تعرض له بإظهار العذر خير وأتم من صدقة المعجب بفعله، وما يتبع من إلزام المنة فيه.
ويقال إقرار منك مع الله بعجزك وجرمك، وغفران الله لك على تلك القالة- خير من صدقة بالمنّ مشوبة، وبالأذى مصحوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)
إنما يحمل جميل المنة من الحق سبحانه، فأمّا من الخلق فليس لأحد على غيره منّة فإنّ تحمل المنن من المخلوقين أعظم محنة، وشهود المنة من الله أعظم نعمة، قال قائلهم:
ليس إجلالك الكبار بذلّ إنما الذّلّ أن تجلّ الصّغارا
ويقال أفقر الخلق من ظنّ نفسه موسرا فيبين له إفلاسه، كذلك أقل الخلق قدرا من ظن أنه على شىء فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسبه.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٥ الى ٢٦٦]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
هذه آيات كثيرة ذكرها الله تعالى على جهة ضرب المثل للمخلص والمنافق: لمن أنفق فى سبيل الله، ولمن أنفق ماله فى الباطل فهؤلاء يحصل لهم الشرف والخلف، وهؤلاء لا يحصل لهم فى الحال إلا الردّ، وفى المآل «١» إلا التلف. وهؤلاء ظلّ سعيهم مشكورا، وهؤلاء يدعون ثبورا ويصلون سعيرا هؤلاء تزكو أعمالهم وتنمو أموالهم وتعلو عند الله أحوالهم وتكون الوصلة مآلهم، وهؤلاء حبطت أعمالهم وخسرت أحوالهم وختم بالسوء آمالهم ويضاعف عليهم وبالهم.
ويقال مثل هؤلاء كالذى أنبت زرعا فزكا أصله ونما «٢» فصله، وعلا فرعه وكثر نفعه. ومثل هؤلاء كالذى خسرت صفقته وسرقت بضاعته وضاعت- على كبره «٣» -
(١) وردت (المال) والصحيح أنها (المآل) على عادة القشيري فى المقابلة بين ما يحدث فى الدنيا وفى الآخرة بين الحال والمآل.
(٢) وردت (نماء) والصحيح أنها فعل (نما) لينسجم التركيب الداخلى للأسلوب.
(٣) إشارة إلى ما فى الآية: (وأصابه الكبر).
حيلته وتواترت من كل وجه وفى كل وقت محنته.... هل يستويان مثلا؟ وهل يتقاربان شبها؟
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
لينظر كلّ واحد ما الذي ينفقه لأجل نفسه، وما الذي يخرجه بأمر ربه. والذي يخرج عليك من ديوانك: فما كان لحظّك فنفائس ملكك، وما كان لربك فخصائص مالك الذي لله (فاللّقمة لقمته) «١»، والذي لأجلك فأكثرها قيمة وأكملها نعمة.
ثم أبصر كيف يستر عليك بل كيف يقبله منك بل أبصر كيف يعوضك عليه، بل أبصر كيف يقبله منك، بل أبصر كيف بمدحك بل أبصر كيف ينسبه إليك الكلّ منه فضلا لكنه ينسبه إليك فعلا «٢»، ثم يونى عليك عطاءه ويسمى العطاء جزاء، يوسعك بتوفيقه برّا، ثم يملأ العالم منك شكرا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٨]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)
يعد الشيطان الفقر لفقره، والله يعد المغفرة لكرمه.
(١) وردت هكذا (فلقمته لقمته) ويحتمل أن تكون كما أثبتنا، أو أن تكون فالقيمة لقيمته بدليل ما بعدها. [.....]
(٢) تأمل كيف يرى القشيري قيمة العمل الإنسانى:
الشيطان يعدكم الفقر فيشير عليكم بإحراز المعلوم، ويقال يشير عليكم- بطاعته- بالحرص ولا فقر فوقه.
يعدكم الفقر بالإحالة على تدبيركم واختياركم.
يعدكم الفقر بنسيان ما تعوّدتموه من فضله- سبحانه «١».
ويقال يعدكم الفقر بأنه لا يزيد شكايتك.
ويقال يعدكم الفقر بتعليق قلبك بما لا تحتاج إليه.
ويقال بالتلبيس عليك رؤية كفايته.
«وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» أي الرغبة فى الدنيا، ويقال بالأسباب التي تقوى الحرص، ويقال بكثرة الأمل ونسيان القناعة، ويقال بمتابعة الشهوات، ويقال بإيثار الحظوظ، ويقال بالنظر إلى غيره، ويقال بإخطار شىء سواه ببالك.
ويقال بالانحطاط إلى أوطان الرّخص والتأويلات بعد وضوح الحق.
ويقال بالرجوع إلى ما تركته لله.
«وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا» : الفضل الموعود- فى العاجل- القناعة، وفى الآجل الثواب والجنان والرؤية والرضوان و (....) «٢» والغفران.
ويقال فى العاجل الظفر بالنفس، ويقال فتح باب العرفان، ونشر بساط القرب، والتلقي لمكاشفات الأنس.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٩]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩).
(١) أضفنا (سبحانه) ليمتنع اللبس وهى غير موجودة فى (ص).
(٢) هنا لفظة مشتبهة أقرب ما تكون إلى (العفو) ولكننا آثرنا عدم إثباتها فى النص لعدم التأكد.
الحكمة: يحكم عليكم خاطر الحقّ لا داعى النفس، وتحكم عليكم قواهر الحق لا زواجر الشيطان.
ويقال الحكمة صواب الأمور.
ويقال هى ألا تحكم عليك رعونات البشرية.
(ومن لا حكم له على نفسه لا حكم له على غيره) «١».
ويقال الحكمة موافقة أمر الله تعالى، والسّفه مخالفة أمره.
ويقال الحكمة شهود الحق والسّفه شهود الغير قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٠]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠)
قوم توعّدهم بعقوبته، وآخرون توعدهم بمثوبته.. وآخرون توعدهم بعلمه فهؤلاء العوام «٢» وهؤلاء الخواص. قال تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» فلا شىء يوجب سقوط العبد من عين الله كمخالفته لعهوده معه بقلبه، فليحذر المريد من إزلال «٣» نفسه فى ذلك غاية الحذر.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧١]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١).
(١) ربما وقع الناسخ فى خطأ حين وضع هذه الجملة فى هذا المكان، والأقرب أن تكون بعد كلمة (زواجر الشيطان) فنحن نعرف من مذهب القشيري أنه يرى أن الشيطان لا يملك أن يغرى الخلق (لأنه لو كان قادرا على ذلك لكان يمسك على الهداية نفسه، ومن عجز أن يحافظ على نفسه كان في إغراء غيره أشد عجزا) قال تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ».
(٢) العوام هنا تنصرف إلى الموعودين بالمثوبة والمتوعدين بالعقوبة.
(٣) (إزلال) بالزاي معناها الإيقاع فى الزلة والتسبب فى ارتكابها، أوضحناها حتى لا تلتبس (بإذلال) ومع ذلك فيمكن قبول (إذلال) بالذال إذا فهمنا أن سقوط العبد من عين الله هو (ذلة) لنفسه.
إن أظهرت صحبتك معنا وأعلنت فلقد جوّدت وأحسنت، وإن حفظت سرّنا عن دخول الوسائط بيننا صنت شروط الوداد، وشيّدت من بناء الوصلة العماد.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٢]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)
لك المقام المحمود، واللواء المعقود، والرتب الشريفة، والمنازل العلية، والسنن المرضية.
وأنت سيد الأولين والآخرين، ولا يدانيك أحد- فضلا عن أن يساميك، ولكن ليس عليك هداهم فالهداية من خصائص حقنا، وليس للأغيار منه شظية. يا محمد: أنت تدعوهم ولكن نحن نهديهم «١».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٣]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)
أخذ عليهم سلطان الحقيقة كل طريق، فلا لهم فى الشرق مذهب، ولا لهم فى الغرب مضرب. كيفما نظروا رأوا سرادقات التوحيد محدقة بهم:
إنه على الحقيقة فضل من الله ولكن من الناحية النسبية فعل للانسان وهذه مسألة هامة تتفرع عنها قضايا كلامية كثيرة يختلف فيها عن المعتزلة.
كأنّ فجاج الأرض ضاقت برحبها عليهم فما تزداد طولا ولا عرضا
(١) من هذه الفقرة يتضح موقف التصوف الإسلامى الحق في نظرته إلى الرسول صلوات الله عليه وليس في الأمر- كما ترى- جموح أو شطط (قارن ذلك بنظرة ابن عربى وتلاميذه).
ولا يسلم لهم نفس مع الخلق، وأنّى بذلك ولا خلق!! وإذا لم يكن فإثبات ما ليس شرك (سقها) «١» فى التوحيد.
والفقير الصادق واقف مع الله بالله، لا إشراف للأجانب عليه، ولا سبيل لمخلوق إليه تنظره عين الأغيار فى لبسة سوى ما هو به قال تعالى: «يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ»، فأما من كان ذا بصيرة فلا إشكال عليه في شىء من أحوالهم. تعرفهم يا محمد- أنت- بسيماهم، فليست تلك السيماء مما يلوح للبصر ولكنها سيماء تدركها البصيرة. لا إشراف عليهم إلا بنور الأحدية.
ويقال «تعرفهم بسيماهم» : استبشار قلوبهم عند انكسار نفوسهم، وصياح أسرارهم إلى العرش (نشاطا عنه) عند ذبول ظاهرهم عن الانتعاش «٢».
ويقال تكسر الظاهر عند تكسر الباطن وبالعكس من هذه لا يسألون الناس إلحافا، فإن جرى منهم من الخلق بدون الإلحاف سؤال- لما يشير إليه دليل الخطاب- فذلك صيانة لهم ولسر قصتهم، لئلا يلاحظهم الخلق بعين السؤال، وليس على سرّهم ذرة من الإثبات للأغيار «٣».
ويقال: «أحصروا فى سبيل الله» : وقفوا على حكم الله، وأحصروا نفوسهم على طاعته وقلوبهم على معرفته، وأرواحهم على محبته، وأسرارهم على رؤيته.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
ما دام لهم مال لا يفترون ساعة عن إنفاقه ليلا ونهارا، فإذا تفد المال لا يفترون عن شهوده لحظة ليلا ونهارا.
(١) مشتبهة وقد أثرنا أن ننقلها كما هى وربما كانت (سقما) أي علة فى التوحيد.
(٢) العبارة فيها شىء من غموض نتيجة اشتباه ما بين القوسين ولكن المراد- والله أعلم- أنه بينما تبدوا ظواهرهم ذابلة بحكم التواضع والانكسار فإن أسرارهم جادة فى التسبيح من حول العرش.
(٣) هنا يبدو القشيري متأثرا بتعاليم أهل الملامة النيسابورية.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٥]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥)
من أعرض عن الأمر، ورخّص لنفسه بما يسوّله له خاطره من التأويل فلا استقلال لهم فى الحال ولا انتعاش فى المآل خسروا فى عاجلهم ولم يربحوا فى آجلهم.
ومن انتبه بزواجر الوعظ، وكبح لجام الهوى، ولم يطلق عنان الإصرار فله الإمهال فى الحال، فإن عاد إلى مذموم تلك الأحوال فلينتظروا أوشك الاستئصال وفجاءة النّكال.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٦]
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)
ما كان بإذن منه- سبحانه- من التصرّفات فمقرون بالخيرات، ومصحوب بالبركات.
وما كان بمتابعة الهوى يسلّط عليه المحق، وكانت عاقبة أمره الخسران قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧)
إن الذين كانوا لنا يكفيهم ما يجدون منّا، لا نضيع أجر من أحسن عملا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)
الاكتفاء بموعود الربّ خير للمسلم من تعليق قلبه بمقصود نفسه.
ومقصودك من تسويلات النفس، وموعودك مما ضمنه الحق.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٩]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
إن صاحب الإصرار ليس له عندنا وزن ولا مقدار، ولا قدر ولا أخطار.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨٠ الى ٢٨١]
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
إذا تقرر عند القاضي إفلاس المحبوس فلا تحل له استدامة حبسه، وإن ظهرت لذى الحق حجة المفلس فذلك مرتهن بحق خصمه، ولكنه فى إمهال وإنظار. والرب لا يحكم بهذا علينا فمع علمه بإعسارنا وعجزنا، وصدق افتقارنا إليه وانقطاعنا له- يرحمنا.
قوله «إلى ميسرة» : ليس للفقير المفلس وجه يحصل له منه شىء إلا من حيث ما جعل الله سبحانه من سهم الغارمين، فأمّا من جهة الغلات فالغلة تدخل من رقاب الأموال والعقد..
وأنّى للمفلس به؟! وأمّا الربح فى التجارة من تقليب رأس المال والتصرّف فيه.. فأنّى للمفلس به؟! ما بقي للمفلس إلا قول من قال من الفقهاء (..........) «١» وإن كان ضعيفا، فذلك لمن بقيت له منة الحراك أما المفلس عن قوته- كما هو مفلس عن ماله- ما بقي له وجه إلا ما يسبب له مولاه.
قوله جل ذكره: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
(١) هنا عبارة مطموسة.
الرجوع على ضربين: بالأبشار والنفوس غدا عند التوفى، وبالأسرار والقلوب فى كل نفس محاسبة نقد ووعد، فنقد مطالبته أحقّ مما سيكون فى القيامة من وعده.
وقال للعوام: «واتقوا يوما» وقال للخواص: «وإياى فاتقون» قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)
أمر الله سبحانه الخلق بالقيام بالصدق، وعلّمهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم، والأخذ بالاحتياط والاستشهاد لئلا يجرى- بعضهم على بعض- حيفا، وذلك من مقتضى رحمته سبحانه عليهم، وموجب رفقه بهم كيلا يتخاصموا. فأمر بتحصين الحقوق بالكتابة والإشهاد، وأمر الشهود بالتحمل ثم بالإقامة.
ومن شرع اليوم ما يقطع الخصومة بينهم فبالحرى أن يجرى ما يرفع فى الآخرة آثار الخصومة «١» بينهم، وفى الخبر المنقول: تواهبوا فيما بينكم فقد وهبت منكم مالى عليكم، فإن الكريم إذا قدر غفر.
وفيما شرع من الدين «٢» رفق بأرباب الحاجات، لأن الحاجة تمس فيحمله الحال على الاحتيال، ويضيق به الصدر عن الاحتمال، ويمنعه حفظ التجمل عن الكدية والسؤال، فأذن له فى الاستدانة ليجبر أمره فى الحال، وينتظر فضل الله فى المآل، وقد وعد على الإدانة الثواب الكثير، وذلك من لطفه تعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٤]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
(١) وردت (الحكومة) ونظن أنها خطأ فى النسخ وأن الأصل (الخصومة).
(٢) ضبطناها هكذا وذلك هو الملائم للسياق.
من المعاني والدعاوى، ويقال من القصود والرغائب، وفنون الحوائج والمطالب.
ويقال ما «تبديه» : العبادة، «وما تخفيه» الإرادة.
ويقال ما «تخفيه» : الخطرات و «ما تبديه» :«العبارات».
ويقال ما «تخفيه» : السكنات والحركات «١» ويقال الإشارة فيه إلى استدامة المراقبة واستصحاب المحاسبة، فلا تغفل «٢» خطرة ولا تحمل وقتك نفسا «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٥]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)
هذه شهادة الحق- سبحانه- لنبيّه- صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله- بالإيمان، وذلك أتمّ له من إخباره عن نفسه بشهادته.
ويقال آمن الخلق كلّهم من حيث البرهان وآمن الرسول- عليه السّلام- من حيث العيان.
ويقال آمن الخلق بالوسائط وآمن محمد- صلّى الله عليه وسلّم- بغير واسطة.
(١) ربما كانت فى الأصل «تخفيه» السكنات «وتبديه» الحركات وسقطت تبديه من الناسخ. [.....]
(٢) وردت (تعقل وربما صحت على أساس أن تعقل (بمعنى تحبس) أو بمعنى استخدام العقل، وهو فى هذه الحالة آفة تعترض الفناء الكامل.
(٣) ضبطناها هكذا لأن الانتباه إلى (النّفس) أمارة عدم اكتمال الفناء.
ويقال هذا خطاب الحق معه ليلة المعراج على جهة تعظيم القدر فقال «آمن الرسول»، ولم يقل آمنت، كما تقول لعظيم الشأن من الناس: قال الشيخ، وأنت تريد قلت.
ويقال آمن الرسول والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولكن شتان بين إيمان وإيمان، الكلّ آمنوا استدلالا، وأنت يا محمد آمنت وصالا.
قوله جل ذكره:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٦]
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
لكمال رحمته بهم وقفهم على حد وسعهم ودون ذلك بكثير، كل ذلك رفق منه وفضل.
لَها ما كَسَبَتْ من الخيرات.
وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ما تكسبه من التوبة التي تنجّى من كسب «١».
قوله جل ذكره: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ كان إذا وقعت حاجة كلّموه بلسان الواسطة. قالوا «يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ» وهذه الأمة قال لهم: «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ».
وكانت الأمم (السالفة) «٢» إذا أذنبوا احتاجوا إلى مضى مدة لقبول التوبة، وفى هذه الأمة قال صلّى الله عليه وسلّم: «الندم توبة».
وكانت الأمم السالفة منهم من قال اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وهذه الأمة اختصت بإشراق أنوار توحيدهم، وخصائصهم أكثر من أن يأتى عليه الشرح.
(١) قد يبدو للوهلة الأولى ان القشيري فى استخراج إشارته من (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) يتجه اتجاها مخالفا للتفسير التقليدى، ولكن الواقع ان إشارة القشيري مرتبطة بمذهبه فى أن الله خالق كل شىء حتى أفعال العباد، فهو خالق التوبة وحين يتقبلها تعود (على) العبد، انظر مثلا تفسيره (ويتوب عليكم) من سورة النساء.. من هذا الكتاب).
(٢) (السالفة) موجودة فى الهوامش فأثبتناها فى موضعها من المتن.
216
قوله جل ذكره: وَاعْفُ عَنَّا فى الحال وَاغْفِرْ لَنا فى المآل وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
فى جميع الأحوال إذ ليس لنا أحد سواك، فأنت مولانا فاجعل النصرة لنا على ما يشغلنا عنك.
ولما قالوا «وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» خسف الله ذنوبهم بدل خسف المتقدمين، فأبدل ذنوبهم حسنات بدل مسخهم، وأمطر عليهم الرحمة بدل ما أمطر على المتقدمين من الحجارة.
والحمد الله رب العالمين.
السورة التي يذكر فيها آل عمران
«بسم الله الرحمن الرحيم» اختلف أهل التحقيق فى اسم «الله» هل هو مشتق من معنى أم لا؟ فكثير منهم قالوا إنه ليس بمشتق من مغني، وهو له سبحانه على جهة الاختصاص «١»، يجرى فى وضعه مجرى أسماء الأعلام فى صفة غيره، فاذا قرع بهذا اللفظ أسماء أهل المعرفة لم تذهب فهومهم ولا علومهم إلى معنى غير وجوده سبحانه وحقه. وحقّ هذه القالة أن تكون مقرونة بشهود القلب فاذا قال بلسانه «الله» أو سمع بآذانه شهد بقلبه «الله».
وكما لا تدل هذه الكلمة على معنى سوى «الله» لا يكون مشهود قائلها إلا «الله» فيقول بلسانه «الله»، ويعلم بفؤاده «الله»، ويعرف بقلبه «الله»، ويحب بروحه «الله»،
(١) وردت (الاقتصاص).
217
Icon