تفسير سورة آل عمران

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة آل عمران (١)
١ - ﴿الم﴾ اجتمعت القرّاء على فتح الميم، وإدراج ألفِ اللهِ في الوصل (٢)، إلا ما رُويت (٣) شاذًا عن عاصم: أنّه سكّن الميمَ وقَطَعَ الألف (٤).
(١) تفسير سورة آل عمران: ساقط من (ج).
(٢) أي: بأن تُفتح الميمُ، ولا تظهر همزةُ اسم الجلالة في الوصل، حال النطق. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجّاج ١/ ٣٧٣، "السبعة في القراءات" لابن مجاهد ٢٠٠، "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي ٣/ ٨، وكتاب "التبصرة في القراءات السبع" لمكي بن أبي طالب ٤٥٥، "إتحاف فضلاء البشر" لأحمد البَنّا ص ١٧٠. ويجوز لكل القرّاء في "ميم" المدُّ والقصر؛ لتغير سبب المد، فيجوز الاعتداد بالعارض وعدمه. انظر: "إتحاف فضلاء البشر" ص ١٧٠، "البدور الزاهرة" لعبد الفتاح القاضي ٥٨.
(٣) في (ج)، (د): (روي).
(٤) (قَطَع الألف) أي: ابتدأ بها. انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٩، "السبعة" لابن مجاهد ٢٠٠، "التبصرة" لمكي ص ٤٥٥. وهذه القراءة عن عاصم، رواها ابنُ مجاهد من طرق عدّة عن أبي بكر عنه، كما رُويت عن الحسن، وعمرو بن عبيد، وأبي جعفر الرؤاسي، والأعمش، والأعشى، والبرجمي، وابن القعقاع. انظر: "السبعة" ص ٢٠٠، "معاني القرآن" للفراء ١/ ٩، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٠٧، "علل الوقوف" للسجاوندي: ١/ ٢٢٠، "البحر المحيط" لأبي حيان: ٢/ ٣٧٤. ولكنَّ المعروف والمضبوط عن عاصم هو الوصلُ وفتح الميم، وهي =
7
واختلفوا في عِلَّةِ فتح الميم: فقال الفراء (١): طُرِحت عليها فتحةُ الهمزة؛ لأن نيّة حروف الهجاء الوقف. فَلَمَّا كان يُنوى بها الوقفُ، نُوي بما بعده الاستئنافُ، فكانت الهمزةُ في حُكْم الثَّبات (٢).
ومذهب سيبويه (٣): أنه حُرَّك لالتقاء الساكِنَينِ (٤)، والساكن الذي حُرّك له الميمُ، لامُ التعريف؛ وذلك أنَّ حُكْمَ هذه الهمزة، أن تُجتلَبَ في الابتداء، إذا احتيجَ إلى اللفظ بحرفٍ ساكنٍ، دون الصِّلَةِ والإدْراج، فإذا اتَّصلَ الساكنُ المُجتَلَبُ له هذا الحرفُ بشيءٍ قبله، استُغنِيَ عنه، فحُذِفَ. فإن اتّصَلَ بمتحرِّكٍ، بُنيَ على حركته (٥)، نحو: (ذهبَ ابْنُك). وإنْ كان حرفًا ساكنًا -غيرَ لَيِّنٍ- حُرّكَ، نَحْوَ: ﴿عَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ﴾ (٦) [ص: ٤١ - ٤٢]،
= روايةُ حفصٍ عنه. ويقول الزجّاج: (والمضبوط عن عاصم في رواية أبي بكر بن عياش وأبي عمرو فتح الميم. وفتح الميم إجماعٌ). ويقول مكي: (والذي قرأت به في رواية يحيى بن آدم بالوصل، مثل الجماعة). يعني: رواية يحيى عن أبي بكر. انظر: "معاني القرآن" للزجّاج: ١/ ٣٧٣، "التبصرة" لمكي ٤٥٥، "السبعة" لابن مجاهد ص ٢٠٠، "الحجة" للفارسي ٣/ ٥.
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٩. نقله عنه بالمعنى. وقد تقدمت ترجمته.
(٢) يعني بـ "الثبات": عدم سقوط الهمزة في الوصل. وقد ذهب الزمخشريُّ مذهبَ الفرّاء، وناقشه أبو حيان ورَدَّ عليه. انظر: "الكشاف" للزمخشري ١/ ٤١٠، "البحر المحيط" لأبي حيان ٢/ ٣٧٥ "الدر المصون" للسمين الحلبي ٣/ ٨١٢.
(٣) في "الكتاب" له ٤/ ١٥٢.
(٤) قال السمين الحلبي: (وهو مذهب سيبويه وجمهور الناس). "الدر المصون" ٣/ ٦.
(٥) في (ج): (متحركة).
(٦) يقول أبو علي الفارسي: (فإن كان الحرف الثاني من الكلمة التي فيها الساكن الثاني مضمومًا ضمة لازمة، جاز فيه التحريكُ بالضم والكسر جميعًا) وأتى بهذه الآية ضمن الشواهد على ذلك. ثم قال: وجميع هذا يجوز في الساكن الأول التحريك بالضم) أي أن تقرأ هكذا: ﴿عَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ﴾ في حال الوصل. "التكملة" للفارسي ١٧٧، وانظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ١٥٣، "الكشف" لمكي ١/ ٢٧٤. وقد قرأ بكسر الباء مع التنوين في ﴿عَذَابٌ﴾ في حال الوصل: عاصم، وحمزة، وأبو عمرو بن العلاء، وقنبل، وابن ذكوان، ويعقوب. وأجمعوا على ضم الهمزة في الابتداء. وقرأ الباقون بضم الباء مع التنوين. انظر: "الكشف" لمكي ١/ ٢٧٤، ٢٧٥، وقال: والضم في ذلك كلِّه الاختيارُ؛ لأن عليه أكثر القراء، ولأنه أخف. والكسر حسن؛ لأنه الأصل في حركة التقاء الساكنين. وانظر: "إتحاف فضلاء البشر" ص ٣٧٢، "البدور الزاهرة" ص ٢٧٢.
8
و ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا﴾ (١) [الجن: ١٦].
فكذلك (٢) الهمزة في أسماءِ اللهِ عزّ وجلّ مِن قوله: ﴿الم﴾، إذا اتَّصَلَ بما قبلها لزم حذفُها، كما لزم إسقاطُها فيما (٣) ذكرنا. وإذا لزم حذفها، لزم حذفُ حركتها أيضًا؛ لأنك لا تجدُ هذه الهمزة المُجْتَلَبَة في موضع ملقاةً، وحركتَها مبقاةً. فإذا لزم حذفها، لم يجُزْ إلقاؤها على الحرف الساكن. فليس حركةُ الميم إذن (٤) حركةَ الهمزة، وإذا لم تكن حركةَ الهمزة، ثبت أنها حركةُ التقاء الساكنَيْنِ.
وأمّا ما احتج به الفرّاءُ مِن أنّ هذه الحروف موضوعةٌ على الوقف، وإذا كان كذلك وجب أنْ تثبت الهمزةُ ولا تحذَف، كما تثبت في الابتداء، فإذا لزم أن لا (٥) تحذف كما لا تحذف (٦) في الابتداء، لم يمتنع أن تُلْقَى
(١) وقد وردت كتابتها في جميع النسخ: (وأن لو) بفصل (أن) عن (لو). وأثبتها وفق رسم المصحف.
(٢) في (ج): (فلذلك).
(٣) في (ج): (في ما).
(٤) في (ب)، (ج)، (د): (إذًا).
(٥) (لا) ساقطة من: (ج)، (د).
(٦) (كما لا تحذف): ساقط من (ج).
9
حركتُها على ما قبلها. قيل: إنَّ وضعَ هذه الحروف (١) على الوقف، لا توجب (٢) قطعَ ألفِ الوصل وإثباته (٣) في المواضع التي تسقط فيها. وأنت إذا ألقيت حركته على الساكن، فقد وصلت الكلمة التي هي فيها بما قبلها، وإنْ كان ما قبلها موضوعًا على الوقف.
فقولك: (ألقيت حركته عليه) بمنزلة قولك: (وَصَلْتُه)، ألا ترى أنك إذا خفَّفْتَ (مَنْ أَبُوكَ)، قلتَ: (مَنَ بُوك) فَوَصَلْتَ، ولو (٤) وَقَفْتَ لم تُلقِ الحركةَ عليها، فإذا (٥) وصلْتَها بما قبلها، لَزِمَ إسقاطُها، وكان إثباتُها مخالفًا لأحكامها في سائرِ مُتَصَرفاتها (٦).
ويقوي قولَ الفراء ما حكاه سيبويه (٧) مِن قولهم: (ثَلَثَهَرْبَعَة) (٨) ألاَ
(١) في (ج): (الحرف).
(٢) في (د): (يوجب).
(٣) في (ج): (وإثباتها).
(٤) (ولو) ساقطة من (د).
(٥) في (ب): (وإذا).
(٦) يقول السمين الحلبي - بعد أن نقل ردّ الواحدي هذا على الفراء: (قلت: هذا الرد مردود؛ بأن ذلك معامل معاملة الموقوف عليه، والابتداء بما بعده، لا أنه موقوف عليه، ومبتدأ بما بعده حقيقةً، حتى يَرُدَّ عليه بما ذكر). "الدر المصون" ٣/ ٨. ورأي الفراء هذا رده آخرون غير المؤلف، ومنهم: أبو علي الفارسي، وابن جنِّي، وخطَّأه تاجُ القراء الكرماني، واستبعده العكبريُّ. انظر: "الحجة" للفارسي: ٣/ ٩، "المحتسب" لابن جني: ٢٤٠، "غرائب التفسير وعجائب التأويل" للكرماني ١/ ١٣٩، "التبيان" للعكبري ١/ ١٧٣. قال الفارسي: (ولا يجوز أن تكون الفتحة لهمزة الوصل ألقيت على النون؛ لأن الهمزة إذا أوجب الإدراجُ إسقاطَها لم تبق لها حركة تلقى على شيء، فيما علمناه).
(٧) في "الكتاب" ٣/ ٢٦٥.
(٨) (ثلثهربعة): مطموسة في (د).
10
ترى أنهم أجروا الوصل في هذا مجرى الوقف؛ حيث ألقَوا حركة الهمزة على التاء التي للتأنيث، وأبقوها هاءً، كما تكون في الوقف، ولم يقلبوها تاءً (١)؛كما يقولون في الوصل: (هذه ثلاثتك) كذلك ههنا لَمّا كانت النيّةُ في الميم الوقفَ، وفيما بعدها الاستئنافَ، كانت الهمزةُ في حُكْمِ الثَبَات، فأُلقِيَت حَرَكَتُها على الميم. فله حُكْم الوقف مِن وَجْهٍ، وحُكْمُ الوَصْلِ مِن وَجْهٍ؛ كما كان في (ثَلَثَهَرْبَعَة) (٢)، له حُكْمُ الوصل؛ من حيث إلقاء حركةِ الهمزة على (الهاء)، وحُكْم الوقف، حيث أبقوا الهاءَ على حالها (٣).
والساكن الذي حُرِّكت لَهُ الميمُ في ﴿الم﴾، الساكنُ الثالث، وهو (٤): لام التعريف؛ وذلك أنّ حروف التَّهَجِّي يجتمع فيها ساكنان؛ كقوله: ﴿حم (١) عسق﴾ [الشورى: ١ - ٢]، ولا يُحرَّك الساكنُ الثاني منها. وجمعهم بين الساكِنَيْنِ في هذه الحروف، دليلٌ على أنها في ﴿الم﴾ ليس بمتحرك للساكن الثاني إذ لو كان للثاني (٥) لم يُحرَّك كما لم يُحرَّك سائرُ ما ذكرنا (٦).
(١) أي: أن أصلها (ثلاثة أربعة)، فلما وقفنا على (ثلاثة) أبدلنا التاء (هاءً) كما هو اللغة المشهورة، ثم أجرينا الوصل مجرى الوقف، فتركنا الهاءَ على حالها في الوصل، ثم نقلنا الهمزة إلى الهاء، فكذلك هذا. وانظر: "الدر المصون" ٣/ ٨
(٢) (ثلثهربعة): مطموسة في (د).
(٣) ولكن يلاحظ أن الهمزةَ في (أربعة) همزة قطع، فهي ثابتة في الابتداء والدرج، وعليه نقلت حركتها. أما همزة اسم الجلالة، فهي همزة وصل واجبة السقوط، فلا تنقل حركتها إلى ما قبلها. وهذا هو الفرق. انظر: "غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٢٤٠، "الدر المصون" ٣/ ٨.
(٤) في (د): (فهو).
(٥) في (ج): (الثاني).
(٦) انظر: "التكملة" للفارسي ١٧٩، "غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٢٣٩.
11
قال الأخفش (١): لو كسرت الميم لالتقاء الساكِنَيْن، فقيل: ﴿الم﴾، لَجَازَ.
قال أبو إسحاق (٢): هذا غلط من أبي الحسن؛ لأن قبل الميم ياءً، مكسورًا (٣) ما قبلها، فحقها الفتح؛ لالتقاء الساكنين؛ لِثِقَلِ الكَسْرِ مع الياء (٤).
قال أبو علي (٥): كَسْرُ الميم لو ورد بذلك (٦) سماعٌ، لم يدفعه قياس، بل كان يُثَبِّتُه ويُقَوِّيه؛ لأنَ الأصل (٧) في التحريك لالتقاء الساكنين الكسرُ. وإنما يُترك الكسرُ (٨) إلى غير ذلك؛ لِمَا يَعْرِضُ مِن عِلّةٍ وكراهةٍ. فإذا جاء الشيء على ما به فلا وجه لِرَدِّهِ، ولا مَسَاغ (٩) لِدَفْعِهِ.
وقول أبي إسحاق: (إنَّ ما قبل الميم ياءً مكسورًا (١٠) [قبلها] (١١)
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٢. نقله عنه بمعناه. وقد تقدمت ترجمته.
(٢) قوله في "معاني القرآن وإعرابه" له ١/ ٣٧٣. نقله عنه بنصه.
(٣) في (ج): (مكسور).
(٤) في "معاني القرآن" (وذلك لثقل الكسرة مع الياء).
(٥) لم أقف على مصدر قوله فيما رجعت إليه من كتبه المطبوعة، وقد أورد قوله السمين الحلبي في "الدر المصون" ٣/ ١٤.
(٦) في (ب): (به).
(٧) في (ج): (الوصل).
(٨) في (ج): (القياس).
(٩) في (ج): (امتناع).
(١٠) في (ج): (مكسورة).
(١١) ما بين المعقوفين زيادة أضفتها من "الدر المصون" للسمين ٣/ ١٤. حيث أورد السمين هذه العبارة ناقلًا لها عن الواحدي، وكذلك هي في الأصل المنقول عنه وهو "معاني الزجاج" حيث إن الزجاج لا يعني كسر الياء، وإنما كسر ما قبل الياء.
12
فحقها الفتح)، ينتقضُ بقولهم: (جَيْرِ) وكان مِنَ الأَمْرِ) (١) (ذَيْتِ وذِيْتِ) (٢) و (كَيْتِ وكِيْتِ) (٣). فَحُرِّك الساكنُ بعد الياء بالكسر، كما حُرِّك بعدها بالفتح في (أيْنَ).
وكما جاز الفتح بعد الياء؛ لقولهم (٤): (أيْنَ)، كذلك يجوز الكسرُ بعدها؛ لقولهم: (جَيْرِ) (٥).
ويدل على جواز التحريك بالكسر لالتقاء الساكنين في ما (٦) كان قبله ياء جوازُ تحريكه بالضم؛ كقولهم (٧): (حيثُ). وإذا (٨) جازَ الضمُّ، كان الكسرُ أسهلَ، وأجْوَزَ.
(١) (جير وكان من الأمر): ساقط من (ج)، (جَيْر) بكسر الراء، وقد يُنَوَّن: يمينٌ، أي: حَقَّا. أو بمعنى نعم، أو أجل. انظر: "البسيط في شرح جمل الزجاجي" ٢/ ٩٣٧، ٩٤٤، "مجمل اللغة" لابن فارس: ١/ ٢٠٤، "القاموس المحيط" ص٣٧٠ (جير).
(٢) في (د): (ديت وديت).
(٣) (ذيت وذيت) بفتح التاء أو كسرها أو ضمها: اسم كناية، يكنى بها عن الحديث أو القصة أي: الحديث عن شيء حصل أو قول وقع. ولا بد مع تكرارهما مع فصلهما بالواو، مع اعتبارهما كلمة واحدة في محل نصب أو جر أو رفع حسب حاجة الجملة. ويقال في (كيت وكيت) ما قيل في (ذيت وذيت). ولم أقف في المصادر التي رجعت إليها على كسر الذال من (ذيت) والكاف من (كيت). انظر: "الخصائص" لابن جني ١/ ٢٠٢، "سر صناعة الإعراب" له: ١/ ١٥٢ - ١٥٣، "لسان العرب" ٣/ ١٥٢٨ (ذيت) ٧/ ٣٩٦٤ (كيت)، "النحو الوافي" ٤/ ٥٨٣.
(٤) في (ج)، (د): (كقولهم). وفي "الدر المصون": (في قولهم).
(٥) في (ج): (خبر).
(٦) في (ب)، (ج)، (د)، "الدر المصون": (فيما).
(٧) في (د): (لقولهم). وفي "الدر المصون" (نحو قولهم).
(٨) في (د): (إذا). بدون واو.
13
وأما (١) ما رُوي عن عاصم، من قطعه الألف، فكأنّهُ قدّر الوقفَ (٢) على الميم، واستأنف (الله). فقطع (٣) الهمزة للابتداء بها.
قال محمد بن إسحاق (٤)، والكَلْبِي (٥)، والرَّبِيع (٦):
نزلت هذه الآية، إلى (٧) نيّف وثمانين من هذه السورة، في وفْدِ نَجْران (٨)، مِنَ النَّصَارَى، لَمّا جاءُوا يُحَاجُّونَ النبي - ﷺ - (٩).
(١) من قوله: (وأما..) إلى (.. للابتداء بها): نقله بنصه عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ٩.
(٢) في "الحجة": (الوقوف).
(٣) في (د): (وقطع).
(٤) قوله في "سيرة ابن هشام" ٢/ ١٧٥، "تفسير الطبري" ٣/ ١٦٢، "المحرر الوجيز" ٣/ ٥، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٦٨.
وهو: محمد بن إسحاق بن يَسَار، المُطَّلِبي بالولاء، من أهل المدينة، سكن العراق، إمام في المغازي والسيرة النبوية، رُمَي بالتشيع والقدر، صدوق يُدلِّس، مات ببغداد سنة (١٥١ هـ)، وقيل بعدها. انظر: "وفيات الأعيان" ٤/ ٢٧٦، "تذكرة الحفاظ" ١/ ١٧٢، "تهذيب التهذيب" ٣/ ٥٠٤.
(٥) قوله في "بحر العلوم" ٢/ ٨، "تفسير البغوي" ٢/ ٥.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ١٦٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٥٨٥، "تفسير البغوي" ٢/ ٥، "المحرر الوجيز": ٣/ ٥.
(٧) في (ج): (في).
(٨) نجران: هي الآن في أرض الحجاز من المملكة العربية السعودية، وكانت قديمًا من مدن اليمن، من ناحية مكة. انظر حولها "معجم ما استعجم" ٤/ ١٢٩٨، "معجم البلدان" ٥/ ٢٦٦.
(٩) انظر في خبر وفد نجران، وأنه سبب نزول هذه الآيات إضافة إلى المصادر السابقة: "أسباب النزول" للمؤلف ص ٩٩، "امتناع الأسماع" للمقريزي ١/ ٥٠٢، "وتفسيرات شيخ الإسلام ابن تيمية" جمع إقبال الأعظمي: ١١٥، "زاد المعاد" لابن القيم: ٣/ ٦٢٩، "السيرة النبوية" لابن كثير: ١/ ٣٦٧، "البداية والنهاية" له ٥/ ٥٢ - ٥٦، "حدائق الأنوار" لابن الدَّيْبَع الشيباني ١/ ٦٨، ٢/ ٧٠٩، "الدر=
14
قال ابن عباس (١) في رواية عَطَاء، والضحاك في قوله: ﴿الم﴾ يريد بالألف: الله، واللام (٢): جبريل، والميم: محمد - ﷺ - (٣). وقد مضى الكلام في حروف التَّهَجِّي، وفي معنى ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥].
٣ - قوله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾. إنّما قال: ﴿نَزَّلَ﴾، وقال: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾؛ لأن التنزيل للتكثير. والقرآن نزل نجومًا، شيء بعد شيء، والتوراة والإنجيل نزلتا دفعةً واحدةً (٤).
= المنثور" للسيوطي: ٢/ ٦٦، "لباب النقول" له: ٥١، وزاد في نسبة إخراجه فيهما لابن المنذر، والبيهقي في "دلائل النبوة". وانظر: "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٩٥ - ٣٩٨ فله توجيه لطيف حول قول محمد بن إسحاق هذا ومن معه في سبب نزول هذه الآية.
(١) قوله في "تفسير الثعلبي" (مخطوط مصور في جامعة الإمام): ١/ ٢٣ ب.
(٢) في (ب): (والميم واللام).
(٣) أورد الأثر هذا عنه الثعلبي في تفسيره "الكشف والبيان" ١/ ٢٣ ب.
(٤) وقد ذهب كثير من المفسرين، إلى ما ذهب إليه المؤلفُ، من تخصيص القرآن، هنا بلفظ التنزيل، الدال على التكثير؛ نظرًا لنزوله منجمًا، وأن التوراة والإنجيل خُصَّا بالإنزال؛ لأنهما نزلا دفعة واحدة ومن هؤلاء المفسرين: الثعلبي، والبغوي، والزمخشري، وبيان الحق النيسابوري، وابن الجوزي، والقرطبي، والنسفي، وأبو جعفر بن الزبير الغرناطي، وابن جماعة، والبيضاوي، والمهايمي، وأبو السعود. انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٦، "الكشاف" للزمخشري: ١/ ٢٣٨، ٤١٢، "وضح البرهان" لبيان الحق: ١/ ٢٣٣، "زاد المسير" ١/ ٣٤٩، "تفسير القرطبي" ٤/ ٥، "تفسير النسفي" ١/ ١٤١، "ملاك التأويل" لابن الزبير: ١/ ١٤١، "كشف المعاني" لابن جماعة: ١٢٣، "تفسير اليضاوي" ١/ ٦٢، "تفسير المهايمي" ١/ ١٠٢، "تفسير أبي السعود" ٢/ ٤.
ولكن رُدَّ هذا القول بالآتي: إن التضعيف الدال على الكثرة، شرطه أن يكون في الأفعال المتعدية قبل التضعيف غالبًا؛ نحو: (فتَّحت الباب)، وفعل (نَزَل) لم=
15
و ﴿وَالكِتَابِ﴾؛ يعني: القرآن (١). فهو مصدرٌ، سُمِّي به المكتوب.
وقوله تعالى: ﴿بِاَلحَقِّ﴾. أي: بالصدق في أخباره، وجميع دلالاته.
= يكن متعديًا قبل التضعيف. وقولهم: (غالبًا): لأن التضعيف جاء دالًا على الكثرة في اللازم؛ نحو: (موَّت المالُ): إذا كثر. إن التضعيف الدال على الكثرة، لا يجعل اللازم متعديًا كما في (مَوَّت المال). ولما كان (نزل) لازما، وصار بالتضعيف متعديًا، دلَّ على أن تضعيفه للنقل لا للتكثير. إنه لو كان (نَزَّل) للتكثير، لاحتاج قولُهُ تعالى: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢] إلى تأويل، إنه ورد فعل (نَزَّل) المضعَّف، في آيات كثيرة، ولا يمكن أن يدل على التكثير، إلا بتأويل بعيد جدًا، ومن ذلك قوله تعالى ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ﴾ [الأنعام: ٣٧] وقوله: ﴿لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٥].
كما أن (أنزل) قد ورد خاصًّا بالقرآن، فقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ [النحل: ٤٤] فلو كان أحدهما يدل على التنجيم، والآخر على النزول دفعة واحدة، لكان في ذلك تناقض في الإخبار، وهو محال. انظر: "الحجة" للفارسي: ٢/ ١٥٨ - ١٦٢، "البحر المحيط" ١/ ١٠٣، "الدر المصون" ٣/ ١٩٨، ٣/ ٢١. ويرى ابن عاشور أن التضعيف في ﴿نَزَّلَ﴾ كالهمز فيه، إلا أن التضعيفَ يؤذن بقوة الفعل في كيفيته وكمِّيَتِه، وأن ﴿نَزَّلَ﴾ أهم من (أنزل)؛ حيث يدل على عِظَم شأن نزول القرآن. ويرى بأنه لا دلالة على أن التوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة، بل نزلا مفرقَيْن؛ كحال كل ما نزل على الرسل في مدة الرسالة. انظر تفسير "التحرير والتنوير" ٣/ ١٤٧، ١٤٨.
(١) ذهب سعيد بن جبير إلى أن الكتاب هنا: خواتيم سورة البقرة. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٥٨٧. أما جمهور المفسرين، فقد ذهبوا إلى أن المراد به القرآن، كما فَسَّره المؤلف. يقول أبو حيان (الكتاب هنا: القرآن، باتفاق المفسرين). "البحر المحيط" ٢/ ٣٧٧. وانظر: "تفسير الطبري" ٣/ ١٦٦، ١٦٧ "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٥٨٧، "تفسير البغوي" ٢/ ٦، "تفسير ابن جزي" ٧٣، "زاد المسير" ١/ ٣٤٩، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٦٩، "الدر المنثور" ٢/ ٥.
16
وقوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾. أي: موافقًا لِمَا تقدم الخبرُ به في سائر الكتب. وفي ذلك دليل على صحة نبوة محمد - ﷺ -.
وقيل (١): مصدقًا لشرائع الأنبياء المتقدمين فيما أتوا به، خلاف مَن يقول: نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
وقوله تعالى: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾. مِن مَجَازِ الكلام؛ وذلك أنَّ ما بينَ يَدَيْك، فهو أمَامَك. فقيل لكل ما تقدم على الشيء: (هو بين يديه)؛ كما جاء في الحديث: "إنَّ بينَ يَدَي الساعة سنين خَدّاعَة" (٢)، أي: أمامها، تتقدم عليها.
(١) هو معنى قول: مجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع، ومقاتل، والطبري، والثعلبي، والبغوي. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٦٢، "تفسير الطبري" ٣/ ١٦٦، ١٦٧، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٥٨٧، "تفسير البغوي" ٢/ ٦، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤ أ.
(٢) الحديث، أخرجه: البزار (انظر كشف الأستار عن زوائد البزار: رقم الحديث: (٣٣٧٣)، وأحمد في "المسند" ٣/ ٢٢٠. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٨٤، من رواية عمرو بن عوف، عن النبي - ﷺ -، ومن رواية ابن إسحاق، عن عبد الله بن دينار، عن أنس، عن النبي - ﷺ -. قال الهيثمي: (وقد صرح ابن إسحاق بالسماع من عبد الله بن دينار، وبقية رجاله ثقات). وأورده المتقي الهندي في "كنز العمال" ١٤/ ٢٢٩ رقم (٣٨٥١١) وعزاه للطبراني في "المعجم الكبير" والحاكم في "الكنى" وابن عساكر، عن عوف بن مالك الأشجعي. وورد الحديث بلفظ آخر من رواية أنس بن مالك: "إن أمام الدجال سنين خدَّاعة.. ". أخرجه أحمد في "المسند" ٣/ ٢٢٠ (انظر: "الفتح الرباني" للبنا: ٢٤/ ٣٥). وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٨٤: (رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني في "الأوسط" وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وابن لهيعة، وهو لين). وورد من رواية أبي هريرة بلفظ: "إنها ستأتي على الناس سنون خداعة". رواه أحمد في "المسند" ٢/ ٢٩١. وانظر: "المسند" بشرح شاكر: ١٥/ ٣٧ رقم (٨٧٩٩)، وقال الشيخ أحمد شاكر: (إسناده حسن، ومتنه صحيح).
17
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ﴾. قال الفراء (١): أصل (التوراة): (تَوْرَيَةٌ)، على وزن (تَفْعَلَة)، فصارت الياءُ ألفًا، لِتَحَرُّكها وانفتاح ما قبلها. قال: ويجوز أن تكون (تَفْعِلَة)، فيكون أصلها: (تَوْرِيَة)، فتنقل الراء مِن الكَسْر إلى الفتح؛ كما تقول طَيِّئ (٢) في (جاريَة): جَارَاة. وفي (ناصيةٍ): نَاصَاة (٣).
قال الشاعر:
بِحَرْبٍ كَنَاصاةِ الأغَرِّ المُشَهَّرِ (٤)
(١) قوله: في "الزاهر" لابن الأنباري: ١/ ١٦٨، وأورد الأزهريُ طرفا منه، وعزاه
لكتاب (المصادر) للفراء. انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٨٠.
(٢) في (ج): (ظبي). (طيئ) هي القبيلة العربية المشهورة، التي تنسب إلى طيئ بن أدَد ابن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وهي من القبائل القحطانية، كانت مساكنهم في اليمن، ثم خرجوا منها، ونزلوا بنجد والحجاز، ثم انتشروا في الجزيرة العربية. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ٣٩٨، ٣٩٩، ٤٧٦، و"صبح الأعشى": ١/ ٣٢٠، و"معجم قبائل العرب": ٢/ ٦٨٩ - ٦٩١، ٥/ ٣٤٥.
(٣) الناصية، أو الناصاة: قصاص الشعر في مقدم الرأس. انظر: (نصا) في "اللسان" ٧/ ٤٤٤٧، "القاموس المحيط" (١٣٣٩). قال الأزهري (والناصية عند العرب:
منبت الشعر في مقدم الرأس وسمي الشعرُ ناصيةً؛ لنباته في ذلك الموضع). "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٨١.
(٤) عجز بيت، وصدره:
لقد آذَنَتْ أهلَ اليَمَامَةِ طيِّئٌ
وهو لحُرَيْث بن عَنَاب الطائي. وقد ورد منسوبًا له، في كتاب "المعاني الكبير" لابن قتيبة: ٢/ ١٠٤٨، "اللسان" ٧/ ٤٤٤٧ (نصا). وورد غير منسوب، في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٨١، "الدر المصون" ٣/ ١٨. وردت كلمة (الحِصان) بدلًا من (الأغر) في كل المصادر السابقة، ما عدا "الدر المصون". المُشَهَّر: المشهور. انظر: (شهر) في "تهذيب اللغة" ٤/ ١٩٤٥، "اللسان" ٤/ ٢٣٥٢.
18
وأنشد الفراء:
فَمَا الدنيَا بِبَاقَاةٍ لِحَيٍّ وما حَيٌّ على الدنيا بِبَاق (١)
وقال الخليل (٢) وهو مذهب البصريين (٣): (تَورَيَةٌ، أصلها: (فَوْعَلَةٌ)، وأصلها: (وَوْرَيَةٌ)، ولكنَّ الواو الأولى قُلِبت تاءً، كما قُلِبت في
(١) في (د): (باقي). أورده الزمخشري في "ربيع الأبرار" ١/ ٣٨، ونسبه لخالد بن الطَّيِّفان الدارمي، وكذا نسبه الجاحظ له في: كتاب "الحيوان" ٥/ ١٠٥، وسماه خالد بن علقمة بن الطيفان. إلا أن الزمخشري في "ربيع الأبرار" في: ١/ ١٣ نسبه لنهشل بن حري النهشلي، وروايته فيه:
وما الدنيا بباقية لحي وما حي على الحَدَثان باقي
وهو في الموضعين في "ربيع الأبرار" (بباقية لحي). وورد البيت غير منسوب، في "الزاهر" لابن الأنباري: ١/ ١٦٨، ورسالة الصاهل والشاحج، للمعري: ٤٠٧، "الإنصاف في مسائل الخلاف" للأنباري: ص ٦٩، "الدر المصون" ٢/ ٦٣٧، ٣/ ١٩. والشاهد فيه: قوله: (بباقاة)، وأراد: بباقية.
(٢) انظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ٣٣٣.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤ ب. والبصريون، هم: أصحاب المدرسة النحوية بالبصرة، الذين نشأ النحو على أيديهم وتطور. وقد وضعوا قواعدهم على الأعم الأغلب مما نقل عن العرب، ومن قواعدهم المنهجية في النحو: التشدد في السماع، فلا يأخذون إلا من ثقات العربية، ممن سلمت لغاتهم من التأثر بلغة أو بلهجة أجنبية، ولا يعتمدون الشاهد النحوي مقياسًا، إلا إذا جرى على ألسنة العرب، وكثر استعمالهم له، وغير ذلك من القواعد، وهم أسبق من أصحاب المدرسة الكوفية، وأكثر تشددًا منهم. وهناك البغداديون، الذين ينتخبون من المدرستين. ومن علماء المذهب البصري: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، وسيبويه، وقطرب، والأخفش الأوسط، والمازني، والمبرد، وغيرهم. انظر: "طبقات النحويين" للزبيدي: ٢١ - ٢١١، والمدراس النحوية، لشوقي ضيف: ١١ وما بعدها، "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" د. محمود اللبدي: ٢١، ٨٧، "موسوعة النحو والصرف" د. أميل يعقوب: ٣٦٢، ٦١٦.
19
(تَوْلَج) (١)، فهو (فَوْعَل)، مِنْ (وَلَجْت). وقُلِبت الياء ألِفًا؛ لتحركها (٢) وانفتاح ما قبلها، فصارت (تَوْرَاةً) (٣)، وكُتِبَت بالياء على أصل الكلمة. قالوا: ولا يجوز أن يكون أصلها (تَفعَلَة) كما قال الفرّاء؛ لأن (٤) هذا البناء يَقِل، وإن (فَوْعَلة) من الكثرة بحيث لا يتناسبان (٥).
ولا إشكال في أن الحَمْل على الأكثر الأشْيع أولى، وأيضًا فإن التاء لم تكثر زائدةً أوّلًا، والواو إذا كانت أوّلًا فقد استمرّ البدل فيها؛ نحو: (وُجُوه)، و (أُجُوه) (٦)، و (وُقِّتَتْ)، و (أُقِّتَتْ)، و (وشاح)، و (إشاح) (٧)، و (وَنَاة)، و (أَنَاة) (٨). فإذا اجتمع واوان لزم الأوّلَ منهما البدلُ: إما همزة،
(١) تَوْلَج: كِناس الوحش، وهو الموضع الذي يستتر فيه. انظر: (ولج) في "أساس البلاغة" للزمخشري: ٢/ ٥٢٦، "القاموس المحيط" ص ٢٠٩. وانظر: (كنس) في "الصحاح" ٣/ ٩٧١.
(٢) في (د): (لحركتها).
(٣) في (ج): (توراية).
(٤) من قوله: (لأن..) إلى (.. ولا إشكال): ساقط من: (د). ومن قوله: (لأن..) إلى (.. وعومرة قد كثر): نقله بتصرف في بعض عباراته عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ١٣١٥.
(٥) انظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ٣٣٣، "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: ٣/ ٨٧٩،
"الممتع في التصريف" لابن عصفور: ١/ ٣٨٣، ٣٨٤.
(٦) في (ج): (وأوجه).
(٧) الوشاح: شيء ينسج من أديم عريضًا، يرصع بالجوهر، وتشده المرأة بين عاتقيها. يقال: (وِشاح، وإشاح، ووُشاح، وُأشاح). الجمع: وُشُح، وأوْشِحة. انظر: "الصحاح" للجوهري: ١/ ٤١٥ (وشح).
(٨) (امرأة أناة، ووناة): فيها فتور. و (نساءق أنَوات). و (قد وَني في الأمر): ضعف وفتر. انظر: "أساس البلاغة" ١/ ٢٣ (أنى)، ٢/ ٥٢٩ (ونى).
20
وإما تاء؛ نحو: (أَوَاقٍ) (١) في جمع (واقِيَةٍ).
وقد أُبدِلت التاءُ من الواو، إذا (٢) كانت مفردةً؛ نحو: (تُجَاه) و (تُرَاث) (٣) و (تُخَمَة) (٤) و (تُكْلاَن).
فإذا كثر (٥) إبدال التاء مِنَ الواو هذه (٦) الكثرة كانَ حملها على هذا الكثير (٧)، أوْلى من حمله على ما لم يكثر ولم يتسع هذا الاتساع، ولا يقرب أيضًا حملُها على (تَفْعِلَة)؛ لأنه لا يخلو مِن أن يجعلها (٨) اسمًا؛ نحو: (تَوْدِيَة) (٩) أو مصدرًا؛ نحو: (تَوْصِية).
فأما باب (تَوْدِيَةٍ) فقليل؛ كما أن (تَفْعَلَة) كذلك، وباب (تَوْصِيَة) فيه
(١) في (د): (واق). وقوله: (نحو أواق): ساقط من: ب. انظر: "لسان العرب" ٨/ ٤٩٠٣ (وقي).
(٢) في (أ): (فإذا). وفي (ب)، (ج): (وإذا) والمثبت من مصدر المؤلف؛ لأنه لا يستقيم الكلام إلا به. ومن قوله: (إذا..) إلى (.. من الواو) ساقط من: (د).
(٣) في (أ): (تَراث) بفتح التاء. والصواب ما أثبت وهو ضمها. انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: ٥٢٧، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: ٨٦٣ (ورث).
(٤) في (أ): (تُخْمَة) بسكون الخاء. والصواب بفتحها. انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس: ص ٩٢٠، "المصباح المنير" للفيومي: ص ٢٥٠ (وخم).
(٥) في (ج): (أكثر).
(٦) في (أ)، (ب): وهذه. والمثبت من: (ج) (د). وهو الصواب؛ حيث لا تستقيم العبارة إلا به، كما أنه هكذا في مصدر المؤلف، وهو "الحجة" للفارسي: ٣/ ١٤.
(٧) في (د): (الكثير).
(٨) في (د): (تجعلها).
(٩) في (ب): (تردية). والتودية: واحدة التوادي، وهي: الخشبات التي نشد على خِلْفِ الناقة إذا صُرَّت. انظر: "غريب الحديث" للحربي: ١/ ٢٦٣، "الصحاح" ٦/ ٢١، ٢٥ (ودى)، "اللسان" ٨/ ٨٨٠٤ (ودى).
21
اتساع؛ لكن إذا حملها على لُغَةِ طَيِّئٍ، فقد حملها على لغةٍ لم نعلم شيئًا منها في التنزيل.
فإذا لم يكن الوجهان اللّذان ذكرهما الفراءُ بالسّهلين، حَمَلْتَهُ على (فَوْعَلَةٍ) دونها؛ للكثرة؛ ألا ترى أنّ نحو: (صَومَعَة) (١) و (حَوجَلَة) (٢) و (دَوسَرَة) (٣) و (عَومَرَة) (٤)، قد كثر؟.
ونظير (التوراة) مِمّا قلبت الواوُ فيه تاءً (٥)، قولُهم (٦): (التَّرِيَّة): لِمَا تَرَاهُ المرأةُ في الطُّهْرِ بعد الحَيْضِ (٧)، وهي (فَعِيلةٌ) مِنَ (الوَرَاءِ)؛ لأنها تُرى بعد الصُّفْرَةِ والكُدْرَة. ويجوز أن تكون (فَعِيلَة) (٨)؛ مِن: (وَريَ الزَّنْدُ)؛ فكأن
(١) الصومعة: منار الراهب، وبيت للنصارى. انظر: (صمع) في "اللسان" ٤/ ٢٤٩٨، "القاموس" ص ٧٣٨.
(٢) الحوجلة: هي ما كان من القوارير الصغار واسعة الرأس وقيل: هي القارورة الغليظة الأسفل. وقيل: هي القارورة فقط. انظر: (حجل) في "تهذيب اللغة" ١/ ٧٥٢، "اللسان" ٢/ ٧٨٩.
(٣) الدَوْسَر: الجمل الضخم، ذو الهامة والمناكب. ولا أنثى: دَوْسَرٌ، ودَوْسَرةٌ. و (كتيبة دوسر، ودوسرة): مجتمعة. وقيل: الدوسر: النوق العظيمة. وقيل: الدوسر: القديم. انظر: (دسر) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٨٣، "اللسان" ٣/ ١٣٧٢، "القاموس" ص ٣٩١.
(٤) في (ب): (عوصرة).
والعَوْمَرة: الاختلاط. يقال: (تركت الناس في عومرة)؛ أي: في صياح وجلبة. "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥٦٧، "اللسان" ٥/ ٣١٠٣.
(٥) في (ب): (الياء في ثاء).
(٦) من قوله: (قولهم..) إلى (.. فكأن الطهر أخرجه): نقله بتصرف في بعض عباراته عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ١٢.
(٧) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٢٨ (رأى).
(٨) في (د): (فيعلة).
22
الطُّهْرَ أَخرجه (١).
فأما اشتقاقها: فقال الفرّاءُ فيما حكاه ابنُ الأنباري: التوراة (٢)؛ معناها: الضياءُ والنُّورُ؛ من قول العرب: (وَرِيَ الزَّنْدُ (٣)، يَرِي): إذا قَدَحَ (٤)، فَلَم يَكْبُ (٥)، و (أورْيتُه أنا)؛ قال الله تعالى: ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾ [العاديات: ٢] ويقولونَ: (وَرِيتْ (٦) بل زِنَادِي)، على مثال: (شَرِيَتْ) (٧).
(١) انظر مبحث إبدال التاء من الواو، وأصل كلمة (التوراة) في "المقتضب" للمبرد ١/ ٦٣، "نزهة القلوب" للسجستاني ١٥٤، "مجالس العلماء" للزجاجي ٩٥، وكتاب "التكملة" للفارسي ٥٧١، "سر صناعة الإعراب" لابن جني ١/ ١٤٥، "المنصف" له ١/ ٢٢٦، "المشكل" لمكي: ١/ ١٤٩، "شرح المفصل" لابن يعيش: ٩/ ١٤٢، ١٠/ ٣٦، "نزهة الطرف في علم الصرف" لابن هشام: ١٦٠.
(٢) من قوله: (التوراة..) إلى (قول العرب): نقله عن "الزاهر" لابن الأنباري: ١/ ١٦٨.
(٣) من قوله: (وري الزند..) إلى: (.. لم يجاوز به غيره): نقله عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ١٠ مع بعض التصرف.
(٤) يقال: (وَرِيَ الزَنْدُ يَرِي)، و (وَرَى يَرِي)، و (وَرِيَ يَوْرَى). انظر: (وري) في: "كتاب العين" للخليل بن أحمد: ٨/ ٣٠٤، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٨٠، "الصحاح" ٦/ ٢٥٢٢. والزَنْدُ: العود الذي تُقدَح به النارُ، وهو يكون في الأعلى، والزندة: السفلى. انظر: "الصحاح" ٢/ ٤٨١ (زند).
(٥) في (أ): (يثب). (ب): (يتب). وفي (ج): ينب. وفي (د) كما في النسخ السابقة، ولكن بدون إعجام، ولا وجه لجميعها. والمثبت هو ما استصوبته؛ فقد جاء في "اللسان" (كبا الزَنْدُ): إذا لم يخرج ناره. انظر ٦/ ٣٨١٤ (كبا). وفي "مفردات ألفاظ القرآن" (ويقال: (فلانٌ واري الزند): إذا كان مُنْجِحا. و (كابي الزند): إذا كان مُخفِقًا) ٥٥٨ (وري).
(٦) في (ج): (وَريْتُ). ووردت الكلمةُ كما أثبَتُّ، في "مجالس العلماء" للزجاجي: ٨٢. وجاء في "كتاب العين" للخليل: ٨/ ٣٠٤: (وتقول للرجل الكريم: (إنه لواري الزِّناد، وورَّيْتُ بك زِنادي)؛ أي: رأيت منك ما أحب، مِنَ النُّصْح والنجابة والسماحة).
(٧) في (ج): (شربت). ومعنى (شَرِيَت)؛ أي: لجَّت، مِن: (شَرِيَ يَشرَى شرًى)،=
23
وزعم أبو عثمان (١): أنه استُعْمِل في هذا الكلام فقط، لم يُجاوَزْ به غيره.
ومعنى (وَرِيَت بك زِنَادِي)؛ أي: ظَهَر بك الخيرُ لي.
فالتوراة سُمِّيت [بذلك] (٢)؛ لظهور الحق بها. يدل على هذا المعنى قولُه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً﴾ [الأنبياء: ٤٨].
وقال المُؤَرّج (٣): هو من (التَّوْرِيَةِ) (٤)، وهي: التعريض بالشيء؛ وكان أكثر التوراة معاريضَ وتلويحًا، مِن غير إيضاحٍ وتصريح.
وفي (التوراة) قراءتان: الإمالة، والتفخيم (٥).
= و (استشرى فلان في غيِّه): إذا تَمَادَى ولَجَّ فيه. و (شَرِيَ البَرْقُ): إذا تتابع لَمَعانُه. و (شَرِيَتْ عينُه): إذا لجت وتابعت الهملان. و (شَرِيَت)؛ بمعنى: أصابها الشَّرِي، وهو: مرض جلدي له لذع شديد. انظر: "الأضداد" لابن الأنباري: ٢٢٨، ٢٢٩، ومادة (شري) في "الصحاح" ٦/ ٢٣٩١، "اللسان" ٤/ ٢٢٥٣.
(١) في (ج): (ابن عثمان). وهو: بكر بن بقية، وقيل: بكر بن محمد بن عديِّ بن حبيب. أبو عثمان المازني. من أهل البصرة، أستاذ المبرد، روى عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد. قال عنه المبرد: (لم يكن بعد سيبويه أعلم بالنحو من أبي عثمان). قيل إنه توفي: (٢٤٨ هـ)، وقيل: (٢٤٩ هـ). انظر: "أخبار النحويين البصريين" ٨٥، و"معجم الأدباء" ٧/ ١٠٧، و"الأعلام" ٢/ ٦٩.
(٢) زيادة يقتضيها السياق.
(٣) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤ ب.
(٤) في (د): (التوراة).
(٥) الإمالة: أن تُمِيل الفتحةَ نحو الكسرةِ، وتُمِيل الألفَ نحو الياء، مِن غير قلْبٍ خالص، ولا إشباع مبالغ. وهي كبرى وصغرى؛ فالكبرى: أن يُصرف الفتح إلى الكسر كثيرًا. وُيعبَّر عنهابـ (الكسر) مجازًا، أو (البطح) أو (الإضجاع)، وعند سيبويه: (الإجناح). والصغرى: أن يُصرف الفتح إلى الكسر قليلاً، ويسمى (بين اللفظين)؛ أي: بين الفتح وبين الإمالة الكبرى، أو يعبر عنها بـ (التقليل) و (التلطيف)، أو (بين بين). والتفخيم، أو الفتح هو النطق بالألف مركبة على=
24
فَمَنْ فَخَّم؛ فلأن الراءَ (١) حَرفٌ يَمْنُعُ الإمالة؛ لِما فيه مِنَ التكرير، كما يمنعه المستعلي (٢)، ولو كان مكان (٣) الراء مُستَعْلٍ مفتوحٌ، لمْ تَحْسُنْ الإمالةُ، كذلك إذا كانت الرّاءُ مفتوحةً.
ومَنْ أمالَهَا؛ فَلأنّ الألف لَمّا كانت رابعةً، لم تخلُ مِنْ أن تشبه ألِفَ التأنيث، أو الألف المنقلبةَ عن الواو، وعن (٤) الياء.
وألِفُ (٥) التأنيث تُمالُ (٦)، وإنْ كان قبلها مستعْلٍ؛ كقولهم:
= فتحة خالصة غير مُمالة. وهو شديد ومتوسط؛ فالشديد: فتح القاريء لِفِيهِ بلفظ الحرف الذي يأتي بعده ألف، وهو مكروهٌ. والمتوسط: ما بين الشديد، والإمالة المتوسطة، وهو المستعمل عند أصحاب الفتح من القراء.
انظر: "الرعاية" لمكي: ١٢٩، "جمال القراء" للسخاوي: ٢/ ٥٠٠، "التمهيد" لابن الجزري: ٥٧.
ووردت الإمالة في قراءة ﴿التَّوْرَاةَ﴾ عن: أبي عمرو، والكسائي، وابن ذكوان، وخلف. ووردت الإمالة بين اللفظين، والإمالة المحضة، عن: حمزة. ووردت الإمالة بين اللفظين عن نافع. أما التفخيم: فورد عن: ابن كثير، وعاصم، وابن عامر.
انظر: "السبعة" لابن مجاهد: ٢٠١، "الكشف" لمكي: ١/ ١٨٣، "التبصرة" لمكي: ٤٥٥، "التيسير" للداني: ٨٦، "الإقناع" لابن الباذش: ١/ ٢٨٢ - ٢٨٤، "النشر" لابن الجزري: ٢/ ٦١.
(١) من قوله: (فلأن الراء..) إلى (.. كذلك يميلون الراء): نقله بتصرف يسير عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ١٥.
(٢) حروف الاستعلاء: الخاء، والصاد، والضاء، والطاء، والظاء، والغين، والقاف. انظر: "الرعاية" لمكي: ١٢٣، "التمهيد" لابن الجزري: ٩.
(٣) في (أ): (مكان مكان).
(٤) في (د): (أو من).
(٥) في (د): (والألف).
(٦) في (د): (قال).
25
(فَوْضى) (١)، و (جَوْخَى) (٢) وهي مدينة (٣)، [فـ] (٤) كما أمالوا المستعليةَ معها، كذلك يميلون الرَّاءَ (٥) والألِفَ المنقلبةَ عن الياء والواو، وتمال نحو: ﴿رَمَى﴾ (٦) و ﴿سَجى﴾ (٧)، وأشباههما.
وقوله تعالى: ﴿وَالْإِنْجِيلَ﴾. قال الزجَّاجُ (٨): الإنجيْل، (إفْعِيل)، مِنَ (النَّجْل)، وهو (٩): الأصل. هكذا كان (١٠) يقول جميع أهل اللغة في (إنجيل).
قال ابن الأنباري (١١): معنى قولهم: (إنجيل) لِكِتاب الله: أصْلٌ
(١) في (أ): (قوضى). (ب): (قوضي). (د) قوصي. والمثبت من: (ج)؛ لموافقته للمصدر المنقول عنه، وهو "الحجة" للفارسي: ٣/ ١٥؛ ولأن ما لم أثْبِتْهُ لم أقف عليه في معاجم اللغة التي بين يدي.
(٢) في (ب): (جوخي). (د): (حوحي).
(٣) في (ج): (وهما مدينتان). وجوْخى: قرية من أعمال واسط بالعراق. انظر: "معجم ما استعجم" للبكري: ٤٠٣، "القاموس المحيط" ٢٥٠ (جاخ).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة ليستقيم بها الكلام، وهي موجودة في "الحجة" ٣/ ١٥.
(٥) قال الفارسي: (وإذا أمالوا مع المستعلي، كانت الإمالة مع الراء أجود؛ لأن الإمالة على الراء أغلب منها على المستعلي، ألا ترى أنه قد حكي الإمالة في نحو: (عمران)، ونحو: (فِراش)، و (جِراب). ولو كان مكان الراء المستعلي، لم تكن فيه إمالة؟..). "الحجة" ٣/ ١٦، وانظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ١٤١، ١٤٢.
(٦) من قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ سورة الأنفال: ١٧. وقد أمالها: أبو بكر، وحمزة، والكسائي. انظر: "الكشف" لمكي: ١/ ١٧٧، ١٨٤.
(٧) الضحى: ٢. وقد أمالها الكسائي. انظر: "الكشف" ١/ ١٨٩، "التيسير" للداني ٤٩.
(٨) في "معاني القرآن" له: ١/ ٣٧٥.
(٩) في (د): (وهي).
(١٠) (كان): ساقطة من: (ج).
(١١) في "الزاهر" ١/ ١٦٨. نقله عنه، مع التصرف في بعض عباراته.
26
للقوم (١) الذين (٢) نزل عليهم؛ لأنهم يَعْمَلونَ بما فيه. ويقال (٣): (لَعَنَ اللهُ ناجِلَيْهِ)؛ أي: والِدَيْهِ. وأنشد قولَ الأعشى:
إذْ نَجَلاهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلا (٤)
أي: كان أصلًا له إذ وَلَدَاهُ.
وقال قومٌ (٥): (الإنجيل)، مأخوذ من قول العرب: (نَجَلْتُ الشيء): إذا استخرجته وأظهرتُه. يقال للماء الذي يخرج من النَّزِّ (٦): (نَجْلٌ).
ويقال: (قد استَنْجَلَ الوادي): إذا أخرج الماء من النزِّ. فسمّي الإنجيلُ إنجيلًا؛ لأن الله تعالى أظهره للناس بعد طموس الحق ودُرُوسِهِ.
(١) في (د): (القوم).
(٢) في (ج): (الذي).
(٣) في (ج): (ويقولون).
(٤) عجز بيت، وصدره:
أنجب أيامَ والداه به
وهو في: ديوانه: ١٧١، وقد ورد منسوبًا له، في "مجالس ثعلب" ١/ ٧٧، "الزاهر" ١/ ١٦٩، "البارع" لأبي علي القالي: ٦٢٥، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٢٢ (نجل)، "المحتسب" لابن جني: ١/ ١٥٣، "الإفصاح" للفارقي: ٣٣٢، "اللسان" ٧/ ٤٣٥٥ (نجل)، "أوضح المسالك" لابن هشام: ص١٥٣، "همع الهوامع" للسيوطي: ٤/ ٢٩٧.
ويروى البيت: (أنجب أيامُ والديه به)، و (أزمان) بدلًا من: (أيام). والبيت من قصيدة يمدح بها سلامة ذا فائش الحميري. ومعنى البيت: ولدا ولدا نجيبا. فيكون سياق البيت كالتالي: أنجب والداه به -أيام إذ نجلاه- فنعم ما نجلا.
(٥) ممن قال ذلك: ابن دريد في "جمهرة اللغة" ١/ ٤٩٢ (نجل). وانظر: "المعرب" للجواليقي: ١٢٣.
(٦) النَزُّ، والنِزُّ: ما تَحَلَّبَ من الأرض من الماء. و (نَزَّت الأرض): صارت ذا نَزً. انظر: (نزز) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٥٠، "مجمل اللغة" ٨٤٣، "القاموس" ٥٢٧.
27
قال: وفي (الإنجيل) قولٌ ثالث: وهو أن يكون سُمّيَ إنجيلًا؛ لأن الناس اختلفوا فيه، وتنازعوا.
قال أبو عمرو الشيباني (١): التَّنَاجُل: التنازع. يقال: (تناجلَ القومُ): إذا تنازعوا (٢).
وقال جماعة من أهل التحقيق: التوراة والإنجيل والزَّبُور، أسماء عُرِّبت مِنَ السريانية، وليس يُطّردُ فيها قياس الأسماء العربيّة؛ ألا تراهم يقَولون لها بالسريانية: (تُورَيْ)، (انْكِليُون) (٣)، (زَفُوتَا) (٤).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٢٢ (نجل).
(٢) انظر: اشتقاقات ومعاني الإنجيل في "نزهة القلوب" للسجستاني: ١٢٣، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي: ٣/ ١٦١، "عمدة الحفاظ" للسمين الحلبي: ٥٦٢، إضافة إلى بقية معاجم اللغة في مادة (نجل).
(٣) في (ج): (ان كليون). قيل إنه معرب من الرومية وليس من السريانية أي الآرامية، وأصله: (إثانْجَليُوم)؛ أي: الخبر الطيب. فمدلوله مدلول اسم الجنس؛ ولذ أدخلوا عليه كلمة التعريف في الرومية. وعربه العرب فأدخلوا عليه لام التعريف. ويرى ابن عاشور أن من ذهب إلى كونه منقول من السريانية، قد تكون العبارة اشتبهت عليه، وأن الصواب (اليونانية)؛ لأن فيها (أووَانَيْليُون) (أي: اللفظ الفصيح. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور: ٣/ ١٤٩.
(٤) وممن ذهب إلى أن (الإنجيل) و (التوراة) اسمان أعجميان: الزمخشري، والجواليقي، والنسفي، وابن جزي، والبيضاوي، وأبو السعود، والسمين الحلبي، والطاهر بن عاشور. قال الزمخشري: (وتكلف اشتقاقهما من (الوَرْي) و (النَّجْل)، ووزنهما بـ (تفعلة)، و (إفعيل)، إنما يصح بعد كونهما عربيين). "الكشاف" ١/ ٤١٠. وانظر: "المعرب" للجواليقي: ١٢٣، "تفسير النسفي" ١/ ١٤١، "تفسير ابن جزي" ٧٣، "تفسير البيضاوي" ١/ ٦٢، "تفسير أبي السعود" ٢/ ٤، "عمدة الحفاظ" للسمين: ٥٦٢، "التحرير والتنوير" ٣/ ١٤٩. وقد استدل بعضهم بقراءة الحسن: (والأَنجيل) بفتح الهمزة، على أنه أعجمي؛ لأنه ليس =
28
٤ - وقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ اَلفُرْقَانَ﴾. أي: ما فرق بين الحق والباطل (١). قال ابن عباس في رواية عطاء (٢): يريد به جميع الكتب؛ لأنه فرّق فيها بين الحق والباطل (٣).
وقال السُّدِّي (٤): في هذه الآية تقديم وتأخير، وتقديرها: ونَزَّلَ التوراة والإنجيل وأنزل الفرقان؛ هُدًى للناس.
وقوله تعالى: ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾ أي: مِمَّن كَفَرَ به، (لأن) (٥) ذِكْرَ الكافرين جرى ههنا.
والانتقام: العقوبَة. يقال: (انتقم منه انتقامًا)؛ أي: عاقبه (٦).
= في أبنية العرب (أفعيل). انظر: "الزاهر" ١/ ١٦٩، "البحر المحيط" ٢/ ٣٧٨، "اللسان" ٧/ ٤٣٥٦ (نجل).
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٣٧٥، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٣٤٣، "تفسير البغوي" ٢/ ٦.
(٢) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه.
(٣) إضافة إلى هذا القول، فقد وردت الأقوال التالية في (الفرقان): أنه القرآن، وهو قول: قتادة والربيع وعطاء ومجاهد ومِقْسم والجمهور. أنه مصدر لكل ما يفرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام، وغير ذلك من أموره. وهو قول محمد بن جعفر ابن الزبير، ورجحه الطبريُّ؛ محتَجًّا بتقدم ذِكْر القرآن في آية: ٣. من هذه السورة، فلا داعي لإعادته. أنه التوراة، وهو قول أبي صالح، ورَدَّه ابن كثير؛ نظرًا لِتقدم ذِكْر التوراة أنه خواتيم سورة البقرة، قاله سعيد بن جبير.
انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ١٦٧، "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٣٧٥، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٥٨٨، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٣٤٣، "تفسير البغوي" ٢/ ٦، "زاد المسير" ١/ ٣٥٠، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٦٩.
(٤) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥، "تفسير البغوي" ٢/ ٦، "زاد المسير" ١/ ٣٥٠.
(٥) في (أ): (لال). والمثبت من: (ب)، (ج)، (د).
(٦) انظر: (نقم) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٥٤، "الصحاح" ٥/ ٢٠٤٥، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب (تحقيق عدنان داودي): ٨٢٢.
وقال اللَّيْث (١): يقال: (لَمْ أرْضَ منه حتى نَقِمتُ، وانتقمْتُ): إذا كافأه؛ عقوبةً بما صنع.
٦ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ﴾ (٢). التصويرُ: جعل الشيء على صورةٍ. والصورة: هيئة يكون (٣) عليها الشيء بالتأليف.
وأصلها مِن: (صارَه، يَصُوره): إذا أماله (٤). فهي صورَةٌ؛ لأنها مائلة إلى بِنْيَةٍ بالشَبَه لها.
وقوله تعالى: ﴿فِي الْأَرْحَامِ﴾. جَمْعُ رَحِم. وأصلها مِنَ: الرَّحْمَة (٥)؛ وذلك لأنها مما يُتَراحم بالاشتراك فيها، ويُتَعاطف.
وقوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَشَاءُ﴾. أي: ذكرًا (و) (٦) أنثى؛ قصيرًا وطويلًا؛ أسودَ وأبيض؛ سعيدًا وشقِيًّا. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ﴾ في مُلْكه، ﴿الْحَكِيمُ﴾
(١) قوله في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٥٤ (نقم).
(٢) لم يتعرض المؤلف لتفسير آية: ٥.
(٣) في (أ): (تلون). (ج) يلون. والمثبت من: (ب)، (د).
(٤) يقال: (صارَهُ يَصُورُه، ويَصِيرُه) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٥٨ (صار)، "غريب الحديث" لأبي عبيد بن سلّام: ٢/ ٣٠٩، "اللسان" ٤/ ٢٥٢٤.
(٥) انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب (تحقيق عدنان داودي): ٣٤٧. وورد في الحديث: (قال الله: أنا الله، وأنا الرحمن، خَلَقْت الرَّحِمَ، وشَقَقْت لها اسمًا من اسمي، فَمَن وَصَلَها وصَلْتُه، ومَنْ قَطَعَها بَتَتُّه). أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (١٩٠٧) كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في قطيعة الرحم، وقال الترمذي: (حديث صحيح)، والحاكم في "المستدرك" ٤/ ١٥٧. وصححه، ووافقه الذهبي، وأحمد في "المسند" ١/ ١٩٤. وعند البزار: (أنا الرحمن الرحيم، وإني شققت الرَّحِمَ من اسمي..). انظر: "كشف الأستار عن زوائد البزار": ٢/ ٣٧٩، تحقيق الأعظمي، وقال عنه الهيثمي: (وإسناده حسن). "مجمع الزوائد" ٨/ ١٥١.
(٦) في (ج): (أو). وكذا كُتِبت (أو) بدلا من (و) في (ج) فيما بعدها.
في خَلْقِه.
٧ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ﴾ إلى قوله: ﴿مُتَشَابِهَاتٌ﴾ اختلف المفسرون في المُحْكَمِ والمُتَشابِه.
واختلفت (فيهما) (١) الروايات عن ابن عبّاس، فقال في روايةِ عَطِيّة: المُحْكَم: الناسخ الذي يُعمل به. والمُتشابه: المَنْسُوخُ الذي يُؤمَنُ به، ولا يُعمل [به] (٢). وهذا قول قتادة، والربيع (٣).
وقال في رواية عطاء: المُحْكَمَات: (هي) (٤) الثلاثُ (الآيات) (٥) في (آخر) (٦) سورة الأنعام: ﴿قُلْ تَعَالَوْا﴾ [الأنعام: ١٥١]، إلى آخر الآيات
(١) في (ج): (فيها).
(٢) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج).
وهذا الأثر عن ابن عباس من رواية عَطِية، في "تفسير الطبري" ٣/ ١٧٢، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٥/ ب، "الدر المنثور" للسيوطي: ٣/ ٨. وسند هذا الأثر عن ابن عباس من طريق عطية قال عنه الشيخ أحمد شاكر: (إسنادٌ مُسَلْسَلٌ بالضعفاء). انظر: "تفسير الطبري" ١/ ٢٦٣ هامش (١) (ط. شاكر)، وقد تكلم على السَّنَدِ بإسهاب. وانظر كذلك السندَ، في "تفسير الثعلبي" ١/ ٤ أ. وقد أخرج الطبريُ أثرًا آخرَ عن ابن عباس، في نفس المعنى من رواية السُّدِّي الكبير، عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ١٧٢، وانظر تعليق الشيخ أحمد شاكر على سنده، في: ١/ ١٥٦ - ١٦٠ هامش (٢) (ط. شاكر).
(٣) انظر الأثر عنهما في "تفسير القرآن" لعبد الرزاق الصنعاني (تحقيق د. مصطفى مسلم): ١/ ١١٥، "تفسير الطبري" ٣/ ١٧٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥ ب، "تفسير البغوي" ١/ ١٧، " المحرر الوجيز" ٣/ ١٧ - ١٨.
(٤) (هي): ساقطة من: (ج).
(٥) في (ب): (آيات).
(٦) في (ج): (أواخر).
31
الثلاث (١).
﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ يريد: (التي) (٢) تشابهت اليهود؛ وهي حُرُوف التَّهَجِّي في أوائل السُّوَرِ؛ وذلك أنهم أوَّلُوها على حِسَابِ الجُمَّلِ، وطلبوا أن يَسْتَخرِجوا منها مُدَّة بقاء هذه الأمَّةِ، فاختلط عليهم واشْتَبَه (٣).
(١) لم أجد هذا الأثر عن ابن عباس من رواية عطاء فيما رجعت إليه من مصادر، وإنما الوارد عنه هو من رواية أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن قيس. وقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٢٨٨، وصححه، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٥٩٢ كما أورده السيوطيُّ في "الدر المنثور" ٢/ ٦، وعزا إخراجه لسعيد بن منصور، وابن مردوية وورد من نفس الطريق بلفظ آخر: (قال: هي الثلاث الآيات، مِنْ ههنا: ﴿قُلْ تَعَالَوْا﴾ [الأنعام: ١٥١]، إلى ثلاث آيات، والتي في (بني إسرائيل): ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] إلى آخر الآيات). أخرجه الطبريُّ في "تفسيره" ٣/ ١٧٢، وابن أبي حاتم ٢/ ٥٩٢، والثعلبي ٣/ ٥/ ب، من رواية أبي إسحاق.
وأورده السيوطيُّ في "الدر المنثور" ٢/ ٦ وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد، وابن المنذر. وانظر: "الإتقان" له: ٣/ ٥. وقال ابن عطية فى "المحرر الوجيز" ٣/ ١٧ - ١٨: (وهذا عندي مِثالٌ أعطاه في المُحكَمَات).
(٢) في (ج): (الذي).
(٣) موقف اليهود من حروف أوائل السور، ورد في أثر طويل رواه محمد بن إسحاق، عن الكَلْبِيُّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله، وروايته له بصيغة التمريض؛ حيث قال: (.. فيما ذُكر لي عن عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله..). انظر: "سيرة ابن هشام" ٢/ ١٧٠ - ١٧١. فسنده ضعيف لِمَا فيه مِنْ مجهول. وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٣/ ١٧٤، وقال عنه الشيخ أحمد شاكر: (ضعيف الإسناد). وقد أورد شاكر أسانيد هذا الأثر وبَيَّن اضطرابَها، ثم قال: (وعندي أن هذا الاضطراب، إنما هو من ابن إسحاق، أو لَعَلَّه رواهُ بهذه الأسانيد كمَا سَمِعَه، وكلها ضعيف مضطرب). "تفسير الطبري" ١/ ١٧٩ (ط. شاكر). وأورده الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٦ ب، وابن كثير في "تفسيره" ١/ ٣٧٠، وقال عنه: (مداره=
32
وهذا القول، اختيار الفرّاء (١).
وقال في رواية الوالبي (٢): محكمات القرآن: ما فيه من الحلال
= على محمد بن السائب الكلبي، وهو مِمَّن لا يُحتج بما انفرد به). وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٨، وأشار إلى ضعفه، والشوكانى في "فتح القدير" ١/ ٤٨٠ وَرَدَّه هذا وقد استدل الطبري بهذه الرواية على أن هذه الحروف هي من حساب الجُمّل، مع أن الرواية التي أوردها مدارها على الكلبي، الذي ضعفه الطبري نفسُهُ، وعدّه ممن لا يجوز الاحتجاج بنقله. وقال عنه ابن تيمية: (فهذا نقلٌ باطلٌ)، وبيَّن بطلانَه من ثلاثة وجوه، منها: أنه من رواية الكلبي. وقال ابن كثير: (وأمّا مَنْ زَعَم أنها دالَةٌ على معرفة المُدَدِ، وأنه يُستخرجُ من ذلك أوقاتُ الحوادث والفِتَنِ والمَلاحِمِ، فقد ادّعَى ما ليس له، وطار في غير مطاره)، ثم قال: (كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحًا أن يُحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإنْ حُسِبت مع التكرار فأطم وأعظم). انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ١٧٥، "تفسير سورة الإخلاص" لابن تيمية: ١٩١. "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٧٠.
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ١٩٠.
(٢) يريد المؤلف بـ (الوالبي) والله أعلم: علي بن أبي طلحة، الراوي عن ابن عباس، وهكذا سماه الثعلبي شيخ المؤلف في مقدمة تفسيره "الكشف والبيان" ١/ ٥ أ، وساق سنده إليه، فقال: (.. أن معاوية بن صالح حدثه عن علي بن طلحة [هكذا في المخطوط، والصواب: ابن أبي طلحة] الوالبي، عن ابن عباس)، وهو نفس السند الذي روى به ابن أبي طلحة التفسير عن ابن عباس، وهو نفس السند الذي جاءت به هذه الرواية عنه في هذا الموضع في "تفسير الطبري" "تفسير ابن أبي حاتم". ولم أقف في المصادر التي رجعت إليها، على مَنْ سَمَّاه بـ (الوالبي) سوى الثعلبي والواحدي، والزركشي في "البرهان" ٢/ ١٥٨.
وهو: علي بن أبي طلحة "سالم" بن المخارق الهاشمي، أبو الحسن. أرسل عن ابن عباس ولم يره، عالم بالتفسير، رواه عن ابن عباس مرسلًا، والواسطة بينهما مجاهد، أو سعيد بن جبير. وتُعَدُّ هذه الطريقة إلى ابن عباس في التفسير من أقوى=
33
والحرام، والحُدُود والفرائض، مِمّا يُعمل به. والمتشابهات: مُقَدَّمُه ومُؤَخَّرُه، وأمثالُهُ وأقسامه، وما يُؤمَنُ به (ولا يُعمل به) (١).
وقال ابن كَيْسَان (٢): المُحْكَمَات: حُجَجُها واضحةٌ، ودَلائِلُها لائحة، (لا) (٣) حاجة بمن سمعها إلى طلب معانيها. والمتشابه: ما يُدرَك عِلْمُهُ بالنظر. وهذا القول؛ اختيار أبي إسحاق؛ لأنه حكى هذا القول، وقال (٤): معنى ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾: أي: أُحكِمت في الإبانة، فإذا سمعها السامعُ لَمْ يَحْتَجْ إلى تأويلها؛ لأنها ظاهرة بَيِّنةٌ؛ نحو: ما قَصّ اللهُ تعالى مِنْ
= الطرق إليه. واعتمد عليها البخاريُّ في صحيحه قال الإمام أحمد: (بمصر صحيفة تفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا، ما كان كثيرًا) مات سنة (١٤٣هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ١٩١، و"المراسيل" ١٤٠، و"تاريخ بغداد" ١١/ ٤٢٨، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ١٤٣، و"تهذيب التهذيب" ٧/ ٣٣٩، و"الإتقان" ٢/ ٤١٤ - ٤١٥.
(١) في (ج): (وما لم يُعمل به) والأثر أخرجه الطبري في "تفسيره" ٣/ ١٧٢، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٥٩٣، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ٨. وأورده السيوطى في "الدر" ٢/ ٩، وزاد نسبة إخراجه كذلك لابن المنذر، وأورده كذلك في: "الإتقان": ٣/ ٤.
(٢) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦ ب، وأورده بالمعنى النحاسُ في "معاني القرآن" له: ١/ ٣٤٥. وابن كسيان، أكثر من واحد، وهو هنا: عبد الرحمن بن كيسان، أبو بكر الأصم المعتزلي. كان من أفصح الناس، وأورعهم، وأفقههم، وله تفسير للقرآن، وكتب كثيرة ذكرها ابن النديم. قال ابن حجر: (هو من طبقة أبي الهذيل العلاف، وأقدم منه)، توفي سنة (٢٠٠ هـ)، وقيل: (٢٠١ هـ). وقد نَصّ الثعلبيُّ على اسمه في مقدمة تفسيره "الكشف والبيان" وجعله من مصادره، وعليه اعتمد الواحديُّ. انظر: "الفهرست" لابن النديم: ١٢٠، "لسان الميزان" لابن حجر: ٤/ ٢٨٨، "طبقات المفسرين" للداودي: ١/ ٢٧٤، "تفسير الثعلبي" (المقدمة) ١/ ١٠.
(٣) في (ج): (ولا).
(٤) في "معاني القرآن وإعرابه" له: ١/ ٣٧٦. نقله عنه باختصار وتصرف يسير.
34
أقاصيص الأنبياء، مِمّا اعترف به أهلُ الكِتَاب، وما أخبر اللهُ جلّ وعزَّ به مِنْ إنشاءِ الخَلْقِ، في قوله: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ [المؤمنون: ١٤] الآية. ومِنْ خَلْقِهِ مِنَ الماءِ (كلَّ) (١) شيءٍ (حَيٍّ) (٢)، وما خلق مِنَ الثمار، وهذا (ما) (٣) لَمْ يُنْكِروا، (وأنكروا) (٤) ما احتاجوا فيه إلى النَّظَرِ مِنْ أنَّ اللهَ يبعثهم بعد أنْ يَصِيروا تُرابًا، (ولُوْ نَظَرُوا وتَدَبَّروا) (٥) لَصَارَ المُتَشابِهُ عندهم كالظاهر؛ لأنَّ مَنْ قَدَرَ على الإنشاء أوّلًا، قَدَرَ على الإعادَةِ.
وقد نَبَّهَ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا﴾ [يونس: ٧٩].
وقال محمد بن جعفر بن الزبير (٦): المُحْكَم: ما لا يَحْتَمِل مِنَ التأويل غير وَجْهٍ واحدٍ. والمُتَشابه: ما احتمل من التأويل أوجُهًا (٧). وهذا
(١) في (ج): (كل كل).
(٢) (حي): ساقطة من: (د).
(٣) في (ب): (مما).
(٤) في (ج): (ولو أنكروا).
(٥) (ولو نظروا وتدبروا): ساقطة من: (ج).
(٦) هو: محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام الأسدي المدني. من أتباع التابعين، كان من فقهاء أهل المدينة، ثقة، مات ما بين (١١٠ هـ و ١٢ هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٧/ ٢٢١، "تهذيب التهذيب" ٣/ ٥٣٠، "تقريب التهذيب" ص ٤٧١ (٥٧٨٢).
(٧) هذا معنى كلام محمد بن جعفر، ذكره: الطبري في "تفسيره" ٣/ ١٧٣، ولفظه عنده من رواية محمد بن إسحاق: (قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾: فيهن حُجَّةُ الرَّبِّ، وعصمةُ العباد، ودفعُ الخصوم والباطل؛ ليس لها تصريف ولا تحريف عما وُضِعت عليه. ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾: في الصدق؛ لَهُنَّ تصريفٌ وتحريف وتأويل، ابتلى اللهُ فيهن العبادَ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام؛ لا يُصرَفْنَ إلى الباطل، ولا يُحرفن عن الحق).=
35
اختيار ابن الأنباري، وكثيرٍ مِنَ العلماء (١).
[و] (٢) قال ابن الأنباري (٣): الآية المُحْكَمَةُ: التي مَنَعَتْ كَثْرَةَ التأويلات؛ لأنها لا تَحْتَمِلُ إلّا تفسيرًا واحدا.
والعرب تقول (٤): (حَكَمتُ) و (أحكمتُ) و (حَكَّمْتُ)؛ بمعنى: (رَدَدْت) (٥)، ومَنَعْتُ. والحاكم يَمْنَعُ (الظالمَ) (٦) من الظُلْم.
قال الأصمعي (٧): وأصلُ الحُكُومَةِ: رَدُّ الرَّجُلِ عَنِ الظُّلْمِ، ومِنْهُ قولُ لَبِيد:
أَحْكَمَ الجِنْثِيَّ مِنْ عَوْراتِها كُلُّ حِرْباءٍ إذا أُكْرِهَ صَلْ (٨)
= وانظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٨، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٠، "الدر المنثور" ٢/ ٧. وقال ابنُ عَطيَّة في "المحرر الوجيز" ٣/ ١٨: (وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية).
(١) ونسبه الماورديُّ، وابنُ الجوزي للشافعي رحمه الله. انظر: "النكت والعيون" ١/ ٣٦٩، "زاد المسير" ١/ ٣٨١.
(٢) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج).
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) من قوله: (والعرب..) إلى نهاية بيت الشعر: (.. أحكموا سفهاءكم): نقله بتصرف واختصار عن "تهذيب اللغة" للأزهري: ١/ ٨٨٦.
(٥) في (أ): رَدّدت. والمثبت من: بقية النسخ، ومن "التهذيب".
(٦) في (ج): (الظلم).
(٧) قوله: في "جمهرة اللغة" لابن دريد: ١/ ١٤٣ (أبواب النوادر)، وفي "تهذيب اللغة" كما سبق.
(٨) البيت في "ديوان لبيد" ١٩٢. وقد ورد منسوبًا له، في: كتاب "المعاني الكبير" لابن قتيبة: ٢/ ١٠٣٠، "جمهرة اللغة" لابن دريد: ١/ ١٤٣، "تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٦ (حكم)، "شرح الأبيات المشكلة الإعراب" للفارسي: ٥٤١، "الصحاح" ١/ ١٠٩ (حرب)، "مجمل اللغة" لابن فارس: ١/ ١٩٩ (جنث)، "اللسان" ١/ ٣٠٦ =
36
قال: (الجِنْثِيّ): السَّيْف (١)؛ أي: ردَّ السيفَ عن (٢) عوراتِ (الدرع) (٣) (وهي) (٤) فُرَجُها، كلُّ حِرْباءٍ وهُوَ المِسْمَارُ الذي يُسَمَّرُ به حَلَقُها (٥).
ومِنْهُ حديثُ النَّخَعِيِّ: (حَكّمْ اليتيمَ كما تُحَكِّم وَلَدكَ) (٦)، أي: امنعه من الفَسَاد (٧).
= (حرب)، ١٢/ ١٤١ (حكم). وورد غير منسوب في "المخصص" لابن سيده: ١٢/ ٢٤٠.
وللبيت رواية ثانية: برفع (الجِنْثِيُّ)، ونصب (كلَّ). ومعنى (إذا أكرِهَ صَلّ): إذا أكره لِيُدْخَلَ في الحِلَقِ، سمعت له صليلًا. وعلى الرواية الثانية، يكون معنى الإحكام في البيت: إحكام الصنعة، و (الجِنْثِي): الزَّرَّاد (الحداد)؛ أي: أحْكَمَ الزَّرَّادُ مساميرها. انظر: "كتاب المعاني الكبير" ٢/ ١٠٣٠، "شرح الأبيات المشكلة" ٥٤١، "جمهرة اللغة" ٣/ ١٣٢٢.
(١) في "القاموس" (الجُنْثي بالضم: السيف، والزَّرَّاد، وأجود الحديد، ويُكسر). ص ١٦٦ (جنث)، وانظر: "مجمل اللغة" ١/ ١٩٩ (جنث).
(٢) في (ب): (من).
(٣) في (ج): (الدروع).
(٤) في (ب): (وهو).
(٥) انظر: (حرب) في "الصحاح" ١/ ١٠٨، "اللسان" ٢/ ٨١٨.
(٦) الأثر في "غريب الحديث" لأبي عبيد: ٢/ ٢٤٠، وقال: (حدثنيه ابنُ مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم..)، "تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٦، "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري: ١/ ٣٠٣، "غريب الحديث" لابن الجوزي: ١/ ٢٣١، "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير: ١/ ٤٢٠.
(٧) وقيل: حكمه في ماله ومِلْكِهِ إذا صَلَح، كما تحَكِّم وَلدَكَ في مِلْكه. ولم يرتض الأزهريُّ هذا المعنى، ورجح المعنى السابق. انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٦ (حكم)، "الزاهر" لابن الأنباري: ١/ ٥٠٣، "النهاية في غريب الحديث" ١/ ٤٢٠، والمراجع السابقة.
37
وقال جرير:
.. أَحْكِمُوا (١) سُفهاءَكُمْ (٢)...
يقول: امنعوهم (٣) من التَعرُّض.
قال أبو بكر (٤): والمُتَشَابِهُ، ما اعتَوَرَتْهُ تأويلات. وسُمِّيَ مُتشابهًا؛ لأن لفظَهُ يُشْبِهُ لفظَ غيره، ومعناه يخالف معناه.
وقال بعضهم (٥): المُحْكَمُ: ما عرفَ العلماءُ تأويلَهُ، وفهموا معناه. والمتشابه: ما ليس لأحدٍ إلى عِلْمِهِ سبيلٌ، مِمَّا استأثرَ اللهُ بِعِلْمِهِ؛ وذلك نحو: وقت خروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدجّال، ونزول عيسى، وقيام الساعة، وعِلْم الرُّوح.
ويُسْأَلُ (فيقال) (٦): ماذا (٧) أراد اللهُ بإنزال المُتشابِهِ في القرآن؛ وأراد
(١) في (ج): (حكموا).
(٢) البيت في: ديوانه: ٤٧. وتمامه:
أَبنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهاءَكمْ إنِّي أخافُ عليكُمُ أنْ أغْضَبَا
وقد ورد منسوبًا له، في "غريب الحديث" لأبي عبيد: ٢/ ٤٢١، "الكامل" للمبرد: ٣/ ٢٦، "الزاهر" ١/ ٥٠٣، ومادة (حكم) في "تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٦، "الصحاح" ٥/ ١٩٠٢، "مجمل اللغة" ١/ ٢٤٦، "أساس البلاغة" للزمخشري: ١/ ١٩١، "اللسان" ٢/ ٩٥٣. وورد غير منسوب، في "غريب الحديث" للخطابي: ٢/ ٤٦٢، "الفائق" للزمخشري: ١/ ٣٠٣. وقد وردت روايته في "الكامل" (أبني حنيفة نَهْنِهُو).
(٣) في (ج): (امنعوا السفهاء).
(٤) هو ابن الأنباري، ولم أقف على مصدر قوله.
(٥) من قوله: (وقال..) إلى (.. وعلم الروح): نقله بتصرف يسير عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦ أ، كما أن هذا القول موجود في "تفسير الطبري" ٣/ ١٧٣، مع اختلاف يسير جدًّا، إلا أن سياق المؤلف له أقرب إلى سياق الثعلبي.
(٦) في (د): (فيقول).
(٧) من قوله: (ماذا..) إلى (.. يقع العجز والبلادة): نقله عن "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة: ٨٦.
38
بالقرآن لِعِبادِهِ الهُدَى والبيان؟ فيقال: إنَّ القرآن نَزَلَ بألفاظِ العَرَبِ ومذاهبها في: الإيجاز؛ (للاختصار) (١)، والإطالَةِ؛ (للتوكيد) (٢)، والإشارة إلى الشيء، واغماض بعض المعاني؛ حتى لا يظهر عليه إلا اللَقِن (٣). ولو كانَ القرآنُ كلُّهُ ظاهرًا مكشوفًا، حتى يستوي في معرفته العالمُ والجاهلُ، لَبَطَلَ التفاضُلُ بين الناس، وسقطت المِحْنَةُ، وماتت الخواطرُ. ومَعَ الحاجَةِ تَقَعُ الفِكْرةُ (٤) والحِيلَةُ، ومع الكفاية يقع العَجْزُ والبَلاَدَةُ (٥).
وأصل التشابه (٦): أن يُشْبِهَ اللفظُ اللّفظَ في (الظاهر) (٧)، والمَعْنَيَانِ مُخْتَلِفان. قال اللهُ عز وجل في وَصْفِ ثِمَارِ الجَنَّةِ: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥]؛ أي: مُتَّفِقَ المَنَاظِرِ، [و] (٨) مُخْتَلِفَ الطُعُوم (٩).
(١) في (د)، "وتأويل المشكل": (والاختصار).
(٢) في "تأويل المشكل": (والتوكيد).
(٣) في (د): (الكفر). واللَّقِن، هو: سريع الفهم. انظر: "القاموس" ص ١٢٣٢١ (لقن).
(٤) في (ج): (النكر).
(٥) انظر الحكمة في ورود المحكم والمتشابه في القرآن، في "الكشاف" ١/ ٤١٢، "تفسير الفخر الرازي" ٧/ ١٨٥ - ١٨٦، "البرهان في علوم القرآن" للزركشي: ٢/ ٧٥، "الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة" للرجراجي: ١٦١، "أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات" للكرمي: ٥٠، "نور من القرآن" لعبد الوهاب خلاف: ٦٧، "علوم القرآن" د. عدنان زرزور: ١٧٧، "الناسخ والمنسوخ بين الإثبات والنفي" لعبد المتعال الجبري: ١٣٥.
(٦) من قوله: (وأصل التشابه..) إلى (.. وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة، مشكل): نقله بتصرف واختصار يسيرين عن "تأويل مشكل القرآن" ١٠١ - ١٠٢.
(٧) (الظاهر): ساقطة من: (ج).
(٨) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج).
(٩) ممن قال هذا: ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، والربيع، وغيرهم.=
39
ثم يقال لكل ما غَمُضَ ودَقّ: (مُتشابهٌ)، وإنْ لم تقع الحَيْرَةُ فيه، مِنْ جِهَةِ (الشَّبَهِ) (١) بغيره ألا تَرَى أنه قد قيل للحروف المقَطَّعَةِ في أوائل السُّوَر: متشابهة؟ (وليس) (٢) الشكُّ (٣) فيها. والوقوف فيها؛ لمشاكَلَتِها غيرَهَا والتباسِها به. ومثل المتشابه: المُشكِلُ.
واعلَمْ (٤) أنَّ القرآن كُلَّهُ محكَمٌ مِنْ وَجْهٍ؛ على معنى: أنه (حقٌّ) (٥) ثابت (٦). قال اللهُ تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: ١]. ومُتَشابِهٌ مِنْ وَجْهٍ؛ وهو أن يشبه بعضه بعضًا في الحُسْنِ، ويُصدّق بَعْضُه بعضًا (٧)، وهو قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ (٨) [الزمر: ٢٣].
= انظر: "تفسير الطبري" ١/ ١٧٣، "تفسير القرطبي" ١/ ٢٠٦،"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: ٢٦، "تفسير المشكل" لمكي: ٢٥، "تذكرة الأريب في تفسير الغريب" لابن الجوزي: ١/ ٥٣، "عمدة الحفاظ" للسمين الحلبي: ٢٥٩.
(١) في (ج): (الشيء).
(٢) في (ج): (ولبس).
(٣) قوله: (الشك..) إلى (ومثل المتشابه): ساقط من: (ج).
(٤) من قوله: (واعلم..) إلى (.. ويصدق بعضه بعضا) نقله عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦ب.
(٥) (حق): ساقطة من: (ج).
(٦) تدور معاني الإحكام العام هنا على المعنى اللغوي للكلمة، أي: بمعنى الاتقان، والتدعيم، ومنع تطرق الخلل إلى ألفاظه وأساليبه ومعانيه؛ فهو محكم الألفاظ، لا يعتريها خلل ولا خطأ؛ ومحكم الأساليب، لا يعتورها رِكَّةٌ ولا تعقيد؛ ومحكم المعاني، فكلها حق ورسوخ، وثبات.
(٧) قوله: (في الحسن ويصدق بعضه بعضًا): ساقط من: (ج).
(٨) قال ابن العربي: (وأما كونه متشابها) فبمعنى واحد، وهو ما وصفناه من الأحكام الذي يجري في جميع سوره وآياته). "قانون التأويل" له: ٦٦٥. ويقول: "والمعنى الذي صار به القرآن كله محكما، بذلك المعنى، صار كله متشابهًا). المرجع السابق: ٦٦٥. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالتشابه هنا: تماثل الكلام، وتناسبه؛ بحيث يصدق بعضه بعضًا. فالإحكام العام في معنى التشابه العام، بخلاف الإحكام الخاص والتشابه الخاص؛ فإنهما متنافيان). ذكره ابن الوزير في "إيثار الحق على الخلق" ٩٢. وانظر في هذا المعنى: "الرسالة التدميرية" لابن تيمية: ٦٥، "القائد إلى تصحيح العقائد"، لعبد الرحمن المعلمي: ١٦١، "ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان" لابن الوزير: ١٢٤، "أقاويل الثقات"، للكرمي: ٤٨.
40
وقوله تعالى: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾. أي: أصل الكتاب الذي يُعْمَل عليه (١). فَمَنْ جَعَلَ (المُحْكَمَات): الآيات الثلاث في (الأنعام)، قال: يريد: هُنّ أم كلِّ كِتَابٍ أنزله الله على نَبِيٍّ، فيهن كلُّ ما أحلّ، وفيهن كلُّ ما حرّم. ووحَّد (الأمَّ) بعد قوله: ﴿هُنَّ﴾؛ لأن (٢) الآياتِ كلَّها في تكامُلِها واجتماعها، كالآية الواحدة، وكلام الله واحد.
وقال أبو العباس (٣): لأنهن بكمالِهِنَّ (أُمٌّ)، وليست كلُّ واحدِةٍ منهن (أُمَّ الكتاب)، على انفرادها.
وقال الأخفش (٤): وَحَّدَ ﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾ بالحكاية؛ على تقدير الجواب؛ كأنه قيل (٥): ما أمُّ الكتاب؟ فقيل: هنّ أم الكتاب؛ كما تقول:
(١) والعرب تطلق (الأم) على كلِّ ما جُعِلَ مُقَدَّما لأمْرٍ، وله توابعُ تَتْبَعُه، وكلِّ جامعٍ لأمْرٍ؛ ومِنْ ذلك: رايَةُ الجيش، والجِلْدَة التي تجمع الدِّمَاغ، وتسمى: (أم الرأس)، ومكة المكرمة، وتسمى: (أم القرى)؛ لِتقدمها أمام جميعها، أو لأن الأرض دُحِيت منها، فصارت لجميعها أمَّا.. وهكذا. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ١٧٠، "الصحاح" ٥/ ١٨٦٤ - ١٨٦٥ (أمم)، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥ أ.
(٢) من قوله: (لأن..) إلى (.. وكلام الله واحد): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥ ب. وانظر: "تفسير الطبري" ٣/ ١٧٠.
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ١٩٣. نقله عنه بالمعنى.
(٥) في (ج): (قيل له).
41
مَنْ نَظِيرُ زيد؟ فيقول قومٌ: نحن نظيرُه (١)؛ كأنهم حَكَوا ذلك اللفظ. وهذا على قولهم (٢): دَعْنِى مِنْ (تَمْرَتان) (٣)؛ أي: مِمَّا يقالُ له (تمرتان).
قال أبو بكر (٤): وقولُ الأخفش بِعيدٌ مِنَ الصواب في الآية؛ لأن الإضمار لمْ يَقُمْ عليه دليلٌ، ولم تَدْعُ إليه حاجةٌ. وقيل (٥): أراد: كل آية منهنّ أمُّ الكتاب؛ كما قال: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠]؛ أي: كلُّ واحدٍ منهما آية (٦).
قال العلماءُ، وأصحابُ المعاني: معنى قوله: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أي: أصلُ الكتاب الذي يُسْتَدَلُّ به على المتشابه وغيره مِنْ أمور الدين. فإذا وردت الآية المتشابهة رُدَّت إلى المحْكَمَةِ، فكانت المُحْكَمَةُ (٧) مُفَسِّرَةً لها، وقاضِيَةً على معناها.
فـ ﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾ معناه: أصل الكتاب الذي ترجع إليه التأويلات، وتضم جميع المعاني، لأن الأم يرجع إليها بنوها فتضمهم.
(١) العبارة في "معاني القرآن" للأخفش: (.. كما يقول الرجل: ما لي نصير. فيقول: نحن نصيرك).
(٢) في (ج)، (د): (وعلى هذا قولهم).
(٣) في (ب): تمراتان.
(٤) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده السمين الحلبي في "الدر المصون" ٣/ ٢٦.
(٥) هو قول ابن كيسان. انظر: "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٣٤٨.
(٦) فعيسى عليه السلام وأمَّه، مشتركان جميعا في الأمر العجيب الخارق للعادة، فهي قد جاءت به مِنْ غير زوج، وهو مِنْ غير أبٍ. فلم تكن الآيةُ لها إلّا بِهِ، ولا لَهُ إلّا بها. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ١٧١، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٣٤٨، "تفسير الفخر الرازي" ٢٣/ ١٠٣.
(٧) (فكانت المحكمة): ساقطة من: (د).
42
مثال ما ذكرنا: قوله تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ [فاطر: ٣]. هذه آيةٌ (١) مُحْكَمَةٌ، لا تحتمل تأويلًا غير ظاهرها (٢)، لأن معناها: لا ينشئ الصُّوَرَ (٣)، ولا يُرَكِّبُ الأرواحَ في الأجسام غيره عز وجل.
وأما الآية المتشابهة: فقوله عزَّ ذِكْرُه: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: ١٤]؛ يقع هذا متنافيًا عند الجاهل؛ إذْ كان قالَ في ذلك الموضع: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ [فاطر: ٣]، وَجَعَلَ في (٤) هذا الموضع مع الله خالِقِين، فاحتجنا إلى رَدِّ هذه الآية، إلى الآية المحكمة؛ لِتَحْكُمَ (٥) عليها، فقلنا: قد نَفَت الآيةُ المُحْكَمة أن يكون مع الله تعالى خالق يُنْشئ وُيحْيي.
ووجدنا العربَ تجعل (الخَلْقَ) على مَعْنيَيْن: أحدهما: (الإنشاء)، والآخر: (التقدير). (٦) فنفت الآيةُ المُحْكَمة (الخَلْقَ) الذي بمعنى: (الإنشاء)، فبقي الذي معناه (٧): (التقدير). فَحَمَلْنا المُتشابِهَ عليه، وقلنا: تأويلُهُ: فتباركَ اللهُ أحْسَن المُقَدِّرِين؛ كما قال: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾
(١) في (ب): (الآية).
(٢) في (د): (غير ظاهر).
(٣) في (د): (الصورة).
(٤) (في) ساقطة من: (ج).
(٥) في (ج): (ليحكم)، وفي (د): (لنحكم).
(٦) انظر: "الأضداد" للأصمعي (ضمن ثلاثة كتب في الأضداد): ٥٥، "تأويل مشكل القرآن " ٥٠٧، "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج: ٣٥، "الزاهر" ١/ ٨٤، "تهذيب اللغة"١/ ١٠٩٣، "قاموس القرآن" للدامغاني: ١٦٣، ١٦٤، "مفردات ألفاظ القرآن". للراغب: ٢٩٦ (خلق)، "نزهة الأعين النواظر" لابن الجوزي: ٢٨٣، "اللسان" ٢/ ١٢٤٣ (خلق).
(٧) (الذي معناه): ساقط من: (ج).
43
[العنكبوت: ١٧]، أي: ويُقَدِّرُون (١).
ومن هذا القَبِيل أيضًا، قولُه: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: ٥٢]؛ هذه مُحْكَمَةٌ لا تَحْتَمِل التأويلات. ثم قال: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧]؛ فَأَثْبَتَ في المُتَشَابِهِ (٢) ما نفاهُ في المحكمة؛ فكانت المُحْكَمة قاضيةً عليها؛ لأنا وجدنا النسيان في كلام العرب على مَعْنيَيْنِ: أحدهما: (الإغفال)، والآخر: (التَّعَمُّدُ والتَّرْكُ) (٣).
فقلنا في قوله عز وجل: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧]: تركوا (٤) العَمَلَ لله، فَتَرَكَ أنْ يُثِيبهم (٥)؛ فكان في المُحْكَمِ بَيانُ المُتَشابِهِ.
(١) في (د): (وتعبدون). وفي "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٩٣: (وتقدرون). وانظر: "تفسير الطبري"٢٠/ ١٣٧، "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٩٣ (خلق)، "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج: ٣٦، "تفسير القرطبي" ١٣/ ٣٣٥، "لسان العرب" ٢/ ١٢٤٣ (خلق)، "تفسير أبي السعود" ٧/ ٣٤، "الدر المنثور" ٦/ ٤٥٧، "فتح القدير" ٤/ ١٩٧. وقد سبق أن ذكر المؤلف عند تفسير آية: ٢١ من سورة البقرة: أن الخلق المنسوب لغير الله، إنما هو قياس وتشبيه وافتراء ومحاكاة وتقدير، على قدر قدره غيره، فخلق الله ذاتي، وخلق غيره على سبيل الاستعارة والتقدير.
(٢) في (د): (المتشابهة).
(٣) يعني أن النسيان، إما ترك الشيء عن غفلة وسهو وعدم ذكر، أو ترك الشيء مع التعمد. انظر: "الأضداد" لابن الأنباري: ٣٩٩، "الأضداد" لأبي حاتم السجستاني (ضمن ثلاثة كتب في "الأضداد" ١٥٦، "قاموس القرآن" للدامغاني: ٤٥٤، "نزهة الأعين النواظر" ٥٧٩، "الوجوه والنظائر في القرآن" د. سليمان القرعاوي: ٦١٤، "المصباح المنير" ٢٣١ (نسو).
(٤) في (ج): (ترك).
(٥) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: ١٩٨، "تفسير الطبري" ١٠/ ١٧٥، "الأضداد" لابن الأنباري: ٣٩٩، وتذكرة الأريب "في تفسير الغريب" لابن الجوزي: ١/ ٢٢٠.
44
ومن هذا: قولُ اللهِ عز وجل: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ (١)، احتمل في اللغة أنْ يكونَ كاستواءِ الجالِسِ على سَرِيرِهِ، واحتَمَلَ أن يكون بمعنى الاستيلاءِ؛ وأحَدُ الوَجْهَيْنِ لا يجوز على الله؛ لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] وهذا من المُحْكم، الذي هو أصلٌ يُردُّ إليه المتشابهُ، فقلنا: إنَّ استواءَهُ بمعنى: الاستيلاء (٢) ومثل هذا كثيرٌ، وفيما
(١) سورة الأعراف: ٥٤، ويونس: ٣، والرعد: ٢، والفرقان: ٥٩، والسجدة: ٤، والحديد: ٤.
(٢) لقد أبعد المؤلف -رحمه الله- النجعةَ، في حمل الاستواء على الاستيلاء، وجانبه الصواب في ذلك؛ حيث لم يرد عن العرب أنَّ مِنْ معاني (الاستواء): الاستيلاء. وإنما الوارد عنهم في معاني الاستواء، التالي: الاستقرار، والقَصْدُ، والعُلُوّ، والإقبالُ على الشيء وإليه، والصُّعود. وقد ذَكَرَ ابنُ القيِّم أن للسلف أربع تفسيرات للاستواء، وهي: الاستقرار، والعلو، والارتفاع، والصعود، وهو ما يتناسب مع المعنى اللغوي. انظر: "توضيح المقاصد" في "شرح قصيدة الإمام ابن القيم" لأحمد بن عيسى: ١/ ٤٤٠. أما (الاستيلاء) فقد أورده الجوهري في "الصحاح" مستدلًا بقول الشاعر:
قد استوى بِشْرٌ على العراق من غير سيفٍ ودَمٍ مِهْراقِ
وقد نسب الزبيديُ في "تاج العروس" البيتَ للأخطل. وتبع الجوهريَّ في ذكر هذا المعنى، صاحبُ "لسان العرب" وصاحبُ "القاموس المحيط".
أما بيت الشعر السابق، فقد قال عنه ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" ٥/ ١٤٦: (ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا: إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة..).
وقد رَدَّ ابن الأعرابي وهو من أئمة اللغة على مَنْ فَسَّر الاستواء بـ (الاستيلاء) هنا، بقوله: (.. لا يقال: استولى على الشيء، إلا أن يكون له مضادّ، فإذا غلب أحدُهما، قيل: استولى..). "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" لللالكائي: ٣/ ٤٤٢. والله تعالى لا منازع له في مُلْكه. ورَدَّه كذلك الخليل بن أحمد. ذكَرَ ذلك الكرميُّ =
45
أوردتُهُ كِفَايَةٌ لِمَنْ رُزِقَ الفَهْمَ.
وقوله تعالى: ﴿وَأُخَرُ﴾ زعم (١) سِيبَويه والخليلُ أنَّ (أُخَرَ) فارقت
= في "أقاويل الثقات" ١٢٤.
فمعنى لفظ (الاستواء) من ناحية اللغة معروفٌ، وليس متشابها، ولا حرج في تفسيره بالألفاظ التي جاءت في اللغة، وليس في ذلك إيهام بالكيف، أو التجسيم ومشابهة الخلق؛ لأننا عندما نفسر هذه الصفة، إنما نذكر المعنى اللغوي، ونُجري هذه المعاني بما يليق بجلال الله تعالى وعظمته، ونقطع الطمع عن إدراك الكيفية، وذلك لعجز وقصور عقولنا عن إدراك ذلك. ومنهج السلف الصالح إزاء صفة الاستواء، وغيرها من صفات الباري تعالى: أن تمر كما جاءت، من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل؛ فيثبتون له الأسماء والصفات، وينفون عنه مشابهة المخلوقات، إثباتًا منزهًا عن التشبيه، منزهًا عن التعطيل، فمن نفى حقيقة الاستواء فهو مُعطّل، ومَنْ شبهه باستواء المخلوق على المخلوق، فهو مُمَثِّل. وقد قال الإمام مالك بن أنس، لَمَّا سُئل عن كيفية الاستواء، فقال: (الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، وقد وَرَدَ مثلُ ذلك عن أم سلمة رضي الله عنها، وربيعة الرأي.
انظر: "شرح أصول الاعتقاد" ٣/ ٤٤٠ - ٤٤٣. وانظر مادة (سوا) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٩٤، "الصحاح" ٦/ ٢٣٨٥ - ٢٣٨٦، "اللسان" ٤/ ٢١٦٠، "القاموس المحيط" ١٢٩٧، "قاموس القرآن" للدامغاني: ٢٥٥، "تاج العروس" للزبيدي: ١/ ١٧٩. وانظر حول موضوع صفة الاستواء: "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة: ٣٩٤، "الرد على الجهمية" للدارمي: ص ٤٠، "الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد" للبيهقي: ص ١١٦، "الأسماء والصفات" للبيهقي: ٢/ ٣٠٣، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ٥/ ١٤٦، ٣٦٥، ٤٠٤، ٥١٩ - ٥٢٠ "العقائد السلفية" لأحمد بن حجر: ١/ ١٢٤ - ١٢٥، ١٦٤ - ١٦٧، "رسائل في العقيدة" لمحمد بن عثيمين: ٧٠.
(١) من قوله: (زعم..) إلى (.. إلا صفة منعت الصرف): نقله عن "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٣٧٧. وانظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ٢٢٤، ٢٨٣.
46
أخواتها، والأصلَ الذي عليه بِنَاءُ أَخَواتِها؛ لأن (أُخَرَ) أصلُها أن تكون بالألف واللّام (١)؛ كما تقول: (الصُّغْرى) و (الصُغَر)، و (الكُبْرَى) و (الكُبَر). فلما عُدِلَت عن مُجْرَى الألِفِ واللام، وأصلِ (أَفْعَلَ مِنْكَ) وهي مِمَّا لا يكونُ (٢) إلا صِفَةً، مُنِعَت الصَّرْفَ. وقد شرحنا هذه المسألة عند قوله: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (٣) [البقرة: ١٨٤].
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾. الزَّيْغُ: المَيْلُ. يعني: مَيْلًا عن الحقِّ؛ (زاغ، يَزِيغ، زَيْغًا، وزَيْغُوغَةً، وزَيَغانًا، وزيوغًا (٤).
قال الفراء (٥): والعرب تقول في عامةِ ذوات الياء، مِمَّا يُشْبِهُ (زِغتُ)؛
(١) في "معاني القرآن" (أن تكون صفة بالألف واللام).
(٢) في (د): (وهي لا تكون).
(٣) يريد المؤلف (والله أعلم) أن (أخَر) مُنِعت مِنَ الصَّرْفِ؛ لأنها جاءت صفة بغير الألف واللام، ولم تلحقها (مِنْ) كأفعل التفضيل (أفعل منك)؛ حيث إن (أُخَر) جمعٌ، ومفرده (أُخْرَى). و (أخْرَى) مؤنث لِلَفْظٍ مُذَكَّرٍ، هو: (آخِر)؛ الذي أصله (أأخَر) بفتح الهمزة الأولى، وتسكين الثانية، على وزن (أفْعَل) الدال على التفضيل. وهو مُجَرَّدٌ من (أل) والإضافة. وحقُّه أنْ يكون مفردًا مذكرًا في جميع استعمالاته. ولكنْ عَدَلَ العربُ عنه إلى لفظ (أُخَر) بصيغة الجمع، ومنعوه من الصرف؛ للوصفية والعَدْل.
انظر آراء النحويين حول منع (أخر) من الصرف، في "المقتضب" للمبرد: ٣/ ٢٤٦، ٣٧٦، "إعراب القرآن" للنحاس: ١/ ٢٣٥، "البيان في غريب إعراب القرآن" للأنباري: ١/ ١٤٣، "شرح المفصل" لابن يعيش: ٦/ ٩٩، "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري: ١/ ١١٦، "شذور الذهب" لابن هشام (بشرح محمد محي الدين عبد الحميد): ص ٥٣٧، "همع الهوامع" للسيوطي: ١/ ٨٠، "النحو الوافي" لعباس حسن: ٣/ ٤٠٨، ٤/ ٢٢٤.
(٤) انظر: (زيغ) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٠٢، "اللسان" ٣/ ١٨٩٠.
(٥) قوله في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٠٨٣. وأورده بمعناه ابن جني في "المنصف" ٢/ ١٢.
47
مثل: (سِرْتُ)، و (صرْتُ)، و (طِرتُ): (سَيْرُورَةً)، و (صَيْرُورَةً)، و (طَيْرُورَةً)، و (حِدْتُ حَيْدُودَةً)، و (مِلْتُ مَيْلُولَةً)، لا أحصى ذلك، وهو كثير. فأمّا ذوات الواو؛ مثل: (قلتُ)، و (رُضْتُ)، فإنهم لمْ يقولوا ذلك إلا في أربعة أحْرُف، منها: الكَيْنُونة (١)، والدَّيْمُومَةُ، مِنْ: (دُمْتُ)، والهَيْعُوعَةُ، من: (الهُواع) (٢)، والسيْدُودَةُ، من: (سُدْتُ).
وكان ينبغي أن يكونَ -في القياس-: (كَوْنُونَة) بالواو (٣)، ولكنها لَمَّا قَلَّت في مصادر الواو، وكثرت في مصادر الياء، ألحقوها بالذي هو أكثر مجيئًا منهما؛ إذ كانت الواوُ والياءُ مُتَقارِبَتَينِ في المَخْرَج.
ومثل هذا: أنهم يقولون في ذوات الياء: (سَعَيْتُ به سِعَايةً)، و (رَمَيْتُهُمْ رِمَايَةً)، و (دَرَيْتُ بِهِ (٤) دِرايةً)، فتأتي المصادرُ في ذوات الياء،
(١) مصدر (كان يكون كَوْنًا وكيْنُونة).
(٢) في "القاموس المحيط": (والهواع بالضم، والهيعوعة، والمِهْوع، والمهواع بكسرها: الصياح في الحرب). ص ٧٧٧ (هوع). وجعلها في "لسان العرب" من مصادر ذوات الياء، فقال: (هاعَ، يَهاع، ويَهِيع، وهَيْعًا، وهَاعًا، وهُيُوعًا، وهَيعَة، وهَيَعانًا، وهَيْعُوعة: جَبُن وفَزع. وقيل: استخف عند الجزع). ٨/ ٤٧٢١ (هيع). والهُواع: القيءُ. يقال: (هاع، يهوع هواعًا. وهيعوتة): أي: قاء. انظر: (هوع) في "الصحاح" ٣/ ١٣٠٩، "المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" لأبي موسى الأصفهاني: ٣/ ٥١٦، "اللسان" ٨/ ٤٧٢١، "المعجم الوسيط" ٢/ ١٠١٠.
(٣) ويرى الخليل بن أحمد أن (كيْنُونة): (فَيْعُولة)، هي في الأصل: (كَيْوَنُونَه)؛ التقت منها ياءٌ وواوٌ، والأولى منهما ساكنة، فَصُيِّرَتا ياءً مشدَّدَةً [أي: كيَّنُونة]، مثلما قالوا: (الهيِّن) من (هُنْت)، ثم خففوها فقالوا: (كيْنُونة)؛ كما قالوا: (هَيْنٌ، لَيْنٌ). قال الفراء: وقد ذهب مذهبًا، إلا أن القول عندي هو الأول). "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٠٨٤ (كان).
(٤) في (د): (بهم).
48
على هذا النحو، كثيرةً، ولا تكاد تأتي في ذوات الواو؛ نحو: (خَلَوْتُ)، و (دَعَوْتُ). فَنَدَرَ حرفٌ مِنْ ذوات الواو فألْحِقَ بذوات الياء، وهو قولُهم: (شَكَوْتُ فُلانًا شِكَايَةً)، ولم يقولوا: (شِكاوَةً)، فألحقوها بالمصادر من الياء (١).
واختلفوا في هؤلاء الذي عُنُوا بقوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾: فقال الربِيع (٢): هم (٣) وَفْدُ نَجْرَانَ؛ لَمَّا حَاجُّوا رسولَ الله - ﷺ -، في المَسِيح، فقالوا: أليسَ (٤) هُوَ كَلِمَة اللهِ، وروح منه؟ قال: "بَلَى". قالوا: حَسْبُنا. فأنزلَ اللهُ تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾، الآية. ثمّ أنزل: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ﴾ الآية.
وقال الكَلْبِيُّ (٥): هم اليهود، طَلَبُوا (٦) عِلْمَ أكْلِ (٧) هذه الأُمَّةِ،
(١) انظر في هذا الموضوع: "المنصف" لابن جني: ٢/ ١٠، "الممتع في التصريف" لابن عصفور: ٢/ ٥٠٢، ٥٠٤، "شرح شافية ابن الحاجب" للاستراباذي: ١/ ١٥٢.
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ١٧٧، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٥٩٦، "تفسير البغوي" ٢/ ٩، "زاد المسير" ١/ ٣٥٣.
(٣) (هم): ساقطة من: (ج).
(٤) في (أ)، (ب): (ليس). والمثبت من: (ج) و (د).
(٥) قول الكلبي، أخرجه الطبري ١/ ٩٢، ٩٣ من رواية محمد بن إسحاق، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله، وأخرجه البخاري في: تاريخه: ١/ ٢/ ٢٠٨، والبغوي ٢/ ٩، وذكره بمعناه أبو الليث في "بحر العلوم" ١/ ٢٤٧، وابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٣٥٣، والسيوطي في "الدر" ٢/ ٧٨.
(٦) في (ج): (طالبوا).
(٧) في (ج): إقامة. (د) أجل. وحقيقة (الأُكْل) بضم الهمزة: التنَقّص. ومعناها هنا: الرزق، والحظ من الدنيا.
يقال للميت: (قد انقطع أكْلُه)، أي: انقضت مدته في الدنيا. فاليهود أرادوا معرفة =
49
واستِخْراجِهِ مِنَ الحُرُوف المُقَطَّعَةِ في أوائل السُّوَرِ (١). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (٢).
وقيل: هم جميع المُبْتَدِعَةِ، وكلُّ من احتَجَّ لِباطِلِهِ بالمتشابه (٣). وهذا معنى قول قتادة (٤).
= مدة بقاء أمة محمد - ﷺ -، وأجلها. انظر: (أكل) في "مجمل اللغة" ١/ ١٠٠، "القاموس المحيط" ص ٩٦١.
(١) انظر: "سيرة ابن هشام" ٢/ ١٧٠، ١٧١ فقد ذكره عن ابن إسحاق. وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٥٩٥ عن مقاتل بن حيان، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٧ وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر في "تفسيره" عن ابن جريج معضلا.
(٢) لم أقف على رواية عطاء عن ابن عباس.
(٣) روت عائشة رضي الله عنها قائلة: (تلا رسول الله - ﷺ -، ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ إلى ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، قالت: قال رسول الله - ﷺ -: "فإذا رأيت الذين بتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سَمَّى الله فاحذروهم". أخرجه البخاريُّ (٤٥٤٧). كتاب: التفسير. سورة آل عمران باب: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾، ومسلم رقم (٢٦٦٥). كتاب: العلم. باب: النهي عن اتباع متشابه القرآن. وفي رواية الإمام أحمد: "فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله فاحذروهم". "المسند" ٦/ ٤٨، ٢٥٦. وأخرجه أبو داود رقم (٤٧). كتاب: السنة. باب: النهي عن الجدال، والترمذي رقم (٢٩٩٣)، (٢٩٩٤). كتاب: التفسير. باب: ومن سورة آل عمران، وابن ماجة رقم (٤٧). في المقدمة، وابن حبان في "صحيحه" ١/ ٢٧٤، ٢٧٧ (٧٣)، (٧٦). وأخرجه: عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ١١٦، والطبري في "تفسيره" ٦/ ١٨٩ - ١٩٥، والطيالسي في "المسند" ٣/ ٥٠ (١٥٣٥)، والآجري في "الشريعة" ٢٦، ٢٧.
(٤) كان قتادة إذا قرأ هذه الآية ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾، قال: (إنْ لم يكونوا الحَرُورِيَّة والسَّبَئِيَّة، فلا أدري مَن هم!..). و (الحرورية) هم: الخوارج، و (السبئية): نسبة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي غالى في الإمام عليٍّ، وادَّعى فيه الألوهية. انظر الأثر، في "تفسير عبد الرزاق": ١/ ١١٥، "تفسير الطبري" ٣/ ١٧٨، "تفسير =
50
وقولُ الزَّجَّاج في هذه الآية، يَدُلُّ على أنّ هؤلاء، هم الكفار الذين يُنْكِرُون البَعْثَ، لأنه قال (١) في سياق الآية: معنى ابتغائهم تأويله: أنهم طلبوا تأويل بَعثِهِمْ وإحيائهم.
وقوله تعالى: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾. قال عطاءٌ، عن ابن عباس (٢): يريد: الكفر. وقال الرَّبِيع (٣)، والسدي (٤): طلب الشرك (٥).
وقال مجاهد (٦): اللَّبْسِ (٧)؛ لِيُضِلُّوا به جُهَّالَهم.
= البغوي" ٢/ ٨، "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٣. وورد كذلك عن أبي أمامة رضي الله عنه: أنهم الخوارج. يرويه عن رسول الله - ﷺ - وقد رجح ابن كثيرٍ وقفَهُ على أبي أمامة. انظر الأثر في: "مسند الإمام أحمد" ٥/ ٢٦٢، "مصنف عبد الرزاق" ١٠/ ١٥٢رقم (١٨٦٦٣)، و"سنن البيهقي" ٨/ ١٨٨، و"مسند الحميدي" ٢/ ٤٠٤ رقم (٩٠٨)، "المعجم الكبير" للطبراني: ٨/ ٢٧٤ وما بعدها، "المعجم الصغير" له: ١/ ٤٢ (٣٣)، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٥٩٤، و"الشريعة" للآجرِّي: ٣٦، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٧١.
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٣٧٨.
(٢) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "تنوير المقباس" المنسوب إلى ابن عباس: ٤٣.
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ١٨٠، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٥٩٦، "الثعلبي" ٣/ ٧ ب، "البغوي" ٢/ ١٠، "المحرر الوجيز" "زاد المسير" ١/ ٣٥٤.
(٤) قوله في: المصادر السابقة، عدا "المحرر الوجيز". والسُدِّيُّ هنا هو: السُدِّي الكبير (إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، ت: ١٨٢ هـ). وليس هو السُدِّي الصغير (محمد بن مروان، ت: ١٨٦ هـ)؛ وذلك أن هذا الأثر ورد من رواية أسباط عن السدي، وأسباط إنما يروي عن السدي الكبير. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٥٩٦، " الطبقات الكبرى" لابن سعد: ٦/ ٣٧٦، "تهذيب التهذيب" لا بن حجر: ١/ ١٥٨في ترجمة أسباط، "معجم المفسرين" لعادل نويهض: ١/ ٩٠، ٢/ ٦٣٥.
(٥) وهو قول: مقاتل في "تفسيره" ١/ ٢٦٤، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ١٠١.
(٦) قوله في "تفسيره" ١/ ١٢٢، والمصادر السابقة.
(٧) هكذا وردت في الأصل بالكسر على تقدير: ابتغاء، أو طَلَبِ اللَّبْسِ. =
51
وقال أبو إسحاق (١): الفِتْنَةُ في اللغة على ضُرُوب: فالضَّرْبُ الذي ابتغاه هؤلاء: إفسادُ ذوات (٢) البَيْن في الدِين، والحرب. والفتنة في اللغة: الاستهتار بالشيء والغُلُوُّ فيه؛ يقال: (فلانٌ مَفْتُونٌ بِطَلَب الدُّنْيا)؛ أي: قد غلا في طَلَبِها، وتجاوز القَدر (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾. التأويل: التفسير. وأصلُهُ في اللغة: المرجِعُ والمَصِيرُ؛ مِنْ قولهم: (آل الأمْرُ إلى كذا): إذا (٤) صار إليه. و (أوَّلْته تأويلًا): إذا صَيَّرته إليه، فتأول (٥)؛ أي: رَجَعَ، وصار.
قال الأعشى:
على أَنَّها كانتْ تَأوُّلُ حُبِّها تأؤُّلَ رِبْعيِّ السِّقابِ فَأَصْحَبَا (٦)
= ونصُّ قول مجاهد كما في "تفسير الطبري" (الشبهات، مِمَّا أهلكوا به)، وفي تفسيره: (الهلكات التي أهلكوا بها).
(١) هو الزجاج في "معاني القرآن" له: ١/ ٣٧٧. نقله عنه بتصرف يسير جدًا في بعض الألفاظ.
(٢) في (ج) و"معاني القرآن": (ذات).
(٣) في "معاني القرآن" للزجاج: (وتجاوز القُدْرة). وانظر: "اللسان" ٦/ ٣٣٤٥ (فتن)، "تفسير الفخر الرازي" ٧/ ١٨٩. ويقول النحاس في هذا الموضع: (أي: ابتغاء الاختبار الذي فيه غُلوٌّ، وإفْسادُ ذاتِ البَيْن؛ ومنه: (فلانٌ مَفْتُونٌ بِفُلانة)؛ أي: قد غَلا في حبها). "إعراب القرآن" له: ١/ ٣١٠.
(٤) في (ب): (أي).
(٥) في (ب): (فتأوله).
(٦) البيت، في: "ديوانه": ص ٧. وقد ورد منسوبًا له، في: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة: ١/ ٨٦، "تفسير الطبري" ٣/ ١٨٤، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٤٩ (ربع)، "الصحاح" ٤/ ١٦٢٧ (أول)، "الصاحبي" لابن فارس: ٣١٥، "اللسان" ٣/ ١٥٦٦ (ربع)، ١/ ١٧٢ (أول)، وفي: ٤/ ٢٤٠١ (صحب) أورد الشطر الثاني ولم ينسبه. وورد =
52
أي: كان حُبُّها صغيرًا، فآل إلى العِظَم، كما آل السَّقْبُ إلى الكِبَرِ (١).
هذا معنى (التأويل) في اللغة (٢).
ثم تُسَمَّى (العاقبةُ): (تأويلا)؛ لأنَّ الأمرَ يصيرُ إليها. و (التفسير)
= البيت في الديوان كالتالي: (.. تأوَّلُ حبَّها..). وورد في "التهذيب" ٢/ ١٣٤٩ (ربع)، "اللسان" ٣/ ١٥٦٦ (صحب)، كالتالي:
ولكنها كانت نَوًى أجنبيَّةً توالِيَ رِبْعِيِّ السِّقاب فأصحبا
وينشد كما في "تفسير الطبري" ٣/ ١٨٤:
على أنها كانت تَوَابعُ حُبِّها توالي رِبْعِيِّ السِّقاب فأصحبا
ومعنى: (ربعي السقاب): ذلك أن الفصيل الذي يُنتَج في أول النتاج، يقال له: (رُبَع)، والجمع: (رِباع). ورِبْعِيُّ كل شيء: أوله. والسَّقْب: ولد الناقة، أو ساعة يولد، إذا كان ذكرًا. والجمع: (سِقاب). ويقال: (سقبٌ رِبْعِيٌّ)، و (سقاب رِبعية)، وهي: التي ولدت في أول النتاج. و (أصحب): ذَلَّ وانقاد. انظر: "كتاب الفرق" لقطرب: ١٠٠، "الفرق" لابن فارس: ٨٧، "اللسان" ١/ ١٧٢ (أول)، "القاموس" ص ٩٧ (سقب). وسيأتي تفسير المؤلف للبيت على الرواية التي أوردها. أما على الرواية الثانية، التي أوردها الأزهريُّ، وصاحب "اللسان" فمعنى (توالي ربعي السقاب) هنا: من (الموالاة). وهي: تمييز شيء من شيء، وفصله عنه؛ أي: إن نَوَى صاحبته اشتَدَّ عليه، فحن إليها حنين ربعي السقاب، إذا فُصِل عن أمِّهِ ومُيِّز عنها. وأن هذا الفصيل يستمر على الموالاة ويُصْحب، أما هو فقد دام على حنينه الأول، ولم يصحب إصحاب السقب. انظر: "تهذيب اللغة" ١٣٤٩.
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٤؛ حيث قال في تفسيره: (ويعني بقوله: (تأوُّلُ حبِّها): تفسير حبِّها ومرجعه. وإنما يريد بذلك أنَّ حبَّها كان صغيرًا في قلبه، فآلَ من الصِّغَرِ إلى العِظَم، فلَمْ يزلْ ينبت حتى أصْحَبَ فَصَارَ قديمًا، كالسَّقْبِ الصغير الذي لم يزل يشبُّ حتى أصحبَ فَصَارَ كبيرًا مثلَ أمِّهِ) ويبدو أن المؤلف نقل هذا المعنى عن الطبري، متصرفًا في عبارَتِه هذه
(٢) انظر: (أول) في "الصحاح" ٤/ ١٦٢٦، ١٦٢٨، "مجمل اللغة" ١/ ١٠٧، "اللسان" ١/ ١٧٢، "المصباح المنير" ١٢، "القاموس المحيط" ٩٦٣.
53
يُسمَّى: (تأويلًا)، وهو قوله: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٨]؛ أي: بِعِلْمِهِ وتفسيره؛ لأن التَّأويل: إخبارٌ عَمَّا يَرْجِعُ إليه اللفظُ مِنَ المعنى.
وذكرنا معنى التَّأوِيل [بأبلغ] (١) مِنْ هذا، في سورة النساء، عند قوله: ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩] (٢).
قال ابن عباس في رواية عطاء (٣): ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ أي: طَلَبِ مُدَّةِ أُكْلِ مُحَمَّد - ﷺ -.
وفي قول الزجاج (٤): المراد به: الكفار (٥)؛ طلبوا متى يُبْعثون؟ وكيف يكون إحياؤُهم بعد الموت؟ وفي قول الباقِين: معناه: طَلَبُ تفسير المُتَشابِهِ، وعِلْمِهِ. قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ يريد: ما يَعلَمُ انقضاءَ مُلْكِ أُمَّة (٦) محمد - ﷺ - إلّا الله؛ لأن انقضاءَ مُلك هذه الأُمَّةِ مع قيام الساعَةِ، ولا (٧) يَعْلَم ذلك مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌ مُرْسَلٌ. وهذا قولُ عطاء (٨). وعلى هذا؛ يَحْسُنُ الوقفُ على قوله: ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾، وكذلك على قول الزجاج؛ لأن وقت البعثِ لا يَعلَمُهُ إلا الله. ثم ابتدأ، فقال: {وَالرَّاسِخُونَ
(١) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(٢) وقد تكلم ابنُ القيم عن معاني (التأويل) بإسهاب، وبَيَّن الصحيح منه والباطل. انظر: "الصواعق المرسلة": ١٧٥ وما بعدها.
(٣) لم أقف على مصدر هذه الرواية. وقد ورد هذا القول في: "تنوير المقباس": ٤٣.
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ٣٧٨.
(٥) في (ب): (المراد به الزج الكفار).
(٦) (أمة): ساقطة من: (ج).
(٧) في (ج): (لا) بدون واو.
(٨) لم أقف على مصدر قوله.
54
فِي الْعِلْمِ} أي: الثابتون فيه. والرُّسُوخُ في اللغة (١): الثُّبُوتُ في الشيء (٢). وعند أكثر المفَسِّرين (٣): المرادُ بـ (الراسخين علمًا): مُؤْمِني أهل الكتاب؛ دليله: قوله: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ١٦٢]. قال ابن عباس (٤)، ومجاهد (٥)، والسُّدِّي (٦): بقولهم: ﴿آمَنَّا بِهِ﴾، سَمَّاهُم اللهُ (راسخينَ في العِلْم). فَرُسُوخُهم (٧) في العِلْمِ؛ قولُهم: ﴿آمَنَّا بِهِ﴾ أي: بالمُتَشَابِهِ.
﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ المُحْكَم والمُتشابه؛ الناسخُ والمنسوخ؛ وما عَلِمْناه وما لَمْ نعْلَمْه.
وقال الزجاج (٨): أي: يقولون: صَدَّقنا بأن الله عز وجل يبعثنا، ويؤمنون
(١) في (ج): (في العلم).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٣٧٨، "الصحاح" ٤٢١ (رسخ)، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٩.
(٣) قول المؤلف أعلاه: (عند أكثر المفسرين)، غير مُسَلَّم؛ لأنني لم أجد من قال بهذا القول إلا مقاتل بن حيان، كما في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٠٠. ولو كان قال به أكثر المفسرين، لتناقلته كتب التفسير والحديث، مما أُلِّف قبل المؤلف وبعده. وقد أورد هذا القولَ الثعلبيُّ وهو شيخ المصنف في "تفسيره" ١/ ٢٨٠ بصيغة (قيل) ولم يذكر قائله. وأورده أبو حيان في "البحر المحيط" ٢/ ٣٨٥ بصيغة (قيل) ولم يذكر القائل، ولكنه استبعده بقوله: (وهذا فيه بعد).
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٦/ ٢٠٨. "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠ أ، "تفسير البغوي" ١/ ٢٨٠. ومن قوله: (قال ابن عباس..) إلى (.. وما لم نعلمه): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠ أ.
(٥) قوله في المصادر السابقة. وهو من روايته عن ابن عباس.
(٦) قوله في المصادر السابقة.
(٧) في (د): فرسخهم.
(٨) في "معاني القرآن" له: ١/ ٣٧٨. نقله عنه بالنص.
55
بأنَّ البَعْثَ حَقٌّ، كما أنَّ الإنشاءَ حَقٌّ.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. قال عطاء (١): هذا ثَنَاءٌ مِن الله تعالى على الذين قالوا: ﴿آمَنَّا بِهِ﴾، معناه: ما يَتَّعِظُ [بما] (٢) في القُرْآن، إلّا ذَوُو العُقُول.
وقال الزَّجَّاج (٣): هذا دليلٌ على أن الأمرَ الذي اشْتَبَهَ عليه من البَعْثِ، لمْ يَتَدَبَّرُوه، ومعناه: ما يَتَدَّبر القرآنَ، وما أتَى به الرسولُ - ﷺ -، إلّا أوْلُوا الألباب. والأظهر في تفسير هذه الآية: قولُ عطاء: إنَّ هذا في اليهود، حين طلبوا تفسيرَ الحروف المُقَطَّعَة، والقولُ الذي حكاه الزجَّاج: إن هذه في منكري البعث.
ويقال: هل يجوز أن يكون في القرآن شيءٌ، لا يعلمه إلا الله؟ فيقال: اختلف الصحابة والناسُ في هذا:
فذهب الأكثرون: إلى أنَّ تَمَامَ الوَقْفِ على قوله: ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾، وأن جميع المتشابه لا يعلمه إلا الله؛ مثل: وقت قيام الساعة، وطلوع الشمس من المغرب، ونزول عيسى، وخروج الدجَّال.
وقال قومٌ: في القرآن أشياء لا يَعْرِف حقيقَتَها إلا الله؛ كالحروف المُقَطَّعة، وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [المائدة: ٦٤]، وقوله: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]، وقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، وأشباه هذا. والله تعالى مُخْتَصٌّ (٤) مُستأثِرٌ بِعِلْم هذه، والإيمانُ بها حَقٌّ، وحقائقُ عُلُومِها
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٣) في "معاني القرآن" له: ١/ ٣٧٩. نقله عنه بتصرف يسير.
(٤) في (أ)، (ب): (يختص). والمثبت من: (ج)، (د)؛ لمناسبته لسياق العبارة.
56
مُفَوَّضَةٌ إلى الله تعالى.
وهذا مذهب: عائشة، وابن مسعود، وابن عباس، وأُبَي، وكثير من التابعين، واختيار (١) الفَرّاء، والكسائي (٢)، والمُفَضَّل (٣)، وابن الأنباري، وأَبي عُبَيد (٤)، وأحمد بن يحيى (٥).
ودليل هذا القول: قراءة عبد الله (٦): (إنْ تَأويلُهُ إلّا عِنْدَ الله. والرّاسخون في العِلْم يقولون آمَنّا به) (٧).
(١) في (أ): (واختار). والمثبت من: (ب)، (ج)، (د). وهو الصواب.
(٢) تقدمت ترجمته.
(٣) هو: المُفَضَّل بن محمد بن يعلى الضَبِّي، الكوفي. تقدم ٢/ ١١٩.
(٤) في "الأضداد" لابن الأنباري: أبو عبيدة. وورد في أكثر المصادر: أبو عبيد. وهو: أبو عُبَيد، القاسم بن سَلّام الهَرَوي الأزدي الخزاعي.
(٥) هو: أبو العباس، أحمد بن يحيى (ثعلب). وقد بَيَّن النحاسُ أن نَيِّفًا وعشرين رجلًا من الصحابة والتابعين والقراء وأهل اللغة، ذهبوا إلى الوقف التام على لفظ الجلالة (الله)، وأن ما بعده منقطع منه، ثم ذكر إضافة إلى من ذكرهم المؤلف: الحسن، وأبانهيك، والضحاك، ومالك بن أنس، وسهل بن محمد، وعمر بن عبد العزيز، وعروة بن الزبير، والطبري، والزجاج، وابن كيسان، وأحمد بن جعفر بن الزبير، والسدي.
انظر: "القطع والائتناف" للنحاس: ٢١٢، "تفسير الطبري" ٣/ ١٨٢ - ١٨٤، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٥٩٩ - ٦٠١، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٣٥١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٨ ب، "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٤، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٦، "البحر المحيط" ٢/ ٣٨٤، "الدر المنثور" ٢/ ١٠، ١١، "معترك الأقران" للسيوطي: ١/ ١٣٨، "فتح القدير" للشوكاني: ١/ ٤٧٦، "فتح البيان" لصديق حسن خان: ٢/ ١٥ - ١٦.
(٦) يعني: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(٧) انظر هذه القراءة في "معاني القرآن" للفراء: ١/ ١٩١، "كتاب المصاحف" لأبي بكر بن أبي داود: ٥٩، "تفسير الطبري" ٣/ ١٨٤، "الأضداد" لابن الأنباري:=
57
وفي (١) حرف أُبَيٍّ، وابن عباس: (ويقول (٢) الراسخون في العلم آمَنّا به) (٣). وهذا هو الأشبه بظاهر الآية؛ لأنه لو كان ﴿الرَّاسِخُونَ﴾ عَطْفًا، لَقَال: ويقولون آمنّا به.
وفي قوله أيضًا: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾، دليلٌ على أنهم لَمْ يَعْرِفوا البعضَ فآمَنُوا بظاهره، وقالوا: إنه من عند الله.
وقد رُوي عن ابن عباس، أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسيرٌ (٤) لا يَسَعُ أحدًا جَهْلُه، وتفسيرٌ تَعرِفُهُ العربُ بألسنتها، وتفسيرٌ يَعْلَمُهُ العلماءُ، وتفسيرٌ لا يعلمه إلا الله (٥).
= ٤٢٦، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٩ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ١٠، "البحر المحيط" ٢/ ٣٨٤، "الدر المنثور" ٢/ ١٠، والإتقان، للسيوطي: ٢/ ١٥. وقد وردت القراءة في: كتاب المصاحف، لابن أبي داود، كالتالي: (وإنْ حقيقةُ تأويلِهِ إلا عند الله..).
(١) من قوله: (وفي..) إلى (.. آمنا به): ساقط من: (ج).
(٢) في (ب): (ويقولون).
(٣) انظر هذه القراءة، في "معاني القرآن" للفراء: ١/ ١٩١، "الأضداد" لابن الأنباري: ٤٢٦، "القطع والائتناف" للنحاس: ٢١٢، "المستدرك" للحاكم: ٢/ ٢٨٩ كتاب: التفسير، سورة آل عمران. وقال: (صحيح) ووافقه الذهبي، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٩ أ، "الدر المنثور" ٢/ ١٠ وزاد نسبة إخراج الأثر لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. قال النحاس عن هذه القراءة: (وهي قراءة على التفسير).
(٤) (تفسير): ساقطة من: (ج).
(٥) الأثر، في "تفسير الطبري" ١/ ٣٤، أخرجه موقوفًا على ابن عباس، من رواية محمد بن بشار، قال: (حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان [بن عيينة]، عن أبي الزناد..) والسند صحيح، ما عدا مؤمل بن إسماعيل، فقد اختلف فيه. انظر: "ميزان الاعتدال" للذهبي: ٥/ ٣٥٣، ٣٥٤. وأورده النحاس في "القطع والائتناف" ٢١٣، كما أخرجه الطبري مرفوعًا بلفظ آخر عن ابن عباس: أن رسول الله - ﷺ -، قال: "أنزل الله القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام، لا يُعذَر أحدٌ بالجهالة به،=
58
وعلى هذا المذهب؛ إنما (١) أنزل الله -تعالى- ما (٢) لا (٣) يعلمه إلّا هو؛ اختبارًا (٤) للعباد، لِيُؤمِنَ به المُؤْمِنُ فَيَسْعَد، ويكفر به الكافرُ فَيَشْقَى؛ لأن سبيلَ المُؤْمِنِ إذا قرأ من هذا شيئًا، أنْ يُصَدِّق رَبه عز وجل، ولا يعترض فيه بسؤال وإنكار؛ فَيَعْظُمَ -بذلك- ثوابُهُ على الله عز وجل.
فإن (٥) قيل: وأي (٦) تخصيصٍ لِلرَّاسخين إذا (٧) لم يَعرِفوا، فإنَّ غيرَهم أيضًا يقولون: ﴿آمَنَّا بِهِ﴾، فَلِمَ خَصَّ (٨) الراسخينَ (٩) بالذكر؟
قلنا: المراد بـ (الراسخين): كلُّ مَنْ يقول: ﴿آمَنَّا﴾ وليس المراد
= وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره ومن ادَّعَى علمَهُ سوى الله، فهو كاذب". وقال الطبري: (في إسناده نظر)؛ وذلك أنه من رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهي أوهى الأسانيد عن ابن عباس. انظر: "تفسير الطبري" ١/ ٣٤.
وانظر: الحُكْمَ على الكلبي، وأبي صالح، في "تهذيب التهذيب" ٣/ ٥٦٩، "تقريب التهذيب" ص ٤٧٩ (٥٩٠١)، "ميزان الاعتدال" ٥/ ٢ (٧٥٧٤)، "الاتقان" للسيوطي: ٤/ ٢٣٨.
(١) في (د): (إن ما).
(٢) (ما) ساقطة من: (د).
(٣): ساقطة من: (ج).
(٤) في (د): (اختبار).
(٥) في (أ)، (ب): (بان). والمثبت من: (ج)، (ء).
(٦) في (أ)، (ب): (وإلى). والمثبت من: (ج)، (ء).
(٧) في (د): (فإذا).
(٨) في (أ): خُصَّ بالبناء للمجهول. وفي (ب)، (ج). ، (د) غير مضبوطة بالشكل. وما أثبتُّه يتناسب مع ما بعده، من نصب (الراسخين).
(٩) في (د): (الراسخون).
59
بهم الذين يدأبون في التَّعَلُّمِ (١) ويَجْتَهِدُون. وقد ذكرنا عن ابن عباس، أنه قال: سمَّاهم (راسخين)، بقولهم: ﴿آمَنَّا﴾.
وقال مجاهد (٢)، والربيع (٣)، ومحمد بن جعفر بن الزبير (٤): المتشابه يعلمه الله، ويعلمه الراسخون. ولا يجوز أن يكون في القرآن شيءٌ، لا يعرفه (٥) أحدٌ مِنَ الأُمَّةِ. وهذا اختيار ابن قتيبة (٦)، وزَعَمَ أنَّ الراسخينَ في العِلْمِ عَلِمُوا تأويل القرآن مع الله تعالى؛ لأنه لم يُنْزِلْ كتابَهُ، إلا لِيَنْفَعَ به
(١) في (د): (التعليم).
(٢) قوله في "تفسيره" ١/ ١٢٢، "تأويل مشكل القرآن" ١٠٠، "تفسير الطبري" ٣/ ١٨٣، "الأضداد" لابن الأنباري: ٤٢٤، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٨ ب، "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٤، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٦. وقد رَدَّ ابن الأنباري رواية هذا القول عن مجاهد؛ زاعمًا بأن الراوي عن مجاهد هو ابن أبي نَجِيح، وهو لم يسمع التفسير عن مجاهد. ولكن أئمة الجرح والتعديل على توثيق ابن أبي نجيح، وتصحيح تفسيره عن مجاهد، بل عدَّه ابنُ تيمية مِنْ أصح التفاسير. انظر: "الأضداد" لابن الأنباري: ٤٢٧، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم: ٥/ ٢٠٣، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: ١٧/ ٤٠٩، "سير أعلام النبلاء" للذهبي: ٦/ ١٢٥، ١٢٦، "تهذيب التهذيب" ٢/ ٤٤٤، "تقريب التهذيب" ص ٣٢٦ (٣٦٦٢).
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ١٨٣، "القطع والائتناف" للنحاس: ٢١٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٨ ب، "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٥، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٧.
(٤) قوله في المصادر السابقة.
(٥) في (د): (لا يعلمه).
(٦) في "تأويل مشكل القرآن" له: ٩٨. قال مرعي الكرمي: (ورجح هذا جماعات من المحققين؛ كابن فورك، والغزالي، والقاضي أبي بكر بن الطيب، وقال النووي: إنه الأصح، وابن الحاجب: إنه المختار..). "أقاويل الثقات" ٥٣. وانظر: "مشكل الحديث" لابن فورك: ٥٢٢ - ٥٢٥، وشرح صحيح مسلم، للنووي: ١٦/ ٢١٨، "معترك الأقران" للسيوطي: ١/ ١٣٨، "والإتقان" له: ٣/ ٣٥٣٧.
60
عِبَادَه، ويدل على المعنى الذي أراده. وتأوَّلَ قولَهُ: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾، على أنه حالٌ صُرِفَت إلى المُضَارَعَةِ؛ أي (١): (والراسخون (٢) في العلم، قائلين (٣) آمَنَّا به).
قال: ومثله من (٤) الكلام: (لا يَأتِيك إلا عبدُ الله، وزَيْدٌ يقول: أنا مسرورٌ بزيارتك)، تريد (٥): (لا يأتيك إلا عبدُ الله، وزيدٌ قائلًا: أنا مسرورٌ بزيارتك). فـ (زيد) عطفٌ على (عبد الله) (٦).
واحتج لهذه الطريقة في كتابه (المُشْكل) بما يطول ذِكْرُه (٧).
(١) في (أ)، (ب): (إلى). والمثبت من: (ج)، (ء).
(٢) في (ج): (والراسخين).
(٣) في (د): (قايلون).
(٤) في (ج): (في).
(٥) من قوله: (تريد..) إلى (.. بزيارتك): ساقط من: (ج)، (ء).
(٦) أورد الشوكاني، والشنقيطي إشكالًا على من يمنع كون جملة ﴿يَقُولُونَ﴾ حالًا، وخلاصته: أن الحال قَيْدٌ لِعامِلِها. ووصف لصاحبها، فتقييد عِلْمِهم بتأويله، بحال كونهم قائلين: ﴿آمَنَّا بِهِ﴾، لا وجه له؛ لأن مفهومه: أنهم في حال عدم قولهم ﴿آمَنَّا بِهِ﴾، لا يعلمون تأويله، وهو باطل؛ حيث إنهم يعلمونه في كل حال. ويرى الشنقيطي أن جملة ﴿وَالرَّاسِخُونَ﴾ في حال كونها معطوفة، فإن ﴿يَقُولُونَ﴾ تكون معطوفة كذلك بحرف محذوف. واستدل على ذلك بأقوال المحققين من أهل العربية، واستشهد عليه بآيات من القرآن؛ كقوله تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾ فإنها معطوفة على قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ بالواو. انظر: "فتح القدير" للشوكاني: ١/ ٤٨٢، "أضواء البيان" للشنقيطي: ١/ ١٣١.
(٧) انظر: "تأويل مشكل القرآن" ٨٦١٠١. إن الخلاف الواقع بين العلماء في تبني أحَدِ المذهبَيْنِ المذكورَيْن للسَّلَفِ؛ في الوقف أو العطف على لفظ الجلالة في هذه الآية، مرجعه وسببه: الاشتراك في لفظ التأويل؛ حيث إنَّ له معانٍ عِدَّة. ولكنَّه إذا أطْلِقَ عند السَّلَفِ، إنَّما يُرادُ به أمران: =
61
٨ - قوله (١) تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾. أي: ويقول الراسخون: ربنا، كقوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا﴾ [آل عمران: ١٩١].
وقوله: ﴿لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ أي: لا تُمِلْنَا (٢) عن الهدى والقصد، كما
= الأول: تفسيرُ الكلام وبيان معناه؛ كقوله تعالى: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ [يوسف: ٣٦]؛ أي: بتفسيره. فيجوز بهذا المعنى عطفُ جُملَةِ ﴿وَالرَّاسِخُونَ﴾ على لفظ الجلالة؛ لأن الراسخين يعلمون تفسيره، ويفهمون ما أريد منهم بالخطاب القرآني.
الثاني: حقيقةُ الشيء، وما يؤول أمرُهُ إليه. ومنه قوله تعالى: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ [يوسف: ١٠٠]، و ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الأعراف: ٥٣]؛ أي: حقيقة ما أخبرهم الله به مِنْ أمر القيامة والبعث. فيجوز بهذا الاعتبار الوقف على لفظ الجلالة؛ لأن حقائق الأشياء وكنهها، لا يعلمها إلا الله تعالى.
وهناك معنى ثالث للتأويل عند الأصوليين والفقهاء المتأخرين عن عصر السَّلَف، وهو: صَرْفُ اللفظ عن ظاهره المتبادرِ منه، إلى مُحتَمَلٍ مرجوح، بدليل يدل عليه. وهذا المعنى ليس مُرادًا في إطلاقات السَّلَف، فهو خارجٌ عن دلالة الآية هنا. فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل، اعتَقَدَ كلُّ مَنْ فَهمَ مِنْهُ معنًى، أنَّ ذلك هو المذكور في القرآن. ولا شكَّ أنَّ في القرآن أمورًا لا يعلمها إلا الله: كوقت قيام الساعة، وحقيقة الروح وغيرها... وهي الأمور المتشابهة في نفسها. وهناك أمورٌ، العِلْمُ بها نِسْبيٌّ، يعلمها الراسخون في العلم دون غيرهم، وهو المتشابه الإضافي، الذي قد يَشْتَبِه على أناسٍ دون آخرين. فلا مُنافاة بين الرأيَيْنِ عند التحقق. انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" ٤٤٣٤٤٥ (شبه)، والإكليل في المتشابه والتأويل، لابن تيمية: ٨٩، ٢٠٢٥، والرسالة كلها حول هذا المعنى، وتفسير سورة الإخلاص، لابن تيمية: ١٧٤، ١٧٩، ١٨٣، ١٨٨، ١٩٣، "الرسالة التدميرية" لابن تيمية: ٥٩٦٣، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٧٢، "بصائر ذوي التمييز" للفيروز آبادي: ٣/ ٢٩٦، "أقاويل الثقات" للكرمي: ٥٣٥٥، "فتح القدير" للشوكاني: ١/ ٤٨٢، "فتح البيان" لصديق خان: ٢/ ١٥١٧، و"مباحث في علوم القرآن" لمناع القطان: ٢١٨، ٢١٩.
(١) في (د): (وقوله).
(٢) في (د): (لا تملها).
أزغت قلوب اليهود والنصارى، والذين في قلوبهم زيغ، بعد إذ هديتنا للإيمان بالمُحْكَمِ والمُتَشَابِهِ مِنْ كِتَابِكَ.
وروت أم سلمة (١): أن النبي - ﷺ - كان يُكثر في دعائه أن يقول: "اللهم مُقَلب (٢) القلوب، ثبِّت قلبي على دينك" (٣).
٩ - قوله (٤) تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾. تقديره: جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه (٥)؛ فلما حذف لفظ
(١) هي: هند بنت أبي أمية المعروف بـ (زاد الراكب) بن المغيرة، القرشية المخزومية، زوج النبي - ﷺ -، وهي ممن أسلم قديمًا، وهاجرت إلى الحبشة، ثم المدينة، وشهدت غزوة خيبر، ماتت سنة (٦١ هـ)، أو (٦٢ هـ)، وهي آخر أمهات المؤمنين موتًا. انظر: "الاستيعاب" ٤/ ٤٩٣ (٣٥٩٤)، و"الإصابة" ٤/ ٤٥٨ (١٣٠٩).
(٢) في (د): (مثبت). وقد وردت هذه اللفظة في الحديث من رواية أنس عند ابن أبي شيبة في: "المصنف": ٦/ ٢٥.
(٣) الحديث من رواية أم سلمة رضي الله عنها: أخرجه أحمد في "المسند" ٦/ ٩١، ٢٩٤، ٣٠٢، ٣١٥، والترمذي برقم (٣٥٢٢) كتاب الدعوات، وقال عنه: (حديث حسن). وابن أبي شيبة في: "المصنف": ٦/ ٢٥ برقم (٢٩١٩٧)، وابن أبي عاصم في: "السنة": ١٠٠ برقم (٢٢٣)، وقال الألباني محقق الكتاب عنه: (حديث صحيح). وابن خزيمة في: كتاب التوحيد: ١/ ١٩١، والطبري في "تفسيره" ٣/ ١٧٨، ١٧٩، وابن أبي حاتم ٢/ ٦٠٢، ٦٠٣، والآجرِّي في "الشريعة" ٣١٦. وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٣ وزاد نسبة إخراجه للطبراني، وابن مردويه، وأورده المتقي الهندي في "كنز العمال" ١/ ٣٩١ برقم (١٦٨٦). وقد أوردت المصادر السابقة الحديث كذلك عن عائشة، والنواس بن سمعان، وأنس، وجابر، وعبد الله بن عمرو، رضي الله عنهم.
(٤) في (د): (وقوله).
(٥) وقيل: إن اللام بمعنى: (في)؛ أي: في يوم. ويكون المجموع لأجله لم يُذكر. فظاهره أن هذا الجمع للحشر من القبور للمجازاة وقيل: اللام بمعنى: (إلى)،=
63
الجزاء، دخلت اللام على ما يليه، وأغنت عن (في) (١)؛ لأن حروف الإضافة متآخية؛ لما يجمعها من معنى الإضافة (٢).
قال الزجّاج (٣): وهذا إقرارٌ من المؤمنين بالبعث، ومخالفةٌ لمن اتبع
= أي: جامعهم في القبور إلى يوم... انظر: "البحر المحيط" ٢/ ٣٨٧، "روح المعاني" للآلوسي: ٣/ ٩١.
(١) في (د): (فيه).
(٢) حروف الإضافة عند البصريين: هي حروف الجر، وسميت بذلك: (لأنها تضيف معنى الفعل الذي هي صلته إلى الإسماء المجرور بها) "شرح المفصل" لابن يعيش: ٢/ ١١٧، وانظر: "الإيضاح في علل النحو" للزجاجي: ٩٣. وفي تناوب حروف الجر وتآخيها، مذهبان للنحويين:
أ- مذهب جمهرة البصريين: أنها لا تنوب عن بعضها البعض قياسًا، فإن لكل حرف معنى واحدًا أصليًا، يؤديه على سبيل الحقيقة لا المجاز، فإذا أدى معنى آخر، فيقال حينها: إنه أداه على سبيل المجاز أو التضمين.
ب- مذهب الكوفيين ومن وافقهم: أنها تنوب عن بعضها البعض؛ لأن الحرف إذا اشتهر معناه اللغوي الحقيقي، وشاعت دلالته بحيث تفهم بلا غموض، كان المعنى حقيقيًا لا مجازيًّا، ودلالته أصلية، وليست من قبيل المجاز أو التضمين. قال ابن جنّي ويحسبه البعضُ على البصريين بعد أن خطّأ المذهب الثاني: (ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، لاكِنّا نقول: إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع، على حسب الأحوال الداعية إليه، والمسوِّغة له، فأمّا في كل موضع، وعلى كل حال، فلا) "الخصائص" لابن جنّي: ٢/ ٣٠٨.
وقال المالقي: (والحروف لا يوضع بعضها موضع بعض قياسًا، إلّا إذا كان معنياهما واحدًا، ومعنى الكلام الذي يدخلان فيه واحدًا، أو راجعًا إليه، ولو على بعد) "رصف المباني" للمالقي: ٢٩٧. وانظر حول الموضوع "مغني اللبيب" لابن هشام: ٦٥٦، "همع الهوامع" للسيوطي: ١/ ٢٧، "النحو الوافي" لعباس حسن: ٢/ ٥٣٧، و"تناوب حروف الجر" د. محمد عواد: ١٣١٠ وما بعدها، و"من أسرار حروف الجر في الذكر الكريم" د. محمد الخضري: ١٢.
(٣) في "معاني القرآن" له: ١/ ٣٧٩. نقله عنه بالمعنى.
64
المتشابه ممن ينكر أمر البعث.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [يجوز أن يكون إخبارًا عن المؤمنين أنهم قالوا ذلك، فيكون متصلًا بما قبله، لكنه على تلوين الخِطاب (١)، و] (٢) يجوز أن يكون استئنافًا، أخبر الله تعالى أنه لا يخلف الميعاد. ولا يدلُّ هذا على تخليد مرتكبي الكبائر من المسلمين في النار، وإنْ وعد ذلك بقوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [النساء: ١٤]. الآية؛ لأن المراد بالميعاد (٣) ههنا يوم القيامة (٤) لأن الآية وردت في ذكره. أو يُحمل [هذا (٥) على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء؛ لأن خلف الوعيد كرم (٦) عند العرب] (٧)، والدليل: أنهم يمدحون بذلك، ومنه قول الشاعر:
(١) يعني بتلوين الخطاب، أي: الانتقال من أسلوب الخطاب في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ﴾ إلى أسلوب الغيبة في قوله: ﴿إنَّ الله﴾. قال أبو حيان ذاكرًا الحكمة في تغيير الأسلوب، هنا: (لِمَا في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة..) "البحر المحيط" ٢/ ٣٨٧.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(٣) في (ب): (المعاد).
(٤) ومما يؤكد ذلك لغة أن الميعاد هو: وقت الوعد وموضعه، ففي "تهذيب اللغة" (والميعاد، لا يكون إلا وقتًا أو موضعًا) وفي "اللسان" (والموعد: موضع التواعد، وهو الميعاد). انظر مادة (وعد) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩١٥، "الصحاح" ٢/ ٥٥٢، و"اللسان" ٨/ ٤٨٧١، و"القاموس المحيط" ٣٢٦. لكنَّ أبا عبيدة في "مجاز القرآن" ٢/ ١٤٩، ١٨٩: ذكر أن الوعد والميعاد والوعيد، واحد. وعلى الرغم من هذا، فإن سياق الآية وأقوال من سبق من أهل اللغة، يؤكد ما ذكره المؤلف من أن الآية لا دلالة فيها على تخليد مرتكبي الكبائر من المسلمين في النار.
(٥) أي: على فرض التسليم بدلالة الآية على ما ذكر.
(٦) في (د): (لزم).
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
65
إذا وعد السرّاءَ أَنجز (١) وعدَه وإنْ وَعَدَ الضرّاءَ فالعَفْوُ مانَعُهْ (٢)
قال الأصمعي: جمعنا بين أبي عمرو بن العلاء، وبين محمد بن مسعود الفدكي (٣)، فقال أبو عمرو: ما تقول؟ قال: أقول: إن الله وعد وعدًا، وأوعد إيعادًا (٤)، فهو منجز إيعاده، كما هو منجز وعده. فقال أبو عمرو: إنك رجل أعجم، لا (٥) أقول: أعجم اللسان، ولكن أعجم القلب. إن العرب تعُدُّ الرجوع عن الوعد لُؤمًا، وعن الإيعاد كرمًا، وأنشد:
وإنِّي وإنْ أوْعَدْتُهُ أو وَعَدْتُهُ لَيَكذِبُ إيعادي ويصدقُ موعدي (٦)
(١) (أنجز): غير مقروءة في: (أ).
(٢) البيت، لأبي الحسن، السري بن أحمد بن السري الكندي الرفّاء الموصلي. وهو في: "ديوانه" ٢/ ٣٦٨. وورد منسوبًا له، في "يتيمة الدهر" ٢/ ١٥٦. وروايته في "الديوان" "واليتيمة": (.. وإن أوْعَدَ الضراء..).
(٣) ولكن في "الوسيط في التفسير" للمؤلف: ٦٧٠ (رسالة ماجستير. تحقيق بالطيور): ورد عمرو بن عبيد المعتزلي بدلًا من محمد بن مسعود الفدكي، وكذا بقية المصادر التي أوردت الحكاية والتي سأذكرها فيما بعد، أجمعت كلُّها على أن المُحاوِر لأبي عمرو بن العلاء، هو عمروُ بنُ عبيد المعتزلي، حتى إن الرازي في "تفسيره" ٧/ ١٨٧ نقل الحكاية عن "تفسير البسيط" للواحدي، وذكر اسم عمرو بن عبيد، وليس محمد بن مسعود، والذي يبدو لي والله أعلم أنَّ اسم عمرو بن عبيد المعتزلي قد حوِّر إلى محمد بن مسعود الفدكي، وقد يرجع السبب إلى أن جميع النسخ التي بين يدي، قد تكون نقلت عن نسخة رئيسة واحدة لم يستبن فيها الاسم لسبب ما، فكان الخط أقرب إلى أن يقرأ هذه القراءة، أو لاجتهاد من الناسخ الأول في كتابة الاسم السابق. وعمرو بن عبيد، هو شيخ المعتزلة في عصره، ولد سنة (٨٠ هـ)، وتوفي سنة (١٤٤ هـ)، وقيل غير ذلك. انظر ترجمته في "تاريخ بغداد" ١٢/ ١٦٦، "وفيات الأعيان" ٣/ ٤٦٠.
(٤) (إيعادا): مطموسة في: (ج).
(٥): (لا) مطموسة في: (ج).
(٦) البيت لعامر بن الطفيل، وهو في "ديوانه" ٥٨. وقد ورد منسوبًا له، في "العقد الفريد" لابن عبد ربه: ١/ ٢٨٤، وأورده بنفس رواية المؤلف: "يتيمة الدهر" للثعالبي: ٢/ ١٥٧، "لسان العرب" ٢/ ١٠٩٨ (ختأ)، ٨/ ٤٨٧١ (وعد)، ٢/ ١١٠٣ (ختا)، "تاج العروس" ١/ ١٤٣ (ختأ)، ١٩/ ٣٦٩ (ختا). كما ورد غير معزوٍ، في "عيون الأخبار" لابن قتيبة: ٢/ ١٤٢، "ضرورة الشعر" للسيرافي، تحقيق د. رمضان عبد التواب: ١٣٨، "مجالس العلماء" للزجّاجي: ٦٢، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩١٥ (وعد)، "الصحاح" ٢/ ٥٥١ (وعد) "طبقات النحويين واللغويين" للزبيدي: ٣٩، "العمدة" لابن رشيق: ١/ ٥٨٩، "الحماسة البصرية" لصدر الدين البصري: ٢/ ٣٠. وروايته في "الديوان":
وإنِّيَ إن أوعدتُه أو وعدتُه لأخلِفُ إيعادي وأنجز موعدي
وبرواية أخرى:
لمخلِفُ إيعادي ومنجز موعدي
كما ورد في "اللسان" ١/ ٦٣ كالتالي:
لَيأمَنُ ميعادي ومنجز موعدي
وانظر الفرق بين (وعد) و (أوعد) في: "ما تلحن فيه العامة" للكسائي: ١١٠، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة: ٢/ ١٨٩، "أدب الكاتب" لابن قتيبة: ١/ ٢٧٢، "مجالس ثعلب" ١/ ٢٢٧، "والخاطريات" لابن جني: ١٩٨، "خزانة الأدب" للبغدادي: ٥/ ١٨٩، ١٩٠. وانظر مادة (وعد) في "تهذيب اللغة" "الصحاح" "اللسان". وقد وردت هذه المحاورة في "عيون الأخبار" ٢/ ١٤٢، "مجالس العلماء" ٦٢، "طبقات النحويين واللغويين" ٣٩، "إنباه الرواة" ٤/ ١٣٣، "مدارج السالكين" لابن القيم: ١/ ٣٩٦، "ميزان الاعتدال" للذهبي: ٤/ ١٩٨، ١٩٩، "لوامع الأنوار" للسفاريني: ١/ ٣٧١.
66
أو تقول: هذا عامٌّ في وعيد الأولياء، ووعيد الكفار، فأما مرتكبو الكبائر، فهم مخصوصون بقوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨].
١٠ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قال ابن عباس: يعني:
67
اليهود من قُريظة والنضير (١).
﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾ أي: لن تنفع، ولن تدفع. وإنما ذُكرَ (عن) مع الإغناء؛ لأنه يراد به الدفع، و (الغِنَى): ما يدفع عن صاحبه الفقر.
وقوله تعالى: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ قال الكلبي (٢): من عذاب الله (٣).
وقال أبو عبيدة (٤): معناه: عند الله. (٥)
(مِنْ) بمعنى: (عند) وحروف الصفات تتعاقب (٦).
(١) لم أهتد إلى قول ابن عباس هذا في المصادر التي رجعت إليها. وقد ذهب ابن جرير الطبري إلى أن المراد بهم: (يهود بني إسرائيل ومنافقيهم ومنافقي العرب وكفارهم) "تفسيره": ٣/ ١٨٩. وقال أبو السعود: (والمراد بالموصول: جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف). تفسيره: ٢/ ١٠. وإلى عموم الآية وتناولها لكل كافر، ذهب كذلك أبو حيان في "تفسيره" ٢/ ١٨٧.
(٢) من قوله: (قال الكلبي) إلى: (بمعنى: عند) نقله بالنص عن "الثعلبي" ٣/ ١١ ب.
(٣) قوله في "تفسيرالثعلبي" في الموضع السابق.
(٤) في "مجاز القرآن" ١/ ٨٧.
(٥) وضعَّف أبو حيان، والسمينُ الحلبي قولَ أبي عبيدة. انظر: "البحر المحيط" ٢/ ٣٨٨، "الدر المصون" ٣/ ٣٥. ولكن ابن هشام وافق أبا عبيدة في جعل (مِن) موافقة لـ (عند) وكذلك جعلها بمعنى البدل؛ أي: بدل طاعة الله، أو بدل رحمة الله. انظر: "المغني" ٤٢٢، ٤٢٤.
(٦) حروف الصفات هي حروف الجر. قال عنها ابن يعيش في "شرح المفصل" ٨/ ٧: (وقد يسميها الكوفيون: حروف الصفات؛ لأنها تقع صفاتًا لما قبلها من النكرات). وقد عقد لها ابن قتيبة بابًا في "تأويل المشكل" ص ٥٦٥ فقال (باب دخول بعض حروف الصلات مكان بعض)، وانظر: "أدب الكاتب" له ١/ ٣٩٢، "من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم" ص ١٢، وانظر التعليق السابق على حروف الإضافة في هامش تفسير قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ آية: ٩.
68
١١ - ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾. الآية. يقال: (دَأبتُ، أَدْأَبُ، دَأبًا) (١). و (دَأَبًا)، و (دُؤُوبًا): إذا اجتهدتَ في الشيء وتعبتَ فيه (٢).
قال الفراء (٣): والعرب تُثقِّلُ (٤) ما كان ثانيه أحد حروف الحلق (٥):
كـ (النَعْلِ)، و (الصَخْرِ)، و (النَهْرِ)، و (الشأْمِ) (٦)، وأنشدَ:
قد سار شرقِيّهُمْ حتى أتى سبأَ وانساحَ غربِيُّهُمْ حتى هو الشأَمُ (٧)
ويقال: (سار فلان يومًا دائِبًا): إذا اجتهد في السير يومه كله. هذا
(١) في (ب): (داءبًا).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٣٨٠، "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٢٧ (دأب).
(٣) قوله بمعناه في "معاني القرآن" له: ٢/ ٤٧. وورد بمعناه في "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣١٣، ونسبه لكتاب (المصادر) للفراء. وأورده السمين الحلبي في "الدر المصون" ٣/ ٤٠.
(٤) في (أ): (تَثَقَّلُ). ولم تضبط بالشكل في بقية النسخ، وصوبته من: "الدر المصون" ٣/ ٤٠.
(٥) حروف الحلق هي: الهمزة، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء. انظر: "سر صناعة الإعراب" ١/ ٤٦ - ٤٧، "الممتع في التصريف" ٢/ ٦٦٨ - ٦٦٩، "التمهيد" لابن الجزري ص ٨٣. وقد قال الفراء في "معاني القرآن" ٢/ ٤٧ عند قوله تعالى: (دأبا) آية: ٤٧ من سورة يوسف بعد ذكر القراءتين فيها، بتسكين الهمزة وفتحها: (وكذلك كل حرف فُتِح أوله، وسُكِّن ثانيه، فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزةً أو عينًا أو غينًا أو حاءً أو خاءً أو هاءً). وانظر: "تفسير الطبري" ٣/ ١٩١، "البيان" لأبي البركات الأنباري: ٢/ ٤٢.
(٦) في (ب)، (أ): (والشام) في (ج): (والسام). وقصد المؤلف هنا أن هذه الكلمات تُنطق بتسكين الحرف الثاني، أو بفتحه.
(٧) لم أهتد إلى قائله، وقد نقله السمين الحلبي في "الدر المصون" ٣/ ٤٠ عن "البسيط" للواحدي بالرواية التالية:
69
معناه في اللغة. ثم يصير الدأْب عبارة عن: الحال، والشأن، والأمر، والعادة؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله (١).
واختلفوا في معنى الكاف في قوله: ﴿كَدَأْبِ﴾: فقال ابن عباس، وعكرمة (٢)، ومجاهد، والسدِّي، وابن زيد (٣): كفعل آل فرعون، وصنيعهم في الكفر والتكذيب.
يريد: إن اليهود كفرت بمحمد - ﷺ - كعادة آل فرعون مع فرعون، عرفوا كَذِبَهُ وصِدْقَ موسى، وكذلك كفار الأمم الخالية.
وعلى هذا التقدير: دأبهم في الكفر، كدأب آل فرعون، فيكون الكافُ في موضع رفعٍ بخبر الابتداء (٤).
و (الدأب) على هذا التفسير والتقدير إن شِئت قلت: معناه: الأمر والشأن. وهو قول الأخفش (٥). وإن شئت قلت: العادة. وهو قول النضر (٦) والمبَرِّد (٧).
وأما الزجَّاج، فإنه أجرى (الدأب) على ما هو موضوع عليه في اللغة، فقال (٨): القول فيه عندي: إنَّ دأب هؤلاء أي (٩): اجتهادهم في كفرهم،
(١) انظر: "مجمل اللغة" ٢/ ٣٤٢، "اللسان" ٣/ ١٣١٠.
(٢) تقدمت ترجمته.
(٣) انظر أقوالهم في "تفسير الطبري" ٣/ ٦٩٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٠٣، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٧٥.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجَّاج ١/ ٣٨٠.
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ١٩٤.
(٦) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٧) في "الكامل" له ١/ ٣٧٦.
(٨) في "معاني القرآن" له: ١/ ٣٨٠. نقله المؤلف عنه بتصرف يسير.
(٩) (أي): ساقطة من: (ج).
70
وتظاهرهم على النبي - ﷺ -، كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام.
قال ابنُ الأنباري (١): لم يخاطب الله تعالى العرب إلَّا بما تَعْقِل (٢)، وقد يكون من عادتها أن تحذف المُشَبَّهَ، وتذكر المشَبَّهَ به (٣)، وتكون كاف التشبيه دليلًا على المحذوف، كقول امرئ القيس:
كَدَأبِك من أُمِّ الحْوَيْرِث.... البيت (٤).
أي لَقِيتَ من هذه المنازل، كما لَقِيتَ من هاتين المرأتين (٥)، فحذف، وهذا مشهور في الكلام.
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) في (د): (تفعل).
(٣) (به): ساقطة من: (ج).
(٤) البيت من معلقته، وهو في: "ديوانه": ص ١١١. وروايته في "الديوان":
قد سار شرقيهم حتى أتى سبأ وانساح غربيهم حتى هوى الشأما.
كَدِينك من أمِّ الحوَيْرِثِ قَبْلَها وجارَتِها أُمِّ الرَّباب بِمَأسَلِ
وورد كذلك في "تفسير الطبري" ٣/ ١٩١، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ٢٧، "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري ٢/ ٥٦٩، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣١٤، "الأمالي" للقالي ٢/ ٢٩٥، "المنصف" لابن جني ١/ ١٥٠، "شرح المعلقات السبع" للزوزني ص ١٠، "شرح القصائد العشر" للتبريزي ص ١٠، "خزانة الأدب" ٣/ ٢٢٣.
والدأب في البيت: العادة. وكذا قوله: (كدينك) أي: كعادتك. و (أم الحويرث) هي: أخت الحارث الكلبي، وهي امرأة أبي الشاعر، كما صَوَّبَ ذلك البغداديُّ في "خزانة الأدب" وقيل: هي أم الحارث الكلبي. و (أم الرَّبَاب): امرأةٌ من بني كلب أيضًا، و (مَأسِل): إسم جبل.
(٥) أي: لقيت من وقوفك على هذه الديار وتذكرك أهلها، كما لقيت من أم الحويرث وجارتها. وقيل: أصابك من التعب من هذه المرأة، كما أصابك من هاتين المرأتين أي: أصبحت عادتك في حب هذه، كعادتك من تَيْنك في قلة حظك من وصالهما ومعاناتك الوجْد بهما.
71
وقال بعض أهل المعاني (١): يجوز أن يكون الكاف في محل النصب، متصلة بقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾؛ لأن (الوقود) وإن كان اسما، ففيه معنى الفعل، ويكون التقدير: تَتَّقد النارُ بأجسامهم [كما تَتَّقدم بأجسام] (٢) آل فرعون، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول (٣) النقمة والعقوبة، مثل آل فرعون، أخذناهم وعاقبناهم، فلم يغن عنهم أموالهم ولا أولادهم (٤).
وعلى هذا القول: شُبِّه حال كفار اليهود بحال آل فرعون في العقوبة، وقلة غناء أسوالهم عنهم، وفي القول الأول: التشبيه وقع بين الحالتين في الكفر والتكذيب.
قال النحويون: ولا يجوز أن تكون الكاف من صلة (كفروا) في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لما وقع بينهما من الفصل بخبر (إنَّ) (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾. قال بعض أهل اللغة: معنى
(١) ممن قال بذلك النحاس في "معاني القرآن" ١/ ٣٥٩.
(٢) زيادة من: (ج)، (د).
(٣) في (ب): (طول).
(٤) من قوله: (عند حلول) إلى (أولدهم): ساقطة من: (ج)، (د).
(٥) ممن قال: إن الكاف متعلقة بـ ﴿كَفَرُوا﴾ الفرَّاء. وممن أنكر هذا الوجه الزجَّاج، والنَّحاس. انظر: "معاني القرآن" للزجَّاج ١/ ٣٨٠، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣١٣. وتعليل رأييِهما أن الخبر قد تم بقوله (لن تغني..) فانقطع تعلق الفعل بالكاف، ولا يُعطَف على صلة الموصول بعد تمام الجملة.
وانظر: "البيان" لأبي البركات الأنباري ١/ ١٩٢، "التبيان" للعكبري ١/ ١٧٧. "الكشاف" ١/ ٤١٤، "المحرر الوجيز" ٣/ ٣٢، "البحر المحيط" ١/ ٣٨٩ وقد ذكر عشرة أقوال في إعراب الكاف.
72
الذَّنْب: التُّلُوُّ للشيء. (ذنَبَه، يذْنِبهُ، ذنْبًا): إذا تلاه. و (الذَّنُوبُ): الدَّلْو؛ لأنها تالية للحبل في الجذب، وأصله من (الذَّنَبِ)؛ لأنه تالٍ لصاحبه (١).
فالذَّنْب: الجُرْم (٢)؛ لأن تبعته تتلو صاحبه من استحقاق الذم (٣).
وقوله تعالى: ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. إنما سُمِّي عقابًا؛ لأنه يعقب الذنب.
١٢ - قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾. قال ابن عباس في رواية عكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي صالح (٤)، وعطاء (٥): يعني يهود المدينة (٦).
(١) انظر: (ذنب) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٩٥، "اللسان" (ذنب) ٣/ ١٥٢٠.
(٢) في (ج): (والحرم).
(٣) في (ج)، (د): (الدم).
(٤) هو: باذام، أو باذان، مولى أم هانىء. تقدمت ترجمته.
(٥) (عطاء): غير مقروءة في: (ج).
(٦) أثر ابن عباس هذا برواية عكرمة وسعيد بن جُبير في: "سنن أبي داود": برقم (٣٠٠١) كتاب "الخراج" باب: كيف كان إخراج اليهود من المدينة "تفسير الطبري" ٣/ ١٩٢، "سيرة ابن هشام" ٢/ ١٧٩، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢ أ، "أسباب النزول" للواحدي: ص ١٠٠ - ١٠١، "تفسير البغوي" ٢/ ١٣، "لباب النقول" للسيوطي ص ٥١. وورد من رواية الكلبي عن أبي صالح في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢ أ، "أسباب النزول" للواحدي ص ١٠٠، "تفسير البغوي" ٢/ ١٣. أما رواية عطاء عن ابن عباس، فلم أهتد إلى مصدرها. ونص الأثر في: "سنن أبي داود": (لما أصاب رسولُ الله - ﷺ - قريشًا يوم بدر، وقدم المدينة، جَمَع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: "يا معشَرَ يهودَ، أسلموا قبل أن يصيبكم مثلُ ما أصاب قريشا"
قالوا: يا محمدُ، لا يغرَّنَّكَ من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفتَ أنَّا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله عز وجل في ذلك ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾
73
وقال مقاتل (١): هم مشركو مكة. واللفظ يحتمل الفريقين جميعًا. يدل على ذلك قوله: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: ١٠٥] فَفَسَّرَ ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالقبيلين، وكذلك قوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ [البينة: ١].
وقوله تعالى: ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾. يقال: غَلَبَ، غَلَبةً، وغَلَبًا. والغَلَبة أكثر (٢).
قال الفرَّاء (٣): وكان قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ [الروم: ٣]، حُذفت منها الهاء لمَّا أُضيفت (٤)، كما قال: ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ [النور: ٣٧] فحُذفت منها الهاء للإضافة. وفيه قراءتان: الياء والتاء (٥)، وكذلك قوله: ﴿تُحْشَرُونَ﴾. فمن قرأ بالتاء: فللمخاطبة. ويدل (٦) على حُسن (٧) التاء (٨): قوله تعالى (٩): ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ [النور: ٣].
(١) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٦٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ١٢.
(٢) انظر: (غلب) في: كتاب "العين": ٤/ ٤٢٠ "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٨٢، "اللسان" ٦/ ٣٢٧٨.
(٣) في "معاني القرآن" ٢/ ٣١٩.
(٤) في (ب)، (د): (أضيف).
(٥) في (د): (التاء والياء). قرأ حمزة والكسائي من السبعة بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. انظر: "الحجة" للفارسي ٣/ ١٧، "المبسوط" لابن مهران ١٤٠، "حجة القراءات" لابن زنجلة ١٥٤ - ١٥٥، وكتاب "الإقناع" لابن الباذش ٢/ ٦١٨.
(٦) في (د): (يدل).
(٧) في (ج): (صحة).
(٨) من قوله: (ويدل على..) إلى (.. ولم يقل غضوا): نقله عن "الحجة" للفارسي ٣/ ١٨ بتصرف واختصار.
(٩) من قوله: (تعالى..) إلى (.. صحة الياء): ساقط من: (ج).
74
ومن قرأ بالياء، فالمعنى: بلِّغهم أنهم سيُغلَبون. ويدل على صحة الياء: قوله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا﴾ [الجاثية: ١٤]، وقوله: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور: ٣٠]، ولم يقل: (غُضُّوا).
قال الفرَّاء (١): مَن (٢) قرأ بالتاء: جعل اليهود والمشركين (٣) داخلين في الخطاب، ثم يجوز في هذا المعنى: الياء، والتاء؛ كما تقول في الكلام: (قل لعبد الله إنه قائم، وإنك قائم) (٤).
وفي حرف عبد الله (٥): (قل للذين كفروا إن ينتَهوا (٦) يُغفَر لكم (٧) ما قد سلف) (٨).
ومن قرأ بالياء: فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود، وإلى أن الغلبة تقع على المشركين، كأنه قيل: (قل يا محمد لليهود: سَيُغلَبُ المُشركون، ويُحشَرون) فليس يجوز في هذا المعنى (٩) إلَّا الياء؛ لأن المشركين غَيبٌ.
وقال غير الفرَّاء (١٠): جعل المخاطبة للفريقين أحسن؛ لجواز وقوع
(١) في "معاني القرآن" ١/ ١٩١.
(٢) في (ج): (ومن).
(٣) في (ج): (المشركين واليهود).
(٤) (وإنك قائم): ساقط م: ن (ج).
(٥) هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(٦) في (ب): (تنتهوا).
(٧) في (ج): (د): (لهم).
(٨) انظر هذه القراءة، في "المحرر الوجيز" ٦/ ٣٠٠، "البحر المحيط" ٤/ ٤٩٤، ووردت فيه: (تنتهوا). والقراءة المتواترة: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨].
(٩) في (ج): (الموضع).
(١٠) القائل هو: أبو علي الفارسي في "الحجة" ٣/ ١٩، ونقله المؤلف عنه بتصرف.
75
(الذين كفروا) عليهما ولأنهما جميعًا مغلوبان: فاليهود غُلِبوا بوضع الجِزْيِ (١) عليهم، والمشركون غُلِبوا بالسيف.
وقال صاحب النظم (٢): من قرأ بالتاء، فالأمر واقع على هذه اللفظة بعينها، أي (٣): قل لهم هذا القول، ومن قرأ بالياء، فالأمر واقع على المعنى دون اللفظ أي قل لهم ما يكون هذا معناه، وإن لم تكن هذه اللفظة بعينها (٤).
قال مقاتل (٥): لما نزلت هذه الآية، قال النبي - ﷺ - للكفار يوم بدر: "إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم".
وقوله تعالى: ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ قال مجاهد (٦): بئس ما مَهَدوا لأنفسهم.
وقال الحسن (٧): بئس القرار.
وقيل (٨): بئس الفراش المُمَهَّدُ لهم. وقال ابن عباس في رواية
(١) في (ج): (د): (الخزى) وفي "الحجة" الجِزَى، وما أثبته صحيح كذلك؛ لأن الجزي، والجِزى، جمعٌ للجزية وهي: خراج الأرض، وما يؤخذ من أهل الذمة من مال. انظر: "اللسان" ٢/ ٦٢١ (جزى).
(٢) هو: أبو علي، الحسن بن حييى بن نَصْر الجُرْجاني، وكتابه "نظم القرآن".
(٣) من قوله: (أي..) إلى (.. هذه اللفظة بعينها) ساقطة من (د).
(٤) وانظر في توجيه القراءة بالتاء والياء: "الحجة في القراءات السبع" لابن خالويه ص ١٠٦، "الكشف" لمكي ١/ ٣٣٥.
(٥) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٥٦، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢ أ.
(٦) انظر: "تفسير مجاهد": ١/ ١٢٢، "تفسير الطبري" ٣/ ١٩٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٠٤.
(٧) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٨) ممن قال بذلك: الزجاج في "معاني القرآن" ١/ ٣٨٠.
76
عطاء (١): بئس ما مُهِّدَ لكم، وبئس ما مَهَّدتم لأنفسكم.
وقال أصحاب المعاني: ليس (٢) هناك تمهيد، ولكن المعنى: إنها بدلُ المهاد؛ كما أن البشارة بالعذاب بدل البشارة بالنعيم في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (٣).
١٣ - قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ قال الفراء (٤): أراد بالآية البيان (٥)؛ فلذلك ذَكَّرَ الفِعْلَ كأن ذهب إلى المعنى، وترك اللفظ كقول الشاعر:
كَخُرْعُوبَةِ البانَةِ المنفطرْ (٦)
(١) لم أقف على هذه الرواية عن ابن عباس، والذي في "الدر المنثور" ١/ ٤٣٠ هو قوله: (بئس ما مهدوا لأنفسهم). ونسب إخراجه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، ولم يذكر الرواي عنه.
(٢) في (ج): (وليس).
(٣) سورة آل عمران: ٢١، التوبة: ٣٤، والانشقاق: ٢٤. وأصل المَهْد لغة: التوثير، ويقال: (مَهَدْت لنفسي مهدًا) و (مَهَّدت لنفسي) أي: جعلت لها مكانا وطيئًا سهلًا، و (مَهَد لمسه خيرًا)، و (امْتَهده): هيأه وتوطأه. والمِهاد: الفراش، سمي بذلك لوثارته، و (مهدت الفراش مهدًا): بسطته ووطأته، والجمع: (أمهِدة) و (مُهُد)، و (مهْد الصبي): موضعه الذي يُهَيَّأ له لينام فيه، وجمعه: مُهود. انظر: (مهد) في: "الجمهرة" لابن دريد ص ٦٨٥، "اللسان" ٧/ ٤٢٨٦.
(٤) لم أهتد إلى مصدر قوله. ومن قوله: (أراد بالآية..) إلى (.. في الدنيا لمغرور): ورد في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣أ، مع اختلاف في بعض عباراته.
(٥) أي قد كان لكم بيان.
(٦) عجز بيت، وصدره كما في "الديوان":
بَرَهْرَهَةٌ رُؤدَةٌ رَخصَةٌ
وهو لامرئ القيس، في: "ديوانه": ص ٦٩، كما ورد منسوبًا له في "تهذيب =
77
[ولم يقل المنفطرة] (١) لأنه ذهب إلى القضيب.
ويجوز أن يكون التذكير للفصل [الواقع] (٢) بينهما بحرف الصفة؛ كقول الشاعر:
إنَّ (٣) امرءَّاَ غرَّه مِنْكُنَّ واحدةٌ (٤) بعدي وبعدك في الدنيا لَمَغْرُورُ (٥)
= اللغة" ١/ ١٠١٤ (خرعبة)، "الصحاح" ١/ ١١٩ (خرعب)، "والمخصص": ١٠/ ٢١٤، ٣/ ١١، "اللسان" ٢/ ١١٣٨ (خرعب)، ١/ ٣٩١ (بون)، ١/ ٢٧٠ (بره). ويروى كذلك: (.. رَخصَةٌ رُودَةٌ) في "تهذيب اللغة" وورد في "الصحاح": (رأدة) بدلًا من (رُؤدة)، ويروى: (رُودَةٌ). والبرهرهة: الجارية البيضاء، وقيل: التي لها بريق من صفائها، وقيل: الرقيقة الجلد؛ كأن الماء يجري فيها من النعمة، وهي معان متقاربة. والرخصة: الناعمة البَشرة. والرُّؤْدَة، والرَّأدَة، والرَّؤودة: الشابة الحسنة السريعة الشباب مع حسن غذاء. وسُمِّيت بذلك تشبيهًا لها بالغصن الرؤود، وهو الذي نبت من سنته أرطب ما يكون. والخرْعُوبة، والخرْعُوب، والخرعب: الغصن الطري السامق المتثني، وبه شُبِّهت المرأة الرقيقة الحسنة القوام، الكثيرة اللحم. والبانة: واحدة البان، وهو ضرب من الشجر. انظر: "اللسان" ١/ ٢٧٠ (بره) ٣/ ١٦١٦ (رخص) ٣/ ١٥٣٢ (رأد) ٢/ ١١٣٨ (خرعب) ١/ ٣٩١ (بون). والشاهد فيه: أنه ذكَّر لفظ (المنفطرْ) مع أن الأصل فيه التأنيث. لأنه صفة للفظ (خرعوبة) المؤنث لفظًا، إلا أنه لما أراد وقصد معنى (الغصن) أو (القضيب) ذكَّر الصفة لتتناسب مع مراده.
(١) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). وهي في "تفسير الثعلبي" كذلك ٣/ ١٣أ.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج) و (د).
(٣) (إن): ساقطة من: (ج).
(٤) في (أ): (واحدةً) وبقية النسخ غير مضبوطة بالشكل، والصواب ما أثبت.
(٥) لم أهتد إلى قائله. وهو في "معاني القرآن" للفراء: ٢/ ٣٠٨، "الخصائص" لابن جني ٢/ ٤١٤، "واللمع" له ص ٨١، "الأمالي الشجرية" لابن الشجري ٢/ ٤١٣، "الإنصاف" لأبي البركات الأنباري ص ١٥٢، "شرح المفصل" ٥/ ٩٣، "اللسان" ٦/ ٣٢٣٢ (غرر)، "شرح شذور الذهب" ص ٢٣٣، "وتخليص الشواهد" لابن =
78
والخطاب في هذه الآية للمعنيِّينَ بقوله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وأراد بالآية عَلاَمَةً تدل على صدق النبي - ﷺ -.
وقوله تعالى: ﴿فِي فِئَتَيْنِ﴾ أراد بالفئتين: رسول الله - ﷺ - وأصحابه يوم بدر، ومشركي مكة حين خرجوا لقتاله، في قول جميع المفسرين.
وقوله تعالى: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ﴾ الرفع (١)، وجْه الكلام، لأن المعنى: إحداهما تقاتل في سبيل الله، فهو رفع على استئناف من الكلام كما أنشدهُ (٢) الفرَّاء:
إذا مُتُّ كانَ الناسُ صِنْفَيْنِ (٣): شامتٌ... وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنت أفعل (٤)
= هشام ٤٨١، "المقاصد النحوية" للعيني ٢/ ٤٧٦، "منهج السالك إلى ألفية ابن مالك" شرح الأشموني ٢/ ٥٢، "همع الهوامع" ٧/ ٦٦، "الدرر اللوامع على همع الهوامع" للشنقيطي ٢/ ٢٢٥. والشاهد فيه قوله: (غرَّه منكن واحدةٌ) حيث لم يؤنث الفعل (غرَّ) مع أن إسناده إلى اسم ظاهر حقيقي التأنيث، وهو (واحدة) نظرًا للفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول، وهو الضمير المتصل، وبالجار والمجرور، وهو (منكن).
(١) من قوله: (الرفع..) إلى (.. والنصب جائز): نقله عن "معاني القرآن" للفراء: ١/ ١٩٢، ١٩٣ بتصرف.
(٢) في (د): (أنشد).
(٣) في (ج): (صنفان). وفي "معاني القرآن" نصفين.
(٤) البيت للعُجَيْر بن عبد الله السَّلُولي. وقد ورد منسوبًا له في "كتاب سيبويه" ١/ ٧٠، "والنوادر" لأبي زيد ١٥٦، "والأزهية في علم الحروف" للهروي ١٩٩، "الإفصاح" للفارقي ٢٨١، "والبسيط في شرح جمل الزجّاجي" لابن أبي الربيع السبتي ٢/ ٧٦٠، "المقاصد النحوية" للعيني ٢/ ٨٥، "خزانة الأدب" ٩/ ٧٢، "الدرر اللوامع" ١/ ٤٦. وورد غير منسوب في "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٠، "شرح أبيات سيبويه" للنحاس ص ٤٠، "أسرار العربية" لأبي البركات الأنباري=
79
ابتدأ الكلام بعد الصنفين، ولو كُسِرت على البدل من (١) ﴿فِئَتَيْنِ﴾ جاز؛ كما قال كُثَيِّر (٢):
وكنت كذي رِجلين: رجلٍ صحيحة... ورِجْلٍ رَمى فيها الزمانُ فَشَلَّت (٣)
= ص ١٣٦، "شرح المفصل" ١/ ٧٧، ٣/ ١١٦، ٧/ ١٠٠، "منهج السالك" للأشموني ١/ ٢٣٩، "همع الهوامع" ١/ ٢٣٥.
وقد انتهت قافية البيت في أكثر المصادر بكلمة (أصنعُ) بدلا من (أفعلُ) وقد جاءت رواياته مختلفة في بعض كلماتها، فورد (نصفين) و (نصفان) و (وصنفان) بدلًا من (صنفين) وورد (.. ومثنٍ بنِيرَيْ بعض)، و (النِيران): العَلَمان في الثوب. انظر: "الخزانة" ٩/ ٧٣.
والشاهد فيه، قوله وفق رواية المؤلف: (شامتُ وآخر) بالرفع؛ ناويًا ابتداء الكلام بعد (صنفين)؛ ليفَسِّر؛ وأراد: بعضٌ شامتٌ، وآخر مثنٍ. وعلى الرواية الثانية: (.. كان الناس صنفان: شامت..)، الشاهد فيه: (صنفان: شامت..) وأراد: كان الشأن والأمر: الناس صنفان.
(١) (من): ساقطة من: (د).
(٢) هو: أبو صخر، كُثَيِّر بن عبد الرحمن بن أبي جمعة. من خزاعة، كان رافضيًّا مُغاليًا، عَدَّه ابنُ سلام من الطبقة الثانية من الشعراء الإسلاميين. عاش في العصر الأموي. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٥٣٤، "الشعر والشعراء" ص ٣٣٤، "وفيات الأعيان" ١/ ٥٤٧.
(٣) البيت في: (ديوانه): ٩٩، كما ورد منسوبًا له في كتاب "الجمل في النحو" للخليل ص٢٠٧، "كتاب سيبويه" ١/ ٤٣٣، "مجاز القرآن" ١/ ٨٧، "الأمالي" للقالي ٢/ ١٠٨، "أمالي المرتضى" للشريف المرتضى ١/ ٤٦، "العمدة" لابن رشيق ٢/ ١٠٤٨، "والإيضاح" للفارقي ٢٣٢، ٢٨٢، و"نتاج الفكر" للسهيلي ٣١٥، "المقاصد النحوية" ٤/ ٢٠٤، "البسيط في شرح جمل الزجاجي" ١/ ٣٩٨، "شرح شواهد المغني" للسيوطي ٢/ ٨١٤،.. كما ورد غير منسوب في "المقتضب" ٤/ ٢٩٠، "المحلى" (وجوه النصب)، لأبي بكر بن شقير ١٦٣ و"إيضاح الوقف =
80
[يُنشَدُ البيتُ على وجهين (١).
ومما فُسِّر به الأول، فتبعه في الإعراب، ما أنشده] (٢) الفرَّاء:
حتى إذا ما استقلَّ النجمُ (٣) في غَلَسٍ وغُودر البقْلُ (٤) مَلْويٌّ ومحصودُ (٥)
= والابتداء" لابن الأنباري ٢/ ٥٧٠، و"المخصص" ص ٥٨، و"ارتشاف الضرب من لغة العرب" لأبي حيان ٢/ ٦٢١، و"المغني" لابن هشام ٢/ ١٤٣.
ومعنى البيت: أنه لما لم تثبت معشوقته عَزَّة على العهد، وثبت هو على عهدها؛ صار كذي رِجلين: رجلٍ صحيحة، ويعني بها: ثباته على عهدها، ورِجل مريضة، ويعني بها: خيانتها للعهد. ومعنى (شَلَّت): أصابها الشلل، وأصل الفعل: (شَلِلَت، تَشَلُّ، شَلَلًا)، ويقال: (شَلت يدُه)، و (أشلها الله). انظر: "الخزانة" ٥/ ٢١٢. والشاهد فيه قوله: (رِجْلٍ..) كُسرت على البدل من (رِجلين) وهو ما يسمى: بدل المفضَّل من المُجْمل، ويجوز الخفض على النعت.
(١) أي: في (رِجْل) الوجه الأول: الخفض، كما سبق بيانه. والوجه الثاني: الرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ، وتقديره: هما: رِجلٌ صحيحةٌ، ورجلٌ أخرى... ، أو: إحداهما رِجلٌ.. انظر: "الخزانة" ٥/ ٢١١.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(٣) في (ج): (استقل النجمَ).
(٤) في (ج): (النفل).
(٥) البيت لذي الرمة، وهو في: "ديوانه": ١٣٦٦، "والسمط" ١/ ٣٥٤. وأورده الفرَّاء في "معاني القرآن" ٢/ ٤١٠ برواية أخرى:
حتى إذا ما أضاء الصبح في غَلَسٍ
وكذا نقله عن الفرَّاء بهذه الرواية النحاسُ في "إعراب القرآن" ٢/ ٨٠١ وروايته في "الديوان" (.. وأحْصَدَ البقلُ أوْ مُلوٍ ومحصودُ). ومعنى (استقل): ارتفع، و (النجم) أراد به هنا الثريا. و (الغَلَس): ظلمة آخر الليل. وقوله (ملويٌّ)؛ يقال: (ألوَى النبتُ إلواءً): إذا جف. وقوله في رواية الديوان: (وأحْصَدَ البقلُ): أي: حان أن يحصد. انظر: "ديوانه" بشرح الباهلي: ١٣٦٧، "القاموس" ١٠٤٩ (قلل)، ٥٦١ (غلس).
81
ففسر، فقال: بعض البقل كذا، وبعضه كذا، والنَّصْب جائز (١).
وقوله تعالى: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ الرؤية (٢) ههنا متعدية إلى مفعول واحد، يدلك على ذلك تقييده بـ ﴿رَأْيَ الْعَيْنِ﴾. وإذا كان كذلك كان انتصاب ﴿مِثْلَيْهِمْ﴾ على الحال (٣)، لا على أنه مفعول ثانٍ كما تقول: (رأيت زيدًا راكبًا).
وقوله (مثليهم): المِثْل: يجوز إفراده في موضع التثنية والجمع؛ كقول الشاعر:
وساقِيَيْنِ مثلِ زيدٍ وجُعَلْ (٤)
(١) أي على الحال؛ سواء كان يقصد جواز النصب من الناحية الإعرابية في قوله: ﴿فِئَةٌ﴾ أي: التقتا مختلفتَيْن، أو يقصد جواز النصب في قوله: (ملوي ومحصود) في البيت، فيكون المعنى: حال كونه ملويًا ومحصودًا.
(٢) من قوله: (الرؤية..) إلى نهاية قول الله تعالى: (ثم لا يكونوا أمثالكم) نقله عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٩ - ٢٠ بتصرف.
(٣) انظر: "المشكل" لمكي ١/ ١٥٠، "البيان" للأنباري ١/ ١٩٣.
(٤) صدر بيت من الرجز، وتمامه:
سَقْبانِ ممشوقان مكنوزا العَضَلْ
ولم أقف على قائله، وقد ورد غير منسوب في "كتاب سيبويه" ٢/ ١٧، والفرق بين الحروف الخمسة، لابن السيد البطليُوسي ص ٣٧٠، "اللسان" ٤/ ٢٠٣٦ (سقب) ٧/ ٣٩٣٧ (كنز)، "التاج" ٢/ ٧٨ (سقب). وروي بلفظ: (.. صَقْبان) بدلًا من (سقبان). و (السَّقْب): ولد الناقة الذكر ساعة يُولد، وقد سبق بيانه. و (الصَّقْب، والصَّقَب): يُطلق على الطويل الممتلئ من كل شيء، ومنه الغصن الريَّان الغليظ الطويل، و (صَقْب الناقة): ولدها، وعمود يُعمد به البيت، و (رجل صقْب): ممتلئ الجسم ناعمه. انظر: "كتاب العين" ٥/ ٦٨، "الفرق بين الحروف الخمسة" ص٢٧٠، "اللسان" ٤/ ٢٤٦٩ (صقب)، و (الممشوق): الذي فيه طول مع خفة لحم. و (مكنوزًا العضل): مجتمعًا، وممتلئًا العَضَل باللحم. انظر: "اللسان" ٧/ ٤٢١١ (مشق)، ٧/ ٣٩٣٧ (كنز).
82
وقال الله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ (١) [النساء: ١٤٠] ولم يقل: أمثالهم. وقد جمع في قوله ﴿ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨].
وقوله تعالى: ﴿رَأْيَ الْعَيْنِ﴾. يقال: (رَأَيْتُه (٢) رَأيًا)، و (رُؤْية)، و (رأيته في المنام رُؤيا حَسَنَةً) غَيْر مُجْراةٍ (٣). فالرؤيا تختص بالمنام، وهو مصدرٌ لـ (رأيت) (٤)، ويقول: (هو منى رأْيَ العَيْنِ) أي: حيث يقع عليه بصري. فقوله: ﴿رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ يجوز (٥) أن يَنْتَصِبَ عدى المصدر (٦)، ويجوز أن يكون ظرفًا للمكان (٧)، كما تقول: (تروْنهم أَمامَكم). ومثله: (هو مِنِّى مَزْجَرَ الكَلْبِ) (٨)،
= والشاهد في البيت: إفراد (مثل) وهي في موضع التثنية.
(١) فأفرِدَت (مثل) في الآية، وهي في موضع الجمع.
(٢) من قوله: (رأيته..) إلى (.. مجراة): نقله عن "تفسير الطبري" ٣/ ١٩٨ مع التصرف.
(٣) في (ج): (محزاة)، (د): (مجزاة). ومعنى: (غير مُحجْراة): أي أن كلمة (رُؤْيا)، غير مصروفة، والإجراء: المنع من الصرف. وهو من اصطلاحات الكوفيين. يقولون: (ما يجرى وما لا يجرى)، و (الجاري وغير الجاري). قال ابن حجر: (وهذا اصطلاح قديم، يقولون للاسم المصروف: مُجْرى). "فتح الباري" ٨/ ٦٨٤. وقد وردت هذه اللفظة كثيرًا عند الفرَّاء. انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٥٠، ٢١٤، ٢١٨، "والحروف" لأبي الحسين المزني ٥٩، "النحو وكتب التفسير" ١/ ١٨٦، "دراسة في النحو الكوفي" ص ٢٣٣.
(٤) في (د): (مصدرًا رأيت).
(٥) في (ج): (ويجوز).
(٦) والنصب هنا على المصدر: إمَّا المصدر التوكيدي، أو المصدر التشبيهي أي: رأيا مثلَ رأي العين أي: يشبه رأي العين.
(٧) أي: يجوز نصبه لكونه ظرف مكانٍ.
(٨) انظر هذا المَثَل في "كتاب سيبويه" ١/ ٤١٣، ٤١٦، "الأصول" لابن السراج ١/ ١٩٩، "المسائل الحلبيات" للفارسي ٥٩، "اللسان" ٣/ ١٨١٣ (زجر).
والمَزْجَر: اسمٌ لمكان الزَجْر. والزَّجْر: المنع والنهي والانتهار. ومعنى هذا المثل: أنه مني في القرب بتلك المنزلة.
انظر: (زجر) في "اللسان" ٣/ ١٨١٣، "المعجم الوسيط" ١/ ٣٩٠.
83
و (مَنَاطَ العَيُّوقِ) (١).
وفي قوله: ﴿يَرَوْنَهُمْ﴾ قراءتان: التَّاءُ (٢)، والياء (٣). فمن قرأ بالتَّاء؛ فلأن ما قبله خطاب لليهود؛ والمعنى: تَرَوْن أيها اليهود المسلمينَ مِثْلي ما كانوا، أي: مِثْلي الفئة الكافرة؛ وذلك أن الله تعالى كَثَّر المسلمين في أعينهم يوم بَدْر. فذلك الآية، والأُعجوبة، وهو أنهم رَأَوا القليلَ كثيرًا. ويجوز أن تكون الكناية عن الفئة الكافرة، وهم المشركون، والمعنى: تَرَوْنَ المشركين ضِعفي المؤمنين.
(١) المَناط: موضع التعليق. والعيُّوق: نجم أحمرُ مضيءٌ في طرف المجرَّة الأيمن، يتلو الثريا، لا يتقدمها، ويطلع قبل الجوزاء. ومعنى المَثَل: هو مني شديد البعد، كبعد مكان هذا النجم. انظر: "القاموس" ص ٩١٣ (عوق)، "المعجم الوسيط" ٢/ ٦٤٣ (عاق) ٢/ ٩٧٢ (ناط).
وقد ورد المَثَل في "مجمع الأمثال" للميداني ١/ ٢٠١، "المستقصى في الأمثال" للزمخشري ١/ ٢٤، "الدرة الفاخرة" لحمزة الأصفهاني ١/ ٧٥، ٧٦. وورد بلفظ: (أبعد من العيوق) في "جمهرة الأمثال" للعسكري ١/ ٢٠٤، ٢٣٨. وورد: (وهو مني مناط الثريا) في "الأصول" لابن السراج ١/ ١٩٩. ولم يرتض السمينُ الحلبي رأيَ الواحدي بالنصب على الظرفية، فقال بعد أن نقل قول الواحدي السابق: (وهذا إخراجٌ للفظ عن موضوعه مع عدم المساعد معنًى وصناعةً). انظر: "الدر المصون" ٣/ ٥٥.
(٢) قوله: (التاء والياء، فمن قرأ بالتاء) ساقط من: (ج).
(٣) قرأ نافع بالتاء، وقرأ باقي القرَّاء السبعة بالياء. انظر: "السبعة" ص ٢٠١ - ٢٠٢، "الحجة" للفارسي ٣/ ١٧.
84
ونذكر بعد هذا كيف رأَوْهم مِثْلَيهم، وهم كانوا ثلاثةَ أمثالهم؟! (١).
ومن قرأ بالياء؛ فَلِلْمُغايَبَةِ (٢) التي جاءت بعد الخطاب، وهو قوله: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾. فقوله: ﴿يَرَوْنَهُمْ﴾ يعود إلى الإخبار عن إحدى الفِئتين: يجوز أن يكون خَبرًا عن الفئة المسلمة،
(١) وهناك وجهٌ إذا كان الخطاب لليهود، إضافة إلى ما ذكره المؤلف، وهو: ترون أيها اليهودُ الكفارَ مثلي عدد الكفار، أي أن الله كثَّر الكفار في أعين اليهود، ومع ذلك كان النصر عليهم للمسلمين، وفيه دلالة على تأييد الله للمؤمنين. ويرى السمينُ الحلبي، أن كون الخطاب هنا لليهود استتباعًا لخطابهم في قوله تعالى: ﴿لَكُمْ﴾ يرى أن (تكلفٌ لا حاجة إليه). ويعلل ذلك بقوله: (لأن اليهود لم يكونوا حاضري الواقعة حتى يُخاطَبوا برؤيتهم لهم ذلك). "الدر المصون" ٣/ ص ٥٠ - ٥١. كما أن هناك وجوهًا أخرى وُجِّهَتْ بها القراءة بالتاء، وهي:
أن الخطاب في قوله: ﴿لَكُمْ﴾ و ﴿تَرَوْنَهُمْ﴾ للمؤمنين، أي: كان لكم أيها المؤمنون آية... حيث ترون الكفارَ مِثْلَيْ ما أنتم عليه في العدد، واستُبعِدَ هذا بأنه خلاف ما ذكره الله في آية ٤٤ من سورة الأنفال ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ حيث قلل الله المشركين في أعين المؤمنين.
أن الخطاب في قوله: ﴿تَرَوْنَهُمْ﴾ للمؤمنين، أي: ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي عدد أنفسكم. و ﴿مِثْلَيْهِمْ﴾ هنا انتقالٌ من الخطاب إلى الغيبة، والمعنى: ترونهم مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله. أو ترون أيها المسلمون المسلمين، أي: ترون أنفسكم مثلي عددكم.
أن الخطاب في ﴿لَكُمْ﴾ و ﴿تَرَونَهُمْ﴾ للكفار، أي: قد كان لكم أيها المشركون آية.. حيث ترون المؤمنين مثلي أنفسهم في العدد، ورُدَّ هذا بما رُدَّ به الوجه الأول. ترون أيها المشركون المؤمنين مثلي فئتكم الكافرة و ﴿مِثْلَيْهِمْ﴾ هنا انتقال من الخطاب إلى الغيبة، وحول هذه الوجوه المذكورة نقاشات، تراجع في الكشف لحمكي ١/ ٣٣٦. "الحجة" للفارسي ٣/ ٢٠، "حجة القراءات" ص ١٥٤، "الدر المصون" ٣/ ٤٨ - ٥١.
(٢) في (ج)، (د): (فللمعاينة).
85
ويجوز (١) أن يكون خبرًا عن الفئة الكافرة (٢). فإن جعلته خبرًا عن الفئة المُسْلمة (٣)، فالمعنى: يرى المسلمونَ المشركينَ مِثْلَيهم.
فإن قيل: المسلمون يوم بَدر كانوا ثلاثمائة وثلاثةَ عشر رجلًا، والكفار كانوا تسعمائة وخمسين رجلًا (٤)، فكيف رأى المسلمون (٥) المشركين مِثْليهم، وهم كانوا ثلاثة أمثالهم؟!
فزعم الفرَّاءُ (٦): أن المعنى: يرونهم ثلاثة أمثالهم. قال: لأنك إذا قلت: (عندي ألف، وأحتاج إلى مِثليه). فأنت تحتاج إلى ثلاثة (٧) آلاف (٨)؛ لأنك لمَّا نَوَيْتَ أن يكون الألف الذي عندكَ داخلًا في المِثْل، كان (المِثْل): اثنين، و (المثلان): ثلاثة. وعلى هذا (٩) الآية كانت في أن المسلمينَ رَأَوْا المشركين على ما هم عليه مِنْ وُفُورِ العَدَدِ، ومع ذلك كانت قلوبهم مملوءةً جُرْأةً عليهم، واحتقارًا لهم، وشهوةً لملابستهم (١٠).
(١) من قوله: (ويجوز) إلى (.. عن الفئة المسلمة) ساقط من: (د).
(٢) في (ج): (المسلمة).
(٣) فإن جعلته خبرًا عن الفئة المسلمة) ساقط من: (ج).
(٤) انظر: "صحيح البخاري" (٣٩٥٧) كتاب المغازي، باب: عدة أصحاب بدر، "صحيح مسلم" برقم (١٧٦٣): كتاب الجهاد. باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، "زاد المعاد" ٣/ ١٧٥، "حدائق الأنوار" لابن الديبع ٢/ ٤٩٨ - ٤٩٩، "السيرة النبوية" لابن كثير ٢/ ٤٠٤، ٤٢٢.
(٥) في (ج): (المسلمين).
(٦) في "معاني القرآن" ١/ ١٩٤. نقله عنه بتصرف، واختصار.
(٧) من قوله: (ثلاثة..) إلى (.. في المثل، كان) ساقط من: (ج).
(٨) في (د): (ألف).
(٩) في (د): (هذه).
(١٠) الملابسة: المخالطة. وهنا بمعنى: الاشتباك مع الكفار في ساحة المعركة. انظر: "اللسان" ٧/ ٣٩٨٧ (لبس).
86
قال الزجاج (١): وهذا غلط؛ لأنَّا إنما نعقل (مِثْل الشيء): مساويًا له، و (مثليه): ما يساويه مَرَّتَيْن. والذي قاله الفرَّاءُ يَبْطُل في معنى الدلالة على الآية المعجزة؛ لأن المسلمين إذا رأوهم على هيئتهم، فليس في هذا آيةً، وإنما المعنى في هذا: أن الله عز وجل أرى المسلمين أنَّ المشركين إنما هم (٢) ستمائة وكَسْر، وذلك (٣)، ان الله عز وجل كان قد أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار (٤)، فأراهم المشركين على قَدْرِ ما أعلمهم أنهم يغلبونهم؛ ليُقَوِّي قلوبَهم.
والدليل على صحة هذا المعنى: قوله: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ [الأنفال: ٤٤]، فرأى كلُّ واحدٍ من الفريقين الآخرَ أقلَّ مِمّا كانوا؛ لِيَطْمَعَ كلُّ واحد منهما في الآخر، فيتقدم ويُلابِسَ. وهذا (٥) هو الذي فيه الآية المعجزة، وهو رؤية الشيء بخلاف صورته. انتهى كلامه (٦).
هذا إذا جعلنا قوله: ﴿يَرَوْنَهُمْ﴾ إخبارًا عن المؤمنين، فإنْ جعلته
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٣٨١ نقله عنه بتصرف واختصار.
(٢) في (ج): (سماهم).
(٣) قوله (وكسر، وذلك): بياض في: (د).
(٤) وذلك في قول الله تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ آية: ٦٦ من سورة الأنفال.
(٥) في (ب): (هذا).
(٦) ومما يدفع قول الفراء الآنف: أن (المِثل) في اللغة: شِبْه الشيء، والمعادل له في المثال والقَدْر والمعنى.
كتاب "العين": ٨/ ٢٢٨، وذيل كتاب "الأضداد" للصَّغاني: ٢٤٥.
87
إخبارًا عن الفئة الكافرة (١)، فيكون المعنى: يُرِي الفئةَ الكافرةَ الفئةَ المقاتلةَ في سبيل الله مِثْلَيهم أي: مِثْلي ما كانوا، أو (٢) مِثْلي أنفسهم، على ما ذكرنا مِنْ تكثير الله إيَّاهم.
فإن قيل: كيف يصح تكثير الله المسلمينَ في أعينِ الكافرين، وقد قال: ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ [الأنفال: ٤٤].
فالجواب: ما قاله أبو عبيد (٣)، وهو إنَّ التقليل كان في حالة أخرى، فالله (٤) تعالى كثَّر المسلمين في أعين الكافرين، كما قَلَّل الكافرين في أعينهم، ثم في حالة أخرى، قَلَّل المسلمين في أعينهم؛ لِيَطْمَعوا (٥) فيهم، فإذا لابسوهم، كانت العاقبةُ للمسلمين عليهم. فَكِلا (٦) الأمرين فيه دلالة على لُطْف الله عز وجل للمؤمنين (٧)، وحُسْن مَعُونَتِه إياهم.
والقراءة الصحيحة الموافقة للآية التي في الأنفال من غير اختلاف حالين: قراءة العامة، وهي الياء المُعْجَمة، على المعنى الذي ذكره الزجَّاج.
على أنَّ الفرَّاء (٨) قال: يجوز أن يكون التقليل الذي ذُكِر (٩) في
(١) من (الكافرة..) إلى (.. الفئة الكافرة): ساقط من (ج).
(٢) في (أ)، (ب): (و). والتصويب من (ج) و (د).
(٣) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٤) في (د): (والله).
(٥) في (أ): (ليطعموا)، والمثبت من (ب)، (ج)، (د)، وهو الصواب.
(٦) في (د): (فكان).
(٧) (للمؤمنين): ساقطة من (ج) و (د).
(٨) في "معاني القرآن" ١/ ١٩٥.
(٩) في (ج): (ذكره).
88
الأنفال لم يكن من طريق تقليل العَدَد، ولكن معناه: التهوين، كما تقول: (إني لأرى كثيرَكم قليلًا)، أي: قد هُوِّن علي، لا (١) أنك ترى الثلاثةَ اثنين (٢). وإذا كان كذلك صَحَّ تكثيرُ الله المسلمين في أعين الكافرين، على ما ذكرنا.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ نَصْرُ الله تعالى المسلمين على وجهين: نَصْرٌ بالغَلَبَةِ، كنصرهم يوم بدر. ونَصْرٌ بالحُجَّة. ولو هُزِمَ قومٌ مِنَ المؤمنين لجاز أن يقال: هم المنصورون بالحُجَّة، ومحمودِ العاقبة.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً﴾ العِبْرَة: الاعتبار (٣)، وهي: الآية التي يُعْبَر (٤) بها من منزلة الجهل إلى العلم؛ لأن المعتبر بالشيء، تاركٌ جهلَه، وواصلٌ إلى عِلْمِهِ بما رأى.
وأصلُه من: (العُبُور)، وهو: النفوذ من أحد (٥) الجانبين إلى الآخر. ومنه: (العِبارة) وهو: الكلام الذي يَعْبرُ (٦) بالمعنى إلى المخاطَب، و (عبارة
(١) (لا): ساقطة من: (ج).
(٢) وقد دافع ابن الأنباري عن قول الفرَّاء هذا مبينًا أن الأعجوبة لم تكن في العَدَد، وإنما كانت في الجزع الذي أوقعه الله تعالى في قلوب المشركين على كثرتهم، وقلة المسلمين، ولِما قذفه الله من شجاعة في قلوب المسلمين، فهانت بها كثرة عدد المشركين عليهم، فكان احتقار المسلمين للكافرين على وفرة عددهم أعجب من احتقارهم لهم على نقصان عددهم. انظر: "الأضداد" ص ١٣٣.
(٣) وفي "الصحاح": (العِبْرَة: الاسم من الاعتبار) ٢/ ٧٣٢ (عبر).
(٤) في (د): (يُعتبر).
(٥) في (د): (إحدى).
(٦) في (أ): (يُعْبَرُ). وفي بقية النسخ غير مضبوطة بالشكل. والصواب ما أثبته ليستقيم المعنى.
89
الرُّؤْيا) من ذلك؛ لأنه تفسير لها، يَعْبُر بها من حال النَوْم إلى حال اليَقَظَةِ بإظهار التأويل (١).
وقوله تعالى: ﴿لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ أي: لأولي (٢) العقول؛ كما يقال: (لِفُلانٌ (٣) بَصَرٌ بهذا الأمر)، أي: على علم ومعرفة. وليس بالأبصار التي يشترك فيها سائرُ الحيوان.
١٤ - قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾. يقال: مَن الذي زَيَّن للناس ذلك؟ فيقال: اللهُ تعالى زَيَّن للناس؛ بما جعل (٤) في الطِبَاع من المنازعة إلى هذه الأشياء محنةً، كما قال الله عز وجل: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ﴾ [الكهف: ٧].
وقال بعضهم (٥): الشيطان زينها؛ لأن الله تعالى زهَّد فيها؛ بأنْ أعلم وأرى زوالها (٦)، ولو زهَّد فيها (٧) حقيقةً؛ لوُجد ذلك في الخَلْقِ كلِّهم، كما وُجِد التزيين؛ فإنَّ حُبَّ هذه الأشياء موجودٌ في طِبَاع البَشَر (٨).
(١) وقد أخذت الكلمة من (العِبْر) وهو جانب النهر. (وعبرت النهرَ والطريقَ): إذا قطعته من هذا الجانب إلى الجانب الآخر. انظر: (عبر) في "التهذيب" ٣/ ٢٣٠٥، "مجمل اللغة" ٢/ ٦٤٣، "مفردات ألفاظ القرآن" ص ٥٤٣، "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي ص ٤٩٩.
(٢) في (ج): (أولي).
(٣) في (ج): (فلان).
(٤) في (ب): (بحب أجعل).
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجَّاج ١/ ٣٨٣ حيث اقتبس منه المؤلف بعض العبارات.
(٦) في (د): (والها).
(٧) (فيها): ساقطة من: (ج).
(٨) وممن قال بهذا القول: الحسن البصري رضي الله عنه وممن قال بالقول الأول:=
90
والشهوة: تَوَقان النفس إلى الشيء، وقد ذكرناها في سورة الأعراف، عند قوله: ﴿شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ﴾ [الأعراف: ٨١].
وقوله تعالى: ﴿وَالْقَنَاطِيرِ﴾. جَمْعُ (قِنْطار)، وكثر الاختلاف في معنى (القنطار): فروى أبو هريرة (١) عن النبي - ﷺ -، أنه قال:
= عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٠٧، "تفسير الطبري" ٣/ ١٩٩، "المحرر الوجيز" ٣/ ٤٠، "الدر المنثور" ٢/ ١٧١٨. وقال الخازن في "تفسيره" ١/ ٢٧٤: (قال أهل السنة: المُزيِّنُ: هو الله تعالى؛ لأنه تعالى خالق جميع أفعال العباد، ولأن الله تعالى خلق جميع ملاذ الدنيا، وأباحها لعبيده، وإباحتها للعبيد تزيين لها) ثم ذكر من الآيات ما يدل على ذلك، ثم قال: (ومما يؤيد ذلك: قراءةُ مجاهد: (زَيَّنَ) بفتح الزاي على تسمية الفاعل. وقال الحسن: المزين: هو الشيطان. وهو قول طائفة من المعتزلة، ويدل على ذلك: أن الله تعالى... أطلق حب الشهوات، فيدخل فيه الشهوات المحرمة، والمُزَيِّن لذلك هو الشيطان، ولأن الله تعالى ذكر هذه الأشياء في معرض الذم للدنيا، ويدل عليه آخر هذه الآية، وهو قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ ونقل عن أبي علي الجبَّائي من المعتزلة أن كل ما كان حرامًا، كان المزين له هو الشيطان، وكل ما كان مباحًا كان المزين له هو الله تعالى. والصحيح: ما ذهب إليه أهل السنة، لأن الله تعالى خالق كل شيء، ولا شريك له في ملكه). ولكن الآية هنا تحتمل الأمرين؛ لأن تزيين الله لها، حقيقة، كما سبق إيضاح المؤلف له، وكما ورد في قول الخازن، أما تزيين الشيطان لها فبالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجهها، والحض على تعاطي الشهوات المحضورة فيها، وعلى هذا الوجه يُحمل كلام الحسن رضي الله عنه. انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٤٠، "البحر المحيط" ٢/ ٣٩٦، "تفسير الرازي" ٧/ ٢٠٩، "الإنصاف" فيما تضمنه "الكشاف" من الاعتزال، لابن المنير (مطبوع على هامش "الكشاف" ١/ ٤١٦، "روح المعاني" ٣/ ٩٩.
(١) هو: أبو هريرة بن عامر الدوسي. واختلف في اسمه كثيرًا، ولم يُختَلَف في اسم آخر مثله ولا ما يقاربه. فقيل: عمير، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل غير ذلك. وقيل: إن اسم والده: صخر. وقيل: دومة، وقيل غير ذلك. أسلم بين =
91
"القنطار: اثنا (١) عشر ألف أوقية" (٢).
وروى أنس عنه أيضًا: أن القنطار: ألف دينار (٣).
وروى أُبَيُّ بن كعب، أنه قال: القنطار (٤): ألف ومائتا أوقية (٥)
= الحديبية وخيبر، وهاجر وسكن الصُّفَّة، وكان من ألزم الصحابة للنبي - ﷺ -، وأحفظهم للحديث عنه، وأكثرهم رواية. توفي سنة (٥٧ هـ). انظر: "أسد الغابة" ٦/ ٣١٨، "الإصابة" ٤/ ٢٠٢.
(١) في (ب)، (ج)، (د): (اثني).
(٢) الحديث أخرجه: أحمد في "المسند" ٢/ ٣٦٣، وابن ماجه (٣٦٦٠) "كتاب الأدب" باب: (بر الوالدين)، وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" مما نقله محقق "السنن": (إسناده صحيح، رجاله ثقات) ولكن ضعفه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" ٢/ ٤٩٤ برقم (٢٩٥٣)، وأخرجه الدارمي في "السنن" ٤/ ٢١٧٧ (٣٥٠٧) باب: (كم يكون القنطار). وأوقفه على أبي هريرة، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" انظر: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" ٦/ ٣١١ برقم: ٢٥٧٣، وقال محققه، شعيب الأرنؤوط: (إسناده حسن)، وأخرجه البيهقي في "السنن" ٧/ ٢٣٣ وأورده الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٥ ب، وابن كثير في "تفسيره" ١/ ٣٧٧، ونسب إخراجه لوكيع في "تفسيره" وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٨، والمتقي الهندي، في "كنز العمال" ٢/ ٥ برقم (٢٨٩٢).
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٦٠٨، وقال محقق التفسير: إسناده ضعيف، ولم يصح رفعه. وأورده ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٣٧٧ ونسب إخراجه للطبراني، وأخرجه الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٥ ب، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٨، ونسب إخراجه كذلك لابن مردويه.
وقد ورد عن أنس رضي الله عنه بلفظ آخر، يرفعه: (القنطار: ألفا أوقية). رواه الحاكم في "المستدرك" ٢/ ١٧٨ كتاب النكاح. وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين، وأقرَّه الذهبيُّ، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٨، والمتقي الهندي في "كنز العمال" ٢/ ٥ برقم (٢٨٩١).
(٤) في (ج): (إن القنطار).
(٥) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" ٣/ ٢٠٠، وأورده ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٣٧٧،=
92
وهو قول ابن عمر (١)، ومعاذ بن جبل (٢) وابن عبَّاس في (٣) رواية عَطيَّة (٤).
وقال في رواية الوالبي: القنطار: اثنا (٥) عشر ألفَ درهم، أو ألفُ دينار، دِيَةُ أحدِكم (٦).
= وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٨، والمتقي الهندي في "كنز العمال" ٢/ ٥ برقم (٢٨٩٣)، وقال عنه ابن كثير: (وهذا حديث منكر أيضًا، والأقرب أن يكون موقوفًا على أبي بن كعب، كغيره من الصحابة).
(١) الأثر عنه، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠٠، "تفسير الثعلبي" ١٣/ ١٥ ب، "المحرر الوجيز" ٣/ ٤١، "زاد المسير" ١/ ٣٥٩. وورد عنه: أن القنطار سبعون ألفًا. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠١، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٠٩.
(٢) الأثر عنه، في "سنن الدارمي" ٤/ ٢١٧٨ (٣٥١٢) كتاب: فضائل القرآن، باب: (كم يكون القنطار)، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٠٨، "غريب الحديث" لأبي عبيد: ٢/ ٢٦٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥ ب، "سنن البيهقي": ٧/ ٢٣٣، كتاب الصداق، باب: (لا وقت في الصداق)، "تفسير البغوي" ٢/ ١٥، "المحرر الوجيز" ٣/ ٤١، "زاد المسير" ١/ ٣٥٩، "الدر المنثور" ٢/ ١٨، ونسب إخراجه لعبد بن حميد.
ومعاذ بن جبل، هو: أبو عبد الرحمن، الأنصاري الخزرجي. من كبار الصحابة، شهد العقبة والمشاهد كلها، بعثه النبي - ﷺ - قاضيًا على منطقة (الجَنَدِ) من اليَمَن، وهو مُقَدَّمٌ في علم الحلال والحرام، وممن جمع القرآن على عهد النبي - ﷺ -، توفي بالطاعون سنة (١٧هـ). انظر: "الاستيعاب" ٣/ ٤٥٩، "الإصابة" ٣/ ٤٢٦.
(٣) في (ج): (وفي).
(٤) الأثر عنه، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥ ب، "سنن البيهقي" ٧/ ٢٣٣، "الدر المنثور" ٢/ ١٨.
(٥) في (ج): (د): (اثني).
(٦) الأثر عنه، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦ أ، "سنن البيهقي" ٧/ ٢٣٣، "الدر المنثور" ٢/ ١٨.
93
وبه قال: الحسن (١) [وقتادة] (٢).
وقال الكلبي (٣): القنطار بلسان الروم: مِلْءُ (٤) مَسْكِ ثَوْر (٥)، من ذهب أو فضة. وهو قول أبي نَضْرة (٦).
(١) الأثر عنه، في "سنن الدرامي" ٤/ ٢١٧٤ (٣٥٠١) كتاب: فضائل القرآن، باب: من قرأ من مائة آية إلى الألف، رواه مرة مرسلًا عنه، ومرة موقوفًا عليه. وورد في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٠٨، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ١٥، "المحرر الوجيز" ٣/ ٤١، "زاد المسير" ١/ ٣٥٩.
(٢) ما بين المعقوفين: زيادة من: د.
ولم أهتد إلى مصدر الأثر عنه، وإنما الوارد عنه في المعنى المذكور: روايته عن الحسن، وهي في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠٠. أما الوارد عنه من قوله هو: أن المثقال: ثمانون ألفًا من الورق، وهي الفضة، أو مائة رطل من ذهب. وقد ورد هذا الأثر في "تفسير الطبري" ٣/ ١٩٩، "الزاهر" ١/ ٤٣٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦ أ، "زاد المسير" ١/ ٣٥٩، "المحرر الوجيز" ٣/ ٤٢، "الدر المنثور" ٢/ ١٨، ونسب روايته لعبد بن حميد.
(٣) أورد قوله: أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٨٩، وأورده نقلًا عن النقَّاش ابن عطية، في "المحرر الوجيز" ٣/ ٤٢، والقرطبي في "تفسيره" ٤/ ٣١، وفي "الزاهر" ١/ ٤٣٢، ينقل عن الكلبي، أن القنطار: ألف مثقال، ذهب أو فضة، وكذا في "زاد المسير" ١/ ٣٥٩.
(٤) في (ب): (ملاء)، وفي (ج): (ملو).
(٥) المَسْكُ: هو الجلد. انظر: "النهاية في غريب الحديث" ٤/ ٣٣١.
(٦) في (ج) في (د) أبي (نصرة).
الأثر عنه، في "سنن الدارمي" ٤/ ٢١٧٧ (٣٥٠٨) كتاب: فضائل القرآن، باب: كم يكون القنطار، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠١، "الزاهر" ١/ ٤٣٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦ أ، "المحرر الوجيز" ٣/ ٤٢، "ابن كثير" ١/ ٣٧٧. ولكن أبو منصور الثعلبي، في "فقه اللغة" ١/ ١٩٩، ذكر أن مقداره في لغة الروم: اثنا عشر ألف أوقية. وأبو نضرة هو: المنذر بن ملك بن قُطَعة العبدي، العَوَقي، البصري. عده ابن حجر من الطبقة الوسطى من التابعين، ثقة، توفي سنة (١٠٨هـ) أو (١٠٩هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" ٤/ ١٢٩، "تقريب التهذيب" (٦٨٩٠)، "تهذيب التهذيب" ٤/ ١٥٤.
94
ويقال: إنَّه في التوراة كذا. وبلسان أفريقية، وأندلس: ثمانية ألف (١) مثقال من ذهب أو فضة (٢).
قال الزجَّاج (٣): والذي يخرج من اللغة أن (القنطار) مأخوذ من عَقْدِ الشيء وإحكامه، و (القَنْطَرة) من ذلك؛ لتوثيقها بعَقْدِ الطَّاق (٤). وكأن القنطار (٥): هي الجملة التي تكُونُ عقْدَةً وثيقةً منه (٦).
وهذا قول الربيع (٧)، وابن كيسان (٨)، وأبي عبيدة (٩)؛ فإنهم لم يحدُّوا القنطار، فقالوا: إنه المال (١٠) الكثير.
(١) هكذا جاءت كتابتها في جميع النسخ. وهي كذلك في "الزاهر" ١/ ٤٣٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦ أ، "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب" للسيوطي: ١٣٢.
(٢) ممن قال بهذا القول أبو حمزة الثُّمالي. انظر المصادر السابقة، "تفسير القرطبي" ٤/ ٣١.
(٣) في "معاني القرآن" ١/ ٣٨٣، نقله عنه بتضرف.
(٤) الطَّاق: ما عُطِف من الأبنية، والجمع: طاقات، أو عقد البناء حيث كان، والجمع: أطواق وطيقان. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٧٢٥ (طوق).
(٥) (القنطار): ساقطة من: (د).
(٦) يعني: أن القنطار: الجملة من المال.
(٧) الأثر عنه، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥ أ، "زاد المسير" ١/ ٣٥٩، "الدر المنثور" ٢/ ١٨.
(٨) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥ أ.
(٩) في "مجاز القرآن" ١/ ٨٨.
(١٠) في (ج): (مال).
95
وحكى أبو عبيدة عن العرب: أنهم يقولون: هو وزن لا يُحَدُّ (١).
وقوله تعالى: ﴿الْمُقَنْطَرَة﴾ قال أهل اللغة: (٢) هو (مُفَعْلَلَة)، من: (القنطار)؛ كما قالوا: (إبلٌ مُؤبَّلةٌ)؛ أي: مجموعة، و (ألفٌ مؤلَّفٌ).
فمعنى: ﴿الْمُقَنْطَرَة﴾: أنها جُمعت حتى صارت قناطير؛ كما يقال: (دراهم مُدَرْهَمَة)؛ أي: مجعولة كذلك.
وقال يَمَان (٣): قَنطر، أي: كَنَزَ (٤).
وقال أبو العباس (٥): اختلف الناس في القنطار، والمعمول عليه عند
(١) وقد رجح الطبري هذا في "تفسيره" ٣/ ٢٠٠.
(٢) من قوله: (قال..) إلى (.. القنطار): ساقط من: (د). والقائل هو أبو عبيدة، كما في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦ب.
(٣) لم أقف على مصدر قوله. ويمان، أكثر من واحد، إلا أن المؤلف قد صَرَّح باسمه في أكثر من موضع من تفسيره، وسماه: يَمَان بن رَبَاب. انظر: "تفسير البسيط" تحقيق: د. الفوزان ٩١، ٤٠٢، ٩٠٣، ١٠٨٤.
وقد ورد في بعض النسخ (رياب)، وأثبَتَها المحققُ: (رباب)، وقال بأنه لم يقف على حاله، سوى ما ذكره عنه البغدادي في "هداية العارفين" ٢/ ٥٤٨، وقول البغدادي فيه: هو اليمان بن رباب البصري، من رؤساء الخوارج... له "إثبات إمامة أبي بكر الصديق"، "أحكام المؤمنين"، "الرد على المعتزلة في القدر"، "كتاب التوحيد"، "كتاب المخلوق"، "كتاب المقالات". "التفسير البسيط" ٤٠٢. وقد وقفت عليه كذلك في "المغني في الضعفاء" للذهبي: ٢/ ٧٦٠، وسماه: (يَمَان بن رِئَاب)، وقال عنه: (خراساني. قال الدارقطني: ضعيفٌ، من الخوارج). وذكره ابن حجر في "لسان الميزان" ٧/ ٥٢١، وسماه: (يَمَان بن رَبَاب)، وقال عنه مثل القول السابق.
(٤) في (د): (كثر).
(٥) هو أحمد بن يحيى (ثعلب). وقد ورد قوله بأطول مما هنا في "اللسان" ٦/ ٣٧٥٢ (قنطر)، وقد اختصره الواحدي قليلًا.
96
العرب: أنه أربعة آلاف (١) دينار [قال: وقوله ﴿الْمُقَنْطَرَة﴾، يقال: (قد قنطر فلان): إذا مَلَكَ أربعةَ آلاف دينار] (٢)، فإذا قالوا: مقنطرة؛ فمعناها: ثلاثة أدوار؛ دَوْرٌ، ودور، ودور. فمحصولها: اثنا عَشَرَ ألف دينار.
وقوله تعالى: ﴿مِنَ اَلذَّهَبِ﴾ الذهب: التِّبْر. والقِطْعَةُ ذَهَبَة (٣). ﴿وَالْفِضَّةِ﴾ الفَضُّ في اللغة معناه: التفريق، والكسر (٤). ومنه: (لا يَفْضُض (٥) الله فاكَ) (٦)، فالفضة سُمِّيت؛ لأن من شأنها أن تُفَرَّق بضرب الدراهم.
(١) في (ج): (د): (الألف).
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من: (د).
(٣) في "الصحاح": (التِّبْر: ما كان من الذهب غير مضروب.. ولا يقال: (تِبْرٌ) إلَّا للذهب، وبعضهم بقوله للفظة، أيضًا) ص ٦٠٠ (تبر).
(٤) انظر: "كتاب العين" ٧/ ١٣، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٩٩.
(٥) في (أ): يَفْضَضِ، بفتح الضاد الأولى. ولم تضبط بالشكل في بقية النسخ.
(٦) فاك: ساقطة من: (ج). وهذه العبارة، دعاء؛ بمعنى: لا يسقط الله أسنانَك، وتقديره: لا يكسر الله أسنان فيك، فحذف المضاف. ويقال: لا يُفضِ الله... ، من: (أفضيت)، والإفضاء: سقوط الثنايا من تحت ومن فوق. انظر كتاب "العين" ٧/ ١٣، "النهاية في غريب الحديث" ٢/ ٤٥٣، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٩٩، "الفائق" للزمخشري: ٢/ ٣٨٢.
وقد رُوي أن النبي - ﷺ - قال: "لا يفضض الله فاك" للعباس؛ لَمَّا مدحه شعرًا، وللنابغة الجعدي؛ لما أنشده بعض شعره انظر المصادر السابقة، "غريب الحديث" للخطابي: ١/ ١٨٩، "الاستيعاب" لابن عبد البَر: ٢/ ٣٥٨، "غريب الحديث" لابن الجوزي: ٢/ ١٩٧، "أسد الغابة" لابن الأثير: ٤/ ١٦٤، "الإصابة" لابن حجر: ٢/ ٢٧١، وعزاه للبزَّار، والحسن بن سفيان، في مسنديهما، وأبي نعيم في "تاريخ أصبهان" والشيرازي في "الألقاب" "المؤتلف =
97
وقوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ الخيل: جَمْعٌ لا واحد له من لفظه، كـ (القَوْلِ)، و (النساءِ)، و (الرَّهْطِ) (١).
سُمِّيت الأفراسُ (خيلًا)؛ لاختيالها في مِشْيتها بطول أذنابها؛ ألا ترى إلى قول امرئ القيس:
لها ذَنَبٌ مِثْلُ ذيلِ العروسِ تَسُدُّ (٢) به فَرْجَها من دُبُرْ (٣).
والاختيال: مأخوذ من (التَّخَيُّل)، والتخيُّل: التَّشَبُّه بالشيء (٤)، ومنه يقال: (أخال عليه الأمرُ): إذا اشتبه، فالمختال (٥)، يَتَخيَّل في صورة من هو أعظم منه كِبْرًا، والخيال: صورة الشيء.
= والمختلف" للدارقطني، "الصحابة" لابن السكن، وغيرهم. وبَيَّن ابنُ حجر طرق روايتها عن النابغة. وأورده المتقي الهندي في "كنز العمال" ١٣/ ٦٠٠ برقم (٣٧٥٤١) ونسب إخراجه لابن عساكر، وابن النجار.
(١) انظر: "جمهرة اللغة" ١٠٥٦ (خيل)، وكتاب "فقه اللغة" للثعالبي: ٢٥٢.
(٢) في (د): (تشد).
(٣) البيت، في: ديوانه: ١٦٤. وورد منسوبًا له في "أدب الكاتب" ١٥٥، وكتاب "المعاني الكبير" ١/ ١٤٩، "شرح أدب الكاتب" للجواليقي: ١٥١، "الاقتضاب" للبطليوسي: ٣/ ١١١، "خزانة الأدب" ٩/ ١٧٦، ١٧٧. وجاء في "الاقتضاب" (هذا البيت يروى لامرئ القيس، ويروى لرجل من النمر بن قاسط) ٣/ ١١١. والشاعر هنا يصف فرسه ويذكر محاسن صفاتها، ومنها طول ذنبها ووفرته. وقال ابن قتيبة في "أدب الكاتب" ١٥٥: (لم يرد بالفرج هنا الرحم، وإنما أراد ما بين رجليها، تسدُّه بذنبها).
(٤) في "أدب الكاتب" ٥٨، "المجمل" ١/ ٣٠٩: (أفعل ذلك على ما خيَّلت، أي: على ما شبَّهت)، وفي "اللسان" ٤/ ٢٢٩٩: (وتخيل الشيءُ له): تشبَّه. و (وتخيَّل له أنه كذا)، أي: تشبَّه وتخايل).
(٥) في (د): (والمختال).
98
والأخْيَلُ (١): الشِّقِرَّاقُ (٢)؛ لأنه يَتَخيَّلُ، مرةً أخضر، ومرةً أحمر.
واختلفوا في معنى ﴿الْمُسَوَّمَةِ﴾: فقال ابن عباس في رواية عطية (٣): هي الراعية؛ يقال: (أَسَمْتُ الماشيةَ)، و (سوَّمتُها): إذا رَعَيتُها، فهي (مُسَامةٌ)، و (مُسَوَّمة) (٤)، ومنه ﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ [النحل: ١٠].
وقال في رواية الوالبي (٥): هي المُعْلَمَةُ. وأصلها من: (السِّيْما)، التي هي: العلامة.
ومعنى العلامة ههنا: (الكَيُّ) في قول المؤرِّج (٦)، والبَلَقُ (٧) في قول
(١) في (أ): (الأخيَّل). والمثبت من كتب اللغة.
(٢) في (ج): (السقراق)، في (د) الشفراق. والشِّقِرَّاق: طائر، وهو مشئوم عند العرب، ويقولون: أشأم من أخيَل. ونقل الأزهري عن الليث أنه طائر يكون في منابت النخيل، كقدر الهدهد، مرقَّط بحمرة وخضرة، وبمِاض وسواد. ويقال له: الشِّرقْراق، والشَّقِراق. ونقل صاحب "اللسان" عن ثعلب أنه يقع على دَبَر البعير، وينقُره، فيؤذي ظهره؛ ولهذا تشاءموا منه. انظر كتاب "العين" ٤/ ٣٠٥، "أدب الكاتب" ١٩١، "جمهرة اللغة" ١٠٥٦، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٠٥، "اللسان" ٤/ ٢٢٩٩ (خيل).
(٣) هذه الرواية، في "تفسير الطبري" ٦/ ٢٥٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦ ب، "زاد المسير" ١/ ٣٦٠.
(٤) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: ٩٨، "نزهة القلوب" للسجستاني: ٤١٩.
(٥) هذه الرواية، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠١، "زاد المسير" ١/ ٣٦٠.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧ أ، "زاد المسير" ١/ ٣٦٠.
(٧) البَلَقُ: سواد وبياض، وفي الفرس: أن يرتفع التحجيل وهو البياض في قوائمه إلى أن يتجاوز البطن، ويظهر في جسده دون رأسه وعنقه، ويكون في بياض بلقه استطالة وتَفَرُّق. انظر: "المنتخب من غريب كلام العرب" لكراع النمل: ١/ ٣١٢، "القاموس" (٨٦٩) (بلق).
99
ابن كَيْسان (١)، والشِّيَةُ (٢)، في قول قتادة (٣).
وقال مجاهد (٤)، وعكرمة (٥): الخيل المُسوَّمة: هي الحسان المُطَهَّمَةُ (٦)، يُراد: أنها ذات سيما؛ أي: ذات حُسن. يقال: (لفلان سِيما)، و (له شارةٌ حَسَنة) (٧).
(١) انظر: قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧ أ، "زاد المسير" ١/ ٣٦٠.
(٢) في (أ)، (ب): (المشبه)، في (ج): (السه). والتصويب من: (د). و (الشِّيَة)، هي: اللون المخالف للون سائر الجسد، وأصلها من: (وشَى الثوبَ، وشْيا، وشِيَةً): إذا نسجه على لونين. واستعير للحديث؛ فقيل: و (شَى كلامه)؛ أي: زَيَّنه ونمَّقه. انظر: (وشى) في "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: ٨٧٢، "عمدة الحفاظ" ٦٣٢.
(٣) انظر: قوله في "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١١٧، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦١٠، "الطبري" ٣/ ٢٠٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧ أ، "زاد المسير" ١/ ٣٦٠.
(٤) انظر قوله في "تفسيره" ١٢٣، "تفسير سفيان الثوري" ٧٥، "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١١٧، ورواه البخاري تعليقًا في "الصحيح" ٦/ ١٦٥ كتاب التفسير، سورة آل عمران، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٦١٠، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٥٣، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٩، ونسب إخراجه كذلك لعبد بن حميد.
(٥) انظر: قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦١٠، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠١، "زاد المسير" ١/ ٣٦٠، "الدر المنثور" ٢/ ١٩، وزاد نسبة إخراجه كذلك لعبد بن حميد.
(٦) (المُطَهَّم) هنا: الحَسَنُ، الذي تمَّ كل شيء منه على حدته، فهو بارع الجمال، ويقال للناس والخيل. انظر: (طهم) في "أساس البلاغة" ٢/ ٨٦، "اللسان" ٥/ ٢٧١٤.
(٧) (السَّيما): العلامة. ويقال: (سيما فلان حسنةٌ)؛ أي: علامة. وهي مأخوذة من: (وسَمْتُ، أسِمُ)، والأصل فيها: (وِسْمى)، فَحُوِّلت الواوُ من موضع الفاء إلى موضع العين، فصارت: (سِوْمى)، وجُعلت الواو ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فصارت (سِيما). ويقال كذلك: (سِيماء)، و (سيمياء). انظر: "الزاهر" ٢/ ١٤٤، "اللسان" ٤/ ٢١٥٧ (سوم). قال الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٠٢: (وأولى هذه الأقوال بالصواب.. المعلَمة بالشِّيات، الحسان، الرائعة حسْنًا من رآها. لأن =
100
وقوله تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامِ﴾ جمع (نَعَم)، والنَّعَم: الإبل والبقر والغنم. ولا يُقال لجنس منها: (نَعَمٌ)، إلَّا للإبل خاصة؛ لأنه غلب عليها (١). ومضى فيما قبل اشتقاق (النَعَم).
وقوله تعالى: ﴿حُسْنُ الْمَآبِ﴾ المآب في اللغة: المرجعُ. يقال: (آب الرَّجُلُ، إِيابًا)، و (أَوْبَةً)، و (أبيَةً) (٢)، و (مآبًا) (٣). قال الله تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾ [الغاشية: ٢٥].
قال الفرَّاء (٤): ولا يجوز التشديد (٥) في (الإياب)، وقارِئُه (٦) لعله ذهب على الإفعال، والإفعال من (أُبْتُ)، إنما (٧) يأتي على مثل: (أقَمْتُه
= (التسويم) في كلام العرب: هو الإعلام. فالخيل الحسان مُعلَمةٌ بإعلام الله إياها
بالحسن، من ألوانها وشِياتها وهيئاتها، وهي (المُطَهمة) أيضًا).
(١) انظر: كتاب "العين" ٢/ ١٦٢، "معاني القرآن" للزجّاج: ١/ ٣٨٤، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري: ١٤٢٨ - ٤٢٩.
(٢) في (أ)، (ب): أبية، والمثبت من: (ج) د، وهو الصواب. ويقال: أيْبَةً، وإيبَةً. انظر: "اللسان" ١/ ١٦٦ (أوب).
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠٥، "تهذيب اللغة" ١/ ٩٤.
(٤) لم أهتد إلى مصدر قوله والذي في "معاني القرآن" ٣/ ٢٥٩: (سُئل الفراء عن (إيَّابهم) فقال: لا يجوز [أي: تشديد الياء] على جهة من الجهات)، وفي "تهذيب اللغة" ١٥/ ٦٠٩ ينقل عن الفرَّاء، فيقول: (قال: هو بتخفيف الياء، والتشديد فيه خطأ).
(٥) من قوله (التشديد..) إلى (.. من أبت): ساقط من: (ج).
(٦) يعني بقارئه: أبا جعفر، يزيد بن القعقاع المدني. أحد القراء العشرة، تابعي، توفي سنة (١٣٠ هـ). انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ٧٢، "النشر" ١/ ١٨٧. وقد قرأها: ﴿إِيَابَهُمْ﴾ في سورة الغاشية: ٢٥. انظر: "معاني القرآن" للزجاج: ٥/ ٣١٩، "إعراب القرآن" للنحاس: ٣/ ٦٩١، "المحتسب" ٢/ ٣٥٧.
(٧) في (ج): (أن).
101
إقامَةً)، و (أزَغتُه إزاغةً).
فلو أردت ذلك، قلتَ: (أَأَبْتهُ إآبَةً) (١)، ولو أردت أن تُخرجَ المصدرَ (٢) تامًا، قلت: (إيوابًا). ثم أعلم الله عز وجل أن خيرًا من جميع ما في الدنيا ما أعدَّه الله لأوليائه، فقال:
١٥ - ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ الذي ذَكَرتُ (٣).
قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء (٤): يريد: المهاجرين والأنصار، أراد الله أن يعزِّيَهم، ويشوقهم إلى المعاد.
قال العلماء: ويدخل تحت هذا الخطاب كلُّ (٥) من اتقى الشرك، بظاهر هذا الكلام (٦).
وقوله تعالى: ﴿جَنَّاتٌ﴾ يرتفع على وجهين:
أحدهما: بخبر الصفة، ويكون تمام الكلام عند قوله: ﴿بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾.
والثاني: على تقدير الجواب، ويكون تمام الكلام عند قوله (٧):
(١) في (ج): (ابته ابه).
(٢) في (أ): (المصدرُ).
(٣) (الذي ذكرت): ساقطة من: (د).
(٤) لم أعثر على هذه الرواية فيما رجعت إليه من مراجع، إلَّا في "تفسير الخازن" ١/ ٢٧٥، وعبارته قريبة جدًا من عبارة الواحدي. وفي "تنوير المقباس" ٤٤: (يعني: أبا بكر وأصحابه).
(٥) (كل): ساقطة من: (د).
(٦) وممن ذهب للعموم فيها: الإمام الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٠٦، حيث قال عن معنى: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ (للذين خافوا الله فأطاعوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه).
(٧) من قوله: (بخير..) إلى: (.. تمام الكلام عند قوله): ساقط من: (ج)، (د).
102
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، فكأنه قيل: ما ذلك الخير؟ فقيل: هو جنَّات، ومثله: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ﴾ [الحج: ٧٢]؛ أي: هو النار.
وقوله تعالى: ﴿وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ قد ذكرنا ما فيه عند قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥].
وقوله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾. ويُقرأ (١) بضم الراء (٢)، وهو لغة قيس وتميم (٣).
قال الفراء (٤): يقال: (رضيت رضًا)، منقوص، و (رِضوانًا، ورُضوانًا (٥)، ومَرْضاةً).
ومثل (الرِّضوانِ) بالكسر من المصادر: (الرِّئْمان) (٦)، و (الحِرْمان).
(١) (ويُقرأ): ساقطة من: (ج).
(٢) هي قراءة عاصم برواية أبي بكر بن عيَّاش عنه، أمَّا رواية حفص عن عاصم فهي بالكسر كبقية السبعة. انظر: "السبعة" ٢٠٢، "الحجة" للفارسي: ٣/ ٢١.
(٣) (وتميم): ساقطة من: (ج). انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٢٠٦. وقيس: قبيلة عظيمة من قبائل العرب، تنتسب إلى قيس بن غيلان بن مضر بن نِزار بن معد بن عدنان. وغلب اسم قيس على سائر العدنانية. انظر حولها "معجم قبائل العرب" ٣/ ٩٧٢. وتميم: قبيلة عظيمة من العدنانية، تنتسب إلى تميم بن مُر بن أدّ بن طابخة بن إلياس ابن مضر بن نزار بن معد عدنان. وكانت منازلهم بنجد، دائرة من هنالك إلى البصرة واليمامة، حتى تتصل بالبحرين، وانتشروا في الكوفة، ثم تفرقوا في الحواضر. انظر المرجع السابق ١/ ١٢٦.
(٤) لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد يكون في كتابه (المصادر).
(٥) (ورضوانًا): ساقطة من: (د).
(٦) الرِّئْمان: الالتئام، يقال: (رَئِمَ الجُرْح رَأمًا، ورِئْمانًا حسنًا): التأم. انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٣٢ (ريم)، "اللسان" ٣/ ١٥٣٦ (رأم).
103
وبالضمِّ: (الطُّغْيان)، و (الرُّجْحان)، و (الكُفْران). وقال (١) سيبويه (٢): (الشُّكْران).
١٦ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ موضع ﴿الَّذِينَ﴾ (٣): خفض؛ صفةً ﴿الَّذِينَ اتَّقَوا﴾. [و] (٤) المعنى: للمتقين القائلين (٥).
١٧ - [و] (٦) قوله تعالى: ﴿الصَّابِرِينَ﴾ قال ابن عباس (٧): يريد: على دينهم، وعلى [ما] (٨) أصابهم.
﴿وَالصَّادِقِيَن﴾: قال قتادة (٩): هم قوم صدقت نيَّاتهم، واستقامت قلوبُهم وألسنتهم، فصدقوا في السرِّ والعلانية.
(١) في (ج): (قال).
(٢) في "الكتاب" له: ٤/ ١١.
(٣) في (د): (الذين).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من: (د).
(٥) ويجوز أن يكون كذلك في موضع جر، بدلًا من قوله: (للذين اتقوا). وجوَّز أبو البركات الأنباري كونه نعتًا لـ (العباد) في قوله: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾، وضعَّف هذا الوجهَ العكبريُّ؛ لأن فيه تخصيصًا لعلم الله تعالى، ولكنه جوَّزه على ضعفه ويحتمل أن يكون في محل رفع؛ على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أو خبرٌ لمتبدأ
محذوف. ويحتمل أن يكون في محل نصب بإضمار: (أعني) أو (أمدح). انظر: "البيان" لأبي البركات الأنباري: ١/ ١٩٤، "التبيان" للعكبري: ص ١٨٠، "الدر المصون" ٣/ ٦٩.
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من: (د).
(٧) لم أقف على مصدر قوله.
(٨) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب)، (ج)، (د).
(٩) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠٧ - ٢٠٨، و"ابن أبي حاتم" ٢/ ٦١٤، "الثعلبي" ٣/ ٢٠ أ، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٢٠، ونسب إخراجه لعبد بن حميد.
104
ومعنى الصدق: الإخبار بالشيء على ما هو به (١)، وذكرنا أصله في اللغة عند ذكر اشتقاق الصدقة في سورة البقرة.
﴿وَالْقَانِتِينَ﴾ (٢) الطائعين لله، عن أكثر المفسرين (٣). ومضى الكلام في معنى القانتين.
﴿وَالْمُنْفِقِينَ﴾ قال ابن عباس (٤): يريد: الذين ينفقون الحلال في طاعة الله [تعالى] (٥).
(١) انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: ٤٧٨ (صدق)، و"التوقيف على مهمات التعاريف" ٤٥٠.
(٢) في (د): (والقانتين).
(٣) وبه قال: ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والشعبي، وجابر بن زيد، وعطاء، وابن جبير، والضحاك، والحسن البصري، وعطية، وطاوس، وغيرهم. انظر: "تفسير الطبري" ١/ ٥٠٧ - ٥٠٨، ٢/ ٥٦٨ - ٥٧١.
ومن معاني (القنوت): السكوت، وبه فُسر قوله تعالى ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٨].
ومنها: طول القيام، وبه فُسِّر قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ الزمر: ٩؛ أي: مصلٍّ، فسمى الصلاة قنوتًا؛ لأنها تكون بالقيام. وقيل للدعاء: (قُنُوت)؛ لأنه يُفْعَل أثناء القيام في الصلاة. ومن معانيه: الإقرار بالعبودية؛ كقوله: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ [الروم: ٢٦]. ولكن ابن قتيبة أرجع كل هذه الوجوه إلى معنى: (الطاعة)، وقال معللًا: الأن جميع هذه الخلال: من الصلاة، والقيام فيها، والدعاء، وغير ذلك يكون عنها). وإليه ذهب الطبري، وجعل الطاعة هي أصل القنوت، وكل المعاني راجعة إليها. انظر: "تأويل مشكل القرآن" ٤٥١ - ٤٥٢، "تفسير الطبري" ٥/ ٥٧١ - ٥٧٢، "تحصيل نظائر القرآن" للحكيم الترمذي: ٥٠، "مفردات ألفاظ القرآن" ٦٨٤ - ٦٨٥ (قنت)، "نزهة الأعين النواظر" لابن الجوزي: ٤٨٣.
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من: (د).
105
﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾. السَّحَر: الوقت الذي قبيل (١) طلوع الفجر. و (تَسَحَّر): إذا أكل في ذلك الوقت. و (استَحَرَ)؛ أي (٢): سار فيه (٣).
قال زهير (٤):
بَكَرْنَ بُكورًا، واسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ (٥)
والمُسْتَحِرُ من الطَّيْرِ: ما يَصيحُ (٦)، ويتحرك فيه (٧).
قال امرؤ القيس:
إذا طَرَّبَ الطائرُ المُسْتَحِرْ (٨)
(١) في (د): (قبل). وهكذا وردت هذه العبارة في "معاني القرآن" للزجَّاج: ١/ ٣٨٥.
(٢) في (د): (إذا).
(٣) انظر: (سحر) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٤١، "اللسان" ٤/ ١٩٥٢ - ١٩٥٣.
(٤) هو: زهير بن أبي سلمى (ربيعة) بن رباح. شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته.
(٥) تمامه:
فَهُنَّ ووادي الرَّسِّ كاليد للفَمِ
وهو، في "ديوانه" ص ١٠، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: ٢٥٠، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٤٠ (سحر)، "شرح المعلقات السبع" للزوزني: ص ٧٦، "شرح القصائد العشر" للتبريزي: ١٠٩.
(٦) في (أ): (يُصبح). والمثبت من بقية النسخ، وهو ما استصوبته لموافقته للمعنى المساق.
(٧) (فيه): ساقطة من: (ج). وانظر هذا المعنى في "جمهرة اللغة" ٥١١.
(٨) عجز بيت، وصدره:
يُعَلُّ به بَرْدُ أنيابها
وهو في (ديوانه) ص ٦٩، "جمهرة اللغة" ٥١١، "اللسان" ٥/ ٢٦٤٩ (طرب)، ٤/ ١٩٥٣ (سحر)، ٦/ ٣٦٧٠ (قطر) "خزانة الأدب" ٩/ ٢٣١. وورد في "الجمهرة" (.. إذا غَرَّد..) وفي "اللسان" ٥/ ٢٦٤٩ (كما طرَّبَ..)، وفي: ٦/ ٣٦٧٠ (يُعَلُّ بها..)، ويروى: (إذا صوت الطائر..). وقوله: (يُعَلُّ)؛ من: (عَلَّه، يَعِلُّه، ويَعُلُّه، عَلَّا، وعلَلا)، وهو: السقيا بالخمر، مرةً بعد مرة. انظر: "ديوانه" ص ٦٩.
106
وأسْحَرَ (١) دخل (٢) في وقت السَّحَر (٣).
ونذكر كلام النحويين في ترك إجراء (سحر) عند قوله: ﴿نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾ [القمر: ٣٤] إن شاء الله.
قال ابن عباس (٤) في قوله: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾: يريد: المصلين صلاة الصبح (٥)، وهو قول زيد بن أسلم (٦)، وابن كيسان (٧).
(١) في (أ): (داسحر)، (ب): (ذاسحر)، والمثبت من: (ج)، (د)، وهو الصواب.
(٢) في (د): (رحل).
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٤٠. وفي "جمهرة اللغة" ٥١١ (وأسْحرَ القومُ إسْحارًا: إذا خرجوا في وقت السَّحر).
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) ويريد هنا المصلين صلاة الصبح في جماعة.
(٦) الأثر عنه في "مصنف ابن أبي شيبة" ٧/ ١٩٣ (٣٥١٧٦)، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦١٥ - ٦١٦، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٠ ب، "النكت والعيون" للماوردي: ١/ ٣٧٨، "تفسير البغوي" ٢/ ١٦. وهو: أبو عبد الله، أو أبو أسامة، زيد بن أسلم العَدوي المدني، مولى عمر رضي الله عنه، ثقة عالم كثير الحديث، كانت له حلقة علم في مسجد النبي - ﷺ -، وله تفسير يرويه ابنه عبد الرحمن، توفي سنة ١٣٦ هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (القسم المتمم لتابعي أهل المدينة. تحقيق د. زياد منصور) ٣١٤، "تقريب التهذيب" ص ٢٢٢ (٢١١٧)، "طبقات المفسرين" للداودي: ١/ ١٨٢.
(٧) الأثر عنه في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٠ ب. ولكن يرد على هذ القول: أن صلاة الصبح يبدأ وقتها بعد انتهاء وقت السَّحر، فكيف تدخل في المعنى؟! اللهم إلا أن يُراد أن التصاق وقت صلاة الصبح بوقت السحر وقربه المباشر له أدخل صلاة الصبح فيه استتباعًا، والعرب تقول: (لقيته بأعلى سَحرَين)، و (أعلى السَّحرَين)، لأنه أول تنفس الصبح. انظر: "اللسان" ٤/ ١٩٥٣. ولكن هذا التخريج أرى فيه تكلفًا، والله أعلم. ولذا استغربَ الكرمانيُّ إيرادَ الواحدي لهذا القول، فقال: والعجيب: قول الواحدي: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾: المصلين صلاة الصبح، فإن =
107
وقال مجاهد (١)، وقتادة (٢): يعني: المصلين بالأسحار (٣).
قال الزجَّاج (٤): وصف الله - تعالى (٥) هؤلاء بما وصف، ثمَّ بيَّن أنهم مع ذلك لشدة خوفهم ووجلهم يستغفرون بالأسحار.
١٨ - قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ قال أبو إسحاق (٦)، وأبو العباس (٧): معنى ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾: بيَّن وأظهر (٨)؛ لأنَّ
= الإجماع على أن الصائم يتناول الطعام في السحر، فكيف تصح صلاة الصبح فيه؟). "غرائب التفسير" ١/ ٢٤٧. ويقصد الكرماني: أن وقت السَّحر متميز ومختلف عن وقت صلاة الصبح، الذي يَحرُمُ فيه الأكلُ على الصائم، وتصح فيه صلاة الصبح، فجواز أكل الطعام للصائم في السحر، فيِه دلالة على عدم دخول وقت الصبح، فكيف تصح فيه صلاة الصبح؟! فافترق وقت الصبح عن السحر، لغة، واصطلاحًا؛ بما ميَّز الشرعُ كلَّ وقت بحكم. هذا والله أعلم.
(١) الأثر عنه في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٠ ب، "زاد المسير" ١/ ٣٦١.
(٢) الأثر عنه في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٠٨، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦١٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٠ ب، "النكت والعيون" ١/ ٣٧٨، "تفسير البغوي" ٢/ ١٦.
(٣) قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٣/ ٥١ بعد أن ذكر بعض الوجوه في تفسير معنى الاستغفار هنا، ومنها ما سبق معنا: (وهذا كله يقترن به الاستغفار).
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ٣٨٥ نقله عنه بتصرف واختصار.
(٥) في (ج): عز وجل.
(٦) هو الزجَّاج، في "معاني القرآن" له: ١/ ٣٨٥.
(٧) هو أحمد بن يحيى (ثعلب): وقوله في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٤٢ - ١٩٤٣، وبعضه في "الزاهر" ١/ ١٢٥.
(٨) هذه العبارة بنصها في "تهذيب اللغة". ومما ذكره العلماء في معنى ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ إضافة إلى ما ذكره المؤلف: قضى، وحكم، وأعلم، وأخبر. وقد ردَّ الطبريُّ في "تفسيره" ٣/ ٢٠٩، وابنُ عطية في "المحرر الوجيز" ٣/ ٥٢ من المعاني السابقة المذكورة، معنى (قضى) الذي قاله أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٨٩ ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر الأقوال السابقة في معنى (شهد) قال: (وكل هذه =
108
الشاهد (١): هو العالم الذي يبين ما علمه. فالله عز وجل قد دلَّ على توحيده بجميع ما خلق، فبيِن أنه لا يقدر أحدٌ أن ينشيء شيئًا واحدًا مما أنشأ.
قال أبو العباس (٢): ونظير هذا في القرآن مما أُريد فيه بالشهادةِ: التبيينُ، وإن لم يقارنه القولُ: قولُه عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧]، معناه: مبيِّنين على أنفسهم الكفر؛ وذلك أنهم يؤمنون بأنبياء (٣)، كلهم شاهد لمحمدٍ - ﷺ - بالصِّدق، فلما آمنوا بأنبياء (٤) بشَّروا بمحمد، وحثُّوا على اتباعه، ثم خالفوا عليه فكذبوه وحاربوه، بيَّنوا بذلك الكفر على أنفسهم، فوُصفوا بأنهم شَهِدوا به، وإنْ لم يكونوا قالوا: نحن كفار (٥).
= الأقوال وما في معناها، صحيحة، وذلك أن الشهادة تتضمن كلامَ الشاهد وقولَه وخبرَه عمَّا شهد به،... وإن لم يكن معْلِمًا به لغيره، ولا مُخْبِرًا به لسواه، فهذه أول مراتب الشهادة. ثم قد يخبره ويُعْلِمه بذلك، فتكون الشهادة إعلامًا لغيره وإخبارًا له..)، وتابع: (.. فمن قال: (حكم) و (قضى) فهذا من باب اللازم، فإن الحكم والقضاء هو إلزام وأمر؛ ولا ريب أن الله ألزم الخلق التوحيد وأمرهم به وقضى وحكم)، وتابع: (فإذا شهد الله أنه لا إله إلا هو، فقد حكم وقضى أن لا يعبد إلا إيَّاه). "المسير الكبير" لابن تيمية: ٣/ ١٣٧ - ١٤٢. وانظر: "التفسير القيم" لابن القيم: ١٧٨.
(١) من قوله: (لأن الشاهد..) إلى (.. مما أنشأ): نقله بالنص عن الزجَّاج.
(٢) قوله في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٤٢ - ١٩٣٤ نقله المؤلف بالمعنى.
(٣) في (ج): (بالأنبياء).
(٤) في (ج): (بالأنبياء).
(٥) هذا الوجه في تفسير شهادة المشركين على أنفسهم بالكفر المذكور في آية (١٧) من سورة التوبة، ذكره كذلك ابنُ الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٠٨، ونسبه لابن الأنباري. ومما قيل كذلك في تفسيرها: هو قول اليهودي: أنا يهودي، =
109
وقوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ أي: وشهدت الملائكة، بمعنى: أقرَّت بتوحيد الله -تعالى-؛ لما عاينت من عظيم قدرته؛ كقوله: ﴿شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا﴾ [الأنعام: ١٣٠]؛ أي: أقررنا. فَنَسَق شهادة الملائكة وأولي العلم على شهادة الله سبحانه، والشهادتان مختلفتان معنًى لا لفظًا، كقوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: ٥٦]، والصلاة من الله: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار والدعاء (١).
= والنصراني: أنا نصراني، والصابئ: أنا صابئ، والمشرك: أنا مشرك. وقيل: إنَّ إظهار عبادتهم للأوثان، وتكذيب القرآن، وإنكار نبوة النبي محمد - ﷺ -، كل هذا كفر يمارسونه، وهو إقرار منهم على أنفسهم به، وإن أبوا ذلك بألسنتهم. وقيل: قولهم في الطواف: (لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك). وقيل غير ذلك. فكيف يستقيم زعمُهم بعمارة المساجد وهي من صفات المؤمنين وشأنهم، والشهادة على أنفسهم بالكفر؟! وهما أمران متنافيان. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٦/ ٩، "تفسير أبي السعود" ٤/ ٥١، "فتح القدير" ٢/ ٥٠٠.
(١) عن أبي العالية رضي الله عنه قال: (صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء). أخرجه البخاري في: "الصحيح" تعليقًا: "الفتح" ٨/ ٥٣٢ كتاب التفسير، سورة الأحزاب، وأخرجه إسماعيل القاضي في: "فضل الصلاة على النبي - ﷺ -": ٨٢، ٨٣، وقال عنه الألباني: (إسناده موقوف حسن)، وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٤٦، ونسب إخراجه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. وقال ابن عباس: (يصلون: يُبَرِّكون). أخرجه البخاري تعليقًا في: "الصحيح" في الموضع السابق، والطبري في "تفسيره" ٢٢/ ٤٣، وأورده السيوطي في " الدر" ٦/ ٦٤٧، ونسب إخراجه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردوية. وقال الضحاك: (صلاة الله: رحمته، وصلاة الملائكة: الدعاء)، وفي رواية: (صلاة الله: مغفرته..) أخرجه إسماعيل القاضي في: "فضل الصلاة على النبي" ٨٢، ٨٣ وقال محققه الألباني عن الروايتين: (إسناده موقوف ضعيف جدًا).
وعن ابن عباس قال: (صلاة الله على النبي: هي مغفرته... وأما صلاة الناس على النبي - ﷺ - فهي الاستغفار) أورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٦٤٦ ونسبه لابن مردويه. وقال الطبري: (وقد يحتمل أن يقال: إن معنى ذلك: أن الله يرحم النبي، وتدعو=
110
وقال ابن الأنباري (١): إنما عَطَف الملائكةَ وأولي (٢) العلمِ على اسمه؛ لأن الشهادة معناها في اللغة: إظهارُ المعلوم وتبَيُّنُه. فلمَّا بيَّن أولوا العلم المعلومَ (٣) [عندهم؛ كما بيَّنه الله عز وجل، عطفهم على اسمه؛ للاتفاق في إظهار المعلوم] (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ أي: وشهد بتوحيده أولوا العلم؛ بما ثبت عندهم. وشهادة أولي (٥) العلم: يجوز أن تكون بمعنى: الإقرار، ويجوز أن تكون بمعنى: التبيين (٦).
واختلفوا في المعنيين بـ (أولي العلم) ههنا: فقيل (٧): هم الأنبياء، وقال مقاتل (٨): هم مؤمنو أهل الكتاب؛ لأن الله تعالى وصفهم بالعلم في
= له ملائكته ويستغفرون؛ وذلك أن الصلاة في كلام العرب من غير الله إنما هو دعاء). "تفسيره" ٢٢/ ٤٣. وقال القاسمي: (وبالجملة، فالصلاة تكون بمعنى التمجيد والدعاء والرحمة، على حسب ما أضيفت إليه في التنزيل أو الأثر) "محاسن التأويل" ١٣/ ٤٩٠١. وانظر: "تفسير ابن كثير" ٣/ ٥٥٧، "فتح الباري" ٨/ ٥٣٣، "فتح القدير" للشوكاني ٤/ ٣١٠.
(١) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٢) في (ب): (وأولوا).
(٣) (المعلوم): ساقط من (ج).
(٤) زيادة من (ج)، (د).
(٥) في ب، (د): (أولوا).
(٦) قال ابن القيِّم رحمه الله بعد أن ذكر الوجهين: (والصحيح، أنها تتضمن الأمرين. فشهادتهم إقرار وإظهار وإعلام، وهم شهداء الله على الناس إلى يوم القيامة..). "التفسير القيم" ١٩٩.
(٧) ورد هذا القول في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٣ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ١٩، "فتح القدير" ١/ ٤٩١، ولم ينسبوه لقائل.
(٨) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٧٦، والمصادر السابقة.
111
مواضع من كتابه، كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ﴾ [الإسراء: ١٠٧]، وقوله: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: ٤٩].
قال ابن كيسان (١): يعني: المهاجرين والأنصار، وهو قول ابن عباس فى رواية عطاء (٢).
وقال السدي والكلبي (٣): يعني (٤): علماء المؤمنين كلهم (٥).
وقوله تعالى: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾. ينتصب على الحال من اسم الله جل وعز، على تقدير: شهد الله قائمًا بالقسط. ويجوز أن يكون حالًا من: هو؛ تقديره: لا إله إلَّا هو قائمًا بالقسط (٦).
وقال الفراء (٧): هو نصب على القطع (٨)، لأنه نكرة نُعِت (٩) به معرفة،
(١) قوله: في: المصادر السابقة
(٢) لم أهتد إلى مصدر هذه الرواية.
(٣) انظر قوليهما في المصادر السابقة، والأثر عن السدي ورد كذلك في "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦١٧.
(٤) في (أ)، (ب): (معنى). والمثبت من: (ج)، (د).
(٥) قال الشوكاني عن هذا القول: (وهو الحق، إذ لا وجه للتخصيص). "فتح القدير" ١/ ٤٩١.
(٦) وقد رجح هذا ابن تيمية. انظر: "التفسير القيم" لابن القيم ١٨٣.
(٧) في "معاني القرآن" ١/ ٢٠٠.
(٨) استعمل الفراءُ كثيرا مصطلح (القطع) في كتابه "معاني القرآن" وهو في الغالب يريد به الحال، وقد يستعمله ولا يقصد به الحال، ولا أن يكون في النصب فقط، وكأنه يريد به قطع الكلمة عما قبلها من الإعراب، أيا كان هذا الإعراب. انظر حول مذهبه في ذلك: "النحو وكتب التفسير" ١/ ١٩٥ - ١٩٧. وكذا استعمل الطبري هذا المصطلح في تفسيره كثيرًا. راجع فهرس المصطلحات من "تفسيره" (تحقيق محمود شاكر): (ج) ١، ٢، ٥، ٦، ٧، ٩. وانظر تعليق محمود شاكر على هذا المصطلح في هامش "تفسير الطبري" ٦/ ٢٧٠. وانظر هذا التفسير، في إعراب قوله تعالى: (.. وجيهًا في الدنيا والآخرة) [من آية: ٤٥ من آل عمران].
(٩) في (ج): (نصب).
112
كان (١) أصلها: (القائم بالقسط)؛ فلما (٢) قُطعت الألفُ واللامُ نصب (٣).
ومعنى قوله: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾: قائمًا بالعدل (٤)، كما يقال: (فلان قائم بالتدبير)؛ أي: يُجْرِيه على الاستقامة. فالله (٥) تعالى يُجري التدبير على الاستقامة في جميع الأمور (٦).
١٩ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩]. القُرَّاءُ على كسرِ (إنَّ)، إلَّا الكسائي؛ فإنه فتح (أنَّ) (٧).
والوجه (٨)، الكسر (٩)؛ لأن الكلام الذي قبله قد تمَّ (١٠)، وهذا النحو من الكلام الذي يراد به التنزيه، أن يكون بجُمَلٍ متباينة أحسن؛ من حيث
(١) من قوله (كان..) إلى (.. نُصِب) ينقله عن الثعلبي: ٣/ ٢٤ ب، باختصار يسير.
(٢) من قوله (فلما..) إلى (.. قائمًا بالقسط): ساقط من: (ج).
(٣) ومعنى كلام الفرَّاء: أنَّ الأصل أن تكون (القائم..) معرفة مرفوعة؛ لكونها نعتا للفظ الجلالة المرفوع، وهو معرفة، لكن، لمّا نكرت (القائم)، انقطعت تبعية النعت للمنعوت، فتُرِك الرفعُ إلى النصب. وفي إعرابها وجوه أخر. انظر: "معاني القرآن" للأخفش: ١/ ١٩٩، "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٠، "إعراب القرآن" للنحاس: ١/ ٣١٦، "التفسير القيم" ١٨٢ - ١٨٣، "الدر المصون" ٣/ ٧٥ وما بعدها.
(٤) القِسْطُ بكسر القاف: العدل، والنصيب. ويقال: (أقسط، يُقْسِط، إقساطًا)، فـ (هو مُقْسِط). والقَسْطُ بفتح القاف: الجَوْر. ويقال قَسَطَ، يَقْسِطُ، قَسْطًا، وقُسوطًا، فهو قاسِط. انظر: (قسط) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٥٩، و"المجمل" ٧٥٢.
(٥) قوله: (فالله تعالى يجري التدبير على الاستقامة): ساقط من: (ج).
(٦) انظر: "تفسير الرازي" ٧/ ٢٢٢ - ٢٢٣.
(٧) انظر: "السبعة" ٢٠٢ - ٢٠٣، "الحجة" للفارسي ٣/ ٢٢.
(٨) من قوله: (الوجه..) إلى نهاية قول الله تعالى: (.. والصابرين): نقله عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ٢٢ بتصرف يسير جدًّا.
(٩) (الكسر): ساقطة من (ج).
(١٠) في (ج): (قديم).
113
كان أبلغ في الثناء (١)، وأذهب في باب المدح؛ ومن ثمَّ جاء: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٧٧].
فأما وجه قراءة الكسائي، فإن النحويين ذكروا فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون الشهادة واقعة على ﴿إِنَّ الدِّينَ﴾ (٢)، وفَتح ﴿أَن﴾ في قوله: ﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ على تقدير: حذف حرف الجر؛ كأنه قيل: (شهد الله؛ لأنه (٣) لا إله إلَّا هو، أنَّ الدين عند الله الإسلام). وهذا معنى قول الفرَّاء، حيث يقول (٤) - في الاحتجاج للكسائي: إن شِئتَ جعلتَ (أنه) على الشرط (٥)، وجعلت الشهادة واقعة على قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾. وتكون ﴿أَن﴾ (٦) الأولى يصلح فيها الخفض، كقولك: شهد الله بتوحيده، أنَّ الدين عند الله الإسلام.
الوجه الثاني: أنه فتحهما على أن الواو تُراد (٧) في قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ﴾؛ كأنه قيل: (شهد الله أنه لا إله إلَّا هو: وأنَّ الدين عند الله الإسلام). فيكون قوله (٨): (أنَّ الدين عند الله الإسلام) جملةً استغني فيها
(١) في (ج): (البناء).
(٢) في (ب): (الذين).
(٣) في (ج): (أنه).
(٤) في "معاني القرآن": ١/ ١٩٩، نقله عنه بتصرف يسير جدًّا.
(٥) ويعني بقوله (على الشرط)، أي: على العلة، وسماه شرطًا؛ لأن المشروط متوقف عليه، كتوقف المعلول على علته، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين، ولما كان (أنه) على الشرط لم يقع عليه الفعل، وإنما وقع على (أن الدين). انظر: "الدر المصون" ٣/ ٨٦.
(٦) (أنَّ): ساقطة من: (ج).
(٧) في (ج)، (د): (تزاد).
(٨) (قوله): ساقطة من: (ج)، (د).
114
عن حرف العطف؛ بما تضمنت من ذكر الأول المعطوف عليه، وهو التوحيد، كما استغني عنه بذلك في قوله: ﴿ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢]، ولو كانت (الواو) لكان ذلك حسنًا (١)، كما قال: ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ (٢) [الكهف: ٢٢].
الوجه الثالث: وهو مذهب البصريين: أن تجعل (أنَّ) الثانية بدلًا من الأولى، فكأنَّ (٣) التقدير: (شهد الله أنَّه، أنَّ الدِّينَ عند الله الإسلام). فيكون هذا من الضرب الذي الشيء فيه، هو هو (٤)، نحو قولك: (ضربت زيدًا نفسَه). ألا ترى أنَّ الدين الذي هو الإسلام، يتضمنُ التوحيد، وهو هو في المعنى.
(١) قول المؤلف: (ولو كانت (الواو) لكان ذلك حسنًا) قد يريد به: أن الواو لو كانت ظاهرة في الآية؛ لكان هذا الوجه والتخريج النحوي حسنًا، وقد يفهم كلام المؤلف أن الواو لو كانت في الآية لكان ذلك أفضل من حيث استقامة التركيب، وهذا لا يجوز لأنه يبدو كأنه اقتراح على الله، والقراءات الصحيحة المتواترة قرآن، ودورنا إزاءها أن نذكر الوجوه النحوية لها، لا أن نعترض أو نقترح أو نفضل أو نحبذ. ولذا فإني أرجح أن قصد المؤلف هو الأول، لأنه حاشاه أن يقصد الثاني.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من: (د).
(٣) ضعف ابن عطية هذا الوجه في "المحرر الوجيز" ٣/ ٥٣، وبين أبو حيان وجه الضعف في هذا التخريج، فقال: "وجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية، وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاه الفصل نحو: (أكل زيد خبزًا وعمرو سمكًا) وأصل التركيب: (أكل زيد وعمرو خبزا وسمكًا.. وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح): "البحر المحيط" ٢/ ٤٠٨.
(٤) وهو ما يسمى: البدل المطابق، أو بدل كلِّ من كل، وهو الذي يساوي المبدل منه في المعنى مساواة تامة.
115
وإن (١) شئت، جعلته مِنْ بدل الاشتمال؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيد (٢)، فيكون كقولك: (ضربت زيدًا، رأسَه) (٣). فإن قيل: على هذه القراءة، لو جاز إيقاع الشهادة على (أنَّ الدين)، لم يحسن إعادة اسم الله، ولكان: (أنَّ الدين عنده (٤) الإسلام)؛ لأن الاسم قد سبق، فالوجه الكِنَايةُ عنه. قيل: إنَّ العرب ربما أعادت الاسم في موضع الكناية (٥)؛ كقول الشاعر:
لا أرى الموتَ، يسبقُ الموتَ شيءٌ (٦)
(١) في (ج): (فإن).
(٢) من قوله: (فكأن..) إلى (.. يشتمل على التوحيد): نقله عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٢٣ بتصرف يسير.
(٣) انظر هذه التوجيهات، وغيرها لقراءة الكسائي -إضافة إلى ما سبق من مراجع- في: "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري ٢/ ٥٧٢، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٣٧٠، "القطع والائتناف" له: ٢١٨، "الحجة" لابن خالويه: ١٠٧، "المشكل" لمكي ١/ ١٥٢، "الكشف" له ١/ ٣٣٨، "البيان" للأنباري ١/ ١٩٥، "الدر المصون" ٣/ ٨٣ - ٨٨.
(٤) في (ج): (عند الله).
(٥) يعني بـ (الكناية): (الضمير).
(٦) صدر بيت، وعجزه:
نغَّص الموتُ ذا الغنى والفقيرا
وهو لعدي بن زيد، في "ديوانه" ٦٥. وورد منسوبًا له في "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي: ١/ ٣٦، "أمالي ابن الشجري" ١/ ٣٧٩، ٢/ ٦، "الأشباه والنظائر في النحو" للسيوطي: ٨/ ٣٠، "الخزانة" ١/ ٣٧٨، ٣٧٩، ٦/ ٩٠، ١١/ ٣٦٦. وقيل: البيت لسوادة بن عدي، وورد منسوبًا له في "كتاب سيبويه" ١/ ٦٢، والنكت في تفسير "كتاب سيبويه" للشنتمري: ١/ ١٩٨، "شرح شواهد المغني" ٢/ ٨٧٦،=
116
ومثله كثير (١).
فأما المعنى: فقال ابن عباس (٢): افتخر المشركون بآبائهم، فقال كلُّ فريق منهم: لا دين إلَّا ديننا، وهو دين الله منذ بعث الله (٣) آدَم، فكذبهم الله -تعالى-، فقال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾، يعني الذي جاء به محمد - ﷺ - (٤).
وأصل الدين في اللغة: الجزاء. ثم الطاعة تسمى دينًا؛ لأنها (٥)
= "الاقتضاب" ٣٦٨، وقال في "لسان العرب": (لعدي أو سوادة بن عدي). ٨/ ٤٤٨٨ (نغص). وصحح البغداديُّ في "خزانة الأدب" ١/ ٣٨١ أن البيت لعدي بن زيد. وورد غير منسوب في "الخصائص" ٣/ ٥٣، "إيضاح الوقف والابتداء" ١/ ٣٢٠، ٢/ ٦٩٤، "شرح أبيات الكتاب" للنحاس: ٦٧، " القطع والائتناف" له: ٢١٨، "ضرورة الشعر" للسيرافي ١٩٠، "العمدة" لابن رشيق: ٦٨٦، "البيان" للأنباري: ١/ ٦٣، ١٢٢، ١٤٤، ٣٧٩، ٢/ ٤٤، ١٠٧، "مغني اللبيب"٦٥٠. والبيت دليل على جواز إعادة الظاهر موضع المضمرة حيث كرر (الموت) في جملة واحدة. فـ (الموت) الأول مفعول لـ (أرى)، و (يسبق الموت) مفعول ثانٍ، وكان ينبغي أن يقول: يسبقه شيءٌ؛ لأن الاسم الظاهر متى احتيج إلى تكرير ذكره في جملة واحدة، كان الاختيار أن يُذكر ضميرُهُ، ولكن التكرير قد يراد به التعظيم والتفخيم. انظر في هذ المعنى "القطع والائتناف" ٢١٨، "شرح ديوان الحماسة" ١/ ١١٨، "النكت" للشنتمري: ١/ ١٩٧ - ١٩٨.
(١) انظر: "الكتاب": ١/ ٦١ - ٦٢.
(٢) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٣) (الله): ليست في: (ج).
(٤) (صلى الله عليه وسلم): ساقطة من: (ب).
(٥) (لأنها): ساقطة من: (د).
117
للجزاء، وكل ما (١) يطاع الله تعالى به فهو دين (٢)، فاليهود يدَّعون أنهم يطيعون (٣) بما أتاهم به موسى، فذلك دين اليهودية، وكذلك النصارى، وكل فرقة. والمسلمون يطيعونه بما أتاهم به محمد - ﷺ -، فهو دين الإسلام (٤)، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ ومعنى (الإسلام) في اللغة: الدخول (٥) في السَّلَمِ؛ أي: في الانقياد والمتابعة. قال الله عز وجل: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ﴾ (٦) [النساء: ٩٤]؛ أي: انقاد لكم وتابعكم (٧).
(١) في (د): (كلما).
(٢) انظر المعاني السابقة لـ (الدين) وغيرها، في "تأويل مشكل القرآن" ٤٥٥، "الكامل" للمبرد: ١/ ٣٢٨، "تهذيب اللغة" ١٤/ ١٨١، "الأمالي" للقالي: ٢/ ٢٩٥، "والوجوه والنظائر في القرآن الكريم" د. سليمان القرعاوي: ٣٢٣ - ٣٢٨. إلا أن ابن فارس جعل أصل (الدين): الانقياد والذل، وجعل كون الدين بمعنى (الطاعة)؛ أن مرد الطاعة إلى الانقياد. وهكذا خرج بقية المعاني الواردة لـ (الدين). انظر: "معجم المقاييس" ٢/ ٣١٩ (دين).
(٣) في (ج): (د): (يطيعونه).
(٤) في (د): (دين الله الإسلام).
(٥) من قوله: (الدخول..) إلى (.. وتابعكم): نقله بنصه عن "تأويل مشكل القرآن" ٤٧٩.
(٦) وفي: نسخة (د)، وتأويل المشكل: ورد (السلام) بدلا من: (السلم)، وكذلك هي في مصاحفنا. وما أثبته، وردت به القراءة الصحيحة عن نافع، وابن عامر وحمزة، وكذلك وردت عن عاصم من رواية المفضل عنه، وعن ابن كثير من رواية عبيد عن شبل عنه، ويناسب مع إراده المؤلف من معنى بعده وقرأ بقية السبعة: السلام) بالألف الممدوة انظر: "السبعة" ٢٣٦، "الكسف" لمكي ١/ ٣٩٥، "حجة القراءات" لابن زنجلة ٢٠٩.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٥/ ٢٢٦. وقال الخطابي في "غريب الحديث" ٢/ ٤١١:
(السَّلَمُ: الاستسلام) وقال بعد أن أورد آية ٩٤ من النساء بقرأءة (السَّلَم): (أي: من استسلم وأعطى المقادة، وكذلك (الإسلام)؛ إنما هو: الطاعة لله، والانقياد لأمره، وأحدهما مشتق من الآخر). وانظر: "النهاية في غريب الحديث" ٢/ ٣٩٤، "اللسان" ٤/ ٢٠٧٧ (سلم).
118
وقيل: أصله: السِّلْم (١). فـ (أَسْلَمَ): دخل في السِّلْم؛ كقولهم: (أشْتى)، و (أَقْحَطَ)، و (أرْبَعَ) (٢). وأصل السِّلْم: السَّلامة؛ لأنه انقياد على السلامة.
ثم من (٣) الإسلام (٤) ما هو متابعة وانقياد باللسان دون القلب، وهو قوله: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ (٥) [الحجرات:
(١) في "اللسان" ٤/ ٢٠٧٧ (سلم): (والسَّلْمُ والسِّلْمُ: الصلح. يُفتح ويكسَر وُيؤنَّث... والسَّلْمُ، والسلام: كالسِّلْم؛ وقد سالمه مُسالَمَة وسلامًا... والسِّلْم: المُسالِم... وقوم سِلْمٌ، وسَلْمٌ: مسالمون).
(٢) انظر: "تأويل مشكل القرآن" ٤٧٩، "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٢. وقد يكون المؤلف نقله عنه مع اختصار وتصرف.
وأشتى أي: دخل في الشتاء، وأقحط: دخل في القحط، وأربع: دخل في الربيع. انظر المرجع السابق.
(٣) من قوله: (من الإسلام..) إلى (قال أسلمت لرب العالمين): نقله بتصرف واختصار عن "تأويل مشكل القرآن" ٤٧٩.
(٤) في (ب): (أسلم).
(٥) الإسلام هنا: هو الإسلام بالمعنى اللغوي، وهو: الانقياد بالجوارح دون القلب. وانقياد اللسان والجوارح في الظاهر يُعد إسلامًا لغةً، وفي نفس الوقت يُكتَفى به شرعًا عن البحث عن خبايا القلوب. (وكل انقياد واستسلام واذعان، يسمى: إسلامًا لغةً) والأعراب المذكورون في الآية هم بعض الأعراب؛ لأنه تعالى قال: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: ٩٩] انظر: "أضواء البيان" ٧/ ٦٣٦، ٦٣٩.
119
١٤]؛ أي: انقدنا (١)؛ من خوف السيف.
ومنه، ما هو متابعة وانقياد باللسان والقلب، وهو قوله: ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فهذا معنى الإسلام.
وذكر ابن الأنباري (٢) في المسلم قولًا آخر، وهو: أنَّ المسلم معناه: المُخْلِصُ لله العبادة. من قولهم: (سَلَّمَ الشيءَ لفلان)؛ أي: خلَّصه (٣) له، و (سَلِمَ له الشيءُ) (٤)؛ أي: خَلصَ له.
فعلى هذا الإسلام معناه: إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى، وهو التبريء عن الشرك.
وأصله أيضًا من السلامة؛ لأنه يعود إلى أن يُسْلِم دينَه لله، حتى يكون له سالمًا من غير شريك.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾.
معنى الاختلاف في اللغة، هو: ذهابُ أحدِ النَفسَيْنِ إلى نقيض ما ذهب إليه الآخر (٥).
(١) في (د): (أنقذنا).
(٢) في "الزاهر" ٢/ ٢٠٣. ولكن المؤلف ينقل قول ابن الأنباري عن "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٤٢ نظرًا لتطابق العبارة مع "التهذيب". وعبارة ابن الأنباري: (المسلم: المخلص لله العبادة، وقالوا: هو مأخوذ من قول العرب: (قد سَلم الشيءُ لفلان): إذا خلص له).
(٣) في (أ)، (ب): (خلَّفته). والمثبت من: (ج)، (د). نظرًا لموافقته لما في "الزاهر" و"التهذيب" ولموافقته للمعنى المراد وهو الإخلاص.
(٤) (الشيء): ساقطة من (ج).
(٥) قال الراغب: (والاختلاف والمخالفةُ: أن يأخذ كلُّ واحدٍ طريقًا غير طريق=
120
والاختلاف في الأجناس: امتناعُ أحدِ الشيئين أن يَسُدَّ مَسَدَّ الآخر.
وأراد بـ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾: اليهود (١). قال ابن عباس (٢): يعني: قريظة والنضير وأتباعهم. يقول: لم يختلف اليهود (٣) في صدق نبوَّةِ محمد - ﷺ - لما كانوا يجدونه في كتابهم من نعته وصفته.
﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ قال ابن عباس (٤): يريد: النبي - ﷺ -. وعلى هذا؛ سَمَّى النبي - ﷺ - (العِلْمَ)، وهو يريد المعلوم. والمصدر يقع على المفعول كثيرًا.
والمعنى: أنهم كانوا يصدقونه بنعته وصفته قبل بعثه (٥)، فلما جاءهم اختلفوا فآمن به بعضُهم، وكفر به الآخرون، فقالوا: لست الذي وُعِدْناهُ (٦)، كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩].
ويجوز أن يريد بـ (العِلْم): بيان ما جاء في التوراة من نعت محمد - ﷺ -
= الآخر، في حاله أو قوله) "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: ص ٢٩٤ (خلف). وانظر: "التوقيف" للمناوي ٣٢٢.
(١) وممن قال بأنهم اليهود: الربيع بن أنس، وسعيد بن جبير. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: إنهم النصارى. وقال ابن السائب: إنهم اليهود والنصارى. ولفظ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعم الفريقين. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٢، "تفسير ابن أبي حاتم" ٨/ ٦١٢، "النكت والعيون" ١/ ٣٨٠، "زاد المسير" ١/ ٣٦٣، "تفسير الفخر الرازي" ٧/ ٢٢٦، "تفسير القرطبي" ٤/ ٤٤.
(٢) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٣) (اليهود): ساقطة من: (ب).
(٤) لم أهتد على مصدر قوله.
(٥) (قبل بعثه): ساقطة من: (د).
(٦) في (ج) و (د): (وعدنا به).
121
وصفته، وبيان ما جاء في شأنه.
يعني: أنهم ما اختلفوا إلَّا بعد صحة علمهم بنبوَّتِه، وإذا كان الاختلاف بعد العِلْم، كان ذلك أبلغ في الكفر والعناد، ودليل هذا التأويل قوله في سورة البقرة: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٣].
وقوله تعالى: ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ معنى البغي: طَلَبٌ للاستعلاء (١) بالظلم. أخبر الله تعالى عن عِلَّةِ اختلافهم، فقال: فعلوا ذلك طلبًا للرئاسة، وحسدًا له على النُبُوَّةِ. فانتصب (٢) ﴿بَغْيًا﴾ في قول الأخفش (٣) على تقدير: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ (٤).
وقال الزجَّاج (٥): والذي هو الأجود؛ أن يكون ﴿بَغْيًا﴾ منصوبًا بما دلَّ عليه: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ﴾. فيكون المعنى: اختلفوا بغيًا بينهم.
قال أبو علي (٦): وجهُ قولِ الأخفش: أنَّ ﴿بَغْيًا﴾ انتصب (٧) على أنه
(١) هكذا ورد (أ). وورد في: (ب)، (ج)، (د): (الاستعلاء). وأثبَتُّ ما في نسخة الأصل؛ نظرًا لِمُوافقته لما سيأتي بعده من طلبهم للرئاسة. وما ذكره المؤلف من معنى (البغي)، إنما هو في موضعه في هذه الآية؛ لأن لـ (البغي) معانٍ عدة، وأصله: مجاوزة الحد. ومن وجوهه: الحسد، والظلم. انظر: "اللسان" ١/ ٣٢١ (بغى)، "الوجوه والنظائر في القرآن الكريم" د. القرعاوي ٢٢٦.
(٢) في (ج)، (د): (وانتصب).
(٣) في "معاني القرآن" له: ١/ ١٩٩.
(٤) من قوله: (إلا..) إلى (.. اختلفوا بغيًا بينهم): ساقط من: (د).
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٣٨٧، نقله عنه بنصه.
(٦) في "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني"، له: ١/ ٥٧٣ - ٥٧٥. تَصَرّف في بعض عباراته، ونقل بعضَها بالمعنى.
(٧) قوله: (وجه قول الأخفش: أن بغيًا انتصب): ساقط من: (ج).
122
مفعول له؛ أي: للبغي؛ كقولك: (جئتُ مَخافةَ الشرِّ، وابتغاءَ الخير). [قال] (١):
وأَغْفِرُ عَوْراءَ الكريمِ ادِّخارَهُ (٢)
(١) ما بين المعقوفين زيادة من: (د).
(٢) صدر بيت. وعجزه:
وأصْفَح عن شتمِ اللئيمِ تَكَرُّما
وهو لحاتم الطائي، وهو في: "ديوانه" (ن: دار مكتبة الهلال): ٧٢، وورد منسوبًا له، في "كتاب سيبويه" ١/ ٣٦٨، "الإفصاح" ٢٧٩، "شرح المفصل" ٢/ ٥٤، "اللسان" ٥/ ٣١٦٥ (عور)، "التصريح بمضمون التوضيح" للأزهري: ١/ ٣٩٢، "شرح شواهد المغنى" ٢/ ٩٥٢، "الخزانة" ٣/ ١١٥، ١٢٢. "الجمل" للخليل: ٩٥، "معاني القرآن" للفرَّاء: ٢/ ٥، "معاني القرآن" للأخفش: ١/ ١٦٧، "الكامل" ١/ ٢٩١، "المقتضب" ٢/ ٣٤٨، "المحلى" (وجوه النصب)، لابن شقير: ٦٩، "وأسرار العربية" للأنباري: ١٨٧، "الاقتضاب" ١٠٩.
وورد في بعض المصادر بالروايات التالية: (.. اصطناعه وأعرض عن ذات..) و (.. اصطناعه وأصفح عن ذات..) و (.. وأصفح عن شتم..). ومعنى (أغفر): استُر. و (العَوْراء): الكلمة، أو الفعلة القبيحة، و (الادِّخار)، افتعال من (الذُّخر)، بمعنى: الاتخاذ والحفظ، وأصلها: (اذتخار)، فقلبت التاء ذالًا، وأدْغِمَت فيها الذالُ الأصليةُ، فصارت ذالًا مشدوةً، ثم أبدِلَت الذالُ دالًا. انظر: "اللسان" ٣/ ١٤٩٠ (ذخر)، ٥/ ٣١٦٥ (عور)، ٦/ ٣٢٧٤ (غفر). ومعنى البيت: إذا جهل علي الكريمُ بكلمة أو فعلةٍ قبيحة، سترتها عليه، وسامحته، واحتملتها منه؛ للإبقاء على صداقته، ولادِّخاره ليوم احتاج إليه فيه. وإن شتمني اللئيمُ أعرضت عن شتمه والرد عليه؛ إكرامًا لنفسي. والشاهد في البيت: نصب (ادِّخارَه)، و (تكَرُّما) على المفعول لأجله، والأصل فيه: (لادخارِه)، و (للتكرمِ)، فلما حُذِف حرفُ الجرِّ، انتصب الاسمُ.
123
ووجه قول الزجَّاج: أنَّه انتصب على المصدر؛ كأنه لمَّا قيل: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ دلَّ (١) على: (وما بغى (٢) الذين أوتوا الكتاب). فحُمِلَت ﴿بَغْيًا﴾ عليه (٣). فإن قيل: ما الفصل (٤) بين ما ينتصب على المصدرة نحو: ﴿صُنْعَ الله﴾ (٥)، وما ينتصب على أنَّه مفعول له؛ نحو: (ادِّخاره)، وبابه؟
فالقول: إنَّ الجميع وإن كانا يجتمعان في أنهما ينتصبان عن تمام الكلام؛ فالمفعول له؛ معناه: الإخبارُ بالغرض الذي من أجله فُعِل الفعلُ، والسبب له. والعامل فيه؛ هو هذا الفعل (٦) الظاهر.
وأما (٧) المصدر: فالنحويون يُسَّمونه مفعولًا مطلقًا؛ لأن الفاعل
(١) (دل): ساقطة من: (ج).
(٢) في (أ)، (ج): (بغا). والمثبت من: (ب)، (د).
(٣) أي أنَّ (بغيًا) مصدر مؤكِّد (مفعول مطلق)، ويكون التقدير: (وما بغى الذين أوتوا الكتاب... بغيًا). والمعنى بناء على رأي الأخفش: أن الاختلاف بينهم حاصل قبل مجيء العلم وبعده، ولكن سببه بعد مجيء العلم هو البغي، فهو المفعول لأجله. والمعنى على رأي الزجاج: أن الخلاف بينهم حصل بعد مجيء العلم فقط وسببه البغي. هذا والله أعلم.
(٤) في (ب): (الفعل).
(٥) وقد انتصبت (صُنْعَ) بفعلٍ مضمرٍ دلَّ عليه ما قبله؛ لأن معنى الجملة: (صَنَعَ اللهُ ذلك صُنْعًا)، أو (صنع صنعًا، الله). ثم أضاف المصدر إلى الفاعل. ويجوز نصبها على الإغراء؛ أي: (انظروا صنع اللهِ). ولكن ليس هذا الوجه محل الشاهد. انظر: "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: ٢/ ٧٦٨، "إعراب القرآن" للنحاس: ٢/ ٥٣٦، "البيان" للأنباري: ٢/ ٢٢٨.
(٦) في (د): (السبب).
(٧) في (د): (فأما).
124
أحدثه.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. هذا شرطٌ وجوابُ، يتضمن وعيدًا لليهود الذين كفروا بمحمد - ﷺ -. وذكرنا معنى ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ في سورة البقرة (١).
٢٠ - قوله تعالى: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٠]. قال ابنُ عباس (٢): نزلت في يهود المدينة، ونصارى نَجْرَان، والأمِّيِّين من العرب.
قال الكلبي (٣): وذلك أن اليهود والنصارى قالت: لسنا على ما سميتنا به يا محمد، إنما اليهودية والنصرانية نَسَبٌ، والدِّين هو الإسلام، ونحن عليه.
قال الزَّجَّاج (٤): فأمر الله تعالى نبيَّه بأن يحتجَّ عليهم؛ أنه اتَّبع أمرَ اللهِ، الذي هم مُجْمِعون (٥) مُقرُّون بأنه خالقُهم، وأمَرَه بقوله: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ﴾ الآية بأن يدعوهم إلى ما هو عليه من الإسلام.
قال أهل المعاني (٦): وإنما لزمتهم الحُجَّة من حيث إن النبي - ﷺ -
(١) انظر تفسير آية: ٢٠٢ من سورة البقرة.
(٢) لم أهتد إلى مصدر قوله إلا ما ورد في "تنوير المقباس" ٤٤، فقد قال بعد قوله تعالى: ﴿حَاجُّوكَ﴾ (يعني: اليهود والنصارى)، وقال بعد ﴿وَالْأُمِّيِّينَ﴾: (يعني: العرب).
(٣) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٥ أ.
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٣٨٨، نقله عنه بتصرف.
(٥) في "معاني القرآن": (أجمعون).
(٦) لم أعثر على من نصَّ على هذا القول، ممن سبق المؤلف.
125
أراهم الدلالة على صدقه ونبوَّته، ثم دعاهم إلى اتباع أمر من أقروا بأنه خالقهم، فإذا لم يطيعوه، صاروا محجوجين.
فهذا وجه الحجة للنبي - ﷺ - في قوله: ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾. ومعنى ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾: أي: انقدت له بقلبي ولساني وجوارحي.
وذكرنا أن الإسلام معناه -في اللغة-: الانقياد (١). وذُكِرَ (الوجه) هاهنا؛ لأنه أكرم جوارح الإنسان، فإذا خضع وجهُهُ لشيء، فقد خضع له سائرُ جوارحه (٢).
وقال ابن عباس في هذه الآية (٣): يريد: كما قال أبوك إبراهيم: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ١٣١]. وقد ذكرنا هناك معنى (أسلم) و (أسلمْتُ).
وقال الفرَّاء (٤): معنى [أسلمت وجهي لله: أخلصت عملي لله؛ يقال (٥)] (٦): (أسلمتُ الشيءَ لفلان)؛ أي: أخلصته لهُ، فسلم له الشيء، ولم يشاركه غيره (٧).
قال: ومعنى (الوجه) ههنا: العمل، كقوله: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾
(١) انظر ما سبق عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ من آية ١٩ من هذه السورة.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٤، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٥ ب.
(٣) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٤) لم أهتد إلى مصدر قوله وهو موجود في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٥ ب.
(٥) في (ج): (فقال).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من: (ج)، (د).
(٧) في (ج): (فيه).
126
[الأنعام: ٥٢ - الكهف: ٢٨]، أي: قصده والعمل.
وقول الشاعر:
... إليه الوجهُ والعَمَلُ (١)
نسق بالعمل على الوجه، وهما واحدٌ؛ لاختلاف اللفْظَيْن. ومضى الكلام في هذا عند قوله: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١١٢]، الآية.
وقوله تعالى: ﴿وَمنِ اَتَّبَعَنِ﴾. ﴿مَنِ﴾ عطف على الضمير في ﴿أَسْلَمْتُ﴾ من غير أن يؤكده؛ لأن الكلام طال بقوله: ﴿وَجْهِىَ للهِ﴾، فصار عِوَضًا من تأكيد الضمير المُتَّصِل.
ولو قيل: (أسْلَمْتُ وزيدٌ)، لم يَحْسُن حتى يقول: (أسلمتُ أنا وزيدٌ).
(١) عجز بيت، وتمامه:
أستغفرُ الله ذنبًا لست مُحصِيَهُ رب العباد إليه الوجه والعمل
لم أهتد إلى قائله، وقد ورد غير منسوب في المصادر التالية "كتاب سيبويه" ١/ ٣٧، "معاني القرآن" للفرَّاء: ٢/ ٣١٤، "تأويل مشكل القرآن" ١٧٧، "أدب الكاتب" ٥٢٤، "المقتضب" ٢/ ٣٢١، "الأصول في النحو" ١/ ١٧٨، "المحلى" لابن شقير: ٦٨، "الخصائص" ٣/ ٢٤٧، "الصاحبي" ٢٩١، ٣٣٩، "أمالي المرتضى" ١/ ٥٩١، "تفسير الثعلبي" ٢٥/ ٣ ب، "المخصص" ١٤/ ٧١، "الاقتضاب" ٣/ ٤٠٠، "شرح المفصل" ٧/ ٦٣، ٨/ ٥١، "اللسان" ٥/ ٢٦ (غفر)، "شرح شذور الذهب" ص ٤٤٥، "المقاصد النحوية" ٣/ ٢٢٦، "منهج السالك" (شرح الأشموني): ٢/ ١٩٤، "التصريح" للأزهري: ١/ ٣٩٤، "الهمع" ٥/ ١٧، ورد فيه الشطر الأول فقط. "خزانة الأدب" ٣/ ١١١، "الدرر اللوامع" ٢/ ١٠٦. ومعنى البيت: أطلب المغفرة؛ أي: الستر على ذنوبي، ويريد بـ (الذنب) هنا اسم الجنس؛ أي: جميع الذنوب؛ لأنه قال بعده: (لست محصِيَهُ)؛ أي: لا أحصي عدد ذنوبي التي عملتها، وأستغفر الله من جميعها. و (الوجه) هنا القصد، وهو بمعنى: التوجُّه؛ أي: إليه التوجه في الدعاء.
127
فإن قال: (أسلمتُ اليوم (١) بانشراح صدرٍ ومن جاء معي)، جاز وحَسُنَ (٢).
[قال أبو إسحاق (٣): حذفت الياء من (اتبعن)، وهذه الياء إذا وقعت في آخر آية، حسن] (٤) حذفها (٥)؛ لأن أواخر الآي تُشَبَّهُ (٦) بقوافي الشِّعْر، وأهل اللغة يسمونها الفواصل.
قال الأعشى:
ومن شانئٍ كاسِفٍ بالُهُ إذا ما انتسَبْتُ له أنكَرَنْ (٧)
(١) (اليوم): ساقطة من (د).
(٢) وفي إعراب ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾، وجوهٌ أخرى، وهي: أنها مرفوعة على الابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: (ومن اتَّبعني أسلم وجهه لله). أنها منصوبة على المعيَّة، والواو واو المعية؛ أي: (أسلمت وجهي لله مع من اتبعني)، أو (مصاحبًا لمن أسلم وجهه لله).
أنها في محل جر عطفا على اسم الله تعالى، على تأويل: (جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له، ولمن اتَّبعني بالحفظ له والاحتفاء بعمله وبرأيه وبصحبته). ويظهر على الوجه التكلف والتعسف. انظر هذه الوجوه، في "الفريد في إعراب القرآن المجيد" للمنتجب الهمداني ١/ ٥٥٥، "البحر المحيط" ٢/ ٤٢١، "الدر المصون" ٣/ ٩٠ - ٩٢، "الفتوحات الإلهية" ١/ ٢٥٣.
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٣٨٩، نقله عنه بتصرف واختصار قليل.
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(٥) (حذفها): ساقطة من: (د).
(٦) (تشبه): مطموسة في (ج).
(٧) البيت في "ديوانه" ص ٢٠٧. وورد منسوبًا له في "الكتاب" ٤/ ١٨٧، "أمالي ابن الشجري" ٢/ ٢٩١، و"مجاز القرآن" ٢/ ١٩٥، و"الأمالي" للقالي ٢/ ٢٦٣، و"إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري ٢٥٩، و"فقه اللغة" للثعالبي ٢١٨،=
128
فإذا لم يكن آخر آيةٍ أو قافيةٍ، فالأكثر إثبات الياء، وحذفها جيد، خاصة مع النونات؛ لأن أصل (اتبعني) (١): (اتبعي) (٢)، فزيدت النونُ؛ لِتَسْلَم فتحةُ العيْن. فالكسرة (٣) من النون، تنوب عن الياء، فإذا لم تكن النون؛ نحو: (غلامي)، (وصاحبي)، فالأجود إثباتها، وحذفها قليل، إلا أنه جائز؛ لأن (٤) الكسْرَة دالة عليه.
قال ابن عباس (٥): ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾: يريد: المهاجرين والأنصار.
وقوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ﴾. يعني: العرب (٦)
= "شرح المفصل" ٩/ ٨٣، ٨٦. وورد غير منسوب في "غريب الحديث" للحربي: ٢/ ٨٧٤، "وشرح أبيات سيبويه" للنحاس: ١٨٩. وروايته في الديوان وبعض المصادر: (.. كاسف وجهه..)، وورد في بعض المصادر: (.. ومن كاشح ظاهِرٍ غِمْرُهُ..). و (الشانئ): المُبغِض، و (كاسف البال): سيِّء الحال، و (كاسف الوجه): عابِسُه؛ من سوء الحال، و (رجل كاسف): مهمومٌ، قد تغير لونه، وهزل من الحزن. و (أنكرن): أنكرني بادِّعائه أنه لا يعرفني؛ لكراهيته لي. أما في الرواية الثانية: فمعنى (كاشح)؛ أي عدو مبغض، وهو الذي يضمر لك العداوة في كَشْحه؛ أي: باطنه، أو يطوية عنك كشحُهُ وُيعرض عنك، و (الكشح): الخَصْر. و (الغَمْرُ) بفتح الغين وكسرها: الحقد والغِل. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٣٣٥ (شنأ)، ٧/ ٣٨٧٧ (كسف)، ٧/ ٣٨٨٠ (كشح)، ٦/ ٣٢٩٤ - ٣٢٩٥ (غمر). والشاهد في البيت: حذف الياء من (أنكرن) في الوقف عليها في القافية، وأصلها: (أنكرني).
(١) في (ب): (اتبعن).
(٢) في (أ)، (ب): (اتَّبعنن). والمثبت من: (ج)، (د)، "معاني القرآن" للزجَّاج، "زاد المسير" ١/ ٣٦٤.
(٣) في (د): (فالكسر).
(٤) في (ج): (إلا أن).
(٥) لم أعثر على مصدر قوله.
(٦) أي: إن الأميِّين هم العرب. وسُمُّوا بذلك كما يقول ابن عطية: نسبة (على الأم،=
129
﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾.
قال الفرَّاء (١)، والزجَّاج (٢): معناه: الأمر؛ أي: أسلموا؛ لأنه استفهام في معنى التوقيف والتهديد، وفي ضمنه الأمر؛ كما تقول للإنسان، بعد أن تأمره وتُؤكِّد عليه: أقَبِلْتَ؟ فأنت تسأله متوعدًا، وفي مسألتك دليلٌ أنك تأمره أن يفعل، ومثله قوله (٣): ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١]؛ أي: انتهوا.
قال النحويون: إنما جاء الأمر في سورة الاستفهام؛ لأنه بمنزلته في طلب الفعل، والاستدعاء إليه، فذكر ذلك؛ للدلالة على الأمر، من غير تصريح به؛ ليُقِرَّ المأمورُ بما يلزمه من الأمر.
وقوله تعالى: ﴿عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾. البلاغُ: اسمٌ (٤) للمصدر، بمنزلة
= أو إلى الأمَّة... أي: كما هي الأم، أو على حال خروج الإنسان عن الأم، أو على حال الأمة الساذجة قبل التعلم والتحذق) "المحرر الوجيز" ٣/ ٥٨؛ أي: سُمُّوا بذلك لعدم معرفتهم الكتابة والقراءة. وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٤ - ٢٠٥ (أمم). وبهذا ورد الأثر عن ابن عباس، كما في "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٥، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٢٠. ويعزز هذا قول النبي - ﷺ -: "إنَّا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب.. ". أخرجه البخاري في "صحيحه" ٢/ ٢٣٠ كتاب الصوم، باب: ١٣، ومسلم في: "صحيحه": ٢/ ٧٦١. كتاب الصيام، باب: وجوب صوم رمضان، رقم: ١٥. وقال محمد بن جعفر بن الزبير، ومحمد بن إسحاق: الذين لا كتاب لهم. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٥، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦١٩.
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٠٢.
(٢) في "معاني القرآن وإعرابه" له ١/ ٣٩٠، وعنه نقل المؤلف العبارات التالية، بتصرف.
(٣) (قوله): ساقط من: (ج).
(٤) (اسم): ساقط من: (د).
130
التبليغ؛ كـ (السَّراح) (١) و (الأداء)، أي: تبليغ الرسالة.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾. قال ابن عباس (٢): ممن (٣) آمن بك وصدَّقَكَ، ومن كفر بك وكذبك (٤). وفي هذه الآية تسلية للمصطفى - ﷺ - حين أُخبر أنه ليس عليه هداهم، إنما عليه التبليغ، فإذا بلَّغ فقد أدَّى ما عليه.
وقال بعض المفسرين: حكم هذه الآية قبل أن يُؤمر النبي - ﷺ - بالسيف (٥).
(١) (السَّراح) اسم للمصدر، بمعنى: التسريح، وأصل (التسريح): إرسال الإبل في المرعى، ثم جُعِل للمطلق الإرسال، ثم استعير في الطلاق، فـ (تسبح المرأة): تطليقها، والاسم: (السَّراح)، قال تعالى: ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ الأحزاب: ٤٩، وقال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]. ومن معاني (السَّراح): السهولة، والمصدر: (التسريح)؛ أي التسهيل. انظر: (سرح)، في "اللسان" ٤/ ١٩٨٤ - ١٩٨٥، "عمدة الحفاظ" ٢٣٧.
(٢) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٣) في (ج): (من)، (د): (بمن).
(٤) والذي في: "تنوير المقباس" عنه: ٤٤: (بمن يؤمن، وبمن لا يؤمن).
(٥) يعني أنها منسوخة، والمنسوخ منها عندهم هو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾. وممن قال بذلك ممن سبق المؤلف بالوفاة: أبو عبد الله، محمد بن حزم الأنصاري، المتوفى سنة (٣٢٠ هـ) تقريبًا، في كتابه: "الناسخ والمنسوخ في القرآن": ٣٠، وهبة الله بن سلامة، المتوفى سنة (٤١٠ هـ) في كتابه: "الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عز وجل": ٦٠. والناسخ لها عندهم هي آية السيف، وهي في أصح أقوال العلماء: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة: ٥]. ومنشأ دعواهم بأنها منسوخة، هو أنَّ الآية بما تضمنته من أسلوب القصر حصرت مهمة النبي - ﷺ -، في تبليغ الرسالة والموادعة دون قتال المخالفين، ثم جاءت آية =
131
٢١ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ نزلت في اليهود (١)، ومعنى هذه الآية، قد ذكرنا في سورة البقرة، عند قوله: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٦١].
= السيف بالإذن بقتالهم، فنسخت الاقتصارَ على التبليغ، وصارت المهمةُ بعدها: التبليغ والقتال في سبيل ما كُلِّفَ بتبليغه، ولكن دعوى النسخ هذه لا تُسلَّم؛ لأمور منها: أن هذه الآية خبَر، والأخبار لا تقبل النسخ. أن القول بالنسخ يقتضي معرفة تاريخ نزول الآية؛ ليقال: إن اللاحق نسخ السابق، والتاريخ هنا غير معروف. إن القصر هنا إضافيٌّ، يُراد به تقرير أن الرسول ليس مكَلَّفًا بإيجاد الإيمان في القلوب، وهو ما يُسمَّى بهداية القبول، فذلك من حق الله تعالى، أمَّا هداية البيان والإرشاد والتبليغ فذلك من وظيفة النبي - ﷺ -، وهي المرادة في هذه الآية. أن الآية كما يقول د. مصطفى زيد: (لم تكن تقصد إلى إعفاء النبي - ﷺ - من واجب القتال في سبيل الدعوة، وإنما قصدت إلى تقرير أنه قد بَلَّغ عن الله فأدَّى ما عليه. وشَرْعُ القتال قبلها، ثم بعدها بآية السيف وغيرها لم يغير شيئًا من حقيقة الوظيفة التي كُلِّفَ القيام بها، وإن كان قد زاد الوسائل إليها وسيلة جديدة، هي: مشروعية القتال في سبيلها؛ لتأمين الدعوة، وحماية أرواحهم من عدوان الكفار عليهم، لا لحملهم على الدخول في الإسلام بقوة السلاح). "النسخ في القرآن" د. مصطفى زيد: ١/ ٤٢٥، وانظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٥٩.
(١) وقال محمد بن جعفر، وقتادة، وأبو سليمان الدمشقي: إن المراد هنا هم اليهود والنصارى. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٥، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٢١، "تفسير البغوي" ٢/ ٢٠، "زاد المسير" ١/ ٣٦٥، "تفسير الخازن" ١/ ٢٧٩، "البحر المحيط" ٢/ ٤١٣ وقال ابن عطية، عن الآية بعد أن ذكر قول محمد بن جعفر: وتعم كلَّ من كان بهذه الحال، والآية توبيخ للمعاصرين لرسول الله - ﷺ - بمساوئ أسلافهم، وببقائهم أنفسهم على فعل ما أمكنهم من تلك المساوئ؛ لأنهم كانوا حرصى على قتل محمد - ﷺ -. "المحرر الوجيز" ٣/ ٦٠.
132
وقوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾. روى أبو عبيدة بن الجرَّاح (١): أن النبي - ﷺ - قال: قَتَلَت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين (٢) نبيًا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا (٣) عَشَرَ رجلًا، من عبَّاد بني إسرائيل، فأمروا مَنْ قَتَلَهم بالمعروف، ونَهَوْهم عن المنكر، فقُتِلُوا جميعًا من آخر النهار، في ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله عز وجل في كتابه، وأنزل الآية فيهم (٤).
وقرأ حمزةُ (٥): (ويُقاتِلون الذين)، لأنه (٦) اعتبر قراءةَ عبد الله (٧):
(١) هو: عامر بن عبد الله الجَرَّاح، الفِهْري القرشي. من كبار الصحابة، والسابقين منهم، سماه رسول الله - ﷺ - (أمينَ هذه الأمة)، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، شهد بدرًا وما بعدها من المشاهد، توفي بالأردن، سنة (١٨هـ). انظر: "الاستيعاب" ٢/ ٣٤١ - ٣٤٣، "الإصابة" ٢/ ٢٥٢ - ٢٥٤.
(٢) في (ب): (وأربعون).
(٣) في (د): (واثنى).
(٤) الأثر عن أبي عبيدة، أخرجه: الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢١٦، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٦٢١ وفيه بلفظ (.. فقام مائة رجل وسبعون رجلًا..)، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٢٦ ب، وذكره (٨) الماوردي في "النكت والعيون" ١/ ٣٨١، والبغوي في "تفسيره" ١/ ٢٠ - ٢١، والديلمي في: "مسند الفردوس": ٥/ ٣٦١ رقم (٨٤٤١) وأورده القرطبي في "تفسيره" ٤/ ٤٦، ونسب إخرا جه للمهدوي، وذكره ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٣٨١، والسيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٢٣. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٧٢، وقال: (رواه البزار، وفيه ممن لم أعرفه اثنان). وفيه عندهم جميعًا: أبو الحسن مولى بني أسد، وهو مجهول. انظر: "الجرح والتعديل" ٩/ ٣٥٧، "ميزان الاعتدال" ٦/ ١٨٨، "المغني في الضعفاء" للذهبي: ٢/ ٧٨٠.
(٥) هو: أبو عمارة، حمزة بن حبيب الزيات، تقدمت ترجمته.
(٦) من قوله: (لأنه..) إلى (.. قتال المباين المشاق لهم): نقله عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٢٤ بتصرف كثير.
(٧) هو ابن مسعود رضي الله عنه. وانظر قراءته، في "المصاحف" لابن أبي داود: =
133
(وقاتَلوا الذين يأمرون)، فقرأ (١): ﴿يُقَاتِلُونَ﴾، وهو يريد: (قاتَلُوا)، كما روي في حرف عبد الله.
ويجوز أن يكون المضارع، بمعنى الماضي؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحج: ٢٥]، وقال في أخرى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا﴾ (٢)، فالأول جاء على لفظ المضارع؛ حكاية للحال، كذلك (٣) قراءة حمزة: (ويقاتلون)، يجوز (٤) أن يكون مراده: (قد قاتَلوا)، إلا أنه جاء على لفظ المضارع، حكايةً للحال.
والمعنى في قراءة حمزة: أنهم لا يوالون الذي يأمرون بالقسط؛ ليقلَّ نهيُهم (٥) إيَّاهم عن العدوان عليهم، فيكونون متباينين لهم (٦) مُشاقِّينَ؛ لأمرهم بالقسط، وإن لم يقتلوهم (٧) كما قتلوا الأنبياء، ولكن يقاتلونهم (٨)
= ٥٩، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٦ أ، "الحجة" للفارسي ٣/ ٢٤، "البحر المحيط" ٢/ ٤١٤.
(١) من قوله: (فقرأ..) إلى (.. يريد قاتلوا): ساقط من: (ج).
(٢) سورة النساء: ١٦٧، وورد هذا المقطع كذلك في: سورة النحل: ٨٨، وسورة محمد: ٣٢، ٣٤.
(٣) من قوله: (كذلك..) إلى (.. حكاية للحال): ساقط من: (د).
(٤) في (ج): (ويجوز).
(٥) في (أ)، (ب): (نبيهم)، والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "الحجة" للفارسي. وورد في إحدى نسخ "الحجة" أشار إليها محققه: (لِثِقَلِ نَهْيِهِم).
(٦) هكذا جاءت في جميع النسخ، وفي "الحجة" للفارسي: (مباينين)، وهي الأصْوَب، ولكني تركت ما في الأصل كما هو؛ لاتفاق جميع النسخ عليه.
(٧) في (ج): (يقاتلوهم).
(٨) فى (ج): (يقاتلوهم).
134
قتال المُبايِنِ، المُشاقِّ لهم. والصحيح الموافق لتفسير الآية: قراءةُ العامَّةِ (١).
وقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾. ذكرنا معنى التبشير، وجواز إطلاقه فيما [لا] (٢) يَسُر، عند قوله: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢٥].
وأما (٣) دخول الفاء في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ وهو خبر الابتداء، فقد (٤) ذكرنا ما فيه عند قوله: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٥٨].
٢٢ - قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ هو يريد بـ ﴿أَعْمَالُهُمْ﴾: ما هم عليه من ادِّعائهم التمسك بالتوراة، وإقامة شريعة موسى. وأراد ببطلانها في الدنيا: أنها لم تحقن دماءَهم، وأموالهم (٥)؛ وفي الآخرة: لم يستحقوا بها مثوبة، فصارت كأنها لم تكن ولم توجد.
(١) قال النحاس في "معاني القرآن" ١/ ٣٧٥: (فإن قال قائل: الذين وُعظوا بهذا لم يقتلوا نبيًا. فالجواب عن هذا: أنهم رضوا فِعْلَ من قَتَل، فكانوا بمنزلته، وأيضًا فَإنهم قاتلوا النبي - ﷺ - وأصحابه وهمُّوا بقتلهم..).
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د)؛ ليستقيم بها المعنى.
(٣) من قوله: (وأما..) إلى (.. ذكرنا ما فيه عند قوله): ساقط من (د).
(٤) في (ج): (وقد).
(٥) يعني المؤلف هنا والله أعلم: أنهم لم ينالوا بها محمدة الناس، وثناءَهم، ولم يرفع الله بها ذكرَهم؛ لأنهم كانوا على ضلال وباطل، ولعنهم وفضح ما كانوا يُخفُون من قبيح الأعمال على ألْسِنة رسله وأنبيائه في كتبه المنزلة، فأزال من قلوب الخلق محبَّتهم، وغرس فيها احتقارهم، وبقيت على مدى الدهر مذمَّتُهم؛ مما أدى لأن تُسفَك دماؤُهم، وتُسلَب أموالهم. انظر "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٧، "تفسير الفخر الرازي" ٧/ ٢٣٣.
٢٣ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ الآية إنما قال: ﴿نَصِيبًا﴾؛ لأنهم كانوا يعلمون بعض ما في الكتاب (١). والمراد بهؤلاء: اليهود.
وقوله تعالى: ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ﴾. قال ابن عباس في رواية الضحَّاك (٢): المرادبـ (كتاب الله) ههنا: القرآن، والله [تعالى] (٣) جعل القرآن حَكَماً بينهم وبين رسول الله - ﷺ - (٤)، فَحَكمَ القرآن عليهم بالضلالة، فأعرضوا عنه.
فإن قيل: كيف دُعوا إلى حكم كتابٍ لا يؤمنون به؟
قيل: إنَّما دُعوا إليه بعد (٥) أن ثبت أنه (٦) من عند الله، بموافقته التوراة في الأنباء والقصص، ورصانته (٧)، بحيث لم يقدر بشرٌ أن يعارضَه، وهذا
(١) وقال الشوكاني في "فتح القدير" ١/ ٤٩٥: (وتنكير النصيب؛ للتعظيم؛ أي: نصيبًا عظيمًا، كما يفيده مقام المبالغة. ومن قال: إنَّ التنكير للتحقير فلم يصب، فلم ينتفعوا بذلك؛ وذلك بأنهم يدعون إلى كتاب الله الذي أوتوا نصيبًا منه، وهو التوراة). وبهذا قال الزجَّاج في "معاني القرآن" ١/ ٣٩١، والنحاس في "معاني القرآن" ١/ ٣٧٦، والزمخشري في "الكشاف" ١/ ٤٢٠، وأبو السعود في "تفسيره" ٢/ ٢٠.
(٢) هذا الأثر، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٧ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٢١. وهو كذلك من رواية أبي صالح عنه، وهو قول الحسن، وقتادة. انظر: "النكت والعيون" ١/ ٣٨٢، "زاد المسير" ١/ ٣٦٧.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(٤) في (ج)، (د): (رسوله).
(٥) (إليه بعد): ساقطة من (ج).
(٦) في (ج): (أنهم).
(٧) في (د): (ورصافته).
136
قول قتادة (١)، وقال في رواية سعيد بن جُبَير، وعكرمة: إنَّ النبي - ﷺ - قال لليهود: "أنا على ملَّة (٢) إبراهيم، وملَّته: الإسلام"، فقالوا: إن إبراهيم كان يهودياً، فقال لهم رسول الله - ﷺ -: "فَهَلُمُّوا إلى التوراة". فأبوا عليه. فأنزل الله هذه الآية (٣).
وقال في رواية أبي صالح: أنكروا آية الرجْمِ من التوراة، وكان قد
زنى منهم رجل (٤) وامرأة، فكرهوا (٥) رجمَهما (٦) وسألوا النبي - ﷺ - ما يلزمهما (٧)، فحكم بالرجْمِ. فقالوا: جُرْتَ (٨) يا محمد! فقال: "بيني وبينكم التوراة". ثم أتوا بابن صُورِيا (٩)، فقرأ التوراة، فلما أتى على آية الرجم سترها بكفِّهِ، فقام (١٠) ابنُ سَلام، فرفع كفه (١١) عنها، ثم قرأ على
(١) يعني بـ (قول قتادة) والله أعلم: ما سبق أن ذكره من أن المراد بـ (الكتاب)، هو: القرآن.
(٢) في (ج): (ما أنا على ملة)، (د): (ما علامكة).
(٣) هذا الأثر في "سيرة ابن هشام" ٢/ ١٧٩ - ١٨٠ "تفسير الطبري" ٣/ ٢١٧، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٢٢، "الثعلبي" ٣/ ٢٧ ب، "أسباب النزول" للواحدي: ١٠٢، "تفسير البغوي" ٢/ ٢١ - ٢٢، "زاد المسير" ١/ ٣٦٦، "تفسير القرطبي" ٤/ ٥٠، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٢٤، "لباب النقول" ٥٠، ونسب إخراجه لابن المنذر.
(٤) في (ج): (د): (رجل منهم).
(٥) في (ج): (وكرهوا).
(٦) في (ج): (رجمها).
(٧) في (أ): (يلزمها)، والمثبت من: (ب)، (ج) (ء).
(٨) قوله: (فقالوا: جرت): ساقط من (ج).
(٩) جاء في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٧ (ب) أن رسول الله - ﷺ - سأل اليهود، فقال: "فمن أعلمكم بالتوراة؟ " فقالوا: رجل أعور يسكن فدك، يقال له: ابن صوريا. واسمه: عبد الله.
(١٠) في (ج): (فقال).
(١١) في (ج): (ارفع كفك).
137
رسول الله - ﷺ - وعلى اليهود الرجْمَ، فغضب اليهودُ لذلك (١) غضباً شديداً، وانصرفوا؛ فأنزل الله هذه الآية (٢).
(١) (لذلك): ساقطة من (ج).
(٢) هذا الأثر في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٧ ب من رواية الكلبي عن أبي صالح. كما ورد في "تفسير البغوي" ٢/ ٢٢، "زاد المسير" ١/ ٣٦٦، "البحر المحيط" ٢/ ٤١٦. وقد ذكره المؤلف هنا مختصرًا وأورد طرفًا منه في "أسباب النزول" ١٠٢، وأشار إلى أنه سيأتي بيان ذلك في سورة المائدة، ولكنه عند إيراده لأسباب نزول سورة المائدة، لم يورد هذا الأثر عن ابن عباس، وإنما أورد آثارًا أخرى في نفس المعنى. ولم أجد أحدًا من المفسرين ممن اطَّلعت على تفاسيرهم ذكر هذا السبب عند هذه الآية، إلَّا من سبق ذكره، وإنما أورد المفسرون هذا السبب عند الآية: ٤١، ٤٣ من سورة المائدة، ولكن بروايات أخرى عن ابن عباس وغيره، وأقرب هذه الروايات إلى ما ذكره المؤلف: ما أخرجه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: (إنَّ اليهود جاءوا إلى رسول الله - ﷺ -، أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله - ﷺ - "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقالوا: نفضحهم ويُجلدون. قال عبد الله بن سَلاَم: كذبتم! إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدُهم يَدَه على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم. قالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله - ﷺ - فَرُجِما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة). "صحيح البخاري" (٦٨٤١). كتاب الحدود. باب: أحكام أهل الذمة. وأخرجه مسلم في "صحيحه" (١٦٩٩) كتاب الحدود، باب: رجم اليهود، أهل الذمة. وأخرجه أبو داود (٤٤٤٦). كتاب: الرجم. وليس في لفظ الحديث أنه سبب لنزول الآية. وأما الوارد عن ابن عباس مما هو قريب من هذه الرواية فهو من رواية معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وأخرجها الطبري ٦/ ٢٣٢ عند آية ٤١ من المائدة، وليس فيها كذلك أنها سبب لنزول الآية. انظر بقية الروايات، في "الدر المنثور" ٢/ ٤٩٨ - ٥٠٠، "أسباب النزول" للواحدي: ١٩٧ - ٢٠٠، "لباب النقول" للسيوطي: ٩١ - ٩٢.
138
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾. إن قيل: كيف خصَّ بالتولِّي فريقاً، ثم جمعهم في الإعراض، فقال: ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾؟.
فالجواب، ما قال ابن الأنباري (١)، وهو: أنَّ الفريق المتولِّي، هم: المعرضون. وأراد بـ (الفريق المتولي): الرؤساء الذين تدين السَّفَلَةُ لهم، فأفردهم الله تعالى بالذكر، وخصَّهم بالتولي، لأنهم سببٌ لإضلال أتبَّاعهم.
قال (٢): ويحتمل أن يكونَ المتولُّون: العلماء والرؤساء، والمعرضون: الباقون منهم؛ كأنه قيل (٣): ثم يتولى العلماءُ. والتُبَّاعُ معرضون عن القبول من النبي - ﷺ - لتولي علمائهم. ويجوز أن يكون الفريق اختصه الله (٤)؛ لأن عبد الله بن سَلام، وغيره من مؤمني أهل الكتاب، كانوا ممن قبلوا حكم النبي - ﷺ - فكان (٥) المتولِّي بعض مَن أوتي (٦) الكتاب.
٢٤ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾. (٧) اختلف أهل المعاني في المُشارِ إليه بـ ﴿ذَلِكَ﴾، فقال بعضهم (٨): ﴿ذَلِكَ﴾ راجعة إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ [آل عمران: ٢٢]؛ يعني: ذلك الحُبُوطُ؛ بكذبهم على
(١) لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد أورد طرفًا منه ابنُ الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٣٦٧.
(٢) (قال): ساقطة من (د).
(٣) في (د): (كانو قبل).
(٤) معنى عبارة المؤلف هنا: أن الله خصَّ بالتولي فريقًا منهم دون الكل، لأن منهم من لم يتولَّ، كابن سلام وغيره.
(٥) في (ج)، (د): (وكان).
(٦) في (ج): (أولى).
(٧) (بأنهم): ساقطة من (د).
(٨) لم أهتد إلى هذا القائل. ولم أقف فيما رجعت إليه من مصادر على من قال برجوع ﴿ذَلِكَ﴾ إلى (الحبوط).
139
الله؛ وهو قولهم: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات﴾.
و (١) قال ابن الأنباري (٢): معنى قوله (٣): ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُم﴾ أي: ذلك الاجتراء عليك، وعلى الإعراض عن حكمك يا محمد بسبب اغترارهم، ومقالتهم؛ حيث قالوا: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات﴾، وظنوا (٤) أنفسهم على قِلَّةِ العذاب وقِصَرِ مُدَّته (٥)، فتجاسروا على تكذيب الرسل (٦).
وهذا معنى قول الزجَّاج (٧): أخبر الله تعالى عن اليهود، أنهم يُعرضون عن حكم كتاب الله، ثم أنبأ وبيّن ما حملهم على ذلك، وخبَّر بما غرَّهم، فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ (٨). قال: وموضع: ﴿ذَلِكَ﴾ رفعٌ. المعنى: شَأنُهُم ذلك، وأَمْرُهُم ذلك (٩). ومضى القول في تفسير قولهم:
(١) الواو زيادة من: (ج)، (د).
(٢) لم أعثر على مصدر قوله.
(٣) (قوله): ساقطة من (ج).
(٤) في (ب): (وطَّنوا)، وفي (د): (وطمنوا).
(٥) أي: أنهم ظنوا أنهم لا يعذبون إلا قليلًا، ولمدة قصيرة، كما زعموا.
(٦) وقد ذهب أكثر المفسرين إلى هذا الرأي، وهو أن ﴿ذَلِكَ﴾ تعود على التَّوَلِّي والإعراض المذكور في الآية قبلها. انظر: "المحرر الوجيز" ١/ ٣٥٥، "الكشاف" ١/ ٤٢١، "تفسير الفخر الرازي" ٧/ ٢٣٦، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٨١، "تفسير أبي السعود" ٢/ ٢١، "الفتوحات الإلهية" ١/ ٢٥٥، "فتح القدير" ١/ ٤٩٦، "روح المعاني" ٣/ ١١١.
(٧) في "معاني القرآن" ١/ ٣٩١، نقله عنه بالمعنى.
(٨) (قالوا): ساقطة من (ج).
(٩) أي: أنها مرفوعة على أنها خبرُ مبتدأ محذوف؛ المعنى: شأنهم وأمرهم ذلك. ولكنِ هذا القول، ضعَّفه العكبري في "التبيان" ١/ ٢٥٠؛ لأنه سيجعل قوله: ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ في موضع نصب على الحال، مما في (ذا) من معنى الإشارة؛ أي: ذلك الأمر مستحقًا بقولهم.. ، وقال السمين الحلبي، في "الدر المصون" ٣/ ٩٥:=
140
﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا﴾ في سورة البقرة.
وقوله تعالى: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ﴾ الغُرور: الإطماع (١) فيما لا يصح (٢). وقوله تعالى: ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾. يعني قولهم: لن تَمَسَّنا النار.
٢٥ - قوله (٣) تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ﴾. الآية. (كيف): معناه: السؤال عن الحال. والحال المسئولة عنها محذوفة؛ وتقديره: فكيف حالهم إذا جمعناهم؟ وتحذف الحال كثيراً مع كيف؛ لدلالته عليها؛ نحو قولك: (كنت أكْرِمُه وهو لم يزرني؛ فكيف إذا زارني؟)؛ أي: كيف حالُهُ إذا زارني في عِظَمِ الإكرام؟. ويُحذف أيضاً جوابُ هذا السؤال من الكلام؛ لأن في حذفه بلاغة تزيد على الإفصاح بذكره؛ لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل: فكيف إذا زارني؟ وكل نوع من أنواع العذاب في الآية.
وتأويل الكلام: أي حالة تكون (٤) حال من اغتر بالدعاوى الباطلة، إذا جُمعوا ليوم الجزاء (٥)؟ وقوله ﴿لِيَوْمٍ﴾ (٦)، ولم يقل: (في يوم)؛ لأن
= (بل هذا لا يجوز البتة). والقول الثاني: إن ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ، وخبره: ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ انظر المراجع السابقة، "الفريد في إعراب القرآن المجيد" للمنتجب الهمداني: ١/ ٥٥٧.
(١) في (د): (الأطواع).
(٢) انظر: "تاج العروس" ٧/ ٢٩٩ (غرر).
(٣) في (د): (وقوله).
(٤) في (ب): (يكون).
(٥) قال أبو حيان في: "البحر": ١/ ٤١٧: (هذا تعجيب من حالهم واستعظام لعظم مقالتهم حين اختلفت مطامعهم، وظهر كذب دعواهم، إذ صاروا إلى عذابٍ مالهم حيلة في دفعه..).
(٦) في (ج): (ليوم لا ريب فيه).
141
المراد: لجزاء يوم، أو لحساب يوم؛ فحذف المضاف، ودلت اللاَّمُ عليه. قاله الزجَّاج (١).
وقال الفرَّاء (٢): اللاَّمُ، لفعل مُضْمَرٍ؛ إذا قلت: (جُمعوا ليوم الخميس)؛ كان المعنى: جُمعوا لما يكون يوم الخميس. وإذا قلت: (جُمعوا في يوم الخميس)، لم تُضْمِرْ فِعْلاً (٣).
وقوله تعالى: ﴿لِيَوْمٍ﴾. أي: لما يكون في ذلك اليوم من الحساب والجزاء. وهذا قريب من القول الأول، بل هو تفسير له (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾. أي: جزاء ما كسبت (٥) من خيرٍ أو شرٍّ. فهذا يكون على حذف المضاف، ويجوز أن يكون المعنى: ووُفِّيَت كل نفس ما كسب من الثواب والعقاب، بالطاعة والمعصية، فلا يكون في الكلام مضافٌ محذوف، ويجوز أن يُسمَّى الثوابُ والعقابُ كسباً للعبد؛ على معنى (٦): أنهما جزاء كسبه، وأنه اجتلبهما بأعماله (٧) الصالحة والطالحة (٨).
(١) في "معاني القرآن" ١/ ٣٩٢، وعبارته: (أي: لحساب يوم لا شك فيه).
(٢) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٠٢. نقله عنه بتصرف قليل.
(٣) انظر كذلك "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢٠.
(٤) (له): ساقط من: (ب). وقد يكون هذا من تتمة كلام الفرَّاء، ولكن المؤلف نقله بالمعنى، ونص قول الفرَّاء: (أي: للحساب والجزاء).
(٥) قوله: (أي جزاء ما كسبت): ساقط من (ج).
(٦) (معنى): ساقط من (د).
(٧) في (ج): (بأعمال).
(٨) قال الطبري في "تفسيره" ١/ ٣٨٠: (وأصل (الكسب): العمل، فكل عامل عملًا، بمباشرة منه لما عمل، ومعاناة باحتراف، فهو كاسبٌ لما عمل..).
142
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾. أي: لا يُنقص من حسناتهم، ولا يزاد على سيِّئاتهم.
٢٦ - وقوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ﴾ اختلف النحويون في إعراب (اللهمَّ)؛ فقال الخليل (١)، وسيبويه (٢): (اللهمَّ)، بمعنى: يا الله. والميم (٣) المشدَّدَة عِوَضٌ (٤) من (يا)؛ لأنهم لم يقولوا: (يا) مع هذه الميم في هذه الكلمة. والضمة التي في الهاء (٥): ضمة الاسم المنادى المفرد (٦)، والميم مفتوحة؛ لسكونها، وسكون الميم التي قبلها.
وأنكر الفرَّاء هذا القول؛ فقال (٧): لم نجد العرب زادت مثل هذه الميم في نواقص الاسم إلَّا مخففة؛ مثل: (الفمُ)، و (هذا ابْنُمٌ)، و (سُتْهُمُ) (٨).
(١) من قوله: (فقال الخليل..) إلى (.. وسكون الميم التي قبلها): نقله بتصرف يسير جدًّا عن "معاني القرآن" للزجَّاج: ١/ ٣٩٤.
(٢) في: (الكتاب)، له: ٢/ ١٩٦، وانظر مذهبه ومذهب الخليل كذلك في "الأصول في النحو" لابن السراج ١/ ٣٣٨.
(٣) (الميم): ساقطة من (د).
(٤) في (ب): (عوضًا).
(٥) في (ج): (أولها)، وكذا هي في "معاني القرآن" للزجاج، ولا وجه لها، والصواب ما أثبته.
(٦) ويبنى المنادى المفرد على ما كان يرفع به قبل النداء، في حالة كونه علمًا، أو نكرة مقصودة، على أن لا يكونا مضافين، أو شبيهين بالمضاف.
(٧) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٠٣، نقله عنه بتصرف.
(٨) قوله: (وهذا ابنم، وستهم): مطموسة في: (د). و (هذا) لم ترد في "معاني القرآن". و (ابنم): لغة في (ابن)، وتعرب إعرابها، وقيل إنَّ ميمها زائدة؛ للمبالغة، أو للعوض من لام الاسم المحذوفة، حيث إنَّ أصلها: (بَنَو)، وتعرب (ابنم) =
143
فلو (١) كانت الميم بدلاً من (يا)، لم يُجمع بين الميم و (يا)، وقد أنشدني بعضهم:
وما عليكِ أنْ تَقُولي كُلَّمَا
صَلَّيتِ أو سَبَّحتِ: يا اللَّهما
اردُدْ علينا شَيخَنا مُسَلَّما (٢)
فقال: (يا اللهُمَّ). ثم قال: ونرى أنها كانت في الأصل كلمةً ضُمَّ
= بحسب موقعها في الجملة، وحركة النون فيها تتبع حركة الميم في جميع حالات الإعراب، وبعضهم يبقيها مفتوحة دائمًا، ويجوز إبقاء الميم وحذفها عند إضافتها إلى ياء المتكلم. انظر: "موسوعة النحو والصرف والإعراب": ١٩، "معجم الشوارد النحوية" ٦٥. و (سُتْهُمُ)؛ غير موجودة في "معاني القرآن" المطبوع المتداول، وقد وردت في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢١. ومعنى (ستهم): هو الرجل الأسْتَهُ، إذا كان عظيم الاست، ويقال للمرأة: (سُتْهُم)، و (سَتْهاء). انظر كتاب "خلق الإنسان" لابن أبي ثابت: ٣٠٦، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٢٥ (ستة).
(١) في (د): (ولو).
(٢) ثلاثة أبيات من الرجز لم يعرف قائلها، وردت في: "المحلى" لابن شقير: ٨٤ "اللَّامات" للزجاجي: ٩٠، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢١، "الإنصاف" للأنباري ص٢٩١، "رصف المباني" ٣٧٣، "اللسان" ١/ ١١٦ (أله) "ارتشاف الضرب" ٣/ ٢٨٥، ٢٨٩، "الهمع" ٥/ ٣٤٧، "خزانة الأدب" ٢/ ٢٩٦، "الدرر اللوامع" ٢/ ٢٢٠. وقد ورد في بعض المصادر: (.. صَلّيتِ أو هلَّلْت..)، وفي الطبري: أو كبَّرتِ)، وفيه: (يا اللهُمَا)، وفي بعضها: تُفصَل (ما) عن (اللهُمَّ). والشاعر هنا يأمر بُنيَّته أو زوجته بالدعاء له، إذا ما سافر أو غاب عنهم: أن يرده عليهم سالمًا. و (التسبيح): تنزيه الله وتعظيمه وتقديسه، و (الصلاة) هنا قد تكون بمعنى الدعاء، أو الصلاة الشرعية، و (الشيخ) هنا الأب، أو الزوج. والشاهد فيه: قوله: (يا اللهمَّما)؛ حيث جمع بين حرف النداء، والميم المشددة، ولم يكتف بذلك، بل وزادها ميمًا مفردة بعد الميم المشددة، دلالة على أن الميم ليست بدلًا من حرف النداء.
144
إليها (أُمَّ)؛ يريد: (يا الله؛ أُمَّنا بخير)، فكثرت في الكلام حتى اختلطت (١) به، فحذفت الهمزة استخفافاً، فقيل: (اللهمَّ) (٢)، ثم كثرت هذه اللفظة حتى قالوا: (لاهُمَّ)؛ بمعنى: اللهمَّ.
قال الشاعر:
لاهُمَّ إنَّ عامِرَ بن جَهْمِ أوْذَمَ (٣) حَجّاً في ثِيَابٍ (٤) دُسْمِ (٥)
وقال آخر:
لاهُمَّ إن جُرْهُماً (٦) عِبادكا الناس طُرْفٌ (٧) وهمُ تِلادُكا (٨)
(١) في (د): (اختلط). ويعني بذلك: أنها اندمجت مع لفظ الجلالة.
(٢) (فقيل: اللهم): ساقط من (ج).
(٣) في جميع النسخ: (أودم). والصواب ما أثبته، كما سيأتي في التعليق على البيت.
(٤) في (أ)، (ب): (ثبات)، والمثبت من: (ج)، (د).
(٥) بيت من الرجز، وقائله مجهول، ولم أقف عليه في "معاني القرآن" للفراء. وقد ورد غير منسوب في المصادر التالية: "غريب الحديث" لأبي عبيد: ١/ ٣٤٧، "تأويل مشكل القرآن" ١٤٢، "كتاب المعاني الكبير" ١/ ٤٨٠ "الصحاح" ٥/ ٢٠٥٠ (وذم)، "أساس البلاغة" ١/ ٢٧١ (دسم)، "اللسان" ٣/ ١٣٧٥ (دسم)، ٨/ ٤٨٠٦ (وذم)، "البحر المحيط" ٢/ ٤١٦ وورد فيه: (.. أحرم جحا). و (أوذم عليه الشيء)؛ أي: أوجبه وألزمه نفسه، و (ثيابٍ دُسْم)؛ أي: وَسِخة، و (الدَّسَمُ): الوَضَر والدَّنَس. ويقال للرجل من قبيل المجَاز إذا تدنَّس بمَذامِّ الأخلاق: (إنَّه لَدَسِمُ الثوب). ومعنى البيت: أنه أحرم بالحج وهو متدنِّسٌ بالذنوب. انظر: مادة (دسم) و (وذم) في "أساس البلاغة" ١/ ٢٧١، "اللسان" ٣/ ١٣٧٥، ٨/ ٤٨٠٦.
(٦) في (ج): (أجرهما).
(٧) في (د): (طرو).
(٨) في (ج)، (د): (بلادكا). ولم أقف عليه في "معاني القرآن" للفراء، والبيت لعامر ابن الحارث بن مُضاض، سيِّد جُرْهم في مكة وقد ورد منسوبًا له في "تاريخ الطبري" ٢/ ٢٨٥، وذكر قصته ومناسبته. وتمامه كما عند الطبري: (.. بهم قديمًا =
145
فحذفوا الألف واللاَّم، لَمَّا كَثُرَ في كلامهم.
قال (١): وقد خُفِّفت ميمها في بعض اللغات. أنشدني بعضهم:
كحَلْفَةٍ من ابن (٢) رباح يَسْمَعها اللهُمُ (٣) الكُبارُ (٤)
= عَمِرَتْ بلادكْ). وقافيته عند الطبري كلها بالسكون. وورد في شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام: ١/ ٥٧٤. وروايته فيه: (اللهم إن جُرْهما عبادُك.. الناس طُرْفٌ وهم تلادك). وورد فيه برواية: (اللَّهم إن جرهما عبادكا.. القوم طرف وهم تلادكا). وقوله: (طرف): يعني به والله أعلم: أنها جمع (طارف) و (طريف)، وهو: المستحدث من المال. ونقيضه: التليد والتالد، وهو: المال القديم الأصلي الذي وُلد عندك. فيعني الشاعر هنا والله أعلم: أن جرهما هم أهل مكة وأهل الحرم، وأول من عمر بهم البلد الحرام، وأما الآخرون فهم حديثو عهد به. انظر: "اللسان" ١/ ٤٣٩ (تلد)، ٥/ ٢٦٥٧ - ٢٦٥٨ (طرف).
(١) يعني: الفرَّاء كما سبق.
(٢) هكذا في: (أ)، (ب)، (ج)، (د). وورد في الديوان وبقية مصادر البيت: (أبي).
(٣) في (أ): اللهُمَّ. ولم تضبط بالشكل في بقية النسخ. وما أثبَتُّه هو الصواب؛ لوروده في مصادره بتخفيف الميم، ولأن تشديدها، خلاف ما أراده المؤلف من إيراده شاهدًا على التخفيف فيها.
(٤) البيت مطموس في: (د). وهو للأعشى، في ديوانه: ٨٢، وقد ورد منسوبًا له، في "سر صناعة الإعراب" ١/ ٤٣٠، "أمالي ابن الشجري" ٢/ ١٩٧، "اللسان" ١/ ١١٦ (أله)، "الهمع" ٣/ ٦٤، "الخزانة" ٢/ ٢٦٦، ٢٦٩، "الدرر اللوامع" ١/ ١٥٤. وورد غير منسوب في: "معاني القرآن" للفرَّاء: ١/ ٢٠٤، ٢/ ٣٩٨، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢١، والجمهرة: ١/ ٣٢٧ (برك)، "تهذيب اللغة" ١/ ١٩١ (أله)، "المسائل العضديات" ٧٨، "شرح المفصل" ١/ ٣، "شرح ما يقع فيه التصحيف" ٣١٠، "المقاصد النحوية" ٤/ ٢٣٨.
وقد وردت (أبي رياح) بدلا من: أبي رباح، في: الديوان، "معاني القرآن" والطبري، "التهذيب" "سر صناعة الإعراب" والجمهرة، "أمالي ابن الشجري" والخزانة، وقال صاحبها: (هو بمثناة تحتيَّة، لا بموحدة كما يزعم شُرَّاح الشواهد).=
146
قال: والرفعة التي في الهاء من همزة (أُمَّ) لمَّا تركت، انتقلت إلى ما قبلها. قال: ونرى (١) أن قول العرب: (هَلُمَّ) مثلها؛ إنما كانت: (هل) فضُمَّ إليها (أُمَّ) (٢).
= ووردت (لاهُهُ)، بدلًا من: (اللهُمُ) في: الديوان، والمسائل العضديات، "أمالي ابن الشجري" والخزانة. وورد في "سر صناعة الإعراب" "اللسان" (لاهُمُ). وورد في "معاني القرآن" ٢/ ٣٩٨ (.. الهمَّةُ الكبار)، وقال: (الهِمُّ، والهِمَّةُ: الشيخ الفاني)، وفي "معاني القرآن" ٢/ ٣٩٨ (.. الهمَّةُ الكبار)، وقال: (الهِمّ، والهِمَّةُ: الشيخ الفاني)، وفي: ١/ ٢٠٤: (وإنشاد العامة: "لاهُهُ الكبار"، وأنشدني الكسائي: (يسمعها الله والله كبار). وفي "الخزانة" ٢/ ٢٦٩ أن الأصمعي رواها: (يسمعها الواحد الكبار).
و (الحَلْفةُ): المرَّة من الحَلِفِ؛ بمعنى: القسم. و (أبو رياح) وفق رواية المؤلف: رجل من بني ضُبَيعة، وكان قد قتل رجلا من بني سعد بن ثعلبة، فسألوه أن يحلف أو يعطي الدِّيَة، فحلف فقُتِل بعد حَلْفَته، فضربته العربُ مَثَلًا لِمَا لا يغني حِلفُه.
و (الكُبارُ): صيغة مبالغة لـ (الكبير). والشاهد فيه هنا: تخفيف ميم (اللهم).
(١) في (ج): (ويري).
(٢) ومعنى: (هلُمَّ): أقبل، أو أعط. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٦٩٤ - ٤٦٩٥ (هلم). ولكن لم يرتض ابنُ سيده رأيَ الفرَّاء هذا في (هلم)، وردَّه مستدلًا على ذلك: بأن رأي الفرَّاء لا يخلو من أحد أمرين: (إمَّا أن تكون (هل) بمعنى: (قد)، وهذا يدخل في الخبر، وإما تكون بمعنى الاستفهام، وليس لواحد متعلق بـ (هلم) ولا مدخل). "المخصص": ١٤/ ٨٨ ولكن هذا الردُّ لا يُسلَّم لابن سيده؛ حيث إن لـ (هل) استعمالات ومعاني أخرى غير ما ذكره ابن سيده، ومن ذلك: ما قاله ابنُ دريد في "الجمهرة" ٢/ ٩٨٨: (هلم) كلمتان جُعلتا كلمة واحدة؛ كأنهم أرادوا (هَلْ)، أي: أقبل، و (أمَّ)؛ أي: اقصد).
وقال الزبيدي في "التاج" ١٧/ ٧٦٢ عن (هلم): (وقال الفراء: مركبة من (هل)، التي للزجر، و (أمَّ)، أي: اقصد، خفِّفت الهمزة بإلقاء حركتها على الساكن، وحذفت). وانظر في مجيء (هل) للزجر والتوبيخ والأمر والتنبيه وغيرها، في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٧٨٤ (هل)، "اللسان" ٨/ ٤٦٨٩ (هلل).
147
وأنكر أبو إسحاق هذا القول إنكاراً شديداً، فقال (١): لو كان الأمر على ما قال، لجاز أن يقال: (الله أُمَّ)، فيُتَكلم به على أصله، كما يقال: (ويلُ أمِّه)، ثم يُتَكلم به على الأصل، فيقال: (ويلُ أُمِّهِ) (٢)، ولجاز أيضاً: (الله أُؤمُمْ) (٣).
فلمَّا لم (٤) يُسمع أحدٌ من العرب تكلم به على الأصل الذي [هو] (٥) ذَكَر (٦)، علم أنه ليس بأصل، وأيضاً لم يُسمع (٧) أحدٌ (٨) يقول: (يا اللهُمَّ)، والله عز وجل يقول: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ﴾ [الأنفال: ٣٢]، وقال: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ﴾ [الزمر: ٤٦].
وما احتجَّ به الفرَّاء من قوله: (أنشدني بعضهم) (٩)، فليس يعارض
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٣٩٣، ينقله عنه بتصرف كثير.
(٢) جاءت (ويل) في الموضعين برفع اللام، ولم تضبط في بقية النسخ بالشكل، وما أثبته هو الصواب؛ لأن (ويل) إذا أضيفت بغير اللام فالوجه فيها النصب؛ على أنها مفعول به لفعل محذوف، يقال: (ويل الظالمين)؛ أي: ألزمَ اللهُ الظالمين وَيلًا. أما إذا أضيفت باللام، فتُرْفَع؛ مثل: (ويلٌ لأمِّه)، فهي مرفوعة بالابتداء. و (ويل): بمعنى: عذاب. وقد تُركَّب لفظة (ويل) مع (أمِّه)، فيقال للرجل: (وْيلُمِّه)، أو (ويْلِمِّه) بكسر اللام، من (ويلٌ لأمه): وتعني: أنه داهية، وأصلها: الدعاء عليه، ثم استعملت في التعجب. انظر في أصلها وتركيبها: "المسائل الحلبيات" ٤٣، ٤٥، "سر صناعة الإعراب" ١١٣، ٢٣٥، ٧٤٥، "معجم النحو" ٤٣٧، "معجم الشوارد النحوية" ٦٤٠.
(٣) في جميع النسخ: (أمم)، ولا وجه لها، والمثبت من "معاني القرآن" للفرَّاء: ١/ ٣٩٣.
(٤) (لم): ساقطة من: (ب).
(٥) ما بيِن المعقوفين زيادة من (د).
(٦) في (ج): (ذكره).
(٧) في (د): (نسمع).
(٨) في (أ): (أحدا)، والمثبت من: (ب)، (ج)، (د).
(٩) (بعضهم): ساقطة من (ج).
148
الإجماعَ، وما أتى به كتابُ الله عز وجل، ووُجد في ديوان العرب. يقول قائل: (أنشدني بعضهم)، وليس ذلك البعضُ بمعروفٍ ولا مُسمَّى.
وقال غير أبي إسحاق مِمَّن نصر مذهبَ الخليل (١): لو كان الأمر على ما ذكره الفرَّاء، لما صحَّ أن يقال: (اللهُمَّ افعل كذا)، إلَّا بحرف العطف؛ لأن قوله: (اللهُمَّ) حصل عنده في ضمنه الدعاء؛ لأن تأويله: (الله (٢)؛ أُمَّنا بخير)، فالدعاء الثاني يجب أن يكون معطوفاً عليه بحرف العطف. ولم نجد أحداً يقول: (اللهُمَّ اغفر).
وأجابَ الفرَّاءَ عن قوله: (هذه الميم، إنما تُزاد مُخفَّفةً)؛ بأن قال: إنما شُدِّدت الميمُ في (اللهمَّ)؛ لأنها عِوضٌ من حرفين (٣) فشُدِّدت، كما قيل: (قُمتُنَّ) و (ضَربتُنَّ)؛ لمَّا كانت النون عِوضاً من حرفين في: (قُمتُموا) و (ضَربتُموا)، شُدِّدَت. فأما (قُمْنَ) و (ذَهبْنَ) فَعِوَضٌ من حرف واحد.
وما ذَكَر من قوله: (فَمُ) (٤) و (سُتْهُمُ) و (ابْنُمُ) (٥)، فإنما خُفِّفت الميم؛ لأنها عِوَضٌ من حرف واحد.
وليس حكمُ قولِكَ: (الله)، حكمَ (الفمُ) و (الابنُ)؛ لأنهما ناقصان أُتمَّا بالميم، و (اللهُمَّ) ليس زيادتها (٦) تتميما للاسم، إنما هي لمعنىً آخر
(١) لم أهتد إلى هذا القائل، وقد يكون المبرد، كما في "الأصول في النحو" لابن السرَّاج: ١/ ٣٣٨، حيث ورد موجز لهذا الرأي نقله عنه.
(٢) في (د): (اللهم).
(٣) (حرفين): ساقطة من (د).
(٤) في (د): (قم).
(٥) في (د): (وانتم).
(٦) أي: زيادة الميم في (اللهم).
149
غير المعنى الذي في (الفمُ).
وأمّا ما احتَجَّ به من البيت؛ فجاز إدخال (يا) مع الميم لضرورة الشعر (١).
فأما (٢) احتجاجه بقوله: (هلُمَّ)، فعند الخليل (٣): أنَّ الأصل فيه: (ها) التي [هي] (٤) للتنبيه، دخلت (٥) على (لمَّ) (٦)، فلما كثر (٧)، حُذِفت الألف (٨).
وأمَّا البيت الذي ذكر أنه جاء في (اللهُمُ)، بتخفيف الميم، فهو خطأ فاحشٌّ خصوصا عنده (٩)؛ لأن الميم في (اللهُمُ)، هو الميم الذي في (أُمَّنا)، وإنشاده بالتخفيف يفسد عليه مذهبه؛ لأنه لا يحتمل في البيت ذكر أن يكون (أُمَّنا)، إنما هو بمنزلة قولك: (يسمعهُ اللهُ الكبارُ)، فالرواية الصحيحة: يَسمعها لاهُهُ الكبارُ
(١) (لضرورة الشعر): ساقط من (د).
(٢) في (ج)، (د): (وأما).
(٣) انظر رأيه في: "الكتاب" ٣/ ٣٣٢، "تأويل مشكل القرآن" ٥٥٧.
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٥) في (ج): (وحلت).
(٦) وأصل (لَم)، من قولهم: (لَمَّ الله شعثه)؛ أي: جمعه. كأنه أراد: لَمَّ نفسك إلينا؛ أي: اقْرُبْ. انظر (هلم)، في "الصحاح" ٥/ ٢٠٦٠، "اللسان" ٨/ ٤٦٩٤.
(٧) في (ج): (كثرت).
(٨) انظر الأقوال في (هلم) في "إصلاح المنطق" ٢٩٠، "الزاهر" ١/ ٤٧٦، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٧٨٨، "المسائل العضديات" للفارسي: ٢٢١، "الصاحبي" لابن فارس: ٢٧٩، "المسائل السفرية" لابن هشام: ٣٤، "تنوير الحوالك شرح موطأ مالك" للسيوطي: ١/ ٢٢٤ - ٢٢٦، "تاج العروس" ١٧/ ٧٦٢.
(٩) في (د): (عندهم).
150
قال أبو إسحاق (١): وقوله: إنَّ الضمَّةَ [التي] (٢) في الهاء من قوله: (اللهُم)، ضمةُ الهمزِة التي كانت في (أُمَّ) محالٌ؛ لأنه لا يُترك الضمُ الذي هو دليل على النداء المفرَد (٣)، ويُجعل في اسم الله ضمةُ (أُمَّ) (٤).
وقوله تعالى: ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾. في نصبه، وجهان: أحدهما: وهو قول سيبويه (٥): أنه منصوب على النداء، وكذلك قوله: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ﴾ [الزمر: ٤٦]، ولا يجوز عنده أن يكون ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ نصباً على النعت للنداء المفرد، الذي هو قوله: ﴿اللَّهُمَّ﴾؛ لأن هذا الاسم عنده لا يُوصَف.
الوجه الثاني: وهو قول أبي العباس (٦): أنَّ (مالِكَ) وصف للمنادى المفرد. وهذا الوجه اختيار الزجَّاج؛ قال (٧): لأن هذا الاسم ومعه (٨) الميم، بمنزلته ومعه (يا) (٩)، فلا تمتنع الصفة مع الميم، كما لا تمتنع مع (١٠) (يا) (١١).
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٣٩٣، نقله عنه بتصرف.
(٢) ما بين المعقوفين من: (ج)، (د)، وكذا هي في "معاني القرآن".
(٣) أي: المنادى المفرد: مثل: يا الله.
(٤) (أم): ساقطة من (د).
(٥) "الكتاب" ٢/ ١٩٦.
(٦) هو المبرد، في "المقتضب" ٤/ ٢٣٩.
(٧) في "معاني القرآن" ١/ ٣٩٤، نقله عنه بتصرف يسير.
(٨) في (ب): (ومنه).
(٩) (ومعه يا): ساقط من (د).
(١٠) في (د): (ومعه).
(١١) في (د) وردت هنا عبارة: (فلا تمتنع مع يا) مكررة.
151
ونَصَر أبو علي الفارسي قولَ سيبويه، وقال (١): هو عندي أصح، وإن كان أغمض، وذلك (٢)، لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء (٣) على حد (اللهُمَّ)، فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة، ودخل في حيّز ما لا يوصف من الأصوات، وجب أن لا يوصف.
والأسماء المناداة المفردة المعرَّفة، القياس فيها: أن لا توصف، كما ذهب إليه بعض الناس؛ لأنها واقعة موقع ما لا يوصف؛ وكما (٤) أنه لمَّا وقع موقع ما لا يُعرب لم يعرب، كذلك لمَّا وقع موقع ما لا يوصف، وجب أن لا يوصَف (٥).
فأما قوله:
(١) قوله، في "الإغفال" ٥٥٤ - ٥٥٧. نقله عنه باختصار وتصرف. وقوله ينتهي إلى عند: (بمنزلة صوت مضموم إلى صوتٍ، نحو: حي هل).
(٢) في (ج): (ذلك).
(٣) من قوله: (شيء..) إلى (ما عليه الأسماء الموصوفة): ساقط من (ج).
(٤) في (ج): (كما). ومن قوله: (وكما..) إلى (.. موقع ما لا يوصف): ساقط من (د).
(٥) في (د): (توصف).
152
يا حَكَمُ الوارثُ عن عبد الملكْ (١).
(١) بيت شعر من الرجز لرؤبة بن العجاج، في: "ديوانه": ١١٨. كما ورد منسوبًا له في المصادر التالية: "المعاني الكبير" ٢/ ٨٧٠، "إعراب القرآن" "المنسوب" للزجّاج: ١/ ٩٧، "شرح الأبيات المشكلة" للفارسي: ٤٤٨، "أمالي ابن الشجري" ٣/ ٤٤، "شرح شواهد المغني" ١/ ٥٢، ٥٣.
وورد غير منسوب في "المقتضب" ٤/ ٢٠٨، "الخصائص" ٢/ ٣٨٩، ٣/ ٣٣١، ٣٣٢، "الإنصاف" للأنباري: ص ٤٩٩، "مغني اللبيب" ٢٨. وبعده وفق رواية الديوان:.. ميراثُ أحسابٍ وجُودٍ مُنسفِكْ. وورد في بعض المصادر بنصب لفظ (الوارثَ). والشاعر هنا يمدح الحكم بن عبد الملك بن بشر بن مروان. والشاهد هنا أن قوله: (الوارث) على رأي سيبويه وأبي علي الفارسي ليس نعتًا للمنادى، وإنما هو خبر لمبتدأ؛ تقديره: (أنت). بينما الوجه الآخر فيه أنه مرفوع؛ لأنه نعت للمنادى قبله، ونعت المنادى المفرد إذا كان مقترنا بـ (أل) يجوز رفعه تبعًا للفظ المنادى، ونصبه تبعًا لمحله، فإن المنادى المفرد العلم مبني على الضم في محل نصب. انظر: "الانتصاف من الإنصاف" للشيخ: محمد محي الدين عبد الحميد (مطبوع مع الإنصاف، لأبي البركات الأنباري): ٢/ ٦٣٠.
153
يا حَكَمُ بن (١) المنذرِ بنَ (٢) الجارودْ (٣)
و:
....... يا عُمَرُ الجَوادَ (٤)
فإن الأول، على: (أنت)، والثاني، على: نداء ثانٍ، والثالث، على: (أعني)، فلمَّا كان هذا الاسم، الأصل فيه: أن لا يُوصَف لِما
(١) في (ج)، (د): (ابن).
(٢) في (د): (ابن).
(٣) بيت من الرجز، وتكملته: أنت الجوادُ ابنُ الجوادِ المحمودْ.
قيل: هو لرؤبة بن العجاج، وقد ورد في: ملحق ديوانه: ١٧٢، وفيه أنه مما نُسب إليه، وقد نُسب إليه كذلك في "مجاز القرآن" ١/ ٣٩٩، "الصحاح" ٤/ ١٤٩٦ (سردق).
وقيل: هو لعبد الله الأعور، المُسَمَّى بـ (الكذاب الحرمازي)، وقد ورد في: "كتاب سيبويه": ٢/ ٢٠٣، وفيه: (وقال الراجز من بني الحرماز). ونسبه له ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" ٢/ ٦٨٩. كما ذكرته المصادر التالية، مع ذكر الاختلاف في نسبته إليهما "اللسان" ٤/ ١٩٨٨ (سردق)، "المقاصد النحوية" ٤/ ٢١٠، "التصريح" ٢/ ١٦٩، وورد غير منسوب، في "المقتضب" ٤/ ٢٣٢، "الأصول في النحو" ١/ ٣٤٥، "شرح المفصل" ٢/ ٥، "أوضح المسالك" ص ٢٠٠، "منهج السالك" ٣/ ١٤٢.
والشاعر يمدح الحكمَ بن المنذر بن الجارود العَبْدي، أمير البصرة على عهد هشام ابن عبد الملك. والشاهد فيه هنا: أن (ابن) تُعْرَب على أنها مُنادى مضاف، فحقها النصب، ولا تعرب على أنها تابعة للمنعوت، وهو (حكم). و (حكم) يجوز فيها: النصب والرفع؛ لأنه العلم المفرد الموصوف بـ (ابن) المتصلة به، والمضاف إلى علم، يجوز فيه الأمران، إمَّا النصب فعلى الاتباع لحركة الصفة؛ لأنها جُعلت مع (ابن) كأنها اسم واحد لكثرة استعمالها، وكما أضيفت (ابن) إلى ما بعدها، فكذلك جعلوا (حكم) كأنها أضيفت إلى ما بعدها، فكانت كالمنادى المفرد المضاف في هذا البيت. وإمَّا الرفع فعلى النداء؛ لأنها علم، مفرد، معرفة. انظر: "شرح أبيات سيبويه" للنحاس: ١٣٤، "شرح المفصل" ٢/ ٥، "هداية السالك" لمحمد محيي الدين عبد الحميد (مطبوع مع "أوضح المسالك" ٣/ ٨٠.
(٤) جزء من عجز بيت، وتمامه:
ما كعبُ بنُ مامَةَ وابنُ سُعدى بأجودَ منك يا عمرُ الجواد
هو لجرير، في: "ديوانه": ١٠٧. وقد ورد في المصادر التالية، ونسبه أكثرها إليه: "الكامل" ١/ ٢٣١، "المقتضب" ٤/ ٢٠٨، "الأصول في النحو" ١/ ٣٦٩، "أمالي ابن الشجري" ٢/ ٤٠، ٣/ ٤٤، "أوضح المسالك" ص ٢٠١، "مغني اللبيب" ٢٨، "المقاصد النحوية" ٤/ ٢٥٤، "منهج السالك" ٣/ ١٤٣، "الهمع" ٣/ ٥٤، "شرح شواهد المغني" ١/ ٥٦، "التصريح" ٢/ ١٦٩، "الخزانة" ٤/ ٤٢٢، ٩/ ٣٩٩، "الدرر اللوامع" ١/ ١٥٣.
والشاعر يمدح عمر بن عبد العزيز رحمه الله. و (كعب بن مامه) من إياد، يُضرب به المثلُ في الجود والإيثار، ومن ذلك: إيثاره رفيقه بالماء على نفسه، ومات هو عطشًا، و (ابن سُعدى): هو: أوس بن حارثة الطائي، يُضرب به المثلُ -كذلك- في الجود والشاهد في البيت -هنا-: أن (الجَوادَ) انتصبت على الاختصاص، بتقدير فعل: (أعني) أو (أخص). وفي الديوان وبعض المصارد وردت (عمرَ) بالفتح، على أنها منادى مبني على الفتح؛ لأنه منعوت بـ (الجواد) المَنصوب. أو مبني على ضم مقدر منع من ظهوره فتح الإتباع؛ أي: أن الموصوف هنا يتبع الصفة في فتح آخرها، وهو مما يجيز الكوفيون الفتح فيه، سواء أكان المنادى موصوفًا بلفظ (ابن) أم لم يكن. انظر: "الأصول في النحو" ١/ ٣٦٩، "أوضح المسالك" ص ٢٠١، "الهمع" ٣/ ٥٤. والأصل فيه أن يكون في المخطوط: (عُمَرَ) بالفتح؛ ليتحقق الشاهد؛ لأن الفارسي أراد أن يقول: إن (الجوادَ) نصبت؛ لا لكونها صفةً لـ (عمرَ) المنصوب، فتبعتها في الإعراب -لأن عنده: المنادَى المعرَّف المفرَد، لا يوصف-، وانما جعلها -في البيت- منصوبة بفعلٍ مُقَدَّرٍ، هو: (أعني).
154
ذكرنا، كان (اللهم) أولى أن لا يوصف؛ لأنه قبل ضم الميم إليه، واقعٌ موقع ما لا يوصف، فلمَّا ضُمَّت الميمُ إليه، وصيغ معه صياغة مخصوصة، صار حكمُهُ حكمَ الأصوات، وحكم الأصوات: أن لا يوصف (١)؛ نحو: (غاقِ) (٢).
قال (٣): وهذا المضموم إليه مع ما ضُمَّ إليه، بمنزلة صوتٍ مضموم إلى صوت؛ نحو: (حَيَّهَل) (٤)، فحقُّهُ أن لا يوصفَ؛ كما لا يوصف (حَيَّ هلْ).
فأما التفسير: فقال ابن عباس (٥): لما فتح رسول الله - ﷺ - مكة، ووعد أمَّتَه مُلكَ فارسَ والرومَ، قالت المنافقون واليهودُ: هيهات، هيهات (٦)!
(١) في (د): (لا توصف)، وفي (ج) غير منقوطة، وأثبتُّ ما في الأصل، ونسخة (ب) على تقدير: أن لا يوصف الصوت.
(٢) غاق: حكاية صوت الغراب، فإن نكَرَ، نُوِّنَ يقال: سمعتُ (غاق غاق)، وسمعت (غاقٍ غاقٍ). وسُمِّي الغُرَابُ: (غاقًا)، فيقال: (سمعت صوت الغاق). انظر: "سر صناعة الإعراب" ١/ ٣١٠، ٢/ ٤٩٤، ٤٩٥، "اللسان" ٦/ ٣٣١٧ (غوق).
(٣) في (د): (مال).
(٤) في (ج): (جبهل). و (حيَّهَلْ) و (حيَّهَلا) و (حيَّهَلًا) -مُنَوَّنًا وغير مُنَوَّنٍ-: كلمة يستحثُّ بها. ويقال: (حَيَّ هَلْ بفلان)، و (حيَّ هَلَ)، و (حَيَّ هَلا). ومعنى (حيَّ على كذا..): هلمَّ وأقبِلْ، و (هلا) -كذلك- تقال للاستعجال والحَثِّ. وبُنِيَت (حيَّ) مع (هل)، وجُعِلَتا اسمًا واحدًا، وسُمِّي به الفِعْلُ، ويستوي فيه الواحد والجمع المؤنث. انظر: "الصحاح" ٥/ ١٨٥٣ (هلل)، "اللسان" ٢/ ١٠٨٢ (حيا)، "المسائل المشكلة" للفارسي: ١٥٢، "شرح الشافية" ٢/ ٢٩٤، "شرح المفصل" ٩/ ٨٤.
(٥) قوله، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٩ أ، "أسباب النزول" للواحدي: ١٠٢، "تفسير البغوي" ٢/ ٢٣، "تفسير القرطبي" ٤/ ٥٢، وعزوه -كذلك- لأنس بن مالك.
(٦) (هيهات): ساقطة من (د).
155
فأنزل اللهُ هذه الآية.
وقيل: إنَّ الله عز وجل أمر النبي - ﷺ - في هذه الآية، أن يسأله نقل عزِّ فارس إلى العرب، وذلِّ العرب إلى فارس (١).
وقوله تعالى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾. قال ابن عباس (٢): تؤتي ملكَ قيصر أمةَ محمدٍ - ﷺ -، وتنزع الملكَ منه.
الكلبي (٣): ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾: محمداً وأصحابَه، ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾: أبي جهل (٤)، وصناديدَ قريش.
وقال بعضهم: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾: العرب، ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾: الروم، والعجمِ، وسائرَ الأمم (٥).
(١) لم أهتد إلى قائل هذا القول، وقد ورد في "معاني القرآن" للزجَّاج: ١/ ٣٩٣ مصدرًا بلفظ (قيل)، وعقب عليه بقوله: (الله أعلم بحقيقة ذلك). والذي في كتب التفسير عن قتادة رحمه الله أن نبي الله - ﷺ - سأل ربه جل ثناؤه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله هذه الآية. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢٢، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٢٤، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٩/ أ، "النكت والعيون" ١/ ٣٨٤، "أسباب النزول" للواحدي: ١٠٢١٠٣، "تفسير البغوي" ٢/ ٢٣، "زاد المسير" ١/ ٣٦٨، وأورده السيوطي في " الدر" ٢/ ٢٥ ونسب إخراجه -كذلك- لعبد بن حميد.
(٢) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٣) قوله، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣١ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٢٣.
(٤) هو: عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، تقدمت ترجمته.
(٥) وردت هذه العبارة بنصها في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٢ أ، وهو بنفس معنى قول مقاتل ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ يعني: محمدًا وأمته، ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾؛ يعني الروم وفارس). تفسيره: ١/ ٢٦٩. وقد يكون الثعلبي حكاه بمعناه عن مقاتل ونقله المؤلف عن الثعلبي.
156
وذكر أبو إسحاق (١) في ﴿الْمُلْكَ﴾ المذكور ههنا، قولين:
أحدهما: أن المراد بـ ﴿الْمُلْكَ﴾ ههنا: المال، والعبيد، والحَفَدَة (٢). والله تعالى يؤتيها من يشاء، وينزعها ممن يشاء.
الثاني: أن ﴿الْمُلْكَ﴾ ههنا: ظهور الدين، والغَلَبة. فمعنى ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ أي ترزق الغَلَبةَ والظَّفَرَ الذين يطيعونك، ويعبدونك. والله تعالى قد جعل كل ما (٣) في مملكة (٤) مَلِكٍ غير مسلم للمسلمين مُلكاً وغنيمة، ولهم أن يُطالِبُوا به حتى يَحُوزوه، كما يُطالِبُ المَسْلوبُ ثَوْبَهُ (٥) بِثَوْبِه، والمأخوذ مالُهُ بما غلب عليه منه (٦).
(١) هو الزجَّاج، في "معاني القرآن" ١/ ٣٩٢، نقله عنه بالمعنى.
(٢) في "معاني القرآن" (والحضرة)، وفسَّرها المحقق، بأنها: التَّحضر والثراء، وقد تكون (الحفدة) -هكذا- في نسخة أخرى لمعاني القرآن، والذي يؤكد ما نقله المؤلف -هنا- عن الزجاج، هو أن ابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٣٦٩ نقل هذا القول عن الزجاج وفيه (الحفَدَة) كما هي عند الواحدي. و (الحفَدَةُ) و (الحفَدُ): الخدم، والأعواد. والمفرد: حافد. وحفدة الرجل: بناته، وقيل: أولاد أولاده، ومفردها، حفيد، وقيل: الأصهار. وأصلها من: (حفَد، يَحفِدُ، حفْدًا، وحفَدانًا، واحتفد احتفادًا)؛ أي: خفَّ وأسرع في العمل. انظر (حفد) في "اللسان" ٢/ ٩٢٢، "القاموس المحيط" ص ٢٧٧.
(٣) في (ج): (كلما).
(٤) في (ج): (ملكه)، في (د): (مملكته).
(٥) في (ب): (المغلوب لوبه).
(٦) ولكن لفظ (الملك) -هنا- عام، ولا دليل على تخصصه، ولذا يقول ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٣/ ٦٥: (والصحيح: أنَّه مالك الملك كله مطلقًا في جميع أنواعه)، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٨/ ٧.
157
وقال أهل المعاني (١): معنى قوله ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾؛ أي مَنْ تشاءُ أن تُؤْتِيَه، وكذلك (٢) ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ أي: ممن تشاء أن تنزعه، إلاَّ أنه حذف؛ لأن في الكلام ما يدل عليه.
قال الفرَّاء (٣): ومثله: قولك: (خذْ ما شئت)؛ أي: ما شئت أن تأخذه. وكذلك (٤) قولك: (إن شئت؛ فَقُمْ، وإن (٥) شئت؛ فلا تَقُمْ) (٦)، وكذلك قوله: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩] [فهذا بيَّن أنَّ] (٧) المشيئة واقعة على الإيمان والكفر، وهما متروكان (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ قال ابن عباس (٩): يريد: المهاجرين والأنصار، ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾، يريد: الروم وفارس: وقيل (١٠): ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ (١١): محمداً (١٢) وأصحابه، حتى دخلوا مكة ظاهرين عليها،
(١) هذا قول الزجاج في "معاني القرآن" ١/ ٣٩٧، وانظر -في هذا المعنى-: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٠٤، "الطبري" ٣/ ٢٢٢، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٣٧٩.
(٢) في (د): (كذلك).
(٣) في "معاني القرآن" ١/ ٢٠٤. نقله عنه بتصرف واختصار.
(٤) من قوله: (وكذلك..) إلى (.. فلا تقم): ساقط من (ج).
(٥) في (ب): (إن).
(٦) أي: إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن لا تقوم فلا تقم.
(٧) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ). وفي (ب): (فهذا فيه). والمُثْبت من: (ج)، (د) "معاني القرآن".
(٨) في (ج): (واقعان). والمعنى: أي: من شاء الإيمان، فلْيُؤمِنْ، ومن شاء الكفُرْ. فوقعت المشيئة على الإيمان والكفر، وتركا ولم يذكرا في الآية.
(٩) لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد ورد هذا القول عن عطاء، كما في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٢ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٢٣.
(١٠) لم أهتد إلى قائل هذا القول، وقد ورد في المصادر السابقة مصدرًا بلفظ: (قيل).
(١١) شي (أ)، (ب)، (ج): (تعز) -بدون واو-. والمثبت من (د).
(١٢) في (أ): (محمد). والمثبت من: (ب)، (د)، ومن المصادر السابقة.
158
﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾: أبا جهل وأصحابه، حتى حُزَّت (١) رؤوسهم وأُلقوا في القليب. ويدخل تحت هذا كلُّ ما به يُعِزُّ اللهُ ويذل، من الإيمان والكفر، والتوفيق والخذلان وأشباهها (٢).
وقوله تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ أي: الخير والشر، فاكتفى بالخير؛ لأن الرغبة إليه فعل الخير بالعبد دون الشر (٣)، وهذا كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النمل: ٨١] أي: [تقيكم] (٤) الحَرَّ والبرد.
وقال ابن عباس في تفسير ﴿الْخَيْرُ﴾ ههنا (٥): إنه عِزُّ الدنيا والآخرة.
٢٧ - قوله تعالى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ الإيلاج في اللغة (٦): الإدخال. والوُلُوجُ: الدخول. يقال: (وَلَجَ)، (وُلُوجاً)، و (لِجَةً) [و] (٧)
(١) في (د): (جرت).
(٢) في (د): (وما أشبهها).
(٣) قال الحدَّادي: (وهذا من باب الاقتصار على أحد طرفي الكلام، وهذا مطرد في كلام العرب) انظر "المدخل لعلم تفسير كتاب الله" للحدادي: ٣٠٦. وقال الزمخشري -مبيّنًا العِلَّة في ذلك-: (قلت: لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين، وهو الذي أنكرته الكفرة، فقال: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك، ولأن كل أفعاله -تعالى- من نافع وضار، صادر عن الحكمة والمصلحة، فهو خير كله، كإيتاء الملك ونزعه) "الكشاف" ١/ ٤٢٢، وانظر: "غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٢٤٩.
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج) و (د).
(٥) لم أهتد على مصدر قوله: والذي في "تنوير المقباس" المنسوب إليه: ٤٥: (بيدك الخير: العز والذل والملك والغنيمة والنصرة والدولة).
(٦) (في اللغة): ساقط من (د).
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج) و (د).
159
(وَلْجاً)، و (اتَّلَجَ، اتِّلاجاً)، و (توَلَّجَ، تولُّجاً) (١).
قال الشاعر:
فإنَّ القوافي يَتَّلِجنَ موالِجاً تَضايَقُ عنه أن تَولَّجَهُ (٢) الإبَرْ (٣)
وفي التنزيل: ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ﴾ [الأعراف: ٤٠]، والوُليجَةُ: الدَّخيلَةُ، والبطانة (٤)، ومنه قوله تعالى: {وَلَم يَتخِذُوا من دوُنِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا
(١) انظر (ولج) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٤٩، "الصحاح" ١/ ٣٤٧، "اللسان" ٨/ ٤٩١٣، "تاج العروس" ٣/ ٥٠٩. والمصدر الذي ذكره المؤلف، وهو: (وَلْجًا)، لم أعثر عليه فيما رجعت إليه من مصادر اللغة، وورد في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢٣.
(٢) في (ب): (تلجه).
(٣) في (أ)، (ب): (الأبرار). والمثبت من: (ج)، (د)؛ نظرًا لاتفاق مصادر البيت كلها عليه؛ ولاتفاقه مع الروي الذي قبله. والبيت، لطَرفة بن العبد، وهو في: ديوانه: ٤٧. وورد منسوبًا له في "مجاز القرآن" ١/ ٢٥٤، ٢/ ١٤٢، "البيان والتبين" ١/ ١٧٠، "الخصائص" ١/ ١٤، "سر صناعة الإعراب" ١/ ١٤٧، "الممتع" لابن عصفور: ١/ ٣٨٦، "المقاصد النحوية" ٤/ ٥٨١، "التصريح" ٢/ ٣٩٠. وورد غير منسوب في المصادر التالية: "تفسير الطبري" ٢٢/ ٥٩، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٤٩ (ولج)، "والمخصص": ١٤/ ١٨٣، "شرح المفصل" ١٠/ ٣٧، "اللسان" ٨/ ٤٩١٣ (ولج)، "تاج العروس" ٣/ ٥١٠ (ولج). وروايته في الديوان، "تفسير الطبري" (رأيت القوافي..). وفي الديوان: (تَضَيَّقُ). وفي بعض المصادر: (تضايق عنها)، وفي "تهذيب اللغة" (أن تولجه الأمر). و (القوافي): جمع قافية، وهي آخر حرف في بيت الشعر، الذي تبنى عليه القصيدة، وأراد هنا القصيدة. و (تتَّلجْنَ)، أصلها: تَوْتِلجن، ثم قُلِبت الواوُ تاءً، وأدْغِمت في التاء التي بعدها، وهو صيغة افتعال من: (الولوج)، وهو: الدخول. و (الموالج): جمع (مَوْلَج)، وهو: المَدْخل، و (تَوَلَّجَه): أصلها: تتولجه؛ أي: تدخل إلى مكانه. والمعنى: أن قصائده وهي هنا، قصائد هجائه تبلغ من التأثير في نفس المهجوِّ، مواضِعَ عميقة ودقيقة، لدرجة أن رؤوس الإبر لا تستطيع أن تلجها، وتدخل إلى أماكنها. والشاهد هنا: ورود كلمات (يتلجن) و (تَولَّجه)، فالأولى دلالة على ما ذكره المؤلف من ورود فعل (اتَّلج) والثانية على ما ذكره من ورود المصدر (التَّولُّج) وفعله (تَولَّج).
(٤) انظر (ولج)، في "الصحاح" ١/ ٣٤٨، "القاموس" ص ٢٠٩.
160
﴿الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: ١٦].
ومعنى الآية: تجعل ما نقص من أحدهما، زيادة في الآخر، في قول جميع المفسرين (١).
وذكر ابن الأنباري (٢) قولاً آخر، وهو: أن المعنى: تدخل أحدهما في الآخرة بإتيانه به (٣) بدلاً (٤) منه. قال: وذلك أن الليل إذا (٥) دخلت ظلمتُهُ، وظهرت نجومُهُ وقمرُه، كان النهار داخلاً فيه، ومستتراً تحته، وكذلك (٦) والنهار، إذا دخل ضوؤه، وطلعت شمسُه، كان الليل داخلاً فيه، ومستترا تحته (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾. أكثر المفسرين على أنَّ معناه: تخرج الحيوان من النطفة، وتخرج النطفة من
(١) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٩٠، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢٣، "تفسير البغوي" ٢/ ٢٣.
(٢) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٣) (به): ساقطة من: (ج)، (د).
(٤) في (ج): (وبدلًا).
(٥) في (ج): (لما).
(٦) من قوله: (وكذلك..) إلى (.. ومستترا تحته): ساقط من (د).
(٧) وورد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قولًا آخر، وهو: أنه يأخذ الصيف من الشتاء، ويأخذ الشتاء من الصيف. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٢٥، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٢٦، ونسب إخراجه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ. وأورد عنه السيوطي في المصدر السابق رواية أخرى، هي: أنه قِصَر أيام الشتاء في طول ليله، وقِصَر ليل الصيف من طول نهاره ونسب السيوطي إخراجه كذلك لسعيد بن منصور، وابن المنذر. "وانظر تفسير ابن مسعود" إعداد: محمد العيسوي: ٢/ ١٥٨ - ١٥٩.
161
الحيوان (١).
وقال الكلبي (٢): تخرج الفرخ من البيضة، وتخرج البيضة من الطير، وهذا كالأول؛ لأن البيضة للطير بمنزلة النطفة لسائر الحيوانات (٣).
وقال ابن عباس في رواية عطاء، والحسن (٤): تخرج المؤمن مِنَ الكافر، والكافر من المؤمن. والمؤمنُ حَيُّ الفؤاد، والكافرُ ميِّت الفؤاد. دليله: قوله: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ (٥) [الأنعام: ١٢٢].
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢٤ ورجَّحه، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٢٦ - ٦٢٧، "المحرر الوجيز" ٣/ ٦٨.
(٢) قوله، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٣ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٢٤، وقال به عكرمة، كما في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢٥، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٢٨، والمصادر السابقة.
(٣) في (د): (الحيوان).
(٤) لم تذكر المصادر التي رجعت إليها هذه الرواية عن ابن عباس، وإنما عزت القول للحسن وعطاء، فالرواية عن الحسن وردت في "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١١٧، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٣ ب. وعن الحسن وعطاء وردت في "تفسير البغوي" ٢/ ٢٤، "زاد المسير" ١/ ٣٧٠. وقال ابن الجوزي في "الزاد" بعد أن ذَكَر هذا القولَ: (رَوى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس، وهو قول الحسن وعطاء).
(٥) روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله: أنَّ خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث دخلت على الرسول - ﷺ -، وهو عند بعض نسائه، فقال: "من هذه؟ " قيل: إحدى خالاتك يا رسول الله. قال: "إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب، فمن هي؟ " قيل: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث. فقال: "سبحان الله! يخرج الحيِّ مِن الميِّت". أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ١١٧، والطبري ٣/ ٢٢٦، وابن أبي حاتم ٢/ ٦٢٦، وابن سعد في "الطبقات" ٨/ ٢٤٨ من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٢٧، ونسب إخراجه لابن مردويه.
162
وفي (الميِّت) قراءتان: التشديدُ، والتخفيفُ (١). والتشديد الأصل؛ لأنه في الأصل: (مَيْوِت)، فلما اجتمعت الواو والياء (٢)، وسبقت (٣) إحداهما بالسكون، قُلِبت الواوُ ياءً (٤)، وأُدغمت الياءُ فيه (٥). ومن خَفَّفَ: حَذَفَ الواوَ التي (٦) أُعِلَّت في التشديد بالقلب (٧)، فأعِلَّت (٨) الواوُ في التخفيف بالحذف، كما أعلَّت في التشديد بالقلب.
وقول من قال: إن (المَيْت) بالتخفيف: الذي قد مات، وبالتشديد: الذي لم يمت بعدُ (٩)، ليس (١٠) بشيء؛ لأنه قد ورد في الشعر على عكس
(١) القراءة بالتشديدة أي: ﴿الْمَيِّتِ﴾، قراءة: حفص عن عاصم، وحمزة، ونافع، والكسائي. والقراءة بالتخفيف؛ أي: ﴿الْمَيِّتِ﴾ قراءة: أبي بكر عن عاصم، وابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر. انظر: "السبعة" ٢٠٣، "الحجة" للفارسي: ٣/ ٢٥، "التبصرة" ٤٥٧.
(٢) في (ج): (الياء والواو).
(٣) في (ج): (سبقت).
(٤) ياء: ساقطة من (ج).
(٥) هذا مذهب البصريين، أما مذهب الكوفيين، فعندهم أن (ميت)، أصلها: (مَوِيت)، على وزن: (فَعِيل)، وذهب آخرون إلى أن أصلها: (فَيْعَل)، بفتح العين، وفي المسألة نقاش حول أصل هذه الكلمة. انظر كتاب العين: ٨/ ١٤٠، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٢١ (مات)، "الإنصاف" للأنباري: ص ٦٣٩، "الكشف" لمكي: ١/ ٣٤٠.
(٦) في (ج): (والتي).
(٧) قوله: (أعِلَّت)، من: (الإعلال)؛ وهو: تغيير حرف العلة للتخفيف؛ بالقلب، أو الحذف، أو الإسكان. انظر: "شرح الشافية" ٣/ ٦٦.
(٨) من قوله: (فأعلت..) إلى (.. في التشديد بالقلب): ساقط من (ج).
(٩) نُقِل هذا القول عن أبي حاتم السجستاني، كما في "الخزانة" ٦/ ٥٢٩، ولم أعثر على من قال به غيره، إلا ما نقله الجوهري عن الفراء: (يقال لمن لم يَمُت: (إنه مائت عن قليل)، و (ميِّت)، ولا يقولون لمن مات: (هذا مائت). "الصحاح" ١/ ٢٦٧ (موت).
(١٠) في (ب): (وليس).
163
قوله.
أنشد أبو العباس (١) لابن (٢) الرَّعْلاء الغسَّاني (٣).
ليس من مات فاستراح بمَيْتٍ إنَّما المَيْتُ ميِّتُ الأحْياءِ
(١) لم أهتد إلى مصدره، وهكذا ورد في "النكت والعيون" ١/ ٣٨٥.
(٢) في جميع النسخ: (لأبي)، والمثبت هو الصواب.
(٣) في (أ): غير واضحة. وفي (ب): (لأبي يعلى الفسافي). والمثبت من (ج)، (د). وهو الصواب. وهو: عَدِي بن الرَّعْلاء الغَسَّاني، والرَّعْلاء هي أُمَّهُ. وهو شاعر جاهلي. انظر: "معجم الشعراء" ٨٦، "الخزانة" ٩/ ٥٨٦، "الأعلام" ٤/ ٢٢٠.
164
إنَّما المَيْتُ من يعيشُ كثيبا كاسفاً بالُهُ (١) قليلَ الرَّخاء (٢)
فهذا بيَّن أنَّ الأمر فيهما سواء.
وقوله تعالى: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. قال الزجَّاج (٣): أي: بغير تقتير. وهذا مستعمل في اللغة، يقال: (فلان ينفق بغير حساب)؛ أي: بُوسِّع في النفقة؛ فكأنه لا يحسب ما ينفقه.
وقال الحسن (٤)، والربيع (٥): أي: بغير (٦) نقصان، وذلك؛ لأنه غير متناهي المقدور، فما يؤخذ منه (٧) لا ينقصه، ولا هو على حساب جزءٍ من كذا وكذا (٨) جزءا (٩)، فهو بغير حساب التجزئة.
وقيل معناه (١٠): بغير حساب الاستحقاق؛ لأنه يرزق ويعطي تفضلاً لا استحقاقاً.
(١) (باله): ساقط من (ج).
(٢) ورد منسوبًا له في: المصادر التالية: "الأصمعيات" للأصمعي ١٥٢، "معجم الشعراء" للمرزباني (ط ٢، ١٩٨٢م، ن: مكتبة القدسي) ٢٥٢، "النكت والعيون" ١/ ٣٨٥، ولكن فيه: (لابن الرعلاء القلابي)، "البيان" للأنباري ١/ ١٩٨، "اللسان" ٧/ ٤٢٩٥ (موت)، "شرح شواهد المغني" ١/ ٤٠٥، ٢/ ٨٥٨ "الخزانة" ٦/ ٥٣٠، ٩/ ٥٨٣.
كما ورد غير منسوب، في المصادر التالية: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ١٥٥، "البيان والتبيين" للجاحظ ١/ ١٣٢، "العقد الفريد" ٥/ ٤٩١، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٢١ (موت)، "المنصف" ٢/ ١٧، ٣/ ٦٢، "الصحاح" ١/ ٢٦٧ (موت)، "أمالي ابن الشجري" ١/ ٢٣٢، "ورسالة الصاهل والشاحج" ٥٢٢، "شرح المفصل" ١٠/ ٦٩، "البحر المحيط" ١/ ٤٨٦، "والمغني" ٦٠١، "منهج السالك" ٢/ ١٦٩. وقد نسبا لصالح بن عبد القدوس، في "الحماسة" للبحتري (ضبط وتعليق: كمال مصطفى، ط ١، ن: المكتبة التجارية) ٣٤٠، "معجم الأدباء" ٣/ ٤٢٠. وردت روايته في "الأصمعيات" (.. ذليلا سيِّئا..) ووردت (الرجاء) بالجيم، بدلًا من: (الرخاء) بالخاء، في كل المصادر ما عدا "معجم الشعراء" "خزانة الأدب" ٩/ ٥٨٣، وهي موافقة لما أورده المؤلف هنا و (الرخاء): اسم من: (رَخِيَ العيشُ)، و (رَخوَ): إذا اتّسع. و (كاسِفًا بالُه)، من: (كسفت): إذا ساءت، والبال: الحال. والشاعر يقول: بأن من لا يموت في الحرب، فإنه يعيش في ذلٍّ، وسوءِ حال، وخزي، فحياته في الحقيقة ليست إلا موتا. والشاهد: استعمال (ميْت) و (ميِّت) بمعنى واحد.
(٣) في "معاني القرآن" ١/ ٣٩٥، نقله عنه بتصرف يسير جدا. وانظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ١٠٣.
(٤) لم أهتد إلى مصدر الأثر عنه.
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢٧، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٢٨.
(٦) في (ج): (تغير).
(٧) في (ج): (مثله).
(٨) في (ب): (ولا كذا).
(٩) (جزءًا): ساقطة من (ج).
(١٠) لم أهتد إلى قائل هذا القول.
165
٢٨ - قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ قال ابن عباس (١): نزلت الآية في قوم من المؤمنين، كانوا (٢) يباطنون اليهود ويوالونهم (٣).
وقال المُقاتِلان (٤): نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَة (٥)، وغيره ممن كانوا يوالون كفار مكة.
(١) قوله، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢٨، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٤ أ، "أسباب النزول" للواحدي ص١٠٤، "تفسير البغوي" ٢/ ٢٥، "زاد المسير" ١/ ٣٧١، "لباب النقول" للسيوطي ٥٢.
(٢) (كانوا): ساقطة من (ج).
(٣) في (أ)، (ب)، (ج): (يتوالونهم)، والمثبت من (د). وتفسير (الوسيط) للمؤلف (تح: بالطيور): ١٨٧.
(٤) في (أ)، (ب)، (د): (مقاتلان). والمثبت من (ج) وهو الصواب؛ لموافقة لما في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٤ أ، والمقاتلان؛ هما: مقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حيان، وقد أخرج لهما الثعلبي في "تفسيره" وجعلهما من مصادره. انظر: "تفسيره" ١/ ٧ ب، وقول مقاتل بن سليمان في تفسيره ١/ ٢٧٠. ويبدو أن الواحدي نقل القول عنهما من "تفيسر الثعلبي" ٣٤ أ، وقد أورد البغوي في "تفسيره" ٢/ ٢٥ قولَ مقاتل، ولم يُعَيِّن مَنْ منهما. ونَصَّ على وروده عنهما ابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٣٧١، وقال: (هذا قول المقَاتِلَيْن: ابنِ سُليمان، وابن حَيان).
(٥) هو: حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو اللَّخمي، صحابي، أصله من اليمن، وكان حليفًا للزبير، شهد بدرًا، وهو الذي كاتب أهل مكة يخبرهم بتجهز رسول الله - ﷺ - لغزوهم، مُريدًا بذلك أن يتخذ عند الكفار يدا يحمي بها أهله الذين في مكة، حيث لا عشيرة له بها تحميهم، وقد قبل النبي - ﷺ - عذره. وقد أنزل الله فيه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة: ١]، توفي سنة (٣٠هـ). انظر: "صحيح البخاري" ٨/ ٦٣٣. كتاب التفسير. سورة الممتحنة، "الاستيعاب" ١/ ٣٧٤، "الإصابة" ١/ ٣٠٠.
166
قال الفرَّاء (١): ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ﴾: نهيٌ؛ فجُزم على ذلك. ولو رُفِع على الخبر كقراءة من قرأ: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ (٢) [البقرة: ٢٣٣] جازَ.
قال الزجَّاج (٣): ويكون المعنى على الرفع: أنه من كان مؤمنًا، فلا بنبغي أنْ يتَّخذَ الكافرَ وَلِيًّا؛ لأن وَلِيَّ الكافرِ راضٍ بِكُفْرِهِ، فهو كافر، وقد ذكرنا معنى (الوليَّ) و (المولى) فيما تقدم.
ومعنى (الأولياء) ههنا: الأنصار، والأعوان، أو (٤) الذين يوالونهم ويلاطفونهم بالمحبَّةِ والقُرْبَةِ.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾. (مِنْ) ههنا معناه: ابتداء الغاية،
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٠٥ نقله عنه بالمعنى.
(٢) وهي قراءة: ابن كثير، وأبي عمرو، وقرأ الباقون: ﴿تُضَارَّ﴾، بفتح الرَّاء المشددة. انظر: "الحجة" لابن زنجلة: ١٣٦، "اتحاف فضلاء البشر" ١/ ٤٤٠. والقراءة بجزم ﴿لاَ يَتَّخِذِ﴾، قراءة الجمهور، وقرأ المفضل الضبِّي برفع الذال، وأجاز الكسائي الرفعَ على الخبر، والمراد به النهي. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس: ١/ ٣٢٠، "التبيان" للعكبري: ١/ ١٨٣، "البحر المحيط" ١/ ٤٢٢.
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٣٩٥، نقله عنه نصًّا.
(٤) (أو): ساقطة من (ج). وفي (د)، (و).
167
على تقدير (١): لا تجعلوا ابتداء الولاية مكاناً دون المؤمنين (٢). وهذا (٣) كلام جرى على المثل في المكان، وهو كما تقول: (زيدٌ دونك)؛ لست تريد: أنَّه في موضعٍ مُسْتَفِلٍ (٤)، وأنك في موضع مرتفع، ولكن جعلت الشَّرف بمنزلة الارتفاع في المكان، وجعلت الخِسَّةَ كالاستفال (٥) في المكان.
والمعنى (٦): أنَّ المكان المرتفع في باب الولاية: مكانُ المؤمنين، ومكان الكافرين الأدنى. فهذا معنى ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وتحقيق له.
والتأويل: أولياء من غير المؤمنين وسواهم؛ كقوله تعالى ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣] أي: غير الله. وقد مرَّ.
وقد ثبت بهذه الآية تحريمُ موالاة الكافرين: والله تعالى قد قطع بيننا وبينهم أصلَ الموالاة.
قال ابن عباس في هذه الآية (٧): نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا
(١) (تقدير): ساقطة من (ب).
(٢) والتقدير بعبارة أوضح: لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين. وكون (مِن) لابتداء الغاية، هو الوجه الأظهر، والوجه الآخر: أن (مِن) في موضع نصب، صفة للأولياء. وقال سليمان الجمل: (إنها في محل الحال من الفاعل). انظر: "التبيان" للعكبري ١/ ١٨٣، "البحر المحيط" ٢/ ٤٢٣، "الدر المصون" ٣/ ١٠٧، "الفتوحات الإلهية" للجمل ١/ ٢٥٨.
(٣) من قوله: (وهذا..) إلى (.. مكان المؤمنين): نقله عن "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٣٩٦ مع اختلافٍ يسير جدًّا بين النصين.
(٤) (مستفل): وردت في "معاني القرآن" مستقل، وما أورده المؤلف هنا هو الصواب؛ لمناسبتها لسياق الكلام. و (التَّسفُّلُ)، نقيض التَّعلِّي، انظر: "التاج" ١٤/ ٣٤٧ (سفل).
(٥) كالاستفال: وردت في "معاني القرآن" (كالاستقبال)؛ ولا وجه لها، والصواب ما أثبته المؤلفُ.
(٦) في (ج): (فالمعنى)، وفي (د): (والمكانى).
(٧) قوله، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢٧، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٢٨، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٢٨ونسب إخراجه كذلك لابن المنذر. ونهاية قول ابن عباس إلى (.. الكفار)، أما الآيات القرآنية، فهي من إلحاق المؤلف الواحدي تفسيرًا لقول ابن عباس.
168
الكفارَ في آيات كثيرة، منها قوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ [آل عمران: ١١٨] وقوله: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة: ٢٢]، وقوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ (١) [المائدة: ٥١].
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أي: اتِّخاذ الأولياء منهم (٢).
﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾. أي: من دين الله، فحذف الدينَ اكتفاءً بالمضاف إليه، والمعنى: أنه قد برئ من الله، وفارق دينه، ثمَّ استثنى، فقال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾. ذكرنا معنى الاتقاء وحقيقته في قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]. و (التُّقاة) ههنا مصدر، ووزنها: فُعَلَة، مثل:
(١) وقال ابن عطية: (ولفظ الآية عام في جميع الأعصار)، وقال أبو حيان: (وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلا ما فُسح لنا فيه من اتِّخاذهم عبيدًا، والاستعانة بهم استعانة العزيز بالذليل، والأرفع بالأوضع، والنكاح فيهم). "المحرر الوجيز" ٣/ ٧١. وذكر سلميان الجمل أن ترك موالاة المؤمنين يصدق بصورتين: إما أن تقصر الموالاة على الكافرين، أو أن يُشرك بينهم وبين المؤمنين في الموالة، وكلا الصورتين داخلتان في منطوق النهي، فموالاة الكافرين ممنوعة، استقلالًا أو اشتراكًا مع المؤمنين. انظر: "الفتوحات الإلهية" ١/ ٢٥٨. وانظر: "البحر المحيط" ٢/ ٤٢٢.
(٢) (اتخاذ الأولياء منهم): ساقط من (د).
169
(تُخَمَة)، و (تُؤَدَة)، و (تُكَأَة)، و (تُهمَة). والتَّاء في كل هذا مبدلة من الواو (١)، ويقال (٢): (تَقَيْتُهُ تُقاةً، وتُقىً، وتَقِيَّةً، وتَقْوى). وإذا قلت (٣): (اتَّقَيت)، كان مصدره (الإتقاء) (٤).
وإنما قال: (تتَّقوا)؛ من: الاتِّقاء، ثم قال: (تُقاةً)، ولم يقل: اتِّقاءً: لأن العرب قد تَذْكُر المصدرَ من غير لفظ الفعل، إذا كان ما ذُكِر من المصدر يوافق (٥) مصدر الفعل المذكور، فيقول: (التقيت فلاناً لقاءً حسناً)، قال القُطامي (٦):
(١) انظر: "تفسير البسيط" (تح: د. الفوزان): ٢/ ٤٨، "كتاب سيبويه" ٤/ ٣٣٣، "سر صناعة الإعراب" ١/ ١٤٥ - ١٤٨، "شرح الشافية" ٣/ ٨٠ - ٨٣، "الممتع في التصريف" ١/ ٣٨٣. ومعنى (تُخمَة): ما يصيب الإنسان من الطعام، إذا استثقله ولم يستمرئه. وهي مأخوذة من: (الوَخامة). و (تُؤَدَة) بالتسكين والفتح: التأني والتمهل، واصلها: (وُأدَةٌ). و (تُكَأة): ما يُتَّكأ عليه، و (رجل تُكَأة): كثير الإتِّكاء، وأصلها: (وُكَأة). و (تُهَمَة): الظنُّ، أصلها: (الوُهَمَة)، من: الوهم، وهو: الظَّن. "اللسان" ٨/ ٤٧٩١ (وخم)، ٨/ ٤٧٤٥ (وأد)، ٨/ ٤٩٠٤ (وكأ)، ٨/ ٤٩٣٣ (وهم).
(٢) من قوله: (ويقال..) إلى نهاية بيت الشعر (.. احتقارًا): نقله بتصرف عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٤ ب.
(٣) في (ج): (قلبت).
(٤) انظر: "إصلاح المنطق" ٢٤، ومادة (وقى)، في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٤١، "الصحاح" ٦/ ٢٥٢٧، "اللسان" ٨/ ٤٩٠١.
(٥) في (ج): (موافق).
(٦) هو: عمير بن شُيَيْم التَّغْلبي، تقدمت ترجمته.
170
وليس بأنْ تتَّبعه اتِّباعا (١)
وقال أيضًا:
ولاح بجانب (٢) الجبلين منه ركامٌ يَحْفِر التُّربَ (٣) احتفارا (٤)
وقال بعض النحويين (٥): (تقاة) اسم وضع موضع المصدر (٦) كما يقال: (جَلَسَ جَلْسَةً)، و (رَكِبَ رِكْبَةً) (٧)، وكما قال:
(١) عجز بيت، وصدره:
وخير الأمر ما استقبلت منه
وهو في: "ديوانه" ٣٥، "كتاب سيبويه" ٤/ ٨٢، "أدب الكاتب" ٦٣٠، "الشعر والشعراء" ٢/ ٧٢٨، "المقتضب" ٣/ ٢٠٥، "الأصول في النحو" ٣/ ١٣٤، "شرح المفضليات" لابن الأنباري ٣٥٢، "الخصائص" ٢/ ٣٠٩، "الاقتضاب" ٤٧٧، "شرح أدب الكاتب" ٣٠٥، "أمالي ابن الشجري" ٢/ ١٤١، "وضح البرهان" ١/ ٢٣٩، "شرح المفصل" ١/ ١١١، "خزانة الأدب" ٢/ ٣٦٩.
ومعنى البيت: أن خير الأمور ما تدبرته في أوله فعرفت إلام تنتهي عاقبته، وشر الأمور ما تُرك النظرُ في أوله، وتُتُبِّعت أواخرُه بالنظر. والشاهد فيه: أنه أتى بـ"اتِّباعًا" مصدرًا لـ"تتبع"، لأن معناهما واحد.
(٢) (د): (من جانب).
(٣) (د): (الثوب).
(٤) لم أقف عليه في ديوان القطامي، وأورده الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٣٤ ب، ونسبه للقطامي، وبين أنه يصف غَيْثًا، وأورده أبو حيان في "البحر المحيط" ٢/ ٤٢٤.
(٥) لم أهتد إلى القائل، وقد ذكره أبو حيان في "البحر" ٢/ ٤٢٤، والحلبي في "الدر" ٣/ ١١١ عند بيان نصب ﴿تقاه﴾ على الحال كما سيأتي.
(٦) أي على تقدير: إلا أن تتقوا منهم اتقاءً، فيكون مفعولًا مطلقًا.
(٧) "جَلْسَة": اسم للمرَّة، و"جِلْسَة": اسم للهيئة، وهكذا "رِكْبة" و"رَكْبَة". يقول ابن مالك - في صياغة اسم المرَّة والهيئة من الثلاثي:
171
وبَعْدَ عطائِكَ المائةَ الرِّتاعا (١)
فأجراه مجْرَى الإعطاء (٢).
قال: ويجوز أن تجعل (تُقاة) ههنا مثل: (رُماة)، فتكون حالاً مؤكدة (٣).
قال المفسرون (٤): هذا في المؤمن، إذا كان في قوم كفَّار، ليس فيهم
(١) عجز بيت، وصدره:
أكُفْرًا بعد ردِّ الموتِ عني
وهو للقطامي، في "ديوانه" ٣٧، كما ورد في "الشعر والشعراء" ٢/ ٧٢٧، و"الخصائص" ٢/ ٢٢١، و"الأصول في النحو" ١/ ١٤٩، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٣٩٦، و"اللسان" ٨/ ١٦٣ (سمع)، ٩/ ١٤١ (زهف)، ١٥/ ٦٩ (عطا)، ١٣٨ (غنا)، و"شرح شذور الذهب" ٤١٢، و"المقاصد النحوية" ٣/ ٥٠٥، ٤/ ٢٩٥، "منهج السالك" ٢/ ٢٨٨، و"شرح شواهد المغني" ٢/ ٨٤٩، و"الهمع" ٣/ ١٠٣، "معاهد التنصيص" ١/ ١٧٩، و"التصريح" ٢/ ٦٤، "الخزانة" ٨/ ١٣٦، ١٣٧، "الدرر" ١/ ١٦١. والشاعر يمدح في البيت زُفَر بن الحارث الكِلاَبي، بعد أن مَنَّ عليه بإطلاق أساره من قبيلة قيس، التي كانت تنوي قتله، وأعطاه مائة من الإبل. وقوله: (أكفرًا) استفهام إنكاري؛ أي: لا أخونك بعد أن أنقذتني من الموت، وأعطيتني مائة من الإبل (الرِّتاع)؛ أي: الراعية. والشاهد فيه: إعمال اسم المصدر: وهو (عطاء) عملَ المصدر، وهو (إعطاء)، ولذا نصب به المفعول، وهو (المائة).
(٢) اسم المصدر المأخوذ من حدث لغيره، كـ (الثواب، والكلام، والعطاء)، منع البصريون إعمالَه، إلَّا في الضرورة، وأجاز إعمالَه الكوفيُّون والبغداديُّون قياسًا؛ إلحاقًا له بالمصدر. واستثنى الكسائي إمام الكوفيين ثلاثةَ ألفاظ، هي: (الخبز) و (الدهن) و (القوت)، فإنها لا تعمل، فلا يقال: (عجبت من خبزكَ الخبزَ)، ولا (من دهنكَ رأسكَ)، ولا (من قوتِكَ عيالَكَ)، وأجاز ذلك الفرَّاءُ، لما حكاه عن العرب مثل: (أعجبني دهنَ زيدٍ لحيَتَه). انظر: "همع الهوامع" ٢/ ٩٤ - ٩٥.
(٣) أي: إنَّ (تقاة) هنا جمعٌ، حالها حال (رُماة) التي مفردها: (رامٍ)، وإن لم يأت من (تقاة) لفظ (فاعل)؛ لأن (فُعَلَة) تأتي جمعًا لفاعل الوصف المعتل اللَّام. انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٤٠ (وقى)، "البحر المحيط" ٢/ ٤٢٤، "الدر المصون" ٣/ ١١١، "التبيان" للعكبري: (١٨٤).
(٤) من قوله: (قال المفسرون..) إلى (.. عورة المسلمين): نقله بتصرف عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٥ أ.
172
غيره، وخافهم على نفسه وماله، فله أن يخالفهم (١)، ويُداريهم باللسان، وقلبه مطمئنٌ بالإيمان دفعا عن نفسه (٢)، من غير أن يَستحِلَّ مُحرَّماً؛ من: دمٍ، أو مالٍ، أو إطْلاع للكافرين على عَوْرة (٣) المسلمين.
قال ابن عباس في هذه الآية (٤): يريد: مُدَاراةً ظاهرةً. والتقيَّة لا تحل إلاَّ مع خوف القتل. وهي رخصة من الله تعالى. ولو أفصح بالإيمان؛ حيث يجوز له التَقِيَّة، [فيُقْتَل لأجلِ إيمانِهِ] (٥)، كان ذلك فضيلةً له (٦).
وظاهر الآية يدل على أن التقيَّة إنما تَحلُّ مع الكفار الغالبين، غير أن مذهب الشافعي رحمه الله: [أنَّ الحالةَ بين] (٧) المسلمين (٨)، إذا شاكلت (٩) الحالةَ بين المسلمين والمشركين، حَلَّت التقِيَّةُ، محاماةً عن
(١) في (د): (يحالفهم)، وفي "تفسير الثعلبي" (يتحالفهم)، وقد أثبَتُّ (يخالفهم)؛ لورودها في النسخ الثلاث، ولأنها تحتمل المخالفة القلبية، وإلا فإني أرجِّح أن تكون (يخالقهم)، بمعنى: يصانعهم، ويعاشرهم على أخلاقهم، وهكذا وردت عن مجاهد في تفسير الآية، حيث قال: (إلَّا مصانعة في الدنيا، ومُخالقة). انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٢٩.
(٢) (دفعا عن نفسه): ساقط من: (ب).
(٣) في (د): (عورات).
(٤) الوارد عن ابن عباس في المصادر التي بين يدي ما يفيد هذا المعنى، وليس بهذا اللفظ. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٢٨، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٢٢٩، "المستدرك" للحاكم ٢/ ٢٩١، "الدر المنثور" ٢/ ٢٩.
(٥) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، وهو مثبت من: (ب)، (ج)، (د).
(٦) قال ابن العربي: (لا خلاف في ذلك) "أحكام القرآن" ٣/ ١١٧٩، وانظر: "أحكام القرآن" للجصاص: ١/ ٩، ٣/ ١٩٢، "تفسير القرطبي" ١٠/ ١٨٨.
(٧) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ)، وهو بياض في (ب)، والمثبت من (ج)، (د).
(٨) (المسلمين): مكانها بياض في: (ب).
(٩) (شاكلت): أي: شابهت، ووافقت. انظر: "القاموس" (١٠١٩) (شكل).
173
المُهْجَةِ (١).
[وأمال] (٢) الكسائي، وحمزة ﴿تُقَاةً﴾ ههنا (٣). والقافُ حرفٌ مُسْتَعْلٍ (٤)، فالأحسن ترْكُ الإمالة مع القاف، كما لم يُميلوا (قادم). و (قاة) من (تقاة)، بمنزلة: (قادم).
وحُجَّة (٥) من أمالَ: أنَّ سيبويه ذكر (٦): أنَّ قوماً قد أمالوا مع المستعلي، ما لا ينبغي أن يُمال في القياس؛ وذلك قولهم: (رأيت غَرْقى) (٧). قال: وهو قليل. وأيضاً فإنهم قد أمالوا: (سَقى)، (وصَغى) (٨)؛ طلباً للياء التي الألِفُ في موضعها، فلمَّا أُميلت هذه الألِفُ مع المستعلي،
(١) انظر: "أحكام القرآن" للكيا الهراسي: ٢/ ٢٨٥، ٤/ ٢٤٦، "الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية" للسيوطي: ٢٠٦، "حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب" ٢/ ٣٩٠.
(٢) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ). وفي (ب)، (ج)، وأما المثبت من (د).
(٣) انظر: "الحجة" للفارسي: ٣/ ٢٧، وقال: (وأمال حمزة منهم (تقاة) إشمامًا من غير مبالغة)، "حجة القراءات" لابن زنجلة: ١٥٩.
(٤) الحروف المستعلية، هي: الخاء، والطاء، والظاء، والصاد، والضاد، والغين، والقاف. انظر: "الرعاية" لمكي ١٢٣، "التمهيد" لابن الجزري ٩٠.
(٥) من قوله: (وحجة..) إلى (.. أميلت التي في تقاة): نقله عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ٣٠ - ٣١ بتصرف واختصار.
(٦) انظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ١٣٢، و ٤/ ١٣٤.
(٧) هكذا جاءت في جميع النسخ. والذي في "الحجة" للفارسي، "كتاب سيبويه" (عِرْقا) بالعين المكسورة، من: العِرقاة، وهي: أصل الشيء، وما يقوم عليه. وهي في الشَّجَر: أرُومُه الأوسط الذي تتشعب منه العروق. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٩٠٣ (عرق). أما (غَرقى)، فهي جمع: غريق. ويلاحظ أن سيبويه قد ذكر أن العلة في إمالة (عِرقا) هي وجود الكسرة في أولها، وليس ذاك في (غرقى). انظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ١٣٤، "الدر المصون" ٣/ ١١٢ - ١١٣.
(٨) (سقى)، (وصغى): ساقطتان من (د).
174
كذلك أميلت (١) التي في (تقاة).
وقوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾. أي: يخوفكم الله على موالاة الكفار عذابَ نَفْسِهِ، وعقوبَتَه، فحذف المضاف، وهو قول ابن عباس (٢) و (النفس) عند العرب، عبارة عن: ذات الشيء ووجوده. يقولون: هذا نفس كلامك (٣). وإلى هذا ذهب أهل المعاني.
قال الزجَّاج (٤): معنى ﴿نَفْسَهُ﴾: إيَّاه، كأنه قال: ويحذركم الله إيَّاه. وقال بعضهم (٥): النفس ههنا: تعود إلى اتِّخاذ الأولياء من الكفار؛ [أي] (٦): ينهاكم الله عن نفس هذا الفعل (٧).
٢٩ - قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾. أي: مِن مودة الكفار، وموالاتهم. هذا قول أكثر المفسرين (٨).
وقال الكلبي (٩): يعني: تكذيب محمد - ﷺ -، يقول: إن أخفيتموه أو
(١) (أميلت): ساقطة من (ج).
(٢) لم أهتد إلى مصدر قوله، اللهم إلا ما ورد في "المحرر الوجيز" ٣/ ٧٧ من قوله هو والحسَنَ: (ويحذركم الله عقابه)، وانظر: "البحر المحيط" ٢/ ٤٢٥.
(٣) انظر (نفس) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٢٩.
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٣٩٧، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٣٨٤، "المحرر الوجيز" ٣/ ٧٦، "القاموس المحيط" (٥٧٧).
(٥) لم أهتد إلى هذا القائل.
(٦) ما بين المعقوفين في (أ): غير واضح، وفي (ب): (أن)، والمثبت من (ج)، (د).
(٧) والآية من الأدلة على أن لله تعالى نفسًا، وهي صفة من صفاته العلية، تليق بكماله وجلاله سبحانه. انظر: "قطف الثمر في عقيدة أهل الأثر" لصديق خان: ٦٥.
(٨) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٣٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٦ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٢٦، "زاد المسير" ١/ ٣٧٢.
(٩) قوله، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٦ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٢٦.
175
أظهرتم تكذيبه، بحربه وقتاله، يعلمه الله.
وقال عطاء (١): يريد: الضمير، وهذا يعم كل ما في قلب الإنسان.
قال أهل المعاني: لَمّا نَهَى اللهُ في الآية الأولى عن موالاة الكفار، خوَّفَ وحذَّر في هذه الآية (٢) عن إبطان (٣) موالاتهم؛ بأنه يعلم الإسرار، كما يعلم الإعلان.
[فإن قيل: لِمَ جاء] (٤) ﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ بالجَزْم؛ على جواب (٥) الشرط، ولا يَفْتَقِرُ في علمه إلى وجود (٦) شرطٍ متقدمٍ؛ كقول القائل: (إنْ تأتِني؛ أُكْرِمْكَ!)، فالإتيان سببٌ للإكرام، ولا يجوز أنْ يكون الإخفاء ولا الإبداء سبباً لعلمه. فالقول في ذلك إنَّ المعنى: يعلمه كائنًا، [ولا يعلمُهُ اللهُ تعالى (٧) كائناً، إلا بعد كَوْنِهِ، وقبل (٨) الكَوْنِ لا يُوصَفُ بأنه (٩): يعلَمُه كائنا] (١٠)، والتأويل: إنْ تبدوا ما في صدوركم، يعْلَمْهُ مبدىً، أو تُخْفوه يَعْلَمْهُ مُخْفىً.
(١) لم اهتد إلى مصدر قوله.
(٢) (في هذه الآية): ساقطة من (ج).
(٣) في (ج): (انظار).
(٤) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ). والمثبت من: (ب)، (ج)، (د).
(٥) في (ج): (جواز).
(٦) في (ج): (وجوب).
(٧) (الله تعالى): ليس في (أ)، (ب)، (د). والمثبت من (ج).
(٨) في (د): (وقيل)، والمثبت من (ج).
(٩) في (ج): (لأنه)، والمثبت من (د).
(١٠) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
176
وقوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾. رفع (١)؛ على الاستئناف؛ كقوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ﴾ [التوبة: ١٤]، جزم الأفاعيل (٢)، ثم قال: ﴿وَيَتُوُبُ اَللَّهُ﴾ [التوبة: ١٥]، فرفع. ومثله، قوله: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ [الشورى: ٢٤]، ورفعاً (٣).
وفي قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، إتمامٌ؛ للتحذير؛ لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيءٌ منهما، فكيف يخفى عليه الضميرُ؟.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. تحذيرٌ مِنْ عِقَابِ مَن لا يعْجِزَهُ شىءٌ.
٣٠ - قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ اختلفوا في العامل في ﴿يَوْمَ﴾، فقال ابن الأنباري (٤): اليوم معلق بـ ﴿الْمَصِيرُ﴾ (٥)، والتقدير: (وإلى اللهِ المصير، يومَ تَجِدُ).
وقال الزجَّاج (٦): العامل: قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾، في الآية (٧)
(١) من قوله: (رفع..) إلى (.. رفعا): نقله بتصرف عن "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢٠٦.
(٢) (الأفاعيل): ساقطة من (د). ومعناه: جُزِمت الأفعال التالية في الآية: (يُعذِّبْهمْ)، (يُخزِهِمْ)، (يَشْفِ)، (يُذْهِبْ).
(٣) أي: هي في نيَّةِ رفع، مستأنفةٌ، غير داخلة في جزاء الشرط؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقًا. وسقوط الواو لفظًا، لالتقاء الساكنين في الدرج، وسقوطها خطًّا، حملًا للخطِّ على اللفظ. انظر: "منار الهدى في بيان الوقف والابتداء" للأشموني: ٢٤٩.
(٤) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٥) في (د): (متعلق بالضمير). يعني بـ ﴿الْمَصِيرُ﴾: ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ آية: ٢٨ من نفس السورة.
(٦) في "معاني القرآن" له: ١/ ٣٩٧.
(٧) من قوله: (في الآية..) إلى (.. نفسه): ساقط من (ج).
177
السابقة؛ كأنه قال: ويحذِّرُكُم اللهُ نفسَهُ في ذلك اليوم (١).
قال أبو بكر: ولا يجوز أن يكون (اليوم) منصوباً بـ ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ﴾، المذكور في هذه الآية، لأن واو النَّسَقِ (٢) لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
قال: ويجوز أن يكون (اليوم) متَصلًا بـ ﴿قَدِيرٌ﴾ (٣) منصوباً به، والتأويل: (والله على كلِّ شيءٍ قديرٌ في هذا اليوم).
وخصَّ هذا [اليوم] (٤)، وإنْ كان غيرُه من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى؛ تفضيلاً له؛ لِعِظَمِ شأنِه؛ كقوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ (٥).
وقوله تعالى: ﴿مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾. يريد: بيان ما عملت؛ بما يرى من صحائف الحسنات. ويجوز أن يكون المعنى: جزاء ما عملت؛ بما يرى من الثواب.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾. الأظهر: أن تجعل ﴿مَا﴾ ههنا بمنزلة (الذي)، فيكون معطوفاً على ﴿مَا﴾ الأولى، ويكون ﴿عَمِلَتْ﴾ صلةً لها. ويصلح أن تكون بمعنى: الجزاء فتكون مُسْتَأنَفَةً. وكان الأجود؛ إذا
(١) ضعَّف أبو حيان نصب ﴿يَوْمَ﴾ بـ ﴿الْمَصِيرُ﴾، وبـ ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ﴾ في الآية التي قبلها؛ وذلك لأن الفاصل قد طال بين العامل والمعمول، ويضاف إليه في النصب بـ ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ﴾، أن التحذير موجود، واليوم موعود، فلا يلتقيان، فلا يصح عمل الفعل هنا. انظر: "البحر المحيط" ٢/ ٤٢٦، "التبيان" للعكبري: ١/ ٢٥٢.
(٢) أي: واو العطف.
(٣) في (ج): (تقديره). ويعني بـ ﴿قَدِيرٌ﴾ الواردة في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ آية: ٢٩.
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، (د).
(٥) وقيل إنَّ ﴿يَوْمَ﴾ في آية سورة آل عمران، منصوب بفعل مضمرٍ، هو (اذكر) أو (اتَّقوا)، وقال الزمخشري: إنَّ ناصبه هو فعل ﴿تَوَدُّ﴾ الآتي بعده. وحول هذه الوجوه نقاش، انظره في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٣١، "الكشاف" ١/ ٤٢٣، "الفريد في إعراب القرآن المجيد" ١/ ٥٦٠، "البحر المحيط" ٢/ ٤٢٦، "الدر المصون" ١/ ١١٤.
178
جعلت ﴿مَا﴾ بمعنى الجزاء، أن تنصب ﴿تَوَدُّ﴾، أو تخفضه، ولَمْ يقرأ أحدٌ إلا رفعاً، فكان هذا دليلاً [على] (١) أنَّ ﴿مَا﴾ بمعنى (الذي) (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَمَدًا بَعِيدًا﴾. معنى (الأمد): الغاية التي يُنتَهى إليها (٣).
قال مقاتل (٤): أي: كما بين المشرق والمغرب.
وقال الحسن (٥): يَسُر أحدَهم أن لا يلقى عملَهُ أبدا.
وقوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾. قد ذكرنا ما فيه (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾. قال الحسن (٧): مِن رأفته بهم أن حذَّرهم نفسه.
٣١ - قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ قال ابن عباس في رواية الضحاك (٨): وقف النبي - ﷺ - على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون
(١) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب)، (ج).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢٠٦،"إعراب القرآن" للنحاس: ١/ ٣٢١، "مشكل إعراب القرآن" ١/ ١٥٥، "الفريد في إعراب القرآن المجيد" ١/ ٥٦١.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٣١، "القاموس المحيط" ٣٣٩ (أمد).
(٤) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٧٠. ونصه عنده: (يعني: أجلًا بعيدًا بين المشرق والمغرب).
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٣١، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٣١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٦ ب، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٢٩، ونسب إخراجه لابن المنذر كذلك.
(٦) ذكر ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ من آية: ٢٨.
(٧) قوله في "تفسير عبد الرزاق": ١/ ١١٨، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٣١، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٣١، وأورده ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٣٨٤.
(٨) قول ابن عباس، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٦ أ، "أسباب النزول" للواحدي: ١٠٥، "تفسير البغوي" ٢/ ٢٧، "زاد المسير" ١/ ٣٧٣.
179
للأصنام، فقال: "يا معشرَ قريش: والله لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم! ". فقالت قريش: إنما نعبد هَّذه حبًا لله؛ ليقربونا إلى الله. فقال الله: قل يا محمد: إن كنتم تُحبُّون الله وتعبدون الأصنامَ لِتُقَرِّبكم إلى الله فاتَّبعوني، يُحْبِبْكم اللهُ، فأنا رسوله إليكم، وحجَّتُه عليكم، وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم (١).
وقال في رواية أبي صالح (٢): إنَّ اليهود لمَّا قالت: نحن أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤه، أنزل الله تعالى هذه الآية، فعرضها عليهم رسول الله - ﷺ - فأَبَوا أن
(١) هذه الرواية عن ابن عباس، من طريق جُويبر عن الضحاك عنه، كما في "تفسير الثعلبي" "أسباب النزول" للواحدي وجُويبر، هو: ابن سعيد، أبو القاسم البلخي: ضعيف جدًّا. انظر: "المجروحين" لابن حبان: ١/ ٢١٧، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم ٢/ ٥٤٠، "تقريب التهذيب" (٩٨٧).
(٢) هذه الرواية في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٧ أ "أسباب النزول" للواحدي ١٠٥.
180
يقبلوها (١).
قال أهل العلم: معنى (مَحبَّة العبدِ لله): إرادته طاعته، وإيثاره أمره، ورضاه بشرائعه. ومعنى (مَحبَّة الله للعبد): إرادته لِثَوَابِهِ، وعفوه عنه،
(١) هذه الرواية من طريق الكلبي عن أبي صالح. والكلبي -كما سبق- متَّهم بالكذب، وقد رُمي بالرفض، وقد قال لسفيان الثوري (كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب). انظر: "ميزان الاعتدال" ٥/ ٢ (٧٥٧٤)، "تقريب التهذيب" (٥٩٠١)، وقد ورد في سبب نزول الآية سببان آخران:
الأول: ادِّعاء أقوام في عهد النبي - ﷺ - أنهم يحبون الله تعالى، فأنزل الله هذه الآية؛ ليبين لهم أن علامة حُبِّه هي: اتباع النبي - ﷺ -. وهو قول الحسن، وابن جريج.
الثاني: أنها نزلت رَدًّا على مزاعم النصارى في ادِّعائهم: أنَّ ما يقولونه عن عيسى عليه السلام إنما هو محبة لله وتعظيم له. فأخبرهم أن محبة الله تكون باتباع النبي - ﷺ - وهو قول محمد بن جعفر بن الزبير.
ورجَّح الطبري هذا القول، قائلًا: (لأنه لم يجر لغير وفد نجران في هذه السورة، ولا قبل هذه الآية ذكْرُ قوم ادَّعوا أنهم يحبُّون الله، ولا أنهم يُعَظِّمُونه)، ولم يجزم الطبري بصحة قول الحسن السابق، وبيَّن أنه ليس في السورة ما يدل عليه، إلا أن يراد بالقوم الذين ادَّعوا ذلك هم وفد نصارى نجران، فيكون القولان متَّفقين. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٣٢.
وقال ابن عطية: (وُيحتمل أن تكون الآية عامة لأهل الكتاب: اليهود والنصارى؛ لأنهم كانو يدَّعون أنهم يحبون الله، ويُحبهم، ألا ترى أنهم جميعًا قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، ولفظ ﴿وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ إنما يعطي أن الله يحبهم، لكن يعلم أن مراده "ويحبوه"). انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٨٠.
181
وانعامه عليه (١).
٣٢ - قوله تعالى ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ قيل: لمّا نزل (٢) قوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾، الآية، قال عبد الله بن أُبَي (٣): إنَّ محمداً يجعل طاعتَه كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبَّت النصارى عيسى، فنزلت هذه الآية (٤) وبين فيها أنَّ طاعة الله معلقةٌ بطاعة الرسول، ولا يتمُّ لأحد طاعةُ الله، مع عصيان الرسول؛ ولهذا قال الشافعي - رضي الله عنه -: كل أمرٍ أو نهيِ، ثبت عن رسول الله - ﷺ -، جرى ذلك في الفريضة واللزوم، مجرى ما أمر الله به
(١) نقل القرطبي في تفسيره قريبًا من هذا القول عن الأزهري. انظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ٦٠، "فتح القدير" ١/ ٥٠١، "فتح البيان" ٢/ ٤٢.
وما ذكره المؤلف هنا في محبة الله تعالى هو ما عليه مذهب الأشاعرة؛ حيث ينفون هذه الصفة، وغيرها من الصفات، عن الله تعالى ويعطلونها، ويفسِّرونها إذا وردت في القرآن والسنَّة بلوازمها ومقتضياتها، من إرادة الثواب للعبد والعفو عنه والإنعام عليه كما فعل المؤلف، فينفون حقيقة صفة الله، ويحرفونها ويؤوِّلونها، بدعوى أنها توهم النقص في الذات العلية؛ لأن المحبة عندهم، هي: ميل القلب إلى ما يلائم الطبع، وهذا من صفات المخلوق، والله منزَّه عن ذلك الأمر الذي دعاهم إلى تأويل صفة المحبة، وحملها على الإرادة كما فعل المؤلف.
والذي أوقع الأشاعرة في هذا الخطأ العقدي، هو قياسهم صفات الخالق على صفات المخلوق. ومن قواعد منهج السلف الصالح: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن ذات الحق لا تشبه ذوات الخلق، فكذلك صفاته. ومن قواعدهم: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر، فيثبت السلف جميع صفات الله، ويمرُّونها كما جاءت بما يليق بذاته العلِيَّة، ولا يُؤوِّلونها، ومنها: صفة المحبة. ويثبتون كذلك لوازمها من إرادة الله إكرام من يحبه وإثابته، فالله تعالى يُحِبُّ، ويُحَبُّ لذاته، وليس فقط لثوابه، كما قال: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤].
وتأويل الأشاعرة ومنهم المؤلف لصفة المحبة بالإرادة، إنما هو حرْفٌ لحقيقة الصفة، وصرف لها عن وجهها الصحيح، ويقال لهم: إنَّ المعنى الذي صرفتم اللفظ إليه، هو نفس المعنى الذي صرفتموه عنه، فالإرادة، هي: ميل الإنسان إلى ما يلائمه، أو إلى ما ينفعه، ودفع ما يضره، وهي من صفات المخلوقين، والله منزَّه عن ذلك، فإن قال الأشاعرة: إرادة تليق به، قيل لهم: وكذلك له محبة، وصفات تليق به، فالسلامة والحكمة في منهج السلف.
انظر: "لوامع الأنوار البهية" للسفاريني ١/ ٢٢١ وما بعدها، "شرح العقيدة الواسطية" محمد هراس ٤٥، "التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية" لفالح آل مهدي: ١/ ٤٧، "الكواشف الجلية عن معاني الواسطية" للسلمان ١٨٣.
(٢) في (ب): (نزلت).
(٣) هو: عبد الله بن أبَيِّ بن سَلُول، العَوْفي الخزرجي. رأس المنافقين بالمدينة، وكان سَيِّد أهل المدينة قبل هجرة النبي - ﷺ - إليها، وقد اجتمعت الأوس والخزرج على أن يُتَوِّجوه عليهم مَلِكًا، فجاء الإسلامُ وهدى الله الحَيِّيْن له، ففَرَطَ منه هذا الشرفُ، فدخل في الإسلام مُكرَها، وأبطن النفاق والضَّغينة. انظر أخباره في "سيرة ابن هشام" ٢/ ١٧٣، ٢٣٤، ٢٣٦ - ٢٣٨، ٣/ ٥١ - ٥٣، ٦٨، ٢٠٠، ٣٠٣.
(٤) ورد هذا الأثر في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٧ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٢٧، "زاد المسير" ١/ ٣٧٣ - ٣٧٤، وقال: (هذا قول ابن عباس)، كما ذكره الرازي ٨/ ٢٠.
في كتابه، ونهى عنه (١).
قال عطاء، عن ابن عباس، في قوله: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾، يريد: محمداً - ﷺ - فإن طاعتكم [لمحمدٍ طاعةٌ (٢)] (٣) لي، فأما أن تطيعوني وتعصوا محمداً، فلن أقبل طاعتكم (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾. قال الزجَّاج (٥): أي (٦): فإنَّ الله لا يحبهم (٧)؛ لأن من تَوَلَّى عن النبي - ﷺ -، فقد تَوَلَّى عن الله عز وجل. ومعنى ﴿لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾: لا يغفر لهم، ولا يُثْنِي عليهم خيراً (٨).
٣٣ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾ معنى (اصطفى) في اللغة: اختار. وتأويله: جعلهم صفوة خَلْقِه (٩).
(١) لم أجد نصَّ قول الشافعي، فيما اطلعت عليه من مصادر، ولكن وردت أقوال كثيرة له تدل على هذا المعنى. انظر: "الرسالة" للشافعي ٧٣، ٧٦، ٧٨، ٨٤، ٨٥، ٨٨، "أحكام القرآن" للشافعي، (جامع البيهقي): ١/ ٢٨.
(٢) في (ج): (طاعتكم).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(٤) لم أهتد إلى مصدر هذه الرواية
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٣٩٨.
(٦) (أي): ساقطة من (د).
(٧) في (ج): (لا يحبكم).
(٨) هذا من تمام قول الزجاج، وقد سبق أن بيَّنت أن عدم المغفرة، وعدم الثناء بالخير عليهم، إنَّما هو من لوازم، ومُقتضيات عدم المحبة، وليس هو حقيقة عدم المحبة، وحقيقة ذلك وكنهه وكيفيَّته، لا تحيط بها عقولنا، ونكلها إلى الحق عز وجل.
(٩) نقله عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٣٩٩، وأنظر: "تهذيب اللغة" ١٢/ ٢٤٩ (صفو).
183
قال أهل المعاني (١): هذا تمثيل المعلومِ بالمرئيِّ، والعرب تفعل ذلك، فإذا سمع السامع ذلك المعلوم، كان عنده بمنزلة ما يشاهده عَياناً؛ وذلك أن الصافي هو: النَّقيُّ من شائب الكَدَر فيما يُشاهَد. فمُثِّلَ به خُلُوص هؤلاء القوم من الدنس؛ لأنهم خلصوا كخلوص (٢) الصافي من شائب الأدناس. وقيل في معنى (اصطفائه إيَّاهم)، قولان:
أحدهما: اصطفى دينهم على سائر الأديان؛ لأن دين الجماعة الإسلامُ، وقد قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، وهذا اختيار الفرَّاء، قال (٣): وهو من باب حذف المضاف، كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢].
القول الثاني: أنه اصطفاهم بالنبوَّة والرسالة، على عالمي زمانهم. وأراد بـ ﴿آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط (٤).
(١) ممن قال بذلك الزجاج في المصدر السابق. ومن قوله: (هذا تمثيل..) إلى (.. والرسالة على عالمي زمانهم): نقله بالمعنى من "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٣٩٩.
(٢) في (ج) و (د): (الخلوص).
(٣) في "معاني القرآن" ٢/ ٢٠٧، وهو اختيار الطبري كذلك في "تفسيره" ٣/ ٢٣٢.
(٤) هذا قول ابن عباس ومقاتل، وفي روايةٍ عن ابن عباس والحسن: أنه من كان على دينه. قال البخاري: (قال ابن عباس: ﴿وَآلَ عِمْرَانَ﴾ المؤمنين من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد - ﷺ -، يقول: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ [آل عمران: ٦٨]، وهم المؤمنون). "الصحيح" ٤/ ١٣٨ كتاب الأنبياء. باب: ٤٤. وقيل: هو نفسه. انظر: "وضح البرهان" للنيسابوري: ١/ ٢٣٨، "زاد المسير" ١/ ٣٧٤، "تفسير القرطبي" ٤/ ٦٢، "كشف المعاني" لابن جماعة: ١٢٧، "الدر المنثور" ٢/ ٣٠، وتفسير ابن عباس ومروياته من كتب السنة: ١/ ١٦٥. ومردُّ الخلاف: في ذلك إلى الـ (آل)، وهل هي تعني: الأهل والقرابة؟ أم الأتباع سواءً كانوا قرابة أو غيرهم؟ أم تعني: الرجل نفسه؟ والمسألة فيها خلاف، ولكلِّ قولٍ دليله. انظر: "اللسان" ١/ ١٧١ (أول).
184
وبـ ﴿وَآلَ عِمْرَانَ﴾: موسى وهارون (١). قالوا: وإنما خصَّ هؤلاء بالذكر؛ لأنَّ الأنبياء بأسرهم من نسلهم.
وقوله تعالى: ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾. قال صاحب "النَّظْمِ": ظاهر هذا اللفظ على العموم، وتأويله على الخصوص؛ لأنه يتضمَّنُ أخباراً منفصلاً بعضها من بعض، وأُجْمِلَت في الإخبار عنها؛ لأنه عز وجل إنْ كان عنى بالاصطفاء: أولادَ آدم، فمن سواه من العالمين الذين فُضِّل عليهم قد خرجوا من أن يكون لهم على العالمين فضل؛ لأن آدم من جملة العالمين، وكذلك نوحٌ، وإبراهيم، وآل عمران، إذا دخل أحد هؤلاء في التفضيل خرج الآخرون منه (٢)؛ لأن كلاً من (العالَمين).
فتأويل ذلك: أنَّ الله اصطفى كلاً منهم على عالَم لا يدخله من قد فُضِّل منهم على عالَم آخر، كما جاء في التفسير: على عالَمي زمانهم.
٣٤ - قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ قال أبو إسحاق (٣): المعنى
(١) وهو قول ابن عباس ومقاتل، وممن ذهب إليه الكرماني وابن جماعة وقيل: عيسى وأمه. و (عمران) والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقال به الحسن وابن وهب. وقيل: هو نفسه، ورجَّح ابن جزي أن المعنيَّ بـ (عمران) هو: والد مريم؛ لِذِكْر قصَّتِها بعد ذلك في السورة، وممن ذهب إلى ذلك: أبو حيان، والسهيلي، والبلنسي، وابن كثير، والآلوسي، والقاسمي. انظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ٦٣، "تفسير ابن جزي" ٧٨، "غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٢٥١، "وضح البرهان" ١/ ٢٣٨، "كشف المعاني" ١٢٧، "تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي ١/ ٢٧٩، "البحر المحيط" لأبي حيان ٢/ ٤٣٤، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٨٤، "روح المعاني" ٣/ ١٣١، "محاسن التأويل" ٤/ ٢٨٩.
(٢) في (ب): (منهم).
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٣٩٩.
185
اصطفى ذرِّيَةً بعضها من بعض؛ فيكون نصب (ذريةً) على البدل (١)، وجائز (٢) أن ينتصب (٣) على الحال، المعنى: اصطفاهم في حال كون بعضهم مِن بعض (٤).
وقوله: ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ فيه قولان: أحدهما: بعضها من ولد بعض؛ لأنَّ الجميع (٥) ذُرِّية آدمَ ثم ذُرِّية نوح (٦).
الثاني: (بعضها [من بعض)] (٧)، أي: في التناصر (٨) في الدين (٩)، فيكون المعنى: أنَّ بعضها يوالي (١٠) بعضاً، ولا يَتَبَرَّأُ بعضهم من بعض، كما يتبرأ الكافرون؛ ألا تراه (١١) قال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ
(١) والمُبدَل منه، فيه ثلاثة أقوال: قيل: مُبدَل من (آدم). ولم يرتض هذا العكبري، قائلا: (لأنه ليس بذرية). وقيل: مبدل من (نوح). وإليه ذهب العكبري. وقيل: مبدل من (آل إبراهيم وآل عمران). وبه قال الزمخشري. انظر: "الكشاف" ١/ ٤٢٤، "التبيان" للعكبري: ١/ ١٨٤.
(٢) في (ب): (وجاز)، وفي "معاني القرآن" (وجائزًا).
(٣) في (ج): (ينصب)، وهكذا هي في "معاني القرآن".
(٤) وجوز الهمداني رفعها، على تقدير: تلك ذرية. انظر: "الفريد في إعراب القرآن المجيد" ١/ ٥٦٣.
(٥) في (ب): (الأول).
(٦) أورد هذا القول الماوردي في "النكت والعيون" ١/ ٣٨٦، وعزاه لبعض المتأخرين دون أن يُعيِّنْ، وأورده ابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٣٧٥ وقال: (ذكره بعض أهل التفسير).
(٧) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.
(٨) في (ب): (التباصر).
(٩) وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة. انظر المصادر السابقة
(١٠) في (ب): (توافي).
(١١) (ألا تراه): ساقط من (ج).
186
اتَّبَعُوا} [البقرة: ١٦٦].
فقوله: ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، أي: هم على غير صفة الكافرين؛ لأنهم إخوان متوالون (١)، وهذا كقوله: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٦٧]؛ أي: بعضهم يُلابس (٢) بعضاً، ويوالي بعضاً وليس المعنى: على النسل والولادة، [لأنه قد يكون من نَسْلِ] (٣) المنافقِ مُؤمنٌ، ومِنْ نَسْلِ المؤمنِ مُنافقٌ. قال عُبَيْد الرَّاعي (٤):
و"فَعْلَةٌ" لمرَّةٍ كجَلْسَهْ و"فِعْلَةٌ" لهيئة كجِلْسَهْ
فَقلتُ ما أنا مِمَّن لا يُواصِلُنِي ولا ثَوائِيَ (٥) إلا رَيْثَ أحْتَمِلُ (٦).
أي: لا [أُلابس مَنْ لا] (٧) يواصلني، ولا أُواليهِ.
والعرب تقول: (هو مِنْ بني فلان)؛ إذا كان يواليهم ويُلابسهم، وإن
(١) في (ب): (لما يتوالون)، بدلًا من إخوان متوالون.
(٢) أي: يخالط، وقد سبق بيانها.
(٣) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، والمثبت من بقية النسخ.
(٤) هو: أبو جندل، عبيد بن حُصين بن معاوية النُّمَيْري، تقدم ٢/ ٣١٨. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٥٠٢، "الشعر والشعراء" ص ٢٦٥، "شرح شواهد المغني" ١/ ٣٣٦.
(٥) في (ب): (رأي). (أ)، (ج) ثواي. والمثبت من: الديوان، ومصادر البيت.
(٦) الييت في: "ديوانه" ١٩٧. وقد ورد منسوبًا له في "الحجة" للفارسي ١/ ١٧٣، إلا أنه لم يجزم بنسبته إليه، بل قال: (أظنه الراعي). و"أساس البلاغة" ١/ ٣٨٨، و"المقاصد النحوية" للعيني ٢/ ٣٣٦. وورد في "المقاصد النحوية" (يوافقني) بدلًا من: (يواصلني)، وورد في "أساس البلاغة" (وما) بدلًا من: (ولا). وورد في الديوان، وبقية المصادر: (أرتحل) بدلًا من: (أحتمل).
(٧) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، وفي (ب): (أنا ممن لا)، والمثبت من: (ج)، (د)، لأنها أقرب لما ذكره المؤلف من قبل.
187
لم يكن من نسلهم. وهذا القول يُحكى معناه عن أبي رَوْق (١).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. قال عطاء عن ابن عباس (٢): هذا مخاطبة لليهود الذين قالوا: نحن أبناءُ الله وأحبَّاؤه، وأبناء (٣) الأنبياء الذين اصطفاهم. فأنزل فيهم قوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾، الآيات إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، ويريد: ﴿سَمِيعٌ﴾ لقولكم الذي تقولون: إنكم من ولد إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ومن آل عمران. وإنَّما فضَّلت أولئك، ورفعتهم واصطفيتهم؛ بطاعتهم، ولو عصوني، لأنزلتهم منازل العاصين. ﴿عَلِيمٌ﴾ بما في قلوبكم من تكذيب محمد، وعصيانه، بعد إقراركم بالتوراة، وتصديقكم بما فيها من صفته.
وذكر أهل المعاني في هذا قولين آخرين:
أحدهما: أنَّ المعنى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لما تقوله (الذرية) المصطفاة ﴿عَلِيمٌ﴾ بما تضمره (٤)؛ فلذلك فضلها على غيرها، لما في معلومه من استقامتها في فعلها وقولها (٥).
القول الثاني: أنَّ هذه الآية تتصل بما بعدها، تقديرها: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لما تقوله امرأة عمران، ﴿عَلِيُمٌ﴾ بما تضمره، إذْ قالتْ: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ﴾
(١) الذي في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٨ أ: (وقال أبو روق: بعضها على دين بعض). وأبو رَوْق، هو: عَطِيّة بن الحارث الهَمْداني الكوفي تقدم.
(٢) لم أهتد إلى مصدر هذه الرواية عنه من طريق عطاء، والذي عثرت عليه هو ما سبق من رواية أبي صالح عنه في هذا المعنى عند قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾، آية: ٣١، وقد سبق الكلام على هذه الرواية.
(٣) في (ب): (وأما).
(٤) والذُرِّيَّة: تأتي مذكرًا ومؤنثًا ومفردًا وجمعًا، ولذا جاء هنا تذكير الضمائر. انظر تفسير قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا﴾ من آية: ٣٨. من هذه السورة.
(٥) لم أهتد إلى قائل هذا القول ولكن ورد مثل هذا القول في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٣٦ عن ابن إسحاق، حيث قال: (أي: سميع لما يقولون،.. عليم بما يخفون).
188
[آل عمران: ٣٥]، الآية، وفيه إشارة إلى أنه لا يضيع لها شيء من جزاء عملها (١).
٣٥ - قوله تعالى (٢): ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾. اختلف النحويون في وجه ﴿إِذْ﴾ ههنا: فزعم أبو عبيدة (٣) أنها زائدة، لَغْوٌ؛ والمَعنى: (قالت امرأة عمران)، ولا موضع لها من الإعراب (٤).
قال الزَّجاج (٥): ولم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً، لأن (إذ) تدل على ما مضى من الزمان، وكيف يكون الدليل على ما مضى من الوقت لغواً.
وقال ابن الأنباري (٦) منكراً لهذا القول أيضاً (٧): إنَّا لا نُلغي حرفاً من
(١) وهذا قول الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٣٥.
(٢) في (د): (عز وجل).
(٣) في "مجاز القرآن" ١/ ٩٠.
(٤) وكذا قال ابن قتيبة بأنها زائدة. انظر: "تفسير غريب القرآن" له ١٠٣.
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٠٠، نقله عنه بتصرف يسير.
(٦) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٧) (أيضًا): ساقطة من (د).
189
كتاب الله عز وجل إذا وجدنا سبيلاً إلى أن لا يكون مُلغىً (١).
قال الأخفش، والمبرِّد (٢): المعنى: (اذكر إذ قالت امرأة عمران). وقد (٣) مضى مثل هذا كثيراً.
وقال أبو إسحاق (٤): المعنى عندي: (واصطفى آل عمران ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾) (٥). فالعامل في ﴿إِذْ﴾: معنى الاصطفاء (٦).
وأنكر أبو بكر هذا، وقال: الله تعالى قَرَنَ اصطفاءه [آل عمران] (٧) باصطفائه آدم ونوحاً، واصطفاؤه آدم ونوحاً قبل قول إمرأة عمران. وأيضاً فإن (عمران) هذا غير عمران المذكور في قوله: ﴿وَآلَ عِمْرَانَ﴾، لأنه (٨)
(١) اختلف أهل النحو والتفسير في وقوع الزوائد في القرآن؛ بين مانع لذلك، وبين مُجوِّز. فمن (٨) المانعين: المبرد، وثعلب، وداود الظاهري، وابن السَّرّاج، الذي رفض أن يكون في لغة العرب زوائد. وهناك من جوز ذلك، فرأى أن وجود هذه الزوائد كعدمها، وقال الزركشي عن هذا الرأي: (وهذا أفسد الطرق) "البرهان" ٣/ ٧٣. وأكثر النحويين على أن في القرآن حروفًا زوائد، ولكن من جهة الإعراب، لا من جهة المعنى؛ حيث إن لهذه الزوائد فوائد كثيرة منها: فصاحة اللفظ وحسنه، وتوكيد المعنى، وتمييز مدلوله عن غيره، إلى غير ذلك. وهذا ما تميل إليه النفس. قال السمين الحلبي عن القائلين بزيادة بعض الحروف: (لا يعنون أنه يجوز سقوطه، ولا أنه مُهْمَل لا معنى له. بل يقولون: زائد للتوكيد. فله أسوة بسائر ألفاظ التوكيد الواقعة في القرآن). "الدر المصون" ٣/ ٤٦٢.
ولقد تَحرَّجَ كثيرٌ من العلماء من القائلين بوقوع الزيادة في القرآن من إطلاق لفظ (زائد) أو (مكرر)، لما له من مدلول لا يتفق وإحكام كتاب الله، واستخدموا محله لفظ (الصلة) و (الإقحام) و (التأكيد). انظر للتوسع في معرفة آراء العلماء في ذلك "البرهان" ٢/ ١٧٨، ٣/ ٧٢ - ٧٣، ١/ ٣٠٥، "التأويل النحوي في القرآن" د. عبد الفتاح الحموز: ٢/ ١٢٧٧ - ١٢٧٩، "لطائف المنان وروائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن" د. فضل عباس: ٥٧ وما بعدها.
(٢) قولهما، في "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٠٠، "الإغفال" للفارسي ٥٦٦.
(٣) من قوله: (وقد..) إلى: (.. إذ قالت امرأة عمران): ساقط من (د).
(٤) هو الزجاج، في: المصدر السابق: نقله عنه باختصار.
(٥) (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ): ساقط من (ج).
(٦) يعني: أنَّ قولها ذلك، ونذرها ما في بطنها لله، وقبول الله لنذرها، كل هذا يُعَدُّ اصطفاءً وتفضيلًا لآل عمران.
(٧) ما بين المعقوفين مطموس في: (أ). والمثبت من بقية النُّسخ.
(٨) في (ج) و (د): (لأن).
190
عمران أبو موسى وهارون، وهذا عمران بن ماتان (١)، وبينهما ألف وثمانمائة سنة. كذلك ذكره ابن عبّاس (٢)، ومقاتل (٣).
وذكرنا أيضاً عن بعض أهل المعاني أن هذه الآية متصلة بما قبلها، فيكون العاملُ في ﴿إِذْ﴾ على هذا القول: معنى قوله ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
وقوله: ﴿امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ هي: حَنَّةُ (٤)، أمُّ مريمَ، جَدَّةُ عيسى عليه السلام، دعت الله أنْ يَهَبَ لها ولداً، وقالت: الَّلهم لك عَلَيَّ إن رزقتني ولداً، أن أتصدق به على بيت المقدس، فيكون من (٥) سَدَنَتِه (٦) وخَدَمِه، شكراً لك. وكان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذورهم، وكان الرجل ينذُرُ في ولده أن يكون خادماً في مُتعّبَّدِهم (٧).
وقوله تعالى: ﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ معنى ﴿نَذَرْتُ﴾:
(١) في (ب)، (ج): (مانان). وفي (د): (ماثان). وكذا ورد في "المعارف" لابن قتيبة: ٥٢، وفي "تاريخ الطبري" ١/ ٧٨٥. وينقل الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٣٥، و"تاريخه" ١/ ٥٨٥ عن ابن إسحاق أن اسمه: (عمران بن ياشهم)، وفي "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٨ (أ)، (ب) (عمران بن أشهم)، ينقله عن الحسن وابن وهب وابن إسحاق، وكذا في "تفسير البغوي" ٢/ ٢٨.
(٢) قوله، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٨ ب، "زاد المسير" ١/ ٣٧٦، "الدر المنثور" ٢/ ٣٢، ونسب إخراجه لإسحاق بن بشر، وابن عساكر.
(٣) قوله، في "تفسيره" ١/ ٢٧١.
(٤) بنت فاقود وقيل: فاقوذ بن قبيل. انظر: "تاريخ الطبري" ١/ ٥٨٥، وتفسير مبهات القرآن، للبلنسي ١/ ٢٧٩.
(٥) في (ج): (عن).
(٦) السَّدَنة، جمع: سادِن، وهو: الذي يقوم على خدمة بيت العبادة. انظر: "القاموس" ١٥٥٥ (سدن).
(٧) انظر قصتها في: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٣٥، "تفسير الفخر الرازي" ٨/ ٢٥، "الدر المنثور" ٢/ ٣٢.
191
[أَوْجَبتُ] (١).
والنذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه بِشَرِيطة كان، أو بغير شَرِيطة (٢).
قال أهل اللغة: معنى النَّذْر: استدفاع المَخُوفِ، بما يُعقَد على النفس
(١) ما بين المعقوفين في جميع النسخ: (أوفيت)، ولم أر لها وجهًا، وما أثبته هو ما رجَّحتُ صوابه؛ لدلالة المعنى اللغوي للكلمة، كما ذكره المؤلف بعدها، وهو: ما يوجبه الإنسان على نفسه.. ، وفي "تهذيب اللغة" (إنما قيل له نذر؛ لأنه نُذِر فيه؛ أي: أوجِبَ، من قولك: (نذرت على نفسي)؛ أي: أوْجَبْتُ) ٤/ ٣٥٤٦ (نذر). وكذا في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٩ أ؛ حيث فسرها بـ (أوجبت)، وكذا في بقية كتب اللغة. انظر (نذر) في "مفردات ألفاظ القرآن" ٧٩٧، والتعريفات، للجرجاني: ٤٢٠، "اللسان" (نذر) ٧/ ٤٣٩٠، "عمدة الحفاظ" ٥٦٩، "التوقيف على مهمات التعارف" ٦٩٤ - ٦٩٥. وقد يكون مرد الخطأ، إلى اللبس في قراءة الأصل الذي انتُسِخت منه النسخ؛ نظرًا لتقارب الكلمتين في الرسم.
(٢) هذا التعريف ذكره الثعلبي في: "تفسيره": ٣/ ٣٩ أ. وقوله: (بشَريطة)؛ أي: أنْ يكون النذرُ مُعلَّقًا على شرط؛ كأن يقول: (إن شفى الله مريضي، فعلي أن أتصدق). وأما قوله: (بغير شَرِيطة)، فيعني به النذرَ المُطلَق غير المشروط، كأن يقول: (لله علي أن أتصدق بدينار).
وبهذين النَّوْعَيْن من النذر، قال الشافعيةُ والمؤلف منهم، والحنابلة، وأهل العراق، وأكثر أهل العلم، وأوجبوا الكفارة عند عدم الالتزام. انظر: "فتح الوهاب" للنووي: ٢٠٤، "مغني المحتاج" للشربيني ٤/ ٣٥٦، "المغني" لابن قدامة: ١٣/ ٦٢٢ - ٦٢٣.
ويرى ابن عرفة أن النذر: هو ما كان وعدًا بِشرْط، وما ليس وعدًا بشرطٍ، فليس بنذر. وهو قولُ أبي عمرو (غلام ثعلب)، وبه قال: أبو البقاء، وفي (الكليات)، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي. إلا أن الراجح هو الأول. انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٤٦ - ٣٥٤٧ (نذر)، "الكليات" لأبي البقاء (نذر): ٩١٢، "المغني" لابن قدامة ١٣/ ٦٢٣.
192
من عمل البِّر. وأصله، من: الإنذار، وهو: الإعلام بموضع المخافة (١).
وانتصب ﴿مُحَرَّرًا﴾ على الحال من ﴿مَا﴾ تقديره: نذرت لك الذي في بطني محرراً (٢).
وقال ابن قتيبة (٣): أرادت نذرت لك أن أجعل (٤) ما في بطني محرراً، أي: عتيقاً (٥) خالصاً لله، خادماً للكنيسة، مفرغاً للعبادة ولخدمة الكنيسة. وكل ما أُخْلِصَ فهو مُحَرَّر. يقال: (حرَّرتُ العبدَ). إذا أعتقته، و (حَرَّرْتُ الكتابَ) إذا أصلحته، وأخلصته، فلم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاحه (٦).
و (رجل حُرٌّ): إذا كان خالصاً لنفسه، ليس لأحد عليه مُتَعَلَّق. و (الطينُ الحُرُّ): الذي خَلَصَ من الرملِ والحَمْأَةِ (٧) والعيوب.
(١) وفي "مقاييس اللغة" ٥/ ٤١٤ ويقول عن (نذر): (.. كلمة تدل على تخويف، أو تخوُّف، ومنه الإنذار: الإبلاغ، ولا يكاد يكون إلا في التخويف).
وفي "تهذيب اللغة" (الإنذار: الإعلام بالشيء الذي يُحذر منه) ٤/ ٣٥٤٧ (نذر).
(٢) وقيل في علة النصب: إنه حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، ﴿فِي بَطْنِي﴾، والعامل فيه، هو: (استقر)، وبه قال الطبري. وقيل: انتصب على المصدر، ويكون فيه حينها حذفُ مضاف، تقديره: (نذرت.. نذرَ تحرير)، أو انتصابه على ما تضمنه ﴿نَذَرْتُ لَكَ﴾ من معنًى، وهو: (حرَّرْتُ لك ما في بطني تحريرًا). وقيل: نصب على أنه نعت مفعول محذوف؛ أي: (.. غلامًا محررًا). انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٣٥، "الدر المصون" ٣/ ١٣٠، "الفريد في إعراب القرآن" ١/ ٥٦٤، "روح المعاني" ٣/ ١٣٤.
(٣) في "تفسير غريب القرآن" له: ١٠٣.
(٤) في (د): (نجعل).
(٥) من قوله: (عتيقا..) إلى (.. والحمأة والعيوب): نقله مع اختصار قليل عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٣٩ أ.
(٦) في (ج)، (د) (إصلاح).
(٧) في (د): الحمأ. والحَمْأة، والحَمَأ: الطين الأسود المنتن. انظر (حمأ) في "الصحاح" ٤٥، "اللسان" ٢/ ٩٨٦.
193
وقوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾. معنى التَّقَبُّلِ (١): أخذُ الشيءِ على الرِضى (٢) به (٣). وأصله، من: المقابلة؛ لأنه يقابل بالجزاء ما يؤخذ.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ﴾. أي: لدعاي (٤). ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما في قلبي.
٣٦ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتهَا﴾. قال المفسرون (٥): هلك عمرانُ أبو مريمَ، وامرأته (حَنَّة) حاملٌ (٦) بمريمَ، ﴿فَلَمَّا وَضَعَتهَا﴾ أي: ولدتها. و (الهاء): راجعة إلى ﴿مَا﴾، في قوله: ﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾، و (ما)
(١) (معنى التقبل): ساقط من (ج).
(٢) في (ج)، (د): (الرضا). والأصل في كتابتها أن ترسم بالألف الممدودة؛ لأنها اسم ثلاثي منقلب ألفه عن واو، وهو مذهب البصريين، وما أثْبَتُّه صحيح على رأي الكوفيين الذين يكتبون ما كان على وزن (فعَل) بالياء، سواء كان أصل الألف ياءً أم واوًا. قال الفراء: (الحِمَا والرِّضَا، يكتبان بالألف والياء؛ لأن الكسائي سمع العرب تقول: حِمَوان ورِضَوان، وحِمَيان، ورِضَيان). انظر: "المنقوص والممدود" للفراء (تح: عبد العزيز الميمني): ٣٣. وفي "إصلاح المنطق" ١٣٩: (ويقال: كان مَرضِيًا ومَرضُوَّا). وانظر: "باب الهجاء" لابن الدهان: ٢٩.
(٣) انظر: "اللسان" ٦/ ٣٥١٦ (قبل).
(٤) في (د): (دعائي).
(٥) ممن ذكر ذلك: الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٣٥ يرويه عن ابن إسحاق، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٣٩ ب، والبغوي في "تفسيره" ١/ ٣٠، ونسبه للكلبي عن ابن إسحاق.
(٦) في (ب): (كامل).
194
يقع على المؤنث، وقوعُهُ على المُذَكَّر (١)، وكان ما في بطنها، أُنْثى.
وقوله تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾. اعتذار منها إلى الله حين فعلت ما لا يجوز من تحرير الأنثى للكنيسة (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾. قُرئ بإسكان التَّاء وضمها (٣): فمن (٤) ضم التاء؛ جعل هذا من كلام أمِّ مريم، وهو كقول القائل: (ربِّ قد كان كذا وكذا، وأنت أعلم بما كان). ليس يريد بقوله: (ربِّ قد كان كذا)، إعلام الله سبحانه [وتعالى] (٥)، ولكنه كالخضوع منه، والاستسلام لله تعالى، لذلك قالت: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ (٦)، لأنها لم
(١) وقيل: إن (الهاء) تعود على: النذيرة، أو النسمة، أو النفس، وهي ألفاظ مؤنثة، ولذا أنَّث الضمير. وهو رأي الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٣٧، والثعلبي: ٣/ ٣٩ ب، وانظر: "الكشاف" ١/ ٤٢٥.
(٢) هذا قول السدي؛ كما في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٣٨، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٣٧، "زاد المسير" ١/ ٣٧٧. وقيل: إنها قالته على سبيل التَّحسُّر، والتلهف على ما فاتها من رجائها وتقديرها. انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٨٨، "الكشاف" ١/ ٤٢٥، "البحر" ٢/ ٤٣٨. وإليه مال الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٣٧، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٣٩ ب، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ٣٠.
(٣) وردت القراءة بإسكان التاء وفتح العين في (وَضَعَتْ)، عن: عاصم برواية حفص والمفضل عنه، وابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحمزة، والكسائي. أما القراءة بضم التاء وإسكان العين: (وَضَعْتُ)، فقد وردت عن: عاصم برواية أبي بكر، وعن ابن عامر، ويعقوب، وأبي رجاء، وإبراهيم النخعي. انظر: "السبعة" ٢٠٤، "إيضاح الوقف والابتداء" ٢/ ٥٧٥، "القطع والائتناف" للنحاس: ٢٢١، "التيسير" ٨٧، "النشر" ٢/ ٢٣٩.
(٤) من قوله: (فمن..) إلى: (.. بما وضعت): نقله بتصرف واختصار عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ٣٤.
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب).
(٦) في (أ): وضَعَتْ، وفي بقية النسخ، غير مضبوطة بالشكل، والصواب ما أثبته لتناسبها مع سياق الكلام.
195
ترد بقولها: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾، إخبارًا لله تعالى.
ومن قرأ بإسكان التَّاء وهو أَجْوَدُ القراءتين، كان قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾، مِن (١) كلام الله تعالى، ولو كان من قول أمِّ مريم، لكان: (وأنت أعلم بما وَضَعْتُ)؛ لأنها تخاطب الله سبحانه [وتعالى] (٢)؛ ولأنها قد قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾، [فليست] (٣) تحتاج (٤) بعد هذا [القول] (٥) أن تقول: والله أعلم بما وضعْتُ (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾. أي: في خِدْمَة الكنيسة والعِبِّادِ الذين فيها؛ لما يلحقها من الحَيْضِ والنفاس، والصيانة عن التَّبَرُّجِ [للناس] (٧).
قال عبد الله بن مُسْلِم (٨): قوله: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، مؤخَّرٌ، معناه التقديم على قراءة العامة كأنه قال: إنِّي وضَعتها أُنثى وليس الذكر كالأنثى؛ لأنه من قول أمِّ مريم (٩).
قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ﴾. يقال: (عاذ فلانٌ بالله)؛ أي: التجأ
(١) من قوله: (كلام..) إلى (وأنت أعلم بما وضعتُ): ساقط من: (ج)، (د).
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د)، "الحجة" للفارسي.
(٤) في (ب): (يحتاج).
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من: (د)، وليست موجودة في "الحجة" للفارسي.
(٦) انظر: "الحجة" لابن خالويه ١٠٨، "الكشف" لمكي ١/ ٣٤٠.
(٧) ما بين المعقوفين من: (ج)، (د).
(٨) هو ابن قتيبة، في "تفسير غريب القرآن" ١٠٤، نقله المؤلف عنه بالمعنى.
(٩) أما على القراءة الأخرى (.. وضَعْتُ) بضم التاء، فليس فيه تقديم ولا تأخير. انظر: "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٣٨٧.
196
إليه، وامتنع به، فأعاذه؛ أي: أجارَهُ، ومنعه (١). فمعنى: ﴿أُعِيذُهَا بِكَ﴾ أي: أمنعها، وأجيرها بك.
وذكرنا معنى (العوذ) في قوله: ﴿قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (٢) (٣) [البقرة: ٦٧].
وقوله تعالى: ﴿مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾. أي: المطرود، المَرْمِيِّ (٤) بالشُّهُبِ. وقال ابن عباس: ﴿الرَّجِيمِ﴾: الملعون (٥). ويجوز أن يكون ﴿الرَّجِيمِ﴾ بمعنى: المسبوب المشتوم (٦). وذكرنا معاني (الرَّجْمِ) في سورة الحِجْر عند قوله: ﴿مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ [الحجر: ١٧]. ومعنى هذه الإعاذة، وإجابة الله تعالى إيَّاها إلى ما سألت؛ هو: ما رواه أبو هريرة: أنَّ النبي - ﷺ - قال: "ما من مولود، إلاَّ والشيطان يَمَسُّهُ حين يُولَد، فيستَهِلُ صارخاً من مَسِّ الشيطان إيَّاه، إلا مريمَ وابنَها"، ثمَّ يقول أبو هريرة: (اقرأوا
(١) انظر (عوذ) في: "العين " ٢٢٩، "الصحاح" ٢/ ٥٦٦، "مقاييس اللغة" ٤/ ١٨٣، ١٨٤.
(٢) (قال): ساقطة من (د)
(٣) وانظر: "تفسير البسيط" ٣/ ١٠.
(٤) في (ب): (الرمي).
(٥) لم أهتد إلى مصدر هذا القول عن ابن عباس، والذي عثرت عليه، أنه من قول قتادة، كما في "زاد المسير" ١/ ٣٣٧، "الدر المنثور" ٥/ ٦٩ ونسب إخراجه لعبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٦) من معاني الرَّجْمِ في اللغة: الرمي بالحجارة، والقتل، والسب والشتم، واللعن. وينقل الأزهري عن ابن الأنباري، قوله: (والرجيم في نعت الشيطان: المرجوم بالنجوم، فصُرِف إلى (فَعِيل) من (مفعول). قال: ويكون الرجيم، بمعنى: المشتوم المسبوب، من قوله: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ [٤٦ سورة مريم]؛ أي: لأسبنَّك. قال: ويكون الرجيم، بمعنى: المطرود. قال: وهو قول أهل التفسير). "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٧٥ (رجم)، وانظر: "القاموس المحيط" ١١١١ (رجم).
197
إنْ شِئْتُم: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (١).
٣٧ - قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ التَّقَبلُ، والقَبُولُ، معناهما سواء، وهو: أن ترضى بالشيء، وتأخذه؛ ولهذا قال: ﴿بِقَبُولٍ﴾، ولم يقل: (بتَقَبُّلٍ)؛ لأن معناهما واحدٌ.
قال الفراء (٢): والعرب قد تترك المصدر للفعل المذكور، وتأتي بمصدر آخر في معنى الأول، وإن اختلف بالزيادة والنقصان؛ كقولك: (تكلَّمْتُ كلاما). وهذا النوع يقال له المصدر على غير المصدر.
وذكرنا هذا عند قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨]. والقَبُول: مصدر قولهم: (قَبِلَ فلانٌ الشيءَ): إذا رضِيَهُ.
قال أبو عمرو بن العَلاء (٣): وليس في المصادر (فَعُولٌ) بفتح الفاء،
(١) الحديث، أخرجه البخاري في: الصحيح: ٥/ ١٦٦ كتاب التفسير سورة آل عمران، ٤/ ١٣٨ كتاب الأنبياء، باب: ٤٤. ومسلم في "الصحيح" ٤/ ١٨٣٨رقمه (٢٣٦٦) كتاب الفضائل، باب: فضائل عيسى عليه السلام. وأحمد في "المسند" ٢/ ٢٧٤ (وانظر: "الفتح الرباني" ٢٠/ ١٣٢، وعبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ١١٩، والطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٤٠، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٦٣٨، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ٣٠، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٣٢. وورد الحديثُ بألفاظ أخرى من طرق أخرى عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣٣٦ - ٣٤٠، " الدر المنثور" ٢/ ٣٢. واستهلال الصبي: رفع صوته بالبكاء عند ولادته. انظر: "النهاية في غريب الحديث" ٥/ ٢٧١، "القاموس" (١٠٧٢) (هلل).
(٢) لم أهتد إلى مصدر قوله.
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٤١، وفي مادة (قبل) في "الصحاح" ٥/ ١٧٩٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٠ ب، "اللسان" ١١/ ٥٤٠، ونصه كما في "الصحاح": (وحكى اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء: (القَبُول) بالفتح مصدر، ولم أسمع غيره.
198
إلَّا هذا، قال: ولم أسمع فيه الضَّمَّ.
وقال سيبويه (١):
خمسة (٢) مصادر، جاءت على (فَعُول): (قَبُولٌ)، و (وَضُوءٌ) (٣)، و (طَهُورٌ)، و (وَلُوعٌ)، و (وَقُود)، إلاَّ أنَّ الأكثر في (وَقُود) (٤) إذا كان مصدراً (٥) الضَّم. وأجاز الفرَّاء (٦)، والزجَّاج (٧) (قُبُولا) بالضَّمِّ.
ثَعْلَب، عن ابن الأعرابي (٨): يقال: قَبِلْتُهُ (قَبُولاً)، و (قُبُولاً) (٩)، و (على وجهِهِ قَبُولٌ)، لا غير (١٠)، قال الشاعر:
(١) في "الكتاب" ٤/ ٤٢ نقله عنه بالمعنى، وقد ذكرها سيبويه في باب ما جاء من المصادر على فعول، ونصه: (.. توضَّأت وَضُوءًا حسنًا، وأولِعْتُ به وَلُوعًا، وسمعنا من العرب من يقول: وَقَدَت النارُ وَقُودًا عاليًا، وقَبِلَه قَبولًا، والوُقُود أكثر، والوَقود: الحطب). وفي نسخة أخرى لـ"كتاب سيبويه" أشار إليها محققُ الكتاب في الهامش: (وتطهَّر طَهورًا حسنًا، وَأُولِعت وَلوعا).
(٢) في (د): (خمس).
(٣) في (ج): (ووضو)، وفي (د): (ووصول).
(٤) في (ب): قود.
(٥) في (د): مصدر.
(٦) لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد يكون في كتابه (المصادر) وهو مفقود.
(٧) في "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٤٠١، قال: (ويجوز قُبولًا: إذا رضيته.).
(٨) أورد قولَه الأزهري في "تهذيب اللغة" ٩/ ١٦٩. وابن الأعرابي، هو: أبو عبد الله، محمد بن زياد. كوفيٌّ، تقدمت ترجمته.
(٩) (وقبولًا): ساقطة من (ج).
(١٠) هكذا جاءت (قَبول) بالفتح في مصدرها في "التهذيب" وكذا ضبطها في "لسان العرب" ٦/ ٣٥١٦ بالفتح، وفي "القاموس المحيط" (١٠٤٥) (قبل) أجاز فيها الأمرين، قال: (والقَبُول، وقد يُضم: الحُسْنُ والشَّارَةُ)، وانظر: "التاج" =
199
قد يُجهدُ (١) المرء إنْ لم يُنل (٢) بالبشر والوجه عليه القَبُول (٣).
قال المفسِّرون (٤): معنى قوله: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ أي: رَضِيَها مكان المُحَرَّرِ الذي نذَرتْه (حَنَّةُ)، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك المعنى.
وقال ابن عباس في رواية الضحَّاك: معناه: سَلَك بها طريقَ السُّعداء. وقوله تعالى: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾.
= ١٥/ ٥٩٥ (قبل).
وأما (وَضوء) بالفتح، فقيل: الماء الذي يُتوضأ به، وقيل: هو المصدر، من: (توضأت للصلاة)، وقيل: إنَّ المصدر هو: (الوُضوء) بالضم. انظر: "معاني القرآن" للأخفش: ١/ ٥١، "اللسان" ٨/ ٤٨٥٤ (وضأ). أما (طَهور) بالفتح، فقيل: هو الماء الطاهر، المُطَهِّر، وهو أعم من الطاهر، حيث إنَّ كل طَهور طاهر، وليس كل طاهر طَهور، وقيل إنَّ (طُهور) بالضم مصدر، بمعنى: التَّطَهُّر. انظر: "النهاية في غريب الحديث" ٣/ ١٤٧، "اللسان" ٥/ ٢٧١٢ (طهر). أما (وَلُوع) بالفتح، فهي: العلاقة، وهو اسم أقيم مقام المصدر الحقيقي، يقال: (وَلعَ به وَلَعًا، و (وَلُوعا)، و (أولِعَ به إيلاعًا)، و (أوْلَعَه به): إذا أغراه، و (مُولَعٌ به): مُغْرًى به. انظر: "اللسان" ٨/ ٤١٠. أما الـ (وَقود) بالفتح، فقيل: الحطب، والـ (وُقود) بالضم: المصدر. انظر: "معاني القرآن" للأخفش: ١/ ٥١، "اللسان" ٨/ ٤٨٨٨.
(١) في (ج)، (د): (يحمد).
(٢) في (د): (يبل).
(٣) لم أهتد إلى قائله.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٤١، يرويه عن ابن جريج، وقال به، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٣٨، يرويه عن شرحبيل بن سعد، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٠ ب، "النكت والعيون" ١/ ٣٨٨، "تفسير البغوي" ٢/ ٣١، "الدر المنثور" ٢/ ٣٥.
200
قال الزجَّاج (١): جاء لفظُ (٢) ﴿نَبَاتًا﴾ على غير لفظِ (أَنْبَتَ)، على معنى: نبتت نباتاً حَسنَاً.
وقال ابن الأنباري (٣): لمَّا كان (أَنْبَتَ) يدل على [نَبَتَت] (٤) حمل (٥) الفعل على المعنى؛ كأنه قال: (وأنبتها، فَنبَتَتْ هي نباتاً حَسَناً)؛ كقول امريء القيس:
[ورُضْتُ] (٦) فَذَلَّت (٧) صعبةً أيَّ إذْلالِ (٨)
(١) في "معاني القرآن وإعرابه" له ١/ ٤٠٣، نقله عنه بالنص.
(٢) (لفظ): ساقط من (د).
(٣) لم أقف على مصدره، وقد ورد في "زاد المسير" ١/ ٣٧٧.
(٤) ما بين المعقوفين مطموس في: (أ)، ومثبت من بقية النسخ.
(٥) في (ب): (عمل).
(٦) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، وفي (ب): (ونبتت)، والمثبت من: (ج)، (د)؛ نظرًا لموافقتها "الديوان" وللسياق.
(٧) في (د): (فدلت).
(٨) في (د): (إدلال). عجز بيت، وصدره:
فَصِرْنا إلى الحسْنى ورَقَّ كلامُنا
وهو في "ديوانه" ٣٢، كما ورد في "المقتضب" ١/ ٧٤، "معاني القرآن" للزجاج: ٢/ ٣٦ ولم ينسبه، "إعراب القرآن" للنحاس: ١/ ٣٢٦، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٧٥، "وليس في كلام العرب" لابن خالويه: ٢٢٧، "المحتسب" ٢/ ٢٦٠، "والمخصص": ١٤/ ١٨٧، "زاد المسير" ١/ ٣٧٨، "اللسان" ٣/ ١٧٧٥ (روض)، "شرح شواهد المغني" ١/ ٣٤١، "خزانة الأدب" ٩/ ١٨٧. ورد في بعض المصادر: (.. فَذَلَّتْ صَعْبَةٌ) بالضَمِّ. ومعنى (فَصِرنا): فَرَجعنا وانتقلنا، على أن (صار) هنا تامة. و (الحسْنى): قد تكون اسم مصدر، بمعنى: الإحسان، أو تكون صيغة مؤنث (أحسن)؛ أي: الحالة الحسنة. و (رَقَّ): لطُف. و (رُضْتُ)؛ أي: سَهلت وانقادت، فهي (ذلُول)، ويقال لتعدية الفعل: (ذلَّلْتها وأذْلَلْتها). و (صعبة)؛ أي: غير ذلول. والشاهد فيه: أنَّ (رُضت) تتضمن معنى: (أذللت)؛ ولذا جاء المصدر بعدها: (إذلالًا)؛ أي: أذلَلْت.. إذلالًا، وأقام (الإذلال) مقام (الرياضة). انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣١٩ (راض)، "اللسان" ٣/ ١٧٧٥ (روض)، "الخزانة" ٩/ ١٨٧.
201
أراد: أيَّ رياضة. فلمَّا دلَّ (رُضْتُ) على (أذْلَلْت) (١)، حمله (٢) على المعنى، وخلَّى (٣) اللفظَ.
قال ابن عباس في رواية عطاء (٤)، في قوله: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾؛ يريد: في صلاحٍ ومعرفةٍ بالله، وطاعةٍ له، وخدمةٍ للمسجد.
وقال في رواية الضحَّاك (٥): يعنى: سوَّى خَلْقَها من غير زيادة، ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد.
وقوله تعالى: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ (٦) أي:
(١) في (د): (دللت).
(٢) في (ب): (جاء).
(٣) في (أ)، (ب)، (د): (وخلا)، وفي (ج): (وحلى)، وما أثبَتُه يوافق القاعدة الإملائية؛ حيث إنه فعل يزيد على ثلاثة أحرف، ولم يكن قبل الألف ياءٌ، كما إنه يوافق ما جاء في نسخة (ج) وإن خلت الكلمة فيها من النقط. ومعنى (خلَّى الأمرَ): تركه. انظر: "اللسان" ٢/ ١٢٥٤ (خلا).
(٤) لم أهتد إلى مصدر هذه الرواية.
(٥) الرواية في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤١ أ، "تفسير البغوي" ١/ ٣١، وهذه الرواية من طريق جويبر بن سعيد، وسبق أنه ضعيف جدًا.
(٦) حديث المؤلف التالي عن هذا المقطع، بالنظر إلى قراءة من قرأ: (وَكَفَلَهَا) بتخفيف الفاء وفتحها، و ﴿زَكَرِيَّا﴾ بالمد والرفع. هي قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وابن عامر. وقد أثبتُّ رسم الآية كما جاء في جميع النسخ، وهي مطابقة لقراءة حفص عن عاصم. أما بقية قراءات "السبعة" فهي: قراءة عاصم في رواية أبي=
202
ضَمَّها (١) إلى نَفْسِهِ وقام بأمرها.
قال الزجَّاج (٢): ومعناه في هذا: ضَمِنَ القيامَ بأمرها، يقال (٣): (كَفَلَ (٤)، يَكْفُلُ، كَفالة، وكَفْلاً) (٥)، فهو كافِل؛ وهو: الذي قد كَفَلَ إنساناً يَعُولُه (٦) ويُنفِقُ عليه.
و ﴿زَكَرِيَّا﴾، رُفعَ بفعله (٧)، لأن الكفالة نُسِبت إليه. وفيه قراءتان: القَصر، والمَدُّ، وهما لغتان فيه، كقولهم: (الهَيْجاء)، و (الهَيْجا)، والألِفُ فيه أَلِفُ تأنيثٍ؛ ولهذا لا ينصرف في معرفة ولا نَكِرة؛ لأن (زكريا) (٨)؛ بالمَدِّ، مثل: (حمراءَ)، و (سوداءَ) (٩)؛ وبالقصر، مثل:
= بكر: (وكَفَّلَها) بتشديد الفاء، و ﴿زَكَرِيَّا﴾ ممدودة منصوبة، وكان يمدها في جميع القرآن. أما قراءة عاصم برواية حفص، وقراءة حمزة والكسائي، فهي: ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ بتشديد الفاء، و ﴿زَكَرِيَّا﴾ مقصورة في جميع القرآن. انظر: "السبعة" ٢٠٤، "الحجة" للفارسي: ٣/ ٣٣، "حجة القراءات" لابن زنجلة: ١٦١. "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: ٣/ ٨٦٩.
(١) في (ب): (ضمنها).
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٠٣.
(٣) من قوله: (يقال..) إلى (.. وينفق عليه): نقله عن "تهذيب اللغة" للأزهري: ٤/ ٣١٦٦ (كفل)، وانظر: "اللسان" ٧/ ٣٩٠٥ (كفل).
(٤) في "التهذيب" (كفل به).
(٥) (وكفلا): غير موجودة في "التهذيب".
(٦) في (ب): (يقول من).
(٧) على أن (زكرياءُ) هنا ممدودة مرفوعة، وهي فاعل لـ (كَفَلَ) المتعدي لمفعول واحد، بناء على قراءة من قرأ بالتخفيف فيها.
(٨) في (ب)، (د) (زكريا).
(٩) في (ج)، (د): (حمرا، وسودا).
203
(حُبْلى) (١)، و (سَكْرى) (٢)، و (ذِفْرى) (٣) وهذا النوعُ لا ينصرفُ في مَعْرفة ولا نَكِرَة؛ لأن الاسم (٤) بُني على أَلِفِ التأنيث، وحقُّ التأنيثِ أن يكون داخلاً على لفظ المُذَكَّر؛ نحو: (قائم)، و (قائمةٌ)؛ فلما بُنِي الاسمُ على علامة التأنيث، ولَزِمَت (٥) الاسمَ حتى صارت كبعض حروفه، صار كأن التأنيثَ قد تكرر فيه، فقامت العِلَّةُ مَقامَ العِّلَّتين (٦)، فلم ينصرف (٧) في النَّكرة والمعرفة.
وقرأ حمزةُ والكسائيُ: (وكَفَّلَها) مشَدَّدا، ومصدره: التَّكْفِيلُ، والتَّكْفِلةُ (٨)
(١) في (ب): (حتى). و (الحُبْلى): المرأة الحامل، وجمعها: (حَبَالى) و (حُبْلَيات). انظر: "القاموس" ١٢٦٩ (حبل).
(٢) يقال: (هي سَكِرَة، وسَكْرَى، وسَكْرانة) للمؤنث. انظر: "القاموس" ٥٢٤ (سكر).
(٣) في (ب): (دفري). و (الذِفْرى)، هو: العظم الشاخص خلف الأذن. وهما ذِفريَان. والجمع: ذِفرَيات، وذَفارى. انظر: "خلق الإنسان" لابن أبي ثابت: ٥٤، "القاموس" ٣٩٦ (ذفر)، "المعجم الوسيط" ١/ ٣١٢ (ذفر).
(٤) في (ج): (اللام).
(٥) في (ب): (لزمت).
(٦) يعني: قامت ألفُ التأنيث، مقامَ العلميةِ والعجمةِ في المنع من الصرف. انظر في علَّة منعها من الصرف "الحجة" للفارسي: ٣/ ٣٤، "مشكل إعراب القرآن" ١/ ١٥٧، "البيان" للأنباري: ١/ ٢٠١.
(٧) في (د): (تنصرف).
(٨) لم أقف في معاجم اللغة التي رجعت إليها، على أنَّ (التكفلة) مصدر لـ (كَفَّل). وهي على خلاف القياس في مصدر (فَعَّلَ) الرباعي المضاعف العين؛ الصحيح اللام. وتأتي (تفْعِلَة) مصدرًا للرُّباعي المعتل اللام، المُضاعَف العين؛ مثل: (رضَّى تَرْضيَةً)، و (ورَّى تورِيَةً). وأشار الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد إلى مجيء (تفْعِلَة) مصدرًا لـ (فَعَّلَ) الصحيح اللام، وذلك في النادر، ومَثَّلَ لها بـ (قَدَّمَ=
204
و ﴿زَكَرِيَّا﴾ (١) على هذه القراءة منصوب؛ لأنه المفعول الثاني للتَّكفيل، ومعناه: ضَمَّنها الله زكريا (٢)، وضَمَّها إليه؛ وذلك أنَّ (حَنَّةَ) لمَّا ولدت مريمَ، أتت بها سَدنَةَ بيت المقدس، وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة (٣). فتنافس فيها الأَحْبارُ (٤)، حتى اقترعوا عليها، فخرجت القُرعة لزكرياءَ (٥) عليه السلام. ونذكر ما فيه عند قوله: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ [آل عمران: ٤٤]. فمعنى قوله: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ (٦): أنَّ الله تعالى (٧) ضمَّها (٨) إلى زكريا (٩) بالقُرْعَة التي قَرعها (١٠).
= تَقْدِمَةً جَرَّبَ تَجْرِبَةً). انظر: "منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل" مطبوع بهامش "شرح ابن عقيل": ٣/ ١٢٨، "النحو الوافي" ٣/ ١٩٨. وانظر (كفل) في "الصحاح" ٥/ ١٨١١، "اللسان" ٧/ ٣٩٠٥ - ٣٩٠٦، "التاج" ١٥/ ٦٥٨.
(١) في (ج)، (د): (وزكريا).
(٢) (أ)، (ب): (وزكريا)، والمثبت من: (ج)، (د)، وهو الصواب؛ لأنه لا وجه لحرف العطف هنا.
(٣) النذيرة هنا: الابن الذي يجعله أبواه قَيِّما أو خادمًا للكنيسة أو للمُتَعَبَّد؛ من ذكر أو أنثى. انظر: "اللسان" ٧/ ٤٣٩٠ (نذر).
(٤) الأحبار: جمعُ (حَبْر) أو (حِبْر)، وهو: واحد أحبار اليهود، وهو: العالم أو الرجل الصالح، وُيجمع كذلك على (حُبُور). انظر: "الصحاح" ٢/ ٦٢٠، "اللسان" ٢/ ٧٤٨ (حبر).
(٥) في (ج): زكريا.
(٦) في (ب)، (ج)، (د): (وكفلها زكريا).
(٧) في (أ)، (ب) (إن شاء الله تعالى)، والمثبت من: (ج)، (د)؛ نظرًا لمناسبته لسياق الكلام، ولا وجه لما في (أ)، (ب).
(٨) في (ب): (ضمنها).
(٩) في (د): (زكرياء).
(١٠) في (ب): اقترعها. ومعنى (قرعها): أصابته القرعةُ دونهم. يقال: (كانت له =
205
وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾. قال المفسرون (١): لمَّا ضمَّ زكريا مريمَ إلى نفسه، بنى لها مِحْرابا في المسجد، وبابه في وسطها، لا يُرقى إليها إلا بسُلَّم، ولا يَصعَد إليها غيره.
و (المِحْرابُ) في اللغة: أشرف المجالس. وكانت محاريب بني إسرائيل مساجدَهم (٢).
و (المِحْراب): الغُرْفَة أيضاً، قال عمر (٣) بن أبي ربيعة (٤):
رَبَّةُ مِحْرابٍ إذا جِئْتها لم أَدْنُ حتى أرْتَقي سُلَّما (٥).
= القرعة): إذا قَرَع أصحابه، و (قارعه فَقَرَعَه، يَقرَعه): إذا أصابته القرعة دونه. "اللسان" ٦/ ٣٥٩٦ (قرع)، وانظر: "المعجم الوسيط" ٧٣٥ (قرع). وانظر القصة في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٣٩ - ٢٤٠، "وسنن البيهقي": ١٠/ ٢٨٦، "الدر المنثور" ٢/ ٣٥.
(١) من قوله: (قال..) إلى (.. أي: ربة غرفة): نقله مع الاختصار والتصرف من "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٢ أ، وانظر: "تفسير البغوي" ٢/ ٣١.
(٢) قوله: (وكانت محاريب بني إسرائيل مساجدهم): ليسست عند الثعلبي، وإنما هي في "تهذيب اللغة" ١/ ٧٧٢.
(٣) في (د): (عمرو).
(٤) هو: أبو الخطاب، عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المُغِيري المخزومي تقدمت ترجمته.
(٥) البيت ليس لعمر بن أبي ربيعة، ولم أقف عليه في "ديوانه" وإنما نسبته المصادر لوضَّاح اليمن، والمؤلف تبع الثعلبي في نسبته لعمر. وقد ورد منسوبًا لوضَّاح، في "مجاز القرآن" ٢/ ١٤٤، ١٨٠، "جمهرة اللغة" ٢٧٦ (حرب)، "الصحاح" ١/ ١٠٩ (حرب)، "والأغاني" (نسخة مصورة من طبعة دار الكتب مصر): ٦/ ٢٣٧، "تفسير القرطبي" ٤/ ٧١، "اللسان" ٢/ ٨١٧ (حرب). كما ورد غير منسوب، في "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٠٣، ٤/ ٣٢٥،=
206
أي: رَبَّة غُرفةٍ. وقال الأصمعي (١): (المِحْراب): الغُرْفة؛ ألا تراه يقول: ﴿إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ [سورة ص: ٢١].
وقال الزجاج (٢): (المحراب): أرفع بيت في الدار، وأرفع مكان في المسجد، قال: و (المحراب) ههنا كالغرفة، وأنشد بيت عمر (٣).
وقال أبو عبيدة (٤): (المحراب) عند العرب سيِّدُ المجالس، ومُقَدَّمُها، وأشرفها، وإنما قيل للقبلة: محرابٌ؛ لأنها أشرف موضع في المسجد. ويقال للقصر محرابٌ؛ لأنه سيِّد المنازل (٥).
قال امرؤ (٦) القيس:
كغزلان وَحْشٍ في محاريبِ أَقْوال (٧)
= "الاشتقاق" لابن دريد: ٧٥، "الزاهر" ١/ ٥٤١، "التهذيب" ١/ ٧٧٢، "مقاييس اللغة" ٢/ ٤٩. وهذه الرواية للبيت وردت في: الجمهرة، "الزاهر" "تفسير الثعلبي" وورد في بقية المصادر: (... لم ألقها أو أرتقى سلما).
(١) نقل المؤلف قوله باختصار عن "الزاهر" ١/ ٥٤١. كما ورد هذا القول عن الأصمعي في: الاشتقاق: ٧٥، قال: (وقال أبو حاتم وعبد الرحمن، عن الأصمعي) وذكره.
(٢) في "معاني القرآن" له ٤/ ٣٢٥.
(٣) قوله: (وأنشد بيت عمر) ساقط من (د).
(٤) في قوله: (وقال أبو عبيدة..) إلى (.. أراد بالمحاريب القصور) نقله بنصه عن "الزاهر" ١/ ٥٤٠. أما قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٩١ عن المحاريب، فنصه: (سيد المجالس، ومقدمها وأشرفها، وكذلك هو من المساجد)، وفي ٢/ ١٤٤، ١٨٠ ورد عنه هذا المعنى بألفاظ مختلفة قليلًا، أما بقية الكلام فهو من قول ابن الأنباري.
(٥) في "الزاهر" (أشرف المنازل).
(٦) في (أ): (امرئ)، والمثبت من بقة النسخ.
(٧) عجز بيت، وصدره: =
207
أراد بـ (المحاريب): القصور (١). قال ابن عباس في رواية عطاء (٢): صارت عنده لها غرفة تصعد إليها تصلي فيها الليل والنهار.
وقوله تعالى: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾.
قال (٣) ابن عباس (٤)، والربيع (٥): كان زكريَّا كلما دخل عليها غرفتها وجد عندها رزقاً؛ أي: فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في
= وماذا عليه أنْ ذكرتُ أوانسًا
وقد ورد البيت في "ديوانه": ٣٤، "مجاز القرآن" ٢/ ١٨٠، حيث ورد في هامش إحدى نسخ المجاز، كما أشار إلى ذلك المحقق، وفي "الزاهر": ١/ ٥٤٠، "اللسان" ٢/ ٨١٧ (حرب). وورد غير منسوب في "تهذيب اللغة" ١/ ٧٧٢، "والمخصص": ٣/ ١٣٥، "البحر المحيط" ٣/ ٢٤٩.
وورد في كل المصادر السابقة: (كغزلان رَمْلٍ..)، وورد في الديوان، وبعض المصادر: (.. محاريب أقيال)، وفي "الزاهر" (وماذا عليه أن أروضَ نجائبًا..). و (الأقوال) و (الأقيال): ملوك اليمن، وقيل: هم مَنْ دون الملك الأعظم. ومفردها: (قَيْل). انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٥٩ (قال). وقوله: (كغزلان وَحشٍ)، الوَحشُ: حيوان البَرِّ؛ مثل: حمارُ وَحشٍ، وحمارٌ وحشِيٌّ. انظر: "القاموس" ٦٠٩ (وحش).
(١) انظر معاني الـ (محراب) السابقة، في: مادة (حرب)، في "التهذيب" ١/ ٧٧٢، "الصحاح" ١/ ١٠٨، "اللسان" ٢/ ٨١٧.
(٢) لم أقف على مصدر هذه الرواية.
(٣) من قوله: (قال..) إلى (.. غرفتها، وجد عندها رزقًا): ساقط من: (ج)، (د).
(٤) قوله، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٤٤، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٢٢٩، "المحرر الوجيز" ٣/ ٩٤، "زاد المسير" لابن الجوزي ١/ ٣٨٠. قال ابن الجوزي: (وهذا قول الجماعة).
(٥) قوله، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٤٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٢ ب. وهو قول مجاهد، وعكرمة، وابن جبير، وأبي الشعثاء، والنخعي، والضحاك، وقتادة، وعطيَّة العوفي، والسُّدِّي. انظر: "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٨٦.
208
الشتاء، تأتيها به الملائكة من الجَنَّةِ.
قال محمد بن إسحاق (١): كان هذا كله، بعد أن بلغت مريمُ مبلغ النساء.
وقال الحَسَنُ (٢): كان هذا في صغرها، ولم ترضع ثدياً قط، بل (٣) كان يأتيها رزقها من الجَنَّة، وتكلَّمت وهي صغيرة، حين أجابت زكريا بقولها: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ (٤).
قال أبو إسحاق (٥): ونصب ﴿كُلَّمَا﴾ بقوله: ﴿وَجَدَ﴾ (٦)؛ أي: يَجِدُ عندها الرزقَ في كل وقت يدخل عليها المحرابَ، فيكون (ما) مع (دَخَلَ)، بمنزلة: الدخول (٧)، أي: في كل وقت دخول (٨).
(١) قوله، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٢ أ.
(٢) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "تفسير البغوي" ٢/ ٣٢، وفيه: (قال أبو الحسن)، وهو خطأ، والصواب: الحسن. كما ورد في "زاد المسير" ١/ ٣٨٠.
(٣) (بل): ساقطة من (د).
(٤) انظر حول الذين تكلموا في المهد صغارًا: "مصنف ابن أبي شيبة": ٦/ ٣٤٢ (٣١٨٦٤)، "المستدرك" للحاكم ٢/ ٥٩٥، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٥٢، "القرطبي" ٤/ ٩١، "البحر المحيط" ٢/ ٤٤٢ - ٤٤٣، "روح المعاني" ٣/ ١٤٠.
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٠٣، نقله عنه بنصه.
(٦) لأن (كلَّ) عندما تضاف إلى (ما) المصدرية الظرفية، تصبح ظرفًا متضمنًا معنى الشرط، ويكون لها فعل وجواب، وتتعلق بجوابها، وتنتصب به، وجوابها هنا (وَجَدَ). أمَّا (ما) فهي حرف مصدري ظرفي، مبني على السكون، لا محل لها من الإعراب.
(٧) لأن (ما) وما بعدها تُؤَؤَّل بمصدر، وهو هنا: الدخول.
(٨) انظر في إعرابها "مشكل إعراب القرآن" ١/ ١٥٧، "التبيان" للعكبري ص ٣٤، "الفريد" للهمداني ١/ ٥٦٦.
209
وقوله تعالى: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾. قال ابن عباس (١): يريد: من أين لك هذا؟ وانما سألها؛ لأنه خاف أن يأتيها الرزقُ من غير جهته، فتبيَّن أنه من عند الله، لا من عند الناس (٢).
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. قد فَسَّرنا هذا في موضعين: من (٣) سورة البقرة، ومن هذه السورة (٤). وهذا يحتمل أن يكون من كلام مريمَ، ويحتمل أنَّه على (٥) الابتداء، والأَوْلى به الاستئناف (٦)؛ لأنه ليست (٧) من معنى الجواب عمَّا سئلت في شيء.
(١) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه.
(٢) ممن قال بأن (أنَّى) بمعنى (أين): أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٩١، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ٩٩. بينما يرى الإمام الطبري في تفسيره: ١/ ٣٩٧ - ٣٩٨: أنَّ هناك اختلافًا بين (أنى) و (أين) و (كيف)، ويرى أنه نظرا لتقارب معنى (أنَّى) من هذه الحروف فقد تداخلت معانيها وحصل اللَّبْسُ، فتُؤُؤِّلت بـ (أين) و (كيف) و (متى) مع مخالفة معناها لهذه الحروف، ومخالفة هذه الحروف لها، ويرى أنَّ (أين) سؤال عن الأماكن، و (كيف) سؤال عن الأحوال، أمَّا (أنَّى) فهي سؤال عن المذاهب والوجوه، وقد بيَّن الطبري هذا الأمر بإسهاب مستدلًّا عليه بأمثلة من القرآن وشعر العرب. وبهذا قال النحاس كذلك، رادًا على أبي عبيدة في "معاني القرآن" ١/ ٣٨٩. وانظر حول هذا الموضوع: "إعراب الحديث النبوي" للعكبري: ٩٦، "البحر المحيط" ٢/ ٤٤٣، "الدر المصون" ٢/ ٤٢٣.
(٣) في (د): (في).
(٤) عند آية: ٢٧.
(٥) في (ب): (أن يكون على).
(٦) وبه قال الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٤٧.
(٧) في (ج): (ليس).
210
٣٨ - قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ قال أهل اللغة (١): (ههنا) و (هنا) تقريب (ثَمَّ) (٢).
ومعنى (هنالك)؛ أي: عند ذلك. و (وهنالك): مَحَلٌّ ومَوْضِعٌّ؛ كما أنَّ (حيث): مَحَلٌّ، و (عِنْدَ)، و (حِينَ): وقتان.
فلو قال عز وجل: (عند ذلك دعا زكريا) لكان جائزاً (٣)، بمثل (٤) معنى (هنالك). ولكن العرب تضع المحل موضع اسم الوقت في مثل هذا، فيقولون: (كان ذلك حيث وَليَ زيدٌ) بمعنى حين وَليَ، وكذلك (هنالك): مَحَلٌ يوضع (٥) موضع (عند)، وقد يكون مجاز (هنالك) في هذا الموضع
(١) انظر مادة: (هنا) في "الصحاح" ٦/ ٢٥٦١، "اللسان" ٨/ ٤٧١٥، "تاج العروس" ٢٠/ ٤٣٢.
(٢) (ثَمَّ) بفتح الثاء، وتشديد الميم: اسم إشارة إلى المكان البعيد، وهو ظرف مكان، لا يتصرف، مبني على الفتح، في محل نصب على الظرفية، ويقال: (ثَمَّةَ) والتاء فيه لتأنيث اللفظ فقط. انظر: "معجم الشوارد النحوية" لمحمد شراب ٢٢٧، "معجم النحو" للدقر: ١٢٤. أما (هنا) و (هناك) فيقول عنهما الجوهري: (للتقريب، إذا أشرت إلى مكان، و (هناك) و (هنالك): للتبعيد). "الصحاح" ٦/ ٢٥٦١ (هنا).
(٣) قول المؤلف: (فلو قال.. لكان جائزًا)، أقول: غفر الله للمؤلف، ليته لم يقل هذه العبارة، فإنها كلمةٌ فيما أرى عظيمةٌ، يجب أن لا تقال في حق الله تعالى، وهل يجوز أن نقترح على الله تعالى. ؟! ومتى كان الحق عز وجل لا يقول الأفضل من القول، والأبلغ من الكلام، والفَصْلَ في الخطاب، حتى نقول نحن البشر القاصرون مثل تلك المقولة العظيمة. ؟! فالله تعالى يضع الكَلِمَ وفق حكمته وعلمه، وهو الأحكم الأعلم.
(٤) في (د): (مثل).
(٥) في (ج): (موضع).
211
مَحَلاًّ؛ لأن ما ذَكَرَه عز وجل من هذه القصة، يكون مضمناً لوقت (١) ومحل؛ لأنه لا يكون إلا في محل؛ كما لا يكون إلا في وقت؛ فلما لم يجز أن يكون (٢) إلا (٣) في محل؛ احتمل أن يومئ إلى ذلك المحل بقوله: ﴿هُنَالِكَ﴾، و (هناك)، و (هنالك) لأصلُ فيهما: [هنا] (٤)، ثم (٥) زيدت الكاف؛ للخطاب، كما قالوا في (ذا) (٦): (ذاك).
ومن قال: (هنالك) فتقديره تقدير (ذلك)، والكاف فيهما للخطاب (٧). وقول زهير:
هنالك إنْ تُسْتَخبَلُوا (٨) المالَ تُخبِلُوا (٩)
(١) في (ج)، (د): (بوقت).
(٢) (ب): (إلا أن يكون).
(٣) إلا: ساقطة من (ب)، (ج).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق، وهي غير موجودة في جميع النسخ.
(٥) (ثم): ساقطة من (ج).
(٦) (ذا): ساقطة من (ج).
(٧) انظر في زيادة الكاف في هذه الأسماء "المسائل العسكرية" للفارسي: ١٤٠، "المسائل الحلبيات" له: ٧٥٧٦، "سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٠٩، ٣٢١ - ٣٢٢، ٢/ ٥٧١، "مغني اللبيب" ٢٤٠.
(٨) في (د): (يستجلبوا).
(٩) صدر بيت، وقد وردت روايته في "الديوان" بضمير الغائب، كالتالي:
هنالك إنْ يُسْتَخْبَلوا المالَ يُخبِلوا وإنْ يُسألوا يُعْطوا وإن يَيْسِروا يُغْلُوا
انظر: "ديوانه" ص ١١٢. كما ورد منسوبًا له في "الخصائص" ١/ ١٠٩٧، "اللسان" ٢/ ١٠٩ (خبل)، و٣/ ١٢٩٣ (خول). وروايته في "الخصائص" "اللسان" ٣/ ١٢٩٣ (خول) (هنالك إن يُسْتَخوَلوا المال يُخوِلوا..). وفي "اللسان" ٣/ ١٢٩٣ (خول: (.. وإن يُسألُوا يُعْصوا..). و (يُستَخبَلوا)؛ من قولهم: (أخبَلْتُ الرجلَ، أُخبِلُه، إخبالًا)،=
212
يحتمل (هنالك) أن يكون (١) لمحل، وأن يكون لوقت.
و (هنالك)، و (هناك) و (هنا) (٢)، و (ههنا)، شيء واحد، إلا أن (هنا)، و (ههنا)، لم يُذكرا في شيء من الأوقات، وإنما ذُكرا في المحالِّ (٣) القريبة منك.
= و (اسْتَخبَلَه إبِلًا وغنمًا، فأخبله)، و (يُسْتَخوَلُوا) بمعناها؛ أي: إن تُطلَب منهم إبلُهم أو غنمُهم على سبيل الاستعارة؛ ليُنتفَعَ بألبانها وأوبارها، أو تستعار منهم خيلهم للغزو، فإنهم (يُخبلوا)؛ أي: يتكرموا ويتفضلوا بإعارتها. ومعنى (يَيْسَروا): من (يَسَر، يَيْسَر، يَسْرًا)، وهو: المقامر بالمَيْسر، أو هو: تجزئة الجَزُور، واقتسام أعضائها؛ يقال: (يَسَرَ القومُ الجزورَ)، وهو المراد في البيت هنا -والله أعلم- نظرًا لمناسبته لما سبقه من أبيات يمدح فيها الشاعرُ سنان بن أبي حارثة المُرِّي، والمعنى: إنهم يأخذون سِمان الجزُرِ والغاليَة منها وينحرونها، ويقسمونها على ذوي الحاجات.
ومعنى: (يعْصوا) كما في رواية "اللسان" -: أي- والله أعلم-: يجمعونهم، من قولهم؛ (عصوت القومَ): إذا جمعتهم على الخير أو الشر؛ أي: إنهم إذا سُئلوا الخيرَ، جمعوا الناس على خيرهم وزادهم. وقبله: إذا السنةُ الشهباءُ بالناس أجحفت
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينًا بها حتى إذا نبت البقل
والذي دعاني لسوق الأبيات، أن المُعَلِّق على الديوان، فسَّر (ييسروا) بقوله: (يقامروا بالميسر)، وإن كان المعنى صحيحًا لغة، إلا أن المعنى الآخر الذي ذكرته أصح في رأيي لمناسبته لسياق الأبيات.
انظر: "اللسان" ٢/ ١٠٩٧ (خبل)، ٣/ ١٢٩٣ (خول)، ٥/ ٢٩٨٠ (عصا)، ٨/ ٤٩٥٩ - ٤٩٦٠ (يسر). والشاهد في البيت: قوله: (هنالك) المحتملة أن تكون لوقت ومكان.
(١) في (ب): (يحتمل أن يكون هنالك).
(٢) (وهنا): ساقطة من (ج).
(٣) (ج): (المحل).
213
قال الزجَّاج (١): و (هنالك) في موضع نصب، لأنه ظرف؛ ويقع في المكان من الزمان والحال (٢).
[ومعنى قوله: ﴿هُنَاِلكَ دَعَا﴾؛ أي: في ذلك المكان من الزمان والحال] (٣) دعا.
قال أهل التفسير: لمَّا رأى زكريا ما أوتي (٤) مريم من فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف على خلاف مجرى العادة، طمع في رزق الولد من العاقر، على خلاف مجرى العادة، فدعا الله عز وجل، فقال: ﴿هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ﴾. أي: من عندك (٥). و (لَدُن) اسمٌ غير متمكن (٦)، ونذكر حقيقته، وما قيل فيه، في سورة الكهف إن شاء الله.
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٠٤، نقله بتصرف يسير جدًّا.
(٢) (ج) (وأحوال الزمان)، بدلًا من: (من الزمان والحال).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د) ومن "معاني القرآن" للزجاج.
(٤) في (د): (أولي).
(٥) ممن قال بذلك: ابن عباس، والسُّدِّي، وابن جبير، والحسن. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٤٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤١، "الدر المنثور" ٢/ ٣٧.
(٦) الاسم غير المتمكن، هو الاسم المبني، الذي لا يتغير آخره بتغير العوامل في أوله؛ أي: لا يتمكن من تحمل الحركات المختلفة. انظر: "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" د. محمد اللبدي: ٢١٣. و (لَدُنْ): اسم جامد يُعرب ظرفًا للمكان أو الزمان، مبني على السكون، في محل نصب مفعول فيه، وهي تلازم الإضافة الاسم، أو الضمير، أو الجملة، وإذا أضيفت إلى ياء المتكلم اتصلت بها نون الوقاية، فيقال: (لَدُنِّي) ويقل تجريدها منها، فيقال: (لَدُنِي) وهي في المعنى والإضافة كـ (عند)، إلا أنها أقرب مكانًا من (عند) وأخصُّ منها. انظر: "معجم الأدوات النحوية" د. محمد التونجي: (١٠١)، "معجم النحو" د. الدقر: ٣٠٩، "موسوعة النحو والصرف" د. أميل يعقوب: ٥٧٦.
214
وقوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾. أي (١): نسلاً مباركاً تقياً (٢). والذُّرِّية)؛ يكون (٣) واحدًا وجمعًا، وذكرًا وانثى (٤).
والمراد بـ (الذُّرِّيَّة) ههنا: ولدٌ واحدٌ؛ لقوله: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ [مريم: ٥].
قال الفرَّاء (٥): وأنَّث الـ (طَيِّبَة)؛ لتأنيث لفظ الذرية؛ كما قال الشاعر:
أبوك خليفةُ وَلَدَتْهُ أخرى وأنت خليفةٌ، ذاك الكمال (٦)
فأنَّثَ فعل الخليفة؛ لتأنيث لفظهِ (٧). وقال آخرُ:
(١) من قوله: (أي..) إلى (فهب لي من لدنك وليا): نقله بتصرف يسير عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٤ أ.
(٢) عند الثعلبي: (نقيا).
(٣) في (ب)، (د)، وعند الثعلبي: (تكون)، وفي: (ج) غير منقوطة.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفرَّاء: ١/ ٢٠٨، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٤٩، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٧٤.
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٠٨. نقله عنه بالمعنى.
(٦) البيت نسبه ابن الأنباري لنُصَيْب بن رباح. انظر: "المذكر والمؤنث" ٢/ ١٦٣. وقال محقق الكتاب: بأن البيت ليس في مجموع شعره. وقد ورد غير منسوب، في "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢٠٨، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٤٨، "الزاهر" ٢/ ٢٤٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٤ أ، "المحرر الوجيز" ٣/ ٩٦، "اللسان" ٦/ ٣٤٥٩ (فلح)، ٢/ ١٢٣٥ (خلف).
(٧) أي: قال: (ولدته أخرى)؛ نظرًا لأن لفظ الخليفة مؤنث، والوجه: أن يقول: ولده آخر. قال ابن الأنباري: (ويقال: (قال الخليفة)، و (قالت الخليفة)، ويقال: (قال الخليفة الآخر)، و (الخليفة الأخرى)؛ فمن ذكَّر، قال: (الخليفة)، معناه: فلان؛ ومن أنَّثَ، قال: هو وصف قد دخلته علامة التأنيث، فحمل الفعل على لفظ المؤنث.. ومن استعمل لفظ المؤنث، قال في الجمع: (خلائف)، ومن استعمل =
215
فَمَا تَزْدَري مِنْ حَيَّةٍ جَبَلِيَّةٍ سُكاتٍ (١) إذا ما عَضَّ ليس بِأَدْرَدا (٢)
فجمع التأنيث، والتذكير: مرَّة على اللفظ، ومرةً على المعنى.
قال: وهذا يجوز في أسماء الأجناس، دون التي معناها: فلانٌ؛ نحو: (طَلْحَة)، و (حَمْزَة)، و (مُغِيرَة). لا يجوز (جاءت طلحة)؛ من قِبَل أنَّ التذكيرَ الحقيقي يغلب على تأنيث اللفظ.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾. قيل (٣): مجيب الدعاء في
= المعنى المذكَّر، قال في الجمع: (خلفاء..). "الزاهر" ٢/ ٢٤٢، وانظر: "المذكر والمؤنث" له ٢/ ١٦٣.
(١) في جميع النسخ: سُكابٌ، ولم أر لها وجهًا، والتصويب من المصادر التي أوردت البيت، وسيأتي بيانها.
(٢) لم أهتد إلى قائله، وقد ورد غير منسوب، في "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٠٨، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٤٨، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ١٢٥، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧١٨ (سكت)، "الصحاح" ١/ ٢٥٣ (سكت)، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٤ أ، "المحرر الوجيز" ٣/ ٩٦، "اللسان" ٤/ ٢٠٤٦ (سكت). وقوله: (سُكاتٌ): وصف للحيَّة، يقال: (حيَّة سُكاتٌ، وسَكُوتٌ)،: إذا لم يشعر بها الملسوع حتى تلسعه وقوله: (أدردا)؛ أي: ليس في فمه سِنٌ، و (الدَّرَدُ): هو ذهاب الأسنان، والأنثى: دَرْداء.
انظر: "الصحاح" ٢/ ٤٧٠ (درد)، "اللسان" ٤/ ٢٠٤٦ (سكت)، "القاموس" ص ١٥٣ (سكت).
والبيت في وصف رجل داهية يقول عنه: كيف تستخف به، وهو كالحية الجبلية الفاتكة، التي لا يشعر الملسوع بعضها حتى تعضه بناب لم يسقط، ولم يذهب سُمُّه. والشاهد فيه كونه أنَّث (جبلية)؛ نظرًا لورود الموصوف مؤنثًا في اللفظ، وهو (حيَّة)، وذكَّرَ (عضَّ)؛ لأنه أراد المعنى؛ أي: حيَّة ذكَرًا.
(٣) لم أقف على صاحب هذا القول، وقد حكاه الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٤٤أ، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ٣٣، وابن الجوزي، في "الزاد" ١/ ٣٨٠.
216
التفسير؛ وذلك أن مَنْ لا يُجابُ (١) كلامه، صار بمنزلة من لم يُسمع (٢)، فقيل لمن أجيب في سؤاله: سُمع دعاؤه. وعلى هذا دلَّ كلام ابن عباس في تفسير هذه الآية؛ لأنه قال في قوله (٣): ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ يريد: لأنبيائك، وأهل طاعتك (٤).
وهذا يدل على أنه أراد بالسمع: الإجابة؛ لأن دعاء غير هؤلاء مسموع لله تعالى على الحقيقة.
٣٩ - قوله تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ يقال: نادى، مُناداةً، ونِداءً. فالكسر: مصدرٌ (٥)، والضم اسمٌ (٦). وأكثر ما جاءت الأصوات على ضَمِّ أولها؛ نحو: (الرُّغاء) (٧)، و (البُكاء)، و (الصُّراخ)، و (الهُتاف) (٨).
(١) في (أ)، (ب): (الإيجاب)، والمثبت من: (ج)، (د).
(٢) في (أ)، (ب): (يَسمع)، والمثبت من: (ج)، (د).
(٣) في (أ): قولك، والمثبت من: (ب)، (ج)، (د).
(٤) لم أقف على مصدر قول ابن عباس هذا.
(٥) انظر: "جمهرة اللغة" ٢/ ١٠٦١ (ندى).
(٦) ويردُ الاسمُ منه كذلك بالكسر؛ فيقال: (نِداء)، و (نُداء). وجعل الجوهريُّ الكسرَ هو الأصل، فقال: (النِّداء: الصوت، وقد يُضم). "الصحاح" ٦/ ٢٥٠٥. وانظر (ندى) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٤٥، "اللسان" ٧/ ٤٣٨٨، "التاج" ٢٠/ ٢٣٣.
(٧) في (ج)، (د): (الدعا). والرُّغاء: صوت البعير، والضبع، والنَّعام. انظر: "القاموس" ص ١٢٨٩ (رغى).
(٨) في جميع النسخ: (والهتات)، ولم أجدها في معاجم اللغة التي رجعت إليها، ولم أر لها وجهَا، وما أثبته هو ما رجَّحتُه؛ لأن (الهُتاف)، و (الهَتْف): هو الصوت الجافي العالي، أو الصوت الشديد. انظر: "المنتخب من غريب كلام العرب" لكراع النمل: ١/ ٢٩٤، "اللسان" ٨/ ٤٦١٢ (هتف).
217
وفي قوله: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ﴾، قراءتان: التذكير، والتأنيث (١).
قال الفرَّاء (٢): (الملائكة)، وما أشبههم من الجمع، يُذَكَّر وُيؤَنَّث.
وقرأت القُرَّاءُ: ﴿يَعرُجُ الملائكة﴾، و ﴿تَعرُجُ﴾ (٣) [المعارج: ٤]، و ﴿تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ و ﴿ويَتَوفَّاهم الملائكة﴾ (٤) (٥) [النحل: ٢٨]، فمن ذكَّر؛ ذهب إلى معنى التذكير، ومن أنَّث؛ فلِتأنيث الاسم.
قال الزجَّاج (٦): الجماعة، يلحقها التأنيث؛ للفظ الجماعة، ويجوز أن يُعبَّر عنها بلفظ التذكير؛ لأنه يقال: جَمْعُ الملائكة، وهذا كقوله: ﴿وَقَالَ نِسْوُةُ﴾ [يوسف: ٣٠].
وقال أهل المعاني (٧): أراد بالملائكة (٨) ههنا: جبريل، وحده (٩)،
(١) قرأ حمزة والكسائي من السبعة وخلف من العشرة (فناداه)، بإمالة الدال، وتروى هذه القراءة عن (علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وعلي بن الحسين، ومحمد بن زيد وابنيه، وجعفر بن محمد). "القطع والائتناف" ص ٢٢٢. والباقون: (فنادته). انظر: "السبعة" ٢٠٥، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٣٧، و"النشر" ٢/ ٢٣٩.
(٢) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٠٩، نقله بنصه.
(٣) والقراءة بالياء: للكسائي، وبالتاء: للباقين. انظر كتاب "الإقناع"، لابن مهران: ٢٩٧، "حجة القراءات"، لابن زنجلة ٧٢١، "التبصرة" ٧٠٨.
(٤) الملائكة: ليست في: (ج) و (د).
(٥) القراءة في الموضعين بالياء: لحمزة، وبالتاء: للباقين. انظر: "الكشف" ٢/ ٣٦، "حجة القراءات" ٣٨٨.
(٦) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٠٥. نقله عنه بتصرف يسير.
(٧) نقل المؤلف هنا عبارة الفراء باختصار عن "معاني القرآن" ١/ ٢١٠، وممن قال بذلك: الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٥٠، والزجاج في "المعاني" ١/ ٤٠٥، والنحاس في "المعاني" ١/ ٣٩٠، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٤٥ أ.
(٨) قوله: (المعاني أراد بالملائكة): مكانها بياض في: (د).
(٩) ممن قال بأن المنادي: جبريل وحده: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، والسدي، ومقاتل.=
218
وذلك جائز في العربية أن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع؛ كما تقول في الكلام: (ركب السفنَ)، و (خرجَ على البِغالِ)، وإنما ركب بغلاً واحدًا. وهذا (١) جائز فيما لم يُقْصد فيه قَصْد (٢) واحدٍ بعينه.
قال الزجَّاج (٣): المعنى: أتاه النداءُ من هذا الجنس، الذين هم الملائكة (٤)، كما تقول: (ركب فلانٌ في السُّفُن) وإنما ركب في سفينةٍ واحدةٍ؛ تريد بذلك: جَعْلَ ركوبه في هذا الجنس.
ومثل (٥) هذا مما في القرآن قوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ [آل عمران: ١٧٣]، وهو نعيْمُ بن مَسعود (٦)، ﴿إِنَّ النَّاسَ﴾، يعني: أبا سُفيان (٧).
قال المفضَّل: إذا كان القائل رئيسًا، فيجوز الإخبار عنه بالجمعِ؛
= انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٧٤، "تفسير الطبري" ٢/ ٤٤٩ - ٤٥٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤١، "القطع والائتناف" للنحاس ٢٢٢، "زاد المسير" ١/ ٣٨١، "الدر المنثور" ٢/ ٣٧.
(١) (ج) (وهو).
(٢) في (أ)، (ب): (وقصد)، والمثبت من: (ج) (د)، ومن "معاني القرآن".
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٠٥، نقله عنه بتصرف يسير جدًّا.
(٤) في (ج): (ملائكة). وقوله: (الذين هم ملائكة): ليس في "معاني القرآن".
(٥) من قوله: (ومثل..) إلى (.. جرى على هذا): نقله بتصرف يسير عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٥ أ.
(٦) هو أبو سلمة، نُعَيم بن مسعود بن عامر الأشجعي. صحابي مشهور، هاجر إلى الرسول يوم الخندق، وهو الذي خذَل المشركين واليهود حتى صرف الله المشركين، سكن المدينة، قتل في وقعة الجمل في أوّلِ خلافة علي، وقيل: مات في خلافة عثمان - رضي الله عنه -. انظر: "الاسيعاب" ٤/ ٧٠ (٢٦٥٨)، "الإصابة" ٣/ ٥٦٨ (٨٧٧٩).
(٧) سيأتي بيان قصة الآية في موضعها من هذه السورة، عند تفسير آية: ١٧٣ إن شاء الله تعالى.
219
لاجتماع أصحابه معه، فلمَّا كان جبريل عليه السلام رئيس الملائكة، وقلَّما يُبْعثُ إلاَّ ومعه جَمعٌ منهم، جُرِيَ على هذا. وهذا قول ابن عباس (١)، والأكثرين (٢): إنَّ المنادى جبريل وحده.
وقال غيره: ناداه جماعةٌ من الملائكة (٣).
وقوله تعالى: ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِرُكَ﴾ يُقْرأ بـ ﴿إِنَّ﴾ (٤): مكسورًا ومفتوحاً (٥)؛ فمن فتح (٦)، كان المعنى: (فنادته بِأَنَّ اللهَ)، فلمَّا حذف الجارّ منها (٧)، وصل الفعلُ إليها فنصبها؛ فـ (أَن) (٨) في موضع
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) قوله: (والأكثرين)، سبق أن بينت أنه لم يقل بهذا القول غير ابن مسعود - رضي الله عنه - والسدي، ومقاتل، بناءً على المصادر التي رجعت إليها.
(٣) ورَجَّح هذا الطبري؛ حملًا لتأويل القرآن على الأظهر الأكثر من كلام العرب، دون الأقل، ما وُجِد إلى ذلك سبيل. وبيَّن أنَّه لا حاجة هنا لصرفه إلا أنه بمعنى واحد. وبيَّن أنَّ هذا قول جماعة من أهل العلم، ومنهم: قتادة، والربيع، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم. "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٠، وانظر: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤١، "الدر المنثور" ٢/ ٣٧، ورجحه كذلك النحاس في "القطع والائتناف" (٢٢٣).
(٤) في (ج)، (د): (إن). وفي (د) بدلًا من: (بإن).
(٥) قرأ ابن عامر، وحمزة: ﴿إِنَّ﴾ بالكسر، وقرأ الباقون: ﴿أَن﴾ بالفتح. انظر: "السبعة" ٢٠٥، "الحجة" للفارسي: ٣/ ٣٨، "الكشف" لمكي: ١/ ٣٤٣.
(٦) من قوله: (فمن..) إلى (.. فأضمر القول في ذلك كله): نقله باختصار وتصرف يسير عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ٣٩، ٣٨
(٧) (منها): ساقطة من (ج).
(٨) في (ج): (بأن).
220
[نصب] (١). وعلى قياس قول الخليل: في موضع (٢) [جَرٍّ] (٣). وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم.
ومن كَسَرَ، أضمر القولَ؛ كأنه: (ناداه، فقال: إنَّ الله) فحذف القولَ. وإضمار القول كثير في هذا النحو، كما قال: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤]، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا﴾ [الأنعام: ٩٣]، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦]، فأضمر القول في ذلك كلِّه (٤).
وقوله تعالى: ﴿يُبَشِّرُكَ﴾ قد (٥) ذكرنا معنى التبشير في قوله: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢٥].
وقرأ حمزةُ والكسائيُّ (٦):
(١) ما بين المعقوفين زيادة من: (د)، ومن "الحجة". ويقتضيها السياق.
(٢) (في موضع): مكانها بياض في: (د).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من "الحجة" للفارسي، يقتضيها السياق. وانظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ١٢٦ - ١٢٩، ١/ ٩٢، ٣٧ - ٣٩، "المحلى ووجوه النصب" لابن شقير: ٧٦، "سر صناعة الإعراب" ١٣٠، "الكشف" لمكي ١/ ٣٤٣. وانظر تفسير آية١٩ من هذه السورة، وما سيذكره عند تفسير ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ آية: ٧٣ من هذه السورة.
(٤) هذا على مذهب البصريين القائلين بإضمار القول، أما على مذهب الكوفيين، فإنهم أجروا النداء مُجرى القول. انظر: "البحر المحيط" ٢/ ٤٤٦، "الدر المصون" ٣/ ١٥٢، "إتحاف فضلاء البشر" للبنا ص ١٧٤.
(٥) من قوله: (قد..) إلى (.. وقرأ حمزة والكسائي: يبشرك): ساقط من (د).
(٦) انظر: "السبعة" ٥٠٢، "الحجة" للفارسي: ٣/ ٤١. وقد قرأ حمزة: (يَبْشُرُ) بالتخفيف في كل القرآن، إلا في قوله: ﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [آية ٥٤ من سورة الحجر]، فقرأها بالتشديد (يُبَشِّرون). أما الكسائي: فقد قرأها بالتخفيف في خمسة مواضع: (آل عمران: ٣٩، ٤٥) و (الإسراء: ٩) =
221
﴿يُبَشِّرُكَ﴾ (١)، مُخَفَّفاً، من (البَشْرِ) (٢) وهو بمعنى: التبشير (٣).
قال أبو زيد: يقال: (بَشَّرَ، يُبَشِّرُ)، [و (أبْشَرَ يُبْشِرُ] (٤) إبْشارا)، و (بَشَرَ، يَبْشُرُ، بَشْرا)، ثلاث لغات (٥). ونحو هذا قال ابن الأعرابي فيما روى عنه ثَعْلَب (٦).
= و (الكهف: ٢) و (الشورى: ٢٣). أمَّا نافع، وابن عامر، وعاصم، فقد قرأوها بالتشديد في كل القرآن. وكذا قرأها ابن كثير، وأبو عمرو في كل المواضع، إلا في آية (٢٣ من الشورى). انظر: "السبعة" ٢٠٥، "الحجة" للفارسي: ٣/ ٢٣٩، "الغاية" لابن مهران: ١٢٥، "التيسير" للداني: ٨٧، "النشر" ٢/ ٢٣٩، "اتحاف فضلاء البشر" ص ١٧٤.
(١) وردت في: (أ) يَبْشِرُكَ بكسر الشين المخففة، وأهملت حركاتها في بقية النسخ، ولم ترد بها قراءة، والصواب من قراءتها ما أثبته، وما سبق الإشارة إليه، وقد ورد في قراءة مجاهد، وحميد بن قيس الأعرج: (يُبْشِرُكَ) بضم الياء، وتسكين الباء، وكسر الشين المخففة. انظر: "معاني القرآن" للزجَّاج: ١/ ٤٠٥، "المحتسب" ١/ ١٦١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٥ ب. انظر ترجمة حميد بن قيس في "غاية النهاية" ١/ ٢٦٥ برقم (١٢٠٠).
(٢) في (أ): البَشرَ، ولم أر لها وجهًا، وأهملت حركاتها في بقية النسخ، وما أثبته، هو ما استصوبته. قال في "اللسان" ٤/ ٦١ (بشر): (وقد بَشَرَه بالأمر، يَبْشُرُه بالضم بَشْرًا، وبُشُورا، وبِشْرًا، وبَشَرَهُ به بَشْرًا.. وبَشرَ يَبْشُرُ بَشْرًا وبُشُورًا) وانظر: "الصحاح" ٢/ ٥٩٠ (بشر).
(٣) قال الفرَّاء في "معاني القرآن" ١/ ٢١٢: (وكأن المشَدَّد على: بِشارات البُشَراء، وكأن التخفيف من وجهة الإفراح والسرور، وهذا شيء كان المشيخة يقولونه).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، (د)، ومن "الحجة" للفارسي.
(٥) لم أقف على قول ابن زيد فيما رجعت إليه من مصادر، ويبدو أن هذا قول أبي الحسن (الأخفش)، كما في "الحجة" للفارسي ٣/ ٣٧، ونصه: (قال أبو الحسن: في (يبشر) ثلاث لغات:..) وذكر ما دُوِّنَ أعلاه، ثم بعدها نقل الفارسي قولًا آخر لأبي زيد مغاير لما هنا، فقال: (قال أبو زيد..).
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٣٣٨ (بشر).
222
وقال أهل اللغة (١): أصل معنى (البَشْرِ): إصابة البَشَرَةِ يقال: (بَشَرتُ الأديمَ) (٢): إذا أخذتُ بَشَرَتَه بشَفْرةٍ، و (بَشَرَ الجرادُ الأرض): إذا أكلَ ما عليها، [فأخذ بَشَرَتها (٣)، فاستُعمِلَ هذا في إيراد الخبرِ (٤) السَّارِّ؛ لأنه يصيب البَشَرَة بالهَشاشَةِ (٥)] (٦).
وقال الزجَّاج (٧):
معنى ﴿يُبَشِّرُكَ﴾ (٨) بالتخفيف: يسُرُّكَ، ويُفرِحُكَ، يقال: (بَشَرْتُ
(١) انظر (بشر) في "إصلاح المنطق" ص٢١ - ٢٢، ٤١، ٢٧٧، و"الجمهرة" ص٣١٠، "تهذيب اللغة" ١/ ٣٣٨، "الصحاح" ٢/ ٥٩٠، "مقاييس اللغة" ١/ ٢٥١.
(٢) الأديم هنا: الجلد. انظر القاموس (أدم) ص ١٠٧٤.
(٣) أخذ بشرتها؛ أي: أكل ما ظهر من نباتها، فجعل ظاهر الأرض كأنه بشرة لها.
(٤) في (د): هذا إيراد في الخبر.
(٥) الهَشَاشة والهَشَاشُ: الارتياح، والخفَّةُ، والنشاط، يقال: (هَشِشْتُ إليه، أهَشُ، هَشاشة): إذا خففت إليه، وارتحت له. انظر: "إصلاح المنطق" ٢٠٠، "القاموس المحيط" ٦١٠ (هش).
(٦) ما بين المعقوفين زياد من: (ج) (د).
(٧) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٠٥. ولكن النصَّ في "معاني القرآن" المطبوع المتداول يختلف بعض اختلافٍ في ضبط الكلمات عمَّا أورده الواحدي، ونصه في "معاني القرآن" (ومعنى: يُبْشرك: يسرك ويفرحك، يقال: بَشَّرتُ الرجلَ أبَشِّرُه، وأبْشُرُه: إذا أفرحته، ويقال: بَشُرَ الرجل يَبْشرُ)، وما أورده المؤلف مطابق لما فى "تهذيب اللغة" ١/ ٣٣٨ (بشر)، وأورده كذلك ابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٣٨٢، وصاحب "اللسان" ١/ ٢٨٧ (بشر) مما يعني أن يكون الأزهري، والواحدي، قد نقلا من نسخة أخرى غير المعتمدة في المطبوعة، أو يكون الواحدي، نقل النص عن الأزهري، وهو ما أرجحه؛ نظرًا لأن "التهذيب" من مصادره الأساسية، التي اعتمد عليها كثيرًا.
(٨) في (أ): يَبْشِرُكَ أما بقية النسخ فقد أهملت حركاتها. وفي "معاني القرآن" المطبوع =
223
الرَّجُلَ، أبْشُره): إذا أفرحته، فـ (بَشِرَ (١)، يَبْشَرُ): إذا فرِحَ.
وقال ابن الأعرابي (٢): (بَشِرتُ بكذا، وأبْشَرْتُ به) أي: فرحت (٣)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ﴾ [فصلت: ٣٠].
وقوله تعالى: ﴿بِيَحْيَى﴾. (يحيى) (٤)، لا ينصرف، عَربيّاً كان، أو عجمِيًّا (٥): لأنه إن كان عجميَّا: فقد اجتمع فيه العُجْمةُ والتعريف، وإن كان عربيًّا: لا (٦) ينصرف؛ لِشِبهه (٧) بالفعل، وأنه معرفة.
قال المفسرون: سمَّاه الله تعالى بهذا الاسم قبل مولده (٨).
قال الحسين (٩) بن الفضل (١٠): إنَّما سُمِّيَ
= يُبشرك. وما أثبتُه هو ما استصوبته، وهو موافق لما في "زاد المسير" حيث ضبط الحركات بالحروف، "اللسان"؛ لأن الواحدي أراد أن يبين معنى القراءة بالتخفيف (يَبْشُرُكَ)، وما في "معاني القرآن" المطبوع لا استبعد الخطأ المطبعي في ضبط حركتها.
(١) في (أ): (فبَشُرَ) وهو موافق لما في "معاني القرآن". وما أثبتُّه يوافق ما في "تهذيب اللغة"، "اللسان" وبقية مصادر اللغة، ولم أعثر على (بَشُرَ) في معاجم اللغة.
(٢) قوله في "تهذيب اللغة" ١/ ٣٣٨، وهو ما أشار إليه المؤلف سابقًا.
(٣) نقله المؤلف باختصار، ونصه: (يقال: (بَشَرْتُهُ، وبَشَّرْتُهُ، وبَشِرْتُهُ، وأبْشَرته). قال: (وبَشِرْتُ بكذا، وبَشرْت وأبشرْت): إذا فرحتَ به.
(٤) من قوله: (يحيى..) إلى (.. وأنه معرفة): نقله بتصرف عن "معاني القرآن" للزجَّاج ١/ ٤٠٦.
(٥) في (ج)، و"معاني القرآن": (أعجميا).
(٦) في (ج)، "معاني القرآن": (لم).
(٧) في (د): لتشبيهه.
(٨) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٢، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٢، "النكت والعيون" ١/ ٣٨٩ - ٣٩٠.
(٩) في (ج): (الحسن).
(١٠) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٦ أ، وانظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب ٢٦٩ - ٢٧٠. وهو: أبو علي، الحسين بن الفضل بن عمير بن كَيْسان البجَلِي، تقدم.
224
(يَحْيى) (١)، لأن الله [تعالى] (٢) أحياه بالطاعة، حتى لم يَعْصِ، ولم يَهم بمعصية. فمعنى (يحيى): أنه يعيش مطيعاً لله عمره، ألا ترى أنَّ الكافر يُسمَّى (مَيْتاً)؛ قال الله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢]، قيل في تفسيره: ضالاً فهديناه (٣).
وقوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾. نصب على الحال؛ لأنه نكرة، و (يَحيى) معرفة.
قال ابن عباس (٤): يريد: مُصدِّقاً بعيسى أنه روح الله، وكلمته.
وسُمِّيَ (عيسى) كلمةُ الله؛ لأنه حدث عند قوله: ﴿كُن﴾، فوقع عليه اسم (الكلمة)؛ لأنه بها كان.
قال المفسرون: وكان (يحيى) أول من آمن بـ (عيسى) عليهما السلام، وصدَّقه، وكان (يحيى) أكبر من (عيسى) (٥).
(١) في (د): (بيحيى).
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من (د).
(٣) وهذا قول: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدِّي، وابن زيد، وعكرمة، وغيرهم. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢١ - ٢٤، "الدر المنثور" ٣/ ٨١.
(٤) الأثر عنه في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٥١، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٨٧، "الدر المنثور" ٢/ ٣٨، ونسب إخراجه كذلك للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. وهو قول مجاهد، والرقاشي، وقتادة، والربيع، والسدي، والضحاك. انظر المصادر السابقة.
وذهب أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٩١ إلى أن (كلمة الله): كتاب الله، كما تقول العرب للرجل: (أنشدني كلمة كذا وكذا)؛ أي: قصيدة فلان، وإن طالت. وأنكر عليه الطبري ذلك إنكارًا شديدًا، وردَّه انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٤.
(٥) قال به ابن عباس، والربيع، والضحاك. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٠ - ٢٥٣، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٦ ب.
225
قوله تعالى: ﴿وَسَيِّدًا﴾. (السَّيِّد) من باب: (الصَّيِّب)، و (المَيِّت). وقد ذكرنا ما فيهما (١). ويقال (٢): (سادَ فلانٌ قومَه، يَسُودُهم، سُؤْدَداً، وسِيادَةً): إذا صار رئيسهم (٣).
قال أبو (٤) إسحاق (٥): (السيِّد): الذي يفوق في الخير قومَه.
وقال بعض أهل اللغة: (السيد): المالك الذي (٦) يجب (٧) طاعته؛ ولهذا يقال: (سيِّد الغلام)، ولا يقال: سيِّد الثوب.
سَلَمَة (٨) عن الفرَّاء (٩): (السيِّد): المالك (١٠)، و (السيِّد): الرئيس، و (السيِّد): الحليم، و (السيِّد): السَّخي، و (السيِّد): الزوج، ومنه قوله:
(١) في (ج): فيها. وانظر: "تفسير البسيط" تح: د. الفوزان، عند آية: ١٩ من سورة البقرة وانظر ما سبق عند تفسير آية: ٢٧ من سورة آل عمران. ويعني: أن (سَيِّد)، أصلها: (سَيْوِد)، مثل: (صَيِّب)، و (مَيّيت) حيث إنَّا أصلهما: (صيْوِب) و (مَيْوِت). انظر بيان هذه المسألة، والخلاف فيها، في "كتاب سيبويه" ٤/ ٣٦٥، "سر صناعة الإعراب" ١٥٣، ٥٨٥، "الإنصاف" ص ٦٢٤ - ٦٢٥، وقد سبق الإشارة إلى ذلك عند تفسير آية: ٢٧ من سورة آل عمران.
(٢) (ويقال): ساقطة من (ج).
(٣) وفي لغة طيىء: (سُؤْود) بضم الدال، وورد من مصادره: (سَيْدُودَة). انظر (سود) في: العين، للخليل: ٧/ ٢٨١، "الصحاح" ٢/ ٤٩٠، "اللسان" ٤/ ٢١٤٤.
(٤) في (ب): ابن.
(٥) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٠٦.
(٦) من قوله: (الذي..) إلى (.. والسيد الرئيس): ساقط من (د).
(٧) في (ج): (تجب).
(٨) هو: أبو محمد، سَلَمَة بن عاصم. تقدم.
(٩) قوله في "تهذيب اللغة" ١٣/ ٣٥.
(١٠) في "التهذيب" "اللسان" (سود): الملك.
226
﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا﴾ [يوسف: ٢٥]، [أي: زوجها] (١).
وقال أبو خيرة (٢): سُمِّيَ (سَيِّدا)، لأنه يَسُودُ سَوادَ الناسِ، أي: عُظْمَهم (٣). هذا قول أهل اللغة في معنى (السيِّد).
فأما أهل (٤) التفسير: فقال ابن عباس (٥): السَّيِّد: الكريم على رَبِّهِ عز وجل. وقال قتادة (٦): السيِّد، هو: العابد، الورع، الحليم. وقال عِكرمَة (٧): السيد: الذي لا يغلبه غضبُهْ.
(١) ما بين المعقوفين زيادة من (ج) (د)، ومن "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٩٠. وانظر في تفسير (سيِّدها) بـ (زوجها) "تفسير البيضاوي" ص ٢٤٣، "تفسير أبي السعود" ٤/ ٢٦٧، "فتح القدير" ٣/ ٢٧.
(٢) في (د): أبو حيوة. وقوله في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٩٠، "اللسان" ٤/ ٢١٤٤ - ٢١٤٥. وأبو خيرة، هو: نهشل بن زيد البصري. أعرابي بَدَوي من بني عَدِيّ، دخل الحاضرة، وأخذ عنه الناس، وصنف في الغريب كتبا. انظر: "الفهرست" ص ٧٢، "إنباه الرواة" ٤/ ١١٧، "معجم الأدباء" ١٩/ ٢٤٣، "بغية الوعاة" ٢/ ٣١٧.
(٣) في "تهذيب اللغة" معظمهم. و (عُظْمهم): أكثرهم، ومعظمهم. انظر: "الصحاح" ٥/ ١٩٨٧ (عظم).
(٤) (أهل): ساقطة من: (ب).
(٥) لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد أورده ابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٣٨٣، وهو قول مجاهد، والرقاشي. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٤، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٣، "البغوي" ٢/ ٣٤، "الدر المنثور" ٢/ ٣٨ أورده عن مجاهد ونسب إخراجه كذلك إلى عبد بن حميد. والوارد عن ابن عباس، تفسيره بـ (الحليم النقي)؛ كما في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٤، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٢، "زاد المسير" ١/ ٣٨٣، "الدر المنثور" ٢/ ٣٩، ونسب إخراجه كذلك لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن عساكر.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٤، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٢، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٩٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٧ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٣٤.
(٧) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٥، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٢، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٩٠، "الدر المنثور" ٢/ ٣٩، وزاد نسبته لابن أبي الدنيا في "ذم الغضب".
227
وقوله تعالى: ﴿وَحَصُورًا﴾ (الحَصْرُ) في اللغة: الحَبْسُ (١). يقال: (حَصَرَه، يَحْصُرُه، حَصْراً). و (حُصِرَ الرجلُ): إذا اعتُقِل بطنه (٢)، و (حَصرَ (٣) الرجلُ عن النساء)، فهو (حَصُورٌ).
والحَصُورُ: الضَّيِّقُ (٤)، البخيل، الذي يمنع مالَهُ، فلا يُخرِجُ مع النَّدامى (٥) شيئاً للشراب (٦)، ومنه:
لا بالحَصُورِ ولا فيها بِسَوَّارِ (٧)
(١) قال ابن فارس في "مقاييس اللغة": (الحاء، والصاد، والراء؛ أصل واحدة وهو: الجمع والحبس والمنع ٢/ ٧٢ (حصر). وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي: ٣٤، "الصحاح" ٢/ ٦٣٠ - ٦٣٢، وما سيأتي من مراجع.
(٢) في "الصحاح" (والحُصْرُ بالضم: اعتقال البطن، تقول فيه: (حُصِرَ الرجل)، وَ (أُحْصِرَ)، على ما لم يُسمَّ فاعِلُه) ٢/ ٣٦٢ (حصر).
(٣) ورد ضبطها في "تهذيب اللغة" (حُصِرَ)، حيث قال: (ورجل حَصُورٌ: إذا حُصِرَ عن النساء..) ١/ ٨٣٨، وانظر ١/ ٨٣٩، وكذا ورد في "اللسان" ٢/ ٨٩٦ (حصر). ولكن ورد في "الصحاح" (وكل من امتنع عن شيء، فلم يقدر عليه، فقد حَصِرَ عنه، ولهذا قيِل: (حَصِرَ في القراءة)، و (حَصِرَ عن أهله) ٢/ ٦٣١ (حصر).
(٤) من قوله: (الضيق..) إلى (.. ولا فيها بسوار): ساقط من: (ب).
(٥) النَّدامى هنا: هم الذي يجتمعون على الشراب، وهذا هو الأصل فيها، ثم استعملت في كل اجتماع للمسامرة. يقال: (نادمه على الشراب، مُنادمة، ونِدامًا). والمفرد: نَدِيم، ونَدْمان. والجمع: نَدامى، ونُدَماء، ونِدام. انظر (ندم) في "أساس البلاغة" ٢/ ٤٣٢، "التاج" ١٧/ ٦٨٣.
(٦) انظر: "التهذيب" ١/ ٨٣٨ (حصر). وقال ابن سيده في: "المخصص": ١٤/ ٢٥: (والحَصير.. الذي لا يشرب مع القوم لبخله، وهو الحَصور)، وكذا ورد في "مجالس ثعلب" ٥٠٩.
(٧) قوله: (فيها بسوار): بياض في: (د). وهذا عجز بيت وصدره:
وشاربٍ مُربح بالكأس نادمني
228
و (الحَصور)، و (الحَصِرُ) أيضاً: الذي يكتم السِّرَّ، ويحبسه في نفسه.
قال جرير:
ولقَدْ تَسَقَطني الوُشاةُ فصادفوا... حَصِرًا بِسِرِّكِ (١) يا أمَيْمَ ضَنينا (٢)
= وهو للأخطل، في شعره ١٦٨، كما ورد منسوبًا له في أغلب المصادر التالية: "مجاز القرآن" ١/ ٩٢، "طبقات فحول الشعراء" ٥٠١، "مجالس ثعلب" ٣١٥، ٥٠٩، "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٠٧، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٥، "القطع والاستئناف" للنحاس: ٢٢٣، "جمهرة أشعار العرب" ص ٣٢٨، "تهذيب اللغة" ١/ ٨٣٨ (حصر)، "المحتسب" ٢/ ٢٤١، "الصحاح" ٢/ ٦٣١ (حصر)، "مقاييس اللغة" ٣/ ١١٥ (حصر)، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٨ أ، "والمخصص": ١٤/ ٢٥، "تفسير القرطبي" ٣/ ١٥٨، "اللسان" ٢/ ٨٩٦ (حصر)، ٤/ ٢١٤٧ (سور). وورد في "مجالس ثعلب" برواية أخرى، وذكرها ابن جني في "المحتسب" (.. ولا فيها بسآر) بتشديد الألف الممدودة، وقال ابن جني: (وأجود الروايتين: (بسَوَّار)؛ أي: بمعربد)، وفي "القطع والائتناف" (وصاحب مربح..). ومعنى (مُرْبح)؛ أي: يصف نديمه في الشراب، بأنه يُربح بائعها، ولا يبالي بأن يشتريها بثمن غالٍ، وهو هنا يمدحه بحب اللهْو والكرم، أو تكون (مربح) من: أرْبَح الرجلُ: إذا نحر لأضيافه (الرَّبَح)، وهي الفصلان الصغار. وقوله: (لا بالحصور)؛ أي: ليس بخيلا ممسكا. ومعنى: (ولا فيها بسوَّار)؛ السَّوَّار: الذي تَسُورُ وتدبُّ الخمرُ في رأسه سريعًا، فتثب به وثْبَ المُعَرْبِد على من يُشارِبُه. أما الرواية الثانية (ولا فيها بسآر)؛ أي: لا يبقى في الإناء سُؤْرًا، أي: بقية، بل يشتفُّهُ كلَّه. انظر: "اللسان" ٣/ ١٥٥٣ (ربح)، ٢/ ٨٩٦ (حصر)، ٤/ ٢١٤٧ (سور).
(١) في (ج)، (د): (يسرك).
(٢) في نسخة (ب) دمج بيت الأخطل مع بيت جرير، كالتالي:
لا بالحصر ولا عنها بسوار... بسرك يا أميم ضنينا
وقد ورد بيت جرير، في "ديوانه": ٤٧٦. كما ورد منسوبًا له في: "مجاز القرآن" ١/ ٩٢، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٥، "معاني القرآن" للزجَّاج١/ ٤٠٧، "تهذيب اللغة" ١/ ٨٣٩، "معجم مقاييس اللغة" ٢/ ٧٣، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٨ أ، =
229
قال ابن قتيبة (١): الحَصُور: الذي لا يأتي النساء، وهو (فَعُولٌ) بمعنى: (مفعول)؛ كأنه (٢) محصور عنهن، أي: مأخوذ (٣)، محبوس (٤)، ومثله: (رَكوب)، بمعنى: مَرْكُوب (٥)، و (حَلوب)، بمعنى: مَحْلُوب (٦). ويجوز أن يكون (فَعُولاً) بمعنى: (فاعل)؛ يعني: أنه حَصَرَ نفسه عن الشهوات.
وجميع المفسرين: على أن (الحَصُور) ههنا: الذي لا يأتي النساءَ، ولا يقربهن (٧).
= "والمخصص": ٣/ ٢٠، "اللسان" ٢/ ٨٩٦ (حصر)، ٤/ ٢٠٣٨ (سقط). وورد عند الطبري: (تَساقَطَني)، وفي "اللسان" ٤/ ٢٠٣٨: (.. حَجِئًا بسِرِّك). و (تَسَقَّطه)، و (استسقطه)، و (تساقطه)؛ بمعنى: طلب سَقَطَه، أي: خطأه وعثرته، وعالجه على أن يخطئ، وفي البيت: عالجه على أن يسقط فيخطئ أو يبوح بما عنده. أما في الرواية الثانية: (.. حجئا بسرك)؛ أي: مستمسكًا به، من قولهم: (حَجِئَ بالشيء، وحَجَأ به، حَجْأ)؛ أي: تمسك به ولزمه. ومعنى (الضَّنِين): البخيل، الحريص على الشيء. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٠٣٨ (سقط)، ٢/ ٧٧٧ (حجأ)، "القاموس" ١٢١٢ (ضنن).
(١) في "تفسير غريب القرآن" له ٩٩، نقله مع اختصار قليل.
(٢) في (ج): (فكأنه)، وفي (د): (وكأنه).
(٣) في (د): (أحود).
(٤) قال ابن قتيبة بعدها: (وأصل الحصر: الحبس).
(٥) (بمعنى مركوب): ساقط من: (ج) (د).
(٦) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٣٩٤.
(٧) وهو قول: ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وابن جبير، وقتادة، وعطاء، وأبي الشعثاء، والحسن، والسدي، وابن زيد، وعطية العوفي انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٣، ٦٤٤، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٨ أ، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٨٧، "تفسير القرطبي" ٤/ ٧٨.
230
قال ابن عباس: هو الذي لا يجامع النساءَ، إنما له فَرْجٌ كفَرْجِ الصَّبِيِّ الصغير (١) وقال سعيد بن المُسَيِّب (٢): هو العِنِّين.
وروي عن النبي - ﷺ -، أنه ذكر يحيى بن زكريا ثم أهوى بيده إلى قَذَاةٍ (٣) من الأرض فأخذها، وقال: "كان ذَكَرُهُ مثلَ هذه القذاةِ" (٤).
(١) الذي في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٣: (عن ابن عباس، قال: الحصور: الذي لا يأتي النساء.)، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٣٩، ونسب إخراجه إلى عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن عساكر.
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٨ أ. وقد تقدمت ترجمته.
(٣) القذاة: هي الشيء الصغير جدًّا، مما يقع على العين والماء والشراب؛ من تراب، أو تُبْن، أو وسخ، أو غير ذلك. وجمعها: (قَذُى)، وجمع الجمع: (أقْذاء). انظر: "اللسان" ٦/ ٣٥٦٢ (قذى).
(٤) الحديث: أخرجه الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٥٥، بسنده عن سعيد بن المسيب، عن ابن العاص إما عبد الله أو أبيه، من طرق مختلفة، مرفوعًا وموقوفًا، وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٦٤٣ عن ابن المسيب عن ابن العاص مرفوعًا وموقوفًا، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٧٣، وقال: (صحيح على شرط مسلم)، ووافقه الذهبي، وأورد ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٣٨٧ رواية ابن أبي حاتم المرفوعة والموقوفة، وقال عن المرفوعة: إنها غريبة جدًّا، وقال عن الموقوفة: (فهذا موقوف، أصح إسنادًا من المرفوع)، وقال: (رواه ابن المنذر في "تفسيره" من طريق آخر عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص). وأخرجه ابن أبي حاتم والثعلبي في تفسيريهما عن أبي هريرة مرفوعًا. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٣، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٨ أ. وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٣٩، ونسب إخراجه كذلك إلى ابن المنذر وابن عساكر، وقال: (وأخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد في: "الزهد" وابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن أبي هريرة من وجه آخر عن ابن عمرو، موقوفًا، وهو أقوى إسنادًا من المرفوع). وقد نقل ابن كثير بعد أن أورد بعضًا من هذه الآثار قولَ القاضي عياض حولها، ونصه كما في (الشفاء): (فاعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى بأنه حصُورٌ، ليس كما قال بعضهم: إنه كان =
231
فعلى هذا القول: (الحَصور)، بمعنى: (المحصور)، وهو الذي حُصر عنهن، على (١) قول الجمهور، وهو (فَعُول) بمعنى (فاعل)؛ لأنه حَبَس نفسه عنهن. وقد استقصينا هذا الحرف عند قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ [البقرة: ١٩٦].
٤٠ - قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ ذهب كثير من
= هَيُوبا [أي: يهاب الفعل المعروف]، أو لا ذَكَر له، بل قد أنكر هذا حذَّاق المفسرين، ونقَّاد العلماء، وقالوا: هذه نَقيصةٌ وعيب، ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه: أنه معصوم من الذنوب؛ أي: لا يأتيها، كأنه حُصِر عنها، وقيل: مانعا نفسه من الشهوات، وقيل: ليست له شهوة في النساء. فقد بان لك من هذا؛ أنَّ عدم القدرة على النكاح، نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة، ثمَّ قمْعُها؛ إمَّا بمجاهدة، كـ (عيسى) عليه السلام، أو بكفاية من الله تعالى كـ (يحيى) عليه السلام فضيلة زائدة؛ لكونها مُشْغلةً في كثير من الأوقات، حاطَّةً إلى الدنيا؛ ثم هي في حقِّ من أقْدِر عليها، ومُلِّكَها، وقام بالواجب فيها، ولم يشغله عن ربه درجةٌ علياء، وهي درجة نبينا - ﷺ - الذي لم تشغله كثرتُهُنَّ عن عبادة ربِّه؛ بل زاده ذلك عبادة؛ لتحصينهنَّ، وقيامه بحقوقهنَّ، واكتسابه لهنَّ، وهدايته إيَّاهن؛ بل صرَّح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره) ثم ساق القاضي عياض الأدلة على ذلك. انظر: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض: ص ٨٨. ثم يقول ابن كثير: (والمقصود، أنه مَدْح ليحيى بأنه حَصُورٌ، ليس أنه لا يأتي النساء؛ بل معناه:.. أنه حصور عن الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال، وغشيانهنَّ، وإيلادهنَّ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم، حيث قال: ﴿هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ كأنه قال: ولدا لهُ ذرية ونسل وعَقِب. والله سبحانه وتعالى أعلم). "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٨٨. وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٨/ ٤٠ وقال بأنه (اختيار المحققين)، "غرائب القرآن" للنيسابوري ٣/ ١٨٣، "تفسير الخازن" ١/ ٢٨٩.
(١) في (ج): (وعلى).
232
المفسرين إلى أن زكريَّا خاطب بهذا جبريل عليه السلام، فقال: (رَبِّ)؛ أي: يا سيِّدي (١). وذهب جماعة إلى أنه خاطب الله تعالى (٢).
وقوله: ﴿أَنَّى يَكُونُ﴾ إنْ قيل: كيف أنكر زكريَّا الولدَ مع تبشير الملائكة إيَّاه به؟ وما معنى هذه المراجعة؟ ولِمَ عجب (٣) من ذلك بعد إخبار الله تعالى بأنه يكون، إذ يقول عز وجل: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾؟ فالقول في ذلك: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي﴾ (٤) أن معنى قوله ﴿أَنَّى يَكُونُ﴾ على أيِّ حالٍ يكون ذلك؛ أيَرُدُّني إلى حال الشباب، وامرأتي؟ أم من حال الكِبَرِ؟. فقال ما قال من هذا مستثْبِتاً، ومستعْلِماً، لا متعجباً، ولا منكِراً (٥).
والغُلامُ: الشابُّ من الناس. وأصله من (الغُلْمَةِ). و (الاغتلام)؛ وهو: شِدَّة طَلبِ النِّكاح. ويقال: (غُلامٌ بّيِّن (٦) الغُلُومِيَّةِ، والغُلُومَةِ، والغُلامِيَّةِ) (٧).
(١) وهذا قول الكلبي، كما في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٨ ب، وقال الثعلبي بأنه قول أكثر المفسرين، "تفسير القرطبي" ٤/ ٧٩، وانظر: "الخازن" ١/ ٢٩٠.
(٢) وهو الظاهر من الآية.
(٣) في (ج): (اعجب).
(٤) (لي): ساقطة من (ج)، (د).
(٥) وممن قال بهذا: الحسن، وابن كيسان، وابن الأنباري. انظر: "زاد المسير" ١/ ٣٨٤. وقيل: بأي منزلة أستَوْجِبُ هذا؟ قاله على سبيل التواضع لله، والشكر له، والاستعظام لقدرته تعالى التي لا يعجزها شيء. انظر: "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٣٩٥، "النكت والعيون" ١/ ٣٩١، "غرائب القرآن" ٣/ ١٨٤، و"أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل" للرازي ٦١.
(٦) في (د): (من).
(٧) انظر كتاب "خلق الإنسان" ١١، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٩١ (غلم)، "الصحاح" ٥/ ١٧٩٧ (غلم).
233
قال الفرَّاء (١): والعرب تجعل مصدرَ كلِّ اسمٍ ليس له فعلٌ (٢) معروف على هذا المثال. فتقول: (هذا [عبدٌ] (٣) بَيِّن (٤) العبودية، والعبدِيَّةِ (٥)، والعبودَةِ).
وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾. (الكِبَرُ)، مصدرُ: (كَبِرَ الرجلُ، يَكْبَرُ): إذا أسَنَّ (٦).
قال أهل المعاني (٧): معنى ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾: وقد بَلَغتُ الكِبَرَ؛ وذلك أن كلَّ (٨) شيءٍ صادَفْته وبلغته، فقد صادفك وبلغك. وكان نسبةُ الفعلِ إلى الكبر، كنسبته (٩) إلى الرجل؛ يدل على هذا قولُ العرب: (تلقَّيْتُ الحائطَ)، و (تلقَّاني (١٠) الحائطُ).
(١) لم أهتد إلى مصدر قوله، وقد ورد بعضه في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٠١ (عبد) ونصُّه: (وقال الفرَّاء: يقال: فلان عبدٌ بيِّن العبودة، والعبودية، والعبدية).
(٢) (فعل): ساقط من: (ب).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(٤) في (أ)، (ب): (من)، والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٠١.
(٥) (والعبدية): ساقط من: (ج)، (د).
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٧، "القاموس المحيط" ص ٤٦٨ (كبر). والقياس أنَّ (فَعِلَ) من الثلاثي المجرد، يأتي مضارعها على (يَفْعَلُ). انظر: "المزهر" ٢/ ٣٧. أما (كَبُرَ، يَكْبُرُ)، فهي إذا ما أردت عِظَمَ الشيءِ والأمرِ، فهي مثل: (عَظُمَ، يعظُمُ). انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٠٩٠ - ٣٠٩١ (كبر).
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٠٨، "مجاز القرآن" ١/ ٩٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٨ ب.
(٨) من قوله: (كل..) إلى (.. وبلغك): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٠٨.
(٩) في (أ): (كنسبة)، والمثبت من بقية النسخ.
(١٠) في (ج): (فتلقاني).
234
فإن قيل: أيجوز (١) (بلغني البلدُ) في موضع (بلغْتُ البلدَ)؟ قيل: إنما جاز في الكِبَرِ؛ لأن الكبَر بمنزلة الطالب، فهو يأتيه بحدوثه (٢) فيه، والإنسان (٣) أيضاً يأتيه بمرور السنين عليه، ولا يجوز مثل ذلك في البلد، وليس الكبَر بمنزلة البلد، إنما هو بمنزلة: القول، والعطاء، والإفضال (٤)، والعقاب؛ فكما يجوز: (بلغني عطاؤك)، و (بلَغَتْ زيداً (٥) جائزتُكَ)، (وبلغ عبدَ اللهِ عقابُكَ)، جاز أن يكون (٦) البلوغُ منسوباً (٧) إلى الكِبَر (٨).
قال ابن عباس في رواية الضحاك (٩): كان زكريا يوم بُشِّر بالولد ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمانٍ وتسعين سنةً.
وقوله تعالى: ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾. العاقِر (١٠) من النساء: التي لا تلد. يقال: (عَقُرَت، تعْقُرُ، عُقْراً، وعَقارةً) (١١).
أنشد الفراء:
(١) في (ج): (تحوز)، وفي: (د) (لا يجوز).
(٢) من قوله: (بحدوثه..) على: (.. أيضًا يأتيه): ساقط من (ج).
(٣) في (د): (والإنصاف).
(٤) في (د): (والاتصال).
(٥) في (ج): (زيد).
(٦) (أن يكون): ساقط من (ج).
(٧) في (أ)، (ب): (منصوبًا)، والمثبت من: (ج)، (د).
(٨) انظر: "تأويل مشكل القرآن" ١٩٣ - ١٩٨، فقد جعل هذا من المقلوب، وهو أن يقدم ما يوضحه التأخير، ويؤخر ما يوضحه التقديم.
(٩) الأثر في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٨ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٣٥، "زاد المسير" ١/ ٣٨٥.
(١٠) (العاقر): ساقطة من (د).
(١١) في (ب): (وعقارا).
235
إرْزامَ نابٍ عقُرت أعواماً فَعَلِقَتْ بُنَيَّها (١) تَشْماما (٢)
ويقال أيضًا: (عَقُرَ الرجلُ، وعَقَرَ، وعَقِرَ) (٣): إذا لم يُحمل له. و (رجلٌ عاقرٌ) (٤).
قال عامرُ بن الطُّفَيْل (٥):
(١) في (د): (فعقرت بنتها).
(٢) في (ج): (تسماما). لم أقف على قائله، وقد أورد الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٤٨ ب، قائلًا: (وأنشد الفراء) وذكره، وأورده السمين الحلبي في "الدر المصون" وقال: (وأنشد الفراء) وذكره. وروايته في "الدر المصون".
أرزامُ باب عقُرت أعواما فعلقت بُنَيَّها تسماما
ومعنى (الإرزام): الصوت الذي لا يُفْتَح به الفمُ، ومنه: (الرَّزَمة)، وهو: ضرب من حنِين الناقة على ولدها حين تَرأمُهُ، يقولون: (أرْزَمَت الناقةُ إرْزامًا). وقيل: هو دون الحنِين، والحنِينُ أشدُّ من الرَّزَمَةِ. و (النابُ)، و (النَّيُوب): الناقة المسنة، سُمِّيت بذلك حين طال نابها وعظُمَ.
انظر: "اللسان" ٣/ ١٦٣٧ (رزم)، ٨/ ٤٥٩١ (نيب).
أي: أنَّ هذه الناقة المسنَّة، والتي نُتِجَتْ بعد أن كان عاقرًا لمدة أعوام، فإنها تحن على وليدها، مصدرة صوتًا يدل على رحمتها، وشغفها وتعلقِّها به، ولا تنشب تَشَمُّ هذا الوليد تَشْماما المرة بعد الأخرى.
(٣) (وعقر): ساقط من (د).
(٤) انظر (عقر)، في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥١٤، "اللسان" ٥/ ٣٠٣٤. والقياس في (فَعُلَ) الثلاثي المجرد، أن يكون مضارعه (يَفْعُل). أما (فَعَلَ) من المجرد الثلاثي الصحيح، الذي عينه أو لامه ليست من حروف الحلق، فمضارعه يأتي على (يَفْعِل) و (يَفْعُل). انظر: "المزهر" ٢/ ٣٧ - ٣٨.
(٥) هو: عامر بن الطفيل بن مالك العامري. أحد فرسان العرب المشهورين، وابن عم لَبِيد الشاعر، أدرك النبي - ﷺ -، ولم يُسْلِم، وهو الذي غدر بالصحابة عند بئر معونة سنة (٤هـ)، وحاول قتل النبي فعصمه الله منه، ودعا عليه النبي - ﷺ -، فأهلكه الله. انظر: "الشعر والشعراء" ص٢٠٧، "معجم الشعراء" ٣٧، "الأعلام" ٣/ ٢٥٢.
236
لبئس الفتى إنْ كنتُ أعورَ عاقرًا جبانًا فما عذري لدى كلِّ مَحْضَرِ (١)
قال أبو إسحاق (٢): قوله: ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾، في هذا دليل على أن (عاقرًا) (٣) وقع على جهة النَّسَب (٤)؛ لأنَّ (فَعُلَت) أسماء (٥) الفاعلين فيه على (فَعِيلَة) نحو: (ظَريفة) (٦)، و (كَريمة)؛ وإنما (عاقر) على: (ذات عُقْرٍ) (٧)،
(١) البيت في: "ديوانه": ٦٤، كما ورد منسوبًا له في "مجاز القرآن" ٢/ ٩٢، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٧، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري: ١/ ٢٠٣، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٨ب، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٠٧، "تفسير القرطبي" ١١/ ٧٩، "الدر المصون" ٣/ ١٦٢. وورد غير منسوب في "الزاهر" ٢/ ٥٨٢. وروايته في الديوان: (فبئس..)، وفي "الزاهر" (.. فما أغني لدي كل مشهد)، وفي "المذكر والمؤنث" (.. فما أغني لدي كل محضر). قال الشاعر هذا البيت ضمن أبيات في وقْعَةٍ دارت في موضع يُسمَّى (فَيْفَ الريح)، وقد ذهبت عَيْنُه في هذه المعركة، فاجتمع له العَورُ والعُقْمُ، فيقول هنا: إنه بئس الفتى إن كان يجمع إلى العور والعقم، الجُبنَ، والمهابَةَ من العدو، حيث لا يُعذَر بعدها.
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٠٨، نقله عنه بنصه.
(٣) في (ب): (عاقر).
(٤) أي مما جاءت النسبة فيه على صيغة (فاعل)، مثل: تامِر، ولا بِن، وحائِك، وكاسٍ؛ بمعنى: صاحب تمْرٍ، وصاحب لبنٍ، وصاحب حياكة، وصاحب كساء. فعاقر، بمعنى: ذات عُقْر.
(٥) في (ج): (اسما)، وفي (د): (اسم).
(٦) في (أ)، (ب): (طريقة)، والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "معاني القرآن" للزجاج؛ لأن (طريقة) من: (طَرَقَ) وليست من. (طَرُقَ)، كما أن (طريقة) تأتي على (مفعولة) بمعنى (مطروقة).
(٧) في (أ): (عُقَر). وفي بقية النسخ، مهملة من الشكل. وما أثبَتُّه هو ما استصوبته. والعُقْر: العُقْم. يقول السمين الحلبي بعد أن نقل كلام الزجاج السابق: (وهذا نصٌّ من أن الفعل =
237
و (رجالٌ ونساءٌ عُقُرٌ) (١) وفي الحديث: (عُجُزٌ عُقُرٌ) (٢).
ويقال: (أعقَر اللهُ [رحِمَها]) (٣)، فهي (مُعْقَرَةٌ). و (رملٌ (٤) عاقِر): لا يُنبِت شيئاً (٥).
= المسند للمرأة، لا يقال فيه إلّا (عقرت) بضمِّ القاف، إذ لو جاز فتحها أو كسرها لجاز منها (فاعِل) من غير تأويل على النسب). "الدر المصون" ٣/ ١٦٢. ولكن ورد في "اللسان" (وقد عَقُرَت المرأة عَقارةً، وعِقارة، وعَقَرت تَعْقِر عَقْرا، وعُقْرا، وعَقِرت عَقارًا، وهي عاقر) ٥/ ٣٠٣٣ (عقر). وعليه فإنه يصح أن يأتي منها صفة مشبهة باسم الفاعل.
(١) عقر: ساقطة من (ج). و (عُقُر)، و (عُقَّر) و (عواقر)، جمع: عاقر. انظر العين: ١/ ١٥٠، "النهاية في "غريب الحديث" ٣/ ١٨٦، "اللسان" ٥/ ٣٠٣٣ (عقر).
(٢) العُجُز: جمع (عَجوز). ولم أهتد إلى مصدر الحديث بهذا اللفظ في كتب السنة. وقد أورده الخليل في: "كتاب العين" ١/ ١٥٠، وقال: وفي الحديث: "عُجْزٌ عُقُرٌ" بتسكين العَيْن في (عجز)، وورد في "النهاية في "غريب الحديث" ٣/ ١٨٦، بلفظ: "إيَّاكم والعُجُز والعُقُر"، ولم يخرِّجه. وقد وقفت على حديث آخر قريب من معنى هذا الحديث، وهو: عن عياض بن غنم الفهري، عن النبي - ﷺ -، قال: "يا عياض لا تَزَوَجَّن عجوزًا ولا عاقرا، فإني مكاثر بكم الأمم". أخرجه الحاكم في "المستدرك" ٣/ ٢٩٠ - ٢٩١. كتاب معرفة الصحابة، وصححه، وتعقبه الذهبي بأن في سنده معاوية بن يحيى الصدفي، وهو ضعيف، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" ١٧/ ٣٦٨ رقم (١٠٠٨). قال الهيثمي: (وفيه معاوية بن يحيى الصدفي، وهو ضعيف) "مجمع الزوائد" ٤/ ٢٥٨، وأورده ابن حجر في "الإصابة" ٣/ ٥٠ وضعَّفه؛ لأن في سنده عمرو بن الوليد الأغضف، وزاد نسبة إخراجه لأبي نعيم، وأورده ابن حجر الهيثمي المكي في كتاب "الإفصاح" عن أحاديث النكاح): ١٦٠.
(٣) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، وفي (ب): (امرأته)، والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "اللسان" ٥/ ٣٠٣٤ (عقر). والعبارة في (ج): (أعقرها الله رحمها)، وفي (د): (أعقر رحمها).
(٤) في (ج): (ورجل).
(٥) انظر: "اللسان" (عقر) ٥/ ٣٠٣٤.
238
وذَكر (١) زكريا عليه السلام عُقْرَ زوجته مع كِبَر نفسه؛ لزيادة ترجيحٍ في الاستبعاد، فلمَّا استفهم عن (٢) كيفيَّة حال الولادة؛ قيل له: ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾؛ أي: مثل ذلك من الأمر، وهو: هبة الله الولدَ على الكِبَر، يفعل الله (٣) الذي يشاؤه، فسبحان من لا يعجزه شيء.
٤١ - قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ قال المفسرون: إنَّ زكريا عليه السلام لمَّا بُشِّر بالولد، سأل الله تعالى علامةً يعرف بها وقت حمل امرأته؛ ليزيد في العبادة؛ شكراً (٤) على هبة الولد (٥)، فقال الله تعالى: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾. أي (٦): علامة ذلك أن تمسك (٧) لسانك عن الكلام، وأنت صحيح سَوِيٌ، لأنه قال في موضع آخر: ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ [مريم: ١٠]؛ أي: وأنت سَوِي.
(١) في (ج): (وذكرنا).
(٢) في (أ): غير مقروء، وفي (ب): (استبعد من). والمثبت من: (ج)، (د).
(٣) (الله): ليس في: (ج).
(٤) في (ب): (ذكرا).
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٩ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٣٦، "زاد المسير" ١/ ٣٨٦.
(٦) من قوله: (أي..) إلى: (أي: وأنت سوي): نقله عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٠٩.
(٧) في "معاني القرآن" للزجاج: (يُمْسَك لسانُك)، وهي الأصوب؛ لأن قوله بعدها: (وأنت صحيح سوي) لا تتناسب مع فعل (تمسك)، المبني للمعلوم، كما أن الآثار بعدها تدل على ذلك، وكذلك ما رواه الحاكم عن ابن عباس قال: (يُعتقَلُ لسانُك من غير مرض وأنت سوي) "المستدرك" ٢/ ٢٩١ كتاب التفسير. وصححه، ووافقه الذهبي. وروى عن نوف البكالي: (فختم على لسانه ثلاثة أيام ولياليهن، وهو صحيح لا يتكلم). المرجع السابق: ٢/ ٥٩١ كتاب التاريخ، وانظر: "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٨٨.
239
قال الحسنُ (١)، وقتادة (٢)، والربيع (٣): أُمسِك لسانُه ثلاثةَ أيام، فلم يقدر أن يكلم الناس إلاَّ إيماءً، وجعل ذلك علامةَ حملِ امرأتِه.
و (الرَّمْزُ): الإيماء بالشَّفَتين، والحاجِبَيْن، والعينين؛ يقال: (رَمَزَ، يَرمُزُ، وَيرْمِزُ)، ومنه قيل للفاجرة: (رامِزَةٌ)، و (رمَّازَةٌ) (٤)؛ لأنها تَرمُز وتُومِئ (٥)، ومنه الحديث: أنه (نهى عن كسب الرَّمَّازة) (٦).
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) قوله في "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٦، "تفسير البغوي" ٢/ ٣٤، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٤٠، ونسب إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(٣) قوله، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٥٩، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٠٨.
(٤) (ورمازة): ساقطة من (د).
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢١٣، "تأويل مشكل القرآن" ٤٨٩، "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٠٩، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٠، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٦٧ (رمز)، "الصحاح" ٣/ ٨٨٠ (رمز).
(٦) الحديث ورد بلفظ آخر، أخرجه البيهقي في "السنن" ٦/ ١٢٦. ولفظه عنده: (عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - ﷺ - عن ثمن الكلب، ومهر الزَّمّارة). وأخرجه البغوي في "شرح السنة" ٨/ ٢٢ - ٢٣ رقم (٢٠٣٨)، عن أبي هريرة بنحوه إلا أنه فيه (.. وكسب الزمّارة). وأخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" ١/ ٢٠٤ بنحوه وذكر محقِّقُ الكتاب في الهامش سندَ الحديث، من نسخة أخرى لكتاب "الغريب". وأورده اليزيدي في "ما اتفق لفظه واختلف معناه": ١٥٥، والأزهري في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٦٨ (زمر)، وابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" ٢٠/ ٣١٢. وفي كل المصادر السابقة ورد (الزَّمّارة) بدلا من: الرَّمّازة). وأشار البغوي، وأبو عبيد، وابن الأثير، والأزهري إلى أن الحديث رواه البعض بلفظ: (الرمّازة). وقال أبو عبيد: (قال الحجاج: (الزمّارة): الزانية.. وقال بعضهم: (الرمّازة). وهو عندي خطأ في هذا الموضع. =
240
قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾. إن (١) قيل: إذا مُنع من (٢) الكلام، واضطُرَّ إلى الإشارة، كيف يقدر على التسبيح؟ قيل (٣): إنَّ الله تعالى حبس لسانه عن التَّكلم بأمور (٤) الدنيا، وما يدور بين الناس، ولم يُحبس لسانه عن التسبيح. فكانت هذه أبلغ في الأعجوبة من أن يُمنع من (٥) كلِّ ما يجري
= أما (الرَّمَازة) في حديث آخر؛ وذلك أن معناها مأخوذ من (الرَّمْز)، وهي التي تومئ بشفتيها أو عينيها، فأي كسب لها ههنا ينهى عنه؟ ولا وجه للحديث إلا ما قال الحجاج: (الزمارة). وعقب ابنُ قتيبة على هذا الكلام بقوله: (الصواب (الرَّمازة)؛ لأن من شأن البَغِيَّ أن ترمز بعينها أو حاجبها). "تهذيب اللغة" ١٣/ ٢٠٧. وصوب الأزهريُّ قول أبي عبيد، وكذا قال البغوي: (والأصح تقديم الزاي). "شرح السنة": ٨/ ٢٣. ومن الناحية اللغوية، فإن (الزمارة) و (الرمازة) كلامها هنا بمعنى الفاجرة، إلا أن (الزَّمّارة) يُحتمل أن تكون كذلك بمعنى المرأة المُغَنِّيَة. انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٦٧، ١٥٥٥ (رمز، زمر)، وانظر قول ابن قتيبة في هامش "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ٣٤٢ نقله المحقق عن كتابه "إصلاح الغلط" مخطوط: ص ٣، فقد أسهب في بيان هذا المعنى.
وورد الحديث بلفظ: (الزمارة) في كتاب "أحاديث ذم الغناء في الميزان" لعبد الله الجديع: ٥٠ - ٥١ وعزا تخريجه للمحاملي في "الأمالي" وابن عدي، وابن طاهر في: كتاب السماع. وأورده في ص: ١٥٥ بلفظ: (أخبث الكسب كسب الزمارة)، وعزا إخراجه لابن أبي الدنيا في: "ذم الملاهي". وذكر الجديعُ إسنادَه، وحكم عليه بأنه ضعيف جدًّا.
(١) في (ج): (أي).
(٢) (من): ساقطة من: (ب).
(٣) في (ج)، (د) (فيقال).
(٤) في (ب): (بكلام).
(٥) في (د): (عن).
241
به اللسانُ (١).
وقوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ أي: صَلِّ لله تعالى. والصلاة تُسَمَّى تسبيحا (٢)، لأن الصلاة يُوَحَّد فيها الله تعالى، وُينَزَّه، ويُوصف بكلِّ ما يُبَرِّئه من السوء (٣).
و (العَشيُّ): آخر النهار، جمع (عَشِيَّة) (٤). و (الإبكار) مصدر: (أَبْكَرَ:
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٨/ ٤٤، ٢١/ ١٩١، "غرائب القرآن" ٣/ ١٨٥، "أضواء البيان" ١/ ٣٤١.
(٢) في (ج)، (د): (سبحة).
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٠٩، فقد نقل عنه المؤلفُ بعض العبارات في تفسيرالتسبيح.
قال الراغبُ: (والتسبيح تنزيه الله تعالى. وأصله: المرُّ السريع في عبادة الله تعالى.. وجُعِل التسبيح عامًّا في العبادات، قولًا كان، أو فعلًا، أو نِيَّة). "مفردات ألفاظ القرآن" ٣٩٢ (سبح). وتفسير التسبيح هنا بالصلاة، قال به مجاهد، ومقاتل. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٦، "زاد المسير" ١/ ٣٨٦.
(٤) قال الخليل: (العَشيُّ: آخر النهار. فإذا قلت: (عَشيَّة) فهي ليوم واحد، تقول: (لقيته عَشِيَّة يوم كذا)، و (عشِيَّة من العشيَّات". كتاب "العين": ٢/ ١٨٨ (عشى). وفي "القاموس" (والعشيُّ، والعَشيَّة: آخر النهار، والجمع: عَشايا، وعَشِيَّات) ص ١٣١١ (عشا). وعند الراغب: أنَّ العشي من زوال الشمس إلى الصباح. وعند الطبري: أن العشي من زوال الشمس إلى المغيب. وقال السمين الحلبي عن هذا القول: (هو المعروف). وعند الجوهري: أن العشي (من صلاة المغرب إلى العتمة، تقول: أتيته عشيَّ أمس، وعشيَّة أمس). انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٢، "الصحاح" للجوهري ٦/ ٢٤٢٦ (عشا)، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب ٥٦٧ (عشا)، "الدر المصون" ٣/ ١٦٧، "تاج العروس" ١٩/ ٦٧٧ (عشا).
242
إذا صار في وقت البُكرة (١)، أو سار (٢) فيه، ومثله: (بَكَر)، و (ابتَكَر) (٣)، و (بَكَّر)، قال عمر بن (٤) أبي ربيعة:
أمِنْ آل نُعْمٍ أنت غادٍ (٥) فَمُبْكِرُ (٦)
وقال أيضًا:
أيُّها الرائِحُ المُجِدُّ ابتكارا (٧)
(١) البكرة: هي أول النهار. انظر: "عمدة الحفاظ" للحلبي ٥٩ (بكر) وقال: (وقد اشتُق منها لفظ الفعل، فقيل: (بكر فلان في حاجته)؛ أي: خرج بُكرَة والبُكور: الخروج بُكرة، والبَكور بالفتح: المبالغ في البكور. ولتَقَدُّمِها على سائر أوقات النهار؛ استعمل منها كلّ متعجل، وإن لم يكن في ذلك الوقت، فقيل: بَكر فلان في حاجته، وابتكر، وباكر مُباكرةً).
(٢) في (ب): (صار).
(٣) في (د): (فابتكر).
(٤) في (د): (عمرو ابن).
(٥) في (أ)، (ب): (حا)، في (د): (عاد). والمثبت من: (ج) لموافقته للديوان، وبقية المصادر.
(٦) في (ج): (فمنكر)، وفي (د): (فمسكر). البيت في: "ديوانه" ٩٢. وورد في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٢، "المحرر الوجيز" ٣/ ١١١. وتمامه:
غَداةَ غدٍ أمْ رائحٌ فَمُهَجِّرُ
و (نُعْم): امرأة من قريش من بني جمَح. و (غادٍ)؛ أي: سائر في وقت الغَداة، وهو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، وأراد أول النهار. و (مُبْكِر)، من (التبكير)، وهو: الخروج بُكرةً، وهو: أول النهار. و (مُهَجِّرُ)، من التهجيِر؛ أي: السير في وقت الهاجرة، وهو: نصف النهار، عند زوال الشمس، حال اشتداد الحرِّ. انظر: "القاموس" ص ٣٥٢ (بكر)، ص ١٣١٧ (غدو)، ص ٤٩٥ (هجر).
(٧) من الشعر المنسوب لعمر بن أبي ربيعة. انظر: "ديوانه" ٤٩٣ وتمامه:
قَدْ قَضى مِن تِهامة الأوطارا
243
وقال زُهير:
بَكَرَنَ بُكوراً واسْتحَرْنَ بِسُحْرةٍ (١)
و (باكرت الشيء): إذا بكَّرت له، قال لَبيد:
[باكرْتُ حاجَتَها الدجاجَ بسُحرةٍ (٢)
هذا معنى (الإبكار)، ثمَّ يُسَمَّى ما بين طُلوعِ] (٣) الفجر إلى الضحى:
إبكاراً، كما يُسَمَّى: إصباحاً (٤).
٤٢ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ﴾. هذا عطف على قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ (٥)، وذكرنا العامل في ﴿إذْ﴾ هناك. وأراد
(١) في (أ): حرة (بدلا من بسحرة)، والمثبت من بقية النسخ، ومن "ديوانه": ص ١٠، وقد سبق ورود البيت عند قوله تعالى: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: ١٧].
(٢) (باكرت حاجتها الدجاج بسحرة): ساقط من (د). وهذا شطر بيت، وتمامه:
لأُعِلَّ منها حين هبَّ نيامُها
وهو في: "ديوانه": ٣١٥. وقد ورد البيت منسوبا له، في "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ٥٧٧، "تهذيب اللغة" ١/ ٣٧٦ (بكر)، "شرح القصائد العشر" للتبريزي ١٦٣، "شرح المعلقات السبع" للزوزني: ٢٤٤، "اللسان" ٣/ ١٣٢٨ (دجج)، ١/ ٣٣٢ (بكر)، ٣/ ١٨٧٩ (زهف). وروايته في "الديوان": (بادرت حاجتها)، ويروى: (بادرت لذتها)، و (أن يهب نيامها).
قال الأزهري في معناه: (أي: بادرت صقيع الديك سحرًا إلى حاجتي)، أي: حاجتي في الخمر، وأضاف الحاجة إلى الخمر اتِّساعًا؛ أي: بادرت بشربها صياح الدَّيَكة. و (لأعِلَّ منها)؛ أي: أشرب مرَّة بعد مرَّة، من (العَلَل)، وهو: الشرب مرَّة ثانية. و (حين هبَّ نيامها)؛ أي: وقت استيقاظ النيام بالسَّحَرِ، يعني: أنه ذهب بليل.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(٤) انظر المعاني السابقة، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٢، "اللسان" ١/ ٣٣٢.
(٥) فيكون العامل في ﴿إِذْ﴾، هو: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ من آية ٣٤، وإليه ذهب الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٦٣. =
244
بـ ﴿الْمَلَائِكَةِ﴾: جبريل وحده كما ذكرنا (١). وهذا كقوله: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ﴾ [النحل: ٢]، يعني: جبريل وحده (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾. أي: بما لطف لكِ [حتى] (٣) انقطعتِ إلى طاعته، وصرت متوفرة (٤) على اتباع مرضاته.
﴿وَطَهَّرَكِ﴾. قال ابن عباس (٥): أي: من ملامسة الرجال. وقيل: من الحيض، والنفاس، كانت مريم لا تحيض (٦). ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾.
قال الأكثرون (٧):
= وقيل العامل فيها: فعلٌ مُضْمَرٌ تقديره: (واذكر) ورجَّح هذا ابن عطية. انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ١١٢، "التبيان" للعكبري ص ١٨٨.
(١) (ذكرنا): ساقط من (د)، وانظر تفسير قوله تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ من آية ٣٩ من سورة آل عمران.
(٢) وهذا قول ابن عباس -رضي الله عنه-، كما في "المحرر الوجيز" ٨/ ٣٦٧، "غرائب القرآن" ٣/ ١٩٠، "تفسير أبي السعود" ٥/ ٩٥.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(٤) في (ب): (متفرغة).
(٥) لم أهتد إلى مصدر قوله، وهو مذكور في "زاد المسير" ١/ ٣٨٧.
(٦) هذا قول السدي، وعكرمة، وهو في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٧، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٩ب. وفي "زاد المسير" ١/ ٣٨٧ أنه قولٌ لابن عباس. وقال مجاهد: (جعلك طيبة إيمانًا)؛ أي: طهَّرَ دينك من الرّيَب والدَّنَسِ. انظر: "تفسير مجاهد" ١/ ١٢٧، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٤، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٧، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٤٢ وعزا إخراجه كذلك لعبد بن حميد، وابن المنذر. قال الآلوسي: (والأوْلى: الحمْلُ على العموم؛ أي: طهَّرك من الأقذار الحسِّيَّة والمعنوية والقَلْبِيَّة والقالبية). "روح المعاني" ٣/ ١٥٥.
(٧) ممن قال بذلك ابن عباس، والحسن، وابن جريج، والسدِّي، واختاره ابن جرير في "تفسيره" ٣/ ٢٦٢، وانظر: "تفسيره" كذلك ٣/ ٢٦٣، "زاد المسير" ١/ ٣٨٧،=
245
معناه: على عالَمي زمانها؛ بأن فضلت عليهن (١).
قال أبو إسحاق (٢): وجائز أن يكون على نساء العالمين كلِّهم؛ لأنه ليس في النساء امرأة وَلَدت من غير أبٍ (٣) غير مريم؛ ولأنها (٤) قُبِلت في التحرير للمسجد (٥)، ولم يكن التحرير في الإناث، فهي مختارة على النسوان كلِّهنَّ، بما لها من الخصائص (٦). وكرَّر الاصطفاء (٧)، لأن كلا (٨) الاصطفائين مختلفٌ (٩) معناهما: فالاصطفاء الأول: عمومٌ يدخل فيه صوالحُ النساء، والثاني: اصطفاء بما اختُصَّت به من خصائصها.
٤٣ - قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾. ذكرنا معنى القنوت فيما تقدم (١٠). قال مجاهد: معناه: أطيلي القيام في الصلاة (١١).
= وقال: (قال ابن الأنباري: وهذا قول الأكثرين)، وقال الشوكاني عن هذا القول: (وهذا هو الحق). "فتح القدير" ١/ ٥١٠.
(١) في (ج): (عليهم).
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤١٠.
(٣) في (د) شطب على كلمة (أب) وكتب عليها: (زوج). وُيراد هنا: أنها ولدت عيسى من غير أبٍ.
(٤) في (ج): (لأنها).
(٥) في (ج)، (د): (في التحرير للمسجد).
(٦) وقد رجَّح هذا الفخر الرازي في "تفسيره" ٨/ ٤٨، والقرطبي في "تفسيره" ٤/ ٨٢.
(٧) في (د): (وذكر الاصطفاء عموم).
(٨) في (أ)، (ب)، (د): (كلي)، والمثبت من: (ج) ومن "الدر المصون" ٣/ ١٧٠ حيث نقل عبارة الواحدي.
(٩) في (ج)، (د): (يختلف).
(١٠) انظر تفسير آية: ١١٦، ٢٣٨ من سورة البقرة، و ١٧ من سورة آل عمران.
(١١) قوله، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٥، ولكن لفظه: (قال: أطيلي الرُّكود؛ يعني:=
246
وقال ابن عباس: يريد: قومي للصلاة بين يدي ربِّكِ (١).
وقوله تعالى: ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي﴾. يقال: لم قدَّم الأمرَ بالسجود على الركوع، وهو قبل السجود؟ قيل: (الواو) عند النحويين للجمع لا للترتيب (٢)، وليس فيه دليل على المبدوء به.
= القنوت). وأورد الأثر عنه السيوطي في "الدر" ٢/ ١٩٥ ونسب إخراجه كذلك إلى عبد بن حميد. ومعنى الرُّكود: السكون والثبات. انظر: "القاموس المحيط" ٢٨٣ (ركد). وعند الطبري، عن الربيع: (قال القنوت: الركود. يقول: قومي لربك في الصلاة، يقول: اركدي لربك؛ أي انتصبي له في الصلاة) "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٥، وكذا رواه الربيع عن أبي العالية كما في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٨. وقال ابن عطية: (معناه: أطيلي القيام في الصلاة وهذا هو قول الجمهور.. وبه قال مجاهد وابن جريج والربيع). "المحرر الوجيز" ٣/ ١١٥.
(١) الذي وقفت عليه عن ابن عباس، قوله في الآية: (يعني: صلِّي لربِك) من رواية إسحاق بن بشر، وابن عساكر، أوردها السيوطي في "الدر" ٢/ ٤٣. وقد ورد عن سعيد بن جبير في معنى ﴿اقْنُتِي﴾: قوله: (أخلصي لربك). وعن قتادة، والسدِّي، وابن زيد: (أطيعي ربَّكِ)، وعن الحسن: (اعبدي ربكِ). انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٥، "زاد المسير" ١/ ٣٨٧. وقد جمع بينهما الطبري، فقال: (فتأويل الآية، إذًا: يا مريم أخلصي عبادةَ ربِّكِ لوجهه خالصًا، واخشعي لطاعته وعبادته مع من خشع له مِن خلقه؛ شكرًا له على ما أَكرَمَكِ به من الاصطفاء والتطهير من الأدناس، والتفضيل على نساء عالَم دهرِكِ) تفسيره: ٣/ ٢٦٦. وانظر ما سبق من تعليق على قوله تعالى: ﴿وَالْقَانِتِينَ﴾ في آية ١٧.
(٢) هذا هو مذهب جمهور النحويين وأئمة الأصول والفقه. وذهب آخرون إلى إفادتها للترتيب، ومن هؤلاء: قطرب (ت: ٢٠٩ هـ)، وهشام بن معاوية الضرير (ت: ٢٠٩ هـ)، وأبو جعفر الدينوري (ت: ٢٨٩ هـ)، والرَّبعي (ت: ٤٢٠ هـ)، وقد عزاه بعض المؤلفين إلى الإمام الشافعي. إلا أن صلاح الدين العلائي قال: (والحق أن ذلك ليس قولًا له، بل هو وجه في المذهب، قال به جماعة من الأصحاب). "الفصول المفيدة في الواو المزيدة" للعلائي ٦٩. انظر بيان هذا الأمر في =
247
قال أبو الفتح الموصلي (١):
واوُ العطفِ (٢)، ليس فيها دليل على المبدوء به في المعنى؛ لأنها ليست مُرَتِّبةً، يدلُّ على ذلك قولُ لَبيد:
أُغْلي السِّباءَ (٣) بكلِّ أدكنَ عاتقٍ (٤) أو جَوْنَةٍ قُدِحتْ وفُضَّ خِتامُها (٥).
= "المقتضب" للمبرد ١/ ١٠، "الكامل" له ٢/ ١٨، ٣/ ١٨٥، "الأصول في النحو" لابن السراج: ٢/ ٥٥، وكتاب "المعاني الحروف" للرماني ٦٠٥٩، "البسيط في شرح جمل الزجاجي" ٣٣٤ - ٣٣٥، "رصف المباني" ٤٧٤ - ٤٧٥، "ارتشاف الضرب" لأبي حيان: ٢/ ٦٣٣، "الجنى الداني" للمرادي: ١٦٠١٥٨، "مغني اللبيب" ٤٦٣ - ٤٦٤، "البرهان" للزركشي ٤/ ٤٣٦، "همع الهوامع" ٢/ ١٢٩.
(١) في "سر صناعة الإعراب" ٦٣٢، نقله عنه باختصار وتصرف. وأبو الفتح الموصلي، هو: عثمان بن جِنِّي. من أئمة النحو والأدب والتصريف، تتلمذ على أبي علي الفارسي وصحبه أربعين سنة، استوطن بغداد، ودرّس بها إلى أن مات، من كتبه "الخصائص"، "المنصف" وغيرها. توفي ببغداد سنة (٣٩٢ هـ). انظر: "نزهة الألباء" ٢٤٤، "إنباه الرواة" ٢/ ٣٣٥، "معجم الأدباء" ٣/ ٤٦١.
(٢) في (ج): (الفتح).
(٣) في (أ)، (ب): (أعلى السب). (ج): (أعلى النسا). والمثبت من: (د)، ومن "سر صناعة الإعراب" والديوان.
(٤) في (ج): (عايق).
(٥) البيت في: "ديوان لبيد" ٣١٤. وقد ورد في "سر صناعة الإعراب" ٦٣٢، "شرح القصائد العشر" للتبريزي ١٦٢، "شرح المفصل" ٨/ ٩٢، "شرح المعلقات السبع" للزوزني ص١٠٩، "رصف المباني" ٤٧٤، " الفصول المفيدة" للعلائي ٧٧، "اللسان" ٦/ ٣٥٤٥٢ (قدح)، ٥/ ٢٨٠٠ (عتق)، ٣/ ١٤٠٦ (دكن).
ومعنى قوله: (السِّباء): شراء الخمر، من: (سَبَأ الخمرَ): إذا اشتراها للشرب. ومعنى قوله: (أغْلِي)؛ أي: أشتريها غالية. =
248
وإنما يُفتح ويفض: الختم قبل الغَرْف (١)، فقد علمت أن (قُدِحت) مُقَدَّم في اللفظ، مُؤَخَّرٌ في المعنى، كذلك ههنا بدأ بالسجود لفظاً، وهو مؤَخَّرٌ معنى، والكلام في هذه المسألة يُذكر (٢) عند قوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا﴾ [المائدة: ٦] الآية.
قال (٣) ابن الأنباري (٤): أمَرها أمراً عاماً، وحضَّها على أفعال الخير، فكأنه قال: استعملي السجود في حال، واستعملي الركوع في حال، ولم يذهب إلى أنهما يجتمعان، ثمَّ يُقدَّم السجودُ على الركوع؛ بل أراد العموم بالأمر على اختلاف الحالين (٥).
وقوله تعالى: ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾. ولم يقل مع الراكعات؛ لأن الراكعين
= وقوله: (أدْكَنَ عاتِقٍ): العاتق: زِقُّ الخمر الواسع. والأدْكَن: الأغبر اللون بين الحمْرَةِ والسَّوادِ، أو أراد: بكلِّ أدكنَ عاتقٍ خمرُهُ التي فيه.
و (الجَوْنَة): الزِّقُّ الأسود المَطْلِيُّ بالقار.
وقوله: (قُدِحت): (غُرِفَت).
وقوله: (فُضَّ ختامُها)؛ أي: كُسِرَ خاتَمُها، وهو الطينُ الذي خُتِمَ به فوهُها. والشاهد فيه قوله: (قُدِحت وفُضَّ ختامُها)، على أنَّ واو العطف هنا لا تعني ترتيب الفضّ بعد القدح وهو الغرف، حيث إنها تُفَضُّ أولًا ثمَّ تُغرَف.
(١) في (ج): (الغرق).
(٢) في (ب): (نذكر). وفي (ج): (نذكره).
(٣) في (ج)، (د): (وقال).
(٤) لم أهتد إلى مصدر قوله. وقد أورده ابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٣٨٨.
(٥) وقال أبو سليمان الدمشقي: إنه كذلك كان في شريعتهم، يُقدَّمُ السجود على الركوع. ويرى الفخر الرازي أنه قُدِّم لرتبته وفضيلته؛ حيث إنَّ غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجدًّا. انظر: "زاد المسير" ١/ ٣٨٨، "تفسير الفخر الرازي" ٤/ ٤٨.
249
أعمُّ؛ لوقوعه على الرجال والنساء إذا اجتمعوا، والراكعات يختصُّ بالنساء، فكان (١) الأعم أولى.
ومعنى قوله: ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي: افعلي كفعلهم. وقيل: المراد به: الصلاة في الجماعة (٢).
قال المفسرون (٣): كلَّمت الملائكةُ بهذا مريَم شفاها، فقامت مريمُ في الصلاة حتى ورمت قدماها، وسالتا دماً، وقيحاً.
٤٤ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾. أشار إلى ما قصَّ من حديث زكريا، ومريم، ويحيى.
وقوله تعالى: ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ [أي] (٤): نلقيه إليكَ (٥). و (الإيحاء) في اللغة: إلقاء معنى الكلام إلى من تريد إعلامه؛ إما بإرسال رسول، أو بإلهام، أو بكتابة، أو بإشارة (٦). فمن الإرسال: قوله عز وجل: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ﴾ (٧) [النساء: ١٦٣].
(١) في (ج): (وكان).
(٢) وهو قول ابن عباس ومقاتل. ولفظ ابن عباس: (مع المصلِّين، مع قرَّاء بيت المقدس). أورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٤٣ - ٤٤ ونسب إخراجه لإسحاق بن بشر وابن عساكر. ولفظ مقاتل: (يعني مع المصلين في بيت المقدس). "تفسير مقاتل" ١/ ٢٧٦.
(٣) هو قول ابن إسحاق، والأوزاعي. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٤٩ ب، "تفسير القرطبي" ٤/ ٨٤.
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(٥) (إليك): ساقطة من (د).
(٦) انظر: "مقاييس اللغة": ٦/ ٩٣ (وحى)، "اللسان" ٨/ ٤٧٨٧ (وحى).
(٧) في (ج) ورد بدلًا من هذه الآية، قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾.
250
ومن الإلهام: قوله: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: ٦٨]، وقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: ٧]، ومن الإشارة: قوله: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا﴾ [مريم: ١١]، أي: أشار إليهم، وقوله: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ [الأنعام: ١٢١]، أي: يُلْقون إليهم بالوَسْوَسَة (١).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾. الأقلام: جمع (القَلَم)، و (القَلَم) (٢) أصله من: (القَلْمِ)، وهو: قطع للطَّرَفِ (٣)، يقال منه: (قَلَمْتُ الظُفُرَ) (٤). والقَلَمُ: الذي يُكْتب به؛ بمعنى: مَقْلُوم؛ لأنه يُبْرى طرفُهُ. والقَلَمُ: القِدْحُ (٥)، لانه يُسَوَّى بأن يُقْطع طرفاه (٦).
(١) جعل ابن قتيبة والثعلبي، وابن الجوزي (الإعلام بالوسوسة من الشيطان) وجهًا مستقلًّا من وجوه الوحي، وأوردوا هذه الآية دليلًا عليه، ويشهد لقولهم: أن الوحي لغة هو: إعلام في خفاء، كما أن إيحاء الجن والشياطين يكون عن طريق الوسوسة، كما قال تعالى: ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ [الناس: ٥]. أما مقاتل، وهارون بن موسى، وابن العماد فجعلوا هذه الآية شاهدا على أنَّ الوحي هنا يعني: الأمر.
انظر: "تأويل مشكل القرآن" ٤٨٩ - ٤٩٠، "الوجوه والنظائر" لهارون بن موسى: ١٦٦. "الزاهر" ٢/ ٣٥٣، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٥٢ (وحى)، "الأشباه والنظائر" للثعلبي: ٢٦٧، "ونزهة الأعين النواظر" لابن الجوزي: ٦٢٢، "والوجوه والنظائر في القرآن" د. القرعاوي: ٦٤٩ - ٦٥١.
(٢) (والقلم): ساقطة من (ب).
(٣) في (ب): (الظفر).
(٤) ويقال كذلك: قَلَّمْتُ الظُفُر. انظر: "القاموس" ١١٥١ (قلم).
(٥) القِدْح بالكسر: السهم قبل أن يُراش ويُنصل، والجمع: قِدَاح، وأقْدَاح، وأقْدُح، وأقاديح، وهي جمع الجمع. انظر: "تاج العروس" ٤/ ١٦٤ (قدح).
(٦) انظر (قلم) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٣٧، "مقاييس اللغة" ٥/ ١٥.
251
قال ابن عباس في رواية عطاء (١): هؤلاء كانوا جماعة من الأنبياء، اختلفوا واختصموا في مريم، كل واحد يقول: أنا أَوْلى بها، فقال زكريا: هي بنت عمِّي، وخالتها عندي. قالوا: فتعالوا حتى نَسْتَهِم (٢). فجمعوا سهامهم، ثم أَتَوا بها إلى العَيْنِ، وقالوا: اللَّهمَّ، مَنْ كان أَوْلى بها فَلْتقُم سَهْمُهُ، ويغرق (٣) البقيَّة. وأَلْقَوا سهامَهم، فارتَزَّ (٤) قلَمُ زكريا، وانحدرت (٥) أقلامُ الآخرين (٦)، فقرعهم زكريا (٧).
وقال الزجَّاج (٨): هي قِداحٌ جعلوا عليها علامات، يعرفون بها مَنْ يَكْفل مريمَ على جهة القرعة.
(١) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه.
(٢) في (أ)، (ب): (فتغالوا حتى نسيتهم)، والمثبت من: (ج)، (د).
(٣) في (ج): (وتغرق).
(٤) في (ب): (فارتد). وفي (ج): (فأدبر). وفي (د) مكانها بياض.
(٥) في (ب): (واتحدرت).
(٦) في (ب): (الباقين).
(٧) وقد وردت رواية قريبة من هذه الرواية عن ابن عباس، من طريق أبي مالك، وأبي صالح عنه، أخرجها البيهقي، وفيها: أنَّ هؤلاء المستهمين كانوا ممن يكتبون التوراة، ولم يرد فيها أنهم كانوا جماعة من الأنبياء. وورد فيها أنهم ألقوا أقلامهم التي يكتبون فيها في نهر الأردن، فجَرَت أقلامهم، وقام قلم زكريا كأنه مرتزُّ في طين. انظر: "سنن البيهقي": ١٠/ ٢٨٦ - ٢٨٧. كما ورد عن ابن عباس من طريق عطية العوفي، أنه: (اقترع عليها أهل المُصلَّى، وهم يكتبون الوحي، فاقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفلها). انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٨، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٤٩.
(٨) في "معاني القرآن" ١/ ٤١٠، نقله بنصه.
252
وقوله تعالى: ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾. مختصر (١)؛ أي: لينظروا أيُّهم تجب له كفالة مريم (٢).
٤٥ - قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ قال ابن عباس: يريد: جبريل (٣).
﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾. يعني: عيسى، لأنه في ابتداء أمره كان كلِمَةً من الله ألقاها إلى مريم، ثمَّ كوَّن تلك الكلمة بَشَراً. قال الحسنُ (٤)، وقتادةُ (٥): لأنه كان بكلمة الله [تعالى] (٦)، وهو: ﴿كُنْ﴾، ومعنى هذا: أنه أوجده بالكلمة، وكونه بها، وهي قوله: ﴿كُنْ﴾ من غير توليد من فَحْلٍ، أو تنسيل من ذَكَرٍ، وهو معنى قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾ [آل عمران: ٥٩]، ولم يُردْ -والله أعلم- أنَّ عيسى هو الكلمة نفسها، ألا تراه يقول: ﴿اسمُهُ المَسِيحُ﴾، ولو أراد الكلمة لقال (٧): (اسمها المسيح) (٨).
(١) في (د): (مختص).
(٢) نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤١١. وانظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٩، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٠٠.
(٣) لم أقف على مصدر قوله، وقد ورد في "زاد المسير" ٤/ ٤٢٨، "غرائب القرآن" ٣/ ١٩٠، ٤/ ٤٤، وانظر: "المحرر الوجيز" ٨/ ٣٦٧.
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٦٩ - ٢٧٠، وأورده ابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٣٨٩.
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب).
(٧) في (أ)، (ب): (يقال). والمثبت من: (ج)، (د).
(٨) وهذا ما رجحه في "تفسيره" ٣/ ٢٧٠، ثم قال بعده: (ومعنى ذلك: أنَّ الله يبشِّركِ ببشْرى، ثم بيَّن عن البشرى أنها ولد اسمه المسيح).
253
وقيل: إنما سمَّاه كلمةً؛ لأن الله تعالى بشَّر به في الكتب السالفة، فلمَّا أوجده سمَّاه كلمة، كما يقول الذي يُخْبِرُنا بأمر كائن -إذا وُجِدَ ذلك الأمر-: (قد جاء قولي (١) وكلامي)، وقيل: لأن الله عز وجل يهدي به كما يهدي (٢) بكلمته.
وقيل: لأنه كان (يُكلِّم) (٣) عن الله تعالى فيُبشِّر، ويُنْذر (٤).
وقوله تعالى: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾. ذَكَر (٥) الكنايةَ (٦)؛ لأنه عنى بـ (الكلمة): عيسى، أو الولد، فرجعت الكناية إلى معنى الكلمة، لا إلى اللفظ.
فإن قيل: كيف أخبر أن اسمه المسيح، وقدمه على اسمه المعروف، وهو: عيسى، وإنما لُقِّب بـ (المسيح) بعد نفاذ التسمية له بـ (عيسى)؟
قيل: إنَّ الأسماء ألقاب عُلِّقت على المُسمَّيات؛ للفصل بين الأعيان فإذا عُلِّق الاسم على المولود في وقت ولادته، ثمَّ شُهر بعد عُلُوِّ سنِّه (٧) بلقب، كان اللقبُ أغلبَ عليه من الاسم، لأن من يعرفه به أكثر ممن يعرفه باسمه الحقيقي، فلهذه العلَّة قُدِّم المسيح على عيسى، ألا ترى أنَّ ألقاب
(١) في (أ)، (ب): (في قولي). والمثبت من: (ج)، (د). وهو الصواب؛ لأن المؤلف يريد أنَّ الأمر الكائن المتحقق هو نفس الكلام والقول الذي قاله.
(٢) كما يهدي: ساقط من (د).
(٣) في (ج): (تكلم).
(٤) لم أهتد إلى أصحاب الأقوال السابقة المصدر بقوله: (قيل)، ولا إلى مصادرها.
(٥) (ذكر): ساقطة من (د).
(٦) الكناية: الضمير.
(٧) في (أ)، (ب): (سته). والمثبت من: (ج)، (د).
254
الخلفاء أشهر وألزم لهم من أسمائهم (١).
فأما معنى المسيح؛ فقال أبو عبيد (٢) والليث (٣): المسيح أصله بالعبرانية: [(مشيحا). فعرَّبته العربُ وغيرت لفظه، وكما قالوا (٤): موسى، وأصله: (موشى)، أو (ميشى) بالعبرانية] (٥)، فلمَّا أعربوه (٦) غيَّروه (٧)، فعلى هذا لا اشتقاق (٨) له، وأكثر العلماء على أنه مشتق.
قال ابن عباس في رواية عطاء والضحاك (٩): وإنما (١٠) سُمِّيَ عيسى عليه السلام مسيحاً؛ لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ (١١).
وقال أحمد بن يحيى (١٢): سمي مسيحاً؛ لأنه كان يمسح الأرض؛ أي: يقطعها.
فعلى قول هؤلاء، هو: (فعيل) بمعنى: (فاعل)، وقيل: إنه (١٣)
(١) نقل هذا القول ابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٣٨٩، ونسبه لابن الأنباري.
(٢) قوله في "الزاهر" ١/ ٤٩٣، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٨٩ (مسح).
(٣) قوله في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٨٨ (مسح).
(٤) في (د): (قال). والمثبت من (ج).
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(٦) في (ج)، (د): (عرُّبوه). ويجوز لغة: عربوه، وأعربوه. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٨٦٥ (عرب).
(٧) في (د): (وغيَّروه).
(٨) في (ج): (الاشتقاق).
(٩) ورد قوله هذا في "الزاهر" ١/ ٣٩٤، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٨٨ (مسح)، "تفسير البغوي" ٢/ ٣٨، "زاد المسير" ١/ ٣٨٩، قال: (رواه الضحاك عن ابن عباس).
(١٠) في (د): (إنما).
(١١) في (ج): (برأ).
(١٢) هو ثعلب، وقوله في "الزاهر" ١/ ٤٩٣، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٨٨، "زاد المسير" ١/ ٣٨٩.
(١٣) (إنه): ساقطة من (د).
255
(فعيل) بمعنى: (مفعول) (١)، على أنه مُسِح من الأوزار، وطُهِّر (٢).
وقيل: لأنه خرج من بطن أمِّه ممسوحاً بالدهن (٣).
وقال الحسن (٤)، وسعيد (٥): لأنه مُسح بالبركة. وبهذا (٦) قال مِنْ (٧) أهل اللغة: شَمِر (٨). وقال ابن الأعرابي (٩)، وأبو الهيثم (١٠): المسيح بن مريم: الصدِّيق.
قال أبو الهيثم (١١): وضدُّ الصديق: المسيحُ الدجال؛ أي: الضلِّيل، الكذاب؛ خلق الله المسيحين، أحدهما ضد الآخر، فكان (١٢) المسيح بن مريم يُبْرِئ الأَكْمَهَ، والأبْرَصَ (١٣)، ويحيى الموتى بإذن الله، وكذلك
(١) في (أ) وردت عبارة مكرَّرة هي: (وقيل: إنه فعيل بمعنى فاعل).
(٢) ممن قال بذلك الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٧٠ ونص قوله: (إنما هو ممسوح؛ يعني: مسحه الله فطهَّره من الذنوب؛ ولذلك قال إبراهيم: المسيح: الصدِّيق) فجعل الطبري من لوازم معنى الصدِّيق. ويعني بـ (إبراهيم)، هو: النخعي كما سيأتي معنا.
(٣) قال ابن الجوزي عن هذا القول: (قاله أبو سليمان الدمشقي، وحكاه ابن القاسم). "زاد المسير" ١/ ٣٨٩.
(٤) لم أقف على مصدر قوله، وهو مذكور في "النكت والعيون" ١/ ٣٩٤، "زاد المسير" ١/ ٣٨٩.
(٥) "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧٠، وذكره ابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٣٨٩.
(٦) في (ب): (بهذا).
(٧) (من): ساقطة من (د).
(٨) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٨٩.
(٩) في (د): الأعرابي. قوله، في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٨٨٩ (مسح).
(١٠) في (ج): أبو الهيثم، بدون واو العطف. وقوله في: المصدر السابق. وأبو الهيثم، هو خالد بن يزيد الرازي.
(١١) قوله في "التهذيب" ٤/ ٣٤٨.
(١٢) في (ج): (وكان).
(١٣) الأكْمَه: هو الذي يولد أعمى. وقد يقال لمن لم تذهب عينه. انظر: "معجم المفردات" للراغب: ٤٥٩ (كمه).
256
الدجال، يحيي الميتَ، ويميت الحيَّ، وينشئ السحائب (١) [وينبت] (٢) النبات، فهم المسيحان (٣): مسيح الهدى، ومسيح الضلالة.
قال [المنذري] (٤): فقلت (٥) له: بلغني أن عيسى [عليه السلام] (٦)، إنما سُمِّي مسيحاً، لأنه [مُسح بالبركة، وسُمِّيَ الدجال مسيحا؛ لأنه] (٧) ممسوح العين. فأنكره، وقال: إنما المسيح ضدَّ المسيح، يقال: مَسَحَه الله؛ أي: خلقه حَسناً مباركاً، ومَسَحَه (٨)، أي: خلقه قبيحاً ملعوناً.
وكان إبراهيم النخعي يذهب أيضاً (٩) إلى أن المسيح، معناه: الصِّدِّيق (١٠).
قال ابن الأنباري (١١): وهذا القول لا يعرف (١٢) اللغويون مذهبه؛
= والبَرَصُ: مرض جلدي معروف، يصيب الجلد ببياض. انظر: "القاموس" ٦١٣ (برص).
(١) في (د)، "تهذيب اللغة" السحاب.
(٢) ما بين المعقوفين مطموس في: (أ) ومثبت من بقية النسخ، ومن "تهذيب اللغة".
(٣) في (ج)، (د)، "التهذيب": فهما مسيحان.
(٤) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ). ومثبت من بقية النسخ، ومن "تهذيب اللغة". وقول المنذري في "التهذيب" ٤/ ٣٣٨٩. وقد تقدمت ترجمته.
(٥) في (ب): (قلت).
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من (د).
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د)، ومن "التهذيب". وقول المنذري في "التهذيب" ٤/ ٣٤٨.
(٨) في (ب): (ومسخه).
(٩) (أيضًا): ساقطة من (ج).
(١٠) "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٥١، "الزاهر" ١/ ٤٩٣، "التهذيب" ٤/ ٣٣٨٩ (مسح)، "الدر المنثور" ٢/ ٤٥، وعزاه كذلك لابن المنذر.
(١١) قوله، في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٨٩ (مسح).
(١٢) في (ج): (لا يعرفه).
257
إذ (١) كانت لا تصف كلَّ صِدِّيق بـ (المسيح)، ولعل كان هذا مستعملاً (٢) في بعض الأوقات في وصف الصدِّيقين، فدَرَسَ مع ما دَرَسَ من الكلام؛ لأن الكسائي قال (٣): قد درس من كلام العرب شيء كثير. ثمَّ فسَّر المسيح وبيَّنه من هو، فقال: ﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾. معنى (الوجيه): ذو الجاه والشرف والقدْر، يقال: (وجُهَ الرجلُ، يَوْجُهُ، وَجاهةً)، فـ (هو وَجِيْهٌ): إذا صارت له منزلة رفيعة عند السلطان والناس (٤).
وقال بعض أهل اللغة (٥): الوجيه: الكريم، عند من لا يسأله؛ لأنه لا يردُّه لكرم (٦) وجهه عنده (٧)، خلاف من يبذل وجهه للمسألة (٨)، فيرده (٩).
قال الزجَّاج (١٠): ﴿وَجِيهًا﴾، منصوب على الحال، المعنى: إنَّ الله
(١) في (أ)، (ب): (إذا). والمثبت من: (ج)، (د).
(٢) في (ج): "التهذيب" ولعل هذا كان مستعملًا، (د) ولعل هذا مستعملًا.
(٣) قوله، في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٨٩ (مسح)، وقوله من تتمة كلام ابن الأنباري.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤١٢، "اللسان" ٨/ ٣٧٧٦ (وجه).
(٥) لم أقف على هذا القائل.
(٦) في (أ)، (ب): (الكرم). والمثبت من: (ج)، (د)، ومن "البحر المحيط" ٢/ ٤٦١، وهو أنسب لسياق الكلام.
(٧) في (ج): عند. قال الفخر الرازي: (الوجيه، هو: الكريم؛ لأن أشرف أعضاء الإنسان وجهه، فجعل الوجه استعارة عن الكرم والكمال). تفسيره: ٨/ ٥٥. وقال الطبري عن قوله تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ [الأحزاب: ٦٩]: (الوجيه في كلام العرب: المُحَبُّ المقبول). تفسيره ٢٢/ ٥١.
(٨) في (ج): (للمسلمة).
(٩) في (ج)، (د): (فيرد). ولم أقف على هذا الذي ذكره المؤلف في معنى (الوجيه) فيما رجعت إليه من مراجع.
(١٠) في "معاني القرآن" ١/ ٤١٢.
258
يبشِّرك بهذا الولد، وجيهاً في الدنيا والآخرة. والفرَّاء (١) يسمي هذا قطْعاً، كأنه: كان (٢) عيسى بن مريم الوجيه، قُطِع منه التعريف (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾. أي: إلى ثواب الله وكرامته.
٤٦ - قوله تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ موضع ﴿وَيُكَلِّمُ﴾ منصوب؛ في التأويل بالنَّسَقِ (٤) على (وجيه)، كأنه قال: (وجيها، ومُكَلِّماً الناسَ)، ولا يُنكَرُ وضعُ (٥) المستقبل موضعَ الحال. ومثله قوله: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي﴾ [مريم: ٥ - ٦]، في قراءة مَنْ رَفَعَ (٦). وهذا أحدُ ما يضارعُ به الفعلُ المستقبلُ الاسمَ.
وأنشد النحويُّون على هذا:
(١) في "معاني القرآن" ١/ ٢١٣.
(٢) في (ج): (قال). وكذا في "الدر المصون" ٣/ ١٧٩، حيث نقل عبارة الواحدي هذه.
(٣) وقد علَّق السمينُ على قول الفراء هذا، بعد أن نقله عن الواحدي، بقوله: (فظاهر هذا يُوذِن بأن (وجيها) من صفة عيسى في الأصل، فقُطِعَ عنه، والحالُ وصْفٌ في المعنى). "الدر المصون" ٣/ ١٧٩. وانظر ما سبق من تعليق على إعراب قوله تعالى ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ من آية ١٨ من سورة آل عمران.
(٤) النسق، هو عطف اللفظ على نسقِ الأول وطريقته. ويسمَّى في النحو بـ (عطف النسق)، وهو: التابع الذي يتوسط بينه وبين متبوعه أحدُ حروف العطف. انظر: "معجم المصطلحات النحوية" د. اللبدي: ٢٢٤.
(٥) (ولا ينكر وضع): ساقط من (ج).
(٦) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: ﴿يَرِثُنِى وَيَرِثُ﴾ برفعهما. والتقدير: (وليًّا وارثًا)، على أنَ (يرِثُني) صفة لـ (وليًّا). قال مكي: (وهو الاختيار؛ لأنَّ الجماعة عليه، ويقوِّي الرفع: أنَّ (وليًّا) رأس آية، فاستغنى الكلام عن الجواب). "الكشف" ٢/ ٨٤. وقرأ أبو عمرو، والكسائي: (يَرِثْنِي وَيَرِثْ) بجزمهما؛ على أنها جواب للأمر، والتقدير: (هب لي من لدنك وليًّا فإنك إنْ وهبته لي ورثَني). انظر: "الحجة" لابن خالويه: ٢٣٤، "حجة القراءات" لابن زنجلة: ٤٣٨.
259
بتُ أُعَشِّيها (١) بَعضْبٍ باتِرِ يَقْصِدُ (٢) في أَسْوُقِها وجائِرِ (٣)
(١) في (ج): (أغسيها)، وفي (د): (أغشيها).
(٢) يعصله.
(٣) البيت في نسخة (ب) ورد هكذا:
سبت اميتها بقضيب باتر بقصد في اسوفها وجاير
ولم أقف على قائل هذا البيت. وقد ورد في: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢١٣، ٢/ ١٩٨، "تفسير الطبري" ٦/ ٤١٦، "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤١٤، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٩٩ (كهل)، "شرح الأبيات المشكلة" للفارسي ٤٦٥، " المحرر الوجيز" ٣/ ١٢١، "أمالي ابن الشجري" ٢/ ٤٣٧، ٣/ ٢٠٥، "وضح البرهان" للنيسابوري: ٢٤٣، "اللسان" ٥/ ٢٩٦٣ (عشا)، "وشرح ابن عقيل" ٣/ ٢٤٥، "المقاصد النحوية" للعيني ٤/ ١٧٤، "منهج السالك" للأشموني ٣/ ١٢٠، "خزانة الأدب" ٥/ ١٤٠ - ١٤٣. وقد ورد البيت بألفاظ أخرى، هي: (بات يعشِّيها)، و (بات يغشِّيها) و (بات يعيَشها)، و (أسؤقها)، و (أسواقها). ومعنى (أعشِّيها)؛ أي: أطعمها العشاءَ، وأما رواية (يغشِّيها) بالغين المعجمة، فهي من الغشاء، كالغطاء؛ أي: يشْملها ويعمُّها. و (عَضْب باتر)؛ (العَضْب) هنا: السَّيف. والكلمة، أصلها: صفة، بمعنى: قاطع؛ من: عضَبَه؛ أي: قطعه. و (باتر): قاطع. و (يَقْصِد): يتوسط، ولا يتجاوز الحد في القطع. و (أسْوُقِها) جمع: ساق، وتجمع كذلك على (سُوْق) و (سِيْقان) (وأسْؤُق)، والساق: ما بين الكعب والركبة. و (جائر): ظالم، مجاوز للْحدِّ.
والشاعر هنا على هذه الرواية: يمدح نفسه بأنه رجل كريم مضياف، يقول: بأنه بات يعشِّي إبِلَه عقْرًا لها بسيف قاطع، فأقام الشاعرُ السيفَ مقام العشاء، وعلى الرواية الثانية (يغَشِّيها)؛ أي: يشْملها بسيفه القاطع؛ أي: يضربها به، فهو يقصد ويتوسط في عقر سيقان إبِل تستحق العقر، ويجور ويتجاوز الحدَّ في عقر سيقان إبِل لا تستحق العقر، كالحوامل، وذوات الفصال. وعلى رواية (بات يعشِّيها) يصف به رجلًا آخر بالكرم. انظر: "القاموس" (١١٦) (عضب)، (٣٤٥) (بتر)، (٨٩٥) (سوق)، "الخزانة" ١٤٥١٤١، "ومنحة الجليل" لمحمد محيي الدين عبد الحميد (مطبوع مع شرح ابن عقيل): ٢٤٥ - ٢٤٦. والشاهد فيه كما قال الأزهري: (والعرب تجعل (يفعل) في موضع (فاعل)، إذا كان في عُطوف مجتَمِعيْنِ). "التهذيب" (٣١٩٩).
260
على معنى: قاصدٌ (١)، وجائزٌ.
وقوله تعالى: ﴿فِي الْمَهْدِ﴾. أي: صغيراً. والمَهْدُ: الموضع الذي مُهِّدَ لنوم الصبي (٢).
قال ابن عباس في رواية عطاء (٣): يريد: الحَجْرَ (٤). ويعني بكلامه ﴿فِي الْمَهْدِ﴾: تبرئة أمِّهِ ممَّا قُرِفَت (٥) به (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَكَهْلاً﴾. هو عطف على الظرف من قوله: ﴿فِي الْمَهْدِ﴾، كأنه قيل: (ويكلِّم الناس صغيراً وكهلاً) (٧).
(١) في (د): (قصد).
(٢) سبق بيان معاني (المهد) في التعليق على قوله تعالى: ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ آية ١٢ من هذه السورة وانظر (مهد) في: "الجمهرة" لابن دريد ٦٨٥، "القاموس" (٣٢٠).
(٣) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه من طريق عطاء. والذي في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧١ من طريق ابن جرير عن ابن عباس، قال: (مضجع الصبي في رَضاعه). وأوردها السيوطي في "الدر" ٢/ ٤٥ ونسب إخراجها كذلك لابن المنذر.
(٤) الحَجْر بفتح الحاء وقد يقال بكسرها، وهو: الحضن، وما بين يديك من ثوبك. والجمع: حُجُور. انظر (حجر) في "اللسان" ٢/ ٧٨٢، "القاموس" (٣٧١)، "عمدة الحفاظ" للسمين (١١١).
(٥) في (ب)، (ج): (قذفت). وفي (د): مكانها بياض. ومعنى (قُرِفَت به)، أي: قُذِفت به واتُّهِمت، من: (قرَفَه بكذا)، أي: اتَّهمه به وأضافه إليه. انظر (قرف) في "اللسان" ٦/ ٣٦٠٠، "القاموس" ٨٤٤، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧٢.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧٢.
(٧) أي: أنه حال من الضمير في ﴿وَيُكَلِّمُ﴾. وقد يكون معطوفًا على ﴿وَجِيهًا﴾، فيكون في الآية خمسة أحوال، هي: ﴿وَجِيهًا﴾ و ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ و ﴿وَيُكَلِّمُ﴾ و ﴿وَكَهْلاً﴾ و ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. انظر: "البيان" للأنباري: ١/ ٢٠٣ - ٢٠٤، "التبيان" للعكبري: ص ١٨٩.
261
و (الكَهْلُ) في اللغة: الذي اجتمع [فيه] (١) قوَّتُه، وتَمَّ (٢) شبابُه، وهو من قول العرب: (اكْتَهَلَ النَّباتُ): إذا قَوِيَ وتَمَّ (٣).
قال الأعشى:
يُضاحكُ الشمسَ منها كوكبٌ شَرِقٌ مُؤَزَّرٌ، بعَميمِ النَبْتِ مُكْتَهِلُ (٤)
أراد بـ (المكْتَهِل): المتناهي في الحسن والكمال.
واختلفوا في كهولة عيسى عليه السلام، فقال بعضهم: إنه رفع إلى السماء حين (٥) دخل في الكهُولة؛ وذلك، أنه كان قد أرْبى (٦) على الثلاثين، ومن أَرْبى (٧) عليها فقد دخل في الكُهُولة، وتقَضَّى أكثرُ شبابه (٨). وعلى هذا
(١) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٢) في (ج): (وثَم).
(٣) في (ج): (وعم). انظر: "خلق الإنسان" ٢١، "الزاهر" ٢/ ٢٦٩ - ٢٧٠.
(٤) البيت في: "ديوانه" ص١٤٥. وقد ورد منسوبا له في: "العين" للخليل ٣/ ٢٧٨ (كهل)، وتأويل المشكل، لابن قتيبة ١٣٦، "الزاهر" ٢/ ٢٧٠، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٩٩ (كهل)، "أمالي الزجاجي" ١٣٥، "شرح القصائد العشر" للتبريزي: ٢٩٢، "اللسان" ٧/ ٣٩٥٧ (كوكب)، ١/ ٧٢ (أزر)، ٤/ ٢٢٤٤ (شرق)، ٧/ ٣٩٤٨ (كهل)، ٥/ ٣١١٢ (عمم). والشاعر هنا يصف روضةً. وقوله: (يضاحكُ الشمسَ)؛ أي: يدور معها، ومضاحكته إيَّاها: حسنٌ لها نَضْرَةٌ. و (كوكبٌ شَرِقٌ): (الكوكب): معظم النبات، و (الشَّرِقُ): الريَّانُ الممتليءُ ماءً. و (مؤَزَّر)؛ أي: صار النبات كالإزار للكوكب، فهو يغطِّيه. و (عَمِيم النبت): النبات الكثير الحسَنُ، ويقال: (نبات عَمِيم، ومُعتَمٌ، وعَمَمٌ): إذا كان بالغًا حسنًا كثيرًا. و (المكتهل): التامُّ الحسَنُ. انظر: "الزاهر" ٢/ ٢٧٠، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٩٩ (كهل).
(٥) في (ج): (أنه).
(٦) في (ج): (أرمى).
ومن قوله: (أربى..) إلى (.. ومن أربى): ساقط من (د).
(٧) في (ج): (أرمى).
(٨) وردت عن علماء اللغة أقوال في بيان عُمُرِ الكَهْلِ: فقيل: إنَّه من وَخطَهُ الشيبُ، ورأيت له بَجَالَة. قاله الخليل، والليث بن المظفر. وقيل: هو ما بين الأربعين إلى الخمسين. قاله ابن أبي ثابت. وقيل: إذا بلغ الخمسين. قاله الأزهري. وقيل: ابن ثلاث وثلاثين سنة. قاله ابن الأعرابي. وقيل: هو من جاوز الثلاثين. قاله ابن الأنباري. وقيل: منتهى الحُلُم؛ أي: منتهى سن البلوغ. قاله يزيد بن أبي حبيب. انظر: "العين" ٣/ ٣٧٨ (كهل)، "خلق الإنسان" لابن أبي ثابت: ٢٩، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٠١، "تهذيب اللغة" ٦/ ١٩ (كهل)، "الصحاح" ٥/ ١٨١٣ (كهل)، "اللسان" ٧/ ٣٩٤٧ (كهل).
262
القول: يكلِّم الناس كهلاً، قبل أن يرُفع إلى السماء. وهذا معنى قولِ مقاتل (١)، وابن عباس في رواية عطاء (٢)، لأنه قال (٣) في قوله: (وكهلاً) (٤)؛ يريد: أنه يتكلم بكلام النبَّوة.
وقال بعضهم: المراد بقوله: ﴿وَكَهْلاً﴾ (٥): بعد أن ينزل من السماء يكلِّم الناس بعد نزوله إلى الأرض، كهلاً (٦). وهذا اختيار الحسين بن الفضْل (٧)، قال (٨): وفي هذا بيان نزوله في نصِّ القرآن (٩).
(١) قوله: في "تفسيره" ١/ ٢٧٦. وما نقله المؤلف هو نص كلام مقاتل.
(٢) لم أقف على مصدر هذه الرواية والذي في "زاد المسير" ١/ ٣٩٠ خلاف هذه الرواية، قال: (وقد روي عن ابن عباس، أنه قال: ﴿وَكَهْلاً﴾، قال: ذلك بعد نزوله من السماء).
(٣) في (ب): (وقال).
(٤) الواو زيادة من: (ج)، (د).
(٥) في (ب): (كهلا).
(٦) في (ب): (من السماء كهلًا إلى الأرض كهلا).
(٧) انظر قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٠، "تفسير البغوي" ٢/ ٣٨.
(٨) (قال): ساقطة من (د).
(٩) وهذا كذلك قول ابن زيد، كما في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧٣، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٢٢، وقول أحمد بن يحيى، ثعلب، كما في "تهذيب اللغة" ٦/ ١٨ (كهل). وقال محمد بن جعفر بن الزبير، وقتادة، والربيع، والحسن، وابن إسحاق: إنه =
263
وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ اَلصَّالِحِينَ﴾. قال عطاء (١): يريد: مثل: موسى، وإسرائيل (٢)، وإسحاق، وإبراهيم (٣).
٤٧ - قوله تعالى (٤): ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ قال أهل المعاني (٥): إنَ مريم لا تستنكر في قدرة الله تعالى خلقَ الولد من غير مَسِيس بَشَرٍ (٦)، وإنَّما قالت هذا؛ لأنَّ في البشرية التعجب مما خرج عن العادة، كما يقول الإنسان: (كيف تَهَبُ ضيعتَك، وهي أنفَس أملاكك. ؟!) ليس يشك في هبته، وإنما يتعجب من وجوده. و (البَشَر): الخَلْق. واحدُهُ وجمعُه سواء؛ لأنه بمنزلة المصدر (٧)، نحو (٨): الخَلْق، يقال (٩): هذا
= يكلِّمهم صغيرًا أو كبيرًا، وهو إخبارٌ لِمريمَ عليها السلام أنه يعيش إلى سِنِّ الكهولة. وبيَّن الطبري رحمه الله أن كلام هؤلاء الأئمة يعني: أن عيسى عليه السلام كسائر بني آدم، يتقلب في الأحداث، ويتغير بمرور الأزمنة عليه، من صِغَرٍ إلى كِبَر، ومن حال إلى حال، وفي هذا احتجاج على النصارى القائلين بألوهية عيسى عليه السلام. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧٢، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٥٣، "القطع والائتناف" للنحاس ٢٢٤.
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) إسرائيل، هو: يعقوب عليه السلام. انظر: "تفسير الطبري" ١/ ٢٤٨، "فتح القدير" ١/ ١١٧.
(٣) في (ج): (ويعقوب). قال الطبري في تفسير هذه الآية: (يعني: من عدادهم وأوليائهم؛ لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل) تفسيره: ٣/ ٢٧٣.
(٤) في (د): (عزَّ وجل).
(٥) لم أقف عليه. وقد أورد هذا القول ابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٣٩٠، ونسبه للجمهور.
(٦) (بشر): ساقطة من (ج).
(٧) انظر (بشر) في "تهذيب اللغة" ١/ ٣٣٨.
(٨) من قوله: (نحو..) إلى (.. في المصدر): ساقط من (د).
(٩) في (ج): (يقول).
خَلْق، وهؤلاء خَلْق (١). وإنما وجب في المصدر ذلك؛ لأنه جنس في الفعل، كما وجب في الماء والرمل، وما هو من أسماء الأجناس.
وأصله من (البَشَرَة) التي هي ظاهر الجِلْدِ؛ لأنه الذي من شأنه أن يَظْهَرَ الفرحُ والغمُّ في بشَرَته (٢).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾. أي: يخلق الله (٣) ما يشاء مثل ذلك من الأمر، وهو: خَلْق الولد من غير مَسِيس.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾. إلى آخر الآية. ذكرنا ما فيه في سورة البقرة، عند قوله: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ [البقرة: ١١٧]. الآية.
٤٨ - قوله (٤) تعالى: ﴿وَيعَلِمُهُ الكِتَابَ﴾. الآية. قال ابن جُرَيج، وغيره: أراد: الكتابة والخط (٥). وقيل: أراد كتابًا آخر غير التوراة والإنجيل، من نحو: الزَّبُور وغيره (٦).
(١) (وهؤلا خلق): ساقط من (ج).
(٢) انظر (مادة: بشر) في: "التهذيب" ١/ ٣٣٨، "اللسان" ١/ ٢٨٦.
(٣) لفظ الجلالة (الله): ليس في: (ج)، (د).
(٤) في (د): (وقوله).
(٥) قول ابن جريج، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧٤، ولفظه: (قال: بيده). وقد ورد هذا التفسير عن عكرمة، يرويه عن ابن عباس، ولفظه: (الخطُّ بالقَلَم)، وقد ورد كذلك عن: يحيى بن أبي كثير، ومقاتل، وعثمان بن عطاء. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٥٣، وممن رجَّح هذا: البغويُ في "تفسيره" ٢/ ٣٩، والفخر الرازي في "تفسيره" ٨/ ٥٩، واستظهره ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٣٩١.
(٦) لم أهتد إلى قائل هذا القول. وقد أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٦٥٣ عن الحسن قوله: (الكتاب: القرآن). وفي "زاد المسير" ١/ ٣٩١ ذكر في المراد بـ ﴿الْكِتَابَ﴾ قولَ ابن جريج، وقولًا آخر، وهو: (أنه كُتُب النَّبِيِّين، وعلمُهم)، وقال: (قاله ابن عباس). وذكرَ ابنُ عَطِيَّةَ هذا القولَ الذي أورده الواحديُّ، وقال عنه: (وهو دَعْوًى لا حُجّةَ عليها). "المحرر الوجيز" ٣/ ١٢٥.
٤٩ - [و] (١) قوله تعالى: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾. قال أبو إسحاق (٢): ينتصب على وجهين: أحدهما: (ويجعلُهُ (٣) رسولاً). قال: والاختيار عندي: أنه (ويكَلِّمُ الناسَ رسولاً)؛ لقوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾؛ والمعنى: يكلِّمُهم رسولاً بأني (٤) قدْ جئتكم (٥).
وقال الأخفش (٦): إن شئت جعلت الواو في ﴿وَرَسُولًا﴾ مُقْحَمَةً (٧)، و (الرسولا) (٨) حالاً للهاء (٩)، تقديره: ونُعَلِّمُهُ الكتابَ رسولا (١٠).
وقوله تعالى: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ هو ذكر آية واحدة، وإنما
(١) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب.)
(٢) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤١٣، نقله عنه بتصرف واختصار.
(٣) في (د): (ونجعله).
(٤) في (د): (أني).
(٥) أي: أنَّ الوجه الأول، تقديره: (ويجعلهُ رسولًا) فـ ﴿رَسُولًا﴾ منصوب على المفعولية. والتقدير الثاني وهو اختيار الزجاج: (ويكلمُ الناسَ رَسُولًا)، على أنَّ ﴿رَسُولًا﴾ حالٌ.
(٦) من قوله: (قال الأخفش..) إلى (.. ونعلِّمه الكتاب رسولًا): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥١ ب. والوارد في "معاني القرآن" للأخفش: ١/ ٢٠٥ في قوله تعالى: ﴿ونعلَّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، كالتالي: (موضع نصب على ﴿وَجِيهًا﴾. و ﴿رَسُولاً﴾ معطوف على ﴿وَجِيهًا﴾؛ أي: أنها عنده حال منتصبة عن قوله تعالى: ﴿بِكَلِمَةٍ﴾ في آية: ٤٥. انظر: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٢٠٤.
(٧) أي: (زائدة أو (لغو)، وهي عبارة البصريين، وتسمى (صلة) أو (حشو) عند الكوفيين. انظر: "البرهان" ٣/ ٧٢.
(٨) في (ج): (ورسولًا).
(٩) في (ب): (لها). وقوله: (للهاء)؛ أي: في ﴿ونعلِّمُهُ﴾.
(١٠) وللآية توجيهات نحوية أخرى، انظرها: في "البحر المحيط" ٢/ ٤٦٤، "الدر المصون" ٣/ ١٨٦ - ١٨٩.
266
جاءهم (١) بآيات، وهي: خلق الطير، وإبراء الأكْمَه والأبرص، وإحياء الموتى، وإنباء (٢) بما يأكلونَ؛ وذلك، أنه أراد بالآية: خلق الطير، ثم عطف عليه إبراء (٣) الأكمه والأبرص على جهة الاستئناف.
وقوله تعالى: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ﴾ مَنْ (٤) فتح ﴿أَنِّي﴾ (٥)، جعلها بدلاً من ﴿آيَةٍ﴾ (٦)، كأنه قال: (وجئتكم بأني أخلق لكم من الطين)، ويكون موضع ﴿أَنِّي﴾ خفضاً على البدل من ﴿آيَةٍ﴾ (٧)، ويجوز أن يكون رَفعاً على معنى: الآيةُ أنِّي أخلق لكم) (٨). ومَنْ كَسَرَ (٩)، فله وجهان: أحدهما: الاستئناف، وقَطْع الكلامِ مما قبله.
والوجه الآخر: أنه (١٠) فسر الآية بقوله: {إنِّي أخلق [لكم من
(١) في (د): (جاههم).
(٢) في (ج)، (د): (والأنباء).
(٣) في (ج): (وإبراء).
(٤) من قوله: (من..) إلى (أني أخلق لكم من الطين): نقله بتصرف يسير جدًّا عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٤٣. وقد قرأ الجميع بفتح الهمزة في ﴿أَنِّي﴾، إلَّا نافعًا وأبا جعفر، فقد كسرا ﴿أَنِّي﴾. انظر "النشر" ٢/ ٢٤٠، "إتحاف فضلاء البشر" ١٧٤ - ١٧٥.
(٥) في (ج): (أنا).
(٦) (من آية): ساقط من (د).
(٧) في (ج): (أنه).
(٨) أي هي خبر لمبتدأ مضمر، تقديره: (هي أنِّي أخلق)؛ أي: الآية التي جئت بها أني أخلق. انظر "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٣٤.
(٩) من قوله: (ومن كسر..) إلى (.. وأبدل من آية): نقله بتصرف عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٤٣٤٤.
(١٠) (أنه): ساقط من: (ج).
267
الطين] (١)}، ويجوز أن يفسِّر الجملة المقدمة بما يكون على وجه الابتداء، كقوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [المائدة: ٩]، ثمَّ فسَّر الموعود بقوله: ﴿لَهُم مَّغفِرَةٌ﴾ (٢)، وكقوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ (٣) [آل عمران: ٥٩]، ثمَّ فسَّر المَثَلَ بقوله: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾. وهذا الوجه أحسن؛ لأنه في المعنى كقراءة مَنْ فتح (أنِّي)، وأبدل من آية (٤).
وقوله تعالى: ﴿أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ﴾ أي: أقَدِّر، وأصوِّر. والخلْقُ، معناه: التقدير في اللغة (٥).
وقوله تعالى: ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ الهيئةُ: الصورة المُهَيَّأة؛ من قولهم:
(١) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج) ومن "الحجة".
(٢) ومن قوله: (لهم مغفرة..) إلى (.. فسَّر المثل بقوله): ساقط من: (ج).
(٣) (كمثل آدم): ساقط من: (ب).
(٤) وهناك وجه ثالث، وهو: كسْرُها على إضمار القول؛ أي: فقلت: إنِّي أخلق. انظر هذه الوجوه في: "البحر المحيط" ٢/ ٤٦٥، "الدر المصون" ٣/ ١٩١.
(٥) وقد قال ابن قتيبة أنَّ الأصل في (الخَلْق)، هو: التقدير. وفي "تهذيب اللغة" أنَّ (الخَلْقَ) في كلام العرب على ضربين: الأول: ابتداع الشيء على مثال لم يُسبَق إليه. والآخر: التقدير. وقد ذكر أصحاب الوجوه والنظائر أنَّ من وجوه (الخلق) في القرآن: الإيجاد، والبعث، والتصوير، وذكروا هذه الآية (٤٩ من آل عمران) شاهدًا على هذا المعنى، والكذب، والجعل، والنطق، والدين، والموت، والبناء. وهذان الوجهان الأخيران، ذكرهما الثعلبي، وابن الجوزي. انظر "تأويل مشكل القرآن" ٥٠٧، "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٩٣ (خلق)، "الوجوه والنظائر" لهارون بن موسى ٢٨١، "قاموس القرآن" للدامغاني ١٦٢، "الأشباه والنظائر" للثعلبي: ١٣١.
268
(هيَّأتُ الشيءَ): إذا قدَّرُته (١).
وقوله تعالى: ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾ أي: في الطَّيْر. و (الطَّيْر): يجوز تذكيره، على معنى الجمع، وتأنيثه، على معنى الجماعة.
ولا يجوز أن تعود (٢) الكناية (٣) إلى الطين؛ لأن النفخ إنَّما يكون في طِينٍ مخصوص، وهو: ما كان مُهَيَّأ منه، والطينُ المتقدِّمُ ذكرهُ، عامٌ، فلا تعود إليه الكناية؛ ألا ترى أنه لا يَنْفخ في جميع الطِّينِ (٤)؟. ويجوز أن تعود الكناية على ذي الهيئة. وأريد بـ (الهيئة): ذو الهيئة، كما أريد بـ (القسمة): المقسوم، في قوله: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ [النساء: ٨] لأنه قال: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ (٥) (٦).
(١) قال الثعلبي: (هيأت الشيء: إذا قدَّرته، وأصلحته). تفسيره: ٣/ ٥٢ أ، وانظر (هيأ) في "الصحاح" ١/ ٨٥، "اللسان" ٨/ ٤٧٣٠.
(٢) في (ج): (يعود).
(٣) يعني بـ (الكناية) هنا: الضمير؛ لأنه يُكْنى به أي: يرمز عن الظاهر، اختصارا، وتسميته بـ (الكناية) من إلطلاقات الكوفيين عليه. انظر "النحو الوافي" ١/ ٢١٧، "معجم المصطلحات النحوية" د. اللبدي: ٧٤.
(٤) قال السمين الحلبي، بعد أن ذكر قول الواحدي هذا: (وفي هذا الردِّ نَظَرٌ؛ إذ لقائل أن يقول: لا نسلِّم عموم الطِّينِ المتقدِّم، بل المراد بعضه؛ ولذلك أدخل عليه (مِنْ) التي تقْتضي التبعيض. وإذا صار المعنى: (أني أخلق بعض الطين) عاد الضمير عليه من غير إشكال، ولكن الواحدي جعل (مِن) في ﴿مِنَ الطِّينِ﴾ لابتداء الغاية، وهو الظاهر). "الدر المصون" ٣/ ١٩٤.
(٥) (منه): ساقط من: (ج).
(٦) [سورة النساء: ٨]. والشاهد هنا: أنَّ الضمير في ﴿مِنْهُ﴾ يعود على القسمة. ولمَّا كان الضمير مذَكَّرا، والقسمة مؤنثة، دلَّ على أن المراد بالقسمة هنا المقسوم =
269
كذلك أراد بـ (الهيئة): المُهيَّأ، وذا (١) الهيئة.
و (٢) يجوز أن تعود الكناية إلى ما وقعت الدلالة (٣) عليه في اللفظ، وهو (٤): أنَّ (يَخْلُق) يدل على الخَلْقِ، فيكون قوله: ﴿فَأَنْفُخُ فِيهِ﴾؛ أي: في الخَلْقِ، ويكون الخلق بمنزلة المخلوق.
ويجوز أن تعود إلى ما دلَّ عليه الكافُ من معنى المِثْل؛ لأن المعنى: أخلق من الطين مِثْلَ هيئة الطير، ويكون الكافُ في موضع نصب على أنه صفة (٥) للمصدر المُرادِ، تقديره: (أنِّي أخلق لكم من الطينِ خَلْقاً مثلَ هيئةِ الطَّيْرِ). وهذه الوجوه ذكرها أبو علي الفارسي (٦).
وقوله تعالى: ﴿فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وقرأ (٧) نافع (٨): ﴿طائراً﴾ (٩)،
= وهذا رأي في مرجع الضمير هنا. وقيل: إنه يعود على المال؛ لأن القسمة تدلُّ عليه بطريق الالتزام. وقيل: إنه يعود على (ما) في قوله: ﴿مِّمَّا تَرَكَ﴾ من آية ٧ في سورة النساء. انظر "مشكل إعراب القرآن" ١/ ١٩٠، "تفسير البيضاوي" ١/ ٨٥، "البحر المحيط" ٣/ ١٧٦، "الدر المصون" ٣/ ٥٨٩.
(١) في (د): (وذو).
(٢) الواو زيادة من: (ج).
(٣) في (ب): (الكناية الدلالة).
(٤) من قوله: (هو..) إلى (.. أي: في الخلق): ساقط من (د).
(٥) (صفة): ساقطة من (ج).
(٦) لم أقف على مصدر قوله.
(٧) في (ج): (وقرئ).
(٨) هو: أبو رُوَيم، نافع بن عبد الرحمن بن أبي نُعيم، تقدمت ترجمته.
(٩) وقرأ بها كذلك: أبو جعفر، ويعقوب. وقرأ باقي القرَّاء العشرة: (طَيْرًا). انظر "المبسوط في القراءات العشر" ١٤٣.
270
على معنى: يكون (١) ما أنفخ فيه طائراً، أو (٢) ما أخلُقُهُ طائراً، أو أراد أن (٣) يكون كلَّ واحد من ذلك طائراً، كما قال تعالى: ﴿فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] أي: كلَّ واحد منهم.
وقال بعضهم (٤): ذهب نافع (٥) إلى نوع واحد من الطير؛ لأنه لم يَخْلُق غير الخَفَّاش. وإنَّما خصَّ الخفَّاش (٦)؛ لأنه أكمل الطير خَلْقاً. وقد زدنا بيانا على هذا في سورة المائدة (٧).
(١) من قوله: (يكون..) إلى (.. أي: كل واحد منهم): نقله بتصرف يسير عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ٤٤.
(٢) في (د): (و).
(٣) ساقطة من (د).
(٤) هو الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٥٢ أ.
(٥) عبارة الثعلبي: (وقرأ أهل المدينة (طائرا) بالألف على الواحدة ذهبوا إلى نوع..)، وبقية العبارة كما هي عند الواحدي.
(٦) وإنما خص الخفاش: ساقط من: ج. ورد خَلْقُه للخفاش، عن ابن جريج، كما في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧٦. وعن ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، كما في "زاد المسير" ١/ ٣٩٢. وأورده السيوطي في الدر: ٢/ ٥٧٥ عن ابن عباس، ونسب إخراجه لأبي الشيخ.
(٧) قول المؤلف فيما سبق عن توجيه قراءة نافع: (أو أراد أن يكون..)، وقوله: (ذهب نافع..)، قد تشعر هذه العبارات أن قراءة نافع، وغيرها من القراءات الصحيحة، إنَّما هي مذهب اجتهادي في القراءة يذهبه القارئُ بناء على موازنات ذوقية، ومقاييس منهجية، لا علاقة لها بالتلقي عن طريق الرواية الصحيحة. وليس الأمر كذلك؛ فالذي يعرفه الجميع أن القراءات القرآنية إنَّما هي متلقّاة عن النبي - ﷺ - عن طريق التواتر، فهي موقوفة لا مجال فيها للاجتهاد، وإنما للإمام القارئ فقط أن يختار مما رُوي، وعُلم وجهه من القراءات.
ولذا يقول ابن الجزري عن نسبة القراءة إلى القارئ، بأنها: (إضافة اختيار ودوام =
271
قال وَهْبٌ: كان يطير ما دامَ الناسُ ينظرون، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا (١).
قوله تعالى: ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ﴾. قال الأصمعي (٢): بَرِئْتُ من المرض: لغةُ تميم، وبَرَأْتُ: لغةُ أهل الحِجاز (٣).
وقال أبو زيد (٤): بَرَأْتُ من المرض: لغة أهل الحجاز. وسائرُ العرب: بَرِئْتُ (٥).
= ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد). أي: إنَّ إضافة القراءات إلى أئمة القراءة ورُواتِهم، يُرادُ بها فقط أن الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة، حسبما قرأ به، فآثره على غيره ودوام عليه، ولزمه حتى اشتهر وعرف به. فللإمام أن يختار من القراءات ما وافق العربية، سواء أكان ذلك الوجه فصيحًا أم أفْصَح، حسبما يترجح عنده، إذا تحققت بقية الشروط، وهي: صحة السند، وموافقة المصحف الإمام ولو احتمالًا. وهذا المجال الاختياري فيما يبدو لي، والله أعلم، هو الذي يعنيه الواحدي، ومَنْ نقلَ عنهم عباراته السابقة. انظر "النشر" ١/ ٥٢، "القراءت القرآنية". د. عبد الهادي الفضلي: ١٠٥ - ١٠٦، "دفاع عن القراءات المتواترة". د. لبيب السعيد: ١٣ - ١٤.
(١) ورد هذا الأثر في "تفسير الثعلبى" ٣/ ٥٢ أ، "زاد المسير" ١/ ٣٩٢، "تفسير القرطبي" ٤/ ٩٤.
(٢) قوله في "تهذيب اللغة" ١/ ٣٢٤ (برأ).
(٣) في "تهذيب اللغة" (وقال الأصمعي: (بَرَأت من المرض بُروءًا)، لغة تميم، وأهل الحجاز يقولون: (بَرْأت من المرض بَرْءًا)، و (أبرأه الله من مرضه إبراءً). ويبدو أن هذا النص من النسخة المطبوعة من "التهذيب" فيها خطأ مطبعي؛ لأنها لم تفرِّق بين برأ وبرئ. وقد أورد السمين الحلبي نفس النص في "الدر المصون" ٣/ ١٩٨ موافقًا لما أورده الواحدي.
(٤) قوله في "تهذيب اللغة" ١/ ٣٢٤ (برأ).
(٥) قال في "اللسان" ١/ ٢٤٠ (برأ): (وبَرِئت من المرض، وبَرَأ المريض، يَبْرأ، ويبرُؤ، بَرءًا، وبُروءًا.. وأصبح بارئًا من مرضه، وبريئًا، من قومٍ بِراءٍ). وانظر: "العين" ٨/ ٢٨٩ (برأ)، "المقاييس" ١/ ٢٣٦ (برأ).
272
والأكمَهُ (١)، قال ابن عباس، وقتادة (٢): هو الذي وُلِد أعمى، لم يبصر ضوءاً قط (٣).
يقال: كَمِهَ الرجلُ، يَكْمَهُ، كَمَهًا (٤). والأبْرَصُ: الذي به وَضَحٌ (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قال الكلبي (٦): كان (٧) عيسى عليه السلام يحيي الأموات بـ (يا حيُّ يا قَيُّوم)، أحيا عازَرَ (٨)، وكان صديقاً له، ودعا سام بن نوح من قبره، فخرج حيًّا، ومُرَّ عليه بابن عجوز على سريرٍ مَيْتًا، فدعا
(١) في (ج): الأكمه (بدون واو).
(٢) قولهما في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧٦، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٥٥، وأخرجه في ٢/ ٦٥٥ بلفظ: (الأعمى: الممسوح العين)، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٢ أ. وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ١٢١ عن مقاتل قوله: (الأكمه: الأعمى). وأورد السيوطي في "الدر" ٢/ ٥٧ قول ابن عباس، وعزاه كذلك لابن المنذر.
(٣) وفي معنى (الأكمه) أقوال أخرى، وهي: إن الأكمه هو: الأعمى، أو الأعمش، أو الأعش الذي يبصر بالنهار لا بالليل. ولكن المعنى الذي ذكره الواحدي هو الأرجح، وقد قال به أبو عبيدة، والطبري، وغيرهم، وهو الذي عليه الجمهور، كما يقول ابن حجر في فتح الباري؛ لأن إبراء الذي يولد أعمى هو الذي فيه المعجزة، أما من يُصيب عينيه مرض عارض، فهذا قد يُعالجه الطب البشري. انظر: "صحيح البخاري" ٤/ ١٣٨ كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧٦ - ٢٧٨، "فتح الباري" ٦/ ٤٧٢، "الدر المنثور" ٢/ ٥٧.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧٦، "الصحاح" ٦/ ٢٢٤٧ (كمه).
(٥) الوَضَح، هو: البياض من كلِّ شيء، والضوء، ويكنى بالوضح عن البرص، وهو المرض الجلدي المعروف؛ لأنه يصيب الجلدَ ببياض. انظر "اللسان" ٨/ ٤٨٥٥.
(٦) ورد قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٣ أ، ونهاية قوله إلى: (بيا حي يا قيوم).
(٧) في (ب): (إن).
(٨) هكذا ضُبطت في "القاموس المحيط" ٤٣٩ (عزر)، وورد في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٢ ب (عازِر).
273
اللهَ عيسى، فنزل عن سريره حيَّاً، ورجع إلى أهله، وبقي ووُلدَ له (١).
وقوله تعالى: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾. (ما) بمعنى: الذي؛ أي: بالذي تأكلونه، والذي تدَّخِرونه (٢).
وجاء (٣) في التفسير: بما تأكلون في غُدُوِّكم [وتدَّخرون لباقي يومكم] (٤). و (تدَّخِرون): (تفتعلون)، من (الذُّخْر) (٥).
يقال: (ذَخَر، يَذْخَر، ذُخْراً)، و (اذَّخَرَ اذِّخِارا): وأصله: (اذْتَخَرَ) (٦)، فأُبْدِل (٧) التَّاءُ دالاً (٨)؛ لأن الذَّالَ حَرْفٌ مَجْهُورٌ (٩) والتَّاءَ مهموسٌ (١٠)،
(١) أورد هذا الثعلبيّ في "تفسيره" ٣/ ٥٢ أ، وذكره البغوي ٢/ ٤٠ عن ابن عباس. وانظر روايات أخرى في هذا المعنى، في "الدر المنثور" ٢/ ٥٨. وهذه الأخبار بصرف النظر عن إمكان وقوع ما ورد فيها، فإنها لا تعدو أن تكون من الإسرائيليات، التي وإن لم يكن عندنا ما ينفيها، فليس عندنا ما يصدقها من خبر صحيح عن الصادق المعصوم - ﷺ -. والاكتفاء بإجمال القرآن في مثل هذه المواطن، أولى من السير وراء تفصيلات أخبار، الله أعلم بصحتها ووقوعها.
(٢) وقد استحسن هذا الوجه الزجَّاج، وقال: (ويجوز أن يكون (ما)، وما وقع بعدها، بمنزلة المصدر، المعنى: (أنبِّئكم بأكلِكم، وادِّخاركم). "معاني القرآن" ١/ ٤١٤.
(٣) من قوله: (جاء) إلى (غدُوِّكم): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤١٤.
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د). وقوله: (في غُدُوِّكم)؛ أي: في وقت البكرة، أو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. انظر: "القاموس" ١٣١٧ (غدا).
(٥) أي: أن أصل (تدَّخرونَ): تذْتَخرون.
(٦) في (ب): (اتدخر).
(٧) في (ب): فأبدلت.
(٨) في (أ)، (ب): (ذالا). والمثبت من: (ج)، (د)، وهو الصواب. انظر: "اللسان" ٣/ ١٤٩٠ (ذخر).
(٩) في (ج): (مجهورة).
(١٠) الحروف المهموسة، عشرة أحرف، هي: الهاء، والحاء، والخاء، والكاف،=
274
فأُبدِلَ بحرفٍ يُشْبِهُ الذَّالَ (١) في الجَهْرِ، وهو الدَّال، ثم أُدْغِمتْ الذَّالُ (٢) في الدَّال فصار: (تَدَّخِرونَ) (٣)، وهذا أصل الإدغامِ؛ وهو: أن يدغم (٤) الأولى في الثانية، ومثل (٥) هذا في التعديل بين الحروف (٦): (ازدُجِر) (٧)، و (اضطُرَّ)، و (اصْطَبِر) (٨).
= والشين، والصاد، والتاء، والسين، والثاء، والفاء. ويجمعها قولك: (سَتَشْحثُك خصَفَه). وباقي الحروف مجهورة.
انظر: "سر صناعة الإعراب" ١/ ٦٠، وقد ذكر كذلك سبب تسْمِيتها بذلك، "الممتع" لابن عصفور ٢/ ٦٧١.
(١) في (ج): (الدال). وفي (د): (الجهر).
(٢) في (أ)، (ب): (الدال). والمثبت من: (ج)، (د). وهو الصواب.
(٣) ويرى العكبري أن أصل الكلمة: (تذتَخرون)، إلا أن التاء أبدلت دالًا لتقارب مخرجها مع الذال، ثم أبدلت الذال دالًا، ثم أدْغِمت الدال في الدال. انظر "التبيان في إعراب القرآن" ١/ ١٩١.
(٤) في (ج) و (د): (تدغم).
(٥) في (د): (ومثال).
(٦) في (ج): (الحرفين). وقوله: (التعديل بين الحروف)، يعني به: الإبدال الصرفي، وهو جعل حرف مكان حرف غيره؛ لتسهيل اللفظ، وتيسيره. انظر "شرح الشافية" ٣/ ١٩٧، "موسوعة النحو والصرف" د. أميل يعقوب ١٧.
(٧) (ازدجر): ساقط من (د).
(٨) (ازدُجِر) وردت في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ [القمر: ٩]، وأصلها: (ازتجر)، فقلبت فيها التاءُ دالًا. و (اضطُرَّ) وردت في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣]، وانظر آية ٣ من سورة المائدة وأصلها: (اضتُرَّ). و (اصطَبِر) وردت في قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: ١٣٢]، وأصلها: (اصتَبِر) فقلبت التاءُ طاءً في الكلمتين. انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢١٥٢١٦، "سر صناعة الإعراب" ١/ ١٨٥، ٢١٧، و"الوجيز في علم التصريف" للأنباري ٥٥، "الممتع في التصريف" ١/ ٣٥٦، ٣٦٠، و"شرح شافية ابن الحاجب" ٣/ ٢٢٦، ٢٢٧.
275
قال الخليل (١): الحرف (٢) المجهور: الذي أُشبع (٣) الاعتمادُ (٤) عليه في موضعه، ومَنَعَ (٥) النَّفَسَ أن يخرج معه، والمهموس: حرف أُضْعِفَ الاعتماد عليه في موضعه، وجرى معه النفس (٦).
٥٠ - قوله تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾. [قال الفرَّاءُ (٧)، والزجَّاج (٨): نصب ﴿مُصَدِّقًا﴾ على الحال، المعنى: (وجئتكم مصدِّقاً لِما بين يَدَيَّ)] (٩). وجاز إضمارُ (جئتكم)؛ لأن أول الكلام يدلُّ عليه، وهو قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: ٤٩]. ومثله في الكلام: (جئتُه بما يُحِب، ومُكْرِماً لهُ) (١٠).
قال الفرَّاء (١١): ولا يجوز أن يكون ﴿مُصَدِّقًا﴾ عطفاً على ﴿وَجِيهًا﴾؛
(١) قوله في "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤١٤، وقد ورد: هذا النص في "كتاب سيبويه" ٤/ ٤٣٤، ولم يعزه للخليل، كما ورد في "سر صناعة الإعراب" ١/ ٦٠ ولم يعزه كذلك للخيل.
(٢) في (ج): (والحرف).
(٣) في (ب): (اتسع).
(٤) في (ب): (للإعتماد).
(٥) من قوله: (ومنع..) إلى (.. في موضعه): ساقط من: (ج).
(٦) وقد شرح ذلك سيبويه، وابن جني، وبيَّنَا أن المهموس يعرف بترديد الحرف مع جَرْي النفس، ويصعب ذلك في المجهور، فيمكن تكرير المهموس مع جري الصوت، نحو: (سَسَسَسَ، كَكَكَكَ، هَهَهَهَ)، ولو تكلفت ذلك في المجهور لما أمكن. انظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ٤٣٤، "سر صناعة الإعراب" ١/ ٦٠.
(٧) في "معاني القرآن" له ١/ ٢١٦. ونسب النحاسُ كذلك القول بهذا لأحمد بن يحيى (ثعلب). انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٣٥.
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٤١٥.
(٩) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(١٠) في (ب): (ومكر حاله).
(١١) في "معاني القرآن" له ١/ ٢١٦، نقله عنه بتصرف.
276
لأنه لو كان كذلك، لقال: (ومُصدِّقاً لِمَا بين يَدَيْهِ) (١)، ولا يحسن أيضاً أن يتابع قوله: ﴿وَرَسُولًا﴾ (٢)؛ لأنه لو كان مردودًا عليه؛ لقال: (ومُصَدِّقاً لما بين يديكِ)، لأنه خاطب بذلك مريمَ، أو قال: (بين يديهِ) (٣).
ومعنى ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾: أي: للكتاب (٤) الذي أُنزِلَ قَبْلِي (٥). وإذا كان يُصَدِّقُ التوراةَ، كان أحرى أن يُتَّبع.
وقوله تعالى: ﴿وَلِأحِلَّ لَكُمْ﴾ قال الفرَّاء (٦): الواوُ ههنا زائدةٌ مُقْحَمةٌ، كهي في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ [مِنَ الْمُوقِنِينَ]﴾ (٧)، المعنى: يُرِيهِ (٨) لِيَكونَ (٩).
(١) (أي): إنه لو كان معطوفًا على ﴿وَجِيهًا﴾ لجاء بضمير الغيبة، لا بضمير المتكلِّم.
(٢) (أي): يمتنع أن يتبع ﴿وَرَسُولًا﴾ في الإعراب.
(٣) قال أبو حيان في "البحر" ١/ ٤٦٨: (وقد ذكرنا أنه يجوز في قوله ﴿وَرَسُولًا﴾، أن يكون منصوبًا بإضمار فعل؛ أي: (وأرسلت رسولا)، فعلى هذا التقدير، يكون ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ معطوفًا على ﴿وَرَسُولًا﴾).
(٤) في (ج): الكتاب.
(٥) في (ب): قيل. في (ج): قيل. (د) من قبلي.
(٦) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢١٦. نقله عنه بالمعنى.
(٧) سورة الأنعام: ٧٥. وما بين المعقوفين زيادة من: (ب)، وكذا وردت في "معاني القرآن". وانظر مذهب الفراء في زيادة الواو، في "معاني القرآن" ١/ ١٠٧، ٢٣٨، ٢/ ٥٠، ٢١١، ٣٩٠، ٣/ ٢٤٩.
(٨) في (ج): نريد. ب، (د) نريه.
(٩) قيل في قوله تعالى: ﴿وَلِيَكُونَ﴾ ثلاثة أقوال: الأول: إن الواو زائدة. الثاني: إنها عِلَّةٌ لمحذوف؛ أي: ولِيكون.. أريناه ذلك. الثالث: إنها عطف على عِلَّةٍ محذوفة؛ أي: ليستدل وليكون، أو ليقيم الحجة على قومه. وقال صلاح الدين العلائي: (تقديره: لِنبصِّره أو لِنُرْشده. ونحو ذلك. ثم عطف عليه ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾. الفصول المفيدة في الواو المزيدة، للعلائي: ١٤٧. وانظر: "التبيان" للعكبري ١/ ٣٤٢، "الفريد" للهمداني ٢/ ١٧٧، "الدر المصون" ٥/ ٧.
277
وأهل التحقيق من النحويين قالوا: الواو لا تُقْحَمُ إلا معَ (حتى إذا)، ومع (لَمَّا) (١).
(١) قال الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٢٣٨ عن الواو في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ...﴾ آل عمران: ١٥٢: (وهو في (حتى إذا) و (فَلَمَّا أن) مقول، لم يأتِ في غير هذين). وقال في ٢/ ٣٩٠: (والعرب تدخل الواو في جواب (فلما) و (حتى إذا)، وتلقيها). وفي ٣/ ٢٤٩ بَيَّنَ أن العرب لم تجاوز هذين الموضعين. وانظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٢. وبيان هذا الأمر: إن مذهب الكوفيِّيِنَ هو: جواز وقوع الواوِ زائدةً لغير معنى. وشاركهم من البصريين في هذا المذهب: الأخفشُ، وأبو القاسم بن بَرهان، وتبعهم ابنُ مالك. ونَسَب الرمَّانيُّ في كتابه "معاني الحروف" ٦٣، وأبو البركات الأنباري في كتابه "الإنصاف" ص ٣٦٦ القولَ بهذا الرأي للمبرد وهو من البصريين. ولكن المبرد في كتابه "المقتضب" ٢/ ٨٠ قال عن مذهب القائلين بزيادة الواو لغير معنى: (وهو أبدع الأقاويل؛ أعني زيادة الواو) مما يؤكد أنه لم يشذ عن مذهب البصريين. واستدل الكوفيُّون على مذهبهم هذا بأدلة من القرآن ولغة العرب، منها: زيادة الواو في ﴿وَفُتِحَتْ﴾ في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧٣] وزيادتها في ﴿وَاقْتَرَبَ﴾ في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾ الأنبياء: ٩٧. وزيادته في ﴿وَنَادَيْنَاهُ﴾ في قوله: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ سورة الصافات: ١٠٣، وغيرها من الآيات. ومن شعر العرب، قول امريء القيس:
فلَمَّا أجَزنا ساحةَ الحيِّ وانْتَحى بنا بَطْنُ خَبْتٍ ذي قِفافٍ عَقَنْقَل
وغيرها من الأدلة. أمَّا البصريون فلا يُجيزون وقوع الواو مزيدةً، لأن الحروف عندهم (وضعت للمعاني، فذكرها بدون معنى يقتضي مخالفة الوضع، ويورثُ اللَّبْسَ. وأيضًا فإن الحروف وضعت للاختصار نائبة عن الجمل، كالهمزة فإنها نائبة عن (أستَفْهِم)، وزيادتها يُنقِصُ المعنى). الفصول المفيدة، للعلائي: ١٤٧. وتأول البصريون أدلة الكوفيين، وقالوا بأن الواو فيها عاطفة، وأن الجواب محذوفٌ مقدَّرٌ. يقول ابن جني: (فأما أصحابنا فيدفعون هذا التأويل البتَّة، ولا يجِيزون زيادةَ هذه الواو، ويرون أن أجوبة هذه الأشياء محذوفة للعلم بها =
278
قالوا: أو، والواو ههنا للعطف على معنى الكلام الأول (١)، لأن معناه: (وجئْتُكم لأُصَدِّقَ ما بين يديَّ من التوراة، ولأُحِلَّ لكم). ومثله من الكلام: (جئتُ مُعتذِرًا إليه، لأجتَلِبَ رِضاه)؛ أي: لأعتذر، ولأجتلب (٢).
وقال ابن الأنباري (٣): الَّلام في قوله: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ﴾ (٤) صِلَةٌ لفعلِ مضمرٍ؛ كأنه قال: (ولأحلَّ لكم جئتكم)، وكذلك قوله: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، تقديره: ولِيكون من الموقنين نُرِيهِ (٥) ذلكَ (٦).
= والاعتياد في مثلها). "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٤٦. فمثلًا قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ قال البصريون: إن الواو فيها عاطفة، وجواب (إذا) محذوف، والتقدير فيه: حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها، فازوا ونَعِموا. وهكذا ردُّوا على بقية الأدلة. انظر هذه المسألة، إضافة إلى المراجع التي ذكرت في "معاني القرآن" للأخفش: ١/ ١٢٤ - ١٢٥، "تأويل مشكل القرآن" ٢٥٢٢٥٤، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: ٥٥، "الإنصاف" للأنباري ص ٣٦٦، "شرح المفصل" ٨/ ٩٣، "رصف المباني" ٤٨٧، و"الجني الداني" ١٦٤، "المغني" ٤٧٣، "الحروف" لأبي الحسين المزني ١١٠.
(١) أي: للعطف على معنى ﴿مُصَدِّقًا﴾.
(٢) في (ج): لاجتلب (بدون واو).
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) (لكم): ساقطة من (د).
(٥) في (ج): (بربه).
(٦) وفي التوجيه الإعرابي لقوله ﴿وَلِأُحِلَّ﴾ أقوال أخرى، هي: إنها مردودة على قوله: ﴿بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ من آية ٤٩؛ أي: جئتكم بآية من ربكم، ولأحل لكم. أو معطوفة على عِلَّةٍ مقدَّرةٍ؛ أي: جئتكم بآية لأوسِّعَ عليكم ولأحل لكم، أو نحوها. أو إنها متعلقة بقوله: ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ في آخر آية ٥٠؛ أي. اتَّبِعوني لأحلَّ لكم. وقد استبعد هذا الوجهَ السمينُ الحلبيُّ وجعله ممتنعًا. أو إنها معمولة لفعل مضمر بعد الواو؛ أي: وجئتكم لأحل.. انظر هذه الوجوه، في "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٣٥، "الكشاف" ١/ ٤٣١، "التبيان" للعكبري: ١/ ١٩١، "البحر المحيط" ٢/ ٢٦٨ - ٢٦٩، "الدر المصون" ٣/ ٢٠٢ - ٢٠٣، "روح المعاني" ٣/ ١٧١.
279
- قوله تعالى: -ayah text-primary">﴿بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾. قال المفسرون (١): أُحِلَّ لهم على لسان المسيح: لحومُ الإبل، والثُّرُوبُ (٢)، وأشياءُ مِنَ الطَّيْر، والحيتان، مما كان مُحرَّما في شريعة موسى عليه السلام. قال الله تعالى: -ayah text-primary">﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ (٣). وإنَّما قال (٤): -ayah text-primary">﴿بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾؛ لأن عيسى لم يأتهم بتحليل الفواحش من: القتل، والسَّرِقِ، والزِّنا.
وذهب أبو عبيدة (٥) إلى أنَّ (بعضَ) ههنا بمَعنى: الكُلِّ، واحتجَّ ببيت لَبِيد:
أو يعتَلِقْ (٦) بعضَ النفُوسِ حِمامُها (٧)
(١) ممن قال بذلك: قتادة، والربيع، وابن جريج. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٢، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٥٧، "زاد المسير" ١/ ٣٩٣، " الدر المنثور" ٢/ ٦٢.
(٢) في (ب): الشروب. و (الثُّروب): شحم رقيق يُغَشِّي الكرشَ والأمعاء، والمفرد: ثَرْب. انظر: "القاموس المحيط" ص ٦٢ (ثرب).
(٣) سورة النساء: ١٦٠. وبقيتها: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾.
(٤) في (ج): (قيل).
(٥) في "مجاز القرآن" ١/ ٩٤.
(٦) في (د): (وتعليق).
(٧) عجز بيت، وأوله:
تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إذا لم أرضها
وهو من معلقته، وقد ورد في "ديوانه" ٣١٣. كما ورد في "مجاز القرآن" ١/ ٩٤، "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤١٥، "الزاهر" ٢/ ٢٣٧، ولم ينسبه، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: ٥٧٣، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٠٣، "تهذيب اللغة" ١/ ٣٦٠، "الخصائص" ١/ ٧٤، "المحتسب" ١/ ١١١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٢ ب، "شرح المعلقات السبع" للزوزني: ص ١٠٩، "شرح القصائد العشر" للتبريزي: ١٦٠، "تفسير البغوي" ٢/ ٤١، "اللسان" ١/ ٣١٢ (بعض). =
280
وأنكر عليه الآخرون أشدَّ (١) الإنكارِ (٢).
وسنستقصي الكلام في (بعض) عند قوله: ﴿وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ [غافر: ٢٨]، وأنه هل يجوز أن يكون بمعنى الكلِّ، أم لا؟. إنْ شاء الله.
= وورد غير منسوب في "الموضح في التفسير" للحدادي: ٣٧، "المخصص" ١٧/ ١٣١. ويروي (منزلةٍ) بدلًا من: (أمكنةٍ)، و (أو يَرْتَبِط)، و (أو يَعْتَقِي) بدلًا من: (أو يعتلق). و (يرتبط)، و (يعتقي)، معناهما: يَحتَبِس. و (يعتلق): من (اعتلقه)؛ أي: أحبَّهُ، ويقال: (عَلِقَ بقلبه): أي: تشبَّث به. وعليه يكون معناها هنا معنى: يرتبط، ويعتقي. و (والحِمَام): الموت. انظر: "شرح القصائد السبع" ٥٧٣، "اللسان" ٥/ ٣٠٥٣ (عقا).
ومعنى البيت: إني أترك الأماكن التي أجتويها، إذا رأيت فيها ما أكره إلا أن يربط الموتُ نفسي فلا يمكنها البراح. وتحرير المعنى: إني لا أترك الأماكن التي أجتويها إلا أن أموت. انظر: "شرح المعلقات السبع" ٢٤٢، "شرح القصائد العشر" ١٦٠. والشاهد فيه عند أبي عبيدة: أنَّ (بعض) هنا تعني (كلَّ). وقد خالفه آخرون كما ذكر المؤلف، حيث إنَّه في هذا البيت لا داعي لإخراج لفظ (بعض) عن مدلوله مع إمكان صحةِ معناه؛ لأن لبيد يريد بـ (بعض) هنا نفسَهُ هُوَ، من بين نفوس الناس.
(١) في (ج): (ابتدا).
(٢) وممن أنكر عليه ذلك الزجاجُ، حيث قال: (وأنشد أبو عبيدة في ذلك بيتًا غلط في معناه) ثم قال: (وهذا كلام تستعمله الناس، يقول القائل: (بعضنا يعرفك)؛ يريد: أنا أعرفك، فهذا إنما هو تبعيض صحيح) "معاني القرآن" ١/ ٤١٥. أي: إن (بعض) هنا مستعملة في موضعها. لأن المتكلم بعض الناس. وقال ثعلب: (أجمع أهل النحو على أنَّ البعض شيء من أشياء، أو شيء من شيء) ثم ردَّ على من زعم أن المراد بـ (بعض) في بيت لبيد تعني: (كل) فقال عنه: (فادَّعى وأخطأ أنَّ (البعض) ههنا جمعٌ.. وانما أراد لبيد بـ (بعض النفوس): نفسَه). "تهذيب اللغة" ١/ ٣٦٠. وكذا ردَّه النحاس، في "معاني القرآن" ١/ ٤٠٣، وابن سيده، كما في "اللسان" ١/ ٣١٢، والزوزني في "شرح المعلقات السبع" ص ١٠٩.
281
وقوله تعالى: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ قال أبو إسحاق (١): أي: لم أُحلَ لكم شيئًا بغير برهان، فهو حقيق (٢) عليكم اتِّباعي؛ لأنَّني أتيتكم (٣) ببرهان، وتحليل طيِّباتٍ كانت (٤) حُرِّمَتْ عليكم.
وإنَّما وحَّد (٥) الآية، وكان قد أتاهم بآيات؛ لأنها كلُّها جنسٌ واحدٌ في الدلالة على رسالته.
٥١ - وقوله تعالى: ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾. أي: طريق من طرق الدين مستوي. ومضى الكلام في معنى (الصراط المستقيم) (٦).
٥٢ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾. معنى (الإحْساس) في اللغة: وُجودُ الشيء بالحاسة، من جهة المُلابَسة. هذا أصله ثم يختلف في الفرع، والأصل واحد (٧).
قال الفرَّاء (٨): معنى ﴿أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ (٩)؛ أي: وجد.
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤١٥، نقله عنه بنصه.
(٢) في "معاني القرآن" (حق).
(٣) في "معاني القرآن" (أنبئكم).
(٤) (كانت): ساقطة من (د).
(٥) من قوله: (وحد..) إلى (.. رسالة): نقله بتصرف عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٤ أ.
(٦) انظر تفسير آية: ٦ من الفاتحة، في "تفسير البسيط" (تح د/ الفوزان).
(٧) قال السمين الحلبي: (وأصله من (الحاسة)، وهي: القوة التي تُدرك الأعراض الحسِّيَّة. و (الحواس): المشاعر.. ويقال: (حَسَسْتُ)، بمعنى: فهمت وعلمت، ولكن لا يقال إلا فيما كان من جهة الحاسة، وأما (أحسَسْت)، فحقيقته: أدركته بحاستي. قوله: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾، تنبيه: أنه قد ظهر منهم الكفر، ظهورًا بأن للحسِّ، فضلًا عن التفهم..) "عمدة الحفاظ" ١٢٣ (حسس).
(٨) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢١٦.
(٩) (منهم الكفر): ساقطة من (د).
282
والإحساس (١): الوجود.
وقال ابن المُظَفَّر (٢): ﴿أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾: أي رأى. يقال: أحسَسْتُ من فلان أمرًا؛ أي: رأيت.
وقال معْمَر (٣): أحسَّ؛ أي: عرفَ.
وقال الزجَّاج (٤): أحسَّ في اللغة: عَلِمَ، ووجَدَ، ورأى (٥). يقال (٦): (هل أحسَسْتَ صاحبَكَ)؟؛ أي: هل رأيته. هذا كلام أهل اللغة.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: أحسَّ: عَلِمَ (٧).
وقال مقاتل (٨): رأى، نَظِير (٩) قوله (١٠): ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ [مريم: ٩٨].
(١) في (د): الإحساس (بدون واو).
(٢) هو الليث بن المظفر، وقد سبقت ترجمته. ولم أقف على مصدر قوله هذا.
(٣) هو أبو عبيدة، مَعْمر بن المُثَنَّى. وقوله في "مجاز القرآن" ١/ ٩٤.
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤١٦.
(٥) (ورأى) غير مذكورة في "معاني القرآن" للزجاج. وقد أورد الأزهري في "التهذيب" ١/ ٨١٧ قولَ الزجاج هذا، ولم يذكر فيه (رأى).
(٦) من قوله: (يقال..) إلى (.. رأيته): غير موجود في "معاني القرآن" للزجاج، ولكن ذكره الأزهري في "التهذيب" ١/ ٨١٧ وعزاه للزجاج، مما يعني أن قولَ الزجاجِ هذا نقله المؤلف إما عن "تهذيب اللغة" أو عن نسخة أخرى لمعاني القرآن، لم يعتَمدها محقق الكتاب.
(٧) لم أقف على مصدر هذه الرواية عن أبي عباس.
(٨) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٧٨. ويبدو أن المؤلف نقل قوله عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٤ أ؛ نظرًا لاتفاق عبارته معه.
(٩) في (ب)، (ج)، (د)، "تفسير الثعلبي": نظيره.
(١٠) في (ج): (وقوله). وعن ثعلب، قال في معنى هذه الآية: (معناه: هل تبصر، هل ترى؟). "تهذيب اللغة" ١/ ٨١٧ (حسس). =
283
وقوله تعالى: ﴿مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾. يريد: القتل؛ وذلك أنَّهم أرادوا قتلَهُ حين دعاهم إلى الله (١) [تعالى] (٢)، فاستنصر عليهم، وقال:
﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾. و (الأنصارُ): جمع (نَصِير)، مثل: (شَرِيف)، و (أشراف) (٣).
قال الحسن (٤)، ومجاهد (٥): إنَّما استنصر طلبًا للحماية من الكافرين، الذين أرادوا قتله عند إظهار الدعوة، ولم يستنصر للقتال؛ لأنه لم يُبْعث بالحرب.
وقوله تعالى: ﴿إِلَى اللَّهِ﴾. أكثر أهل التفسير على أن المعنى: مع الله (٦).
= وقال ابن الأنباري في "الزاهر" ١/ ٣٣١: (معناه: هل تجد منهم من أحد.).
(١) الكفر هنا بمعناه الأصلي الحقيقي، وإنما قال المؤلف: القتل؛ لأنهم أرادوا قتله، نظرًا لكفرهم وجحودهم دعوته، فكانت إرادة القتل من دوافع كفرهم وتكذيبهم به. هذا، والله تعالى أعلم. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٥٩، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٣، "تفسير القرطبي" ٤/ ٩٧.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من (د).
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٩٢، ٢٨٦، "الصحاح" ٢/ ٨٢٩ (نصر).
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٦، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٥٩، ولفظه عندهما: (استنصر، فنصره الحواريون، وظهر عليهم.)، وورد قوله كذلك في "النكت والعيون" ١/ ٣٩٦.
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٦، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٦، "زاد المسير" ١/ ٣٩٤، ولفظه عند الطبري: (قال: كفروا وأرادوا قتله؛ فذلك استنصر قومه).
(٦) هو قول: السدِّي، ومقاتل، وابن جريج، وسفيان بن عيينه، والكسائي، وابن قتيبة، والطبري، ومكِّي بن أبي طالب. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٧٨، "تأويل مشكل القرآن" ٥٧١، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: ١٠٦، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٤، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٠٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٥ أ، وتفسير=
284
قال الفرَّاء (١): وهو وجه حسن، وإنَّما يجوز أن تجعل (إلى) في موضع (مع)؛ إذا ضممت الشيءَ إلى الشيءِ (٢)، مما لم يكن معه؛ كقول العرب: (الذَّوْدُ إلى الذَّودِ؛ إبِل) (٣)؛ أي (٤): إذا ضممت الذَّوْدَ إلى الذَّودِ (٥)، صارت إبِلًا. فإذا كان الشيءُ مع الشيءِ، لم يصلح مكان (مع) (إلى) (٦)، ألا ترى أنَّك تقول: قَدِمَ فلانٌ ومعه مالٌ كثيرٌ، ولا تقول في هذا الموضع: وإليه مالٌ كثير (٧). وكذلك تقول: قَدِمَ فلانٌ إلى أهله، ولا
= المشكل من غريب القرآن: ٤٩. ويبدو أن المؤلف نقل هذه العبارة عن "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢١٨، ونصُّها عند الفراء: (المفسرون يقولون: من أنصاري مع الله).
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢١٨. نقله عنه مع تصرف يسير جدًّا.
(٢) (إلى الشيء): ساقطة من: (ج).
(٣) في (ج): الدود إلى الدود. وفي "معاني القرآن" إنَّ الذود إلى الذود. و (الذَّوْدُ) من الإبل من الثلاثة إلى العشرة، أو من الثلاثة إلى التسع، وقيل غير ذلك. ولفظ (الذود) مؤنث. انظر: "المذكر والمؤنث" للفراء: ٧٧، "المنتخب" لكراع النمل: ١/ ٢٩١، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري: ١/ ٥٢٢، "المجمل" ٣٦٢ (ذود)، "اللسان" ٣/ ١٥٢٥ (ذود). وهذا القول مَثَلٌ من أمثال العرب، وهو في كتاب الأمثال، لأبي عبيد بن سلام: ١٩٠، "تأويل مشكل القرآن" ٥٧١، وجمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري: ١/ ٤٥٨، ٤٦٢، ٢/ ٢٢٦، ٢٨٩، والمخصص: ٧/ ١٢٩، ١٤/ ٦٧، ١٧/ ٩، وفصل المقال في شرح كتاب الأمثال، لأبي عبيد البكري: ٢٨٢، ومجمع الأمثال، للميداني: ١/ ٢٨٨. والمستقصى من أمثال العرب، للزمخشري: ١/ ٤٢٢، "اللسان" ٣/ ١٥٢٥ (ذود).
(٤) من قوله: (أي..) إلى (.. الذود): ساقط من (د).
(٥) في (ج): (الدود إلى الدود).
(٦) (إلى): ساقطة من (د).
(٧) في "معاني القرآن": قدم فلان وإليه مال كثير.
285
تقول: مع أهله، ومنه قوله (١): ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢] معناه: لا (٢) تُضيفوا (٣) أموالهم إلى أموالكم في الأكل (٤).
وقال أبو إسحاق (٥): (إلى) ههنا إنما قاربت معنى (مع)، بأن صار اللفظ لو (٦) عُبِّرَ عنه بـ (مع) (٧) أفاد مثل هذا المعنى، لا أنَّ (إلى) في معنى (مع) (٨). لو قلت: (ذهب زيد إلى عمرو)، لم يجز أن تقول: (مع عمرو) في (٩) هذا الموضع؛ لأن (إلى) غاية، و (مع) تضمُّ الشيءَ إلى الشيءِ، والمعنى في الآية: من يضيف نُصْرَته إيَّايَ إلى نُصْرةِ الله. والحروف (١٠)، إنما يقع بعضها مكان بعض؛ لنوع تقارب في المعنى؛ لا أنَّ (١١) أحدهما يقوم مقام الآخر، كقوله: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: ٧١]؛ أي: على. وأصل (في): إنما هو للوعاء (١٢)، وأصل (على): لما علا [على] (١٣)
(١) في (أ): (قولهم). والمثبت من بقية النسخ، ومن "معاني القرآن".
(٢) في (ج)، (د)، "معاني القرآن": (ولا).
(٣) في (ب): (لا تضيعوا).
(٤) في الأكل: غير موجودة في "معاني القرآن".
(٥) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤١٦ نقله عنه بالمعنى.
(٦) في (د): (إذ).
(٧) في (ب): (مع)، بدون الباء.
(٨) (مع): ساقطة من: (ج).
(٩) في (ج)، (د): (وفي).
(١٠) في (ج): (والحروف).
(١١) في (ج): (لأن) بدلًا من (: لا أن).
(١٢) في (ب): (الدعاء).
(١٣) ما بين المعقوفين زيادة من (د). وفي "معاني القرآن" ١/ ٤١٧: (وأصل (على) لما مع الشيء).
286
الشيء، تقول: (التمرُ في الجِراب)؛ المعنى فيه: أنَّ الجِراب مشتمل عليه، ولو (١) قلت: (التمرُ على الجِرابِ)، لم يصلح (٢) في هذا المعنى.
وجاز ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾، بمعنى: على، لأن الجِذْع مشتمل على المصلوب، ولو قلت: (زيدٌ في الجبل)، و (على الجبل). [يصلح] (٣)؛ لأن (٤) الجبل قد اشتمل على زيد، فعلى هذا مَجاز هذه الحروف (٥).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ اختلفوا في (الحواريِّين): فقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير (٦): كانوا
(١) في (ج): (لو بدون واو).
(٢) (لم يصلح): ساقطة من: (ج).
(٣) ما بين المعقوفين: زيادة من "معاني القرآن" ليتم بها المعنى.
(٤) في (ج): (أن).
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٤، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٠٥. وقد سبق الحديث عن تناوب حروف الجر في التعليق على تفسير المؤلف لقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، آية: ٩ من آل عمران. وانظر كذلك في هذا المعنى "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: ٨٠٦، "الخصائص" لابن جني: ٢/ ٣٠٦٣١٥.
وقد قال ابن الأنباري كما نقل عنه ابن الجوزي في "زاد المسير": ١/ ٣٩٣: (ويجوز أن يكون المعنى: من أنصاري إلى أن أبين أمر الله). وذكر الماوردي في "النكت والعيون" ١/ ٣٩٥ بقية الأقوال في الآية إضافة إلى ما سبق، وهي: من أنصاري في السبيل إلى الله. وقيل: من ينصرني إلى نصر الله. وقيل: من ينقطع معي إلى الله.
(٦) هذه الرواية في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٥٩، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٥ أ، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٥، "زاد المسير" ١/ ٣٩٤، وأوردها السيوطي في "الدر" ٢/ ٦٢، وزاد نسبة إخراجها للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. وأخرجها البخاري تعليقًا، فقال: (وقال ابن عباس:.. وسُمَّيَ الحواريُّون لبياض ثيابهم) ٧/ ٧٩ "الفتح" كتاب فضائل أصحاب النبي، باب: مناقب الزبير بن العوام.
287
صيَّادين، سُمُّوا حواريين؛ لبياض ثيابهم.
قال السُدِّي (١): وذلك أنَّ عيسى [عليه السلام] (٢) مرَّ بهم وهم يصطادون السمكَ، فقال: ما تصنعون؟ فقالوا (٣): نصطاد السمك. قال: أفلا تمشون حتى نصطاد الناس؟ قالوا: وكيف ذاك؟ قال: من أنصاري إلى الله؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم، عبد الله ورسوله، فآمنوا به، وانطلقوا، فهم الحواريُّون.
قال ابن الأنباري (٤): وهذا قول بعض اللُّغَويِّين (٥)، يقول: الحواريُّون: النِظَافُ الثِّياب؛ من قول العرب: (قد حُرْت الثوبَ): إذا غسلته، ونَظَّفته، قال: وإنما يراد بنظافة الثياب: نظافةُ الأديان والأعمال. يقال: (فلانٌ نظيف الثياب): إذا كان صالحًا، و (دَنِسُ الثياب): إذا كان غادرًا و (٦) فاجرًا. قال امرؤ القيس:
ثِيابُ بني عَوْفٍ طَهارى نقِيَّةٌ (٧)
(١) قوله هذا جزء من أثر طويل أخرجه الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٨٤ - ٢٨٦.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من (د).
(٣) في (ج): (قالوا بدون فاء).
(٤) في " الزاهر" ١/ ١٢١ - ١٢٢، ونقله عنه بالمعنى، ولكن قوله: (وإنما يراد..) وما بعده، غير موجود في كتابه "الزاهر" في هذا الموضع، وإنما ورد معناه في نفس الكتاب في ١/ ٥٣٩، فإما أن يكون المؤلف نقل بالمعنى من الموضعين ولَفَّق بينهما، أو يكون نقله من كتاب آخر لابن الأنباري.
(٥) في (ج): (الكوفيين). وقد عزا ابن الأنباري هذا القول لقطرب، وهو محمد بن المستنير.
(٦) في (ج)، (د): (أو).
(٧) في (ج): (نظيفة). وهذا صدر بيت، وعجزه:
وأوْجهُهُم عند المشاهد غُرَّانُ
288
أراد بـ (الثياب): الأفعال.
وقال [ابن عباس] (١) في رواية عَطَاء (٢): كانوا قَصَّارين (٣)، وكانوا يُحَوِّرُون الثياب؛ أي: يُبَيِّضونَها (٤).
= وقد ورد في ديوانه: ص ١٦٧، كما ورد منسوبًا له، في "الزاهر" ١/ ٥٣٩، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٢٦ (طهر)، ٣/ ٢٦٥٢ (غرر)، "الصحاح" ٢/ ٧٦٧ (غرر)، "اللسان" ٥/ ٢٧١٢ (طهر)، ٦/ ٣٢٣٤ غرر)، "التاج" ٧/ ٣٠١. وترويه بعض المصادر السابقة: (.. وأوجُهُهُم بِيضُ المَسافِرِ غُرَّان). و (طَهارى) و (أطهار): جمع طاهر، وترد (طهارى) نادرة. و (غُرَّان): جمعٌ، ومفردها: (أغَرُّ). و (رجل أغرُّ الوجه): إذا كان أبيض الوجه، و (هو من قومٍ غُرِّ، وغُرَّان). و (مَسَافِر الوجه): ما يظهر منه. انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٥٢ (غرر)، "اللسان" ٥/ ٢٧١٢ (طهر)، و٤/ ٢٠٢٤ (سفر). قال ابن الأنباري: (وهم يكنون بالثياب عن النفس والقلب..)، ثم قال عن البيت: (معناه: هم في أنفسهم طاهرون). "الزاهر" ١/ ٥٣٩. وقال عنه الزبيدي: (أي: إذا اجتمعوا لغرْم حَمَالةٍ، أو لإدارة حرب، وجدت وجوههم مستبشرة، غير منكرة). "التاج" ٧/ ٣٠١.
(١) ما بين المعقوفين زيادة من (د).
(٢) ورد معنى هذه الرواية عن عطاء دون رفع إلى ابن عباس في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٥ أ، وفي "تفسير البغوي" ٢/ ٤٢. وورد هذا القول عن أبي أرطأة يرويه عن ابن أبي نجيح، كما في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٧، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٥ أ. وورد عن الضحاك ومقاتل، كما في "زاد المسير" ١/ ٤٩٤، "غرائب القرآن" ٣/ ٥٠١، "البحر المحيط" ٢/ ٤٧١.
(٣) قَصَرَ الثوبَ قِصَارةً: حَوَّره ودقَّهُ. وقصَّره تقصيرًا، مثله. والقصَّار، والمُقَصِّرُ: المُحَوِّرُ للثياب، لأنه يدُقُّها بالقَصَرَةِ، وهي قطعة من الخشب، وحرفته: القِصارَةُ. والمِقْصَرَةُ: خشبة القصَّار. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٦٤٩ (قصر).
(٤) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد: ١/ ٢١٧، "تهذيب اللغة" ١/ ٦٩٦ (حور)، "مقاييس اللغة" ٢/ ١١٦ (حور)، "اللسان" ٢/ ١٠٤٤ (حور).
289
وهو قول مصعب (١)، قال (٢): كانوا مع عيسى، اتَّبعوه وصدَّقوه (٣)، وكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام أو (٤) الشراب، دعا الله تعالى، فيخرج (٥) من الأرض ما يأكلون، وما يشربون، أينما كانوا. فقالوا له (٦): من (٧) أفضل منَّا؟ إذا شئنا أطعمتنا، وإذا شئنا سقيتنا، وقد آمنَّا بك!؟ فقال: أفضل (٨) منكم من يعمل بيده، ويأكل من [كسبه] (٩). قال: فصاروا يغسلون الثياب بالكراء، ثمَّ صار هذا الاسم مُستعمَلا فيمن أشبههم (١٠) من المُصدِّقين بأنبيائهم (١١)؛ تشبيهًا بهم.
وروى جُوَيْبِر (١٢) عن الضحَّاك، قال (١٣): مرَّ عيسى عليه السلام بغسَّالين،
(١) هو: مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري، أبو زرارة المدني، تابعي، ثقة كثير الحديث. توفي سنة (١٠٣هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٨/ ٣٠٣، "المراسيل" ٢٠٦، "تهذيب التهذيب" ٤/ ٨٤.
(٢) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٥ ب.
(٣) في (ب): (وصل وقوه).
(٤) في (ب)، (د): (و).
(٥) في (ج): (ليخرج).
(٦) في (ب): (أيا الـ) بدلًا من: (له).
(٧) (من): ساقطة من: (ب).
(٨) في (أ)، (ب): (يال)، والمثبت من: (ج)، (د).
(٩) ما بين المعقوفين غير مقروءة في (أ). والمثبت من: بقية النسخ، ومن "تفسير الثعلبي".
(١٠) في (ب): (أشباههم).
(١١) (بانبيائهم): ساقطة من (ج)، (د).
(١٢) هو: أبو القاسم، جويبر بن سعيد الأزدي البلخي. تقدمت ترجمته.
(١٣) الأثر في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٥٩، "الدر المنثور" ٢/ ٦٣، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
290
يغسلون الثياب، فدعاهم إلى عبادة الله عز وجل، فآمنوا، فسمَّاهم الله: حواريين. قال: وهي (١) بلغة النَّبَط (٢): هواري (٣).
قال أبو بكر (٤): فمن أخذ بهذا القول، قال: هذا حرفٌ اشتركت فيه لغة العرب ولغة (٥) النَّبَطٍ. وهذا قول مقاتل بن سليمان: إنَّ الحواريِّين القصَّارون (٦). قال أبو بكر (٧):
(١) (وهي): ساقطة من (د).
(٢) في (ب): (وهي بلغة القيطي).
و (النَّبَطُ): جِيْل ينزلون سواد العراق، ويقال: النَّبيط، والأنباط. والمفرد: نَبَطي، ونُباطي، ونَباط، ويقال كذلك: بَناطي. انظر (نبط) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٩٧، "التاج" ١٠/ ٤٢٥. وفي الموسوعة العربية الميسرة: أنهم قبائل بدوية كانت تعيش في الصحراء في شرق الأردن، وقامت لهم دولة قديمًا، سنة (١٦٩ ق. م)، وعاصمتهم البتراء، ولغتهم العربية. ص: ٢٣١ - ٢٣٢.
(٣) انظر: "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب" للسيوطي: ٨٦، وقد أورد هذا الأثر عن الضحاك، وأورد عن ابن جريج فيما يرويه عنه ابن المنذر: (الحواريون: الغسَّالون للثياب، وهي بالنبطية: الحوار)، وأشار محقق الكتاب الدكتور التهامي الهاشمي إلى أن هذه اللفظة في اللغة الحبشية تعني: (رسول)، ولها أصل في الآرامية، وتعني عندهم: (الأبيض).
(٤) هو ابن الأنباري، وقد ورد التصريح باسمه في "الدر المصون" ٣/ ٢١٠. ولم أقف على مصدر قوله.
(٥) في (ب): (واللغة).
(٦) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٧٨. قال: (فمرَّ عيسى عليه السلام على الحواريين، يعني: على القصارين. غسَّالي الثياب).
(٧) في (ج): قال أبو بكر ومقاتل.
ولكن لم أجد هذا القول لمقاتل في تفسيره، ولا في بقية المصادر التي رجعت إليها، ولم يعزه أحد منها إليه، ولم تذكره بقية النسخ؛ لذا أهملته، ولم أثبته في الأصل؛ لما ترجح عندي أنه سبق قلم من الناسخ. وقول أبي بكر بن الأنباري، في "الزاهر" ١/ ١٢١، ونصُّه: (وقال آخرون: الحواريون: المجاهدون، واحتجوا بقول الشاعر:..)، ثم ذكر الشعر، وبقية العبارات غير موجودة في "الزاهر" فقد يكون المؤلف نقل قوله هذا عن كتاب آخر له، أو أنه أضاف هذه العبارات من عنده، توضيحًا وشرحًا. والله أعلم.
291
ويقال (١): الحوارُّيون: المجاهدون، وسُمِّيَ أصحابُ عيسى
حواريين؛ لمجاهدتهم معه، وصبرهم على منازعة أهل الكفر، وأنشد:
ونحن أناسٌ يملأُ البَيْضَ هامُنا ونحنُ حَواريُّون حينَ نُزاحِفُ.
جماجمُنا يومَ اللقاءِ تِراسُنا إلى الموت نمشي (٢) ليس فيها تَجانُفُ (٣)
(١) في (ج): (يقال بدون واو).
(٢) في (ج): (تمشي).
(٣) لم أهتد إلى قائله. وهما في "الزاهر" ١/ ١٢١، "زاد المسير" ١/ ٣٩٤ وقد ورد البيت الثاني فيهما برواية: (.. ليس فينا..).
ومعنى (البَيْضَ) هنا: الحديد الذي يوضع على الرأس لحمايته في العرب، وهي: الخُوذَة، ومفردها: بَيْضَة.
وقوله: (هامُنا): جمع (هامة)، وهي: الرأس. وقوله: (نزاحف) من (الزَّحْفِ)، وهو: المشي قليلًا، قليلًا. ويراد به هنا الزحف لقتال العدو. و (الجماجم)، جمع: جُمْجُمَة، وقد يريد بها هنا جمجمة الرأس، أو يريد: جماجم القوم؛ أي: ساداتهم ورؤساؤهم، ويكون معنى البيت في هذه الحال: أن سادتهم يتقدمونهم للحرب، ويكونون لهم كالترس الواقي. و (التِراسُ)، جمع: (تُرْس)، وتجمع كذلك على (أتراس) و (تِرَسة) و (تُروس)، وهو: ما يُتَوقَّى به في الحرب. و (تَجانُف): تمايل. وهي مصدر: (تَجانَفَ)، أي: مال. وقد وردت في المخطوطة (تجانف) بكسر النون، وأثْبَثُّ ما رأيته صوابًا؛ لأن (تَفاعَلَ) يأتي مصدرها على (تَفاعُل) بضم العين. انظر: "المزهر" للسيوطي: ٢/ ٨١ وانظر: "اللسان" ٨/ ٤٧٢٣ (هوم)، ٣/ ١٨١٦ (زحف)، ٢/ ٦٨٦ (جمم)، ١/ ٤٢٨ (ترس)، ٢/ ٧٠٠ (جنف)، "المعجم الوسيط" ١/ ٧٨ (بيض)، (١٠١١) (هوم).
292
والمختار من هذه الأقوال عند أهل اللغة: أنَّ هذا الاسم لزمهم للبياض. قال (١) أبو عبيد (٢): سُمَّي أصحاب عيسى الحواريين، للبياض، وكانوا قصَّارين.
قال الفرزدق (٣):
فقلت إنَّ الحوارِيَّات مَعْطَبَةٌ إذا تَفَتَّلْنَ (٤) من تَحْتِ الجَلابِيبِ (٥)
يعني: النساء (٦).
ورُوي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "الزُّبَير (٧) ابنُ (٨) عمَّتي، وحَواريَّ من
(١) من قوله: (قال..) إلى (.. هم خاصة الصحابة): نقله بتصرف قليل واختصار في بعض المواضع عن "تهذيب اللغة" ١/ ٦٩٦.
(٢) قوله في "غريب الحديث" ١/ ٢١٧، وقد نقله عنه الأزهري بمعناه، ونقله الواحدي عن الأزهري.
(٣) هو: أبو فراس، هَمَّام بن غالب بن صعصعة التميمي. تقدمت ترجمته.
(٤) في (د): (تقتلن).
(٥) البيت، في ديوانه: ٢٥. كما ورد في "تهذيب اللغة" ١/ ٦٩٦ (حور)، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٦ أ، "اللسان" ٢/ ١٠٤٣ (حور)، "الدر المصون" ٣/ ٢٠٩. ومعنى (مَعْطَبَة): مَهْلَكَة؛ من: (عَطِبَ)، أي: هلك. و (تفَتَّلْنَ): تمايلن، وتلَوَّيْنَ، وأصلها من: (فَتَلَ الحبلَ، وفتَّله): إذا لواه و (الجلابيب): جمع (جِلْباب): القميص أو الثوب الواسع. انظر (عطب) في "القاموس" ص ١١٦، و (فتل) في "اللسان" ٦/ ٣٣٤٤، "القاموس" ص١٠٤١، و (جلب) في "القاموس" ص ٦٨.
(٦) انظر هذا المعنى في: "جمهرة اللغة" لابن دريد: ٢٥٨ (حور)، "تهذيب اللغة" ١/ ٦٩٦ (حور). قال ابن دريد: (الحَواريَّات: النساء الحَضَرِيَّات؛ سُمِّين بذلك لنقائهن، وبياضهنَّ).
(٧) في (ب): (النصر).
(٨) في (ب): (بين بن).
293
أمَّتي" (١).
قال أبو عبيد (٢): أصل هذا إنما كان (٣) بُدُوَّهُ (٤) الحواريُّون (٥)،
(١) الحديث بهذا اللفظ: أخرجه الإمام أحمد في "المسند" ٣/ ٣١٤ (وانظر: "الفتح الرباني" للبنا: ٢٢/ ٢٤٠)، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: ٦/ ٣٧٩ (٣٢١٥٤). وورد في "غريب الحديث" ١/ ٢١٧، وأورده المتقي الهندي في "كنز العمال" ١١/ ٦٨٢، وعزاه لأحمد.
وورد بلفظ: "إن لكل نبي حواريَّ، وإن حواريَّ الزبير بن العوام". أخرجه البخاري (٣٧١٩)، كتاب: فضائل أصحاب النبي - ﷺ -، باب: مناقب الزبير بن العوام (٤١١٣) كتاب: المغازي، باب، غزوة الخندق (٢٨٤٦) باب: فضل الطيعة، (٢٨٤٧) باب: هل يبعث الطليعة وحده، (٢٩٩٧) باب: السير وحده من كتاب: الجهاد. وأخرجته الكتب التالية بنصه أو قريبًا منه: صحيح مسلم: (٢٤١٥) كتاب فضائل الصحابة، باب (من فضائل طلحة والزبير). وسنن الترمذي: (٣٧٤٤)، (٣٧٤٥) كتاب المناقب، باب، ٢٤، ٢٥، "مسند أحمد" ١/ ٨٩، ٣/ ٣٠٧. (وانظر: "المسند" بشرح: أحمد شاكر: ٢/ ٧٩). "سنن ابن ماجه" (١٢٢)، المقدمة، باب: فضل الزبير. وانظر: "صحيح سنن ابن ماجه" للألباني: ١/ ٢٧). "المستدرك" ٣/ ٣٦٢ كتاب معرفة الصحابة، "الحلية" لأبي نعيم: ٤/ ١٨٦، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٩/ ١٥١، والمتقي الهندي في "كنز العمال" ١١/ ٦٨٢. والزبير، هو: ابن العوّام بن خويلد الأسدي القرشي، تقدمت ترجمته.
(٢) قوله في "غريب الحديث" ١/ ٢١٧، وقد نقله عنه الأزهري في "تهذيب اللغة" ١/ ٦٩٦ بمعناه، ونقله الواحدي عن الأزهري.
(٣) في (د): (يكون).
(٤) في (ب): (بد). وفي "تهذيب اللغة" بَدْؤُهُ، وليس موجودة في "غريب الحديث" وأثبتُّها كما هي أعلاه؛ لاتفاق النسخ عليها، ولصحة معناها؛ لأن (البُدُوَّ)، يعني: الظهور، من: (بدا)؛ أي: ظهر، (يبدو، بَدْوًّا، وبَدًا). أما (بَدْؤُهُ)، فهي من: (بَدَأ، يبدَأ، بَدْأ)، و (البَدْءُ): فعلُ الشيءِ أوَّلُ. انظر: "اللسان" ١/ ٢٣٤ (بدا)، و١/ ٢٢٣ (بدأ).
(٥) في (ب): (الحواريين).
294
أصحاب عيسى؛ سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يحوِّرون الثياب، وهو (١): التبييض، فلما كانوا هؤلاء أنصار عيسى دون الناس، قيل لكلِّ ناصرٍ نَبِيَّهُ: (حواريٌ)، تشبيها بأولئك.
وروى (٢) ثَعْلَب عن ابن الأعرابي: الحوارُّيون: الأنصار، وهم خاصَّة الصحابة (٣)، وهذا معنى قول قتادة (٤)، والكلبي (٥)، وأبي رَوْق (٦)، قالوا: الحواريُّون: خَواصُّ عيسى، وأصفياؤه (٧). واختاره الفرَّاء (٨).
وروى شَمِر عن ابن الأعرابي، أنه قال (٩): الحواري: الناصح، وأصله: الشيء الخالص. وكلُّ شيءٍ خَلَصَ لونُهُ، فهو: حَواري. والحواريَّات من النساء: النَّقِيَّاتُ الألوان والجلود.
قال أبو عبيدة (١٠): يقال لنساء الأمصار: حواريات؛ لأنهنَّ تباعدن
(١) في (ج): (وهي).
(٢) في (ج): (روي بدون واو).
(٣) في "تهذيب اللغة" أصحابه. وأشار محققه في الهامش إلى ورود (الصحابة) في نسخة أخرى للتهذيب.
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٦/ ٤٥٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٦ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٣.
(٥) قوله في "تفسير البغوي" ٢/ ٤٣.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٧، يروي عن الضحاك.
(٧) في (ج): (وأصفيائه).
(٨) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢١٨.
(٩) لم أهتد إلى مصدر رواية شمر عن ابن الأعرابي.
(١٠) من قوله: (قال أبو عبيدة..) إلى نهاية بيت الشعر. نقله عن "تهذيب اللغة" ١/ ٦٩٧، والأزهري في "التهذيب" ذكر معنى قول أبي عبيدة.
ونص قوله كما في "مجاز القرآن" ١/ ٩٥: (و (الحواريات) من النساء: الاتي لا ينزلن البادية، وينزلن القرى. قال الحادي: (لمَّا تضمَّنت الحواريات). وقال أبو جلدة اليشكري:..) وذكر بيت الشعر.
295
عن قَشَفِ الأعرابيات، وأنشد:
فَقُلْ للحواريَّات يَبكِينَ غيرَنا ولا يبْكِينا إلاَّ الكلابُ النَّوابِحُ (١)
واختار الزجَّاج هذا القول، وقال (٢): الحُذَّاقُ باللغة يقولون: الحواريون: صفوة الأنبياء، الذين خَلَصوا (٣)، وأخْلصوا في التصديق بهم، ونُصرتهم (٤).
(١) البيت لأبي جِلْدة بن عبيد اليشكري. وقد ورد منسوبًا له، في "مجاز القرآن" ١/ ٩٥، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٧٨، "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤١٨،"معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٠٧، "المؤتلف والمختلف" للآمدي: ١٠٦، ١٠٧، "الصحاح" ٢/ ٦٤٠ (حور)، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٦ أ، وفيه (ابن حلزة)، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٣٩، "اللسان" ٢/ ١٠٤٤ (حور)، " البحر المحيط" ٢/ ٤٧٠. وورد غير منسوب، في غريب لحديث، لأبي عبيد: ١/ ٢١٧، "الجمهرة" لابن دريد: ٢٨٥ (نبح)، "الزاهر" ١/ ١٢١، "تهذيب اللغة" ١/ ٦٩٧ (حور)، "معجم مقاييس اللغة" ٢/ ١١٦ (حور)، "أساس البلاغة" ١/ ٢٠٥ (حور)، "تفسير القرطبي" ٤/ ٩٨. وقد ورد البيت في أكثر المصادر بلفظ: (.. ولا تبكنا.)، وفي "التهذيب". (ولا يَبكِينَ)، وفي المؤتلف والمختلف: (فقل لنساء المصر..). ومعنى البيت: قل للنساء الحضريات، المترفهات، البيضاوات، يبكين غيرنا، أما نحن، فغير مترفين ولا مرفهين، بل من أهل البدو، فلا تبكي علينا إلا الكلاب النوابح التي تخرج معنا للصيد.
(٢) "معاني القرآن" له: ١/ ٤١٧، نقله عنه بتصرف يسير.
(٣) في (د): (أخلصوا).
(٤) هذا الذي قاله الزجاج، إنما هو من إطرادات كلمة (حواري)، وتقرير حال أولئك الذي أطلِقت عليهم هذه الكلمة، وليس تفسيرًا لفظيًا لها، لأن أصل كلمة (حَوَرَ) هو: شدة البياض، وكما بيَّن المؤلف أن أصحاب عيسى عليه السلام وخاصته، سُمُّوا بذلك؛ لتبييضهم الثياب، فجرى هذا الاسم لهم، ثم أطلق على خاصَّة الأنبياء وناصريهم. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٧، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٣٨.
296
وقوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَنصَارُ الله﴾. أي: أنصار دين الله، آمنَّا بالله، واشهد يا عيسى بأنَّا مسلمون.
٥٣ - وقوله تعالى: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ قال عطاء، عن ابن عبَّاس (١): يريد: مِن النبيِّين (٢)؛ لأن كل نبي شاهدُ أمتِّهِ.
قال: فنبَّأهم الله -تعالى- أجمعين، إجابة (٣) لهم، فأحيوا الموتى، وصنعوا كل ما صنع عيسى (٤).
وقال أكثر أهل التفسير (٥): (اكتبنا [مع الشاهدين] (٦)): مع الذين شهدوا للأنبياء بالصدق. ومعنى (اكتبنا معهم): أَثبِت أسماءَنا مع أسمائهم؛
(١) ورد الأثر عن عطاء دون أن يُرفع إلى ابن عباس، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٧أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٣، "زاد المسير" ١/ ٣٩٥. وورد من رواية عكرمة من ابن عباس: (قال: مع محمد وأمَّتِهِ، فإنهم قد شهدوا أنه قد بلغ، وشهدوا للرسل على أنهم قد بَلَّغوا) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" ١١/ ٢٧٩، رقم (١١٧٣٢).
(٢) هكذا جاءت في جميع النسخ (من النبيين)، وعند الثعلبي: (مع النبيين). وقد ورد عن ابن عباس في هذا المعنى قولَه: (من محمد - ﷺ - وأمته أنهم قد شهدوا له أنه قد بلغ، وشهدوا للرسل أنهم قد بلَّغوا). انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٦٠، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٠٧، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٧ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٣، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٩٢، "الدر المنثور" ٢/ ٦٣، وزاد نسبة إخراجه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردوية.
(٣) في (ج): (أجابهم).
(٤) من قوله: (قال: فنبأهم..) إلى (.. ما صنع عيسى): هذه الزيادة لم أقف عليها فيما رجعت إليه من مصادر.
(٥) ممن قال بهذا الطبري، في تفسيره: ٣/ ٢٨٨، والزجاج، في "معاني القرآن" ١/ ٤١٨، والنحاس، في "معاني القرآن" ١/ ٤٠٧.
(٦) ما بين المعقوفين: زيادة من: (د).
لنفوز بمثل (١) ما فازوا، وننال مِن الكرامة مثل ما نالوا.
٥٤ - [و] (٢) - قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُواْ﴾. أصل (المَكْر) في اللغة: السعي في الفساد (٣) في خفية، ومُداجاة (٤).
قال الزجاج (٥): يقال: (مَكَرَ الليلُ، وأمْكَر): إذا أظلم (٦).
قال ابن عباس (٧): يريد: أنَّ عامَّة بني إسرائيل كفروا به، وهَمَّوا بقتله، وتواطئُوا على الفتك به، فذلك مكرهم به.
وقوله تعالى: ﴿وَمَكَرَ اللَّهُ﴾. قال أهل المعاني (٨): المَكْرُ مِنَ (٩)
(١) في (د): (مثل).
(٢) ما بين المعقوفين: زيادة من (د).
(٣) في (ج)، (د): (بالفساد).
(٤) انظر (مادة: مكر) في "كتاب العين" ٥/ ٣٧٠، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٣٤، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٧ أ، "اللسان" ٧/ ٤٢٤٧، "التاج" ٧/ ٤٩٣٤٩٤. و (المُداجاة): من: (داجى الرجلَ): ساتره بالعداوة، وأخفاها عنه، فكأنه أتاه في الظلمة. و (المداجاة): المداراة، و (داجَيتة): داريته، وكأنك ساترته العداوة انظر: "اللسان" ٣/ ١٣٣٢ (دجا).
(٥) لم أقف على مصدر قوله وقد ذكره كذلك السمين الحلبي في "الدر المصون" ٣/ ٢١٢، ولم يبين مصدره.
(٦) لم أعثر على هذا المعنى فيما رجعت إليه من مصادر اللغة، وقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٥٧ أقائلًا: (قال أهل المعاني: المكر: السعي بالفساد في سَتر ومُداجاة، وأصله من قول العرب: (مكَرَ الليلُ): إذا أظلم).
(٧) لم أقف على مصدر قوله وقد أورد معناه ابنُ الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٣٩٥.
(٨) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢١٨، "معاني القرآن" للزجاج، ١/ ٤١٩، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٠٨، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٧ أ.
(٩) في (د): (في).
298
المخلوقين: خِبٌّ (١) وخِداعٌ، وهو مِنَ الله: استدراجه العِبادَ. قال الله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (٢).
قال ابن عباس في تفسيره (٣): كلَّما أحدثوا خطيئةً، جدَّدْنا (٤) لهم نعمةً. وليس المراد بـ (مَكْرِ اللهِ) في هذه الآية، هذا الوجه. ووجه (مكرِ اللهِ) بهم في هذه القصَّة، ما قال الزجاج، وهو أنه قال (٥): المكر من الله عز وجل: المجازاة على ذلك، فسُمِّي باسمه، كقوله: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾، وقد مرَّ (٦)
(١) في (د): (خبث). (الخِبُّ) بكسر الخاء: الخِداع، والخُبْثُ، والغِشُّ. و (الخَبُّ) بفتح الخاء، وقد تكسر: الخدَّاع، الذي يسعى بين الناس بالفساد، والفعل منه: (خَبَّ)؛ أي: خَدَعَ وغشَّ غشًا منكرًا، و (خبَّبَهُ تخبيبًا): خدعه وأفسده. انظر (مادة: خبب) في "المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث": ١/ ٥٤١، "القاموس" ٧٧.
(٢) سورة الأعراف: ١٨٢، والقلم: ٤٤.
(٣) في (ج): (تفسير). وقوله أورده الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٥٧ أ، وذكره المؤلف في تفسيره "البسيط"، تح (د). الفوزان) ٢/ ٥٤١، والقرطبي في "تفسيره" ٤/ ٩٨.
(٤) في (ج): (حددنا).
(٥) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤١٩، نقله عنه باختصار.
(٦) انظر: "تفسير البسيط" للمؤلف: [البقرة: ١٥]. والواحديُّ عند تفسيره لهذه الآية أوَّلَ الاستهزاء الوارد في الآية بالمجازاة؛ أي: يجازيهم جزاء استهزائهم، وأجراه على المجاز، لا على الحقيقة، وما ذكره المؤلف حول معنى الاستهزاء، والمكر الوارد في هذه الآيات إنما هو من لوازم معانيها، والواجب في مثل هذه الألفاظ الاستهزاء، والمكر، والخديعة، والسخرية الواجب فيها أن تُثبت على الحقيقة، كما أثبتها الله لنفسه، دون تأويل. وتُجرى وفق ما يليق به تعالى ولكن لا يُشتَق من هذه الأفعال التي أطلقها الله على نفسه أسماءٌ منها، فلا يقال: ماكر، ولا مستهزيء، حاشاه عن ذلك؛ وذلك أن هذه الأفعال في إطلاقاتها، أوسع من=
299
قال المفسرون: ومكْرُ اللهِ بهم في هذه القصَّه: إلقاءُ شَبَهِ عيسى على (١) من دَلَّ عليه، حتى صُلِب بَدَلَه. قال ابن عباس: وذلك أن أحد الإنجيلية (٢) ممن آمن به، نافَقَ، فدلَّ (٣) عليه، فجعله (٤) الله تعالى في سورة عيسى، فأُخِذ فَصلِبَ (٥).
= إطلاقات الأسماء. انظر: "تفسير الطبري" ١/ ١٣٢ - ١٣٣، "مجموع فتاوى ابن تيمية" ٧/ ١١١ - ١١٢، "إعلام الموقعين" لابن القيم: ٣/ ٢١٧ - ٢١٨، "مدارج السالكين" ٣/ ٤١٥.
(١) من قوله: (على..) إلى (.. في سورة عيسى): ساقط من: (ج).
(٢) في (د): (أصحابه).
(٣) في (ج): (يدل).
(٤) (أ)، (ب): (جعل)، وهي ساقطة من: (ج). والمثبت من (د).
(٥) الذي وقفت عليه مما ورد عن ابن عباس: أن اليهود لمَّا أرادوا قتل عيسى عليه السلام حاصروه، وحوارييه، ثم بعث رأسُ اليهود رجلًا خبيثًا ليدخل ويقتل عيسى عليه السلام، فرفع اللهُ عيسى، وألقى شبهَهُ على هذا الرجل، فلمَّا خرج الرجلُ إلى أصحابه بعد أن لم يرَ عيسى، ظنَّه أصحابُه أنه عيسى، فقتلوه وصلبوه. وقد أورد هذه القصة عن ابن عباس: الثعلبيُّ في "تفسيره" ٣/ ٥٧ ب، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ٤٤٤٥، وابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٣٩٥، وأوردها القرطبي في "تفسيره" ولم يعزها إلى ابن عباس. وكذا ورد عن السدِّي بمعناه كما في "تفسير البغوي" ٢/ ٤٥، وعن مقاتل في "تفسيره" ١/ ٢٧٨.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس من طريق سعيد بن جُبير قصَّةً، مُلَخصها: أن عيسى عليه السلام لما خرج على أصحابه، وهم اثنا عشر رجلًا، قال لهم: (أيُّكم سيُلقى عليه شَبَهي، فيُقتَل مكاني، فيكون معي في الجنة؟) فتطوع أحدهم، فألقِيَ عليه شَبَه عيسى عليه السلام، ثم رفع عيسى إلى السماء، ولما جاء طلبُ اليهود، أخذوا الشبيه، فقتلوه وصلبوه.
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة": ٦/ ٣٤٢. وكذا ورد بهذا المعنى عن السُدِّي، كما في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٩، وورد مثله عن قتادة في "تفسير البغوي" ٢/ ٤٥ =
300
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾. أي: أفضل المُجازين بالسيِّئَة العقوبة.
٥٥ - قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى﴾. الآية. العامل في (إذ): قوله: ﴿وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ (١).
واختلف أهل التأويل في هذه الآية على طريقين: أحدهما: إجراء الآية (٢) على سياقها من غير تقديم ولا تأخير. وهو قول الحسن (٣)، والكلبي (٤)، وابن جُريج (٥)، وابن زيد (٦)، ومَطَر (٧)، قالوا: معنى
= فليس في هذه الروايات عن ابن عباس وغيره، أن الذي دلَّ عليه كان ممن نافق من أصحابه، ولكن ورد ذلك عن وهب، وهو: أن الذي دلَّ اليهود عليه أحدُ الحواريين من أصحاب عيسى عليه السلام بعد أن أخذ رشْوَةً من اليهود، فلما دخل هذا الرجل إلى البيت الذي فيه عيسى، رفع اللهُ عيسى عليه السلام، وألقي شبَهَهُ على الرجل، فأخذه بعدها اليهود وقتلوه وصلبوه، ظنًا منهم أنه عيسى عليه السلام. انظر هذه الرواية عن وهب في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٧ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٦.
(١) أي إنها منصوبة بقوله: ﴿وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ أي ت ومكر الله بهم في هذا الوقت. وقيِل: إن الناصب لها، قوله: ﴿خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾. وقيل: إن الناصب لها، فعل مقدَّر، هو: (اذكر). انظر تفسير "الكشاف" ١/ ٤٣٢، "غرائب القرآن" ٣/ ٢٠٣، "الدر المصون" ٣/ ٢١٣.
(٢) في (ج): (الإجراء).
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٩ - ٢٩٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٦١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٨ ب، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٧، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٥، "زاد المسير" ١/ ٣٩٦، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٦٤.
(٤) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٨ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٥.
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٨ ب، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٧، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٥، "زاد المسير" ١/ ٣٩٦.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٨ ب، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٧.
(٧) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٠، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤١٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٨ ب، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٩٣. ومطر، هو: ابن طَهْمان الوَرّاق،=
301
﴿مُتَوَفِّيكَ﴾: قابضك من غير موت. و (التَّوَفِّي): أخذُ الشيء وافيًا (١). وقد ذكرنا هذا فيما تقدم (٢).
يدل على هذا القول: قوله: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ [المائدة: ١١٧]، أي: قبضتني إلى السماء (٣).
فعلى هذا، معنى قوله: ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾: قابضك وافيا، لم ينالوا منك شيئًا (٤).
وقال (٥) الربيع (٦): معناه: متوفيك وفاة نومٍ (٧)، للرفع (٨) إلى السماء،
= أبو رجاء، السّلمي مولاهم، الخراساني، سكن البصرة، قال ابن حجر: (صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف). مات سنة (١٢٥هـ)، وقيل: (١٢٩هـ). انظر: "ميزان الاعتدال" ٥/ ٢٥١ - ٢٥٢، "تقريب التهذيب" ٥٣٤ (٦٦٩٩).
(١) انظر (مادة: وفى) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٢٤ - ٣٩٢٥، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: ٨٧٨، "التاج" ٢٠/ ٣٠٠.
(٢) انظر: "تفسير البسيط" للمؤلف: ٣/ ٨٠٤ - ٨٠٥، وانظر في موضع آخر عند تفسير آية: ٢٨١ من البقرة.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ١٣٩، "أبي السعود" ٣/ ١٠١، "البيضاوي" (٦٨).
(٤) وهذا الذي رجحه الطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٨٩ - ٢٩٠، حيث قال: (وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا، قول من قال: (معنى ذلك: أني قابضك من الأرض، ورافعك إليَّ)؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله - ﷺ -، أنه قال: (ينزل عيسى بن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض مدَّة ذكرها، اختلفت الرواية في مبلغها، ثم يموت، فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه" ثم ذكر ابن جرير روايات في ذلك.
(٥) في (ج): (قال).
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٨٩، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٠٩، والنكت العيون: ١/ ٣٩٧، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٥، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٩٣.
(٧) (نوم): ساقطة من: (ج). وقد وردت في جميع النسخ (يوم) بدلًا من: (نوم)، وما أثبتُّه هو الصواب؛ لأن المقصود بها أن الله رفعه إليه بعد أن نام، وقد سمَّى الله النوم وفاة، كما جاء في الدليل بعدها، وهو ما تدل عليه روايات الأثر في مصادره المذكورة سابقًا.
(٨) في (د): (الرفع).
302
يدلُّ عليه: قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام: ٦٠]. قال ابن عباس في رواية الوالبي (١): معناه: إنِّي مميتك. ووجه هذا القول؛ ما قال وهبٌ (٢): توفَّى اللهُ عيسى ثلاثَ ساعات من النهار، ثمَّ أحياه، ورفعه إليه (٣).
وقال الواسطي (٤): معناه: إنِّي متوفيك عن شهواتك و [عن] (٥) حظوظ
(١) هذه الرواية أخرجها البخاري في صحيحه تعليقًا: ٦/ ١٩٠ كتاب "تفسير القرآن" سورة المائدة، باب: ١٣. وهي كذلك في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٦١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٨ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٥، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٩٣. وأورَدَها السيوطى في "الدر المنثور" ٢/ ٦٤، وزاد نسبت إخراجها لابن المنذر. وانظر: "تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير" ١/ ١٦٩.
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٦١، "مستدرك الحاكم" ٢/ ٥٩٦، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٨ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٥، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٤٣، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٩٣.
(٣) أخرج الحاكم عن وهب، قوله: (توفى الله عيسى ثلاث ساعات من نهار، ثم رفعه إليه، والنصارى تزعم أنه توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياه..). وقال الذهبي عن هذه الرواية: (رواه عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عنه، قلت: وعبد المنعم، ساقط). "المستدرك" ٢/ ٥٩٦، كتاب: تواريخ المتقدمين. وأورد السيوطي عن وَهْب، قوله: (أماته الله ثلاثة أيام، ثم بعثه ورفعه). "الدر المنثور" ٢/ ٦٤، ونسب إخراجه لابن عساكر. قال الطبري رادًا على من قال بأن الله أماته في الدنيا ثم رفعه: (ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عز وجل، لم يكن بالذي يميته مِيتةً أخرى، فيجمع عليه ميتتين، لأن الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يميتهم ثم يحيهم..). تفسيره: ٣/ ٢٩٢.
(٤) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٩ ب. وسماه الثعلبي: (أبو بكر الواسطي). وهو: أبو بكر، يوسف بن يعقوب بن الحسين الأصم، الواسطي. الإمام المُجوِّد، مقرئ واسط، وإمام جامعها، إمام جليل القدر، ثقة، محقق كبير، توفي سنة (٣١٣ هـ)، وقيل: (٣١٤ هـ). انظر: "تاريخ بغداد" ١٤/ ٣١٩، "معرفة القراء الكبار" ١/ ٢٥٠، "سير أعلام النبلاء" ١٥/ ٢١٨، "غاية النهاية" ٢/ ٤٠٤.
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
303
نفسك؛ وذلك (١) أن عيسى لمَّا رُفع إلى السماء، صارت حالُهُ (٢) كحالِ الملائكةِ (٣) والطريق (٤) الآخر في هذه الآية: أنها على التقديم والتأخير.
قال ابن عباس في رواية عطاء (٥): هذا مقدَّمٌ ومؤخَّرٌ، يريد: إني رافعك إليَّ، ومتوفيك بعد أن أُهبِطك إلى الأرض حتى تكون فيها، وتتزوج، وُيولَد لك، وتكون في أمَّة محمد، ومعهم حتى تموت. (٦) وفي حديث أبي هريرة: أنه يُدفن في حجرة النبي - ﷺ -، فيقوم أبو بكر وعمر يوم القيامة بين رسولين: محمد وعيسى عليهما السلام (٧).
(١) من قوله: (وذلك..) إلى (.. كحال الملائكة)، هذا التعليل ذكره الثعلبي تعليقًا على قول الواسطي، ولفظ الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٥٩ب، بعد أن ذكر قول الواسطي: (ولقد أحسن فيما قال؛ لأن عيسى..)، ثم ذكره
(٢) في (ج): (حالته).
(٣) ورد هذا في "تفسير البغوي" ٢/ ٤٥، عن قتادة بدون سند قال: (ورفعه إليه، وكساه الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذَّة المطعم والمشرب، وطار مع الملائكة، فهو معهم حول العرش..) وقد أورده القرطبي في "تفسيره" ٤/ ١٠٠، عن الضحاك ولم يسنده.
(٤) في (ج): (الطريق) بدون واو.
(٥) لم أقف على مصدر هذه الرواية
(٦) ورد هذا القول عن الضحاك. انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٥٩ أ.
(٧) حديث أبي هريرة رضي الله عنه في نزول عيسى عليه السلام، ورد عنه من طرق وألفاظ مختلفة، فقد أخرجه البخاري في "الصحيح" (٣٤٤٨) كتاب الأنبياء، باب: ٤٩، و (٢٤٧٦) كتاب المظالم، باب: ٣١. ومسلم في الصحيح: (انظر: "صحيح مسلم" (١٥٥) كتاب: الإيمان، باب: نزول عيسى بن مريم حاكمًا). والترمذي (٢٢٣٣) كتاب الفتن، باب: ٥٤. وأحمد في "المسند" انظر: "الفتح الرباني" للبنا: ٢٤/ ٨٧، ٨٨ كتاب الفتن أبواب ظهور العلامات الكبرى)، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٥٩٥ كتاب التواريخ، والطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٩٢. وقد ورد =
304
قال الفرَّاء (١): يقال: إنَّ هذا مقَدَّمٌ ومؤَخرٌ؛ المعنى (٢): إني رافعك إليَّ، ومُطَهِّرُكَ من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إيَّاك إلى (٣) الدنيا.
ومثله من المقدَّم والمؤخر، قوله: ﴿أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ [الكهف: ١] (٤)
= فيها أنه يُتَوفَّى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه، ولكن لم أقف فيها على كونه يتزوج، ويولد له، أو كونه يُدفن في حجرة النبي - ﷺ -.. إلخ، إلا في رواية أوردها الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٥٩ ب، عن أبي هريرة، ولم يسندها، قال: (.. ثم يتزوج ويولد له، ثم يتوفى، ويصلي المسلمون عليه، ويدفنونه في حجرة النبي - ﷺ -. وفي سنن الترمذي، عن عبد الله بن سلام: (مكتوب في التوراة صفة محمد وصفة عيسى بن مريم يدفن معه، قال: فقال أبو داود [أحد الرواة في السند]: وقد بقي في البيت موضع قبر) وقال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب). "السنن" (٣٦١١) كتاب المناقب، باب: ١. وفي "الدر المنثور" ٢/ ٦٥ قال: (وأخرج البخاري في تاريخه، والطبراني، عن عبد الله بن سلام، قال: (يدفن عيسى بن مريم مع رسول الله - ﷺ - وصاحبيه، فيكون قبره رابعا). وقد جمع ابن كثير والسيوطي روايات كثيرة في نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان، انظر: "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٩٣، "الدر المنثور" ٢/ ٦٥.
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢١٩. نقله عنه بنصه
(٢) في "معاني القرآن": المعنى فيه.
(٣) في "معاني القرآن": في.
(٤) ويعني المؤلف بالتقديم والتأخير في الآية، على أن معناها. الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قَيِّما، ولم يجعل له عِوَجًا. وهو مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، واليه ذهب الطبري، والفراء، والزجاج. وقيل: ليس فيه تقديم ولا تأخير، والمعنى: ولم يجعل له عوجا، ولكن جعله قيِّما. وهو مروي عن قتادة. وكذلك ذهب إليه الفخر الرازي، وقال: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ يدل على كونه كاملًا في ذاته، وقوله ﴿قِيَمًا﴾ يدل على كونه مكملا لغيره، وكونه كاملًا في ذاته، متقدم بالطبع على كونه مكملًا لغيره، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح =
305
[الآية] (١)، وقوله: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [أي] (٣): و (٤) إلى سمائي ومحل كرامتي. فجعل ذلك رَفْعًا إليه؛ للتفخيم (٥) والتعظيم، ومثله، قوله: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ [الصافات: ٩٩]، وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من العراق إلى الشام، والتقدير: إلى أمر ربي، لأنه أمره بذلك المكان.
وقوله تعالى: ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾. أي: مُخرِجُك مِن بينهم؛ لأن كونه في جملتهم، بمنزلة التنجيس له بهم.
وقوله تعالى: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾.
= هو: الذي ذكره الله تعالى، وهو قوله ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قِيَمًا﴾، فظهر أن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد، يمتنع العقل من الذهاب إليه) "تفسير الفخر الرازي" ٢١/ ٧٦ انظر: "تفسير الطبري" (ط: دار الفكر): ١٥/ ١٩٠١٩١، "معاني القرآن" للفراء: ٢/ ١٣٣، "معاني القرآن" للزجاج: ٣/ ٢٦٧، "معاني القرآن" للنحاس ٤/ ٢١١٢١٢، "تفسير القرطبي" ١٠/ ٣٥١.
(١) ما بين المعقوفين زيادة من (د).
(٢) سورة طه: ١٢٩. والمعنى على التقديم والتأخير فيها: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسَمَّى لكان لزاما.. وهو قول قتادة، وأبي زيد، وأهل التفسير. انظر: "تفسير الطبري" (ط. دار الفكر): ٢٢/ ٢٣٢، "تفسير الفخر الرازي" ٢٢/ ١٣٣، "تفسير البيضاوي" ٢/ ٦٥.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج، (د).
(٤) الواو: ساقطة من: (ج)، (د).
(٥) في (ب): (إلى التفخيم).
306
قال ابن عباس في رواية عطاء (١): يعني بـ (الذين اتَّبعوه): الحواريّين ومن كان على دينهم.
وقال قتادة (٢)، والربيع (٣)، والكلبي (٤)، ومقاتل (٥): هم أهل الإسلام من أمَّة محمد - ﷺ -، اتَّبعوا دين المسيح، وصدَّقوه بأنَّه (٦) رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه. فوالله ما (٧) اتَّبعه من دعاه (٨) ربًّا.
وقوله تعالى: ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾. يحتمل أن يكونوا فوقهم بالبرهان والحُجَّة، ويحتمل بالعِزِّ والغَلَبَةِ.
وقال ابن زيد (٩): وجاعل النصارى فوق اليهود، فاليهود: مُسْتذلُّون
(١) لم أقف على مصدر هذه الرواية. وورد في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٠ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٦: أن الضحاك، ومحمد بن أبَّان، قالا: (يعني: الحواريون فوق الذين كفروا).
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٢، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٦١، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٤١١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٠ أ، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٨، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٦، "زاد المسير" ١/ ٣٩٧، "الدر المنثور" ٢/ ٦٤ وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد.
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٢، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٦١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٠ أ، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٨، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٦، "زاد المسير" ١/ ٣٧٩.
(٤) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٠ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٦، "زاد المسير" ١/ ٣٧٩.
(٥) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٧٩، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٠ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٤٦.
(٦) في (ب): (أنه).
(٧) في (ب): (وربما).
(٨) في (د): (ادعاه).
(٩) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٠ أ، "تفسير ابن عطية" ٣/ ١٤٤، "زاد المسير" ١/ ٣٧٩.
307
مقهورون، والنصارى وأهل الروم: لهم الملك والبسطة.
و (الاتِّباعُ) على هذا القول، بمعنى: الادِّعاءُ والمحبَّة، لا بمعنى: اتِّباع الدين والمِلِّة (١). والاختيار: ما سبق من القولين.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾. عَدَل عن الغَيْبَة إلى الخطاب؛ لتَغليب الحاضر على الغائب، لمَّا دخل معه في المعنى، وهو محمد - ﷺ -. ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله من المعنى: كأنَّه قيل: أمَّا الدنيا: فالحال فيها ما ذكرنا، وأما الآخرة: فيقع فيها الحكم في (٢) اختلافكم في الدين وأمر عيسى.
٥٦ - قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ﴾ الآية. العذاب (٣) في الدنيا: القتل الذي نالهم (٤)، وينالهم (٥)، وسَبْي الذراري، وأخذ الجزية. ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾. أي: مالهم مَن يمنعهم مِن عذاب الله.
٥٧ - قوله تعالى: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ التَوْفِيَةُ: التكميلُ (٦) في الأداء.
وقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾. أي (٧): يعذِّبهم، ولا يرحمهم، ولا
(١) يعني: أنه بناء على قول ابن زيد، يكون معنى اتباع النصارى لعيسى الوارد في الآية إنَّما هو: ادِّعاؤهم اتِّباعه ومحبته، وليس المراد به الالتزام الحقيقي باتباع دينه وملته؛ لأن واقع النصارى يخالف ذلك.
(٢) في (ج): (على).
(٣) من قوله: (العذاب..) إلى (.. الجزية): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٢٠.
(٤) في (ب): (أصابهم).
(٥) في (ب): (ونالهم).
(٦) في (ج): (التمليك).
(٧) من قوله: (أي..) إلى (.. ولا يثني عليهم): نقله بتصرف يسير عن "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٢١.
يُثْنِي عليهم (١).
٥٨ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾: إشارة إلى ما تقدَّم من النبأ عن (٢) عيسى ومريم والحواريِّين.
وقوله تعالى: ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾. قال ابن عباس (٣): يريد: نخبرك به. جَعَلَ إخبارَه به (٤)، وإظهارَهُ له (٥): تِلاوَةً، لأن التلاوة: إظهار وإخبار (٦).
(١) المحبة هنا وفي غيرها من الآيات، صفة من صفات الله تعالى، وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله الكريم - ﷺ - وهي من صفاته تعالى الاختيارية المتعلقة بمشيئته. ومنهج السلف الكرام: وجوب اثبات ما أثبته الله لنفسه من صفات، وفق ما يليق به تعالى، دون تأويل، ولا تكييف، ولا تمثيل، ويُنفى عنه ما نفاه عن نفسه منها. وقد وردت صفة المحبة في آيات كثيرة منها ما ورد بالإيجاب، كقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [١٩٥من سورة البقرة] ومنها ما ورد بالسلب، كالآية السابقة في الأصل، والتي هي موضوع هذا التعليق. والمؤلف هنا أثبت لازم الصفة، وثمرتها وفق مذهب الأشاعرة، وإثبات الَّازم غير إثبات الصفة، فالله تعالى لا يحب الظالمين على الحقيقة، ومن نتيجةِ ولازِمِ وعدم محبتهم: أن يعذبهم، ولا يرحمهم، ولا يثني عليهم. والأشاعرة والمعتزلة ينفون هذه الصفة بدعوى إيهامها النقص في الخلق؛ لأنها عندهم: مَيْلُ المخلوق إلى ما يناسبه أو يستلذه، ويرجعها الأشاعرة إلى صفة الإرادة، فيقولون بأن محبَّة اللهِ للعبد: هي إرادة إكرامه ومثوبته. والمعتزلة بما أنهم لا يثبتون إرادة قائمة، به فإنهم يفسرون المحبة بأنها نفس الثواب الواجب عندهم على الله. وكلا المذهبين خالف الحقَّ وجانب الصواب والعدل. والصراط السوي، هو: مذهب السلف الكرام الذي أثبت هذه الصفة وغيرها من الصفات الواردة في الكتاب والسنة لله، على الحقيقة ويثبت معها نتائجها ولوازمها. انظر: "مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ٢/ ٣٥٤، "شرح العقيدة الواسطية" ٤٤ - ٤٦، "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات" ١/ ٣٩٦ - ٣٩٩.
(٢) في (د): من.
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) (به): ساقطة من (د).
(٥) (له): ساقطة من: (ج).
(٦) وإخبار: ساقطة من (د). قال ابن فارس: (التاء، واللام، والواو، أصل واحد،=
309
ويجوز أيضًا أن تكون (١) التلاوة (٢) لجبريل عليه السلام، والله تعالى يضيفها إلى نفسه (٣)؛ لأن تلاوة جبريل بأمر الله [تعالى] (٤).
ومثله: ﴿نَحْنُ (٥) نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ (٦)، وأمثاله كثيرة. ومعنى ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾: أي (٧): من العلامات الدالة على تثبيت رسالتك (٨)؛ لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ كتاب أو من يوحى إليه، وقد علموا أنك أمِّيٌّ لا تقرأ.
وقوله تعالى: ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾. يعني: القرآن. ولـ ﴿الْحَكِيمِ﴾ (٩) ههنا
= وهو: الاتباع. يقال: (تَلَوته)؛ إذا تَبِعْتَه. ومنه: تلاوة القرآن؛ لأنه يُتبع آية بعد آية). "معجم مقاييس اللغة" ١/ ٣٥١ (تلو). وقال الراغب: والتلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة؛ تارة بالقرآن، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي وترغيب وترهيب، أو ما يتوهم فيه ذلك، وهو أخصُّ من القراءة، فكل تلاوة قراءة، وليس كل قراءة تلاوة. ولا يقال: (تلوت رُقْعتك)، وإنما يقال في القرآن، في شيء إذا قرأته وجب عليك اتِّباعه). "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: ١٦٧ (تلو)، وانظر: "اللسان" ١/ ٤٤٤ (تلو).
(١) في (ب): (يكون).
(٢) (التلاوة): ساقطة من: (ب).
(٣) (إلى نفسه): ساقطة من: (ب).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (د).
(٥) (نحن): ساقطة من: (ج).
(٦) مقطع من آية ٣ في سورة يوسف، وأية ١٣ من الكهف. وسياقها في سورة يوسف: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾.
(٧) من قوله: (أي..) إلى (.. لا تقرأ): نقله بتصرف واختصار عن "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٢١.
(٨) انظر هذا المعنى لـ ﴿الْآيَاتِ﴾، في "الصحاح" ٦/ ٢٢٧٥ (أيا)، "اللسان" ١/ ١٨٢ (أيا).
(٩) في (ج): (والحكيم).
310
معنيان:
أحدهما: أنه بمعنى: الحاكم، مثل: القدير، والعليم، ومعناه: ذو الحِكْمَةِ (١) في تأليفه ونظمه، وإبانة (٢) الفوائد فيه. [والحِكْمَة: أصله في اللغة: المنع عن الفساد. والقرآنُ حاكمٌ، على معنى: أنه بما فيه] (٣) من العِبَرِ والدِّلالات، مانع عن الكفر والفساد. وهذا كما وُصِفت الدِّلالةُ بأنَّها الدليلُ؛ لأنها بمنزلة الناطق بما فيها من البيان. وهذا الوجه، اختيار الزجَّاج (٤).
الثاني: أنَّه بمعنى: المُحكَم، (فَعِيل) بمعنى: (مُفعَل).
قال الأزهري (٥): وهو سائغ (٦) في اللغة؛ لأن (حَكَمتُ) يجري مجرى (أَحْكَمت) في المعنى، فَرُدَّ إلى الأصل.
ومعنى (المُحْكَم) في القرآن: أنه أُحكِم بالأمر والنهي، وبيان الحلال والحرام. قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: ١]. وهذا قول مقاتل (٧). قال: الحكيم: هو المُحكَمُ من الباطل. قال الليثُ (٨):
(١) في (ج): (ذو القدرة).
(٢) في (ج): (وآياته).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، (د). قال الزجاج: (وأصل (ح، ك، م) في الكلام: المَنْعُ. وسُمِّيَ الحاكمُ حاكمًا؛ لأنه يمنع الخصمين من التظالم. و (حَكَمَة الدابَّة)، سُمِّيت (حَكَمَةً)؛ لأنها تمنعه من الجِماح. وفي كتب السلاطين القديمة: (واحكُم فلانًا عن ذلك الأمر)؛ بمعنى: امنعهُ). تفسير أسماء الله الحسنى، للزجاج: ٤٣. وانظر: "مقاييس اللغة" ٢/ ٩١ (حكم)، "الزاهر" ١/ ٢٠٧.
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٢١. وانظر: "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤١٣.
(٥) في "تهذيب اللغة"١/ ٨٨٥ (حكم)، نقله عنه بالمعنى.
(٦) في (د): (شائع).
(٧) في "تفسيره" ١/ ٢٧٩.
(٨) قوله في "تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٥ (حكم).
311
وسمَّى الأعشى القصيدَةَ المحكَمةَ: (حكيمةً)؛ فقال (١):
وغَرِيبَةٍ تأتي المُلوكَ حكيمةٍ قد قُلتُها ليُقالَ مَنْ ذا قالَها (٢).
٥٩ - و (٣) قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ (٤) الآية.
نزلت في وَفْدِ نجران، حين قالوا للنبي - ﷺ -: (وهل رأيت ولدًا من غير ذكرٍ؟)؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية (٥). وقد ذكرنا معنى (المَثَل) فيما تقدم (٦)، وأن المراد به بيان أنَّ سبيلَ الثاني سبيلُ الأول.
فالله تعالى قد ذكر في القرآن قصَّهَ آدَمَ، وإنشاءه إيَّاه من غير والدٍ، ثم دلَّ في هذه الآية على أنَّ سبيلَ الثاني (٧) وهو عيسى، في إنشائِه، وخَلْقِهِ من غير ذَكَرٍ سبيلُ الأول، وهو آدَم.
(١) في (ج): (وقال).
(٢) البيت، في ديوانه: ١٤٤، "تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٥ (حكم)، "اللسان" ٢/ ٩٥١ (حكم). وأراد بـ (الغريبة): القصيدة.
(٣) الواو: زيادة من (د).
(٤) (كمثل آدم): ليست في (ب)، (د).
(٥) ورد هذا السبب بألفاظ مختلفة في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٥، ٤٧١، يرويه عن قتادة، والسدِّي، وابن زيد، ولفظه عن قتادة: (ذُكِر لنا أن سيِّديْ أهل نجران وأسْقُفَّيهم: السيد، والعاقب، لقيا نبي الله - ﷺ - فسألاه عن عيسى، فقالا: كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله عز وجل فيه الآية (إنَّ مثل عيسى..). وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٦٦ وزاد في نسبته إلى عبد بن حميد. ووردت روايات أخرى من طرق أخرى في سبب نزول هذه الآية، قريبة من السابقة، انظرها في "تفسير الطبري" ٦/ ٤٦٨ - ٤٧١، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٦٥، "أسباب النزول" للواحدي: ٩٩، "لباب النقول" للسيوطي ٥٢، "الدر المنثور" ٢/ ٦٧.
(٦) انظر: "تفسير البسيط" [البقرة: ٢٦] تحقيق د. الفوزان.
(٧) (الثاني): ساقطة من: (ج).
312
وفي هذه الآية حجةٌ على من أنكر القياس؛ لأن الله تعالى احتجَّ فيها على المشركين، ولا يجوز أن يدلَّهم إلاَّ بما فيه دليلٌ. فقياس (١) خَلْقِ عيسى من غير ذَكَرٍ، كقياسِ خَلْقِ آدم، بل الشأن فيه أعجب؛ لأنه خُلِقَ من غير ذَكَرٍ ولا أنثى.
وقوله تعالى: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾. أي: في الخَلْق والإنشاء. خَلَقَ عيسى من غير أب، كما خَلَقَ آدمَ من غير أبٍ ولا أُمٍ. وتمَّ الكلام عند قوله: ﴿كَمَثَلِ آدَمَ﴾ (٢)، وهو جملةُ تامَّةٌ، وتشبيهٌ كاملٌ. ولو اقتصر عليه حصل المراد. قال: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ وهذا ليس بِصِلَه لـ ﴿آدَمَ﴾، ولا صِفَةٍ، لأن الصلة للمبهمات (٣)، والصفة للنكرات (٤)، ولكنَّهُ خبرٌ مستأنَفٌ على جهة التفسير لحال آدم (٥).
(١) في (ب): (فيقاس).
(٢) ممن قال بأن الوقف تامٌّ: يعقوب، وقال أبو بكر بن الأنباري: إن الوقف هنا: حسنٌ، وليس بتامٍّ ولا كافٍ. انظر كتاب "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري: ٢/ ٥٧٨، "القطع والائتناف" للنحاس ٢٢٦، "منار الهدى" للأشموني: ٦٣.
(٣) لأن (آدم) معرفة، والمعارف لا تُوصل، وإنما الصلات للنكرات. انظر: "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢١٩، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٦.
(٤) لأن الجُمَل بعد النكرات صفات، و (آدم) مَعْرِفة، ولذا لا تكون الجملة بعده صفة له، لأن الجمل لا تكون إلا نكرة، فلا توصف بها معرفة.
(٥) أي: إنها جملة مفسرة لوجه التشبيه، فلا وجه لها من الإعراب، وهذا الوجه هو الأظهر.
وقيل: إنها في محل نصب على الحال من (آدم)، مع تقدير (قَدْ) معها لتقربه من الحال؛ لأن الفعل الماضي لا تصل بالأعلام إلا إذا أضمر معه (قَدْ)، والعامل فيها معنى التشبيه. وقال أبو البركات بن الأنباري في كتابه "البيان": إنها جملة مفسرة للمَثَلِ، وهي في موضع رفع؛ لأنها خبر لمبتدأ محذوفٍ؛ كأنه قيل: ما =
313
قال الزجَّاج (١): وهذا كما تقول في الكلام: (مَثَلُك، مَثلُ زيدٍ). تريد: أنك تشبهه في فِعْلٍ، ثم تخبر بقصَّة زيد، فتقول: كذا وكذا.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. اختلفوا في المَقُولِ له ﴿كُنْ﴾: فالأكثرون (٢): على أنه (آدَمُ)، وعلى هذا يقع الإشكال في لفظ الآية؛ لأنه إنما يقول له: (كُنْ) قبل أن يخلقه لا بعده، وههنا يقول: ﴿خَلَقَهُ﴾، ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾. والجواب:
إنَّ الله تعالى أخبرنا أوَّلًا أنه خلق آدم من غير ذَكَر ولا أنثى، ثم ابتدأ خبرًا آخَرَ، أراد أَنْ يُخبرنا به، فقال: ثم (٣) إني أخبركم أيضًا بعد خبري الأول: أني قلت له ﴿كُنْ﴾، فكان، [فجاء] (٤) [(ثم)] (٥) لمعنى (٦) الخبر الذي تقدم، والخبر الذي تأخر في الذِّكْر، لا أن (٧)
= المثل؟ فقال: خلقه من تراب. أي: المَثَلُ خلَقَهُ من تراب..). انظر: "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢١٩، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٦، "البيان" للأنباري: ١/ ٢٠٦، "الدر المصون" ٣/ ٢١٨، "منار الهدى" ٦٣.
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٢٢، نقله عنه بتصرف يسير. والزجَّاج هنا يوضح كيف كانت ﴿خَلَقَهُ﴾ جملة مفسرة.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٩٦، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٦٥ وقد رواه عن ابن إسحاق، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٤٨.
(٣) (ثم): ساقطة من: (ج) و (د).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من: (د)، وهي كذلك في "الدر المصون" ٣/ ٢٢٠؛ حيث نقل السمينُ الحلبيُّ قولَ الواحدي كاملًا.
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د)، وكذلك هي في "الدر المصون" ٣/ ٢٢٠، ولكن وردت فيه: (بثم).
(٦) في (ج)، (د): (بمعنى).
(٧) في (ب)، (ج)، (د): (لأن) بدلًا من: (لا أن) وكذلك وردت في "الدر المصون" =
314
الخَلْقَ تقدم على قوله: ﴿كُنْ﴾، وهذا كما تقول للرجل: أخبرك أني أعطيتك اليوم ألفا، ثم إني أخبرك [أني] (١) قد أعطيتك (٢) أمس قبلَ هذا ألفا، فـ (أمس) متقدم (٣) لـ (اليوم)، وإنما جاء (ثم)؛ لأن خبَرَ اليومِ متقدمٌ خبرَ (٤) أمس، وجاء خبرُ أمس بعد مُضِيِّ (٥) خبرِ اليوم، ومثله قوله: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [الزمر: ٦]، وقد خُلِقت (٦) بعد خلق زوجها، ولكن هذا واقع على الخبر دون الخلق؛ لأن التأويل: أخبركم أني قد خلقتكم من نفس واحدة؛ لأن حوَّاء أيضًا خُلِقت من ضلعه، ثم إني أخبركم أني (٧) خلقت زوجها منها، ومثل هذا مما جاء في الشعر، قوله:
قُلْ لِمَن سادَ ثمَّ سادَ أبوهُ ثم قد سادَ قبلَ ذلك جدُّهْ (٨)
= ٣/ ٢٢٠: (لأن). وما في هذه النسخ له وجاهته؛ حيث يعني أنه جيء بـ (ثم) لأن الإخبار عن قوله (كن) تأخر عن الإخبار عن الخلق. وما أثبته في الأصل من نسخة (أ)، يتناسب كذلك مع الكلام السابق واللاحق.
(١) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب)، (ج)، (د)، "الدر المصون".
(٢) أعطيتك: ساقطة من (د).
(٣) في (د): (متقدما).
(٤) (خبر): ساقطة من: ب.
(٥) في (ب): (فأخبر أمس بفعل مضى).
(٦) في (ج)، (د): (خلقتا).
(٧) في (ب): (أني قد).
(٨) البيت لأبي نواس، وهو في ديوانه: ٤٩٣. وورد البيت غير منسوب، في "غرائب التفسير" للكرماني: ١/ ٢٦٠، "رصف المباني" ٢٥٠، والجني الداني: ٤٢٨، "مغني اللبيب" ١٥٩، "منهج السالك" ٣/ ٩٤، "همع الهوامع" ٥/ ٢٣٦ (١٦٠٥)، "خزانة الأدب" ١١/ ٣٧، ٤٠، "الدرر اللوامع" ٢/ ١٧٣. وقد وردت روايته في =
315
ومعلوم أن الأبَ متقدم له، والجدَّ متقدم للأب، ولكنه أخبر عن سيادته أولًا، ثم عن سيادة أبيه، ثم عن سيادة جدِّه؛ فالترتيب يعود إلى الخبر، لا إلى الوجود. ويجوز أن يكون المراد: أنه خلقه قالَبًا من تراب، ثم قال له: (كن بَشَرًا)، فيصح النظم (١). وقال بعضهم: المقول له ﴿كُنْ﴾: عيسى عليه السلام (٢)، ولا إشكال على هذا.
وفي قوله: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾، وجهان من التأويل: أحدهما: أن هذا دلالة على أنه تعالى يخلق الشيء من غير نصب ولا تعب؛ لا أنَّه يختلقه بقوله ﴿كُنْ﴾؛ لأنه لو أراد خلق شيء وُجد ذلك الشيء، وإن لم يقل له: (كن).
= المصادر السابقة: (إنَّ من ساد..).
وروايته في الديوان:
قل لمن ساد ثم ساد أبوه قبلَهُ ثم قبل ذلك جدُّه
وقال البغدادي في "خزانة الأدب" ١١/ ٤٠: (وهذا البيت من شعرٍ مولَّدٍ لا يوثق به، وأوله مغيَّر اشتهر به، وهو أول أبيات سبعة مدح بها العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر) وهو عم هارون الرشيد.
(١) يعني المؤلف بقوله (فيصح النظم) والله أعلى: أن الذهاب في تفسير الآية إلى هذا الوجه الأخير الذي ذكره يغني عن تمحل إجابة كالتي سبقت في تفسيرها بالوجه الأول، وأنه لا إشكال في لفظ الآية.
(٢) روى أسباط عن السدِّي عن أبي مالك (غزوان الغفاري) أنه قال عن المَعنِيِّ بالآية: (فهو أمر عيسى والقيامة). انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٦٦، وبه قال البغوي في "تفسيره" ٢/ ٤٧، وهذا القول مذكور في "تنوير المقباس" ٤٨. قال الآلوسي: (والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب، والقول بأنه عائد على عيسى، ليس بشيء؛ لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه، ولا قرينة تدل عليه). "روح المعاني" ٣/ ١٨٧. ويعني بـ (الضمير المجرور): الضميرَ في ﴿لَهُ﴾، ويعني بـ (الضمير المنصوب): الضميرَ في ﴿خَلَقَهُ﴾. وانظر: "البحر المحيط" ٢/ ٤٧٨.
316
والثاني: أن قولَه: ﴿كُنْ﴾، علامةٌ لما يريد خلقه وإنشاءه.
وقوله تعالى: ﴿فَيَكُونُ﴾. قال بعض النحويين (١): هو بمعنى: كان. وكذا فسَّره ابن عباس، فقال (٢): ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾، فَكانَ، فجرى عليه (٣) الروح. وقد ذكرنا أنه يجوز أن يراد بمثال المستَقبَلِ الماضي، مستقصىً عند قوله: ﴿تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ﴾ (٤).
وقال آخرون (٥): المعنى: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾، فيكون كما يأمر الله تعالى. وقوله: ﴿فَيَكوُنُ﴾، حكاية لتلك الحالة التي يكون فيها آدمُ كما شاءَ اللهُ.
٦٠ - قوله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ ارتفع ﴿الْحَقُّ﴾ عند الفراء (٦) والزجاج (٧) بخبر ابتداءٍ محذوف. المعنى: [(الذي أنبأناك من قصة] (٨)
(١) ومنهم الأخفش في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٠٦، وقال: (ومعناه: (كن فكان)، كأنه قال: فإذا هو كائن). والنحاس، في "إعراب القرآن" ١/ ٣٣٨.
(٢) لم أقف على مصدر قولة، وأورده الخازن في "تفسيره" ١/ ٣٠٢.
(٣) في (ج)، (د): (فيه).
(٤) سورة البقرة: ١٠٢. ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾. قال النحاس: (والمستقبل يكون في موضع الماضي إذا عُرفَ المعنى) "إعراب القرآن" له: ١/ ٣٣٨. وذكر الحدَّاديُّ أنَّ الماضي يذكر بلفظ المستقبل في موضعين:
أحدهما: إذا كان حالاً.
والثاني: إذا كان الفاعل يدوم على الفعل، وكان من سبيله إتيان ذلك الفعل. انظر: "المدخل لعلم تفسير كتاب الله" له: ٢٢٨.
(٥) لم أقف عليهم.
(٦) انظر: "معاني القرآن" له: ١/ ٢٢٠.
(٧) انظر: "معاني القرآن" له: ١/ ٤٢٢.
(٨) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). ومُثْبت من بقية النسخ.
317
عيسى، الحَقُّ). أو: (ذلك النبأ في أمر عيسى، الحقُّ). فحُذِفَ؛ لتقدم ذِكْره، وأغنى حضورُ المعنى للنفس عن الإشارة إليه.
وقال أبو عبيدة (١): هو استئنافٌ بعد انقضاء الكلام، وخبره: في قولك (٢): ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ [و] (٣) هذا كما تقول: الحقُّ من الله تعالى (٤)، والباطل من الشيطان (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الخطاب للنبي - ﷺ -، والمراد: نهي غيره عن الشكِّ، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ (٦) ويحتمل أن يكون المعنى: فلا تكن من الممترين أيُّها السامع للبرهان، من المكلفين كائنًا مَنْ كان.
والامْتِراءُ: الشكُّ (٧). قال ابن الأنباري (٨): وهو مأخوذ من قول العرب: (مَرَيْتُ الناقةَ والشاةَ): إذا حَلَبْتهما (٩). فكأنَّ الشاكَّ يجتذب
(١) في "مجاز القرآن" له: ١/ ٩٥. نقله عنه.
(٢) في (ب)، (ج)، (د): (قوله).
(٣) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج)، (د).
(٤) تعالى: ساقطة من: (ج)، (د).
(٥) وقيل: هو فاعل؛ أي: جاءك الحقُّ. انظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ١٠٣.
(٦) سورة الطلاق: ١. ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ قال الزجاج: (والخطاب للنبي خطاب للخلق؛ لأن النبي لم يشكك في قصَّة عيسى) "معاني القرآن" له: ١/ ٤٢٢.
(٧) في (ب): (الشاك).
(٨) في "الزاهر" ١/ ٤٥٥ نقله عنه بالمعنى.
(٩) في (ج): (حلبتها).
318
بِشَكِّه (١) سِرًّا، كاللبن (٢) الذي يُجتذَب (٣) عند الحلب. ويقال: (قد مارى فلانٌ فلانا): إذا جادله واستخرج غضبه (٤).
٦١ - قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ﴾ أي: في عيسى عليه السلام. وقيل (٥): الهاء تعود إلى ﴿الْحَقُّ﴾، في قوله: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾. أنَّ عيسى عبد الله ورسوله. ﴿فَقُل تَعَالَواْ﴾. أصله: (تعالَيُوا)؛ لأنه (تَفاعَلُوا)؛ من: (العُلُوِّ)، فاستُثْقِلت الضمة على الياء، فسُكِّنت، ثم حُذِفَت لاجتماع الساكِنَيْن. وأصله: العُلُوُّ والارتفاع.
فمعنى (تعالَ): ارتفع. إلاَّ أنه أكثر (٦) في الاستعمال حتى صار لكل مجيء، وصار بمنزلة (هَلُمَّ) (٧).
وقوله تعالى: ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾. فقال المفسرون (٨): لمَّا احتجَّ الله تعالى على النصارى من طريق القياس بقوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى﴾ [آل
(١) من قوله: (بشكه..) إلى (يجتذب): ساقط من (د).
(٢) في (أ): (كاللين). والمثبت من بقية النسخ.
(٣) في (ج): (يجتلب).
(٤) ونصُّ قول ابن الأنباري: (وقولهم: "قد مارى فلان فلانًا"، قال أبو بكر: معناه: قد استخرج ما عنده من الكلام "الحجة" وهو مأخوذ من قولهم: "مَرَيْتُ الناقةَ والشاة، أمْريهما مَرْيًا": إذا مسحت ضروعهما لتَدُرّا).
(٥) لم أقف على القائل، وقد حكى المفسرون القولين دون بيان الذاهب إلى القول الثاني. وقد ذهب الطبري إلى الأول، وأجاز الثاني. انظر: "تفسيره" ٣/ ٢٩٨، "تفسير البغوي" ١/ ٤٨، "زاد المسير" ١/ ٣٩٩.
(٦) في (ب)، (د): (كثر).
(٧) انظر: "الزاهر" ٣/ ٢٧٧، "مفردات ألفاظ القرآن" ٥٨٤ (علا).
(٨) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٢٣.
319
عمران: ٥٩]، الآية؛ أمر (١) النبي - ﷺ -، أن يحتجَّ عليهم من طريق الإعجاز وهو: المباهلة.
ومعنى المباهلة: الدعاء على الظالم من الفريقين (٢). فلما نزلت هذه الآية، دعا رسول - ﷺ - وفد نجران إلى المباهلة، وخرج رسول الله - ﷺ - محتضنًا الحسينَ (٣)، آخذًا بيد الحَسَن (٤)، وفاطمة (٥) تمشي خلفه، وعَلِيٌّ خلفها، وهو يقول لهم: إذا أنا دعوت فَأَمِّنوا. فقال: أُسْقُفُّ (٦) نَجْران: يا
(١) (أمر): ساقطة من (د).
(٢) انظر: "تأويل مشكل القرآن" ٥٥٦، "الزاهر" ١/ ٢١٩، "مقاييس اللغة" ١/ ٣١١ (بهل). وقد ذكر ابن فارس أن (بهل) أصل لثلاثة معانٍ: الابتهال، والتضرع، والدعاء، ثم قال: (والمباهلة يرجع إلى هذه، فإن المتباهِلَيْن يدعو كل واحد منهما على صاحبه، قال تعالى: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: ٦١].
(٣) هو: أبو عبد الله، الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، حفيد رسول الله - ﷺ - ابن بنته فاطمة رضي الله عنها، اختلف في سنة ولادته ما بين سنة (٤ هـ - ٦ هـ)، وكان رحمه الله دَيِّنا فاضِلا كثيرَ الصيام والصلاة والحج، وقُتِل رضي الله عنه بكربلاء من الكوفة سنة (٦١ هـ)، إثر خروجه على بني أمية رضي الله عنه. انظر: "الاستيعاب" ١/ ٤٤٢، "الإصابة" ١/ ٣٣٢.
(٤) هو: أبو محمد، الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، حفيد رسول الله - ﷺ -، ابن بنته فاطمة رضي الله عنها وُلِد سنة (٣ هـ)، كان حليمًا ورعًا فاضلًا، ترك المُلْك والدنيا حرصًا على دماء المسلمين، ورغبة فيما عند الله، اختلف في سنة وفاته ما بين (٤٩ هـ - ٥١ هـ)، ودفن بالبقيع. رضي الله عنه. انظر: "الاستيعاب" ١/ ٤٣٦، "الإصابة" ١/ ٣٢٨.
(٥) هي: الزهراء، بنت رسول الله - ﷺ -، وزوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم رسول الله - ﷺ -، وأم الحسن والحسين رضي الله عنهما. انظر: "الاستيعاب" ٤/ ٤٤٧، "الإصابة" ٤/ ٣٧٧.
(٦) الأُسقُفُّ بتشديد الفاء، وتخفيفها: لقب ديني لأحبار النصارى، فوق القسِّيس، =
320
معشر النصارى: إني لأرى وجوهًا لو سألوا الله أن يزيل جبلًا عن مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. ثمَّ قبلوا الجِزْيَةَ وانصرفوا. فقال رسول الله - ﷺ -: "والذي نفسي بيده، إنَّ العذاب قد تدلَّى على أهل نجران، ولو تلاعنوا، لمُسِخوا قِرَدَةً وخنازيرَ، ولا ضطَرَبَ عليهم الوادي نارًا، ولاستأصل الله نجرانَ وأهلَهُ، حتى الطيرَ على الشجر، ولَمَا حالَ الحولُ على النصارى حتى هلكوا" (١).
= ودون المطران. ويقال: سُقْفٌ. والجمع: أساقفة، وأساقف. انظر (سقف) في "القاموس المحيط" ص ٨٢٠، "المصباح المنير" ١٠٦، "المعجم الوسيط" ص ٤٣٨. وقد سَمَّى ابنُ إسحاق هذا الأسقُفَّ، وهو: أبو حارثة بن عَلْقَمة، أحد بني بكر بن وائل، ووصفه بأنه أسقفُّهم وحَبْرُهم وإمامُهم، وصاحبُ مِدْرَاسِهم. وذكر في موضع آخر أن الذي قال ذلك هو العاقب، واسمه عبد المسيح، ووصفه بأنه أميرُهم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه. وفي "دلائل النبوة" لأبي نُعيم: أن الذي نصحهم، هو: السَّيِّد، واسمه: الأيهم، وهو صاحب رحلهم ومجتمعهم والذي يقوم بأمورهم. انظر: "السيرة" لابن هشام: ٢/ ٢١٥، "دلائل النبوة" ٣٥٥.
(١) وردت قصة المباهلة في كتب السنة، والتفسير بالمأثور، بروايات وألفاظ مختلفة تتفق في مضمونها مع ما ذكره المؤلف، ولكن لم أجد الرواية بهذا اللفظ الذي ساقه المؤلف إلا عند البغوي في "تفسيره" ٢/ ٤٨، وذكرها الزمخشري في "الكشاف" ١/ ٤٣٤. وتتفق بعض ألفاظ رواية المؤلف مع بعض الروايات الواردة في كتب السنة، وتقرب من بعضها، كما أن بعض ألفاظها بالمعنى. انظر: "روايات المباهلة" في "صحيح البخاري" (٤٣٨٠) كتاب: المغازي، باب: (قصة أهل نجران). "صحيح مسلم" (٢٤٠٤) كتاب: فضائل الصحابة، باب (من فضائل علي)، "سنن الترمذي" (٢٩٩٩)، كتاب: التفسير، باب: من سورة آل عمران، وقال عنه: (حسن صحيح). "مسند أحمد" ١/ ٢٤٨، "مستدرك الحاكم" ٢/ ٥٩٤ وصححه، ووافقه الذهبي. "مصنَّف ابن أبي شيبة" ٦/ ٣٨١ رقم الحديث (٣٢١٧٥)، "سيرة ابن هشام" ٢/ ٢١٥، "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٩ - ٣٠١، "تفسير =
321
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾. قال أهل المعاني: يعني بـ (الأنفس): بني العم. والعرب لا تستنكر أن تخبر عن ابن العم بأنه نفسُ ابن عمِّهِ، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ (١)؛ أراد: إخوانكم من الدين (٢)، فأجرى (٣) الأخوَّةَ في (٤) الدين، مجرى الأخوَّةِ في (٥) القرابةِ (٦). وإذا (٧) وقعت النفس على البعيد في النسب، كان أجدر أن تقع على القريب في النسب والدين؛ وإنَّما قلنا هذا؛ لأن المتكلم لا يقول ادعوا فلانا وفلانا ونفسي؛ لأنه يكون حاضرًا.
= ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٦٧ - ٦٦٨، "دلائل النبوة" لأبي نعيم: ٣٥٣ - ٣٥٤، "أسباب النزول" للواحدي: ١٠٧ - ١٠٨. وأوردها السيوطي في "الدر" ٢/ ٦٧ - ٧٠، ونسب إخراج بعض رواياتها للبيهقي في الدلائل، وابن مردويه، وعبد بن حميد، وسعيد ابن منصور. وأوردها ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٣٩٥ من لفظ ابن إسحاق في "سيرة ابن هشام" ومن رواية البيهقي في الدلائل، ومن غيرها من كتب السنة.
(١) سورة الحجرات: ١١ وبعدها: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
(٢) في (ج)، (د): (من المؤمين).
(٣) في (ج): (وأجرى).
(٤) في (ب): (من).
(٥) في (ب): (من).
(٦) وقد ذكر ابن خالويه أن من معاني (النفس): الأخ. ثم استدل له بقوله تعالى في آية ٢٩ من النساء: ﴿وَلَا تَقتُلُوا أَنفُسَكُم﴾، وقال: (أي: إخوانكم). وقد نقل صاحب "اللسان" قوله ابن خالويه، واستدل له بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ آية: ٦١ سورة النور. انظر ليس في كلام العرب، لابن خالويه: ١٩٦، "لسان العرب" ٦/ ٢٣٤ (نفس). وكذا فسرها ابن قتيبة، فقال: (أي: إخواننا وإخوانكم). "تفسير غريب القرآن" ١٠٦.
(٧) في (ج): (إذا) بدون واو.
322
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ الابتهال في اللغة يكون على معنيين:
أحدهما: التضرع إلى الله.
والثاني: الالتعان، والدعاء بـ (البَهْلَةِ)، وهي: اللَّعْنَةُ. يقال: (عليه بَهْلَةُ اللهِ)؛ وبَهلتهُ؛ أي: لعنته (١).
قال لَبِيد:
في قُرومٍ سادةٍ مِن قومِهم نَظَرَ الدهرُ إليهم فابْتَهَلْ (٢).
(١) ما ذكره المؤلف من معاني الابتهال، ترجع إلى (البَهْل)، وهو: اللعن. والبَهْلَهُ بفتح الباء وبضمها تعني: اللغنة. و (باهَلَ القَومُ بعضهم بعضا)، و (تباهلوا، وابتهلوا)؛ أي: تلاعنوا، وذلك أن جتمعوا ويقولوا: لعنة الله على الظالم مِنَّا؛ وذلك إذا ما اختلفوا في شيء. ومن معاني (بَهَلَ): التخلية. ويقولون: (بَهَلْتُه)؛ إذا خلَّيته وإرادَته، و (أبهل الراعي إبِلَهُ): إذا تركها ترعى، أو تركها من الحلب. و (الباهل من الإبل): التي لا صِرَارَ على ضَرْعِها. و (أبْهَلَ الوالي رعيَّتَه): إذا أهملها. والمعنيان من وادٍ واحد؛ لأن اللعن في حقيقته: إهمال وإبعاد، فـ (بهَلَه اللهُ): لعنه وأبعده من رحمته. وهذا هو أصل الابتهال، ثم استعمل في كل دعاء يُجتهد فيه، وُيستَرسَل، وُيتضرع، وإن لم يكن التعانا. و (البَهْلُ) كذلك: الشيء الحقير اليسير، ومنه المال القليل، والماء القليل. و (التَّبَهُّلُ): العناء في الطلب. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٩٦، وغريب القرآن، لليزيدي: ٤٢، "الزاهر" ١/ ٢١٩، "الصحاح" ٤/ ١٦٤٢ - ١٦٤٣ (بهل)، "مقاييس اللغة" ١/ ٣١٠ - ٣١١ (بهل)، "الفائق" للزمخشري: ١/ ١٤٠، "الكشاف" ١/ ٤٣٤، "اللسان" ١/ ٣٧٥ (بهل).
(٢) البيت، في ديوانه: ١٩٧، وقد ورد منسوبًا له، في "تفسير الطبري" ٣/ ٢٩٨، "الزاهر" ١/ ٢١٩، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤١٥، "النكت والعيون" للماوردي: ١/ ٣٩٨، "أساس البلاغة" ١/ ٧١ (بهل)، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٠٤. وقد وردت روايته في بعض المصادر السابقة: (في كهول سادة)، وورد في كل المصادر السابقة: (.. من قومه) بدلًا من: (.. من قومهم). و (قُروم) مفردها: (قَرْم)، وهو: السيِّد المقدَّم في الرأي والمعرفة وتجارب الأمور. ويقال كذلك للسيد الرئيس: (مُقرَم). انظر: "أساس البلاغة" ٢/ ٢٤٨ =
323
أي: دعا عليهم بالهلاك، وكلا (١) المعنيين مروي عن ابن عباس.
قال (٢) في رواية الكلبي (٣): قوله ﴿نَبْتَهِلْ﴾ أي: نجتهد في الدعاء.
وقال في رواية عطاء (٤): ندعُ (٥) الله باللَّعنة على الكاذبين.
٦٢ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ الآية. أي (٦): هذا الذي أوحيناه إليك من الآيات والحُجَجِ.
فـ ﴿هُوَ﴾ (٧) ههنا يصلح أن يكون فَصْلًا وعِمادًا (٨)، ويكون ﴿الْقَصَصُ﴾
= (قرم)، "النهاية في غريب الحديث" ٤/ ٤٩، ٥٠ (قرم). وقد فسر الزمخشري في "أساس البلاغة" (ابتهل) الواردة في البيت، فقال: فاجتهد في إهلاكهم. وفسرها د. إحسان عباس محقق الديوان: (سبح، أوقف متضرعًا؛ أي أنه وقف معجبًا وهو ينظر إليهم، أو استشعر ذلة حاله بالنسبة إليهم..).
(١) في (ب): (وكان)، وفي (ج)، (د): (وكلي).
(٢) (قال): ساقطة من: (ج).
(٣) أخرج هذه الرواية: أبو نعيم في "دلائل النبوة" ٣٥٤، وهي في "تفسير البغوي" ٢/ ٤٨ من قول الكلبي دون أن يرفعها لابن عباس، وأوردها السيوطي في "الدر" ٢/ ٦٩ ونسب إخراجها لأبي نعيم.
وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٦٦٨ عن ابن عباس من رواية ابن جربج عنه: (﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾: نجتهد).
(٤) أوردها السيوطي في "الدر" ٢/ ٦٩ من طريق الكلبي عن ابن عباس، وعزاها لأبي نعيم في الدلائل، ولم أجدها فيه، وقال البغوي في "تفسيره" ٢/ ٤٨ (قال إبن عباس رضي الله عنهما: أي: يتضرع في الدعاء).
(٥) في (د): (ندعوا).
(٦) من قوله: (أي..) إلى (.. وهما جميعا خبر إنَّ): نقله بتصرف عن "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٢٤.
(٧) في (ب)، (ج): (وهو). وفي (د): (هو) بدون واو.
(٨) أي: ضمير زائد لا محل له من الإعراب، وضمير الفصل ويسمِّيه الكوفيُّون: =
324
خَبَرَ ﴿إِنَّ﴾. ويصلح أن يكون ﴿هُوَ﴾ ابتداءً، وخَبرُه: ﴿الْقَصَصُ﴾. وهما جميعًا خبرُ إنَّ (١).
والقَصَصُ: مصدر قولهم: (قَصَّ فلانٌ الحديثَ، يقصُّه قَصًّا، وقَصَصًا) (٢). وأصله (٣): اتِّباعُ الأثر؛ يقال: (خرج فلانٌ قَصَصًا في أثر فلان)، و (قَصًّا) (٤)؛ وذلك إذا اقتصَّ أثَره، ومنه قوله تعالى: [﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١]. وقيل للقاصِّ يقصُّ (٥) لأتباعه خبرًا بعد خبر] (٦)، وسَوقه الكلامَ سَوقًا.
فمعنى (٧) (القَصَص): الخبر الذي تَتَابَعُ (٨) فيه المعاني.
= (العماد)، ويُسمَّى كذلك (الدعامة) هو: أحد ضمائر الرفع المنفصلة، يأتي لإزالة اللبس في الكلام، فيفصل بين ما أصله مبتدأ وخبر؛ ليُعلم أن ما بعده خبر عمَّا قبله، وليس نعتا له، وهو يفيد الكلام ضربًا من التوكيد، ويغلب على الاسم الواقع بعده أن يكون معرفة. انظر: "النحو الوافي" ١/ ٢٤٢ - ٢٥٠، "معجم الشوارد النحوية" ٣٥٥، "معجم المصطلحات النحوية" ١٧٣.
(١) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٣٩، "التبيان" للعكبري: (١٩٤)، "الفريد في إعراب القرآن" ١/ ٥٨٣.
(٢) قال في "اللسان" ٦/ ٣٦٥٠ (قصص): (والقِصَّهُ: الخبر، وهو (القَصَصُ). و (قصَّ عليَّ خبره، يقصُّهُ قَصَّا، وقصَصًا): أورده. و (القَصَص): الخبر المقصوص بالفتح وضع موضع المصدر، حتى صار أغلب عليه. و (القِصَصُ) بكسر القاف: جمع (القِصَّة) التي تكتب).
(٣) من قوله: (وأصله) إلى (سوقا): نقله بتصرف عن "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٧٧ (قصَّ).
(٤) في (د): (وقصصا).
(٥) في (د): (يقص). والمثبت من: (ج). وفي (تهذيب الغة): (يقُصُّ القَصَصَ).
(٦) ما بين المعقوفين: زيادة لازمة لتمام المعنى، من: (ج)، (د)، "تهذيب اللغة".
(٧) في (ب): (لمعنى).
(٨) في (ب): (شايع).
325
وقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾. (مِن) (١) دخلت توكيدا (٢) لنفي جميع من ادَّعى المشركون أنَّهم آلهة (٣)، أي: أن عيسى ليس بإلهٍ كما زعموا، وإنَّما اقتضت (مِن) توكيد النفي؛ لأن أصلها لابتداء الغاية، فدلت (٤) على استغراق النفي لابتداء الغاية إلى انتهائها (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. معناه ههنا (٦): أنه لا أحد يستحقُّ إطلاق هذه الصفة (٧) له إلا هو.
٦٣ - قوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ الآية. أي (٨): فإن أعرضوا عمَّا أتيت به من البيان، فإنَّ الله يعلم من يُفسِد (٩) خلقه فيجازيه على إفساده.
٦٤ - قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا﴾ الآية (١٠). الخطاب
(١) من قوله: (من..) إلى (.. كما زعموا): نقله باختصار وتصرف من "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٢٤.
(٢) في (ب): توكيد.
(٣) في (د): إله.
(٤) (فدلت على استغراق النفي لابتداء الغاية): ساقط من (د).
(٥) فـ (من) هنا جارَّةٌ، صلةٌ (أي: زائدة) تفيد استغراق نفي الجنس، أو توكيد العموم، انظر: كتاب "حروف المعاني" للزجاجي: ٥٦، "الجنى الداني" ٣١٦٣١٧.
(٦) في (ب): هنا.
(٧) في (ج): القصة.
(٨) من قوله: (أي..) إلى (.. على إفساده): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٢٤.
(٩) في "معاني القرآن": (يفسد من خلقه).
(١٠) الآية: ساقطة من (د).
326
لنصارى نجران؛ عند الحسن (١)، والسُدِّي (٢)، وابن زيد (٣)، ومحمد بن جعفر بن الزبير (٤).
وليهود المدينة؛ عند قتادة (٥)، والربيع (٦)، وابن جُرَيج (٧). وعند بعضهم (٨): الخطاب لهما جميعًا (٩).
(١) قوله في "النكت والعيون" ١/ ٣٩٩، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٠٥.
(٢) قوله: في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٢، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٩، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٥٤، "زاد المسير" ١/ ٤٠٠، "القرطبي" ٤/ ١٠٥، "الدر المنثور" ٢/ ٧١.
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٢، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٩، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٥٤، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٠٥.
(٤) قوله في "سيرة ابن هشام" ٢/ ٢١٥ من رواية ابن إسحاق عنه، "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٢، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٥٤، "الدر المنثور" ٢/ ٧١.
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٢، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٩، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٥٤، "زاد المسير" ١/ ٤٠٠، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٠٥، "الدر المنثور" ٢/ ٧١ وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٢، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٩، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٥٤، "زاد المسير" ١/ ٤٠٠، "الدر المنثور" ٢/ ٧١.
(٧) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٢، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٦٩، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٩، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٥٤، "زاد المسير" ١/ ٤٠٠، " الدر المنثور" ٢/ ٧١.
(٨) ومنهم: عمر بن عبد العزيز، كما في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٦٩، ونُسِب القولُ به إلى الحسن، كما في "زاد المسير" ١/ ٤٠٠، وكذلك جعلها الطبري عامَّةً لأهل الكتابين. انظر: "تفسيره" ٣/ ٣٠٢ - ٣٠٣، وإليه ذهب المؤلف الواحدي في تفسيره (الوجيز) (مطبوع بهامش تفسير مراح لبيد): ١/ ١٠٢.
(٩) رجح الطبري هذا الرأي، مستدلًّا بعدم مخصص من أثر صحيح لأحد الفريقين دون الآخر، وليس أحدهما أولى بأن يُقصَد دون الآخر، وقال: (فالواجب أن يكون كل كتابي معنيًا به لأن إفراد العبادة لله وحده وإخلاص التوحيد له، واجب على كل مأمور منهي من خلق الله، واسم أهل الكتاب يلزم أهل التوراة والإِنجيل، فكان معلومًا بذلك أنه عني به الفريقان جميعًا). "تفسيره" ٣/ ٣٠٢ - ٣٠٣. وإليه ذهب ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٣٩٨، والشوكاني في "فتح القدير" ١/ ٥٢٥. واستظهر ابن عطية أن الآية نزلت في وفد نجران إلا أن لفظ (أهل الكتاب) =
327
وقوله تعالى: ﴿إِلَى كَلِمَةٍ﴾. معنى (١) الكلمة: كلامٌ فيه شرح قِصَّة، وإن طال؛ ولذلك يقول (٢) العرب للقصيدة: (الكلمة) (٣).
وقوله تعالى: ﴿سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾. [يريد بـ (السواء): العدل، وكذلك في قراءة عبد الله (إلى كلمة عدل بيننا وبينكم)] (٤).
قال ابن قتيبة (٥): ﴿سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾؛ أي: نَصَفٍ. يقال: (دعا إلى
= يعمهم، ويعم سواهم من النصارى واليهود. انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ١٥٤.
(١) من قوله: (معنى) إلى (الكلمة): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٢٤.
(٢) في (ج)، (د): تقول.
(٣) وهو من باب إطلاق الجزء، ويراد به الكُلُّ، وسُمِّيت القصيدةُ بذلك؛ لأنها بمجموعها وارتباط بعضها ببعض، صارت في قوة الكلمة الواحدة. وقد تطلق الكلمة وهي واحد (الكَلِم)، ويراد بها الكلام، وذلك على سبيل المجاز. يقول ابن مالك:
كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاستقم اسمٌ وفعلٌ ثم حرف الكَلِم
واحدُه كَلِمَةٌ والقَوْلُ عَم وكِلْمَةٌ بها كلام قد يُؤم
فالكلمة قد يُؤَمُّ بها الكلام؛ أي: قد تطلق على الكلام، وهو اللفظ المفيد المتركب من كلمتين أو أكثر. انظر: "شرح ابن عقيل" ١/ ١٦، "النحو الوافي" ١/ ١٧. ومن ذلك قول النبي - ﷺ -: "أصدق كلمة قالها الشاعر؛ كلمة لَبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل". أخرجه: البخاري في "صحيحه" (٣٨٤١)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: أيام الجاهلية، وأخرجه ابن ماجه في سننه: (٣٧٥٧)، كتاب: الأدب، باب: الشعر.
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (د). وانظر قراءة عبد الله بن مسعود وهي قراءة تفسيرية في "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢٢٠، "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٣، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٥٥، "البحر المحيط" ٢/ ٤٨٣.
(٥) في "تفسير غريب القرآن" له: ١٠٦، نقله عنه بتصرف واختصار.
328
السواء)؛ أي: إلى النَّصَفَةِ؛ وإنَّما قيل و (النَّصَفَة): (سواءٌ)؛ لأنَّ أعدل الأمور أوساطها (١).
وقال الزجاج (٢): ﴿سَوَاءٍ﴾: نعتٌ للكلمة، يريد: ذات سواء. وذكرنا الكلام في معنى ﴿سَوَاءٌ﴾ في ابتداء سورة البقرة.
والمعنى: إلى كلمة عادلة مستقيمة مستوية، إذا أتيناها نحن وأنتم كنَّا على السواء والاستقامة. ثمَّ قال: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ﴾. موضع (٣) ﴿أَنْ﴾: خَفْضٌ على البدل من ﴿كَلِمَةٍ﴾ المعنى: تعالوا إلى أن لا نعبد إلاَّ الله. وهذا تفسير للكلمة (٤).
قال الزجاج (٥): وجائز أن تكون في موضع (رفع)؛ كأن قائلًا قال: ما الكلمة؟ فأجيب، فقيل: هي: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ﴾ (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾. أي: لا نعبد معه غيره. يقال: أشرك معه فلانًا: أي: جعله شريكه، وأشرك باللهِ غيره؛ أي: عبده معه عبادة الله؛ فمعنى الباء، معنى (مع) (٧)، وفي الباء وجه آخر،
(١) وعبارة ابن قتيبة أوضح، وهي: (وسواء كل شيء): وسطه. ومنه يقال للنَّصَفَة: (سَواء)؛ لأنها عَدْلٌ. وأعدل الأمور: أوساطها. والنَّصَفَة، والنَّصَفُ: العدل. والمصدر: الإنصاف. انظر: "القاموس" (٨٥٦) (نصف).
(٢) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٢٥، نقله عنه بالمعنى.
(٣) من قوله: (موضع..) إلى (.. فقيل. هي أن لا نعبد إلا الله): نقله بنصه مع تصرف يسير عن "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٢٥.
(٤) قوله: (وهذا تفسير للكلمة): من قول المؤلف وليس من قول الزجاج.
(٥) في المصدر السابق.
(٦) وهناك توجيهات إعرابية أخرى لها، انظرها في "الدر المصون" ٣/ ٢٣٣ - ٢٣٤.
(٧) انظر في إتيان الباء بمعنى (مع) "رصف المباني" ٢٢٢، "مغني اللبيب" ١٤٠، "تناوب حروف الجر" ٩٤.
329
ذكرنا (١) عند قوله: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥١].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾. قال عطاء عن ابن عباس (٢): يريد: كما اتخذت النصارى عيسى، واتخذت بنو إسرائيلَ عُزَيْرًا.
قال الزَّجاج (٣): أي: نرجع إلى أنَّ (٤) معبودَنا الله عز وجل، وأن عيسى بشر، كما أننا بشر، فلا نتَّخذه (٥) ربًّا.
وقال بعضهم (٦): معناه: لا نطيع في المعاصي أحدًا. والله تعالى أخبر عن اليهود والنصارى لمَّا (٧) أطاعوا في معصيته (٨) علماءَهم، فإنهم اتخذوا (٩) من دونه آلهةً، فقال: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (١٠). وفي الخبر: (من أطاع مخلوقًا في معصية الله، فكأنما
(١) في (د): (ذكرناه).
(٢) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه.
(٣) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٢٦. نقله عنه بنصه.
(٤) أن: ساقطة من (د).
(٥) في (ج): تتخذوه.
(٦) ومنهم ابن جريج، كما في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٤ وإليه ذهب الطبري، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧٠، "النكت والعيون" ١/ ٣٩٩، "زاد المسير" ١/ ٤٠٢، "الدر المنثور" ٢/ ٧١، وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر.
(٧) في (د): (بما).
(٨) في (ج): (في معصية الله).
(٩) اتخذوا: غير مقروءة في (أ)، ومثبتة من: بقية النسخ.
(١٠) [سورة التوبة: ٣١] ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾. انظر في تفسيرها "تفسير الطبري" ١٠/ ١١٤.
330
سجد سجدة لغير الله) (١).
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾. أي: إنْ أعرضوا عن الإجابة (٢)، فقابلوا أنتم إعراضَهم عن الحقِّ بِخِلافِهِ؛ للإنكار عليهم، وقولوا: ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾. أي: مقرون بالتوحيد مستسلمون لما أتتنا به الأنبياءُ.
٦٥ - قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾. الآية (٣).
قال ابن عباس (٤)، والسدِّي (٥)، وقتادة (٦): اجتمعت اليهود،
ونصارى نجران عند رسول الله - ﷺ -، فتنازعوا في إبراهيم، فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيًّا، فنزلت هذه الآية.
وقوله (٧) تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾. يريد: إنَّ اليهودية حدثت بعد نزول التوراة، والنصرانية، بعد نزول الإنجيل.
(١) لم أقف على مصادر هذا الخبر.
(٢) في (أ): (عن الآية). وفي (ب): (عن الحق)، والمثبت من: (ج)، (د): "التفسير الوسيط" للمؤلف.
(٣) الآية: ساقطة من (د).
(٤) قوله في "سيرة ابن هشام" ٢/ ١٧٥، "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٥، "زاد المسير" ١/ ٤٠٢، "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٩٩، "الدر المنثور" ٢/ ٧٢، وزاد نسبة إخراجه إلى البيهقي في الدلائل، وأورده السيوطي في "لباب النقول" ٥٣.
(٥) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧١، "زاد المسير" ١/ ٤٠٢، "الدر المنثور" ٢/ ٧٢.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٥، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧١.
(٧) (قوله): ساقطة من: (ج).
وإنما أنزلت التوراة والإنجليل بعد مهلك إبراهيم بزمان طويل، وليس في الكتابين اسمه بواحد من [دين] (١) اليهود والنصارى.
وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾. أي: فساد هذه الدعوى؛ إذ العقل يزجر عن الإقامة على دعوى بغير حُجَّة، فكيف بما ظهر فساده بالمناقضة؟.
٦٦ - وقوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ﴾. اختلفوا فيه: فقرأ ابن كثير (٢) من طريق قُنْبُل (٣): ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ (٤)، بِوَزْنِ (هَعَنْتُم) (٥)، أُبْدِلَ (٦) من همزة الاستفهام الهاءُ؛ أراد: أأنتم (٧). والهمزة قد تُبدل هاءً (٨)، كقولهم: (أرقت الماء) و (هرقته) (٩)، و (إبرِيَة) و (هِبرِيَة) (١٠).
(١) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).
(٢) هو: أبو معبد، عبد الله بن كثير الداري المكي. إمام المكِّيِّين في القراءة، وأحد القُرّاء السبعة المشهورين، توفي سنة (١٢٠هـ). انظر: "الفهرست" ٤٨، "معرفة القراء الكبار" ١/ ٨٦، "النشر" ١/ ١٢٠.
(٣) في (أ): (قتيل). والمُثبَت من بقية النسخ.
وقُنْبُل، هو: أبو عمر، محمد بن عبد الرحمن، المخزومي مولاهم، المكي. ولد سنة (١٩٥هـ)، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالحجاز، أحد رواة قراءة ابن كثير، توفي سنة (٢٩١ هـ). انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ٢٣٠، "النشر" ١/ ١٢٠ - ١٢١، "البدور الزاهرة" ٨.
(٤) في (ج)، (د): (هانتم).
(٥) انظر: "الحجة" للفارسي: ٣/ ٤٦، "الكشف" لمكي: ١/ ٣٤٦.
(٦) من قوله: (أبدل..) إلى (.. الاستفام في أنتم تقرير): نقله عن "الحجة" للفارسي ١/ ٤٦٤٧، نقل بعض عباراته بالنص، وبعضها بالمعنى، وتصرف وزاد في بعضها.
(٧) في (د): (أنتم).
(٨) في (ج): (نبدلها).
(٩) في (ج): (وأهرقته).
(١٠) (أ)، (ب): (إيريه، وهيريه). وفي (ج): (ابره وهبره)، وفي (د): (اره وهيريه). وما أثبته هو ما استصوبته، نظرًا لقربه من رسم الكلمتين في نسخة ج. أما (إيريه =
332
وهذا كإبدالهم من الباء (١)، الواوَ، في قولهم: (والله)، ومن الواوِ التَّاءَ في (تالله) (٢)، فهذه حروف مفردة قد وقع الإبدال منها.
ولا (٣) يجوز أن يكون أراد ﴿هَا أَنْتُمْ﴾، و (ها) للتنبيه، ثم حَذَف الألفَ، فصار: (هأنتم)، كما حذف الألف من (ها) في (هَلُمَّ)؛ لأن
= وهيريه) فلم أقف عليها في كتب اللغة التي رجعت إليها، ولم ترد مثالًا فيما رجعت إليه من كتب الاختصاص في باب الإبدال، إلا ما ورد في "سر صناعة الإعراب" لابن جني: ٥٥٣، من تمثيله لهذا الإبدال بـ (هيْر، وهِيْر) و (أيْر وإيْر) وهي من أسماء الصَّبا، وقيل: من أسماء ريح الشمال. ولكني استبعدتُها، وأثبتُّ ما هو أقرب إلى رسم الكلمة المثبتة، وهي: الـ (إبْرِيَة) والـ (هبْرِيَة)، وهي: ما تعلق بأسفل الشعر مثل النخالة من وسخ الرأس، أو ما طار من الريش ونحوه. وقد تكون الكلمة المرادة، هي: (أبرْتُهُ)، و (هبَرْتُهُ)، فكتب الناسخ النقط تحت التاء فكانت ياءً. ومعناها: قطعتُهُ، من (هَبر، يَهْبُرُ، هَبْرًا): قطع قِطَعا كبارا. والهَبْرُ: قطْعُ اللحم، و (هَبرتُ له من اللحم هَبْرَةً): قطعت له قِطعَةً ومنه: (هَبَره بالسيف)؛ أي: ضربه وقطعه. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٦٠٣ (هبر)، ٨/ ٤٧٣٥ (هير)، "الممتع" ١/ ٣٩٩، "ارتشاف الضرب" ١/ ١٣٠، "نزهة الطرف" لابن هشام: ١٥٨.
(١) في (ب)، (د): (التاء).
(٢) الأصل فيها (بالله) ثم أبدلت الواو من الباء، ثم أبدلت التاء من الواو، ويدل على ذلك:
أولا: أن الباء توصل القسم إلى المقسم به؛ كقولنا: (أحلف بالله).
ثانيًا: أن الباء تدخل على المُضمَر كما تدخل على المُظهَر، كقولنا: (بالله لأقومَنَّ)، و (به لأقعدنَّ). والواو لا تدخل على المضمر البتة، فقتول: (والله لأضربنَّك). فإذا رجعنا إلى المضمر قلنا: (به لأضربنَّك). وهذا هو رأي الجمهور. ونقل ابن هشام عن قطرب وغيره أن التاء غير مبدلة من الواو، وإنما هي حرف مستقل. انظر: "سر صناعة الإعراب"١٢١، ١٤٣، ١٤٤، ٦٤٥، "الممتع في التصريف" ١/ ٣٨٤، "ارتشاف الضرب" ١/ ١٥٦، "نزهة الطرف" لابن هشام: ١٦١.
(٣) في (ج): (لا) بدون واو.
333
الحروف لا يحذف منها إلَّا إذا كان فيها تضعيف، وليس ذلك في (ها)، وإنَّما حُذِف من (هَلُمَّ)؛ لأن الَّلام التي هي فاءٌ، في تقدير السكون، لأن (تَلُمَّ)؛ (١) كان في الأصل: (تلْمُمْ) (٢)، و (لَمَّ) أصله (٣): (الْمُم)، فهي (٤) متحركة بحركة منقولة إليها، والحرف المتحرك بالحركة المنقولة، قد تكون في نيَّة السكون؛ كقولهم: (اَلَحْمَرْ) (٥)، فالَّلام (٦) في تقدير (٧) سكون؛ بدلالة تقدير الهمزة التي للوصل معها، فكذلك الَّلام في (هَلُمَّ)، وإذا كان في نية سكون، استقام حذف الألف من (ها) كما يُحذف لالتقاء الساكِنَيْنِ، وليس ذلك في (هأنتم) (٨)؛ فإذا كان كذلك لم يستقم الحذف فيه، كما جاء في (هَلُمَّ).
ومعنى الاستفهام في (أنتم) (٩): تقرير (١٠).
وقرأ نافع وأبو عمرو (ها انتم) (١١) استفهامًا من غير همزٍ ولا مَدٍّ (١٢).
(١) في (د): (لم).
(٢) في (د): (لمم).
(٣) في (ج): (بصله).
(٤) يعني: اللام. الذي هو فاءُ الكلمة (لمَّ).
(٥) (الحمر): ساقطة من (د). وضبطها في "الحجة" بضم الراء.
(٦) في (د): (اللام) بدون واو.
(٧) (تقدير): ساقطة من (د).
(٨) في (ب): (ها أنتم).
(٩) هكذا وردت في جميع السنخ. وفي "الحجة": (أأنتم)، وهي الأصوب.
(١٠) (أ)، (ب)، (ج): (تقدير). وفي (د): (تقديره). والمثبت من "الحجة" وهو الصواب.
(١١) في (ج): (هانتم).
(١٢) الذي أوردته كتب القراءات من قراءة نافع وأبي عمرو: أنهما كانا يقرآنها ممدودة، من غير همز، على الاستفهام. وقول المؤلف: (بلا مدٍّ)؛ يعني: بلا مدٍّ كثير. فقد =
334
و (ها) (١) في هذه القراءة للتنبيه، دخلت على (أنتم)، وخُفِّفت (٢) الهمزةُ في (أنتم)؛ لوقوعها بعد أَلِفٍ، كما تقول في (هَبَاءَةٍ): (هَبَايَة) (٣) مليَّنة الهمزة، وفي (المسائل) (٤): (المسايل). ويجوز أيضًا على (٥) هذه القراءة: أن يكون (٦) الهاءُ بدلًا من همزة الاستفهام، كما ذكرنا في قراءة ابن كثير، ودخلت الأَلِفُ التي تدخل للفصل بين الهمزتين في مثل قولك: ﴿أَأَنْتُمْ﴾ (٧)، و ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ﴾ (٨) [الأنعام ١٤٣] في قراءة أبي
= كانا يمدان قليلًا بقدر خروج الألف الساكنة. فهذا هو توجيه قول المؤلف والله أعلم. انظر: "السبعة" ٢٠٧، "الحجة" للفارسي: ٣/ ٤٦، "حجة القراءات" ١٦٥، "الكشف" لمكي: ١/ ٣٤٦، "تفسير الفخر الرازي" ٤/ ٩٨.
وقال ابن مجاهد في "السبعة" ٢٠٧: (وروى علي بن نصر عن أبي عمرو استفهامًا مُخفَّفًا بلا همز. وقال أحمد بن صالح عن ورش وقالون عن نافع: ممدودًا غير مهموز).
(١) من قوله (و (ها)..) إلى (وكذلك في كثير من المواضع البدل يكون في حكم المبدل منه): نقله عن "الحجة" للفارسي: ١/ ٤٧ - ٥٠ نقل بعض عباراته بالنص وبعضها بالمعنى، وتصرف في بعضها بالاختصار والزيادة.
(٢) في (ج): (فخففت).
(٣) (هباية): مطموسة في (أ). وفي "الحجة": (هباةٌ). والمثبت من بقية النسخ. والهباءة: القطعة من الهباء. والهباء: التراب الذي تطيره الريح ويلزق على الأشياء، ويرى في ضوء الشمس. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٦٠٩ (هبا)، "المعجم الوسيط" ٩٨٠ (هبأ).
(٤) (المسائل): ساقطة من: (ج).
(٥) في (ج): (من).
(٦) في (د): (تكون). وفي (ج): مهملة في النقط.
(٧) في (د): (اانتم). وقد وردت هذه المفردة في الآية ١٤٠ من سورة البقرة، و١٧ من الفرقان، و٥٩، ٦٤، ٦٩، ٧٢، من الواقعة، و٢٧ من النازعات.
(٨) في (ب): (آاالذكرين)، (د): (الذكرين). وهي مقطع من الآيتين ١٤٣، ١٤٤ من سورة الأنعام.
335
عمرو (١).
فإن قيل: إن الألف إنما تدخل للفصل بين المِثْلين، واجتماع المِثْلين قد زال ههنا بإبدال الهاء من الهمزة (٢)، فلا يُحتاج إلى الألف؛ ألا ترى أنَّ من قال: (هَراقَ)، قال: (أُهْرِيق)، ولم يحذف (٣) الهاء مع الهمزة، كما يحذف (٤) إذا قال: (أُرِيق)؛ لزوال اجتماع المثلين؟ قيل: إن البدل قد يكون في حكم المُبدَل عنه، ألا ترى أنَّك لو سميت رجلًا: بـ (هَرِق)، لم تصْرفْهُ كما لا تصرفُ مع الهمزة؛ لأن حكم الهاء حكم الهمزة، وكذلك في كثير من المواضع، البَدَلُ يكون في حكم المُبدَلِ عنه.
وقرأ أهل الكوفة (٥): (ها أنتم) (٦) بالمدِّ في (ها)، وتحقيق الهمزة في (أنتم)، ويكون (٧) (ها) في قولهم، حرف التنبيه، ولا يكون الهاءُ بدلًا من همزة الاستفهام، كما يجوز (٨) أن يكون بدلًا منها في قراءة أبي عمرو؛ ولأنهم (٩) لا يرون إدخال الألف بين الهمزتين.
(١) انظر: "حجة القراءات" ١٦٥، "الكشف" ١/ ٣٤٦، "النشر" ١/ ٣٦٤.
(٢) في (د): (الهمز).
(٣) (ب)، (ج): (تحذف).
(٤) في (ب): (تحذف).
(٥) يعني بهم: عاصم، وحمزة، والكسائي، وهم من أهل الكوفة، وقرأ بها كذلك ابن عامر. انظر: "السبعة" ٢٠٧، "الحجة" للفارسي: ٣/ ٤٦.
(٦) في (د): (هانتم).
(٧) من قوله: (ويكون..) إلى (.. إدخال الألف بين الهمزتين): نقله مع التصرف عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ٥١.
(٨) في (ج): (لا يجوز).
(٩) في (ج): (لأنهم) بدون واو.
336
فإن قيل: ما وجه التنبيه (١) بـ ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ مع أنه لا يُنبَّهُ الإنسان على نفسه، وإنما يُنبَّه على ما أغفله؟. قيل: إنَّ التنبيه (٢) وإن كان على ما أغفله من حاله فإنه يُنبَّه بذكر ما يعلم على ما لا يعلم، فلذلك خرج التنبيه على النفس؛ والمعنى: على حال النفس.
وقوله تعالى: ﴿هَؤُلَاءِ﴾. في موضع النداء؛ يعني: يا هؤلاء (٣). وقد ذكرنا زيادة بيان عند قوله ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ [آل عمران: ١١٩].
وقوله تعالى: ﴿حَاجَجْتُمْ﴾. أي: جادلتم، وخاصمتم (٤). ويُسَمَّى الجدال بِحُجَّةٍ أو شبهة: حِجاجًا؛ لأن صاحب الشبهة (٥) يُوهِم أن معه حُجَّة.
وقوله تعالى: ﴿فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾. قال السدِّي (٦): هو ما وجدوه في كتبهم، وأنزل عليهم [بيانه] (٧) وقصته (٨).
(١) في (د): (التثنية).
(٢) في (ج): (قيل خرج التنبيه).
(٣) لا يجوز عند البصريين حذف حرف النداء من أسماء الإشارة، وأجازه الكوفيون. انظر: "كتاب سيبويه" ٢/ ٢٢٩، "المقتضب" ١/ ٢٥٨، "شرح المفصل" ٢/ ١٥، "التبيان" (١٩٥)، في الآية وجوه أخرى من الإعراب، استوعبها السمين الحلبي في "الدر المصون" ٣/ ٢٤٠ - ٢٤٢، وانظر نفس المرجع: ١/ ٤٧٤ - ٤٧٨.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٨٣، "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٦.
(٥) في (ب): (المشبهة).
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٣ "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧٢.
(٧) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، وفي (ب): (خبره). والمثبت من: (ج)، (د).
(٨) ونص قول السدي، كما في "تفسير الطبري" (أما الذي لهم به علم: فما حُرِّم عليهم، وما أمروا به، وأما الذي ليس لهم به علم: فشأن إبراهيم). ولعل المؤلف ساقه هنا بمعناه؛ أي: ما وجدوه محرما، وما أمروا له في كتبهم... الخ.
337
وقال آخرون (١): يعني: في أمر محمد عليه السلام (٢)؛ لأنهم كانوا يعلمونه بما يجدون من نعته في كتابهم، وحاجُّوا (٣) فيه بالباطل.
وقوله تعالى: ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾. أي: لِمَ تجادلون في شأن إبراهيم، وليس في كتابكم أنَّه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، والله يعلم شأن إبراهيم، وأنه لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وأنتم لا تعلمون. فينبغي أن [تلتمسوا] (٤) حقَّهُ من باطله؛ إذ لا تعلمون أنه كان يهوديًّا ونصرانيًّا. ثم بيَّن حال إبراهيم، فقال:
٦٧ - ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ الآية. نزَّهه وبرأه من الدِّينَينِ، ووصفه بدين الإسلام.
واليهودية والنصرانية صفتا ذَمِّ، ما تعبَّد (٥) بهما قط؛ [لأنَّ موسى لم يكن يهوديا (٦)] (٧)، وعيسى لم يكن نصرانيًا، مع قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩].
فاليهودية (٨) مِلَّةٌ محرَّفة عن شريعة موسى، والنصرانية مِلَّةٌ مُحرَّفةٌ عن
(١) قد يعني بهم: قتادة، وأبي العالية، والربيع، فقد ورد عنهم في معناها: (فبما شهدتم ورأيتم وعاينتم). انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٦، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧٢، والذي شهدوه ورأوه وعاينوه هو أمر النبي - ﷺ - ورسالته.
(٢) في (د): (صلى الله عليه وسلم).
(٣) في (ج)، (د): (فحاجوا).
(٤) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). ومثبت من بقية النسخ.
(٥) في (ج): (لم يتعبد).
(٦) (لم يكن يهوديا): ساقطة من (ب).
(٧) ما بين المعقوفين: مطموس في (أ)، ومثبت من بقية النسخ.
(٨) في (ج): (واليهودية).
شريعة عيسى عليهما السلام.
فإن قيل: الله تعالى أخبر (١) أن (٢) إبراهيم كان (٣) مُسْلِمًا، فهل كان إبراهيم على جميع ما نحن عليه من شريعة الإسلام؟ قيل: إنه كان مسلما، وإن كان على بعض شريعتنا؛ لأنَّ تلاوة القرآن واجبة في صلاتنا، ولم ينزل القرآن إلاَّ على نبينا - ﷺ - (٤)، والدليل على أنه كان مسلما بإقامة بعض الشريعة: أن أصحاب النبي - ﷺ - كانوا مسلمين في الابتداء قبل استكمال الشريعة (٥).
٦٨ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾. أَوْلَى: أفْعَل؛ من (الوَلْي)؛ الذي هو: القُرْبُ (٦)؛ أي: أقرب الناس إلى إبراهيم، وأحقهم به: الذين (٧) اتَّبعوه على دينه ومِلَّتِه. ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾. يعني: محمدًا - ﷺ -. ﴿وَالَّذِينَءَامَنُوا﴾ يعني: بمحمد (٨) - ﷺ -. من المهاجرين والأنصار والتابعين.
قال الزجاج (٩): أي: فهم الذين ينبغي أن يقولوا: إنَّا على دين
(١) في (ب): (أخبر الله تعالى).
(٢) في (ج): (عن).
(٣) في (ج): (أنه كان).
(٤) يعني المؤلف بقوله هذا: أن إبراهيم عليه السلام كان مسلما، وإن لم توافق فروع شريعته جميع فروع شريعتنا، حيث لا يمكن ذلك بوجه أصلا، فَمِنْ فروع شريعتنا: وجوب تلاوة القرآن في صلاتنا، ولم يكن ذلك من فروع شريعته؛ لأن معروف بديهة أن القرآن نزل على النبي محمد - ﷺ -، ولم ينزل على نبي غيره.
(٥) انظر بيان ذلك في "روح المعاني" ٣/ ١٩٦.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ٤٤٨ (ولي)، "المجمل" ٩٣٦ (ولي).
(٧) في (ب)، (ج)، (د): (للذين).
(٨) في (ج)، (د): (لمحمد).
(٩) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٢٧، نقله عنه بنصه.
إبراهيم.
وفي هذا بيان أنَّ (١) الأَوْلَى بالإنسان: المُوافق له في دينه، دون ولده، ومن يرجع إليه في نسبه، ممن يخالفه في مذهبه، ولا يُعتَدُّ (٢) بالولادة أو نحوها من القرابة في عقد الولاية.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾. ذكرنا ما فيه عند قوله: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (٣) الآية (٤).
٦٩ - قوله تعالى: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾. أي: تَمَنَّت (٥). وذكرنا الكلام فيه عند قوله: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُم﴾ (٦) الآية (٧).
﴿طَائِفَةٌ﴾؛ الطائفةُ، معناها في اللغة: القطعة من كل شيء. يقال: (طائفةٌ من الناس)، (وطائفة من الليل) (٨).
(١) أن: ساقطة من: (ج).
(٢) في (ج) (د): (لئلا يعتبر).
(٣) سورة البقرة: ٢٥٧. ﴿... يخرجهم من...﴾
(٤) (الآية): ساقطة من (د).
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٥٠٠، "مفردات ألفاظ القرآن" ٨٦٠ (ودد).
(٦) سورة البقرة: ٩٦. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾.
(٧) (الآية): ساقطة من: (ج)، (د).
(٨) انظر (مادة: طوف) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٤، "اللسان" ٥/ ٢٧٢٢. قال الراغب: (والطائفة من الناس: جماعة منهم، ومن الشيء: القطعة منه.. وقال بعضهم: قد يقع ذلك على واحدٍ فصاعدا). "مفردات ألفاظ القرآن" ٥٣٢ (طوف). وبيَّن ابن فارس (أن كل جماعة يمكن أن تحفَّ بشيء فهي عندهم طائفة. ولا يكاد هذا يكون إلا في اليسير ثم يتوسعون في ذلك من طريق المجاز، فيقولون: أخذتُ=
340
قال بعض أهل اللغة: الطائفة: الفِرْقَة؛ سُمِّيَت بها لتصرفها في الإقبال والإدبار؛ كأنها تطوف (١)؛ كقولهم: (الإنسان (٢)، دَيُّور وديَّار)؛ لكثرة دورانه (٣).
وقوله تعالى: ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾. ولم يقل: أنْ يُضِلُّونكم، لأن (لو) (٤) أوفق مع التمني (٥)، فإنَّ (٦) قولك: (لو كان كذا)، تَمَنٍّ [منك] (٧) تمنيته (٨) لِكَوْنِه (٩). ومثله: قوله: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ﴾ [البقرة: ٩٦]، وقد مرَّ.
= طائفةً من الثوب؛ أي: قطعة منه. وهذا على معنى المجاز؛ لأن الطائفة من الناس، كالفرقة والقطعة منهم) "مقاييس اللغة" ٣/ ٤٣٣ (طوف).
(١) لم أقف على من قال بهذا القول، ولكن معناه صحيح، قال ابن فارس: (الطاء والواو والفاء، أصلٌ واحدٌ صحيح، يدل على دوران الشيء على الشيء وأن يحفَّ به) ثم قال: (فأما الطائفة من الناس، فكأنها جماعة تطيف بالواحد أو بالشيء). "المقاييس" ٣/ ٤٣٢ (طرف).
(٢) في (ج)، (د): (للإنسان).
(٣) في (ب): (مداراته). وفي "اللسان" (.. وما بالدَّار دُوريٌّ ولا ديَّار، ولا دَيُّورٌ على إبدال الواو من الياء، أي: ما بها أحدٌ، لا يُستعمل إلا في النفي، وجمع الدَّيَّار، والدَّيُّور لو كُسِّرَ: دواويرُ) ٣/ ١٤٥٠ (دور). وانظر: "الزاهر" ١/ ٣٦٦، "الصحاح" ٢/ ٦٦٠ (دور). ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [سورة نوح: ٢٦]. وانظر: "تفسير أبي السعود" ٩/ ٤١.
(٤) في (ج): (أو).
(٥) في (ج): (المتمني).
(٦) في (ب): (وإن).
(٧) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج)، (د).
(٨) (تمنيته): ساقطة من: (ج)، (د).
(٩) انظر: "رصف المباني" ٣٦٠، "الجنى الداني" ٢٨٨.
341
والإضلال (١) في كلام العرب ضد الهداية والإرشاد. يقال: (أضللتُ فلانا): إذا وجَّهته للضلال عن الطريق فلم ترشده.
نزلت هذه الآية في نَفَرٍ من اليهود. قال ابن عباس (٢): هم قُرَيظَة والنَّضير وبنو قَيْنُقاع؛ أرادوا أن يَسْتَنزِلوا (٣) المسلمين عن دينهم ويردوهم إلى الكفر (٤).
(١) من قوله: (والإضلال..) إلى (.. عن الطريق): نقله بنصه عن "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٢٨ (ضلل).
وقال الطبري: (والإضلال في هذا الموضع: الإهلاك)، ولم يختلف المعنى؛ لأن الإهلاك من نتائج الإضلال ولوازمه. وقد بيَّن الطبري نفسه هذا الأمر فقال في نفس الصفحة: (.. لو يصدُّونكم أيها المؤمنون عن الإسلام، ويصدونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر، فيهلونكم بذلك). "تفسيره" ٣/ ٣٠٤.
ولذا قال ابن عطية عن تفسير الطبري لهذه اللفظة بـ (الهلاك): (وهذا تفسير غير خاص باللفظة، وإنما اطَّرد له؛ لأن هذا الضلال في الآية اقترن به الهلاك، وأما أن تفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم). "المحرر الوجيز" ٣/ ١٦٣.
(٢) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه.
وقد أورد ابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٤٠٤، وأبو حيان في "البحر المحيط" ١/ ٤٨٨ عن ابن عباس أنَّ المقصود بالطائفة هم اليهود حين دعوا معاذ بن جبل، وعمار بن ياسر إلى دينهم.
(٣) في (د): (يستزلوا).
(٤) قيل: إن المقصود بـ ﴿طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: هم النصارى، وبه قال سفيان بن عيينة، فقد ورد عنه قوله: (كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب، فهو في النصارى).
أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٦٧١، وأورده السيوطي في " الدر" ٢/ ٢٣٩، وزاد في نسبته إلى ابن المنذر.
ودفع هذا القول الشوكاني في "الفتح" ١/ ٣٥٢، وقال: (ويدفع هذا أن كثيرًا من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة، لا يصح حملها على النصارى =
342
وقوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ (١) لأن المؤمنين لا يقبلون فولهم، وما يدعونهم إليه فيحصل عليهم الإثم بتمنيهم إضلال المؤمنين.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي: وما يعلمون أن هذا يضرهم، وما يضر المؤمنين.
٧٠ - قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ الخطاب لليهود (٢). وقوله: ﴿لِمَ﴾ أصلها: (لِمَا)؛ لأنها (٣) (ما) التي للاستفهام، دخلت عليها الَّلام فحُذِفت الألِفُ استخفافًا؛ لأن حرف الجرِّ صار عِوَضًا منها، مع وقوعها طَرَفًا (٤)، تدل (٥) عليها الفتحةُ (٦)، وعلى هذا قوله: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [النبأ: ١]، و ﴿فَبِمَ
= البتة، ومن ذلك هذه الآيات)، ثم بين أن المقصود بالطائفة هم: اليهود خاصة. وقيل: هم اليهود كما سبق أن رُوي عن ابن عباس، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ١/ ٢٨٣. وذكر هذا القول بعض المفسرين دون عزو إلى قائل، ومنهم: البغوي في "تفسيره" ٢/ ٥٠، والواحدي في "أسباب النزول" (١١٠). وقال أبو حيان: بأن عليه إجماع المفسرين. انظر: "البحر المحيط" ٢/ ٤٨٨. وعلى هذين القولين تكون {مِّن﴾ في الآية تبعيضية.
وقيل: هم اليهود والنصارى، ولفظ ﴿أَهْلِ الكِتَابِ﴾ يعمهم، وتكون حينها ﴿مِّن﴾ في الآية لبيان الجنس. وبه قال أبو سليمان الدمشقي، كما في "زاد المسير" ١/ ٤٠٤. وإليه ذهب الطبري في "تفسيره" ٣/ ٣٠٤، والنحاس في "معاني القرآن" ١/ ٤١٩. ونقل ابن عطية عن مكي: أنهم يهود بني قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، ونصارى نجران. انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ١٦٤.
(١) إلى هنا انتهى ما وقفت عليه من نسخة (د).
(٢) وذهب الطبري: إلى أن الخطاب لليهود والنصارى. انظر: "تفسيره" ٣/ ٣٠٩، "المحرر الوجيز" ٣/ ١٦٤.
(٣) في (ج): (أنها).
(٤) في (ب): (ظرفا).
(٥) في (ج): (يدل).
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٢٧ - ٤٢٨.=
343
تُبَشِّرُونَ} [الحجر: ٥٤].
والوقف على هذه الحروفِ يكون بالهاء (١)، نحو: (فِبْمَهْ)، و (لِمَهْ). ولا يجوز حذفُ الأَلِفِ [من (ما)، إذا كانت موصولة] (٢)؛ لأن [الألِفَ في] (٣) الموصولةِ [بِمَنْزِلَة حرفٍ في وسط الاسم؛ لأن الموصولة] (٤) لا تتم (٥) إلا بِصِلَتِها، والطَّرَف (٦) أقوى على التغيير من وسط الاسم، كما قوي على التغيير بالإعراب (٧) والتنوين (٨).
وزعم الكسائيُّ (٩)، أن أصل (كَمْ) (١٠) كما، وهذا غلط منه عند
= ويجب حذفُ ألف (ما) بعد دخول حرف الجر عليها، مع إبقاء الفتحة دليلا عليها، إلا في الشعر، حال الضرورة الشعرية. انظر: "المغني" لابن هشام: ٣٩٣.
وذكر أبو حيَّان أن قوما يحذفون الألف من (ما) الاستفهامية في الوصل، فيقولون: (مَ صنعت؟). وذكر كذلك أن من العرب من يثبت الألف إذا دخل عليها حرف الجر، وقال: (وذلك قليل وقبيح). "ارتشاف الضرب" ١/ ٥٤٤، وانظر: "شرح المفصل" ٤/ ٨.
(١) في (ج): (كأنها). انظر في هذا المعنى: "شرح المفصل" ٤/ ٦، "ارتشاف الضرب" ١/ ٥٤٤.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة لازمة من (ج).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة لازمة من (ج).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة لازمة من (ج).
(٥) (لا تم) ساقطة من: (ج).
(٦) في (ب): (والظرف).
(٧) بالإعراب: في (أ) غير واضحة، وفي (ب): (للإقراب). والمثبت من: (ج).
(٨) في (ب): (وللتنوين). انظر في هذا المعنى "شرح المفصل" ٤/ ٩.
(٩) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٢٨، "الجنى الداني" ٢٦١ ونسب هذا الرأي للكسائي والفراء.
(١٠) أي: إن (كم) مركبة من: كاف التشبيه، و (ما) الاستفهامية محذوفة الألف، وسُكِّنت ميمُها لكثرة الاستعمال.
344
البصريين؛ لمخالفة (١) (كَمْ) (ما) في اللفظ، والمعنى؛ أما في اللفظ: فكان يجب أن تبقى الفتحة (٢) لتدل على الألِفِ، كما باقيت في (لِمَ) ونحوه. وأما في المعنى: فإن (كم) سؤالٌ عن العدد، و (ما) سؤال عن الجنس، فليس بينهما مشابهة، ولا لكاف التشبيه في (كَمْ) معنًى.
وقوله تعالى: ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾. يعني: القرآن (٣).
﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾، قال قتادة (٤)، والربيع (٥)، والسُّدِّي (٦): أي: تشهدون بما يدل على صحة القرآن من كتابكم؛ لأن فيه نعت محمد وذكره.
وقيل (٧): ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها. فحذف من الكلام ما يشهدون به ويقرون؛ لأن الكلام كان توبيخًا، فَدَلَّ على: (وأنتم تشهدون بما عليكم فيه الحجة)، فحُذِف؛ للإيجاز، مع الإستغناء عنه بالتوبيخ.
والحجة عليهم: إقرارهم بالبشارة لمحمد ثم الكفر به، والإقرار بمثل
(١) (لمخالفة): غير واضحة كاملًا في (أ)، وفي (ب): (لمحل أداة). والمثبت من: (ج).
(٢) في (ج): (العدد الفتحة).
(٣) ممن قال بهذا: مقاتل بن سليمان في "تفسيره" ١/ ٢٨٣. وفسر السدي (آيات الله) بـ (محمد - ﷺ -). وفسرها مقاتل بن حيان بالحجج. أما الطبري، فقد فسرها بما أنزِل عليهم من كتب الله على ألسن أنبيائه. انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٥٠٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧٦.
(٤) قوله في "الطبري" ٣/ ٣٠٩، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧٦.
(٥) السابق.
(٦) السابق.
(٧) لم أقف على هذا القائل. وقد أورده الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٨٥٤، ولم يعزه إلى قائل.
345
آياته للأنبياء، ثم كفرهم بما جاء به محمد وجحدهم؛ فكان (١) ذلك مناقَضَةً منهم.
٧١ - قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ ذكرنا معنى (اللَّبْس) فيما تقدم (٢).
و (الحَق) ههنا: التوراة التي أنزل على موسى، و (الباطِلُ): ما كتبوه بأيديهم وغيروه وحرفوه من نعت محمد - ﷺ -، وخبره (٣)، في قول: الحسن (٤)، وابن زيد (٥).
وقال قتادة (٦): لِمَ تخلطون (٧) الإسلام باليهودية والنصرانية؛ وذلك أنهم تداعوا إلى إظهار الإسلام في صدر النهار، والرجوع عنه في آخره؛ لتشكيك الناس فيه.
وقوله تعالى: ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ يعني أمر محمد - ﷺ -. قاله [قتادة] (٨)،
(١) في (ج): (وكان).
(٢) عند تفسير الآية ٤٢ من سورة البقرة.
(٣) في (ب)، (ج): (وغيره).
(٤) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧٧، "النكت والعيون" ٢/ ٤٠١ "زاد المسير" ١/ ٤٠٥، "البحر المحيط" ١/ ٤٩١.
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣١٠، "النكت والعيون" ٢/ ٤٠١، "زاد المسير" ١/ ٤٠٥، "البحر المحيط" ١/ ٤٩١.
(٦) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧٧، "زاد المسير" ١/ ٤٠٥، "البحر المحيط" ١/ ٤٩١.
(٧) في (ب): (تختلطون).
(٨) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). وقوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣١٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧٧، "زاد المسير" ١/ ٤٠٥.
ومقاتل (١).
وقال عطاء (٢): يريد بـ ﴿الْحَقَّ﴾: النبي - ﷺ -.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يعني: تعلمون الحق، وأنه رسول الله، وأن الإسلام دين الله. ونظير هذه الآية: قوله في البقرة: ﴿وَلَا تَلبِسُواْ اَلحَقَّ بِالبَاطِلِ﴾ (٣) الآية.
٧٢ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ الآية، قال الحسنُ (٤)، والسدِّيُّ (٥): تواطأ اثنا عشرَ حَبْرًا من اليهود، وقال بعضهم لبعض: أظهروا الإيمان بمحمد - ﷺ -، في أول النهار، وارجعوا عنه في آخر النهار؛ فإنه أحرى أن ينقلب أصحابه عن دينهم ويشكوا فيه؛ إذا قلتم: نظرنا في كتبنا فوجدنا محمدًا ليس بذاك، وقال مجاهد (٦)، ومقاتل (٧)،
(١) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٨٤. وهو مروي كذلك عن: الحسن والربيع ومقاتل بن حيان انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٣١٠ "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧٧.
(٢) لم أقف على مصدر قوله. وهو مروي كذلك عن: مجاهد والسدي، كما في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٠٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧٦، ولا أرى فرقًا بين القولين، وقد جعلهما ابن أبي حاتم في "تفسيره" بمعنًى واحدٍ.
(٣) سورة البقرة: ٤٢ ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
(٤) قوله في "تفسير البغوي" ٢/ ٥٣، "زاد المسير" ١/ ٤٠٥ "البحر المحيط" ١/ ٤٩٣.
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣١١، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧٨، "تفسير البغوي" ٢/ ٥٣، "زاد المسير" ١/ ٤٠٥، "البحر المحيط" ١/ ٤٩٣.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٢/ ٣١٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٧٩، "تفسير البغوي" ٢/ ٥٣، "البحر المحيط" ١/ ٤٩٣، "الدر المنثور" ٢/ ٧٥ وزاد انسبة إخراجه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(٧) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٨٤، ولكن ليس فيه أن مرادهم بفعلهم هذا: التشكيك في أمر القبلة، بل جعله للتشكيك في نعت النبي - ﷺ - في التوراة، فقال: (وإذا كان العشى: قولوا لهم: نظرنا في التوراة فإذا النعت الذي في التوراة ليس بنعت محمد - ﷺ -..). وفي "تفسير البغوي" ٢/ ٥٤، "البحر المحيط" ١/ ٤٩٣ بنحو الذي عند المؤلف.
347
والكلبي (١): قال بعض اليهود لبعض: أظهروا الإيمان بالذي (٢) [أنزل] (٣) على محمد في أمر الكعبة، والصلاة إليها، أولَ النهار، ثم اكفروا به آخرَ النهار (٤)، وارجعوا إلى قبلتكم؛ لعلهم يَشُكُونَ فيرجعون إلى قبلتكم؛ فأطلع اللهُ نبيَّه على سرِّ اليهود ومكرهم.
وقوله تعالى: ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾ قال ابن عباس (٥): أول النهار. والوَجْهُ في اللغة: مُسْتَقْبَلُ كلِّ شيء؛ لأنه أول ما يُواجَهُ منه، كما يقال لأول الثَّوْبِ: (وَجْهُ الثوب) (٦).
روى (٧) ثعلب عن ابن الأعرابي: (أتيته بوجهِ نَهارٍ)، و (صدر نهار)،
(١) أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ١٢٣عن قتادة والكلبي، أنهما قالا: (قال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضى بدينهم أول النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدقوكم ويعلموا أن قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم). فليس في هذا الأثر ما يتعلق بأمر القبلة، وفي "تفسير البغوي" ٢/ ٥٤، "البحر المحيط" ١/ ٤٩٣، بنحو الذي عند المؤلف.
(٢) في (ب): (الذي).
(٣) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من: (ب، ج).
(٤) (ثم اكفروا به آخر النهار): ساقطة من: (ج).
(٥) أخرج قوله ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٦٧٩ بمعناه، ولفظه عنده: (قال: يكونون معهم أول النهار يمارونهم ويكلمونهم). وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٧٦ وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر، وابن مردويه، والضياء في "المختارة".
وكذا ورد عنه في حديث آخر أخرجه الطبري في "تفسيره" ٣/ ٣١٢ حيث ورد ضمنًا تفسيره لـ (وجه النهار): بأوله، وقد فسره بذلك قتادة، والربيع، ومجاهد.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٤٢ (وجه).
(٧) في (ج): (وروي). ومن قوله: (روي..) إلى نهاية بيت الشعر: نقله باختصار وتصرف عن "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٤٢ (وجه).
348
و (شباب نهار)؛ أي: أول النهار؛ وأنشد للربيع بن زياد (١):
مَنْ كان مسرورًا بِمَقتَلِ مالِكٍ فَلْيَأتِ نِسْوَتَنا بِوَجْهِ نهارِ (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي: عن دينهم (٣). وقال الكلبي (٤): إلى القبلة الأولى.
٧٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ الآية.
(١) هو: الربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان العَبْسي، شاعر جاهلي، وفارسٌ، وسيد من سادات قومه، يقال له الكامل، مات سنة (٣٠) قبل الهجرة. انظر: "العمدة" لابن رشيق: ١/ ١٢٨، ٢/ ٨٨١، ٨٩١، "الأعلام" ٣/ ١٤.
(٢) ورد البيت منسوبًا له في "مجاز القرآن" ١/ ٩٧، "الحماسة" لأبي تمام: ١/ ٤٩٤، "الفاخر" للمفضل الضبي: ٢٢٣، "الطبري" ٣/ ٣١٢، "الدر المصون" ٣/ ٢٤٨، "خزانة الأدب" ٨/ ٣٦٩.
وورد غير منسوب في "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٢٤٩، "مجالس العلماء" ٢٣٤، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٤٢ (وجه)، "الموضح في التفسير" ٣٨، "تذكرة النحاة" ١٣٩، "اللسان" ١٣/ ٥٥٦ (وجه)، "التاج" ٩/ ٤١٨ (وجه).
والبيت ضمن أبيات قالها في مالك بن زهير العبسي الذي قتلته بنو فزارة، وبعده:
يَجِدِ النساءَ حواسِرًا يندُبُنَه يَلْطمْنَ أوجُهَهُنَّ بالأسحارِ.
ومعناه: إن من سرَّه قتل مالك، فلْيأت لنا في أول النهار، ليَجدنا قد أخذنا بثأره مباشرة، وعلامة ذلك أن يجد النساء حواسرًا يندُبنه ويلطمن وجوههن بالأسحار، وذلك أن العرب لا تندب قتلاها إلا بعد أن تأخذ ثأرها.
(٣) وهو قول قتادة، والربيع، وابن عباس ومجاهد، وغيرهم. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٣١٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٠.
(٤) لم أقف على مصدره. وقد ورد في "البغوي" ٢/ ٥٤، "البحر المحيط" ١/ ٤٩٣. والذي في "تفسير عبد الرزاق": ١/ ١٢٣ عنه وعن قتادة قالا: (.. وهو أن يرجعوا عن دينهم).
349
قتادةُ (١)، والرَّبيعُ (٢)، والسُّدي (٣)، والحسنُ (٤)، وابن زيد (٥)، وأكثرهم: على أن هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض؛ والمعنى: لا تصدِّقوا إلا لِمَن تبع دينكم اليهودية، وقام بشرائعكم.
﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ من: العلم، والحكمة، والكتاب، والحجة، والمَنِّ والسَّلْوَى، والفضائل والكرامات. والتقدير: (٦) لا تُصَدِّقوا بأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، إلا لِمَنْ تبع دينكم.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ اعتراضٌ بين المفعول وفعله، وهو من كلام الله تعالى.
قال ابن عباس (٧): ومعناه: إنَّ الدينَ دينُ اللهِ. ومثله في سورة البقرة: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ (٨) [البقرة: ١٢٠].
وقوله تعالى: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ التقدير: (بأن يُؤتى)؛ لأن الإيمان
(١) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣١٣.
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣١٤.
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣١٤، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨١ "النكت والعيون" ١/ ٤٠٠.
(٤) لم أقف على مصدر قوله وهو في "زاد المسير" ٤٠٦/ ١، "النكت والعيون" ١/ ٤٠٠.
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣١٤، "النكت والعيون" ١/ ٤٠١.
(٦) في (ج): (ولا).
(٧) لم أقف على مصدر قوله، وفي "تنوير المقباس" ١/ ٥٠ (إنَّ دينَ الله هو الإسلام، وقبلة الله هي الكعبة).
(٨) في (ج): (قل إن الهدى هدى الله).
350
يتعدَّى بالجارِّ، فلمَّا حذفَ الجار من ﴿أَنْ﴾، كان موضع ﴿أَنْ﴾ على ما ذكرنا من الخلاف؛ في قول الخليل: يكون جَرًّا (١)، وفي قول سيبويه: يكون نصبًا (٢). وقد ذكرنا هذا الخلاف في مواضع.
فأما الَّلام في ﴿لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، فقال أكثر النحويين (٣): إنها دخلت صِلَةً وتأكيدًا (٤)؛ كهي في قوله: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ (٥)؛ والمعنى: رَدِفَكم. وأنشد ابن الأنباري (٦) على هذا:
ما كنتُ أَخدَعُ للخليلِ بِخُلَّةٍ حتى يكونَ ليَ الخليلُ خَدوعا (٧)
قال: أراد: ما كنت أَخدَعُ الخليلَ، فزاد الَّلام.
(١) في (ج): (خبرا).
(٢) انظر ما ذكره عند تفسير: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ﴾ آية: ٣٩ من آل عمران.
(٣) منهم: الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٢٢٢، وابن شقير في "المحلى" ٢٣٨، والزجاجي، في "اللامات" ١٤٧.
(٤) حروف الصلة، هي حروف الزيادة، وأشهرها: الباء، الكاف، اللام، مِن. وتستعمل هذه الحروف أصلية، وأحيانًا زائدة؛ وهي لا تجلب معنى جديدًا، وإنَّما تؤكد وتقوي المعنى العام في الجملة كلها، سواء أكان المعنى العام إيجابًا أم سلبًا. انظر: "النحو الوافي" ٢/ ٤٤٩ - ٤٥٠، وانظر للتوسع في نقاش هذا الأمر في "سر صناعة الإعراب"١٢٠ وما بعدها، "شرح المفصل" ٨/ ١٢٨.
(٥) [سورة النمل: ٧٢]. ﴿قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾. وممن قال بزيادتها: الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٢٢٢، والطبري في "تفسيره" ٣/ ٣١٤، وابن شقير في "المحلى" ٢٣٨، والزجاجي في "اللامات" ١٤٧.
(٦) لم أقف على مصدره. وقد أورده ابنُ الجوزي في "الزاد" ١/ ٤٠٧.
(٧) لم أقف على قائله فيما رجعت إليه من مصادر. وقد ورد في "زاد المسير" ١/ ٤٠٧، "البحر المحيط" ١/ ٤٩٤.
351
وقال الآخر:
يَذمُّونَ للدنيا (١) وهم يَحْلِبونها أَفَاوِيقَ (٢) حتى ما يَدُرُّ لها ثُعْلُ (٣)
أراد: يذمون [الدنيا. فأكَّدَ الكلامَ بالَّلام. وُيروى: (يَذُمُّونَ لِي الدنيا) بالياء.
وقال] (٤) أبو علي الفارسي (٥): (الإيمان) لا يتعدَّى إلى مفعولين،
(١) في (ج): (لي الدنيا).
(٢) في (أ)، (ب): فاويق. والمثبت من: (ج)، ومصادر البيت.
(٣) في (أ): (نَعل). وفي (ب): (حتى لا يدرها نعل)، والمثبت من: (ج) ومصادر البيت. والبيت لعبد الله بن همام السلُولي. وقد ورد منسوبًا له، في "إصلاح المنطق" ٢١٣، " الكامل" ١/ ٥٥، "الصحاح" ١٦٤٦ (ثعل)، والمخصص: ١٥/ ٥٩، "اللسان" ٨/ ٤٨٥٧ (وضع)، ٦/ ٣٤٨٧ (فوق)، ١/ ٤٨٤ (ثعل).
وورد في "المخصص" ١/ ٢٥ ونسبه لهمام بن مرة.
وورد غير منسوب، في "مجالس ثعلب" ٤٤٧، "جمهرة اللغة" ٧٤٦ (وضع)، "التهذيب" ٢/ ١٤١٨ (رضع)، ١/ ٤٨٢ (ثعل)، "معجم المقاييس" ٢/ ٤٠١ (رضع)، و"المجمل" ٣٨٠ (رضع)، "زاد المسير" ١/ ٤٠٧، "الدر المصون" ٣/ ٢٥٠.
وفي كل المصادر السابقة ما عدا "زاد المسير" ورد: (وذمُّوا لنا الدنيا وهم يرضِعُونها..)، وفي "معجم المقاييس" (.. الثُّعْلُ)، وفي "الدر المصون" (ويروى: (بالدنيا) بالباء.
و (الثُعْل)، و (الثَّعْل)، و (الثَّعَل): زيادة في حَلَمات الناقة والشاء والبقر. وقيل: هو خِلْفٌ زائد في أخلاف الناقة وضرِع الشاة. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٤٨٧ (فوق)، ١/ ٤٨٤ (ثعل).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٥) في "الحجة" له: ٣/ ٥٣. نقله عنه بالمعنى.
352
فلا يجوز أيضًا أن يَتعَلَّقَ (١) بجارَّيْنِ، وقد تعلق بالجارِّ المحذوف من قوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ فلا يتعلق بالَّلام من (٢) قوله: ﴿لَمَنْ﴾، إلا أن يُحمَل (الإيمان) على معناه، فيَتَعدَّى إلى مفعولين، ويكون المعنى: ولا تقرُّوا بأنْ يؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، إلا لِمَن تبع دينكم؛ كما تقول: (أقررت لِزيدٍ بألف)، فيكون اللامُ متعلقًا بالمعنى، ولا تكون زائدةً (٣) على حَدِّ ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ (٤)، و ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ (٥).
وقوله تعالى: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ (أحَدٌ) (٦) إنَّما يُستعمل (٧) لتعميم النفي؛ كقولك: (ما رأيت أحدًا مِنَ الناس) (٨). وههنا دخل (أَحَدٌ) للنفي الواقع في
(١) في (ج): (تعلق).
(٢) في (ج): (في).
(٣) في (ج): (زيادة).
قال أبو حيان في "البحر المحيط" ١/ ٤٩٤: (والأجود أن لا تكون اللام زائدة، بل ضُمِّن (آمَن) معنى أقَرَّ، واعترف، فتعدى باللام).
(٤) سورة النمل: ٧٢ ﴿قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾.
(٥) سورة يوسف: ٤٣. وقبلها: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾.
قال العكبري: في "التبيان" (٤٧٢) (للرؤيا): اللام فيه زائدة، تقوية للفعل لمَّا تقدم مفعوله عليه، ويجوز حذفها في غير القرآن؛ لأنه يقال: عبَّرت الرؤيا).
(٦) (أحد): ساقطة من: (ج). وفي (أ)، (ب): (أحدًا بما).
ومن قوله: (أحد..) إلى (.. لدخول النفي في أول الكلام): نقله بتصرف من "الحجة" للفارسي: ٣/ ٥٤ - ٥٥.
(٧) في (ج): (استعمل).
(٨) (أحدٌ) الذي يلازم النفي، تكون همزته أصلية، وهو وإن كان لفظه مفردا، إلا أنه يدل على الجمع ويفيد العموم. أما (أحد) الذي بمعنى واحد، فهمزته بدل من واو.
353
أول الكلام، وهو قوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾؛ كما دخلت (١) (مِنْ) في صِلَةِ (أنْ يُنَزَّلَ) في قوله: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ [البقرة: ١٠٥]. فكما دخلت (مِنْ) في صلة (أنْ يُنَزَّلَ)؛ لأنه مفعول للنَّفي الَّلاحق لأوَّلِ الكلام (٢)، كذلك دخل (أحدٌ) في [صِلَةِ (أنْ) في] (٣) قوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾؛ لدخول النفي في أول الكلام. والكلام في معنى (أحد)، قد تقدم عند قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ [البقرة: ١٠٢].
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ﴾ عطف على قوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾؛ المعنى: ولا تؤمنوا بأن يحاجُّوكم عند ربكم؛ لأنكم أصح دينًا منهم، فلا يكون لهم الحجة عليكم عند الله.
قوله: ﴿يُحَاجُوكُمْ﴾، الضمير (٤) فيه ضمير الجماعة، وهو خبر عن ﴿أحدٌ﴾ في قوله: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾، وجاز ذلك؛ لأن الأسماء المنفردة قد تقع للشياع (٥) في المواضع التي يراد بها الكثرة؛ كقوله: ﴿يُخرِجُكم طِفْلاً﴾ (٦)، وقوله: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ (٧) [الفرقان: ٧٤]، وقوله:
(١) (دخلت): ساقطة من: (ج).
(٢) (الكلام): ساقطة من: (ج).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٤) من قوله: (الضمير..) إلى: (.. للمتَّقين إماما): نقله بالمعنى من "الحجة" للفارسي: ٣/ ٥٧.
(٥) يريد بالشياع: الجمع والعموم، وشمول اللفظ المفرد لأكثر من فرد.
(٦) سورة غافر: ٦٧. وقد وردت في (أ)، (ب)، (ج): (ويخرجكم). والشاهد في الآية: أن (طفلا) بمعنى أطفال، وأفرد اللفظ وأراد به الجنس. انظر: "تفسير أبي السعود" ٧/ ٢٨٣، "تفسير البيضاوي" ٢/ ٣٤٥.
(٧) الشاهد هنا إفراد لفظ (إمام) ليدل على الجنس. انظر: "تفسير أبي السعود" ٦/ ٢٣١، "تفسير البيضاوي" ٢/ ٧٥.
354
﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (١).
وقد مضى مثل هذا في قوله: ﴿لَا نُفَرقُ بَينَ أَحَدٍ﴾ (٢).
وقرأ ابن كثير: ﴿أَنْ يُؤْتَى﴾ (٣) بالمدِّ (٤). وعلى هذه القراءة يحتاج أن يستأنف الآية في بيان المعنى والنظم. فقوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾؛ معناه على هذه القراءة: ما ذكره الزجَّاجُ، قال (٥):
قالت اليهود بعضهم لبعض: لا تجعلوا تصديقكم للنبي - ﷺ - في شيء مما جاء به، إلا لليهود؛ أي: لا تخبروا أحدًا بصدق ما أتى به، إلا أن يكونَ منكم؛ فإنكم (٦) إن قلتم ذلك للمشركين كان (٧) عونًا لهم على تصديقه، ويكون معنى (الإيمان): الإقرار، كما ذكرنا، وأحد مفعوليه محذوف، والتقدير: لا تقروا إلا لليهود (٨) بصدق محمد.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ هو من كلام الله، معترض من كلام اليهود على ما ذكرنا.
وقوله تعالى: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ﴾ ﴿أَنْ﴾ (٩) في موضع رفع
(١) سورة الحاقة: ٤٧. والشاهد هنا: أن حاجزين جمع، وهو وصف لـ (أحد) الذي يدل على جماعة. انظر: "الكشاف" ٤/ ٥٥.
(٢) مقطع من آية ١٣٦ ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، وآية ٢٨٥ ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾. سورة البقرة.
(٣) في (ج): (أن يؤتى).
(٤) أي على الاستفهام. انظر: "السبعة" ٢٠٧، "الحجة" ٣/ ٥٢، "التيسير" ٨٩.
(٥) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٣٠. نقله عنه بتصرف.
(٦) في (ج): (وإنكم).
(٧) في (ج): (كانوا).
(٨) في (ج): (اليهود).
(٩) من قوله: (أن في موضع..) إلى (.. إن أحدًا ووحدا وواحدا بمعنى): نقله عن=
355
بالابتداء (١)، ولا يجوز أن يُحمل على ما قبله؛ لقطع الاستفهام بينهما، وخبره محذوف؛ والمعنى: أأنْ (٢) يُؤتَى أحَدٌ، يا معشر اليهود، مثل ما أوتيتم من الكتاب والعلم، تصدقون به، أو تعترفون، أو تذكرونه لغيركم، أو تشيعونه في الناس؟ أو نحو هذا مما دلَّ عليه قوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾. وهذا في قول من قال: (أزيدٌ ضربته) (٣)؟
ومن قال: (أزيدًا ضربته؟)، كان (أنْ) عنده في موضع نصب (٤).
ومِثْلُ حَذْفِ خبر المبتدأ لدلالة ما قبل الاستفهام عليه: حَذْفُ الفعل في قوله: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ﴾ [يونس: ٩١] التقدير (٥): آلآن أسلمتَ حين لا ينفعك الإيمانُ من أجل المعاينة؟. فحذف الفعل لدلالة ما قبل الاستفهام عليه. ومثل هذه الآية في المعنى: قوله: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٧٦]، وبَّخ بعضهم بعضًا بالحديث بما علموه من أمر النبي - ﷺ -، وعرفوه من صفته.
= "الحجة" للفارسي: ٣/ ٥٥ - ٥٧، نقل بعض عباراته بالنص، وتصرف في بعضها، واختصر في بعض المواضع.
(١) هذا التوجيه النحوي بناء على قراءة ابن كثير.
(٢) في (أ)، (ب): (آأن). وفي (ج): (ان). وما أثبتُّهُ هو الصواب.
(٣) فالاسم هنا واقع بعد همزة الاستفهام، وقد قال عنه السمين الحلبي: (وهو وجه مرجوح). "الدر المصون" ٣/ ٢٥٧.
(٤) فالفعل هنا مضمر بعد حرف الاستفهام، وقد استحسن هذا، وقال بوجوب اختياره، مكيُّ في "الكشف" ١/ ٣٤٨ وقال: (فهو أقوى في العربية؛ لأن الاستفهام بالفعل أولى؛ لأنك عنه تستفهم، لست تستفهم عن شخص زيد، إنما تستفهم عن الفعل، هل وقع بزيد). وانظر: "الدر المصون" ٣/ ٢٥٧ - ٢٥٨.
(٥) (التقدير): ساقط م: (ج).
356
ولعل ابن كثير اعتبر هذه الآية في قراءته (١).
فإن قيل: فكيف وجْهُ دخول ﴿أحدٌ﴾ في هذه القراءة، وقد انقطع من النفي [بِلحاقِ] (٢) الاستفهام (٣)، وإذا انقطع، كان (٤) الكلام إيجابًا وتقريرًا، فلا يجوز دخول ﴿أحدٌ﴾؟
قيل: يجوز أن يكون ﴿أحدٌ﴾ في هذا الموضع (أحدًا) الذي في نحو: (أحدٌ وعشرون)، وهذا يقع في الإيجاب، ألا ترى أنه بمعنى واحد؟.
وقال أبو العباس (٥): إن (أحدًا)، و (وَحَدًا)، و (واحدًا) بمعنىً.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يُحَاجُوكُمْ﴾ (أو) في هذه القراءة (٦) بمعنى: حتىَّ (٧)؛ ومعنى الكلام: أأن (٨) يُؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم، تذكرونه لغيركم؛ حتى
(١) أي: اعتبر الآية السالفة ٧٦ من البقرة، حيث إنها في معنى قراءة ابن كثير. وقد سبق أن بينت أن القراءات المتواترة، لا تقوم على مقايسات ذوقية، ولا على اعتبارات لغوية، أو نظر عقلي، إنما هي سنَّةٌ متَّبعة، متلقاة بالسند الصحيح عن النبي - ﷺ -. وابن كثير أحد أئمة القراء، الذين تلقت الأمة قراءتهم بالقبول، بعد أن تلقاها هو بالسند الصحيح عمن قبله من القراء المعتبرين، إلى النبي - ﷺ -. فهم اعتبروا السند الصحيح للقراءة قبل كل شيء؛ لأن الإسناد الصحيح في القراءات هو (الأصل الأعظم والركن الأقوم) كما قال ابن الجزري في "النشر" ١/ ١٠.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من "الحجة" للفارسي: ٣/ ٥٦ ليتم ويصح بها المعنى.
(٣) في (ج): (والاستفهام).
(٤) (كان): ساقطة من: (ج).
(٥) هو أحمد بن يحيى، ثعلب. كما في "الحجة" للفارسي: ٣/ ٥٧.
(٦) أي: في قراءة ابن كثير.
(٧) قال الرماني: (وتضمر مع (أو) (أن)؛ وذلك إذا كان معناها معنى "حتى". كتاب "معاني الحروف" له: ٧٩. وانظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ٤٧، "المقتضب" ٢/ ٢٨، و"حروف المعاني والصفات" للزجاجي: ٥٨.
(٨) في (ج): (أن).
357
يحاجُّوكم عند ربكم؟.
قال الفرَّاء (١): ومثله في الكلام: قولك: (تعلَّقْ به، أو يُعْطِيَكَ حقَّكَ)؛ أي: حتى. وقال امرؤ القيس:
فقلتُ له لا تَبْكِ عينُكَ إنَّما نُحاوِلُ (٢) مُلْكًا أو تَموتَ فنُعْذَرا (٣)
أي: حتى تموت. ومن هذا قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [آل عمران: ١٢٨]، وسنذكره إن شاء الله.
فهذا (٤) وجهٌ، وأجود منه: أن نجعله عطفًا على الاستفهام؛
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٢٣. نقله عنه بالمعنى. وانظر نفس المصدر ٢/ ٧٠ - ٧١.
(٢) في (ب): نجادل.
(٣) البيت في ديوانه: ٦٦. وقد نسبته إليه أكثر المصادر التالية: "كتاب سيبويه" ٣/ ٤٨، "معاني القرآن" للفراء: ٢/ ٧١، "المقتضب" ٢/ ٢٨، "الزاهر" ٢/ ١٨٣، "إيضاح الوقف والابتداء" ٢/ ٥٨٤، "القطع والائتناف" للنحاس ٢٣٣، "معاني القرآن" له: ١/ ٢٤٣، وكتاب "حروف المعاني" للزجاجي: ٥٨، "اللامات" للزجاجي: ٦٨، "معاني الحروف" للرماني: ٧٩، "الخصائص" ١/ ٢٦٣، "الموضح في التفسير" ٣٨، "أمالي ابن الشجري" ٣/ ٧٨، "شرح المفصل" ٧/ ٢٢، ٣٣، "تفسير القرطبي" ٤/ ١١٣، "رصف المباني" ٢١٢، "منهج السالك" ٥٥٨، "الخزانة" ٨/ ٥٤٣. وقد ورد في كل المصادر السابقة: (.. أو نموتَ فنُعذَرا).
والبيت من قصيدة له، وقبله:
بَكَى صاحبي لمَّا رأى الدربَ دونه وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا
وصاحبه هو عمرو بن قميئة الذي استصحبه معه في ذهابه إلى القيصر، لاستنصاره على قتلة أبيه واستعادة ملكه، فلما توسطوا الدرب بين بلاد العرب وبلاد الروم، وأيقن صاحبه أنهما لاحقان بقيصر، حنَّ إلى بلاده فبكى، فقال له الشاعر هذا القول.
والشاهد فيه: قوله: (أو نموت..)؛ بمعنى: حتى نموت.
(٤) في (ب): (وهذا).
358
والمعنى: أنْ يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، أو يُحاجَّكم (١) أحدٌ عند الله، تصدِّقون به؟. وهذه الآية من مشكلات القرآن، وأصعبه تفسيرًا، ولقد تدبَّرت أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية، فلم أجدْ قولًا يطرد في الآية من أولها إلى آخرها مع بيان المعنى، وصحة النظم. وقد يسر الله تعالى بفضله ههنا سوق الآية في القراءتين على تفسيرٍ بيِّن، ونظمٍ صحيحٍ، وله المِّنة في ذلك.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس (٢): يريد: ما تفضَّل به عليك، وعلى أمَّتك.
٧٤ - قوله تعالى: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ﴾ قال الحسن (٣)، ومجاهد (٤)، والربيع (٥): بنُبُوَّتِه. وقال (٦) ابن عباس: بدينه (٧).
(١) في (ب): (يحاجوكم).
(٢) لم أقف على مصدره وفي "زاد المسير" ١/ ٤٠٨: (قال ابن عباس: يعني النبوَّة، والكتاب، والهدى). وهو بمعنى ما ذكره المؤلف عنه.
(٣) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "النكت والعيون" ٢/ ٨٥٧، "تفسير القرطبي" ٤/ ١١٥، "البحر المحيط" ٢/ ٤٩٧. والذي أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٣٤٥ عن الحسن قوله: (برحمته: الإسلام، يختص بها من يشاء).
(٤) قوله في "تفسيره" ١٢٩، "تفسير الطبري" ٦/ ٥١٧، ٥١٨، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٣٤٥، "النكت والعيون" ٢/ ٨٥٧، "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٢٣، "زاد المسير" ١/ ٤٠٨، "الدر المنثور" ٢/ ٧٦ وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣١٦، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٢، "النكت والعيون" ١/ ٤٠٢.
(٦) في (ج): (قال).
(٧) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. والذي في "زاد المسير" ١/ ٤٠٨، "البحر المحيط" ٢/ ٤٩٧ قوله: (إنها الإسلام).
وقال ابن جريج (١): بالقرآن والإسلام.
[و] (٢) قال عطاء (٣): يريد: اختصَّك وتفضل عليك وعلى أمَّتِك، بدينه ورحمته.
﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ﴾. (٤) على أوليائه وأهل طاعته.
﴿الْعَظِيمِ﴾. لأنه لا شيء أعظم عند الله من الإسلام.
والفَضْلُ في اللغة: الزيادة. وأكثر ما يُستعمل في زيادة الإحسان (٥).
والفاضل: الزائد على غيره في خصال الخير. ثم كثر استعمال الفضل حتى صار لكل نفعٍ قَصَد به فاعلُهُ أن ينفع صاحبَهُ.
٧٥ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ﴾ الآية.
قال عُظْمُ (٦) أهلِ التفسير: أخبر الله تعالى في هذه الآية اختلاف أحوال أهل الكتاب، في الأمانة والخيانة؛ ليكون المؤمنون على بصيرة في ترك الركون إليهم؛ لاستحلال أموالهم (٧).
قال (٨) مقاتل (٩): يعني بـ (الذي يُؤَدِّي): مؤمني أهل الكتاب؛
(١) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣١٦، "النكت والعيون" ١/ ٤٠٢، "زاد المسير" ١/ ٤٠٨، "تفسير القرطبي" ٤/ ١١٥، "البحر المحيط" ١/ ٤٩٧.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) (والله): ليس في (ج).
(٥) انظر (فضل) في "مقاييس اللغة" ٤/ ١٠٨، "اللسان" ٦/ ٣٤٢٨.
(٦) (عُظْمُ الشيء، ومُعْظمهُ): جُلُهُ وأكثرُه. انظر: "اللسان" ٥/ ٣٠٤ (عظم).
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٣١٧.
(٨) في (ج): (وقال).
(٩) في "تفسيره" ١/ ٢٨٥ نقله عنه بالمعنى.
360
وبـ (الذي لا يُؤَدِّي): كُفَّارَهم.
وقال ابن عباس في رواية الضحاك (١): أودع رجلٌ عبدَ الله بن سَلامَ ألفًا ومائتي أوقية من ذهب، فأدَّاهُ إليه، فمدحه الله عز وجل. وأودع رجلٌ فنحاصَ (٢) بن عازورا (٣) دينارًا فخانه.
وقوله تعالى: ﴿تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾.
يقال: (أمنتهُ بكذا، وعلى كذا)، كما يقال: (مررت به، وعليه) (٤). فمعنى الباءِ: إلصاقُ الأمانة (٥). ومعنى (على): استعلاء الأمانة (٦). وهما يتعاقبان (٧) ههنا لتقارب المعنى.
وفي قوله: ﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ وجوه من القراءة:
تسكين الهاء (٨)، وهو رديء عند أهل النحو، خطأ عند
(١) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه. وقد وردت في "تفسير البغوي" ٢/ ٥٦، "زاد المسير" ١/ ٤٠٨، "الخازن" ١/ ٣٠٩.
(٢) في (ب): (فيحاص).
(٣) وردت في المصادر التي رجعت إليها: (عازوراء) بمد وهمز. انظر: "تفسير البغوي" ٢/ ٥٦، "زاد المسير" ١/ ٤٠٨، "تفسير القرطبي" ٤/ ١١٥. وفنحاص، سَيِّد بني قَيْنُقاع اليهود، ومن أحبارهم، وعلمائهم. انظر: "سيرة ابن هشام" ١٣٧، ١٨٧، ٢٠١، "تفسير الطبري" ٧/ ٤٥٥.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" (٥٢٠).
(٥) انظر: "سر صناعة الإعراب" ١/ ١٢٣، "مغني اللبيب" ١٣٧.
(٦) انظر: كتاب "معاني الحروف" للرماني: ١٠٨، "مغني اللبيب" ١٩٠.
(٧) في (ج): (متعاقبان).
(٨) وهي قراءة أبي عمرو من رواية عبد الوارث واليزيدي عنه، وقراعة حمزة، وعاصم من رواية أبي بكر عنه. انظر: "السبعة" ٢٠٧ - ٢١٢، "التبصرة" ٤٦١، "اتحاف فضلاء البشر" ص ١٧٦. والخلاف هنا في حال الوصل، أما في حال الوقف فلا خلاف على الإسكان.
361
الزجاج (١)؛ لأن الجزم (٢) ليس في الهاء وإنما هو فيما قبل الهاء، والهاء اسم (٣) المَكْنِي (٤)، والأسماء لا تجزم في الوصل (٥).
(١) انظر: "معاني القرآن" له: ١/ ٢٣٤.
(٢) في (ج): (الحرفر).
(٣) في (ج): (الاسم).
(٤) (المكني): ساقطة من: (ج).
(٥) ما ذكره المؤلف من كون هذه القراءة غير مرضية عند أهل النحو، وخطَّأوها، فإنه لا يؤثر في صحة هذه القراءة، لأن القراءات المعتمدة قرآنٌ، فهي حجة على النحو واللغة، وليس النحو واللغة حجة عليها. وما النحو واللغة إلا أدوات خادمة لكتاب الله تعالى. يقول أبو عمرو الداني: (وأئمة القرَّاء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل. والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياسُ عربية ولا فشوُّ لغة؛ لأن القراءة سنَّة متَّبعة، يلزم قبولها والمصير إليها). "النشر" ١/ ١٠ - ١١.
ويقول الفرَّاء: (والقُّرَّاء لا تقرأ بكل ما يجوز في العربية، فلا يقبحنَّ عندك تشنيعُ مشَنِّع مما لم يقرأه القراء مما يجوز). "معاني القرآن" ١/ ٢٤٥.
فالقراءات (ما دام سندها الرواية، ودعامتها السماع، فهي من أجل هذا أقوى من المصادر الأخرى كالشعر وغيره؛ لأن رواة القراءات يتحرجُّون من عدم الدقة فيها، على حين لا يبالون بالحرج في غيرها؛ حينما تخون الحافظة، أو يستبد النسيان، أو يقع على الألسنة التحريف). "أثر القراءات القرآنية في الدراسات النحوية" ٥٨.
أما ما يتعلق بهذه القراءة، وتخطئة الزجاج لها، فقد دفع هذا أبو حيَّان، فقال: (وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط، ليس بشيءٍ؛ إذ هي قراءة في "السبعة" وهي متواترة. وكفى أنها منقولة عن إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء، فإنه عربي صريح، وسامع لغة، وإمام في النحو، ولم يكن ليذهب عنه جوازُ مثل هذا، وقد أجاز ذلك الفرَّاء، وهو إمام في النحو واللغة، وحكى ذلك لغةً لبعض العرب، تجزِمُ في الوصل والقطع. وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب أنهم =
362
وقال الفراء (١): من العرب من يجزم الهاء، إذا تحرك ما قبلها، فيقول: (ضربتُهْ ضربًا شديدًا)، كما يسكنون ميم (أنتمْ) و (قمتمْ)، وأصلها الرفع، وأنشد:
لمَّا رَأَى أَنْ لا دَعَهْ ولا شِبَعْ (٢)
= يختلسون الحركة في هذه الهاء، إذا كانت بعد متحرك، وأنهم يسكنون أيضًا..). "البحر المحيط" ٢/ ٤٩٩، وانظر: "الكشف" ١/ ٣٤٩.
وانظر ما سبق بيانه عند التعليق على توجيه المؤلف لقراءة نافع الواردة في قوله تعالى: ﴿فيكون طائرًا بإذن الله﴾ من آية: ٤٩، وعن تعليقي على توجيه المؤلف لقراءة ابن كثير لقوله تعالى: ﴿آن يؤتى﴾ من آية: ٧٣، والتعليق على كلام المؤلف حول القراءة الواردة بتسكين الهاء في قوله: ﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ من آية: ٧٥.
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٢٣، نقله عنه بتصرف.
وليس في هذا الموضع من كتابه بيتُ الشعر الآتي، وإنما ذكره الفراء في ١/ ٣٨٨ عند قوله: ﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾. الأعراف: ١١١.
(٢) صدر بيت من الرجز لمنظور بن حبة الأسدي، وقبله:
يا رُبَّ أبَّازٍ مِنَ العُفْرِ صَدَعْ تقَبَّضَ الذِئبُ إليهِ فاجتَمعْ.
لما رأى أنْ لا دعه ولا شبع مالَ إلى أرْطاةِ حِقْفٍ فاضطجعْ.
وقد ورد في "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٣٨٨، "إصلاح المنطق" ٩٥، "المحتسب" ١/ ١٠٧، "الخصائص" ١/ ٦٣، ٢٦٣، ٣/ ١٦٣، "المنصف" ٢/ ٣٢٩، والمخصص: ٨/ ٢٤، "شرح المفصل" ٩/ ٨٢، ١٠/ ٤٦، "اللسان" ١/ ٦ (أبز)، ١/ ٦٣ (أرط)، ٥/ ٢٥٥٤ (ضجع)، ٣/ ١٦٦٤ (رطا)، "أوضح المسالك" ٣/ ٣١٣، "المقاصد النحوية" ٤/ ٨٥٤، "التصريح" ٢/ ٣٦٧، "منهج السالك" ٤/ ٢٨٠، ٣٣٢، "الأشباه والنظائر" للسيوطي: ٢/ ٣٤٠، و"شرح شواهد الشافية"، للبغدادي (مطبوع في آخر "شرح الشافية"): ٤/ ٢٧٤.
والأبَّاز: القفَّاز، مِنَ (القَفْزِ). و (العُفر)، جمع: (عفْراء) أو (أعْفَر)، وهي مِن الظباء: التي يعلو بياضها حُمرة.
و (الصَّدَعُ): الوسط من الوعول، ليس بالعظيم ولا الصغير. وقيل: هو الشيء بين =
363
وقرئ باختلاس (١) حركة الهاء، اكتفاءً بالكسرة من الياء (٢)، وأنشدوا على هذا:
أنا ابنُ كلابٍ (٣) وابنُ أوْسٍ فمَنْ يَكُنْ قِنَاعُهُ مَغْطِيًا فإنِّي لَمُجْتَلِي (٤)
= الشيئين من أي نوع كان.
يصف الذئب بأنَّهُ تقَبَّضَ؛ أي: جمع قوائمه ليثب على الظبي. فلمَّا رأى الذئبُ أن لا مجال لإدراك الظبي والشبع منه ولا مجال للدَّعةِ -وهي الخفض ولين العيش-، فحينها مال إلى أرْطاةِ حِقْفٍ فاضطجع. و (الأرطاة): شجر ينبت في الرمل وجمعها: (أرْطَى). و (الحِقْف) بكسر الحاء وسكون القاف، وهو: المعوجُّ من الرمل، وجمعه: (أحقاف)، و (حُقوف)، و (حِقاف)، و (حِقَفَة).
انظر: "اللسان" ١/ ٦ (أبز)، ٤/ ٢٤١٤ (صدع)، ٢/ ٩٣٩ (حقف)، "شرح شواهد الشافية" ٤/ ٢٧٥ - ٢٧٦.
والشاهد فيه هنا: إبدال تاء التأنيث في (دعه) هاءً، ومعاملة الكلمة في الوصل كما تعامل في الوقف. واعترض السمين الحلبي على الفراء في إيراده هذا البيت شاهدًا في هذا الموضع؛ لأن الهاء في البيت هي هاء التأنيث، والكلام هنا عن هاء الضمير، وهاء التأنيث لاحظ لها من الحركة البتةَ. انظر: "الدر المصون" ٣/ ٢٦٤.
(١) اختلاس الحركة: الإسراع بها إسراعًا يحكم السامع له أن الحركة قد ذهبت، وهي كاملة في الوزن. انظر: "التمهيد" لابن الجزري: ٥٩. فالقارئ لا يكمل الحركة، بل يأتي بثلثيها فقط.
(٢) وهي قراءة نافع برواية الحلواني عن قالون عنه، وقراءة يعقوب وأبي جعفر من العشرة. انظر: "المبسوط" لابن مهران: ١٤٥، "حجة القراءات" ١٦٧، "إتحاف فضلاء البشر" ص ١٧٦.
(٣) جاءت في (أ)، (ب)، (ج): (حلاب). والمثبت من مصادر البيت.
(٤) لم أقف على قائله، وقد ورد في "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢٢٣، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٧٨ (غطى)، "الصحاح" ٢٤٤٧ (غطا)، "الإنصاف" ٤٠٧، "اللسان" =
364
وقُرئ بإشباع الكسرة في الهاء، وهو الأصل (١).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾.
أي: بالإلحاح (٢) والخصومة والتقاضي والمطالبة. عن ابن عباس (٣) وقتادة (٤) ومجاهد (٥).
قال ابن قتيبة (٦): أصله: أن المطالب للشيء، يقوم فيه ويتصرف، والتارك له يقعد عنه. دليله: قوله [عز وجل] (٧): ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل
= ٦/ ٣٢٧٣ (غطى)، "الدر المصون" ٣/ ٢٦٤.
وقوله: (لمجتلي) وردت في "الإنصاف"، "اللسان": (مجتَلى)، وفي "معاني القرآن": (لمجتلَى) بفتح اللام وفي "الإنصاف" "اللسان" لم تضبط اللام وما بعدها بالشكل. وما في المخطوط موافق لما في "التهذيب"، "الصحاح"، "الدر المصون". وقوله: (مَغْطِيًا)؛ من: (غَطَيتُ الشيءَ): سترته، (أغْطِيهِ غَطْيًا)، فـ (هو مُغْطِيٌّ)، وهي بمعنى: (غطَّى يُغَطِّي). ويقال: (فلانٌ مَغْطيُّ القِناعِ): إذا كان خامل الذِّكرِ. وقوله: (مُجتلي)؛ أي: نابه الذكْرِ محمود الأثر. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٢٧٣ (غِطى). والشاهد في البيت: اختلاس ضمةِ الهاء في (قناعُهُ)، وعدم إشباعها حتى تنشأ عنها واو.
(١) وهي قراءة عاصم برواية حفص، وقراءة ابن كثير، والكسائي، ونافع من رواية ورش عنه، ورواية الكسائي عن إسماعيل بن جعفر عنه، وقراءة ابن عامر. انظر: "السبعة" ٢٠٧ - ٢١٢، "المبسوط" لابن مهران: ١٤٥.
(٢) في (ج): (باالالجاج).
(٣) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "تفسير البغوي" ٢/ ٩٢.
(٤) قوله في "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢٣، "الطبري" ٣/ ٣١٧، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٣، "زاد المسير" ١/ ٤٠٩.
(٥) قوله في "تفسيره" ١٢٩، "تفسير الطبري" ٣/ ٣١٧، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٣، "زاد المسير" ١/ ٤٠٩.
(٦) في "تأويل مشكل القرآن" ١٨١. نقله عنه بتصرف واختصار.
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
365
عمران: ١١٣]؛ أي: عاملة بأمر الله، غير تاركة. ثم قيل لكل من واظب على مطالبة أمر: (قامَ به)، وإن لم يكن ثَمَّ (١) قيامٌ. ومثله قال ابن الأنباري (٢) وأنشد (٣) للأعشى:
يقومُ (٤) على الوَغْمِ في قومِهِ فَيَعْفُو إذا شاءَ أوْ يَنْتَقِمْ (٥)
أراد: يحققه ويتمسك بالمطالبة به، وليس ثَمَّ قيامٌ على الرِّجْل.
وقال أبو علي الفارسي (٦): (القيام) في اللغة بمعنى: الدوام والثبات. وذكرنا ذلك في قوله: ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: ٣]. ومِنْ هذا قولُه: ﴿دِينًا قِيَمًا﴾ (٧)؛ أي: دائمًا ثابتًا، لا يُنسَخ كما نُسِخت الشرائعُ التي قبله. فمعنى
(١) في (ج): (تم).
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) قد يكون الضمير في (أنشد) يعود على ابن الأنباري. لأنه أقرب متَحَدَّث عنه، وقد يرجع إلى ابن قيبة؛ لأن المؤلف هنا ينقل كلامه، وابن قتيبة قد أنشد هذا البيت في هذا الموضع استدلالًا على المعنى الذي ذهب إليه، وحينها يكون قول المؤلف: (ومثله قال ابن الأنباري) جملةً معترِضَةً، وهو الذي أرَجِّحه.
(٤) في (ج): (نقوم).
(٥) البيت في ديوانه: ١٩٨، "تأويل مشكل القرآن" ١٨١، "النكت والعيون" ٢/ ٨٥٩. وقد ورد في "النكت": (على الرَّغْمِ).
والشاعر يمدح قيس بن معد يكرب. و (الوَغْم): الحقد الثابت في الصدر، والثأر، والقهر. انظر (وغم) في "العين" ٤/ ٤٥٦، "اللسان" ٨/ ٤٨٨٠، "القاموس" (١١٦٧).
ومعناه: يقوم مطالبًا بالثأر لقومه، ولا يقعد ولا يتوانى عن ذلك.
(٦) لم أقف على مصدر قوله.
(٧) سورة الأنعام: ٦١. فُسِّر (قِيَما)، بمعنى: مستقيمًا. ولا منافاة بين التفسيرين. قال الآلوسي: (ولا فرق بين (القيم) و (المستقيم) في أصل المعنى، عند الكثير. وفسروا (القِيَم) بالثابت المقوم لأمر المعاش والمعاد، وجعلوا المستقيم) من:=
366
قوله: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾؛ أي: دائمًا ثابتًا في اقتضائك له، ومطالبتك إياه.
ومن المفسرين من يجعل القيام ههنا حقيقةً. قال السدِّي (١): يعني: إلا ما دمت قائمًا على رأسهِ (٢)، بالاجتماع معه، والملازمةِ له. وهو اختيار أبي رَوْق؛ قال (٣): [يعترِف بما] (٤) دفعت إليه، ما دمت قائمًا على رأسه، [فإنْ أنظرته وأخَّرت] (٥)، أنكر وذهب به. والقول الأول: اختيار الفراء (٦) والزجاج (٧).
وقوله (٨) تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ أي: ذلك الاستحلال والخيانة، بأنهم يقولون: ليس علينا فيما اؤتُمِنَّا (٩) من أموال العرب سبيل؛ [لأنهم مشركون. فـ (الأميُّون) على هذا القول: العرب كلهم] (١٠). وهو (١١) قول قتادة (١٢) والسدِّي (١٣).
= استقام الأمر؛ بمعنى: ثبت.. وقيل: (المستقيم) مقابل (المعوج). والقِيَم: الثابت الذي لا ينسخ). "روح المعاني" ٨/ ٧٠. وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١١١، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٦٢ (قام).
(١) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ١١٧، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٣.
(٢) في (ب): (على مطالبته).
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (بعته ما). والمثبت من (ج).
(٥) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وساقط من (ب). والمثبت من (ج).
(٦) انظر: "معاني القرآن" له ١/ ٢٢٤.
(٧) انظر: "معاني القرآن" له ١/ ٤٣٣.
(٨) في (ب): (قوله).
(٩) في (ج): (أصبنا).
(١٠) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). وساقط من: (ب). والمثبت من: (ج).
(١١) في (ب): (وهذا).
(١٢) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ١١٧، و"ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٣، "الدر المنثور" ٢/ ٧٧ وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد.
(١٣) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ١١٧، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٣.
367
وكانت اليهود تستحل ظلم من خالفهم في دينهم، وتقول (١): لا حرج علينا في جنس (٢) أموال العرب، قد (٣) أحلها الله لنا؛ لأنهم ليسوا على ديننا (٤).
و (٥) روي في الخبر: أنَّه (٦) لَمَّا نزلت هذه الآية، قال النبي - ﷺ -: " [كذَّب اللهُ أعداءَ اللهِ] (٧)، ما من شيء كان في الجاهلية، إلاَّ وهو [تحت] (٨) قَدَمَيَّ، إلاَّ الأمانة. فإنها مُؤَدَّاةٌ إلى البَرِّ والفاجر" (٩).
وقال ابن عباس في رواية عطاء (١٠): الأمِيُّون ههنا: أصحاب
(١) في (ب): (فتقول).
(٢) في (ب): (أخذ).
(٣) قد: ساقطة من (ب).
(٤) في (ب): (دين).
(٥) في (ب): (لما).
(٦) (أنه): ساقطة من: (ج).
(٧) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ)، وبياض في (ب). والمثبت من (ج). إلا أن الحديث في كل مصادره التالية، ورد بلفظ: (كذب أعداء الله).
(٨) ما بين المعقوفين: غير مقروء تمامًا في (أ)، وبياض في (ب)، والمثبت من: (ج) ومصادر الخبر.
(٩) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٣/ ١١٧، وابن أبي حاتم ٢/ ٦٨٣، والثعلبي ٣/ ٦٠ ب، وابن كثير ١/ ٤٠١، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٧٧ وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وقد أخرجه كلهم عن سعيد بن جبير مرسلا. وقال الشيخ أحمد شاكر عن إسناده إلى سعيد بن جبير: (وإسناده إليه إسناد جيد). هامش "تفسير الطبري" ١/ ٤٧٣.
(١٠) لم أقف على مصدر هذه الرواية.
368
النبي - ﷺ -، والمسلمون.
وهو قول: الحسن (١) ومقاتل (٢) وابن جريج (٣)، قالوا: إن اليهود كانوا استدانوا من العرب وبايعوهم، ولزمتهم الأثمانُ، فلمَّا أسلم أصحابُ الحقوق، [قالت] (٤) اليهودُ حين تقاضوهم (٥) ليس لكم علينا شيءٌ، لأنكم تركتم دينَكم، وتحولتم، فسقطت عنَّا ديونُكم، وادَّعوا أنَّ ذلك في التوراةِ، فكذبهم الله عز وجل، فقال: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. أنهم يكذبون.
٧٦ - قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ في ﴿بَلَى﴾ وجهان: أحدهما: أنه جواب متصل بالجَحْدِ المتقدم، وهو قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، فقال الله عز وجل رادًّا عليهم (٦): ﴿بَلَى﴾، [أي: بَلَى] (٧) عليهم سبيل في ذلك. وهذا اختيار الزجاج؛ قال (٨): وعندي وقف التمام على ﴿بَلَى﴾. وما بعده استئناف (٩).
(١) قوله في "النكت والعيون" ١/ ٤٠٣، "تفسير البغوي" ٢/ ٥٦.
(٢) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٨٥.
(٣) قوله في "الطبري" ٣/ ١١٧، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٣، "النكت والعيون" ١/ ٤٠٣.
(٤) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج).
(٥) في (ب): (نقضوهم).
(٦) عليهم: ساقطة من (ج).
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٣٤. نقله عنه بالمعنى.
(٩) في (ب): (وما بعدها مستأنف).
369
والوجه الثاني: أن ﴿بَلَى﴾ ابتداء كلامٍ، أتى به بيانا [وتصديقًا لما بعده] (١)، وهي (٢) كلمة مصححة لحب اللهِ عز وجل، من اتَّقاهُ وعبدَه وخاف عقابه. وعلى هذا الوجه لا يحسن الوقف على ﴿بَلَى﴾.
وقوله تعالى: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾. مضى الكلام في معنى (الوفاء)، و (العهد) (٣).
قال المفسرون: أي: بما (٤) عهد (٥) اللهُ إليه في التوراة، مِنَ الإيمان بمحمد، والقرآن، وأداء الأمانةِ (٦).
والهاء (٧) في (عهده)، تعود على اسم الله، في قوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾. ويجوز أن تعود على ﴿مِّن﴾ لأن العهد مصدر يضاف إلى الفاعل وإلى المفعول (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَاَتَّقَى﴾ أي: الكفر (٩)، والخيانة، ونقض العهد. ﴿فَإِنَ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلمُتَّقِينَ﴾. يريد: مَن كانت هذه صفته.
(١) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ)، وفي (ب): (وفيت لما بعده). والمثبت من (ج).
(٢) في (ج): (هو).
(٣) انظر: "تفسير البسيط" البقرة: ٤٠.
(٤) في (ج): إنما. ومن قوله: (أي بما) إلى (.. الأمانة): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٠ ب.
(٥) في (أ)، (ب): (عاهد)، والمثبت من: (ج)، "تفسير الثعلبي".
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢٠.
(٧) في (ج): (والفاء).
(٨) انظر: "تفسير الثعلبى" ٣/ ٦٠ ب، "الدر المصون" ٣/ ٢٧٠٢٧١.
(٩) من قوله: (الكفر..) إلى (.. هذه صفته): نقله بتصرف يسير جدًّا عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٠ ب.
370
٧٧ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ الآية. أكثر أهل التفسير على أن هذه الآية نزلت في اليهود (١).
قال عكرمة (٢): إن جماعة من علمائهم (٣) كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من شأن محمد - ﷺ -، وبدَّلُوه، وكتبوا غيره بأيديهم من عندهم، فيما ادَّعوه أنه ليس عليهم في الأميين سبيل، وحلفوا أنه من عند الله؛ لئلا تفوتهم الرِّشَى (٤) والمآكل.
ودليل هذا: قوله في سورة البقرة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ (٥) الآية.
(١) ممن قال بذلك: عكرمة كما سيأتي، ومقاتل، والكلبي، والحسن. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٨٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦١ ب، "أسباب النزول" للمؤلف (١١٢)، "النكت والعيون" ١/ ٤٠٤. ولم أقف على غيرهم قال بهذا القول. وفي الآية روايات أخرى صحيحة، تخالف هذا القول ذكرها المفسرون، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٦، "ابن كثير" ١/ ٤٠١، "الدر المنثور" ٢/ ٧٧.
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢١، ٦/ ٥٢٨، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦١ ب، "أسباب النزول" للمؤلف (١١٢)، "تفسير البغوي" ٢/ ٥٦، "زاد المسير" ١/ ٤١١.
(٣) هم: أبو رافع، وكنانة بن أبي الحُقَيق، وكعب بن الأشرف، وحُيي بن أخطب. كما في المراجع السابقة.
(٤) الرِّشى بكسر الراء، وبضمها: جمع رَشْوة بفتح الراء وبضمها وبكسرها: وهي الجُعْل الذي يُتوصل به إلى الحاجة، وأصلها من الرِّشاء، وهو: الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، والمصدر: الرَّشْوُ. انظر: "النهاية في غريب الحديث" ٢/ ٢٢٦، "اللسان" ٣/ ١٦٤٨ (رشا).
(٥) سورة البقرة: ١٧٤. وهذه الآية نزلت في اليهود. انظر: "تفسير الطبري" ٢/ ٨٩.
371
وقال ابن عباس في رواية باذان (١): نزلت في رجلين اختصما إلى النبي - ﷺ - في ضَيْعَةٍ، فَهَمَّ المدَّعَى عليه أن يحلف، فنزلت هذه الآية، فَنَكَلَ المدَّعَى عليه عن اليمين، وأقر للمدَّعِي بحقه، ودفعه إليه (٢).
(١) في (ب): بانوان. ولم أقف على مصدر هذه الرواية. وباذان، هو: أبو صالح، مولى أم هانئ، يقال: باذان، وباذام. وقد سبق، ورواية باذان عن ابن عباس وردت في "تفسير الثعلبي" من طرق كلها عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
(٢) ورد عن ابن جربج أثر قريب من هذا القول أخرجه الطبري في "تفسيره" ٣/ ٣٢٢: (قال [يعني أن جريج]: قال آخرون..) ثم ذكره. وملخصه: أن الأشعث بن قيس اختصم مع رجل في أرض، فطلب الرسول - ﷺ - من الرجل البيِّنة، فقال: ليس يشهد لي أحدٌ على الأشعث، قال: فلك يمينه فقام الأشعث ليحلف، فأنزل الله هذه الآية، فنكل الأشعثُ، وقال: إني أشهد الله وأشهدكم أن خصمي صادق. فردَّ إليه أرضه، وزاده من نفسه زيادة كثيرة.. قال الشيخ أحمد شاكر: (هذا حديث مرسل، لم يذكر ابن جريج من حدَّثه به، فهو ضعيف الإسناد). المرجع السابق. وورد في نزول هذه الآية أسباب أخرى، أصح من هذا الأثر، فقد ورد أنها نزلت في السبب التالي: (قال رسول الله - ﷺ -: "من حلف يمين صبر؛ ليقتطع بها مال امريء مسلم، لقيَ الله وهو عليه غضبان". فأنزل الله تصديق ذلك ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ...﴾ إلى آخر الآية. قال فدخل الأشعث بن قيس، وقال: فيَّ أنزِلَت، كانت لي بئر في أرض ابن عمِّ لي، قال النبي - ﷺ -: "بيِّنَتك أو يمينه". فقلت إذًا يحلفُ يا رسول الله! فقال النبي - ﷺ - من حلف على يمين صبر..). إلى آخره.
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ...﴾، واللفظ له، انظر: "فتح الباري" ٨/ ٢١٢. وأخرجه مسلم في "صحيحه" (١٣٨) كتاب الإيمان، باب: (وعيد من اقتطع حق مسلم). وأبو داود في "السنن" (٣٢٤٣) كتاب الأيمان والنذور، باب: (فيمن حلف يمينًا ليقتطع بها مالًا). والترمذي في "السنن" (٢٦٦٩) كتاب التفسير، باب: (ومن سورة آل عمران). وابن ماجه في "السنن" (٢٣٢٢) كتاب الأحكام، باب: (البيِّنة على المدعي). وأحمد في "المسند" ٥/ ٢١١، ٢١٢ وانظر: "المسند" شرح شاكر =
372
ومعنى ﴿يَشْتَرُونَ﴾: يستبدلون (١). وذكرنا هذا في قوله: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ﴾ (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾. جاز (٣) أن يكون (٤) إسماع الله جلَّ وعز أولياءَهُ كلامَهُ بغير سفير، خصوصيةً يَخُصُّ بها أولياءَه، فهو لا [يكلم هؤلاء أصلا. ويكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة.
=٥/ ٢١٠ رقم (٣٥٩٧)، ٦/ ٥٨ رقم (٤٠٤٩). والبيهقي في "السنن" ١٠/ ١٧٨، وأبو داود الطيالسي في مسنده: ٣٥ رقم (٢٦٢)، ١٤١ رقم (١٠٥٠، ١٠٥١)، والطبراني في "المعجم الكبير" ١/ ٢٣٤، والحميدي في مسنده: ١/ ٥٣ رقم (٩٥)، والنسائي في "تفسيره" ١/ ٢٩٩، والطبري في "تفسيره" ٣/ ٢٢٠ وفيه أن الخصومة كانت بين الأشعث وبين رجل من اليهود، وأخرجه ابن أبي حاتم في ٢/ ٦٨٦. وأخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ...﴾ سببًا آخر عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: (أن رجلًا أقام سلعة في السوق، فحلف فيها: لقد أعطِيَ بها ما لم يُعطَه؛ ليوقع فيها رجلًا من المسلين. فنزلت ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ...﴾). انظر: "فتح الباري" ٨/ ٢١٣، وأخرجه كذلك الطبري ٦/ ٥٣٣، وابن أبي حاتم ٢/ ٦٨٦. وقد وردت روايات أخرى، ولكنْ هاتان الروايتان أصح ما ورد، وعليهما الاعتماد، وهما نصَّان في السببيَّة، ولا يمتنع أن يتعدد السبب والنازل واحد. وقال الكرماني: (لعل الآية لم تبلغ ابن أبي أوفى إلا عند إقامته السلعة، فظنَّ أنها نزلت في ذلك، أو أن القصتين وقعتا في وقت واحد، فنزلت الآية). "فتح الباري" ١١/ ٥٦٠. ولكن هذا لا يمنع أن يدخل اليهود فيها؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معروف. وانظر بقية الروايات في "تفسير الطبري" ٦/ ٥٣٠ - ٥٣٤.
(١) في (ب): يسترون: يستدلون.
(٢) في (ج): (واشتروا). سورة البقرة: ١٦.
(٣) في (ب): (فإما).
(٤) من قوله: (أن يكون) إلى (لم ينقض ذلك) نقله عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٣٤ نقل بعض عباراته بالنص، وتصرف في بعض عباراته بالزيادة والاختصار.
373
وجائز أن يكون معنى] (١) ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ أي: لا يكلمهم بكلامٍ يَسُرُّهم. ونفى الكلامَ أصلًا لأنه يتضمن (٢) معنى الغضب؛ كما يقال: (فلان لا يكلم فلانًا)، تأويله: أنه غضبان عليه، وإنْ كلمه بكلام سوء، لم ينقض ذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾. أراد: نظر الرحمة؛ كما يقال: (نظر فلان لفلان)، و (نظر الأمير لرعيته): إذا رحمهم، وبهذا فسره ابن عباس، فقال (٣): يريد: لا (٤) يرحمهم.
وروى جعفر بن سليمان الضُّبَعِي (٥) عن أبي عِمْران (٦) الجَوْني (٧)، أنه قال (٨): ما نظر الله عز وجل إلى شيء إلاَّ رَحِمَه، ولو قضى أن ينظر إلى أهل النار لرحِمَهُم؛ ولكن قضى أن لا ينظرَ إليهم. ومضى الكلام في معنى تزكية الله.
(١) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج).
(٢) في (ج): (يضمن).
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) في (ب): (ولا).
(٥) هو: أبو سليمان الحرشي البصري. قال عنه ابن حجر: (صدوق زاهد، لكنه كان يَتَشيَّع)، وعَدَّه من الطبقة الوسطى من أتباع التابعين، توفي سنة (١٧٨ هـ). انظر الجرح والتعديل: ٢/ ٤٨١، "ميزان الاعتدال" ١/ ٤٠٨، "تقريب التهذيب" (٩٤٢).
(٦) في (ج): (أبي عمر).
(٧) في (ب): الجرني. وهو: أبو عمران، عبد الملك بن حبيب، البصري، الأزدي، الجَوْني. ثقةٌ، من التابعين، توفي سنة (١٢٨هـ) وقيل: بعدها. انظر: "الأنساب" ٢/ ١٢٥، "تقريب التهذيب" (٤١٧٢).
(٨) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٣ أ، وقد أورده بسنده عنه.
374
٧٨ - قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا﴾. يعني: من اليهود (١). وفي هذا دليل: أن الآية المتقدمة نازلةٌ (٢) في اليهود، حيث عطف عليها بهذه [الآية] (٣) التي هي (٤) نازلة فيهم بلا خلاف.
وقوله تعالى: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾. قال مجاهد (٥)، وقتادة (٦)، والربيع (٧)، وابن جريج (٨): يحرفونه (٩) بالتغيير والتبديل.
وأصل (اللَّيِّ): [الفَتْلُ؛ من قولك: (لَوَيْتُ يدَهُ): إذا فتلتها (١٠)، و] (١١) تحريف الكلام [وتقليبه] (١٢) عن وجهه، [و] (١٣) لَيُّ اللِّسانِ به؛ لأن
(١) وهذا قول ابن عباس في رواية عطية، والربيع، وقتادة، وإليه ذهب الطبري، وابن كثير. وذهب الحسن، وابن عباس في رواية الضحاك: إلى أنهم أهل الكتاب كلهم. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٨، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٤ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٥٩، "زاد المسير" ١/ ٤١١، "تفسير ابن كثير" ١/ ٤٠٤.
(٢) في (ب): (أولا).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ب).
(٤) في (ب): (أنها).
(٥) قوله في "تفسيره" ١٢٩، "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٩.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٩.
(٧) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢٤، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٨٩.
(٨) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢٤.
(٩) في (ب): (يحرفون).
(١٠) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢٤، قال: (وأصل (الليِّ): الفَتْل، والقلب، من قول القائل: لوى فلانٌ يدَ فلان: إذا فتلها وقلبها).
(١١) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وساقط من: (ب). والمثبت من: (ج).
(١٢) في (ب): وتقلبه. وقد جاءت في النسخ الثلاث: (وتقلبه). وما أثبتُّه من "تفسير الخازن" ١/ ٣١١؛ حيث نقل عبارة الواحدي، وفيها: (تقليبه) وهي الأليق بسياق الكلام.
(١٣) ما بين المعقوفين زيادة لازمة ليستقيم بها الكلام.
المُحرِّفَ (١) لَوَى لسانَهُ (٢) عن سَنَنِ (٣) الصواب، بما يأتي به من عند نفسه (٤).
ويحتمل أن يكون المعنى: يَلْوُونَ بألسنتهم الكتابَ (٥)؛ لأنهم (٦) يحرفون الكتاب عما هو عليه، بألسنتهم، فأتى به على القلْب. والقَلْبُ سائغٌ في كلام العرب. ولهذا نظائر وأشباه.
وقوله تعالى: ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾. أي: لتحسبوا ما لَوَوا ألسنتَهم به، وما حرفوه من الكتاب.
فرجعت (٧) الكناية (٨) إلى مفعول ﴿يَلْوُونَ﴾، وهو غير مذكور (٩) ولكن الفعل يدل عليه (١٠).
٧٩ - قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ﴾ الآية. لمَّا ادعت اليهود والنصارى أنهم على دين إبراهيم، أخبرهم النبي - ﷺ - أنهم ليسوا على دينه، غضبوا، وقالوا: ما يرضيك منا يا محمد إلا أن نتخذك ربًّا ونعبدَك؟. فقال رسول الله - ﷺ -: "معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غير
(١) في (ب): (الحرف).
(٢) (لسانه): ساقطة من (ج).
(٣) في (ب): (حسن).
(٤) بما يأتي به من عند نفسه: ساقط من (ب).
(٥) (بألسنتهم الكتاب): الكتاب: غير مقروء في (أ). وفي (ب)، (ج): (السنتهم بالكتاب)، ولا يستقيم بها المعنى. وما أثبتُّه من "تفسير الخازن" ١/ ٣١١؛ حيث نقل عبارة الواحدي هذه، وهي الأصح والأليق بسياق الكلام.
(٦) في (ب): (أي).
(٧) في (ب): (ورجعت).
(٨) الكناية، هي: الضمير؛ لأنه يكنى به أي: يرمز به عن الظاهر.
(٩) في (ج): (منكور).
(١٠) (وهو غير مذكور ولكن الفعل يدل عليه): ساقط من (ب).
376
الله، ما بذلك بعثني ربي". فأنزل الله عز وجل هذه الآية. هذا قول ابن عباس (١).
وقال الضحاك (٢)، ومقاتل (٣): كانت النصارى تقول: إن عيسى إلهٌ معبودٌ، وزعموا أن عيسى قال لهم ذلك، فنزلت الآية فيهم.
فقوله (٤): ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ (٥)؛ يعني: محمدًا عليه السلام على قول ابن عباس. وعلى قول مقاتل، يعني: عيسى.
و (الحُكْم) (٦) في اللغة وفي التفسير: العلم والفقه؛ قال الله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم: ١٢]، يعني: العلم والفقه.
و (الحُكْم): القضاء بالعدل (٧) أيضًا؛ ومنه قول النابغة:
واحْكُم كحُكْمِ فتاةِ (٨) الحَيِّ. (٩).. البيت.
(١) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٤ ب، "أسباب النزول" للواحدي: (١١٦)، "تفسير ابن كثير" ١/ ٤٠٤، "لباب النقول" ٥٤، "الدر المنثور" ٢/ ٨٢ وزاد نسبة إخراجه إلى ابن إسحاق، وابن المنذر، والبيهقي في "الدلائل".
(٢) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٤ ب، "أسباب النزول" للواحدي: ١١٦، "تفسير البغوي" ٢/ ٥٩، "زاد المسير" ١/ ٤١٣.
(٣) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٨٦، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٤ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٥٩ "زاد المسير" ١/ ٤١٣.
(٤) (فقوله): ساقط من: (ج).
(٥) في (أ): (وما).
(٦) من قوله: (والحكم..) إلى نهاية بيت الشعر: من قول الليث بن المظفر، نقله المؤلف بتصرف من "تهذيب اللغة" ٤/ ١١١.
(٧) في (ب): والعدل. في (ج): (بالعذاب).
(٨) في (ب): قناة. في (ج): (فتادة).
(٩) صدر بيت، وتمامه: =
377
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَقُولَ للِنَّاسِ﴾. عطف على قوله: ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ﴾ أي: ما كان لبشرٍ أن يجمع بين هذين: بين النُّبُوَّة، وبين دعاء الخلق إلى عبادة غير الله.
قال الزجاج (١): أي: الله عز وجل لا يصطفي لنبوته الكَذَبَةَ (٢)، ولو فعل ذلك بشَرٌ، لَسَلَبَهُ الله عز وجل آياتِ النُّبُوّة، و (٣) علاماتها. ونصب ﴿ثُمَّ يَقُولُ﴾ على الاشتراك (٤) بين أن يُؤتِيَه وبين أن يقولَ (٥)؛ أي: لا يجتمع لنبي إتيانُ (٦)
= واحكم كحكم فتاةِ الحي إذْ نَظَرَتْ إلى حَمامٍ شِراع واردِ الثَّمَدِ
وهو في ديوانه: ٣٤، وورد منسوبًا له، في "كتاب سيويه" ١/ ١٦٨، والحيوان، للجاحظ: ٣/ ٢٢١، "تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٥ (حكم)، "الصحاح" ٥/ ١٩٠٢ (حكم)، "أمالي ابن الشجري" ٣/ ٢٩، "اللسان" ٢/ ٩٥١ (حكم)، (١٠٠٦) (حمم)، "التصريح" ١/ ٢٢٥، "شرح شواهد المغني" ١/ ٧٥.
ويروى: (.. سِراع) بدلًا من (شراع).
والشاعر هنا يخاطب النعمان بن المنذر، ويعتذر إليه، ويطلب منه أن يحكم بالعدل في أمره، كما حكمت فتاةُ الحيِّ، وهي زرقاء اليمامة، المشهورة بحدَّةِ النظر، حيث نظرت إلى سرب حمام في الجو، فأحصتها، ولم تخطيء في عددها. و (شِراع): مقبلة على شِرعةِ الماء؛ أي: مَوْرِدهِ. و (الثَّمَدِ): الماء القليل. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٢٣٨ (شرع)، "القاموس" ٢٧٠ (ثمد)، "شرح شواهد المغني" ١/ ٧٦ - ٧٧. وقيل: إن معنى قوله: (احكم كحكم..)؛ أي: كن حكيمًا كفتاة الحي؛ أي: إذا قلت فأصِبْ كما أصابت هذه المرأة في حكمها. انظر: "التهذيب" ١/ ٨٨٥.
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٣٥، نقله عنه بتصرف.
(٢) في (ب): (مثل ذ) ابدلا من (الكذبة).
(٣) الواو ساقطة من: (أ)، (ب). والمثبت من (ج)، و"معاني القرآن".
(٤) في (ج): (الإشراك).
(٥) في "معاني القرآن": (يقول) بدون واو.
(٦) الأوْلى أن تكون (إيتاء النبوة) بدلًا من (إتيان)؛ لأن الإتيان: المجيء، وهو =
378
النُّبوَّةِ والقولُ للناس: ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي﴾.
وقال صاحبُ النَّظْمِ: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾: نفيٌ، والنفي واقع غير موقعه؛ لأن التأويل ما كان لبشر يُؤتِيَه الله الكتابَ والحكمَ والنبوةَ. وقوله تعالى (١): ﴿يُؤتِيَهُ اَللَّهُ﴾ (٢) صفة للنكرة (٣)؛ على تأويل: (ما كان لِبَشَرٍ يكون بهذه الحال، أن يقول للناس: كونوا عبادًا لي من دون الله).
فالمنفي (٤): قوله: (أن يقول الناس). فلمَّا (٥) وقع ﴿أَنْ﴾ في غير موقعه، نسق (٦) عليه بـ ﴿ثُمَّ﴾. ففي الآية تقديم حرف حقُّهُ أن يُؤَخَّرَ، ومثله من تقديم ما وجب أن يؤخر في النظم: قوله تعالى (٧): ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ (٨)﴾ [الفتح: ٢٥]، التأويلُ: ولولا أن تطؤوا رجالًا مؤمنين ونساءً مؤمناتٍ لم تعلموهم؛ أي: لم تعرفوهم.
وقوله تعالى: ﴿كُونُوا عِبَادًا لِي﴾. قال ابن عباس (٩): هذه لغة
= مصدر: (أتى يأتي)، ومن مصادره أيضًا: (أتْيًا، وأُتِيَّا، وإتِياَّ، ومأتاة). أما قوله تعالى: ﴿يُؤْتِيَهُ﴾، فهو من: (آتاه، يُؤْتيه)؛ أي: أعطاه، يعطيه. والمصدر: إيتاء. انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ١١٥ (أتى)، والسان: ١/ ٢١ (أتي).
(١) (تعالى): ساقطة من: (ج).
(٢) في (ب): ﴿يَقُولَ للِنَّاسِ﴾.
(٣) (صفة للنكرة): ساقطة من (ب).
(٤) في (ب): (والمنفي).
(٥) في (ب): (وإنما).
(٦) أي: عطف. وحروف النسق، هي: حروف العطف.
(٧) (تعالى): ساقطة من: (ج).
(٨) (أن تطؤوهم): ساقطة من: (ج).
(٩) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٥ أ.
379
مُزَيْنَة (١)، تقول للعبيد: (عِبَاد) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾. أي: ولكن تقول: كُونُوا، فحذف القول؛ لدلالة الأولى عليه.
و (الرَّبّانِي): العالم، في قول كلهم.
أخبرني العَرُوضِيُّ، عن الأزهري، قال (٣): أخبرني المُنْذِري، عن أبي طالب (٤)، قال: الرَّبّاني: العالم. والجماعة (٥): الربّانِيُّون. وقال أبو
(١) قبيلة عربية مُضَرية عدنانية، كانت مساكنهم بين المدينة ووادي القرى. وقد قاتلت مُزينة مع النبي - ﷺ - في غزوة حنين، واشتركوا في فتح مكة مع خالد بن الوليد رضي الله عنه. انظر: "معجم قبائل العرب" ٣/ ١٠٨٣.
(٢) فرق الراغب بينهما، فجعل (العبد) بمعنى (العابد)، وجعل (العبيد) جمع (العبد) الذي هو مسترقٌّ. أي: أن (العباد) من العبادة، و (العبيد) من العبودية، وهي لا تمتنع أن تكون لغير الله. ثم قال: (فـ (العبيد) إذا أضيف إلى الله، أعم من (العباد)؛ ولهذا قال: ﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: ٢٩]، فنبه إلى أنه لا يظلم من يختص بعبادته، ومن انتسب إلى غيره من الذي تسموا بـ (عبد الشمس)، و (عبد اللات)، ونحو ذلك). "المفردات" ٥٤٣ (عبد). ويرى ابن عطية أن (العباد) (جمع (عبد)؛ متى سيقت اللفظةُ في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة، دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن)، وضرب لذلك أمثلة، منها: ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: ٢٧]، و ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦]. "المحرر الوجيز" ٣/ ١٨٧، وانظر: "روح المعاني" ٣/ ٢٠٧.
(٣) قوله هذا في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٣٦. ومن قوله: (قال..) إلى (.. بصغار العلوم قبل كبارها): موجود مع اختلاف يسير في "التهذيب" ١٥/ ١٧٩.
(٤) هو: المفضَّل بن سَلمة بن عاصم، أبو طالب الضَّبِّي، تقدمت ترجمته.
(٥) في (ب): (للجماعة).
380
العباس (١): الربَّانِيُّون: العلماء.
وقال سيبويه: زادوا ألِفًا ونونًا في (الرَّبّاني)، إذا (٢) أرادوا تخصيصًا بعلم الرَّبِّ، دون غيره من العلوم، وهذا كما قالوا: (شَعْراني)، و (لِحْيانِي)، و (رَقَباني): إذا خُصَّ بكثرة الشَّعْر، وطول اللِّحْيَة، وغِلظ الرَّقَبَة. فإذا نسبوا إلى الشَّعْر، قالوا: (شَعْرِي)، وإلى الرَّقَبَة: (رَقَبِي)، وإلى اللِّحْيَة: (لِحْيِي) (٣).
وقال ابنُ الأعرابي: الرباني: العالم المُعَلِّم، الذي يَغْدُوا الناسَ (٤) بصِغار العلوم قبل كبارها.
وقال المبرد (٥): الربّانِيُّون: أرباب العلم، وأحدهما: رَبّاني، وهو: الذي يَرُبُّ العِلم، ويَرُبُّ الناسَ؛ أي: يعلمهم ويصلحهم، ويقوم بأمورهم (٦).
والأَلِف والنُّونُ: للمبالغة؛ كما قالوا: (رَيّان) (٧)، و (عطشان)، و (شبعان)، و (عُرْيان) (٨)، و (نَعْسان)، و (وَسْنان) (٩)، ثم ضمَّت إليه ياءُ
(١) هو ثعلب كما في "تهذيب اللغة" قوله: (الربّاني: العالم. والجماعة: الربَّانيون).
(٢) (إذا): ساقطة من (ج).
(٣) انظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ٣٨٠. "المقتضب" ٣/ ١٤٤.
(٤) في (ج): (للناس).
(٥) قوله بنصه، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٥ ب، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٢٢.
(٦) انظر: "الزاهر" ١/ ٥٧٦، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٣٦ (ربَّ)، "تاج" ٢/ ١٠ (ربب).
(٧) في (أ)، (ب)، (ج): (ربَّان). والمثبت من "تفسير الثعلبي".
(٨) في (ب): (وعرقان)، في (ج): (وعرثان).
(٩) يقال: (وَسِنَ، يَوْسَنُ، وَسَنًا)، و (سِنَةً)، و (وَسْنَةً)، أي: أخذ في النُّعاس، فهو: (وَسِنٌ)، و (وَسْنان)، و (مِيْسان). والاسم: (الوَسَن)، وهو: النعاس. انظر (وسن) في "المجمل" ٩٢٥، "القاموس" (١٢٣٨)، "المعجم الوسيط" ١٠٣٣.
381
النسبة، كما قيل: (لِحياني)، و (رَقَبانِي).
فعلى قول سيبويه؛ الرَّبّاني: منسوب إلى الرَّبِّ؛ على معنى التخصيص بعلم الرَّبِّ، أي: يَعْلَم الشريعة، وصفات الرب. وعلى قول ابن الأعرابي، والمبرد؛ الرّبّانِي: من الرَّبِّ، الذي هو بمعنى: التربية، على البيان الذي ذكر.
وقال أبو عبيدة (١): لم تعرف العرب (رَبّانِيِّين) (٢). هذا قول أهل اللغة في معنى (٣) هذا (٤) الحرف.
قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير (٥): ربانيين؛ أي: معلِّمِين (٦). وهو قول مُرَّة الهَمْداني (٧)، واختيار عبد الله بن مُسْلِم (٨)، ويقوى هذا قول
(١) قوله في "مجاز القرآن" ١/ ٩٧.
(٢) ونص قول أبي عبيدة كما في "مجاز القرآن" (لم يعرفوا ربّانيِّين). وفي "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٣٦: (قال أبو عبيدة: وأحسب الكلمة ليست بعربية، وإنما هي عبرانية أو سريانية: وذلك أن أبا عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربّانيين. قال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء وأهل العلم).
(٣) (معنى): ساقطة من: (ب).
(٤) (هذا): مطموسة في (أ). ومثبتة من: (ب)، (ج).
(٥) الرواية في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢٥، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٩١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٥ أ.
(٦) في (ب): (مسلمين). واختلفت ألفاظ هذه الرواية عن ابن عباس في مصادرها، فعند الطبري، ورد: (حكماء فقهاء)، وعند ابن أبي حاتم: (الفقهاء المعلمون)، ومثله عند الثعلبي. وورد عن ابن عباس من رواية عطية العوفي: (حكماء فقهاء)، هكذا عند الطبري. وعند الثعلبي: (حكماء علماء). ومن رواية الضحاك عنه: (الفقهاء العلماء). انظر المراجع السابقة.
(٧) هو: أبو إسماعيل، مُرَّة بن شَرَاحِيل، الكوفي، البكيلي الهَمْداني، تقدم ٢/ ٧٧
(٨) هو ابن قتيبة وقوله في "تفسير غريب القرآن" له: ١٠٧.
382
ابن الأعرابي والمبرد (١).
وقوله تعالى: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ (٢). ويُقرأ: ﴿تُعَلِّمُونَ﴾ (٣)، من: العلم. والباء (٤) في ﴿بِمَا﴾، متعلقة بقوله: ﴿كُونُوا﴾. و (ما) في القراءتين، هي التي بمعنى المصدر مع الفعل، والتقدير: كونوا رَبَّانِيِّين،
(١) قال الطبري: (وأولى الأقوال عندي بالصواب في (الرَّبانيِّين): أنهم جمع (رَبّاني)، وأن (الرَّبّاني): المنسوب إلى (الرَّبَّان) الذي يربُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، و (ويربُّها)، ويقوم بها..). ثم قال: (يقال منه: (رَبَّ أمري فلان، فهو يُربُّه رَبًّا، وهو رَابُّه). فإذا أريد به المبالغة في مدحه، قيل: (هو ربّان)..). ثم تابع قائلاً جامعًا بين الأقوال المختلفة: (فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وكان (الربَّان) ما ذكرنا، و (الربّاني) هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفتُ وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين يَرُبّ أمورَ الناس، بتعليمه إياهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم وكان كذلك الحكيمُ التقيُّ لله، والوالي الذي يلي أمورَ الناس على المنهاج الذي وَليَهُ المقسطون من المصلحين أمورَ الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاح عاجلهم وآجلهم، وعائدةُ النفع عليهم في دينهم، ودنياهم، كانوا جميعًا يستحقون أن [يكونوا] مِمّن دَخل في قوله: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾. فـ (الرَّبّانيُّون) إذًا، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد: (وهم فوق الأحبار)؛ لأن (الأحبار): هم العلماء، و (الرَّبّانِي): الجامع إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم). تفسيره: ٣/ ٢٩٦.
(٢) (الكتاب): ساقطة من (ج).
(٣) في (أ): (تُعَلمون). وفي (ب)، (ج) مهمل، لم يضبط بالشكل. وما أثبته هو الصواب. وهذه القراءة بفتح التاء، وإسكان العين وفتح اللّام، قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ﴿تُعَلِّمُونَ﴾ بضم التاء وتشديد اللام المكسورة. انظر: "السبعة" ٢١٣، "الكشف" ١/ ٣٥١.
(٤) من قوله: (الباء..) إلى (.. أبلغ في هذا الوضع): نقله باختصار وتصرف من "الحجة" للفارسي: ٣/ ٥٩ - ٦١.
383
بكونكم عالمين؛ [أو: معلِّمين] (١).
وعلى هذا التقدير أيضًا قوله تعالى (٢): ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾. ومثل هذا مِنْ كَوْن (٣) (ما) مع الفعل بمنزلة (٤) المصدر؛ قوله [تعالى] (٥): ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف: ٥١]؛ أي: كنسيانهم لقاء يومهم، وككونهم (٦) بآياتنا جاحدين.
فأما قوله: ﴿تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ﴾، من قرأه (٧) بالتخفيف؛ فهو من (العِلم) الذي يراد (٨) به: المعرفة، فيتعدى إلى مفعول واحد؛ كقوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: ٦٥]، وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة: ٢٢٠]، وحجته: ما رُوي عن عمرو (٩) أنه
(١) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ)، وساقط من (ب). ومثبت من (ج). إلّا أنه ورد في (ج): (أي: معلمين)، بدلًا من: (أو معلمين)، ولم أرَ لها وجهًا. والصواب ما أثبته؛ لأن المؤلف هنا يذكر التقدير في القراءتين باعتبار أنَّ (ما) مصدرية فيهما. ففي القراءة الأولى ﴿تَعلمون﴾، يكون التقدير: (بكونكم عالمين)، أو يكون التقدير: (بكونكم مُعَلِّمين) على اعتبار القراءة الثانية ﴿تُعَلِّمُونَ﴾.
ويعزز هذا ما ورد في "التفسير الوسيط" للمؤلف؛ حيث أورد في هذا الموضع القراءتين، فقال عن قراءة: ﴿تُعَلِّمُونَ﴾ (أي: بكونكم عالمين). وقال عن قراءة ﴿تُعَلِّمُونَ﴾ بالتشديد: (بكونكم معلمين). "الوسيط" تحقيق بالطيور: ٢٥٥.
(٢) لفظة (تعالى): ساقطة من: (ج).
(٣) في (ب): (ممن تكون فيه).
(٤) في (ب): (بمعنى).
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من: ب.
(٦) في (ج): (ولكونهم).
(٧) في (ج): (قرأ).
(٨) في (ج): (يريد).
(٩) هو أبو عمرو بن العلاء، ممن قرأ ﴿تَعْلَمون﴾.
384
احتج بقوله: ﴿تَدْرُسُونَ﴾ ولم يقل: (تُدَرِّسُون)، وأيضًا فإن التشديد يقتضي مفعولين، والمفعول ههنا واحد، فالتخفيف أولى.
ومن قرأ بالتشديد: فالمفعول الثاني محذوف، تقديره: بماكنتم تُعَلِّمونَ الناسَ الكتابَ، أو غيرَكم الكتابَ. وحُذِف؛ لأن المفعول به قد يُحذَف من الكلام كثيرًا.
وحجته في التشديد: أن التعليم (١) يَدُل على العِلْم؛ لأن الذي يُعَلِّم لا يكون إلا عالمًا بما يُعَلِّم، والعِلْم لا يدل على التعليم، فالتشديد أبلغ في هذا الموضع. وأيضًا فإن الرَّبّانِيّين لا يقتصرون على أن يَعْلَموا لأنفسهم حتى يتقربوا إلى الله بالتعليم، يدل عليه: قول مُرَّة بن شَراحيل (٢): كان عَلْقَمَةُ من الربّانيين الذي يُعَلِّمون الناسَ القرآن.
قال الزجاج (٣): معنى قوله: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾: كونوا معلِّمِي الناس بعِلْمِكم ودَرْسِكم، عَلِّموا الناسَ وبَيِّنوا لهم؛ كما تقول: انفعوهم بمالِكم. وقيل (٤): كونوا ممن يستحق أن يُطلق (٥) له صفة عالم بعلمه؛ لإخلاصه وقيامه بحقه.
وقوله تعالى: ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾. أي: تقرأون (٦). ومنه قوله تعالى: ﴿وَدَرَسُوا مَا فِيهِ﴾ [الأعراف: ١٦٩]. وشَرْحُ معنى الدَّرسِ والدراسة،
(١) في (ج): (العلم).
(٢) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٥ أ، "حلية الأولياء" ٢/ ٩٨، "صفة الصفوة" ٢/ ١٦.
(٣) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٣٥. نقله عنه بالمعنى.
(٤) هذا القول يدخل ضمن معنى قول الزجاج في المصدر السابق.
(٥) في (ب): (تطلق).
(٦) في (ج): (تقرون).
385
يُذكر عند قوله: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ [الأنعام: ١٠٥].
٨٠ - قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾. الآية. أكثر القراء على رفع ﴿ولا يأمُرُكُم﴾ (١).
قال سيبويه (٢): ﴿وَلَا يَأَمُرُكم﴾: منقطعة مما قبلها؛ لأن المعنى: ولا (٣) يأمُرُكم الله.
وقال ابن جريج (٤)، وجماعة (٥): ولا يأمُرُكم محمدٌ. ومما يدل على الانقطاع من الأول: ما روي عن ابن مسعود، أنه قرأ: (ولن يأمُرَكم) (٦).
قال الفراء (٧): فهذا دليل على انقطاعها من النَّسَقِ، وأنها مستأنفة؛ فلما وقعت (لا) موقع (لن) رفعت، كما قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا
(١) القراءة برفع الراء، هي لابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، والكسائي، وأبي جعفر، وعاصم برواية الأعشى والبرجمي عن أبي بكر. وكان أبو عمرو يختلس حركة الراء تخفيفًا. والقراءة بالفتح، لعاصم برواية حفص وحماد ويحيى عن أبي بكر، وهي كذلك قراءة ابن عامر، وحمزة، ويعقوب، وخلف. انظر: "السبعة" ٢١٣، "المبسوط" لابن مهران: ١٤٥ - ١٤٦، "حجة القراءات" ١٦٨، "الإقناع" ٦٢١، "إتحاف فضلاء البشر" (١٧٧).
(٢) في "الكتاب" ٣/ ٥٢.
(٣) من قوله: (ولا..) إلى (.. ابن جريج وجماعة): ساقط من: (ج).
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٢٩.
(٥) لم أقف على المراد بهم. وقد وردت هذه العبارة بنصها في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٦ أ. قال: (وقال ابن جريج وجماعة).
(٦) ذكر هذه القراءة: الطبري في "تفسيره" ٣/ ٣٢٩، والفارسي في "الحجة" ٣/ ٥٨، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٦٦ أ. وقال الطبري: عن سند هذه القراءة: (فذلك خبر غير صحيح سنده). "تفسيره" ٣/ ٣٢٩.
(٧) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٢٥. نقله عنه بنصه.
386
وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: ١١٩]، وفي قراءة عبد الله: (ولن تُسأَلَ) (١).
ومَن نَصَبَ ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ﴾ كان (٢) وجهه ما قال سيبويه: إن المعنى: وما كان لِبَشَرٍ أن يأمرَكم أن تتخذوا الملائكة. فيكون نصبًا بالنَّسَقِ على قوله: ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ﴾. ويقوي هذا الوجه ما ذكرنا: أن اليهود قالت للنبي - ﷺ -: أتريد يا محمدُ أن نتخذك ربًّا؟! فقال الله سبحانه: ما كان لِبَشَرٍ أن يأمر بذلك (٣).
قال الزجاج (٤): معنى الآية (٥): ولا يأمركم أن تعبدوا الملائكة والنبيين؛ لأن الذي قالوا: إن عيسى إلهٌ، عبدوهُ واتخذوهُ ربًّا. وقال قوم من الكفار: إن الملائكة أربابُنا (٦)؛ يقال (٧): إنهم الصابئون (٨).
(١) انظر هذه القراءة في "تفسير الطبري" ١/ ٥١٦، "المحرر الوجيز" ١/ ٤٦٩.
(٢) من قوله: (كان..) على (.. لبشر أن يأمركم): ساقط من: (ج).
(٣) سبق تخريج هذا الأثر في التعليق على تفسير آية ٧٩ من هذه السورة.
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٣٦، نقل عنه بنصه.
(٥) في "معاني القرآن": أي.
(٦) في (ج): (أربابا).
(٧) في "المعاني": (ويقال).
(٨) (الصابئ) هو الذي خرج من دينه ودخل في دين آخر. ولذا سَمَّ كفارُ قريش النبيَ - ﷺ - وصحابته بذلك -بزعمهم- لأنهم تركوا دينهم ودخلوا في دين آخر. و (الصابئة) هنا لفظة قديمة من لغة عرب ما بين النهرين من العراق، وهو دين قديم ظهر في بلاد الكلدانيين في العراق، واشتهر في (حرّان) من بلاد الجزيرة الفراتية، ويُسَمَّون لذلك بـ (الحرْنانِيّة) على غير قياس. ودينهم من أقدم الأديان، ولما بعث الله إبراهيم عليه السلام كان الناس على دين الصابئة. وقد ترك هؤلاء دين التوحيد وعبدوا النجوم والكواكب وعظموها، مدعين أن البشر عاجزون عن الوصول إلى جلال الخالق =
387
وقوله تعالى: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ﴾. استفهام معناه: الإنكار؛ أي: لا يفعل (١) ذلك، وإنما جاز أن يُنقَلَ إلى الإنكار؛ لأنه مما أقَرَّ بِهِ المخاطَبُ، [و] (٢) ظهر افتضاحه، وبان سقوطه؛ لأنه مما لا يَخفى فسادُه؛ فلذلك (٣) جاء الكلام على السؤال، وإنْ لم يكن معناه تَعَرُّف الجواب.
وقوله تعالى: ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾. أي: بعد إسلامكم.
٨١ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ قال أبو إسحاق (٤): موضع (إذْ): نَصبٌ؛ المعنى: واذكر في أقاصيصك: إذ أخذ اللهُ ميثاقَ النَّبِيِّين.
وقوله تعالى: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ قرأ (٥) حمزة: ﴿لِمَا﴾ بكسر اللاَّم (٦). ووجهُ (٧) هذه القراءة: أنَّ اللاَّم في ﴿لِمَا﴾ متعلق
= فلزم التقرب إليه بواسطة مخلوقات مقربة لديه، وهي الأرواح الطاهرة المقدسة، وزعموا أن هذه الأرواح تسكن الكواكب، وأنها تنزل إلى النفوس الإنسانية بمقدار تقرب النفوس إليها، فعبدوا الكواكب بقصد الاتجاه إلى رُوحانياتها. وبنوا للكواكب هياكل وجعلوا لها تماثيل. انظر حول تفصيل معتقدهم "الملل والنحل" للشهرستاني: ٢/ ٥ وما بعدها، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين، للفخر الرازي: ١٤٣، "لسان العرب" ٤/ ٢٣٩٨ (صبأ)، "المختصر في أخبار البشر" ١/ ٨١، "التحرير والتنوير" لابن عاشور: ١/ ٥٣٣.
(١) في (ج): (نفعل).
(٢) الواو: زيادة لازمة ليستقيم بها المعنى.
(٣) في (ج): (فكذلك).
(٤) في "معاني القرآن" لم: ١/ ٤٣٦. نقله عنه بنصه.
(٥) في (ج): (وقرأ).
(٦) انظر: "السبعة" ٢١٣، "حجة القراءات" ٣/ ٦٢، "المبسوط" لابن مهران: ١٤٦.
(٧) من قوله: (ووجه..) إلى (.. والمفعول لا يحتاج إلى عائد ذكر): نقله باختصار وتصرف عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ٦٢.
388
بالأخذ؛ كأنَّ (١) المعنى: أخذ ميثاقهم لهذا؛ لأن من يؤتَى الكتابَ والحكمة، يُؤخَذُ عليهم الميثاقُ؛ لِما أوتوهُ (٢) من الحكمة، وأنهم الأفاضل، وأماثل (٣) الناس. و (ما) على هذه القراءة تكون موصولةً؛ بمعنى: الذي. والراجع إلى (ما) مِن صِلَتِها محذوفٌ؛ تقديره: لِما آتيتكموه. فَحُذِفَ الراجعُ، كما حُدفَ من قوله: ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾ [الفرقان: ٤١]. ونحو ذلك.
فإن قيل] (٤): إذا كانت (ما) موصولةً، لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة (٥) على الصلة، ذِكرٌ إلى الموصول، وإلاّ لم يَجُز. ألا ترى أنك لو قلت: (الذي قام أبوه (٦) ثم انطلق زَيْدٌ، ذاهبٌ) (٧)؛ لم يَجُز إذ لم يكن [راجعٌ مذكورٌ] (٨).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ [لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ] (٩)﴾ ليس فيه (١٠) راجعٌ إلى الموصول. قيل: يجوز (١١) أن يكون المُظهرُ بمنزلة
(١) (أ)، (ب)، (ج): (كان). والمثبت من "الحجة".
(٢) (أ)، (ب)، (ج): (أتوه). والمثبت من "الحجة".
(٣) في (ب): (وأفاضل).
(٤) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج).
(٥) في (ب): (الموصولة).
(٦) في (ب): (أثره بدلًا من أبوه).
(٧) (إليك) بدلًا من (ذاهب).
(٨) ما بين المعقوفين: مطموس في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج) "الحجة".
(٩) ما بين المعقوفين زيادة من: (ب).
(١٠) ليس فيه: ساقط من: (ب).
(١١) في (ب): ورجوعه بدلا من: (قيل يجوز).
389
المُضْمَر. فقوله: ﴿لِمَا مَعَكُمْ﴾، هو في المعنى: ما أُوتوهُ (١) مِنَ الكتاب والحكمة؛ فكأنه (٢) قال: ثم جاءكم رسولٌ مُصدِّقٌ له؛ أي (٣): لِمَا آتيتكم مِنْ كتابٍ وحِكْمَةٍ، وهو ما معكم.
والصلة المُظهَرَة تقوم مقام المُضمَرَة (٤)، عند أبي الحسن الأخفش؛ ومثل هذا: قوله: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: ٩٠]، المعنى: كأنه قال: لا يضيع أجرهم؛ لأن الذي يتقي (٥) ويصبر يكون من المحسنين، وكذلك قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ (٦) [الكهف: ٣٠]، المعنى عنده: إنا لا نضيع أجرهم؛ لأن مَنْ أحسن عملًا، هم: الذين آمنوا وعملوا الصالحات (٧).
ووجه آخر، وهو: أنَّ الراجعَ ههنا محذوفٌ، وحَسُن الحذف للطول، كما حكاه الخليل (٨) من قولهم: (ما أنا بالذي قائل لك شيئًا)، والتقدير: بالذي هو قائل.
كذلك ههنا يكون التقدير: ثم جاءكم رسولٌ به؛ أي: بتصديقه، أي: بتصديق ما أتيتكم.
(١) (أ)، (ب): (أتوه). والمثبت من: (ج)، و"الحجة".
(٢) في (ج): (وكأنه).
(٣) له أي: ساقط من: (ج).
(٤) في (ج): (المضمر).
(٥) في (ب): (يتق).
(٦) من (إنا لا نضيع..) إلى (الذين آمنوا وعملوا الصالحات): ساقط من: (ج).
(٧) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٣٩٦.
(٨) انظر قوله في "كتاب سيبويه" ٢/ ٤٠٤.
390
وأما من قرأ ﴿لَمَا﴾ بفتح اللام (١)؛ فـ (ما) (٢) في هذه القراءة، يحتمل (٣) تأويلين:
أحدهما: أن تكون موصولة. والآخر: أن تكون للجزاء (٤). فمن قدَّرها موصولةً: كان القول فيها كما ذكرنا في قراءة حمزة.
واللاّم في (لَمَا)، لام الابتداء، وهي المتلقية (٥) لِما أُجري مجْرى القَسَم، لأن قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾، بمنزلة القَسَم، كأنَّ المعنى: استحلفهم.
وموضع (ما) رفع بالابتداء. والخَبَرُ: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾. و ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ (٦)، متعلق بِقَسَم محذوف؛ المعنى: والله لتؤمنن به. فإن قدرت (ما) للجزاء، كانت (ما) في موضع نصب بـ ﴿آتَيْتُكُمْ﴾. و ﴿جَاءَكُمْ﴾ في موضع جزمٍ بالعطف على ﴿آتَيْتُكُمْ﴾، واللاّم الداخلةُ على (ما) لا تكون المتلقية (٧) للقسم، ولكن تكون بمنزلة اللّام في قوله: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾ [الأحزاب: ٦٠] [والمتلقية للقسم؛ قوله (٨): ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾، كما أنها في
(١) هم باقي القراء، ما عدا حمزة الذي قرأ بكسرها كما سبق. انظر: "السبعة" ٢١٣، "المبسوط" لابن مهران: ١٤٦، "الكشف" ١/ ٣٥١.
(٢) في (أ)، (ب): (فيما). والمثبت من: (ج). وفي "الحجة": فإن ما.
(٣) في (ب)، (ج)، "الحجة": (تحتمل).
(٤) الجزاء: هو الجواب في أسلوب الشرط؛ لأنه جزاء مترتب على حصول الشرط.
(٥) في (ب)، (ج): (المنقلبة).
(٦) ولتؤمنن: ساقط من: (ج).
(٧) في (ج): (المنقلبة).
(٨) (قوله): ساقط من: (أ)، (ب). وفي (ج): (وقوله). والمثبت من "الحجة" للفارسي.
391
قوله ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾] (١)، قوله (٢) ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ﴾ [الأحزاب: ٦٠].
وهذه اللاّم الداخلة على (إنْ) في ﴿لَئِنْ﴾، لا يعتمد القَسَمُ عليها؛ فلذلك جاء حذفها تارةً، وإثباتها تارة؛ كما قال (٣): ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ﴾ [المائدة: ٧٣]، فَتَلْحَقُ هذه اللاّم مرة [(إنْ)] (٤)، ولا تَلْحَقُ أخرى، كما أنّ (أنْ) كذلك في قولهم: (واللهِ أَنْ لو فعلتَ لفعلتُ)، [و] (٥) (واللهِ لو فعلتَ لفعلتُ) (٦). وهذه اللاّم بمنزلة (أَنْ) الواقعة مع (لو). وهذا مذهب سيبويه (٧)، وهو يُقدِّر (ما) ههنا للجزاء (٨)، وانما لم يحمله على أن (ما)
(١) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج) ومن "الحجة" للفارسي.
(٢) في (ب): (وقوله).
(٣) قال: ساقطة من (ج).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من "الحجة" للفارسي؛ ليتضح بها المعنى.
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من "الحجة".
(٦) (والله لو فعلت لفعلت): ساقطة من: (ج).
(٧) انظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ١٠٧.
(٨) بالرجوع إلى "كتاب سيبويه" يظهر ابتداء خلاف ما ذكره المؤلف هنا، ونص عباره سيبويه: (وسألته [يعني الخليل] عن قوله عز وجل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾. فقال: (ما) ههنا بمنزلة (الذي)، ودخلتها اللام؛ كما دخلت على (إنْ) حين قلت: (واللهِ لئن فعلتَ لأفعلن)، واللام التي في (ما) كهذه التي في (إنْ)، واللام التي في الفعل، كهذه التي في الفعل هنا..). وذكر الفارسي في "الحجة" ٣/ ٦٦ أنَّ المازني قال: (زعم سيبويه أن (ما) بمنزلة (الذي)، ثم فسّر تفسير الجزاء). ثم بيَّن الفارسي وجه قول سيبويه، فقال: (والقول فيما قاله من أن (لَما) بمنزلة (الذي): أنه أراد أنه اسم، كما أن (الذي) اسم، وليس بحرف، كما كان حرفًا في قوله: ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ [هود: ١١١]، ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: ٣٥]، فهذا المعنى أراد بقوله: أنه بمنزلة الذي، ولم =
392
موصولة، بمنزلة الذي؛ لأنه لو حمله على ذلك، للزم أن يكون في الجملة المعطوفة على الصلة، ذِكرٌ يعود على الموصول، فلما لم ير (١) ذلك، ولم ير أن يضع المُظْهَر موضع المُضْمَر كما يراه أبو الحسن عَدَلَ عن القول: بأن (ما) موصولة، إلى أنها للجزاء، ولم يحملها على الحذف من المعطوف على الصلة؛ لأنه ليس بالكثير، ولا بموضع (٢) يليق به الحذف. و (ما) إذا كانت للجزاء، لا تحتاج إلى عائدِ ذِكرٍ، كما تحتاج إليه (ما) التي بمنزلة (الذي)؛ لأن (ما)، إذا كانت جزاءً، مفعولٌ بها، والمفعولُ لا يحتاج إلى عائدِ ذكرٍ. وهذا الوجه اختيار الزجاج؛ لأنه قال (٣): أجوَد الوجهين: أن يكون (٤) (ما) للشرط والجزاء؛ لأن الشرط يوجب أن كل ما وقع من أمر الرسول (٥) فهذه طريقته.
وأبو عثمان المازني أيضًا اختار هذا الوجه، فقال (٦): الوجه عندي: أن يكون (٧) (ما) للجزاء؛ لأن الفعل الماضي إنما يكون في معنى
= يرد أنها موصولة كـ (الذي). وبهذا يتضح كلامَ المؤلف الذي اختصره من "الحجة" للفارسي. انظر في هذا كذلك "الإغفال" لفارسي: ١/ ٥٧٩ - ٥٨٦ فقد نقل هنا قول سيبويه والمازني، وناقش هذه المسألة.
(١) في (ج): (نر).
(٢) في (ب): (موضع)، (ج): (لموضع).
(٣) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٣٦. نقله عنه بتصرف.
(٤) في (ب)، (ج): (تكون).
(٥) في (ج): "معاني القرآن" الرسل. أما (الرسول) فقد وردت في كتاب "الإغفال" للفارسي: ١/ ٥٧٩ حيث نقل قول الزجاج هذا. ويبدو أن المؤلف نقل العبارة عن "الإغفال" أو عن نسخة أخرى لـ "معاني القرآن" ورد فيها لفظ (الرسول).
(٦) قوله في "الإغفال" ١/ ٥٨٥. وقد نقله المؤلف بنصه.
(٧) في (ب)، (ج): "الإغفال" تكون.
393
المستقبل، في الجزاء لا في غيره، والمعنى: أنه أخذ ميثاقهم على أن ينصروه ويؤمنوا بما يأتيهم فيما يستقبل من كتاب وغيره.
والدليل على أن ﴿آتَيْتُكُمْ﴾، ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ﴾، معناه مستقبل: قوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾، وإذا كان جزاءً كانت اللاّمُ توكيدا.
وقد قال سيبويه (١): ومثل هذه الآية؛ قوله: ﴿لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ [الأعراف: ١٨]، فهذا جزاء، والفعل (٢) الماضي في معنى المستقبل، ولام القسم التي تعتمد عليها اللاّم في ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾ وهي وإن كانت مؤخرة فمعناها التقديم.
وقوله تعالى: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ تقديره (٣): أول الكلام في قول من قدّر (ما) جزاء، والتمثيل: (وإذ أخذ اللهُ ميثاق النبيين لتؤمنن به)، وجواب الشرط، محذوف مستغنى عنه؛ لدلالة لتؤمنن به، الذي هو جواب القسم عليه، كما أن قولك: (لآتِيَنَّك إنْ أتيتني)، كذلك؛ والمعنى: (واللهِ، لآتِيَنَّك إنْ أتيتني). فيكفي جوابُ القسم من جواب الجزاء، وإذا كانت بمعنى الجزاء على ما (٤) وصفنا فيكون تقدير المعنى: لأَنْ آتيتكم شيئًا من كتاب وحكمة، -ومهما آتيتكم- ثم جاءكم رسول، لتؤمنُنَّ به.
(١) في "الكتاب" له: ٣/ ١٠٨. ونص قوله: (ومثل ذلك: ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنهُمْ لَأَمْلَأَنَّ﴾، إنما دخلت اللام على نِيَّة اليمين). وقول سيبويه هنا من تتمة نقل المؤلف لكلام المازني من "الإغفال".
(٢) من قوله (والفعل..) إلى (.. فمعناها التقديم): نقل المؤلف هذه العبارات بالمعنى، وهي من تتمة كلامِ المازني في "الإغفال".
(٣) من قوله: (وتقديره..) إلى (.. لآتينك إن أتيتني كذلك): نقله بتصرف عن "الإغفال" للفارسي: ١/ ٥٨٧.
(٤) في (ب): (كما) بدلًا من: (على ما).
394
فإن قيل: ميثاق الإيمان بمحمد - ﷺ -، وسائر الرسل، مأخوذ على جميع النبيين ما (١) أوتوا الكتاب، وانما أوتي (٢) بعضهم؟.
قيل: هذا على التغليب؛ فالذكر ذكر الأنبياء الذين أوتوا الكتاب، والمراد: هم، وغيرهم ممن لم يُؤتَ الكتاب، ودخلوا في جملتهم؛ لأنهم بمنزلة من أوتى الكتاب بما أوتوا من الحُكْم والنبوة، وأيضًا فإن الذين لم ينزل عليهم الكتاب أمروا بأن يأخذوا بكتاب نَبِيٍّ (٣) قبلهم، ورُزِقوا علمَ ذلك الكتاب، فدخلوا تحت صفةِ أبناء الكتاب.
وقرأ (٤) نافع: ﴿آتَيْنَاكُم﴾ (٥)، وحجته قوله: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [الإسراء: ٥٥]، ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم: ١٢]، ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ﴾ [الصافات: ١١٧].
ومن قرأ: ﴿آتَيْتُكُم﴾، فحجته قوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الحديد: ٩]، و ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [آل عمران: ٣]، و ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ [الكهف: ١].
والقراءة الأولى: أشبه بكلام البلغاء والملوك، ومن الفصاحة تغيير العبارة عن الواحد إلى الجمع، وعن الجمع إلى الواحد، كقوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُ
(١) في (ج): (مما).
(٢) في (ج): (أولى).
(٣) (بأن يأخذوا بكتاب نبي): مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٤) من قوله: (وقرأ..) إلى نهاية قوله: {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾: نقله بتصرف عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ٦٩.
(٥) في (ب): (أتيتكم).
وهذه القراءة لجعفر -كذلك-، وقرأ الباقون ﴿آتَيْتُكُم﴾. انظر: "المبسوط" لابن مهران: ١٤٦، "الكشف" لمكي ١/ ٣٥١.
395
هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} (١) [الإسراء: ٢] ولم يقل: من دوننا، كما قال: ﴿وَجَعَلْنَاهُ﴾.
والقراءة الثانية: أشبه بما قبله مِنْ قولِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ﴾، وبما بعده من قوله: ﴿إِصْرِى﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ قال ابن الأنباري (٢): وإنّما خاطب، فقال: ﴿آتَيْتُكُمْ﴾ بعد أن ذكر النبيين وهم غيب؛ لأن في الكلام معنى قول وحكاية، يراد: واذ أخذ الله ميثاق النبيين، فقال مخاطبًا لهم: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾.
قال (٣): ونظائر هذا كثيرة (٤).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾.
دخلت ﴿مِنْ﴾ تبيينًا لـ (ما)؛ كقولك: (ما عندي من الوَرِقِ (٥) والعَيْنِ) (٦).
(١) كُتِبت ﴿ألّا يَتّخذوا﴾ -بضمير الغائب- وهي قراءة أبي عمرو. وقرأ الباقون: ﴿الَّا تَتَّخِذُوا﴾ -بضمير الخطاب- على الالتفات. انظر: "إتحاف فضلاء البشر": (٢٨١).
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) في (ج): (وقال).
(٤) في (ج): (وتظاهر هذا كثرة).
(٥) الوَرِق، والوِرْق، والوَرْق، والرِّقَة: الدراهم المضروبة وقيل: الفضة، أكانت مضروبة أم لا. وقيل: المال بعمومه. وجمع الورق: أوراق. وجمع الرِّقَة: رِقُون. انظر (ورق)، في "الصحاح" ٤/ ١٥٦٤، "اللسان" ٨/ ٤٨١٦، "التاج" ١٣/ ٤٧٦.
(٦) في (ج): (والحبر).
و (العين): من معانيها في اللغة -مما يصلح في هذا الموضع-: المال العتيد: الحاضر، والنّقد، والدينار، والذهب عامّة. انظر (عين)، في "اللسان" ٦/ ٣١٩٨، "القاموس" (١٢١٨).
396
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾.
يقال: ما وَجْه (١) قوله: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ﴾، والنَّبِيُّون لم يأتهم الرسولُ، وإنما يُبْعَثُ الرُّسُلُ إلى الأمم، لا إلى الرُّسُلِ؟.
قيل: يجوز أن يُعْنى بذلك أهل الكتاب في المعنى (٢)؛ لأن الميثاق إذا أُخذ على النبيين، فقد أُخذ على الذين أوتوا (٣) كُتُبَهُمْ من أممهم.
وعامَّة ما يُشْرع للأنبياء (٤)، قد (٥) شُرعَ لأممهم وأتباعهم؛ يبين ذلك: أن الفروض التي تلزمنا تلزمُ نبينا (٦) عليه السلام؛ وإذا كان كذلك؛ فأخذ (٧) الميثاق على النبيين، كأَخْذ الميثاق على الذين أوتوا كتبهم من أممهم، ومن ثَم جاء ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: ١]، فجُمع النبي - ﷺ - ومن تبعه في الخطاب الواحد، وهذا من جهة المعنى.
قال ابن الأنباري (٨): إنما أخذ الله ميثاق النبيين (٩)، بأن يؤمنوا برسل
(١) من قوله: (ما وجه..) إلى (وهذا من جهة المعنى): نقله -بتصرف- عن "الحجة" للفارسي: ٣/ ٦٧ - ٦٨.
(٢) ممن قال بذلك: طاوس، وقتادة. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢٤، "تفسير الطبري" ٣/ ٣٣٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٩٤.
(٣) في (ب): أتوا. والمثبت من: (ج)، "الحجة".
(٤) في (أ)، (ب): الأنبياء. والمثبت من: (ج)، "الحجة".
(٥) في (ب)، (ج): (فقد).
(٦) في (ج): (نبيهم).
(٧) في (أ)، (ب)، (ج): (وأخذ). والمثبت من "الحجة" للفارسي؛ لأنه الأليق بالعبارة، ودخول الواو يخل بالمعنى.
(٨) لم أقف على مصدر قوله.
(٩) في (ج): (الميثاق على النبيين).
397
الله جل وعز بعدهم، فإذا آمنوا بهم، لزم أُمَمَهم الاقتداءُ بهم، والسلوكُ لمنهاجهم.
وجواب آخر من طريق اللفظ (١)، وهو: أن يكون المراد: وإذ أخذ ميثاق أممِ النَّبِيِّين وأتباع النَّبِيِّين، شَرط عليهم أنبياؤُهم أن يؤمنوا بكل نَبِيٍّ يبعثه الله عز وجل ولا يكذبوه، ولا يدخلوا في جملة أعدائه، وأخذوا بذلك عهودهم، فقال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾، وهو يريد: ميثاقَ تُبّاع النَّبيين، فحَذَف المضاف.
وقال صاحب النظم: معنى النَّبِيِّين ههنا: معنى أُمَمِهم، وصار ذكرهم كالقبيلة للأمم، كما يقال: قَيْس، وتَمِيم، وبَكْر، وهي أسماء رجال بأعيانهم، نُسِب أولادهم إليهم، فصاروا قبائل.
ومنه قول الشاعر:
أتَسأَلُني السويَّةَ وَسْطَ زَيْدٍ ألا إنَّ السَّوِيَّةَ أنْ تُضامُوا (٢)
فـ (زيد) ههنا قبيلة لأصحابه؛ لذلك قال: (وَسْطَ زيد).
وقوله تعالى: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾.
إن قيل: ما معنى: أخْذَ ميثاق النبيين بِنُصْرَةِ مَن لم يَلْقَوْهُ، ولم يدركوا زمانَه؟.
قلنا: قد بَيَّنّا (٣) أن المراد بـ ﴿النَّبِيِّينَ﴾: أتباعهم وأممهم. فعلى هذا؛
(١) وهذا الجواب قد ذكره الفارسي في "الحجة" ٣/ ٦٨، وإنما ذكر المؤلف معناه هنا.
(٢) البيت ورد في "اللسان" ٤/ ٢١٦٢ (سوا)، ونسبه إلى البراء بن عازب الضَّبِّي. و (السَّويِّة، والسواء): العدل، والنَّصفَة. وقوله: (تُضامُوا) من: (ضامَهُ حقَّهُ)، (يَضيمُه، ضَيْما)؛ أي: انتقصه حقه، وظلمه. انظر: "اللسان" ٤/ ٢١٦٢ (سوا)، ٥/ ٢٦٢٩ (ضيم).
(٣) (قد بينا): ساقط من: (ج).
398
لا كلام.
وإن (١) قلنا: المراد: هُم، ثم (٢) تتبعهم الأُممُ؛ فمعنى النصر ههنا: أن ينصروه بتصديقه عند قومهم.
قال المفسرون في هذه الآية: إن الله تعالى أخذ الميثاق على الأنبياء بتصديق بعضهم بعضًا. وهذا قول: سعيد بن جبير (٣)، وقتادة (٤)، وطاوس (٥)، والحسن (٦)، والسدّي (٧).
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (٨): لم يبعث الله عز وجل؛ (٩) نَبِيًّا، آدَمَ ومَن بَعده، إلا أَخَذَ (١٠) عليه العهد في محمد وأمره (١١)، وأخذ العهدَ
(١) في (ج): (فإن).
(٢) (ثم): ساقط من: (ج).
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٣١ - يرويه عن ابن عباس- وفي "الثعلبي" ٣/ ٦٧ أ.
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٣٢، "تفسير الثعلبى" ٣/ ٦٧ أ، "الدر المنثور" ٢/ ٨٤، وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد.
(٥) قوله في "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢٤، "تفسير الطبري" ٣/ ٣٣١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٧ أ.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٣١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٧ أ، "تفسير ابن كثير" ١/ ٤٠٥، وانظر: "تفسيره" ١/ ٢١٩.
(٧) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٣٢، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٩٤، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٧ أ.
(٨) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٣٢، "تفسير الثعلبى" ٣/ ٦٧ أ.
(٩): ساقطة من: (ج).
(١٠) في (أ): (خذ). والمثبت من: (ب)، (ج)، و"تفسير الطبري" و"الثعلبي".
(١١) في (ب): وإمره. وهكذا جاءت العبارة: (... وأمره، وأخذ العهد...) عند المؤلف، والثعلبي، الذي نقل قول الإمام علي، ومن سبق من التابعين، عن كتاب "نظم القرآن" - كما أشار هو إلى ذلك. ولكن عبارة الطبري أصح في المعنى وهي: (ويأمره فيأخذ العهد على قومه).
399
على قومه لَيُؤمِنُنَّ به، ولَئِن بُعث وهم أحياء لَيُنْصُرُنَّهُ.
وقال ابن عباس: يريد بـ ﴿مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾: عَهْدَهُم؛ ليشهدوا بمحمد - ﷺ -، بأنه رسول الله.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾. يريد: محمدًا - ﷺ -.
﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾، يريد: إن أدركتموه. فالآية (١) عامة في جميع النبيين؛ على قول: سعيد بن جبير ومَن تابَعَهُ، وخاصَّة في النبي - ﷺ -، على قول: عَلِيٍّ، وابن عباس رضي الله عنهما. وهذا هو الأصح؛ لأن المراد بالآية: التَنْوِيه بذكر محمد - ﷺ - بما أُخِذ على النبيين مِن التصديق به، واعتماد النصرة له، مع الاحتجاج على أهل الكتاب باتِّبَاع سبيلِ النبيبن فيه (٢).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ﴾ أي: قال الله تعالى للنبيين: أأقررتم بالإيمان به والنصرة له.
و (الإقرار) في اللغة منقول بالألف (٣)، من: (قَرّ الشيءُ، يَقِرُّ) (٤): إذا ثبت، ولزم مكانه، و (أَقَرَّهُ غيرهُ). والمُقِرُّ بالشيء: يُقِرُّهُ على نفسه؛ أي: يُثْبِتُهُ (٥).
(١) في (أ)، (ب): بالآية. والمثبت من: (ج).
(٢) وقد رجح الطبري القول الآخر؛ أن الآية عامَّة في جميع النبيين بأن يصدِّق بعضهم بعضًا، وأخذ على الأنبياء الميثاق على أممهم وأتباعهم بنحو الذي أخذ عليهم ربهم بتصديق أنبيائه ورسله. انظر: "تفسيره" ٣/ ٣٣٣.
(٣) أي: منقول بالهمزة؛ للتعدية.
(٤) في (أ)، (ب): (يقرو). في (ج): (يفرا). وما أثبته هو ما رجحت صوابه. يقال: (قَرَّ بالمكان، يَقَرُّ، ويَقِرُّ) -بالكسر والفتح- وبالكسر أكثر. انظر المصادر التالية.
(٥) انظر (مادة: قرر) في "اللسان" ٦/ ٣٥٧٩، و"التاج" ٧/ ٣٨٠.
400
وقوله تعالى: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ أي: قبلتم عهدي (١). والأخذ؛ بمعنى (القَبُول) (٢)، كثيرٌ في الكلام؛ كقوله: ﴿وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨]؛ أي: لا يُقبل فِدْيَةٌ (٣). وقال: ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة: ١٠٤]، أي: يقبلها.
ومضى الكلام في معنى (الإصْر) (٤).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا﴾ أي (٥): قال الله عز وجل للنبيين: فاشهدوا (٦) أنتم على أنفسكم، وعلى أتباعكم، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم. وهذا القول، يُروى عن عَلِي - رضي الله عنه - (٧).
وقال الزجاج (٨): ﴿فَاَشْهَدُوا﴾ أي: فبينوا (٩)؛ لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي، ولبينها، وشهادة الله عز وجل للنبيين: تبيينه (١٠) أمر
(١) تفسير (الإصر) بـ (العهد)، قال به ابن عباس، ومحمد بن إسحاق، ومجاهد، والربيع، والسدي، وابن جريج، وقتادة. انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٣٣٤، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٩٥.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٣٣٤.
(٣) انظر: "تفسير البسيط" ٨٦٣، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٧ أ. انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: ١٩٢، ٨٣، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٦ ب.
(٤) انظر: "تفسير البسيط" للمؤلف: عند تفسير آية: ٢٨٦ من سورة البقرة
(٥) من قوله: (أي:..) إلى (عليكم وعليهم): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٦ ب.
(٦) (أي قال الله عز وجل للنبيين فاشهدوا): ساقط من: (ج).
(٧) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٣٤، "زاد المسير" ١/ ٤١٦.
(٨) في "معاني القرآن" له، ٤٣٧. نقله عنه بتصرف يسير.
(٩) في "معاني القرآن" فتبينوا. وما كتبه المؤلف أصح من ناحية المعنى، وأنسب لما بعده من كلام.
(١٠) في (ب)، (ج): (تبينه).
401
نبوتهم بالآيات المعجزات (١).
وحكي عن سعيد بن المُسَيّب أنه قال (٢): هذا الخطاب للملائكة، قال الله تعالى للملائكة) (٣): اشهدوا عليهم بإقرارهم؛ فيكون خطابًا لمن لم يتقدم ذِكْرُهُ (٤).
٨٢ - قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ هذا شرط (٥)؛ وقد ذكرنا أن الفعل الماضي معناه: الاستقبال في الشرط والجزاء، وإنما جاز وقوع الماضي موقع المستقبل في الجزاء؛ لأن حرف (٦) الجزاء لمّا كان يعمل في الفعل، قوي على نقله من معنى المضي إلى الاسقبال، وذلك إشارة إلى أخذ الميثاق.
قال ابن عباس (٧): يريد: فمن أعرض عما جئت به، وأنكر ما عاهد الله عليه.
وقال الزجاج (٨): فمن تولى؛ أي: أعرض عن الإيمان بعد أخذ الميثاق، وظهور آيات النبي - ﷺ -.
(١) في (ب): (والمعجزات).
(٢) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٦ب، "تفسير البغوي" ٣/ ٦٢، "زاد المسير" ١/ ٤١٦، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٢٦.
(٣) (قال الله -تعالى- للملائكة): ساقط من: (ج).
(٤) في (ج): (لم يتقدم).
(٥) ويجوز أن تكون ﴿مَنْ﴾ موصولة، وتكون ﴿تَوَلَّى﴾: صلة، لا محل لها. ويكون ﴿فَأُولَئِكَ﴾ -في هذه الحالة-: في محل رفع؛ لوقوعها خبرًا. انظر: "الدار المصون" ٣/ ٣٩٥.
(٦) في (ج): (حروف).
(٧) لم أقف على مصدر قوله.
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٣٨. نقله عنه بتصرف
وقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ دخلت الفاء في (أولئك)؛ لأنه جواب الشرط؛ وإنما تدخل (١) الفاءُ في جواب الشرط؛ لأن الثاني يجب بوجود الأول بلا فصل؛ كقولك: (إنْ تأتِنِي فَلَكَ درهمٌ)، فوجوب الدرهم، بالإتيان عقيبَه بلا فصل؛ فلذلك جاء بالفاء.
و ﴿أُولَئِكَ﴾: ابتداء؛ و (٢) ﴿هُمُ﴾: ابتداءً ثانٍ، و ﴿الْفَاسِقُونَ﴾: خبره، و ﴿هُمُ﴾ (٣) مع خبره: خَبَرُ ﴿أُولَئِكَ﴾، ويصلح أن يكون ﴿أُولَئِكَ﴾: ابتداء؛ و ﴿الْفَاسِقُونَ﴾: خبرَهُ، و ﴿هُمُ﴾: عِمَاد وفَصْلٌ؛ لا موضع له. ومعنى (الفاسقين) ههنا؛ أي: الذين خرجوا عن القصد، وعن جملة الإيمان. قاله الزجاج (٤).
٨٣ - قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ دخلت الفاءُ في ﴿أَفَغَيْرَ﴾ لأنه عطف جملة على جملة (٥)، وكذلك (٦) لو قيل: (أَوَغَير)، إلّا أَنَّ الفَاءَ تُرتِّبُ (٧)؛ كأنه قيل: أَبَعد أَخْذِ الميثاق، غَيرَ دينِ الله يبغون؟.
واختلفوا في الياءِ والتّاءِ، من قوله: ﴿تَبغُون﴾:
فمن قرأ بالتاء (٨)؛ فلأن ما قبله خطاب؛ كقوله: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ﴾.
(١) في (ج): (يدخل).
(٢) (الوا) و: زيادة من (ج).
(٣) من قوله: (وهم..) إلى (والفاسقون خبره): ساقط من (ج).
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٣٨.
(٥) على جملة: ساقط من: (ج).
(٦) في (ج): (ولذلك).
(٧) في (ج): (نزلت).
(٨) القراءة بالتاء في ﴿تبغون﴾، لابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم -في رواية أبي بكر عنه-، وحمزة، والكسائي.=
403
ومن قرأ بالياء (١)؛ فوجهه: أن الله تعالى أخبر في الآية السابقة، عن أخذ الميثاق على اليهود والنصارى وغيرهم، فلما كفروا، أخبر عنهم على جهة الاستنكار، فقال (٢): ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾.
وقرأ أبو عمرو: ﴿يَبْغُونَ﴾ بالياء، و ﴿تُرجَعُونَ﴾ بالتاء (٣)؛ لأن الأول: خاص لليهود (٤) وغيرهم (٥)، والثاني: عامٌّ لجميع المكلفين (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾.
روى (٧) أنس بن مالك أن رسول الله - ﷺ -، قال في هذه الآية: "الملائكة، أطاعوه في السماء؛ وعبد القيس في الأرض" (٨).
= انظر: "علل القراءات" للأزهري: ١/ ١٢٢ - ١٢٣، "الحجة" للفارسي: ٣/ ٦٩، "التيسير" ٨٩، "التبصرة" ٤٦٢.
(١) القراءة بالياء في ﴿يَبْغُونَ﴾، لأبي عمرو، وعاصم -برواية حفص-، ويعقوب. انظر المصادر السابقة.
(٢) في (ج): (قال).
(٣) قرأ عاصم -برواية حفص-: ﴿يُرجَعُونَ﴾ -بالياء المضمومة-، وقرأ الباقون: ﴿تُرجَعُونَ﴾ -بالتاء المضمومة-. انظر المصادر السابقة.
(٤) في (ب): (باليهود).
(٥) (باليهود وغيرهم): ساقط من: (ج).
(٦) انظر توجيه هذه القراءة في "علل القراءات" للأزهري: ١/ ١٢٣، "الحجة" للفارسي: ٣/ ٦٩ - ٧٠، "حجة القراءات" لابن زنجلة: ١٧٠، "الكشف" لمكي: ١/ ٣٥٣.
(٧) في (ج): (وروي).
(٨) الحديث: أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس": ٤/ ٤٠٧، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٦٨ أ، وأورده -بدون سند- القرطبيُّ في "تفسيره" ٤/ ١٢٨. وفيه زيادة عندهم "والأنصار وعبد القيس أطاعوه في الأرض". وفي سنده عند الديلمي والثعلبي: =
404
وبهذا (١)؛ قال ابن عباس في رواية عطاء (٢): قال: يريد بأهل السموات: الملائكة. وبأهل الأرض: المهاجرين والأنصار وعبد القيس، طوعًا، والناس كرهًا. وهذا قول الحسن (٣).
وقال قتادة (٤): المؤمن، أسلم طائعًا فنفعه (٥) ذلك، وقبل منه، والكافر، أسلم كَرْهًا في وقت البأس والمعاينة، حين (٦) لا ينفعه ذلك، ولا
= الكُدَيْمي، وهو: محمد بن يونس القرشي.
قال عنه ابن حبان: (كان يضع على الثقات الحديث وضعًا، ولعله قد وضع أكثر من ألف حديث).
وقال عنه الذهبي في "الميزان": (أحد المتروكين)، وقال عنه -في "المغني في الضعفاء"-: (هالك). وعند ابن حجر -في "التقريب"-: (ضعيف).
انظر: "المجروحين" لابن حبان: ٢/ ٣١٣، "ميزان الاعتدال" ٥/ ١٩٩، "المغني في الضعفاء" له: ٢/ ٢٨٣، "تقريب التهذيب" ص ٥١٥ (٦٤١٩).
وعبد القيس، قبيلة عربية كبيرة، تنسب إلى عبد القيس بن أفصى بن دُعْمي بن جَديلة بن أسد بن ربيعة بن نِزار بن مَعَدّ بن عدنان. وكان موطنهم بتهامة، ثم خرجوا إلى البحرين واستوطنوها، وقدم وفدهم على النبي - ﷺ - عام (٩ هـ)، وثبتت عبد القيس على إسلامها عندما ارتدت قبائل البحرين عام (١١ هـ).
انظر: "جمهرة أنساب العرب" ٢٩٥ - ٢٩٦، ٤٦٩، و"صبح الأعشى" ١/ ٣٣٧، "معجم قبائل العرب" لكحالة: ٢/ ٢٧٦.
(١) في (ب): (وعلى هذا).
(٢) لم أقف على مصدر هذه الرواية.
(٣) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٩٦١، وورد نفس المعنى عن مطر الوراق، أخرجه الطبري في "تفسيره" ٣/ ٣٣٧.
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٣٧، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٩ أ.
(٥) في (ب): ففقه.
(٦) (حين): ساقطة من: (ج).
405
يُقبَل منه، يدل عليه قولُه: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥].
وقال ابن كَيْسان (١)، والزجاج (٢): أي: خضعوا وانقادوا من جهة ما فطرهم عليه، ودَبَّرَهُم به، لا يمتنعُ مُمْتَنِعٌ مِن جِبِلَّةٍ جُبِلَ (٣) عليها، ولا يَقدِرُ على تغييرها، أحب تلكَ الجِبِلَّةِ أو كرهها؛ يدل على تصديق هذا القول: قوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ لأن المعنى: أنه بدأكم على إرادته، شئتم أو أبيتم، وهو يبعثكم كما بدأكم، والتأويل: أتبغون دينا غير دين (٤)؛ الذي هذه صفته.
وفي قوله: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ وعيد لهم؛ أي: أتبغون غير دين الله، وتزيغون عن الله، مع أن مرجعهم إليه، فيجازيهم على رفضهم دينه، وأخذهم سواه.
وقوله: ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ الطَّوْعُ: الانقياد؛ يقال: (طاعَهُ، يَطُوعُه، طوعًا) (٥): إذا انقاد له، وخضع. فإذا مضى لأمره (فقد أطاعَهُ)، وإذا وافقه، (فقد طاوَعَهُ) (٦).
(١) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٩ أ، "البحر المحيط" ٢/ ٥١٥.
(٢) في "معاني القرآن"، له: ١/ ٤٣٨. وهذا النص -هنا- له، من: (أي خضعوا..) إلى (الذي هذه صفته).
(٣) الجِبِلَّةُ: الخليقة، والطبيعة، والغريزة ويقال للخلق: (الجِبِلّة، والجِبِلّ، والجِبُلّ، والجُبُلُ، والجُبُلّ، والجِبْلُ). و (جَبَلَه الله على كذا)؛ أي: فطره عليه. انظر: "الزاهر" ١/ ٣٢١، "المجمل" ٢٠٦ (جبل)، "المصباح المنير" ٣٥ (جبل).
(٤) في "معاني القرآن": الدين.
(٥) (طوعا): ساقطة من: (ج).
(٦) انظر: (طوع) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٣، "الصحاح" ٣/ ١٢٥٥، "المقاييس" ٣/ ٤٣١.
406
وقال ابنُ السِّكِّيت (١): يقال: (طاعَ لهُ، وأطاعَهُ)، سواء، فَمَن قال: (طاعَ)، قال: (يَطَاعُ)، ومن قال: (أطاعَ)، قال: (يُطيعُ). فحصل في (الطَّوْع) لغتان: (طاعً يَطُوعُ)، و (طاعَ يَطاعُ).
وانتصب ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾؛ على أنه مصدرٌ وقع موقع الحال؛ وتقديره: طائعًا (٢) أو كارهًا (٣)؛ كقولك: (أتاني رَكضًا)؛ أي: راكضا؛ ولا يجوز: (أتاني كلاما)؛ أي: متكلمًا؛ لأن الكلام ليس بِضَرْبٍ للإتْيَانِ.
٨٤ - قوله تعالى ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ الآية. في هذه الآية إنكارٌ (٤) على الكفار من اليهود والنصارى، فيما ذهبوا إليه (٥) من الإيمان ببعض النبيين دون بعض، وأمْرٌ للنبي - ﷺ -، وأمته، أن يقول: آمنا بالله وبجميع الرسل، وما أنزل عليهم: لا نفرق بين جميع الرسل في الإيمان (٦) بهم، كما فعلت اليهود والنصارى.
وأجرى أوَّلَ الآية على التوحيد، وآخِرَها على الجمع، في قوله: ﴿لَا نُفَرِّقُ﴾، ﴿وَنَحْنُ﴾ لدخول أمة محمد - ﷺ - في هذا الإقرار معه.
٨٥ - قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾ الآية.
(١) في "إصلاح المنطق" ٢٥٧ - ٢٥٨ مع اختلاف في العبارة. والعبارة -هنا- تتفق مع ما في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٢ عن ابن السكيت؛ مما يدل على أن المؤلف نقل النص عن "التهذيب".
(٢) (طائعًا): ساقطة من: (ب).
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس: ٣/ ٢٩، "مشكل إعراب القرآن" ١/ ١٦٧.
(٤) في (ج): (ان كان).
(٥) إليه: ساقطة من: (ب).
(٦) في (ب): (بالإيمان).
قال ابن عباس (١): يريد: خَسِرَ (٢) ثوابَ الله، وصارَ إلى عذابِهِ؛ وخَسِرَ الحُورَ العِيْنِ.
وقال الزجاج (٣): يعني: خَسِرَ عَمَلَهُ؛ حيث لم يُجازَ بِهِ (٤) الجنَّة والثوابَ.
٨٦ - قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾.
قال ابن عباس (٥): نزلت في اليهود (٦): قَرَيظة والنَّضِير، ومَن دانَ بدينهم؛ كفروا بالنبي - ﷺ - بعد أن كانوا قبل مَبْعَثِهِ مؤمنين، وكانوا يَشهَدُون له بالنبوة، فلما بُعِثَ، وجاءهم بالآيات المعجزات، كفروا بغيًا وحَسَدًا (٧).
(١) من قوله: (قال ابن عباس..) إلى نهاية (كفروا بعد إيمانهم): ساقطة من: (ج). ولم أقف على مصدر قول ابن عباس.
(٢) في (ب): (حسن).
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٣٩.
(٤) في (أ)، (ب): (يجازيه). وأثبتُّ ما رأيته صوابًا.
(٥) ورد قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٤١، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٩٩، "زاد المسير" ١/ ٤١٨.
(٦) الذي وقفت عليه عنه: أنها نزلت في أهل الكتاب، ولم يجعل نزولها في اليهود فقط.
(٧) وقد ورد في سبب نزولها -إضافة إلى ما ذكره المؤلف-: أن رجلًا من الأنصار، أسلم، ثم ارتَدَّ ولحق بالمشركين، ثم ندم فأرسل إلى قومه؛ ليسألوا رسول الله - ﷺ -، هل له من توبة؟ فلما سألوا الرسول - ﷺ -، نزلت هذه الآية إلى قوله: ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فأرسل إليه فأسلم.
وقد ورد هذا الأثر بسندٍ صحيح عن ابن عباس -من رواية عكرمة عنه-، قد أخرجه: النسائي في سننه: ٧/ ١٠٧. كتاب تحريم الدم. باب: (توبة المرتد)، وأخرجه -كذلك- النسائي في "تفسيره" ١/ ٣٠٨.
وأحمد في "المسند" ١/ ٢٤٧، وابن حبان في "صحيحه" (انظر: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان"): ١٠/ ٣٢٩، (٤٤٧٧)، "موارد الظمآن" ٤٢٧،=
408
وأصل (كيف): أنها للاستفهام والاستخبار عن الحال. ودخلت ههنا للإنكار؛ وذلك أن المسئول يُسألُ لأغراضٍ مختلفة، فقد يُسأل للتعجيز عن إقامة البرهان، وقد يُسأل لتوبيخ، بما يظهر من معنى الجواب.
وقد ذكرنا فيما مضى (١): لِمَ جازَ أن يَقَعَ الاستفهام موقعَ الإنكار؟ ومثل هذا قول ابن الرُّقَيّات (٢):
= والحاكم في "المستدرك" ٢/ ١٤٢، ٤/ ٣٦٦، وقال: (صحيح)، ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقيُّ في "السنن" ٨/ ١٩٧. والطبري في "تفسيره" ٣/ ٣٤٠، وابن أبي حاتم ٢/ ٦٩٩، والواحدي في "أسباب النزول" ص١١٦ - ١١٧.
وقد ذكر مجاهد والسدي أن المرتد هو الحارث بن سويد.
وعن عكرمة أنهم أثنا عشر رجلًا، منهم أبو عامر الراهب، والحارث بن سويد، وَوضحْوَح بن الأسلت.
وقيل: إنها نزلت في أهل الكتاب، عرفوا نعت النبي - ﷺ - في كتبهم، ثم كفروا به بعد بعثته. وقد روي هذا عن ابن عباس والحسن.
انظر: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢٥، "تفسير الطبري" ٣/ ٣٤٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٩٩، "أسباب النزول" للمؤلف (١١٨)، "تفسير الحسن" ١/ ٢٢١، "الدر المنثور" ٢/ ٨٨.
ومما سبق تبين أن الأثر الأول في كونها نزلت في الحارث بن سويد أصح؛ ولذا يُقَدم ويُعتَمد سببًا لنزول الآية، مع عموم حكمها لكل من عَرفَ الحقَّ وارتد عنه، ثم تاب ورجع إليه، فيدخل في حكمها أهل الكتاب الذين شهدوا بأن النبي - ﷺ - حق، ثم كفروا به بعد بعثته؛ حسدًا منهم.
(١) من هذه المواضع: ما ذكره عند تفسيره لقوله -تعالى-: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آية: ٨٠ من سورة آل عمران].
(٢) هو: عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات. أحد بني عامر بن لؤي، من الشعراء الإسلاميين، كان يوالي مصعب بن الزبير، ضد بني أمية. انظر: "الشعر والشعراء" ص ٣٦١، "خزانة الأدب" ٧/ ٢٨٠.
409
كيفَ نَوْمِي عَلَى الفِراشِ وَلَمّا يَشْمَلِ الشامَ غارَةٌ شَعْوَاءُ. (١).
أي: لا نوم لي، ولا أنام. ومثله قوله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٧] أي: لا يكون لهم عهد.
قال (٢) الزجاج (٣): أعلم الله عز وجل أنه لا جهة لهدايتهم؛ لأنهم قد استحقوا أن يُضلُّوا بكفرهم؛ لأنهم قد كفروا بعد البَيِّنات.
وقوله تعالى: ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾.
(١) البيت في "ديوانه" ٩٥. وورد منسوبًا له، في أكثر المصادر التالية: "إصلاح المنطق" ٢١١، "المنصف" ٢/ ٢٣١، "العقد الفريد" ٤/ ٤٠٦، "الأمالي" للقالي: ١/ ٩٥، "اللسان" ٤/ ٢٢٨٢، "مقاييس المقاييس" ٣/ ١٩٠ (شعى)، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٩ أ، "أساس البلاغة" ١/ ٤٩٥ (شعو)، "أمالي ابن الشجري" ٢/ ١٦٣، "شرح المفصل" ٩/ ٣٦، "اللسان" ١١/ ٣٦٨ (شامل)، ١٤/ ٤٣٥ (شعا)، "خزانة الأدب" ٧/ ٢٨٧، ١١/ ٣٧٧.
ونسبه في "معجم الشعراء" (تحقيق: عبد الستار فراج): ٤٠٦ إلى محمد بن الجهم بن هارون السمري، صاحب الفراء.
والشعواء، الفاشية المتفرقة يقال: (أشعى القومُ الغارةَ إشعاءً): إذا أشعلوها. و (شَعِيَت الغارةُ، تَشْعَى شَعًا): إذ انتشرت. انظر: "معجم المقاييس" ٣/ ١٩٠ (شعى)، "اللسان" ٤/ ٢٢٨٢ (شعا).
والبيت من قصيدة يمدح فيها الشاعر مصعبَ بن الزبير، ويعرِّض ببني أمية أعداء ابن الزبير، ويقول بأنه لا يمكن أن ينام، ولن يأتيه النوم حتى تَعُمَّ الشامَ -وهي معقل بني أمية- غارةٌ فاشية مكتسحة. وبعد هذا البيت:
تُذهِلُ الشيخ عن بنيه وتُبْدِي عن بُراها العَقيلَةُ العذراءُ
و (بُراها)؛ أي: خلاخيلها. يريد: أن النساء يكشفن عن خلاخيلهن وسيقانهن، حال الهروب من شدة الفزع من الغارة.
(٢) في (ج): (وقال).
(٣) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٣٩. نقله عنه بنصه.
410
عطف بالفعل على المصدر؛ لأنه أراد بالمصدر الفعل؛ تقديره: (كفروا بالله بعد أن آمنوا). فهو عطفٌ على المعنى؛ كما قال:
لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي أَحَبُّ إليَّ مِن لُبْسِ الشُّفُوفِ (١)
معناه: لأن ألبس عباءة، وتَقَرَّ عيني (٢).
(١) البيت لميسون بنت بحدل الكلبية. زوج معاوية بن أبي سفيان، وأم ولده يزيد. وقد ورد في "كتاب سيبويه" ٣/ ٤٥، "المقتضب" ٢/ ٢٧، "الأصول في النحو" ٢/ ١٥٠، "المحتسب" ١/ ٣٢٦، "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٧٣، "الإيضاح العضدي" ٣٢١، "الصاحبي" ١٤٦، "شرح المفصل" ٧/ ٢٥، "البسيط في شرح جمل الزجاجي" ١/ ٢٣٣، "شرح شذور الذهب" ص ٣٨١، "شرح بن عقيل" ٤/ ٢٠، "المقاصد النحوية" ٤/ ٣٩٧، "منهج السالك" ٣/ ٣١٣، "التصريح" ٢/ ٢٤٢، "شرح شواهد المغني" ٦٥٣، ٧٧٨، "همع الهوامع" ٤/ ١٤١، "الخزانة" ٨/ ٥٠٣، ٥٧٤، "الدرر اللوامع" ٢/ ١٠.
الشفوف: الثياب الرِّقاق. وسميت بذلك؛ لأنها تشف عما تحتها، وواحدها: (شَفَّ) - بفتح الشين وبكسرها.
وقد قالته ميسون ضمن أبيات، تحنُّ فيها إلى وطنها البادية، وتُفَضِّل فيها حياةَ البداوة وشَظَفَ العيش، على نعيم المدينة وعيشَةِ القصور.
(٢) ذكر النحويون البيت السابق شاهدا على انتصاب الفعل المضارع بـ (أنْ) المضمرة جوازا، بعد واو عاطفة على اسم صريح؛ أي: (وأنْ تقرَّ عيني) بمعنى: قرة عيني. فهذا المصدر، معطوف على المصدر الأول، فيكون: (ولبس عباءة وقرة عيني) وهذا خلاف ما ذكره المؤلف حيث أوَّلَ الاسم الوارد في الآية: ﴿إِيمَانِهِمْ﴾، وفي البيت: (لبس)، من أجل الفعل، فقال: (أن آمنوا)، و (أن ألبس) والأوْلَى أن نتأول الفعل باسم ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله، فيكون التقدير في الآية: (بعد إيمانهم، وأن شهدوا..)؛ أي: وشهادتهم. فعطف الشهادة على الإيمان. وكذا في البيت، يكون التقدير: (ولبس عباءة وأن تقر عيني) أي: وقرة عيني. انظر المصادر النحوية السابقة التي أوردت البيت، "الدر المصون" ٣/ ٣٠٣.
411
وزاد (١) صاحبُ النظم لهذا بيانا، فقال (٢):
قوله: ﴿وَشَهِدُوا﴾ منسوق على ما يمكن في التقدير؛ وذلك أن قوله: ﴿بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ يمكن أن يكون: (بعد أن آمنوا)، و (أَنْ) الخفيفة مع الفعل، بمنزلة المصدر، كقوله: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٤]، أي: والصوم.
ومثل هذا ممّا حُمِلَ عَلَى الإمكان (٣) قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ﴾ (٤)، فهو (٥) عطف على قوله: ﴿إِلَّا وَحْيًا﴾، ويمكن فيه: إلا أَنْ يوحى إليه. فلمّا كان قوله (٦): ﴿إِلَّا وَحْيًا﴾ بمعنى: يوحى إليه، حمله على ذلك. ومثله من الشعر، قوله:
فَظَلَّ طُهاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ صَفِيفَ (٧) شِواءٍ أو [قَدِيرٍ مُعَجَّلِ] (٨)
(١) في (ج): (وأراد).
(٢) أورد هذا النص عنه السمين الحلبي في "الدر المصون" ٣/ ٣٠٣.
(٣) في "الدر المصون": (المعنى).
(٤) [سورة الشورى: ٥١]. وبقيتها: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾.
(٥) من قوله: (فهو..) إلى (إلا وحيا): ساقط من: (ج).
(٦) في (ب): ما كان يوحى. بدلًا من: (فلما كان قوله).
(٧) في (أ)، (ب): (ضعيف). والمثبت من: (ج)، ومصادر البيت.
(٨) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وساقط من: (ب). ومثبت من: (ج)، ومصادر البيت.
والبيت لامرئ القيس، من معلقته، وقد ورد في "ديوانه" ١٢٠، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: ٩٧، "شرح المعلقات السبع" للزوزني: ٣٦، "شرح
القصائد العشر" للتبريزي: ٤٦، "اللسان" ٤/ ٢٤٦٣ (صفف)، ٤/ ٢٧١٥ (طها)، "مغني اللبيب" ٦٠٠، ٦١٧، "المقاصد النحوية" ٤/ ١٤٦، "منهج السالك" ٣/ ١٠٧، "همع الهوامع" ٥/ ٢٧٨، "شرح شواهد المغني" ٨٥٧.=
412
خَفَضَ قولَه: (قَدِيرٍ) (١)؛ لأنه عَطْفٌ على ما يمكن في قوله: (مُنْضِجٍ)، لأنه أمكن أن يكون مضافًا إلى الصَّفِيفِ (٢)، فحمله على ذلك (٣).
وقوله (٤) تعالى: ﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾.
يجوز أن يريد بـ ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾: ما بُينَ في التوراة والإنجيل. وهو قول ابن عباس (٥).
ويجوز أن يريد: ما أتى به (٦) النبي - ﷺ - من الكتاب والآيات المعجزات. وفي هذا تبعيد لهم من حال الهداية، وبيان لاستحقاقهم الكفر بفعلهم.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ قال ابن عباس (٧). يريد: لا يرشد من نقض عهود (٨) الله، وظلم نفسه.
= الصفيف: هو اللحم المصفوف على الجمر على شكل شرائح مُرَقَّقَة؛ ليُشوَى. وقدير: أي: المطبوخ في القدور، فصرفه من (مفعول) إلى (فعيل). ومعنى البيت: أنه نظرًا لكثرة الصيد، فقد ظل الطبَّاخون ما بين من يقوم بإنضاج اللحم بشوائه على الجمر، وما بين من يقوم بطبخه في القدور. وقوله: (معجل)؛ لأنهم كانوا يستحبون تعجيل كل ما كان من الصيد يُستظرف.
(١) (خفض قوله قدير) غير مقروء في (أ). وساقط من: (ب). ومثبت من: (ج)، و"الدر المصون".
(٢) في (ب): (الخفيف).
(٣) أي: حَمَلَ (قدير) على (صفيف)؛ لأنه أمكن أن يكون (صفيف) مجرورًا بالإضافة إلى (منضج).
(٤) من قوله: (وقوله..) إلى (الكفر بفعلهم): ساقط من: (ب).
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) (أتى به): غير مقروء في (أ). ومثبت من (ج).
(٧) لم أقف على مصدر قوله.
(٨) في (ج): (عهد).
413
وهذا خاص فيمن (١) علم الله عز وجل منهم أنهم لا يؤمنون، وأراد ذلك منهم.
٨٧ - قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [آل عمران: ٨٧].
قال ابن عباس (٢): يريد: المؤمنين (٣). فعلى هذا؛ ﴿النَّاسِ﴾، خاصٌ؛ ولكنَّه لمَّا ذكر الثلاثة، قيل: ﴿أَجْمَعِينَ﴾.
وقال الزجاج (٤): معنى (لَعْن الناسِ أجمعين لهم): أن بعضَهم يوم القيامةِ يَلعَنُ بعضًا، ومَن خالَفَهم؛ يلعنهم في الدنيا. فقد استقرَّت عليهم لعنةُ الجميع، وإن كان على التفريق.
٨٨ - قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ نصبٌ على الحال مما قبله، وهو قوله: ﴿عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ﴾ (٥).
(١) في (ب): (بمن).
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) ورد هذا -كذلك- عن قتادة، والربيع.
وقيل: اللفظ على إطلاقه، وأن الكافرَ يلعنه الناسُ جميعًا يوم القيامة. وهو قول أبي العالية. وكذا قال مقاتل بالعموم.
وقيل: هي قول القائل: (لعنة الله على الظالم)، فتجب تلك اللعنة للكافر؛ لأنه ظالم، فكل أحد من الخلق يلعنه. وهو مروي عن السدي.
ورجح هذا الطبري، وجعل بمعناه قول أبي العالية السابق. واستدل له بقوله -تعالى-: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: ١٨].
انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٨٨، "تفسير الطبري" ٣/ ٣٤٣، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٤٣٤، "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٠٦، "الدر المنثور" ٢/ ٨٧، "روح المعاني" ٢/ ٢٩، عند تفسير آية: ١٦١ من سورة البقرة، وهي نظير هذه الآية.
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٤٠. نقله عنه بنصه.
(٥) انظر: "المشكل" لمكي ١/ ١٦٩، "التبيان" للعكبري: ٢٠٠.
414
وقوله تعالى: ﴿فِيهَا﴾ قال ابن عباس (١): في جهنم.
فعلى هذا؛ الكنايةُ (٢) عن (٣) غيرِ مَذْكورٍ (٤).
وقال الزجاج (٥): أي: فيما توجبه اللعنة؛ [أي: في عذاب اللعنة] (٦).
وقال بعضهم (٧): الكناية راجعة إلى اللعنة.
ومعنى (خلودهم في اللعنة): استحقاقهم دائمًا لها، مع ما (٨) توجبه من أليم العقاب، بدوامها.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ معنى (الإنظار): تأخير العبد، ليُنظَرَ في أمره (٩)؛ أي: لا (١٠) يُؤخرون عن وقتهم المؤقت (١١) لعذابهم.
(١) لم أقف على مصدر قوله، وقد ذكره الفخر الرازي في "تفسيره" ٨/ ١٤٢.
(٢) الكناية؛ هي: الضمير.
(٣) في (ج): (من).
(٤) قال ابن عطية: (وقرائن الآية تقتضي أن هذه اللعنة مخلدة لهم في جهنم، فالضمير عائد على النار، وإن كان لم يجر لها ذكر؛ لأن المعنى يفهمها في هذا الموضع.). "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٠٧.
(٥) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٤٠. نقله عنه بتصرف.
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٧) ممن قال بذلك: مقاتل، في "تفسيره" ١/ ٢٨٨.
(٨) في (أ)، (ب)، (ج): (معما). وما أثبتُّه هو الموافق للرسم الإملائي؛ لأن (ما) اسمية موصولة، ولا توصل بـ (مع)، وإنما قيل: إن (ما) الحرفية الزائدة توصل بـ (مع). انظر: "كتاب الإملاء". لحسين والي: ١٠٦، ١١٠.
(٩) الإنظار -لغة-: التأخير والإمهال. يقال: (أنْظَرتُه، أُنْظِرُه). وتقول: (أنْظِرْني): أمهلني. انظر: "نزهة القلوب" للسجستاني: ٧٢، "العمدة في غريب القرآن" لمكي: ٨١، "اللسان" ٧/ ٤٤٦٧ (نظر).
قال ابن عطية: (ولا يجوز أن يكون ﴿يُنْظَرون﴾ -هنا- نظر العين، إلا على توجيه غير فصيح، لا يليق بكتاب الله -تعالى-). "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٠٧.
(١٠) في (ب): (ما).
(١١) في (ب): (الوقت).
415
٨٩ - قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ موضع ﴿الَّذِينَ﴾: نصبٌ، استثناء من قوله: ﴿عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ﴾، ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ والتوبةُ لا تكون إلا بعد الذنْبِ، ولكنْ فيه دلالةٌ على معنًى تابوا منه؛ وذلك أن التوبة مِن غير الرِّدَّةِ لا ينفع (١) في التَّخَلُّصِ منها (٢)، كما أن التوبةَ من ذَنْبٍ لا ينفعُ في التخلص من ذَنْب آخر (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ قال ابن عباس (٤): يريد: راجعوا الإيمان بالله، والتصديق بِنَبِيِّهِ، وأَصلَحُوا أعمالَهم.
وقال الزجاج (٥): معنى ﴿وَأَصْلَحُوا﴾: أظهروا للناس أنهم كانوا على ضلال، وأصلحوا ما كانوا أفسدوهُ مِن تَغْرِيرِهم مَن تَبِعَهم (٦)، مِمَّن لا علم عنده. وشَرَطَ مع (٧) التوبةِ الإصلاحَ؛ لإزالة الإيهام أنهم إذا تابوا من الارتداد، [لم] (٨) يضرهم غيرُهُ مِنَ الفساد؛ وعلى ذلك، قال (٩): {إِلَّا الَّذِينَ
(١) في (ب)، (ج): (لا تنفع).
(٢) أي: من الردة. ومن قوله: (منها..) إلى (من ذنب آخر): ساقط من: (ج).
(٣) انظر: "لوامع الأنوار" ١/ ٣٨٤.
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٤٠. نقله عنه بتصرف.
(٦) (تبعهم): غير مقروء في (أ). وفي (ب): (بعدهم). وفي "معاني القرآن": (اتَّبعهم). والمثبت من: (ج).
(٧) في (ب): (شرائع). بدلًا من: (شرط مع).
(٨) زيادة لازمة من (ج).
(٩) (قال): ساقطة من (ب).
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (١)؛ لإزالة الإيهام: أنَّ مَن كان مؤمنًا (٢)، لم (٣) يضره ما عمل بعد ذلك مِن الجُرْمِ.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ دخلت الفاءُ في: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾؛ لِشَبَهِ الجزاء، إذ (٤) كان الكلامُ قد تضمن معنى: (إنْ تابوا؛ فإنَّ الله يغفر لهم).
وقوله تعالى: ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وقال الزجاج (٥): أعلم الله أنَّ مِن سَعَةِ (٦) رحمته وتفضله، أنْ يغفرَ لِمَن اجترأ عليه هذا الاجتراء؛ وذلك أنَّ الذي (٧) فعلوا، لا غايةَ وَرَاءَهُ فِي الكفر، وهو: أنَّهم كفروا بعد (٨) تبَيُّنِ الحقِّ.
٩٠ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ قال ابن عباس (٩): نزلت في اليهود؛ كفروا بعد إيمانهم بمحمد، وتصديقِهم إيّاهُ قَبْلَ (١٠) بِعثتِهِ (١١).
(١) مقطع من: سورة الشعراء: ٢٢٧، وص: ٢٤، والانشقاق: ٢٥، والبروج: ١١، والتين: ٦، والبينة: ٧، والعصر: ٣.
(٢) (مؤمنا): غير مقروء في (ج).
(٣) في (ب): (لا).
(٤) في (ج): (إذا).
(٥) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٤٠. نقله عنه بتصرف.
(٦) في (ب): (منه).
(٧) (الذي): غير مقروء في (أ). وفي (ب): (الذين). والمثبت من: (ج).
(٨) (بعد): ساقطة من: (ج).
(٩) لم أقف على مصدر قوله.
(١٠) في (ج): (وقيل).
(١١) أورد ابن كثير عن ابن عباس -من رواية الكلبي- أن سبب نزول الآية، هو: أن=
417
﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بالإقامة على كفرهم حتى هلكوا عليه. قاله مجاهد (١).
وقال الحسن (٢): ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ أي: كلَّما نزلت آية على محمد - ﷺ -، كفروا بها.
وقال قتادة (٣): إنَّ اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم، ثم ازدادوا كفرًا، بكفرهم بمحمد والقرآن.
﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾.
= قومًا أسلموا ثم ارتدُّوا عن الإسلام، فأرسلوا إلى قومهم يسألون إن كان لهم من توبة، فذكروا ذلك لرسول الله - ﷺ -، فنزلت هذه الآية
ونسب ابنُ كثير إخراجَه إلى البزار -مسندا-، وقال: (هكذا رواه، واسناده جيد). "تفسيره" ١/ ٤٠٨.
ولكن السيوطي قال -بعد أن أورد هذه الرواية عن البزار-: (هذا خطأ من البزار)؛ وذلك أن ابن عباس ورد عنه بنفس السند الذي عند البزار: أن هذا كان سببًا لنزول قوله -تعالى-: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا﴾ آية: ٨٦. وقد مر بيانه عند تفسيرها.
وورد عن الحسن وأبي العالية أنها نزلت في اليهود والنصارى؛ كفروا بعد إيمانهم. ثم ازدادوا كفرًا بذنوب عملوها، ثم يتوبون من تلك الذنوب بعد كفرهم. وفي أثر لأبي العالية أضاف لهم المجوس.
انظر: "تفسير الطبري" ٣/ ٣٤٣، "ابن أبي حاتم" ٢/ ٧٠١، "أسباب النزول" للواحدي: ص ١١٨، "الدر المنثور" ٢/ ٨٨.
(١) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٧٠١، "الثعلبي" ٣/ ٧٠ أ، "البغوي" ٢/ ٦٥، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٨٨، ونسب إخراجه إلى عبد بن حميد والطبري.
(٢) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٠ أ، "تفسير البغوي" ١/ ٦٥، "زاد المسير" ١/ ٤١٩.
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٤٣، "ابن أبي حاتم" ١/ ٧٠١، "الثعلبي" ٣/ ٧٠ أ، "النكت والعيون" ١/ ٤٠٨، "تفسير البغوي" ٢/ ٦٥، "زاد المسير" ١/ ٤١٩.
418
قال الحسن (١)، وقتادة (٢)، وعطاء (٣): لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت، والله تعالى يقول: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ (٤)، الآية.
وقال ابن الأنباري (٥): لن تُقبل توبتهم التي تقدمت في حال إيمانهم وتصديقهم محمدًا - ﷺ - لأن الله عز وجل لا يَقبَلُ مع الإقامة على الشرك توبَةً متقادمةً (٦)، ولا عَمَلًا حَسَنًا ماضيًا مرجوعًا عنه إلى ضدِّه.
٩١ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا﴾ إلى قوله: ﴿مِلْءُ الْأَرْضِ﴾ (مِلْءُ (٧) الشيء): قدر ما يَمْلؤه، وهو اسمٌ يُثَنَّى وُيجمع؛ يقال:
(١) قوله في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٤٤، "ابن أبي حاتم" ١/ ٧٠٢، " الثعلبي" ٣/ ٧٠ ب، "زاد المسير" ١/ ٤١٩، و"تفسير الحسن البصري" ١/ ٢٢٢.
(٢) قوله في "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢٥، "تفسير الطبري" ٣/ ٣٤٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٧٠٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٠ أ، "النكت والعيون" ١/ ٤٠٨، "زاد المسير" ١/ ٤١٩.
(٣) قوله في "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢٥، "تفسير الطبري" ٣/ ٣٤٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٧٠٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٠ ب، "زاد المسير" ١/ ٤١٩.
وعطاء -هنا- هو: أبو عثمان، عطاء بن أبي مسلم - (اسمه: مَيْسرة) -، البَلْخي الخراساني. تابعي، مشهور بالعبادة والفتوى والجهاد، والتفسير، صاحب رِحْلَة، قال ابن حجر: (صَدوق، يَهم كثيرا، ويرسل ويدلس). مات سنة (١٣٥ هـ).
انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٣٣٤، "حلية الأولياء" ٥/ ١٩٣، "الميزان" ٣/ ٤٧٠، "تقريب التهذيب" ٣٩٢ (٤٦٠٠).
(٤) [سورة النساء: ١٨]، وتمامها: ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) في (ب): (مقادمة).
(٧) في (ب): (بمثل).
419
(مِلْءُ القَدَح)، و (مِلآهُ)، و (ثلاثة أملائِهِ) (١). والفرق بين (المِلْءِ) و (المَلْءِ) (٢)، كالفرق بين (الرِّعْي) و (الرَّعْي) (٣).
وانتصب ﴿ذَهَبًا﴾ على التفسير (٤).
قال المُفضَّل (٥): ومعنى التفسير: أن يكون الكلامُ تامًّا وهو مُبْهَم؛ كقولك: (عندي عشرون)؛ فالعدد (٦) معلوم، والمعدود (٧) مبْهَم.
فإذا قلت: (درهمًا) (٨)، فَسَّرت العددَ. وكذلك إذا قلت: (هو أَحْسَنُ
(١) انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: ٧٧٦ (ملأ)، "اللسان" ٧/ ٤٢٥٢ (ملأ).
(٢) في (ب): الملاء والملاء. وهكذا رسمت (مل) في نسخة (ب) فيما سيأتي.
المِلْءُ -بالكسر-: اسم ما يأخذه الإناء إذا امتلأ.
والمَلْءُ -بالفتح-: المصدر. (ملأ الشيء، يملؤه مَلْأً).
انظر: (ملأ) في "اللسان" ٧/ ٤٢٥٢، "القاموس" (١٣٣٥).
(٣) في (ب): (والري).
الرِّعي -بالكسر-: الكلأ، والجمع: أرْعاء. والرعي -بالفتح-: المصدر. انظر: (رعى) في "اللسان" ٣/ ١٦٧٦ - ١٦٧٧، "القاموس" (١٢٨٩).
(٤) التفسير -هنا- بمعنى: التمييز، ويقال له - كذلك: التبيين. وكونه منصوبًا على التمييز، هو قول عامة أهل النحو. انظر: "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢٢٥، "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٤٢. وذهب الكسائي إلى انه منصوب بنزع الخافض. انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧١ أ، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٣١. وقال السمين الحلبي -عن هذا القول-: (وهذا كالأول؛ لأن التمييز مقدر بـ"مِن"). "الدر المصون" ٣/ ٢٠٦.
(٥) من قوله: (قال المفضل..) إلى (ما لا عامل فيه): نقله -بنصه- عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٠ ب. وأورده القرطبي في "تفسيره" ٤/ ١٣١.
(٦) في (ب): (العدد)، وفي (ج): (والعدد).
(٧) في (ج): (والمعدوم).
(٨) في (ج): (درهم). وعند الثعلبي: (عشرون درهما).
420
الناسِ)، فقد أخبرت عن حُسْنِه، ولم يبين (١) في أي شيء هو، فإذا قلت: (وَجْهًا)، أو [(فِعْلًا)] (٢)، فقد بينته، ونصبته [على التفسير، وإنما نصبته] (٣)، لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه، فلما خلا من هذين، نُصِبَ؛ لأن النصب أخفُّ (٤) الحركات، فجعِل لكل ما لا عامل فيه.
وقال سيبويه (٥): انتصب (ذهبًا)؛ لأن الاسم المخفوض قد حال بين الذهب وبين المِلْءِ أن يكون جَرًّا (٦)؛ ومعنى هذا: أنَّ العاملَ (٧) اشتغل بالإضافة في ﴿مِلْءُ الْأَرْضِ﴾ (٨)، وبما يعاقِبُ الإضافة من النون الزائدةِ في (عشرون درهمًا)، فجرى ذلك مجرى الحالِ في اشتغال العامل بصاحبها (٩)، ومجرى المفعول في اشتغال العامل عنه بالفاعل.
(١) في (ب)، (ج)، "تفسير الثعلبي": (تبين).
(٢) ما بين المعقوفين: غير مقروءة في (أ). وفي (ب): فضلًا. والمثبت من: (ج)، "تفسير الثعلبي".
(٣) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج)، "تفسير الثعلبي".
(٤) في (ب): (أحد).
(٥) لم أقف على موضع قوله في كتابه، وقد ذكره الزجاج في "معانيه" ١/ ٤٤٢.
(٦) في (ب): (خبرا).
(٧) في (ب): (الملاء).
(٨) أي: إننا شغلنا الإضافة بالاسم الذي قبل ﴿ذَهَبًا﴾، وهو ﴿الأَرْضِ﴾، فانجرت ﴿الأَرْضِ﴾ بالإضافة، ثم جاء ﴿ذَهَبًا﴾ فانتصب كما ينتصب الحالُ، أو المفعول إذا جاء من بعد الفاعل.
(٩) في (ج): (لصاحبها). أي: بصاحب الحال، كقولنا: (جاء عبدُ الله راكبًا) فشغلنا الفعل بـ (عبد الله) وهو صاحب الحال فرفعه، فبقيت (راكبًا) ليس لها ما يرفعها ولا ما يجرها، فانتصبت.
421
وقوله تعالى: ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾.
قال الفرّاء (١): الواو زائدةٌ، كهي في قوله: ﴿وَلِيَكوُنَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥]؛ المعنى: لن يُقَبلَ مِن أحَدِهم مِلْءُ الأرضِ ذهبًا، لو افتدى به.
وغَلّطَهُ الزجاجُ وغيرُه (٢)، وقالوا: الواو ههنا للعطف؛ لأن المعنى: لو (٣) عمل مِنَ الخَيْرِ، وقَدَّمَ مِلْءَ الأرضِ ذهبًا؛ يتقرب به الله عز وجل، لم ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذابِ بِمِلْءِ الأرضِ ذهبًا، لم يُقْبَل منه. فالواو دخلت لفعلٍ مُضْمَرٍ، وهو (٤): (القَبُولُ)؛ أي: ولا يُقبل منه لو افتدى به (٥).
قال ابن الأنباري: وهذا آكَدُ في التغليظ عليهم، إذْ كانوا لا يُقبل منهم [مِلْء الأرضِ ذَهَبًا، على جهة الصَّدَقَةِ والتَّقْرُّبِ إلى الله جل وعز، ولا يُقبل منهم] (٦) أيضًا على جهة فِدْيَةٍ (٧).
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٢٦.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٤١، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٤٣٧.
(٣) في (ب): (ولو).
(٤) هو: بياض في (ج).
(٥) انظر: "الكامل" للمبرد: ١/ ٢٧٧، "تفسير الطبري" ٣/ ٣٤٦، "المحرر الوجيز" ٣/ ٢١١.
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٧) قال رسول الله - ﷺ -: "يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبًا، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد كنت سُئلت ما هو أيسر من ذلك". رواه البخاري في "صحيحه" (٦٥٣٨). كتاب الرقاق، باب: من نوقش الحساب فقد عُذب، ومسلم في "صحيحه" (٢٨٠٥) كتاب: صفات المنافقين، باب: طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبًا، رقم (٢٨٠٥) وفي لفظه عنده: "قد =
422
وقد أشار الفراء إلى هذا القول أيضًا، فقال (١): والواو [ههنا كأنَّ لها فِعْلًا] (٢) مُضْمَرًا بعدها.
وقال بعض النحويين (٣): الواو ههنا دخلت لتفصيل نفي القَبول بعد الإجمال؛ وذلك (٤) أنَّ ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ [قد عمَّ وجوهَ القَبول] (٥) بالنفي، ثم أتى بالتفصيل، لِئَلّا يتَطَرَّق عليه سوءُ التأويل (٦).
٩٢ - قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ قال شَمِر (٧): اختلف العلماء في تفسير ﴿الْبِرَّ﴾: فقال بعضهم: البِرُّ: الصلاح. وقال بعضهم: الخير، ولا أعلم تفسيرًا [أجمع منه؛ لأنه] (٨) يُحيط بجميع ما قالوا.
قال: وجعل لَبِيد (٩) (البِرَّ): التُّقَى؛ حيث يقول:
= أردت منك أهون من هذا وأنت في صُلْبِ آدم: أن لا تشركَ -وأحسبه قال- ولا أدخِلكَ النار، فأبيت إلا الشرك".
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٢٦.
(٢) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). ومثبت من: (ب)، (ج)، "معاني القرآن".
(٣) لم أقف عليهم.
(٤) (وذلك): ساقطة من: (ج).
(٥) ما بين المعقوفين: غير مقروء تمامًا في (أ). وفي (ب): قد أجمل القبول. والمثبت من: (ج).
(٦) أي: أنه نفى جميع وجوه القبول، ثم خص من تلك الوجوه: أليقها وأحراها بالقبول، وهو: الافتداء، فنفاه كذلك.
(٧) من قوله (قال شمر) إلى (في غير طاعة وخير): نقله عن "تهذيب اللغة" ١/ ٣٠٧ (برر).
(٨) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): أجمع سيرة لأنه. والمثبت من
(ج)، "تهذيب اللغة".
(٩) في (ب): (لنيل).
423
وما البِرُّ إلا مُضْمَراتٌ مِنَ التُّقى (١)
وقول الشاعر:
تُحَزُّ رُؤوسُهم في غَيْرِ بِرِّ (٢)
معناه: في غير طاعة وخير. وعلى هذا دار كلام المفسرين.
قال عطاء (٣) ومقاتل (٤): البِرُّ: التقوى، في هذه الآية. وقال أبو رَوْق (٥): الخير.
(١) صدر بيت، وبقيته:
وما المال إلا مُعْمَراتٌ ودائِع
وهو في ديوانه: ١٦٩. وورد في "تهذيب اللغة" ١/ ٣٠٧ (بر)، "اللسان" ١/ ٢٥٢ (برر). والمُضْمَر: الهزيل. من: (ضَمَرَ، يضمُرُ، ضمورًا)، و (الضُمْرُ، والضُمُرُ): الهزال. والمعمرات: من قول العرب: (هذه الدار لك عُمْرَى)؛ أي: لك ما عمرت، فإذا مت، فلا شيء. (ضمر) "التهذيب" ٣/ ٢١٣٣، "القاموس" (٤٢٩).
(٢) صدر بيت، وبقيته:
فما يدرون ماذا يَتَّقونا
وهو لعمرو بن كلثوم، من معلقته. انظر: "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: ٣٩٧، "شرح المعلقات السبع" للزوزني: ص ١٢٦، "شرح القصائد العشر" للتبريزي: ٢٣٠.
وورد غير منسوب في "تهذيب اللغة" ١/ ٣٠٧ (برر)، "اللسان" ١/ ٢٥٢ (برر). وورد (تَحُزُّ)، و (نَجُذُّ)، و (نَحُذُّ)، و (تَخر).
(٣) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧١ أ، "زاد المسير" ١/ ٤٢٠، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٣٣. ونص قوله: (لن تنالوا شرف الدين والتقوى، حتى تتصدقوا، وأنتم أصحاء أشحَّاء، تأملون العيش، وتخشون الفقر).
(٤) ورد هذا القول عن مقاتل بن سليمان، وهو في "تفسيره" ١/ ٢٩٠. وورد عن مقاتل بن حيان، وهو في "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٠٣، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧١ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٦٦، "زاد المسير" ١/ ٤٢٠.
(٥) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧١ أ، "زاد المسير" ١/ ٤٢٠.
424
ورُوِيَ عن ابن عباس، ومجاهد، والسدِّي، أنهم قالوا (١): [البِرُّ؛ المرادُ به ههنا: الجنة. وقال بعض أهل المعاني (٢): معنى الآية: لَنْ تَنالوا] (٣) البِرَّ من الله عز وجل بالثواب في الجنة.
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ قال ابن عباس في رواية الضحاك (٤): أراد بهذه الآية: الزكاةَ؛ يعني: حتى تُخرجوا زكاةَ أموالكم.
وقال الحسن (٥): كل شيء أنفقهُ المُسْلِمُ مِن مالِهِ؛ يبتغي به وجْهَ الله عز وجل، فإنّه من الذي عَنَى الله سبحانه بقوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، حتى التَّمْرَةَ.
وقال مجاهد، والكلبي (٦): هذه الآية منسوخة، نسختها آيةُ الزَّكاةِ (٧).
(١) قول ابن عباس، ومجاهد، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧١ أ، "تفسير البغوي" ٣/ ٦٦، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٣٣.
وقول السدي، في "تفسير الطبري" ٣/ ٣٤٧، "ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٠٣، "الثعلبي" ٣/ ٧١أ، "البغوي" ٣/ ٦٦، "القرطبي" ٤/ ١٣٣.
(٢) لم أقف عليهم.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٤) هذه الرواية عنه، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧١ أ، "تفسير البغوي" ٣/ ٦٦، "زاد المسير" ١/ ٤٢١.
(٥) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧١ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٦٦.
(٦) انظر المصادر السابقة.
(٧) آية الزكاة، هي: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [آية: ٦٠ من سورة التوبة].
قال الفخر الرازي -رادًّا على من قال إن هذه الآية منسوخة-: (وهذا في غاية البعدة لأن إيجاب الزكاة؛ كيف ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله سبحانه وتعالى؟). "تفسيره" ٨/ ١٤٨.
425
وقوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.
[تأويلها (١) تأويل الشرط والجزاء، وموضعها نَصْبٌ بـ ﴿تُنْفِقُوا﴾، والفاء في ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾] (٢)، جوابُ المجازاة.
وتأويل الآية: وما تنفقوا من شيء فإنَّ اللهَ يجازيكم به قَلَّ أو كَثُرَ، فإنه عليم به، لا يخفى عليه شيء منه.
نَظِير هذه الآية (٣) في المعنى: قوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ١٩٧]، وقوله تعالى (٤): ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ [البقرة: ٢٧٠] (٥).
٩٣ - قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الآية.
قال أهل التفسير: لما ادَّعى النبي - ﷺ - أنه على مِلَّةِ إبراهيم؛ قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لُحومَ الإبِلِ وألبانها؟ فقال النبي - ﷺ -: "كان ذلك حلالاً (٦) لإبراهيم، فنحن نحله".
فقالت اليهود: كلُّ شيءٍ أصبحنا اليوم نُحرِّمُهُ، فإنه كان مُحرَّمًا على نوح وإبراهيم؛ فأنزل الله عز وجل تكذيبًا لهم: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (٧)
(١) من قوله: (تأويلها..) إلى (جواب المجازاة): نقله بتصرف عن: "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٤٣.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٣) في (ج): (وهذا) - بدلًا من: (وهذه الآية).
(٤) (تعالى): ساقطة من (ج).
(٥) [سورة البقرة: ٢٧٠] وبقيتها: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾.
(٦) (حلالًا): ساقطة من: (ج).
(٧) ورد هذا القول عن أبي رَوْق، والكلبي -بدون سند- كما في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٣ أ، "أسباب النزول" للواحدي: ص١١٨، "زاد المسير" ١/ ٣٢٦، وأورده البغوي -كذلك - دون عزوٍ لقائل-، في "تفسيره" ٢/ ٦٧.
426
[الآية] (١) و (الحِلُّ)، و (الحَلالُ)، و (المُحَلَّلُ): واحد. قال ابن عباس في زمزم (٢): (هي حِلٌّ وَبِلّ) (٣). رواه سُفْيَان بن عُيَيْنَة (٤)، عن عَمْرو بن دينار عنه، فسُئِل سفيانُ: ما (حِلٌّ) (٥)؟ فقال: مُحَلَّلٌ.
وروى ابن عباس (٦): أن النبي - ﷺ - قال: "إنَّ يعقوبَ مرض مرضًا شديدًا (٧)، فنذر لَئِن عافاه الله؛ ليُحرِّمَنّ أحبَّ الطعام والشراب إليه. وكان أحب الطعام إليه: لُحْمان الإبل، وأحب الشراب إليه: ألبانها".
(١) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج).
(٢) هذه الرواية عنه، في "تهذيب اللغة" ١/ ٩٠٥ (حل).
(٣) قال في "اللسان" ١/ ٣٤٩ (بلل): (والبِلَّة: الخير والرزق. والبِلّ: الشفاء والبِلَّة: العافية والبِلّ: المباح. وقالوا: (هو لك حلٌّ وبِلٌّ)، فـ (بل): شفاء ويقال: (بِلٌّ): مباحٌ مُطلقٌ، يمانِيَّة حِميَرِيَّة).
(٤) تقدمت ترجمته.
(٥) في "التهذيب": ما حل وبل.
(٦) هذه رواية شهر بن حوشب عنه، أخرجها: أحمد في "المسند" ١/ ٢٤٧. والطيالسي في "المسند" ٤/ ٤٥٠ (٢٨٥٤)، والطبري في "تفسيره" ١/ ٤٣١، ٤/ ٥، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٧٠٤، والطبراني في "المعجم الكبير" ١٢/ ٢٤٦ برقم (١٣٠١٢)، وأوردها الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٨/ ٢٤٢، وقال: (رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات).
وورد بنحوه من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، أخرجها: أحمد في "المسند" ١/ ٢٧٤، والبخاري في "التاريخ الكبير" ٢/ ١١٤، والترمذي في "سننه" (٣١١٧) كتاب التفسير، باب: سورة الرعد، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٢٩٢، وصححه ووافقه الذهبي. والطبري ٤/ ٤، وابن أبي حاتم ٣/ ٧٠٥، وأبو نعيم في "الحلية" ٤/ ٣٠٤، وقال: غريب من حديث سعيد، تفرد به بكير [بن شهاب].
(٧) وفي المروي عن ابن عباس في المراجع السابقة: أن الألم الشديد هو: عِرْق النَسَّا.
427
وهذا قول: أبي العالية (١)، وعطاء (٢)، ومقاتل (٣)، والكلبي (٤): أن الذي حرَّم إسرائيلُ (٥) على نفسه كان (٦) لحومَ الإبلِ وألبانَها (٧).
قالت العلماء (٨): إنما حرَّمَ إسرائيلُ ذلك على نفسه بإذن الله عز وجل (٩) له (١٠) [فيه] (١١)، كما جاز (١٢) الاجتهاد في الأحكام لما أَذِنَ اللهُ فيه (١٣).
(١) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٣ ب، "البغوي" ٢/ ٦٨، "زاد المسير" ١/ ٤٢٢.
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٤، والمصادر السابقة.
(٣) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٦٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٣ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٦٨.
(٤) قوله في "بحر العلوم" ٢/ ١٠٩، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٣ ب، "البغوي" ٢/ ٦٨.
(٥) إسرائيل، هو: يعقوب عليه السلام.
(٦) من قوله: (كان..) إلى (ذلك على نفسه): ساقط من (ج).
(٧) وورد -كذلك- أنه حرم عروق اللحم. وهذا مروي -كذلك- عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي والضحاك وأبي مجلز. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢ - ٤. وعن ابن عباس: أنه حرم زائدتي الكبد والكليتين والشحم، إلا ما كان على الظهر. وعن مجاهد: أنه حرم الأنعام. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٠٥. ورجح الطبريُ أنه حرم العروق ولحوم الإبل، وقال: (لأن اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمهما، كما كان عليه أوائلها). "تفسيره" ٤/ ٥.
(٨) لم أقف على من قال ذلك ممن سبق المؤلف.
(٩) (عز وجل): ليس في (ج).
(١٠) (له): ساقطة من: (ب).
(١١) ما بين المعقوفين غير مقروء تمامًا في (أ). وساقط من (ب)، (ج). والمثبت هو ما رجحته.
(١٢) (كما جاز): ساقطة من: (ب).
(١٣) يَرِدُ على كلام المؤلف -هنا- التالي: إذا كان التحريمُ بإذن الله، فأين مجال الاجتهاد هنا؟. ولذا عَرَضَ الماورديُّ تحريمَ إسرائيل ذلك على نفسه، كالتالي: (هل كان بإذن الله -تعالى- أم لا؟ على اختلافهم في اجتهاد الأنبياء على قولين: أحدهما: لم يكن إلا بإذنه، وهو قول مَن زعم أنه ليس لِنَبِي أن يجتهد. =
428
وللنبي (١) أن يجتهد في الأحكام؛ لأنه إذا كان بالدين أعلم، ورأيُه أفضل، كان بالاجتهاد أحق، ولا (٢) يجوز لأمته أن يخالفوه في اجتهاده، كما لا يجوز مخالفة الإجماع (٣).
وإن (٤) كان من طريق الاجتهاد. فعلى هذا؛ لم تكن لحومُ الإِبِل محرمة عليهم في التوراة، وإنما لزمهم ذلك التحريم من جهة يعقوب.
وقال الحَسَنُ (٥): حَرَّم إسرائيلُ على نفسه لحم الجَزُور، تَعَبُّدًا لله عز وجل، فسأل ربه أن يجيز ذلك له، فحرَّمَه اللهُ على ولده.
= الثاني: بغير إذنٍ، بل باجتهاده، وهو قول مَن قال إنَ للنبِيِّ أن يجتهد). "النكت والعيون" ١/ ٤٠٩ - ٤١٠.
(١) في (ج): (للنبي) بدون واو.
(٢) في (ج): (ثم لا).
(٣) وهذه مسألة وقع فيها خلاف بين الأصوليين: هل كان النبي - ﷺ - مُتَعبَّدًا بالاجتهاد فيما لا نَصَّ فيه؟ قال بذلك الإمام أحمد وأبو يوسف، وجوزه الشافعي من غير قطع، وبه قال بعضُ أصحابه، واختاره الآمديُّ.
انظر: "المحصول" للرازي: ٢/ ٤٣/ ١٨٤ وما بعدها، وأفعال الرسول - ﷺ -، د. محمد الأشقر: ١/ ١١٨ وما بعدها.
وهناك مسألة أخرى، هي: هل يجوز أن يَكِلَ الله (يفوض) إلى نَبِيِّه أن يَحْكُمَ في بعض الأمور بما يَرَاه، دون نَصٍّ ولا قياسٍ على منصوص، وُيعَدُّ ذلك شَرْعَ الله، ويكون مُكَلَّفًا به؟ ترددت هذه المسألة عند الأصوليين بين المنع والجواز؛ فمنعها أكثر المعتزلة، والجَصَّاص من الحنفية. وممن أجازها الآمديُّ، وابنُ السمعاني، والشيرازي. وكانت هذه الآية من أدلتهم على الجواز. ولم يَقطَعْ بذلك الشافعيُّ. انظر: "أفعال الرسول - ﷺ -" ١/ ١٢٣ - ١٢٦.
(٤) في (أ)، (ب): فإن "بالفاء". ولم أر لها وجهًا، ولا يستقيم بها المعنى المراد. والمثبت من: (ج)، لاستقامة المعنى وصحة السياق.
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٤ بمعناه. وبنصه في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٤ أ.
429
وقال عَطِيَّةُ (١): إنما كان ذلك حرامًا عليهم، بتحريم إسرائيل ذلك عليهم؛ وذلك أنَّه (٢) قال: لئن عافاني الله؛ لا يأكل لي ولدٌ لحم الجزور (٣). ولم يكن ذلك محرمًا عليهم في التوراة.
وقال الضَّحّاك (٤): لم يكن شيءٌ من ذلك عليه (٥) حرامًا، ولا حَرّمَهُ اللهُ عليهم في التوراة، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم؛ اتِّباعًا لأبيهم، ثم أضافوا تحريمَهُ إلى الله عز وجل، فكذبهم الله عز وجل، فقال: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا﴾.
وقال السُدِّي (٦): إنَّ الله تعالى (٧) لما أنزل التوراة، حرَّم عليهم ما كانوا يُحرِّمونه قبل نزولها؛ اقتداءً بأبيهم يعقوب عليه السلام.
فالمفسرون مختلفون كما ترى في أن هذا التحريم: هل ثبت عليهم من الله تعالى في التوراة، أم لا؟.
(١) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٤ أ، كما ورد في "تفسير الطبري" ٤/ ٢ من رواية عطية عن ابن عباس.
(٢) في (ب): (لأنه).
(٣) نص قوله عند الثعلبي والطبري، يفيد أن يعقوب عليه السلام حرم على نفسه العروق؛ حيث قال عطيّةُ -كما عند الثعلبي-: (وذلك أن إسرائيل قال حين أصابه عرق النسا: والله! لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولدٌ، ولم يكن ذلك محرمًا عليهم في التوراة). أي: أصابه عرق النسا، والضمير في (لا يأكله) يعود على العرق.
(٤) قوله بمعناه، في "تفسير الطبري" ٤/ ٢، "بحر العلوم" ٢/ ١١٠.
(٥) (عليهم): ساقطة من: (ج).
(٦) قوله بمعناه، في "تفسير الطبري" ٤/ ١. وبهذا النص في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٤ أ.
(٧) لفظة (تعالى): ساقطة من: (ب).
430
وكيفما (١) كان، ففي التوراة بيان أن ابتداء هذا التحريم من جهة يعقوب، وقبله كان حلالًا لإبراهيم عليه السلام. والنبي - ﷺ - كان يَدَّعي دين إبراهيم.
٩٤ - قوله تعالى: ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ الافتراء: اختلاق الكذب (٢). والفِرْيَةُ: الكذِبُ والقَذْفُ (٣). وأصلُهُ مِنْ: (فَرْيِ الأديم)، وهو: قَطْعُهُ (٤)، فقيل للكَذِبِ: افتراء؛ لأن الكاذب يقطع به على التقدير، من غير تحقيق.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي: من بعد ظهور الحُجَّة: بأنَّ التحريم إنما كان من جهة يعقوب، ولم يكن محرمًا قبله.
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أنفسهم ومن يدعونهم إلى مذهبهم.
٩٥ - قوله تعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ﴾ أي: في جميع ما أخبر به، وفيما أخبر (٥) مِنْ أنَّ ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾. [الآية] (٦).
٩٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾. الآية. قال أبو إسحاق (٧): معنى (الأول) في اللغة: ابتداء الشيء. ثم جائزٌ أن يكون له ثانٍ، وجائزٌ أن لا يكون؛ كما تقول: (هذا أوَّلُ مالٍ (٨) كَسَبْتُهُ). جائزٌ أن
(١) في (أ)، (ب)، (ج): (كيف ما). وأثبتها وفق الرسم الإملائي الحديث.
(٢) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: ١٠٣، "غريب القرآن" لليزيدي: ٤٠، "نزهة القلوب" للسجستاني ١٢٤، ١٢٥، "التاج" ٢٠/ ٤٧ (فري).
(٣) انظر: "الصحاح" ٦/ ٢٤٥٤ (فرا)، "التاج" ٢٠/ ٤٧ (فري).
(٤) وهو قطعة: ساقطة من: (ب). انظر هذا المعنى، في "جمهرة اللغة" ٨٧٩ (فري)، "المقاييس" ٤٩٦ (فرى).
(٥) (به وفيما أخبر): ساقط من (ج).
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٧) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٤٥. نقله عنه بتصرف واختصار.
(٨) في (ج): (ما).
431
يكون بعده كسبٌ، وجائزٌ أن لا يكون، ولكن إرادتك: (هذا ابتداءُ كَسْبِي).
ومضى الكلامُ في معنى (الأول) واشتقاقه، عند قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ [البقرة: ٤١].
واختلفوا في تأويل قوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾ فقرأت على الشيخ أبي حسَّان، محمد بن أحمد بن جعفر، فقلت: أخبركم أبو سَهْل، هارون بن محمد (١) بن هارون الإسْتَرَاباذي (٢) أبنا (٣) أبو محمد، إسحاق بن أحمد الخزاعي (٤)، أبنا (٥) أبو الوليد، محمد بن عبد الله الأَزْرَقي (٦)، حدثنى
(١) في مصادر ترجمته التالية: (هارون بن أحمد) بدلا من: (محمد).
(٢) هو: أبو سهل، هارون بن أحمد بن هارون بن بندار بن حريش -أو خداش- بن الحكم، والإستراباذي. شيخ فاضل، مكثر من الحديث، ارتحل إلى العراق والحجاز، وحدث سنين في نيسابور وبخاري ونسف وسمرقند، مات سنة (٣٦٤ ص). انظر: "الأنساب" ١/ ٢١٦، "تاريخ الإسلام" للذهبي: ٢٦/ ٣٣١ وفيات (٣٥١ - ٣٨٠ ص).
(٣) في (ج): (أخبرنا). قال السيوطي: (ويكتبون مِن (أخبرنا): (أنا)؛ أي: الهمزة والضمير. ولا تحسن زيادة الباء قبل النون؛ وإن فعله البيهقي وغيره؛ لئلا يلتبس برمز حدَّثنا). "تدريب الراوي" ٢/ ٨٧.
(٤) في (ب): أبو محمد إسحاق بن محمد بن أحمد. وهو: أبو محمد، إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي، شيخ الحرم، من كبار أهل القرآن، وأحد فصحاء مكة، ثقة حجة، توفى سنة (٣٠٧ هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٤/ ٢٨٩، ومقدمة محقق "أخبار مكة" للأزرقي: ١/ ١٦ - ١٧.
(٥) في (ج): (أخبرنا).
(٦) مؤرِّخ، من أهل مكة، أصله من اليمن، له كتاب: "أخبار مكة"، اختلف في سنة وفاته، ورجح محقق "أخبار مكة" القولَ بأنه كان حَيًّا في عهد الخليفة العباسي، المنتصر، الذي حكم سنة (٢٤٧ - ٢٤٨ هـ). انظر: "الفهرست" (١٥٨)، ومقدمة محقق "أخبار مكة": ١/ ١٣ - ١٥، "الأعلام" ٦/ ٢٢٢، "معجم المؤلفين" ٣/ ٤٢٩.
432
مهدي بن أبي المهدي (١)، ثنا أبو أيوب البصري (٢)، ثنا هشام (٣)، عن حميد (٤)، قال: سمعت مجاهدًا يقول: (خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئًا من الأرضين) (٥).
وبه عن الأزرقي، قال: حدثني يحيى بن سعيد (٦)، عن محمد بن عمر بن إبراهيم (٧)، عن عثمان بن عبد الرحمن (٨)، عن هشام، عن مجاهد، قال: (لقد خلق الله موضع هذا البيت، قبل أن يخلق شيئًا من الأرض بألفي سنة، وإنَّ قواعده لفي الأرض السابعة السفلى) (٩).
(١) هو: مهدي بن حرب العبدي، الهَجَري، قال أبو حاتم: (شيخ ليس بمنكر الحديث). وقال ابن حجر: (مقبول).
انظر: "الجرح والتعديل" ٨/ ٣٣٥، "تقريب التهذيب" ٥٤٨ (٦٩٢٨).
(٢) لم أقف على ترجمته.
(٣) هو: أبو عبد الله، هشام بن حسان القُرْدُوسي البصري. ثقة، إمام كبير الشأن، توفي سنة (١٤٧ هـ)، أو (١٤٨ هـ).
انظر: "الجرح والتعديل" ٩/ ٥٤، "تهذيب الكمال" ٣٠/ ١٨١، "ميزان الأعتدال" ٥/ ٤٢٠، "تقريب التهذيب" ٥٧٢ (٧٢٨٩).
(٤) هو: أبو صفوان، حميد بن قيس الأعرج، المكي، القارئ، تقدمت ترجمته.
(٥) أخرجه الأزرقي، في "أخبار مكة": ١/ ٣١ - ٣٢، وانظر معناه، في "تفسير الطبري" ٧/ ٢٠ - ٢١، "تفسير البغوي" ١/ ٣٢٨، "زاد المسير" ١/ ٤٢٤.
(٦) لم أقف على ترجمته.
(٧) في "أخبار مكة": (محمد بن عمر بن إبراهيم الجبيري). ولم أقف على ترجمته.
(٨) لم أقف على ترجمته.
(٩) أخرجه الأزرقي، في "أخبار مكة" ١/ ٣٢، والطبري في "تفسيره" ١/ ٥٤٨، وأورده السيوطي في "الدر" ١/ ٢٣٦، وزاد نسبة إخراجه إلى الحميدي، وعبد الرزاق - ولم أقف عليه في مُصنَّفِه، ولا في تفسيره.
433
وبه عن الأزرقي، ثنا علي بن هارون العجلي (١)، ثنا [عن أبيه] (٢)، [قال] (٣): ثنا [القَاسم] (٤) بن عبد الرحمن الأنصاري (٥)، حدثني محمد بن علي بن علي بن أبي طالب (٦)، عن أبيه (٧)، قال: (إنَّ الله بعث ملائكته، فقال: ابنوا لي في الأرض بيتًا بمثال البيت المعمور وقَدْرِهِ، وأمر الله مَنْ في الأرض مِنْ خَلْقِه، أن يطوفوا به، كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، وهذا كان قبل خَلْق آدم) (٨).
(١) لم أقف على ترجمته.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من "أخبار مكة" ١/ ٣٢. وهو: هارون بن مسلم بن هُرْمُز العجْلي، أبو الحسين البصري، صاحب الحِنّاء. من أتباع التابعين، قال ابن حجر: (صدوق)، وقال أبو حاتم: (فيه لين)، ووثقه الحاكم، وابن حبان، مات بعد المائتين. انظر: "ميزان الاعتدال" ٥/ ٤١١، "لسان الميزان" ٧/ ٢٤١، "تقريب التهذيب" ٥٦٩ (٧٢٤٠).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٤) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج)، وأخبار مكة.
(٥) قال عنه ابن معين: (ضعيف جدًا)، وقال أبو حاتم: (ضعيف الحديث، مضطرب الحديث). انظر: "الجرح والتعديل" ٧/ ١٤ - ١٥، "لسان الميزان" ٥/ ٥٠٠ - ٥٠١.
(٦) هو: أبو جعفر الباقر، ثقة فاضل، من فقهاء المدينة، وكان يتولى الشيخين: أبا بكر وعمر، ويبرأ من عدوهما، ويقول: (فإنهما كانا إمامي هدى) وقال: (ما أدركت أحدًا من أهل بيتي، إلا وهو يتولاهما)، توفي سنة مائة وبضع عشرة. انظر: "تهذيب التهذيب" ٣/ ٦٥٠، "التقريب" ٤٩٧ (٦١٥١).
(٧) هو: الملقب بـ (زين العابدين)، الثقة الثبت العابد الفاضل، المتفق على جلالته. قال الزهري: ما رأيت قرشيًّا أفضل منه، توفي سنة (١٩٣هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ١٧٨، "التقريب"٤٠٠ (٤٧١٥).
(٨) جزء من أثر طويل، أخرجه الأزرقي في "أخبار مكة" ١/ ٣٢ - ٣٤، وورد في "تفسير البغوي" ٢/ ٧٠.
434
وقال ابن عباس (١): هو أول بيتٍ بناه آدمُ في الأرض.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (٢): هو أول بيت مبارك وهدى وُضِع (٣) للناس. وهو قول الضحاك (٤).
وروي عن ابن عباس أيضًا قال (٥): هو أول بيت وُضِع للناس يُحَجُّ إليه. واختاره الزجاج (٦).
وأخبرنا أبو الحسين بن أبي عبد الله الفَسَوي (٧)، أبنا أحمد (٨) بن
(١) قوله، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٥ ب، "البغوي" ٢/ ٧٠، "زاد المسير" ١/ ٤٢٤.
(٢) قوله: في "أخبار مكة" ١/ ٦١، "تفسير الطبري" ٤/ ٧، "الثعلبي" ٣/ ٧٥ ب، و"المطالب العالية" ١٤/ ٥٣٩ (٣٥٥٦) - ونسب إخراجه لابن راهويه في مسنده.
(٣) وضع: ساقطة من: (ب).
(٤) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٥ ب، "تفسير البغوي" ٢/ ٧٠.
(٥) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٥ ب.
(٦) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٤٦، وهو قوله: (فجائز أن يكون أول بيت، هو البيت الذي لم يكن الحج إلى غيره).
(٧) هو: أبو الحسين، عبد الغافر بن محمد (أبي عبد الله) بن عبد الغافر بن أحمد الفارسي، الفسوي. أحد رواة صحيح مسلم، وأحد رواة "غريب الحديث" للخطابي، يرويه عن مؤلفه. كان عَدْلا جليلَ القَدْر. قال عنه حفيدُه عبد الغافر الفارسي صاحب كتاب (السياق لتاريخ نيسابور): (الثقة الأمين الصالح الديِّن). توفي سنة (٤٤٨ هـ). انظر: "المنتخب من السياق" ٣٦١، "سير أعلام النبلاء" ١٨/ ١٩، "شذرات الذهب" ٣/ ٢٧٧.
وقد أثبت محقق تفسير (الوسيط، من أول آل عمران- على آخر المائدة) اسمه كالتالي: (أبو الحسن الفسوي)، وأشار إلى وروده في نسخة أخرى لـ (الوسيط): (أبو الحسين القشيري)، وقد وهم المحققُ فَعَرَّف الفَسَوِيَ -هذا- بأنه: (أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله الفارسي)، وهو خطأ ظاهر. انظر: "تفسير الوسيط" من أول آل عمران إلى آخر المائدة: ٢٧٥.
(٨) في (ج): (حمد). وهو الأصوب في اسم هذا الإمام؛ فقد قال -رحمه الله-:=
435
محمد البُسْتي، ثنا (١) إسماعيل بن محمد الصفّار (٢)، ثنا (٣) سعدان (٤)، ثنا (٥) أبو معاوية (٦)، ثنا الأعمش عن إبراهيم التَيْمي (٧) عن
= (اسمي الذي سُمِّيت به: (حمْد) -[بتسكين الدال]-، ولكن الناس كتبوا (أحمد)، فتركته عليه). "وفيات الأعيان": ٢/ ٢١٥. وهو: الإمام أبو سليمان، حمْد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البُسْتي، الخَطّابي.
(١) في (ب): (أبنا).
(٢) نقل الحافظ العراقي قول ابن حزم فيه: إنه (مجهول)، ودفع هذا ابن حجر، وسَمَّاه: (الثقة، الإمام النحوي المشهور)، وذكر أنه حدَّث عن الكبار، وانتهى إليه عُلُوُّ الإسناد، وأنه روى عنه الدارقطني، وابنِ مَنْدَه، والحاكم، ووثقوه، صَحب المبرِّد وأخذ عنه. قال الدارقطني: (وكان متعصبًا للسُّنَّة)، مات سنة (٣٤١ هـ)، وله ٩٤ سنة. انظر: "تاريخ بغداد" ٦/ ٣٠٢، و"إنباه الرواة" ١/ ٢٤٦، وذيل "ميزان الاعتدال" ١٤٠، "لسان الميزان" ١/ ٦٦٦.
(٣) في (ب): (أبنا).
(٤) هو: أبو عثمان، سعدان بن نصر بن منصور البغدادي، الثقفي، البزار. ثقة صدوق، توفي سنة (٢٦٥ ص)، وقد جاوز التسعين. انظر: "الجرح والتعديل" ٤/ ٢٩٠، "تاريخ بغداد" ٩/ ٢٠٥، "سير أعلام النبلاء" ١٢/ ٣٥٧.
(٥) في (ب): (أبنا).
(٦) هو: محمد بن خازم التميمي السعدي مولاهم، الضرير، الكوفي. ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وحديثه عنه فيه اضطراب، اتهم بالإرجاء، والتدليس، مات سنة (١٩٥هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٧/ ٢٤٦، "سير أعلام النبلاء" ٩/ ٧٣، "تهذيب التهذيب" ٣/ ٥٥١.
(٧) هو: إبراهيم بن يزيد بن شَرِيك التيمي الكوفي، أبو أسماء. ثقة عابد، ولكنه يرسل ويدلس، قتله الحجاج سنة (٩٢ هـ)، وله أربعون سنة. انظر: "الجرح والتعديل" ٢/ ١٤٥، "الميزان" ١/ ٧٤، "التقريب" ٩٥ (٢٦٩).
436
أبيه (١)، عن أبي ذر (٢)، قال: قلت: يا رسول الله - ﷺ - (٣)؛ايُّ مسجد وُضِعَ في الأرض أوَّلا؟ قال: "المسجد الحرام". قال: قلت (٤): ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى". قال: قلت كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة". قال: "فأينما (٥) أدركتك الصلاةُ فَصَلِّ (٦)، فهو مسجدٌ" (٧).
وقوله تعالى: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾.
(١) هو: يزيد بن شَريك بن طارق التَيْمي الكوفي. ثقة، عَدَّه ابنُ حجر مِن طبقة كبار التابعين، وكان عريف قومه، يقال: إنه أدرك الجاهلية، مات في خلافة عبد الملك. انظر: "الجرح والتعديل" ٩/ ٢٧١، "التهذيب" ٤/ ٤١٧، "التقريب" ٦٠٢ (٧٧٢٩).
(٢) اختلف في اسمه، وأصح ما قيل فيه: جُنْدُب بن جُنادة، الغِفَاري. من كبار الصحابة، قديم الإسلام، يقال: أسلم بعد أربعة، وتوفي بـ (الرَّبَذة) سنة (٣١ هـ) أو (٣٢ هـ) وليس له عقب. انظر: "المعارف" لابن قتيبة: ٢٥٢، "الاستيعاب" ٤/ ٢١٦، "صفة الصفوة" ١/ ٢٩٨، "الإصابة" ٤/ ٦٢.
(٣) (صلى الله عليه وسلم): ليس في (ج).
(٤) في (ج): (ثم قلت).
(٥) فأينما: كتبت في (أ)، (ب)، (ج): (فأين ما). وكذا رسمت في صحيح البخاري: ٤/ ١١٧، وأثبَتُّها وفق الرسم الإملائي الحديث.
(٦) في (ب): (فصلي).
(٧) أخرجه البخاري في "الصحيح" (٣٣٦٦)، كتاب: الأنبياء باب: (١٠)، ومسلم في "الصحيح" (٥٢٠). كتاب: المساجد ومواضع الصلاة. وأحمد في "المسند" ٥/ ١٥٠، ١٥٦، ١٥٧، ١٦٠، ١٦١، والطبري في "تفسيره" ٤/ ٨ - ٩، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ٧٠، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٧٦ أ، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٩٣، وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبيهقي في "الشعب".
437
بَكّة: هي (١) مكة، في قول الضحاك (٢)، ومجاهد (٣)، والمُؤَرّج (٤). فأبدِلَت الميمُ باءً، كقوله (٥): (سَبَّدَ (٦) رأسَهُ)، و (سَمَّدَ رأسَه) (٧)، و (أَغْبَطَت
(١) في (ج): (قال هي).
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٦ أ، "زاد المسير" ٣/ ٤٢٥.
(٣) قوله في مصنف ابن أبي شيبة ٣/ ٢٦٢ (١٤١٢٥)، "تفسير الطبري" ٤/ ٨، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٠٩، "النكت والعيون" ١/ ٤١٠، "تفسير القرطبي" ٤/ ٣١٨، "الدر المنثور" ٢/ ٩٤، وزاد نسبة إخراجه إلى سعيد بن منصور، والبيهقي في "الشعب" وعبد بن حميد.
وأورد السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٩٤ عن مجاهد، أن (بكة) هي: الكعبة، ومكة: ما حولها. ونسبة إخراجه إلى عبد بن حميد.
ونَصُّ قولِ مجاهد -كما في الطبري-: (إنما سميت (بكة)؛ لأن الناس يتباكُونَ فيها، الرجال والنساء)؛ أي: يزدحمون. إلّا أن الطبري أتى بقول مجاهد شاهدًا على أن المراد بـ (بكة) موضع مُزدَحَمِ الناس للطواف، وأن ما كان خارج المسجد فـ (مكة) لا (بكة)؛ لأن ما كان خارج المسجد لا يوجب على الناس التّباك فيه؛ أي: التزاحم.
(٤) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٦ أ.
(٥) في (ج): (كقولك).
(٦) في (ب): (وشهد).
(٧) (رأسه، وسمد رأسه): ساقط من: (ب).
التسبيد أو التسميد -هنا-: ترك التدهن، وغسل الرأس، وقيل: هو الحلق واستئصال الشعر حتى يلصق بالجلد، وقيل: تطويل الشعر وتكثيره. فهو حرف من الأضداد. ويقال: (سَبَدَ شعرَه وسَبَتَه) -بالتخفيف-: إذا حلقه، ويقال: (سبَّد شعرُهُ): إذا نبت بعد الحلق، أول ما يظهر.
انظر: "الأضداد" لقطرب: ١٤٤، "الأضداد" للسجستاني: ٩١، "غريب الحديث" لأبي عبيد: ١/ ١٦٢، "الأضداد" لابن الأنباري: ٣٠٩، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦١٢، "ذيل كتاب الأضداد" للصغاني: ٢٣٢.
438
الحُمَّى)، و (أَغْمَطَت) (١)، و (ضَرْبة لازِمٍ)، و (لازِبٍ) (٢). ومَكَّة سُمِّيَت بذلك؛ لقلة مائها، وعدم الزرع والضَرْع بها، من قولهم (٣): (مَكَّ الفَصِيلُ ضرْعَ (٤) أُمِّهِ)، و (امْتَكَّهُ) (٥): إذا امتص كلَّ ما فيه.
وقال [ابن الأنباري (٦): سُمِّيَت مكة، لاجتذابها الناس إليها من كل أُفُقٍ وفجٍّ، من قولهم] (٧): (وقال تَمَكَّكْتُ المُخَّ من العَظْم): إذا استقصيت عليه في جِذْيه (٨)، وكذلك (تَمَكُّك (٩) الفَصِيلِ ما في
(١) في (ب): (وأغطش).
ومعنى: (أغْبَطَت الحمَّى وأغْمَطَت)؛ أي: لزمته الحُمَّى ولم تفارقه. وهو مأخوذ من وَضْع (الغَبِيط) على الجَمَلِ، و (الغَبيط): ما يوطَّأ للمرأة من هودج وغيره، ويقال: (أغْبَطْتُ الرَّحْلَ على الدابة إقباطا): إذأ ألزمته إيّاه.
انظر: "غريب الحديث" لابن سلام: ١/ ٩٩، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٣١ (غبط)، "الفائق" ٣/ ٤٧، "النهاية في غريب الحديث" ٣/ ٣٤١.
(٢) اللُّزوب: اللصوق، والثبوت. و (طين لازب)؛ أي: لاصق وثابت. و (الَّلازب واللاتب واللاصق)، واحد. وتقول العرب: (صار الأمر ضربة لازب)؛ أي: شديدًا لازمًا ثابتًا. ويقولون: (ليس هذا بضربة لازب) و (لازم)؛ بمعنى: ما هذا بواجب لازم؛ أي: (ما هذا بضربة سيف لازب)، وهو مَثَل. انظر: "إصلاح المنطق" ٢٨٨، "التاج" ٢/ ٤٠٢ (لزب).
(٣) (من قولهم): ساقط من: (ج).
(٤) في (ج): (زرع).
(٥) (وامتكه): ساقطة من: (ج).
(٦) قوله في "الزاهر" ٢/ ١١٢. نقله عنه بالمعنى.
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٨) في (ب): (حديه)، في (ج): (حذبه). وفي "الزاهر": (تمككت العظمَ: إذا أجديت ما عليه من اللحم). وما أثبته صواب لغة؛ لأن (جِذْي كلِّ شيءٍ، وجِذْمهُ): أصله. انظر: "اللسان" ١/ ٥٨١ (جذا).
(٩) في (ج): (امتكاك).=
439
الضرع) (١).
وقال الآخرون (٢): (مكَّة): اسم البلد كله (٣)، و (بَكَّة): موضع البيت والمطاف. سميت بكّة؛ لازدحام الناس بها، يَبُكُّ بعضهم بعضًا، أي: يدفع ويصلي بعضهم بين يدي بعض، وَيمُرُّ بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلا هناك.
وقال الليث (٤): سميت مكَّةُ: بَكَّةَ (٥)؛ لأنها تَبُكُّ أعناقَ الجبابرة، إذا ألحدوا فيها؛ أي: تَدُقُّ. و (البَكُّ): دَقُّ العُنُقِ (٦).
= والتَّمَكُّك، مصدر (تَمَكُّك)؛ أي: امتصَّ ما في الضرع. أما (مَكَّ)، فمصدرها: (المَكُّ). انظر: "اللسان" ٧/ ٤٢٤٨ (مك).
(١) في (ب): (الدرع). انظر المعاني السابقة، في "غريب الحديث" لابن سلام: ١/ ٤٣٢، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٣٥ (مك)، "معجم البلدان" ٥/ ١٨١، "اللسان" ٧/ ٤٢٤٨ - ٤٢٤٩ (مكك).
(٢) في (ب)، (ج)، "تفسير الثعلبي" (آخرون). ومن قوله: (وقال الآخرون..) إلى (لا يصلح ذلك إلا هناك): نقله -بتصرف يسير- عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٦٧ أ.
ومن هؤلاء الآخرين القائلين بهذا القول: مالك بن أنس، وعكرمة، وزيد بن أسلم، وعطية الحوفي، وضمرة بن ربيعة، وإبراهيم النخعي، ومقاتل بن حيان، والطبري.
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" ٣/ ٢٦١ - ٢٦٢ "تفسير الطبري" ٤/ ٧ - ١٠، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٠٨ - ٧٠٩، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٦ أ، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٣٨، "معجم البلدان" ٥/ ١٨١.
(٣) في (ب): (اسم البيت).
(٤) قوله في "تهذيب اللغة" ١/ ٣٧٧.
(٥) (بكة): ساقطة من: (ج).
(٦) انظر: "مجاز القرآن" ٩٧، "تفسير الطبري" ٤/ ٩، "الصحاح" ٤/ ١٥٧٦ (بكك)، "معجم البلدان" ١/ ٤٧٥، "اللسان" ١/ ٣٣٥ (بكك).
440
وقوله تعالى: ﴿مُبَارَكًا﴾ معناه (١): كثير الخير؛ أنْ جعل فيه وعنده البَرَكَة، ومعنى البَرَكَةِ: الكثرة في كل خير.
وقال بعض أهل المعاني: أصل البَرَكَة: الثُّبُوت، من قولك: (بَرَكَ بَرْكًا، وبُرُوكًا): إذا ثبت على حاله (٢). فالبَرَكَة: ثُبُوت الخير؛ بِنُمُوِّهِ وتَزَيُّدِه.
ومنه: (البَراكاء) في القتال (٣)، ومنه: (البِرْكة)، شِبْهُ الحوض؛ لثبوت الماء فيها. و (تبارك الله)، لثبوته، لم يزل ولا يزال (٤).
وقال اللِّحْياني (٥): (باركت على التجارة، وغيرها)، أي: داومت وواظبت عليها (٦).
(١) (معناه): ساقطة من: (ج).
(٢) قال ابن فارس: (الباء، والراء، والكاف، أصل واحد، وهو: ثبات الشيء ثم يتفرع فروعًا يقارب بعضها بعضا). "مقاييس اللغة" ١/ ٢٢٧ (برك).
(٣) البراكاء: الثبات في العرب، والجدّ، ويقال -كذلك- لساحة العرب، وأصله من البُرُوك. انظر: (برك) في "الصحاح" ٤/ ١٥٧٥، "اللسان" ١/ ٢٦٧.
(٤) قال ابن الأنباري: (قال قوم: معنى (تبارك): تَقَدَّس؛ أي: تطهر وقال قوم: معنى (تبارك اسمك): تفاعل من (البَرَكة)؛ أي: البركة تُكتسب وتنال بذكر اسمك). "الزاهر" ١/ ١٤٨.
وفي "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٨ أن (تبارك): ارتفع. والمتبارك: المرتفع. وينقل عن الزجاج: أنه (تفاعل) من (البركة).
انظر المعاني السابقة لـ (البركة)، في مادة (برك) في "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩، "الصحاح" ٤/ ١٥٧٤، ١٥٧٥، "اللسان" ١/ ٢٦٦.
(٥) قوله في "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩.
(٦) وفي "مقاييس اللغة" ١/ ٢٢٩، ينقل عن ابن السكيت قوله: (بَرَك فلانٌ على الأمر، وبارك، جميعًا: إذا واظب عليه).
441
وانتصب ﴿مُبَارَكًا﴾ على الحال. قال الزجاج (١): المعنى: لَلَّذي (٢) استقر بمكة في حال بَرَكَتِه، وقال (٣): هو حال مِنْ ﴿وُضِعَ﴾، أي: وُضِعَ مباركًا.
وقوله تعالى: ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ قال أبو إسحاق (٤): المعنى: وذا هُدَى (٥). قال: ويجوز أن يكون ﴿وَهُدًى﴾ في موضع رفع، على معنى: وهو هُدَى.
ومعنى كونه ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾: أنه قِبْلةُ صلاتهم، ودلالة على الله تعالى من حيث هو المدبر له (٦) بما لا يقدر عليه غيره، مِن أَمْنِ الوحوش فيه، حتى يجتمع الكلبُ والظَبْي (٧) فلا يعدوا عليه، وحتى يأنَسَ الطيرُ فلا يمتنع كما يمتنع في غيره، إلى غير ذلك من الآثار البينة فيه، مع البَرَكة التي يجدها من حج البيت.
٩٧ - قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ قال ابن عباس (٨): يريد:
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٤٥.
(٢) في (ج)، "معاني القرآن" الذي.
(٣) هذا القول ليس في "معاني القرآن" عند الموضع السابق، وقد يكون نقله المؤلف من موضع آخر في كتاب المعاني، لم أقف عليه، وقد يكون المؤلف حكى معنى قول الزجاج.
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٤٥. نقله عنه بتصرف قليل.
(٥) هذه العبارة غير موجودة في "معاني القرآن" في الموضع السابق.
(٦) في (ب): (الذي) بدلًا من: (له بما).
(٧) في (ج): (والصبي).
(٨) الذي وقفت عليه عن ابن عباس -من رواية عطية- أنه فسره بمقام إبراهيم والمشعر. إلا أنه ورد عنه -من رواية عطاء بن أبي رباح، عنه- أنه قرأ ﴿فيه آيةٌ بيِّنَةٌ﴾، وفسره بـ (مقام إبراهيم)، وفسر مقام إبراهيم بأنه الحج كله.=
442
المناسك والمشاعر كلها. وقال آخرون (١): الآيات التي فيها: أَمْنُ الخائف، وإمحاقُ الجِمَارِ (٢) على كثْرةِ الرَّامي، وامتناع الطَيْرِ مِنَ العُلُوِّ عليه (٣)، واستشفاءُ المريض به، وتعجيلُ العقوبة لمن انتهك فيه حُرْمة (٤)، وإهلاكُ أصحاب الفِيل لَمَّا قصدوا [لإحْراقِه] (٥).
فعلى (٦) هذا؛ تفسير الآيات (٧) وبيانها (٨)، غير مذكور (٩) في الآية. ومذهب جماعة من المفسرين (١٠): أنَّ تفسير الآيات مذكورة، وهي قوله: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: هي: مقامُ إبراهيم؛ يعني: الآيات. وقال بعضهم (١١): المعنى: منها مقام إبراهيم.
= انظر: "الطبري" ١/ ٥٣٥، ٤/ ١٠، "ابن أبي حاتم" ٣/ ٧١٠، "الدر المنثور" ٢/ ٩٦.
(١) انظر: "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٤٤٤ - ٤٤٥، "النكت والعيون" ١/ ٤١١، "تفسير البغوي" ٢/ ٧١.
(٢) في (ب): الجبار.
(٣) قال ابن عطية: (وهذا كله عندي ضعيف، والطير تُعايَن تعلوه). "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٢٨.
(٤) في (ب): (حرمة فيه).
(٥) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ)، وفي (ج): (الإحراقه)، والمثبت من: (ب).
(٦) في (ب): (وعلى).
(٧) في (ج): (الآية).
(٨) من قوله: (وبيانها..) إلى (الآيات مذكورة): ساقط من (ج).
(٩) في (أ)، (ب): (منكور). وفي (ج): ساقطة وما أثبتُّه هو الصواب.
(١٠) ومنهم: مجاهد، والسدي، ومقاتل، وقول ابنِ عباس على حسب القراءة المروية عنه ﴿فيه آية بيِّنة﴾؛ حيث فسرها بـ ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١١، "ابن أبي حاتم" ٣/ ٧١٠، "تفسير مقاتل" ١/ ٢٩١.
(١١) منهم: مجاهد، وقتادة، والطبري. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢٧، "تفسير الطبري" ٤/ ١١، "الدر المنثور" ٢/ ٩٦.
443
فإن قيل: (الآيات) جماعة، ولا يصح تفسيرُها بشيء واحد. قلنا: يجوز ذلك؛ كما يقول القائل: (في بلدة كذا، لي أصدقاء وقرابات)، ثم يقتصر على ذكر واحدٍ منهم، على معنى تخصيص له.
وعند الزجاج: أن قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، مِن تفسير الآيات؛ لأنه قال (١): ومن الآيات (٢) أيضًا: أَمْنُ مَنْ دَخَلَه. قال: ومعنى (أَمْن مَن دخله): أن إبراهيم عليه السلام سأل الله عز وجل أَنْ يُؤَمِّنَ سكانَ مكةَ، قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ [البقرة: ١٢٦]، فجعل [عز وجل] (٣) أَمْنَ مكةَ آيةً لإبراهيم، فلم يطمع في أهلها جبَّار، فكان فيما (٤) عطف الله تعالى من قلوب العرب في الجاهلية على مَنْ لاذَ بالحَرَمِ حتى يُؤْمَّنوا (٥)، آيةً بَيِّنَةً، يدل على هذه الجملة قولُ قتادة في قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، قال (٦): كان ذلك في الجاهلية، فأما اليوم، فإنْ سرقَ فيه [أحدٌ] (٧) قُطِعَ، وإن قَتَلَ فيه قُتِلَ.
وقد ذكرنا الحُكمَ في هذا عند قوله: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥].
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٤٦.
(٢) في (ج): (ومن تفسير الآيات). وكلمة (تفسير) غير موجودة في "معاني القرآن".
(٣) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وساقط من (ب). والمثبت من (ج)، "معاني القرآن".
(٤) في (ج): (فيها).
(٥) في (ج): (يؤمنوه).
(٦) قوله في "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢٧، "تفسير الطبري" ٤/ ١١، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧١٢، والأزرقي، في "أخبار مكة" ٢/ ١٣٩، "الدر المنثور" ٢/ ٩٣ وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج). وهي موجودة في رواية الأثر في المصادر السابقة، وورد في "تفسير عبد الرزاق": (وأخذَ قطِع).
444
وقال الضحاك في قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ قال (١): مَن حَجَّهُ فدخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قَبْلَ ذلك.
وعن يحيى بن جعدة (٢) في قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ قال: مِنَ النَّارِ.
وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [ويقرأ ﴿حِج البيت﴾] (٣) بالكسر (٤). فالمَفتوح: مصدرٌ، وهو لغة أهل الحجاز. والمكسور: اسم العَمَلِ (٥).
(١) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٧ ب.
وقوله: (من حجه فدخله كان آمنا): ساقط من: (ج).
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٤، و"ابن أبي حاتم" ٣/ ٧١٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٧٧ ب، "النكت والعيون" ١/ ٤١١، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٩٨، وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
ويحى بن جَعْدة بن هُبَيرة، بن أبي وَهْب المخزومي القرشي. تابعي، ابن أخت علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، قال عنه أبو حاتم: (حجازي ثقة)، روى عن بعض الصحابة، وأرسل عن ابن مسعود وأبي بكر. انظر: "الجرح والتعديل" ٩/ ١٣٣، "المراسيل" ٢٤٥، "تقريب التهذيب" ص ٥٨٨ (٧٥٢٠).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٤) قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: ﴿حِجَّ﴾ -بالكسر-، وقرأ الباقون: ﴿حَجَّ﴾ -بالفتح-. انظر: "علل القراءات" للأزهري ١/ ١٢٣، "الحجة" للفارسي ٣/ ٦٩، "الكشف" لمكي ١/ ٣٥٣.
(٥) في (ج): (للعمل). قال أبو زرعة بن زنجلة. (الفتح، لأهل الحجاز، وبني أسد، والكسر، لغة أهل نجد وقيل: إن الفتح مصدر، والكسر اسم). "حجة القراءات" ١٧٠. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٨، "الصحاح" ١/ ٣٠٣ (حجج)، "القاموس" (١٨٣) (حج).
445
قال سيبويه (١): ويجوز أن يكون مصدرًا كـ (الذِكْرِ) و (العِلْم).
وقوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾.
قال الزجّاج (٢): موضع ﴿مَنِ﴾: خفض على البدل من ﴿النَّاسِ﴾؛ المعنى هو (٣): [و] (٤) لله على من استطاع [إليه سبيلا] (٥) مِنَ الناس، حِجُّ البيت (٦).
قال الفرّاء (٧): وإنْ نويت الاستئناف بـ ﴿مَن﴾، كان جزاء، وكان الفعل به بعدها جزمًا، واكتفيتَ بما جاء قبله من جوابه، [والتأويل] (٨) فيه: [من استطاع] (٩) إلى الحج سبيلًا، فلِلّهِ (١٠) عليه حِجُّ البيت (١١). فقدم الجوابَ وهو مؤخر في المعنى، على مذهب العرب في التقديم والتأخير.
(١) في "الكتاب" له ٤/ ١٠، نقله عنه بمعناه. ونصُّ سيبويه: (وقالوا: حجَّ حِجَّا، كما قالوا: ذكر ذِكرا).
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٤٧، نقله عنه بنصه. وانظر: "الكامل" للمبرد ٣/ ١٨.
(٣) (هو): ساقطة من (ج). وليست في "معاني القرآن".
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، "معاني القرآن".
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). وهي ليست في "معاني القرآن".
(٦) من الناس حج البيت: ساقطة من: (ج). وهذا التوجيه النحوي، هو قول أكثر النحويين. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٥٣.
(٧) لم أقف على مصدر قوله، وقد أورده الفخر الرازي في "تفسيره" ٨/ ١٦٦، ونصه عنده: (إن نويت الاستئناف بـ (مَنْ) كانت شرطًا، وأسقط الجزاء؛ لدلالة ما قبله عليه). وبقية العبارة كما هي عند المؤلف.
(٨) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وساقط من: (ب). والمثبت من (ج).
(٩) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وفي (ب): (كالمستطاع). والمثبت من (ج).
(١٠) في (ج): (ولله).
(١١) ونسب هذا الرأي للكسائي، كما في "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٥٣ - ٢٥٤، "مشكل إعراب القرآن" ١/ ١٦٩.
446
وقال ابن الأنباري (١): ويجوز أن يكون في موضع رَفْعٍ؛ على الترجمة للناس؛ على معنى: (هُمْ (٢): مَن استطاع إليه سبيلا).
وأما معنى الاستطاعة في اللغة:
فالاستطاعة مأخوذة مِن: (طاع له (٣) الشيءُ يَطُوعُ)، و (طاع يُطيع): إذا انقاد له (٤). يقال: (فَرَس طَوْعُ العِنَانِ) (٥): إذا انقاد لك. و (تطاوع لي الأمرُ)؛ أي: سهل حتى تمكنت منه. فمعنى قولهم: (استطعت): استمكنت منه ووجدت السبيلَ إلى فعله؛ لمطاوعته لي وسهولته عَلَيّ (٦). وكلّ من
(١) لم أقف على مصدر قوله وقد أورده الفخر الرازي في "تفسيره" ٨/ ١٦٦.
(٢) في (أ)، (ب): (بهم). والمثبت من (ج).
(٣) (له): ساقط من (ج).
(٤) وردت في معاجم اللغة التي رجعت إليها: (طاعَ له يطوع طوْعًا): إذا انقاد. أما (طاع يُطيع)، فلم أجدها. وإنما الذي وقفت عليه، ما ورد في "تهذيب اللغة" عن ابن السكيت: (يقال: (طاع له وأطاع)، سواء. فمن قال: (طاع)، قال: (يَطاع). ومن قال: (أطاع)، قال: (يُطيع). "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٢ (طوع). وكذا نقله ابن دريد عن أبي زيد.
انظر: "الجمهرة" (طوع): ٩١٧، ١٣١٠. وانظر مادة (طوع) في "العين" ٢/ ٢٠٩، "الصحاح" ٣/ ١٢٥٥، "المقاييس" ٣/ ٤٣١. وانظر تفسير قوله تعالى: ﴿طَوعًا وَكَرهًا﴾ من الآية: ٨٣ من هذه السورة.
(٥) في (ب): (القتال).
وعِنان اللجام: السير الذي تمسك به الدابة. وجمعه: (أعِّنة). انظر: "اللسان" ٥/ ٣١٤١ (عنن).
يقال: و (طَوْعة العنان). ويقال: (ناقةٌ طَوْع القِياد، وطَيِّعة القياد، وطَوْعة القياد)، أي: ليِّنة لا تنازع قائدها. انظر: (طوع)، في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٣، "اللسان" ٥/ ٢٧٢٠.
(٦) في (ب): (له).
447
تَوصَّلَ إلى مُرامِهِ، وتمكَّنَ من مطلبه، قالوا: (قد استطاعة، واسْطاعَه) (١)؛ لانقياد ذلك المطلوب له. والعرب تستعمل لفظ الاستطاعة (٢) فيمن يصل إلى مرادهِ مِن غير مباشرة لذلك الفعل؛ كما يقولون: استطاع الأمير فتحَ بلدِ كذا، وإنْ لم يَتَوَلَّ بنفسه، وإنما توصل إليه برجاله وأمواله، فليس كل الاستطاعة بالمباشرة بالأعضاء.
وأما التفسير: فقال ابن عباس في رواية عطاء (٣): يريد بـ (الاستطاعة) القوة. واختلف الناس في الاستطاعة الموجبة للحج: [فالذي عليه الجمهور أن معنى (الاستطاعة) ههنا، هو: القوة. والمستطيع للحج] (٤): هو القوي الذي لا يلحقه مشقة غير محتملة في الكَوْنِ على الراحلة، فهذا إذا ملك الزاد والراحلة، لزمه فرضُ الحج بنفسه. وإن (٥) عدم الزاد والراحلة أو أحدَهما سقط فرضُ الحج عنه، فوجودُهُ (٦) الزادَ والراحلةَ شرطٌ في
(١) في (ج): (وأطاعه). والعرب تحذف التاءَ مِن (استطاع)، فتقول: (اسطاع)، ومن (يستطيع)، فتقول: (يسطيع)؛ لأن التاء والطاء من مخرج واحد، فيحذفون التاء استثقالًا لها مع الطاء. وبعض العرب يقول: (استاع يَسْتيع)؛ أي: (استطاع يستطيع). وبعضهم يقول: (أسْطاع يُسْطِيع) -بهمزة قطع-، يريدون: أطاع يُطيع، فيزيدون السين. انظر: (طوع) في "التهذيب" ٣/ ٢١٥٣، "الصحاح" ٣/ ١٢٥٥.
(٢) في (ج): (الإطاعة).
(٣) لم أقف على مصدر، هذه الرواية، وفي "المحلى" لابن حزم: ٧/ ٥٤: (قد روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، قال في الحج: (سبيله: من وجد له سعة، ولم يُحَلْ بينه وبينه).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٥) في (ب): (وإذا).
(٦) في (ج): (فوجود).
448
وجوب الحج (١). وهذا قول عمر بن الخطاب (٢)، وابنه (٣)، وابن عباس (٤)،
= والوجود: مصدر (وَجِدَ) -بفتح الجيم وكسرها-. ومن مصادرها -كذلك-: (جِدَة، و (وُجْد)، و (وِجْدان)، و (إجْدان). انظر: "القاموس" (٣٢٤) (وجد).
(١) هذا مع مراعاة انتفاء عوائق أخرى من مرض مقعد، أو خوف طريق، أو غيره من الأعذار التي تُعد مانعًا من الاستطاعة ذكرها وفصَّلها الفقهاء في كتبهم. انظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ١٤٩.
(٢) في (ج): (وعلى قول ابن عباس، وعمر بن الخطاب). وقول عمر -رضي الله عنه-، في "تفسير الطبري" ٤/ ١٥، "المحلى" لابن حزم: ٧/ ٥٤، "سنن البيهقي" ٤/ ٣٣١، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٩٩، وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة.
(٣) قول ابن عمر هذا أورده ابنُ حزم في "المحلى" ٧/ ٥٤، من طريق إسرائيل عن مجاهد عن ابن عمر، قال: (﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، قال: ملء بطنه، وراحلة يركبها). وقد أخرج عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٧١٥، قوله: (من كان يَجِد -وهو موسرٌ صحيح- لم يَحج، كان سيماه بين عَيْنَيه: كافر، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٩٩ وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد. وفيه بيان أنَّ الغِنَى، والسَّعَة مِن موجبات الحج عنده.
كما وردت روايته المشهورة لحديث النبي - ﷺ -، الذي فَسَّر فيه (السبيل) بالزاد والراحلة، وسيأتي التنبيه عليها.
(٤) (ابن عباس): ساقط من: (ج). وقوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٥، "المحلى" ٧/ ٥٤، "سنن البيهقي" ٤/ ٣٣١، "تفسير ابن كثير" ١/ ٤١٤، "الدر المنثور" ٢/ ١٠٠، وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة.
وورد من رواية علي بن أبي طلحة عنه: (السيبل: أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به). انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٥، "سنن البيهقي" ٤/ ٣٣١، "الدر المنثور" ٢/ ١٠٠ وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر. وفي رواية سعيد بن جبير عنه: (من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل). "الطبري" ٤/ ١٦.
449
وسعيد بن جبير (١)، ومجاهد (٢)، ومذهب الشافعي (٣)، وابي حنيفة (٤)، وأحمد بن حَنْبل (٥)، وإسحاق (٦).
[وروى جماعة من الصحابة] (٧) عن النبي - ﷺ - أنه فسَّر استطاعة السبيل إلى الحَجِّ، بوجود الزاد والراحلة (٨).
(١) قوله في "تفسير سفيان الثوري" ٧٩، "تفسير الطبري" ٤/ ١٦، "ابن أبي حاتم" ٣/ ٧١٣، "المحلى" ٧/ ٥٤، "الدر المنثور" ٢/ ١٠٠ ونسب إخراجه لابن أبي شيبة.
(٢) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧١٣، "المحلى" ٧/ ٥٤، " الدر المنثور" ٢/ ١٠٠ ونسب إخراجه لابن أبي شيبة.
(٣) انظر: "أحكام القرآن" للشافعي (جمع البيهقي): ١/ ١١٣، "الأم" ٢/ ١٢٦، ١٢٧، ١٣٢ - ١٣٣، "الرسالة" ١٩٧، "المجموع" للنووي: ٧/ ٦٣، "أحكام القرآن" للهراسي: ١/ ٢٩٤، "مغني المحتاج" للشربيني: ١/ ٤٦٣.
(٤) انظر: "فتح القدير" لابن الهمام: ٢/ ٤١٥ وما بعدها، "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعى: ٣/ ٣.
(٥) انظر: "مسائل الإمام أحمد" لأبي داود: ٩٧، ١٠٦، "المغني" لابن قدامة: ٣/ ١٦٩، "المقنع" لابن قدامة: ١/ ٣٨٩، "حاشية الروض المربع" (جمع: عبد الرحمن العاصمي): ٣/ ٥١٤.
(٦) انظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ١٤٧، "المغني" لابن قدامة: ٣/ ١٦٩.
(٧) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (وروى بعض الصحابة). والمثبت من: (ج).
(٨) ورد في ذلك أحاديث رواها ابن عمر، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وغيرهم. فحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وهو أشهرها-: أن رجلًا سأل النبي - ﷺ -، فقال: ما السبيل؟ فقال - ﷺ -: "الزادُ والراحلة".
أخرجه الترمذي في "السنن" (٢٩٩٨) كتاب: التفسير، باب: (٤) من سورة آل عمران (٨١٣)، كتاب: الحج، باب: (٤)، وقال فيه: (هذا حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم، أن الرجل إذا ملك زادًا وراحلة وجب عليه الحج). وأخرجه الإمام الشافعي في "الأم" ٢/ ١٢٦ - ١٢٧، وفي مسنده (بترتيب =
450
......................
= السندي): ١/ ٢٨٤، وسفيان الثوري في "تفسيره" ٧٨، وابن ماجه في "السنن" (٢٨٩٦) كتاب: المناسك، باب: (٦)، والدارقطني في "السنن" ٢/ ٢١٨، والطبري في "تفسيره" ٧/ ٣٩، ٤٠، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٤٢٢، والبغوي في "شرح السنة" ٧/ ١٤، والبيهقي في "السنن" ٤/ ٣٢٧.
وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٩٩، وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عدي، وابن مردويه.
إلا أن الحديث في سنده إبراهيم بن يزيد الحوزي، وقد تكلم فيه أهل العلم. انظر سنن الترمذي في المواضع السابقة، و"نصب الراية" ٨/ ٣، و"التلخيص الحبير" ٢/ ٢٢١، "تفسير ابن كثير" ١/ ٤١٥.
كما ورد من رواية الإمام علي - رضي الله عنه -، عن رسول الله - ﷺ -: (من ملك زادا وراحلة، حتى تبلغه إلى بيت الله؛ فلم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا، إن الله يقول في كتابه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾).
أخرجه الترمذي في "سننه" (٨١٢) كتاب المناسك، باب (٣).
وفي سنده هلال بن عبد الله، والحارث الأعور. قال الترمذي: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال). وقال عن هلال: (مجهول)، وعن الحارث: (يُضَعَّف في الحديث). وانظر: "تقريب التهذيب" ١/ ٣٤٥، ٢/ ٣٢٤. وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٤/ ١٦، وابن أبي حاتم ٣/ ٧١٣، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" ٢/ ٢٠٩، والسيوطي، في "الدر" ٢/ ١٠٠ وزاد نسبة إخراجه للبيهقي في "الشعب" وابن مردويه.
كما ورد الحديث من رواية الحسن البصري، أخرجه الطبري في "تفسيره" ٤/ ١٥ - ١٦، والدارقطني في "السنن" ٢/ ٢١٨، والبيهقي في "السنن" ٤/ ٣٣٠، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٩٩، وزاد نسبة إخراجه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
قال عنه ابن حجر: (وسنده صحيح إلى الحسن، ولا أرى الموصول إلا وهْمًا). "التلخيص الحبير" ٢/ ٢٢١.
أي: أن سند الحديث إلى الحسن صحيح، إلا أنه منقطعٌ وليس موصولًا.
كما ورد الحديث من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، عند ابن ماجه في "سننه" =
451
......................
= ٢/ ٩٦٧ رقم (٢٨٩٧) كتاب المناسك، باب (٦)، والدراقطني في "سننه" ٢/ ٢١٨، وقال عنه ابن حجر: (وسنده ضعيف أيضًا). و"التلخيص الحبير" ٢/ ٢٢١.
كما ورد عن عائشة، وأنس- رضي الله عنهما-. انظر: "سنن الدارقطني" ٢/ ٢١٦، ٢١٧، "سنن البيهقي" ٤/ ٣٣٠.
ولكن أكثر روايات الأحاديث -في هذا المعنى- فيها مقال. انظر نصب الراية: ٣/ ٧ - ١٠. قال ابن حجر: (ورواه ابن المنذر من قول ابن عباس، ورواه الدارقطني. من حديث جابر، وحديث علي بن أبي طالب، ومن حديث ابن مسعود، ومن حديث عائشة، ومن حديث محمد بن شعيب عن أبيه عن جده، وطرقها كلها ضعيفة. وقال عبد الحق: إن طرقها ضعيفة، وقال أبو بكر بن المنذر: لا يثبت في ذلك مسندًا، والصحيح من الروايات: رواية الحسن المرسلة). التلخيص الحبير: ٢/ ٢٢١. أي: أن سندها صحيح إلى الحسن، مع إرساله.
وقال البيهقي: (وروي فيه أحاديث أخرى لا يصح شيء منها، وحديث إبراهيم بن يزيد أشهرها، وقد أكدناه برواية الحسن البصري، وإنْ كان منقطعًا). "السنن الكبرى" ٤/ ٣٣٠.
إلا أن الشوكاني قال: (ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضًا، فتصلع للاحتجاج بها، وبذلك استدلَّ مَن قال: إن الاستطاعة المذكورة في القرآن هي: الزاد والراحلة). "نيل الأوطار" ٤/ ٣٢٢.
وقد قال ابن تيمية في (شرح العمدة) عن الأحاديث السابقة -كما نقله عنه الصنعاني في "سبل السلام"-: (فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة، تدل على أن مناط الوجوب: الزاد والراحلة، مع علم النبي - ﷺ - أنَّ كثيرًا من الناس يقدرون على المشي، و-أيضًا- فإن الله قال في الحج: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ إما أن يعني القدرة المعتبرة في جميع العبادات، وهو مطلق المُكْنة، أو قدرًا زائدًا على ذلك؛ فإن كان المعتبر هو الأول، لم يحتج إلى هذا التقييد، كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة، فعلم أن المعتبر قدرٌ زائد في ذلك، وليس هو إلا المال، وأيضًا: فإن الحج عبادة مفتقرة إلى مسافة فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد. ودليل الأصل قوله: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ [٩١ - ٩٢ سورة التوبة]). "سبل السلام" ٢/ ١٨٠.
452
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ قال ابن عباس (١)، والحسن (٢)، وعطاء (٣): جَحَد فرضَ الحَجِّ.
وقال الضحّاك (٤): لمّا نزلت آية الحج، جمع رسول الله - ﷺ -، أهلَ الأديان كلَّهم، فخطبهم، وقال: "إن الله عز وجل كتب عليكم الحجَّ فحُجُّوا". فآمَنَ بِهِ المسلمون، وكفر [بِهِ] (٥) الباقون، فأنزل الله قولَه: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾.
٩٨ - قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾.
وقال في هذه السورة: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] (٦) وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ (٧) [آل عمران: ٧٠].
هناك خاطبهم تَلَطُّفًا في استدعائهم (٨) إلى الحق؛ بأن وجه الخطاب
(١) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧١٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٨٢ ب، "النكت والعيون" ١/ ٤١١، "الدر المنثور" ٤/ ١٠١ وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر، والبيهقي.
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٩، "ابن أبي حاتم" ٣/ ٧١٥، "الثعلبي" ٣/ ٨٢ ب.
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٩، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٨٢ ب، وعنه رواية أخرى، قال: (قال: ومن كفر بالبيت). في "الطبري" ٤/ ٢١، "الثعلبي" ٣/ ٨٣ أ.
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٢٠، "تفسير الثعلبي" ٨٢ ب، "الدر المنثور" ٢/ ١٠١ وزاد نسبة إخراجه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٧) (وأنتم تشهدون): ساقطة من (ب).
(٨) في (ب): (اسم تداعيهم).
453
إليهم، وههنا وجَّهَ الخطابَ إلى غيرهم إهانة لهم لصدهم عن الحق.
فإن قيل: لم جاز أن يقال لليهود والنصارى (أهل الكتاب)، وهم لا يعملون (١) به، ولم يجز (٢) مثلُ ذلك في أهل القرآن؟
قيل: إن القرآن [اسمٌ] (٣) خاصٌ لِما أَنزل الله على محمد - ﷺ -، فأما الكِتاب فيجوز أن يذهب به إلى معنى: يا أهل الكتاب المحرف عن جهته!.
وأيضًا فإنهم نُسبوا إلى الكتاب، احتجاجًا عليهم بالكتاب لإقرارهم به كأنه قيل يا من يُقِرُّ بأنه من أهل الكتاب لم تكفرونَ بآيات الله؟.
وقوله تعالى: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ توبيخٌ (٤) لهم، على لفظ الاستفهام، لأنه كسؤال التعجيز عن إقامة البرهان. وقد ذكرنا مثل هذا (٥).
والمراد بـ (الآيات) ههنا: الآياتُ التي أنزلها على نبيه محمد - ﷺ -، والمعجزات التي كانت له، والعلامات التي وافقت في صفته ما تقدمت البشارة به (٦)
(١) في (أ)، (ب): (يعلمون). والمثبت من (ج).
(٢) في (ج): (نجز).
(٣) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب): (انتم). والمثبت من (ج).
(٤) في (ب): (توبيخًا).
(٥) انظر: "تفسير البسيط" آية: ٢٨ من سورة البقرة. وانظر تفسير الآية: ٧٥ من سورة آل عمران: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾، والآية: ٨٠ ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، والآية: ٨٦ ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾.
(٦) ورد عن ابن عباس، تفسيره لـ (الآيات) بأنها القرآن، ومحمد - ﷺ -. انظر: "زاد المسير" ١/ ٤٢٩. وجعلها ابن عطية محتملة للقرائن وللعلامات الظاهرة على يدي النبي - ﷺ -. انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٤٠.
454
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ قال ابن عباس (١): يريد: حاضرٌ لأعمالكم.
ومعنى الآية يؤول إلى أن (٢) الله وبخهم على الكفر (٣)، وأخبر أنَّه لا ينفع [الاستسرارُ به] (٤)؛ لأن الله شهيدٌ عليه، مع أن شهادته توجب ردعهم عن الكفر.
٩٩ - قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
قال الفرّاء (٥): [يقال] (٦): (صَدَدْتُهُ، أصده صَدًّا)، و (أَصْدَدْتُه، إصْدادًا) (٧)، وأنشد:
أُناسٌ أَصَدُّوا الناسَ بالسيف عنهمُ صُدُودَ السَّواقِي عن أُنُوفَ الحَوائِمِ (٨)
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) أن: ساقطة من: (ج).
(٣) في (ج): الكافرين.
(٤) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (الأخرابية). والمثبت من: (ج).
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٧) قال الجوهري: (صدَّ عنه، يَصِدُّ، صُدُودًا): أعرض و (صده عن الأمر صدًّا): منعه وصرف عنه. و (أصَدَّهُ)، لُغة). "الصحاح" ٢/ ٤٩٥ (صدد)، وانظر: "اللسان" ٤/ ٢٤٠٩ (صدد)، "البحر المحيط" ٣/ ١٤.
وقال الزمخشري عن قوله تعالى: ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ﴾ القصص: ٨٧: (وقرئ (يُصِدُّنَّك) من: أصَدَّه بمعنى: صَدَّه، وهي لُغة كلب). "الكشاف" ٣/ ١٩٤.
(٨) البيت لذي الرُمَّة، وهو في ديوانه: ٧٧١. وورد في "الصحاح" ٢/ ٤٩٥ (صدد)، "الكشاف" ٢/ ٣٦٦، ٣/ ١٩٤، "الفريد في إعراب القرآن المجيد" ١/ ٦٠٨، "اللسان" ٤/ ٢٤١٠ (صدد)، "البحر المحيط" ٣/ ١٤. وروايته في "الديوان": =
455
وقرأ الحَسَنُ: (تُصِدُّون) بضم التاء، مِن: أَصَدَّ (١).
قال المفسرون (٢): وكان صدهم عن سبيل اللهِ بالتكذيب بالنبي - ﷺ -، وأنَّ صفَتَهُ ليست في كتابهم، ولا البِشَارَة به متقدِّمَةٌ عندهم.
وقوله تعالى: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ قال اللِّحْيانِي (٣): (بَغَى الرجلُ في كل
= أناس أصدوا الناس بالضرب عنهم صدودَ السواقي عن رؤوس المخارِم
ويروى: (السوافي) -بالفاء- وهي الرياح التي تسفي، التراب.
و (الحوائم)، جمع: (حائم). من: (حام حول الشيء، يَحُوم حَوْما وَحَوَمانا): دار. وكلُّ مَن رام أمرًا فقد (حام عليه حَوْمًا، وحِياما، وحُؤُوما، وحَوَمانا). وكلُّ عطشان: (حائم). و (إبِلٌ حوائم وحُوَّمٌ): عطاش جدا، وهي: التي تحوم حول الماء من شدَّة العطش. انظر: (حوم) في "اللسان" ٢/ ١٠٦١، "القاموس" (١٠٩٨).
وقيل: الحوائم: الإبل الغرائب، انظر: "شرح شواهد الكشاف" لمحب الدين أفندي ٤/ ٥٢٨. وعليه يكون معنى البيت: أنهم صدوا أعداءهم كما يصد السقاةُ الإبلَ الغرائبَ عن إبِلهم.
أما على رواية "الديوان"، فقد قال في "اللسان" ٤/ ٢٤١٠ (صدد): (قال ابن برِّي، وصواب إنشاده: (صدود السواقي عن رؤوس المخارم).
و (السواقي): مجاري الماء. و (المَخرِم)، منقطع أنف الجبل. يقول: صدُّوا الناسَ عنهم بالسيف، كما صُدَّت هذه الأنهار عن المخارم، فلم تستطع أن ترتفع إليها). قال الزمخشري -مبينًا الشاهد في البيت-: (والهمزة فيه داخلة على (صد صدودًا)؛ لتنقله من غير التعدِّي إلى التعدِّي). "الكشاف" ٢/ ٣٦٦.
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٨٣ ب، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٥٤، "البحر المحيط" ٣/ ١٤، "فتح القدير" ١/ ٥٥٣.
(٢) منهم: السدي، وقتادة، والربيع. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٢، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧١٧، "فتح القدير" ١/ ٥٥٥.
(٣) قوله في "تهذيب اللغة" ١/ ٣٦٧. وفيه (وبِغْيةً، وبِغًى مصدر). وقد نقله المؤلف عنه بتصرف.
456
ما يطلبه من خير وشر، يَبْغِي، بُغاءً وبِغْيَة) (١).
وقال الفرّاء (٢): العرب تقول: (ابغني كذا)؛ يريدون: ابتغه لي. فإذا أرادوا: ابْتَغ معي، وأَعِنِّي على طلبه، قالوا: (أَبْغِنِي)، ففتحوا الألف، وكذلك يقولون: (أُحْلُبْنِي وأَحْلِبني) (٣)، و (احْمِلْنِي وأَحْمِلْنِي)، و (اعْكُمْنِي وأَعْكِمْنِي) (٤)، على هذا القياس.
و (العِوَجُ) (٥) بكسر العين، في الأَمْرِ، وفي الدين والقول: المَيْلُ عن الاستواء في الطريق، وفي كلِّ ما لا يُرى. وكلُّ قائمٍ مُنْتصِبٍ يُرَى عَوَجُهُ، يقال: (فيه عَوَج)، بالفتح؛ كالحائط، والقَنَاة (٦)، والشجرة.
يقال: (عَوِجَ الشيءُ، يَعوَجُ، عَوَجًا)، فهو (أَعْوَجُ) لكل ما يُرى،
(١) ويقال: (بِغْيَة، وبُغْيَة، وبَغَى، وبُغايَة). انظر: "اللسان" ١/ ٣٢١ - ٣٢٢ (بغا).
(٢) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٢٧. نقله عنه بتصرف واختصار.
(٣) فسَّرها الفراء في سوقه لهذا القول فقال: (فقوله: احلبني؛ يريد: احلب لي، أي: اكفني الحَلَب. وأحلِبني: أعني عليه. وأتبعها قائلا: (وبقيته مثل هذا). أي: بقية الكلمات التي ذكرها. "معاني القرآن" ١/ ٢٢٨. وانظر: "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٤٧.
(٤) في (ب)، (ج): (واعلمني، وأعلمني). وقوله: اعكُمني -بضم الكاف-، ويجوز بسكرها. يقال: (عَكَم المتاعَ، يعْكِمُه عَكْمًا): وهو أن يبسط ثوبًا ويجعل فيه المتاعَ، ويشدَّه، ويسمى بعدها: (العِكْمُ)، والجمع: (أعكام) و (عُكوم). انظر: (عكم) في "المجمل" ٦٢٣، "اللسان" ٥/ ٣٠٦٠ - ٣٠٦١.
(٥) من قوله: (العوج..) إلى (فهو أعوج لكل ما يرى): نقله بتصرف واختصار من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٦٤ - ٢٢٦٥.
(٦) القناة -هنا-: الرمح، وكل عصا مستوية، وقيل: ولو مُعْوَجَّة. انظر: "القاموس" ١٧١٠ (قنى).
457
[و (عِوَجًا)] (١) لما لا يرى.
وأما المعنى، فقال ابن الأنباري (٢): قوله تعالى: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾، (البَغْيُ): يُقتَصَرُ (٣) له على مفعول واحد، إذا لم يكن معه اللَّام، كقولك: (بَغَيْتُ المالَ والأجرَ والثوابَ). [وأريد ههنا] (٤): تَبغون لها عِوَجًا. فلما سقطت اللّامُ، عمل الفعلُ فيما بعدها، كما قالوا: (وَهَبْتُك (٥) درهمًا)، وأصله: وهبت (٦) لك درهما، ومثله: (صدْتُكَ ظَبْيًا)، يعنون: صدْتُ لك. وكذلك: (جئْتُكَ)، كما قد (٧) (وَرَّثْتُكَ من المال جملة)، وأنشد:
فَتَولَّى غلامُهم ثُمّ نادَى (٨) [أَظَلِيمًا أَصِيدُكُم] (٩) أم حِمَارا (١٠)
(١) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). وفي (ب): وهوجًا. والمثبت من: (ج). وهذه الكلمة ليست في "تهذيب اللغة" وإنما فيه: (والأنثى: عوجاء).
وقيل: إن الكسر يقال في الأمرين: الأجسام المرئية وغير المرئية، كالرأي والقول. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٩٨، "النهاية" لابن الأثير: ٣/ ٣١٥. "اللسان" ٥/ ٣١٥٤ - ٣١٥٥ (عوج).
ولكن الراغب ذكر أن (العِوَج) -بالكسر- (يقال: فيما يدرك بالفكر والبصيرة كما يكون في أرضٍ بسيطٍ يُعرف تفاوتُه بالبصيرة، والدين والمعاش). انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" ٥٩٢ (عوج).
(٢) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده -كذلك- الفخر الرازي في "تفسيره" ٨/ ١٧٢.
(٣) في (ب): (يقتدر).
(٤) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (وارى أصله). والمثبت من (ج)، و"تفسير الفخر الرازي".
(٥) في (ب): (أوهبتك).
(٦) في (ب): (أوهبتك.)
(٧) (قد): ساقطة من: (ج).
(٨) في (ب): (الذي).
(٩) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (أظبيا صيدكم). والمثبت من (ج).
(١٠) لم أقف على قائله. وقد ورد في "زاد المسير" ١/ ٤٣٠، "تفسير الفخر الرازي" ٨/ ١٧٢، "مغني اللبيب" ٢٩١، "شرح شواهد المغني" ٥٩٦، "الدر المصون" للسمين الحلبي: ٣/ ٤٢٦. (الظَّليم): ذَكَرُ النَّعَام.
458
أراد: أصيد لكم.
والهاء في قوله: ﴿تَبْغُونَهَا﴾ عائدةٌ على السبيل؛ لأن السبيلَ يُؤَنَّثُ ويُذَكَّرُ (١). و (العِوَجُ)، يعنى به: الزَيْغ والتحريف (٢)؛ أي: تَلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشبه التي تُلَبِّسون بها، وتُوهِمون أنها تقدح فيها، وأنها مُعوَجَّة بتناقضها (٣).
ويجوز أن يكون ﴿عِوَجًا﴾ في موضع الحال؛ والمعنى: تبغونها ضالِّين؛ وذلك (٤) أنهم كانوا يَدَّعون أنهم على دين اللهِ وسبيلِه، فقال الله: إنكم تبغون سبيلَ اللهِ ضالِّين عنها. وهذا قول أبي إسحاق (٥)، ذكر ذلك في سورة إبراهيم، عند قوله: ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ (٦). وعلى هذا القول، لا يحتاج إلى إضمار اللّام في ﴿تَبْغُونَهَا﴾.
(١) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٣١٩، "تفسير الطبري" ٤/ ٢٢، "الزاهر" لابن الأنباري: ٢/ ١٠٨، "المذكر والمؤنث" له: ١/ ٣٩٤.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٢.
(٣) فإعراب ﴿عِوَجًا﴾ على هذا القول: مفعول به. انظر: "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٧، "تفسير الطبري" ٤/ ٢٢.
(٤) في (ب): (والمعنى).
(٥) في "معاني القرآن" له: ٣/ ١٥٤.
(٦) [سورة إبراهيم: ٣]. ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾. وفي حالة إعرابها حالًا يكون معنى (تبغون): تتَعدَّوْن. و (البغي): التعدي. انظر: "الدر المصون" ٣/ ٣٢٦، "اللسان" ١/ ٣٢٣.
459
وقال بعض أهل المعاني (١): تأويل (٢) الآية: يطلبون أن يُعْوِجُوا (٣) سبيل الله، وأن يكون فيها عِوَج؛ لأن معنى (سبيل الله): الطريق التي هي الوُصْلَة (٤) إلى رضا الله، فهم يطلبون أن يُعْوِجوا هذا الطريق؛ حتى لا يصل إلى رضا الله من سلكها بدلالة اليهود.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ قال ابن عباس (٥): يريد بها: في التوراة. [قال المفسرون] (٦): يعني: أنتم شُهداء أنَّ في التوراة مكتوبًا أنَّ دينَ اللهِ الذي لا يقبل غيره، هو الإسلام. وهذا معنى قول ابن عباس.
وقال الزجاج (٧): أي: أنتم تشهدون بما قد ثبت في نفوسكم أن أمر النبي - ﷺ - حقٌ.
وقيل (٨): معناه: وأنتم شهداء أن لا يجوز الصَدُّ عن سبيل الله.
١٠٠ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا﴾ الآية.
قال المفسرون: نزلت في الأوس والخزرج، حين أَغْرَى قومٌ من
(١) لم أقف عليهم.
(٢) في (ب): (أصل).
(٣) في (ج): (تطلبون أن تعوجوا).
(٤) في (ب): (الموصلة).
(٥) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده الفخر الرازي في "تفسيره" ٨/ ١٧٢.
(٦) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ) وساقط من: (ب). والمثبت من (ج). وممن قال بهذا: قتادة، والربيع، وابو جعفر الرازي، وقريبًا منه قال مقاتل. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٤، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧١٨، "تفسير مقاتل" ١/ ٢٩٢، "الدر المنثور" ٢/ ١٠٤.
(٧) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٤٧. نقله عنه بنصه.
(٨) لم أقف على القائل. وأورده الفخر الرازي في "تفسيره" ٨/ ١٧٣.
460
اليهود بينهم؛ ليفتنوهم (١) عن دينهم (٢).
(١) في (ب): (ليغشوهم).
(٢) ورد ذلك في روايات عدة تتفق في مضمونها، وأكثرها تفصيلًا، ما أخرجه الطبري في "تفسيره" ٤/ ٢٤ - ٢٥، عن زيد بن أسلم، وخلاصتها: أن شاس بن قيس اليهودي -وكان عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين والحسد لهم، وقد كبر في الجاهلية وأسَنَّ -مرَّ يومًا على نفر من المسلمين- من الأوس والخزرج-، فغاظه ما رآهم عليه من الألفة وصلاح ذات البين، فأوعز إلى شاب من اليهود أن يجلس بينهم، ويُذَكِّرهم يوم بُعاث - وقد اقتتل فيه الأوس والخزرج في الجاهلية، وكان الظفر فيه للأوس، وما كان قبله من معارك بين الحيِّيْنِ، وينشدهم بعض ما قالوا فيه من أشعار، ففعل الشاب، فتنازع الحيَّان، ووثب كلٌّ مِن أوْس بن قيظى، من الأوس، وجبَّار بن صخر من الخزرج، فتقاولا، وغضب الفريقان، وأخذتهم حميَّةُ الجاهلية، ورَبَا الأمرُ بينهم وتداعوا إلى حمل السلاح وتواعدوا للقتال، وخرجوا إلى ظاهر المدينة، وانحاز الأوس إلى بعضهم، وكذلك الخزرج، فبلغ ذلك رسول الله - ﷺ -، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، ووعظهم، فعرف القوم أنها نَزْغةٌ من الشيطان، وكَيْدٌ من عدوهم، فألقوا السلاح، وبكوا، وتعانقوا، وانصرفوا مع الرسول - ﷺ - سامعين مطيعين، فأنزل الله قوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
وانظر: "سيرة ابن هشام" ٢/ ١٨٣ - ١٨٤، "أسباب النزول" للواحدي: ١١٩ - ١٢٠، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٨٣ - ب، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٠٢ - ١٠٣ وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر، وأبي الشيخ. وأورده السيوطي في لباب النقول: ٥٥. وقد روى الواحدي بسنده إلى عكرمة نحو هذه الحادثة مع الاختصار. انظر: "أسباب النزول" له: (١٢٠)، وأوردها عنه -كذلك- السيوطي في "الدر" ٢/ ١٠٣ ونسب إخراجها لابن المنذر.
كما ورد عن ابن عباس ومجاهد نحو ذلك. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢٨، "تفسير الطبري" ٤/ ٢٤ - ٢٥، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧١٩، "مجمع الزوائد" ٦/ ٣٢٦، "الدر المنثور" ٢/ ١٠٣.
461
١٠١ - وقوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ هذا خطاب للمسلمين (١)، من الأوس والخزرج، في قول ابن عباس، وأكثر المفسرين (٢).
﴿وَكَيْفَ﴾ ههنا [استفهام في معنى] (٣) التعجب، وإنِّما [تَضَمَّنَت صيغةُ الاستفهام معنى] (٤) التعجب؛ لأنها طلبٌ للجواب عَمَّا حَمَلَ على الفساد مما لا يصح فيه اعتذار.
قال الزجاج (٥): أي: على أي حال يقع منكم الكفر، وآياتُ الله التي تدل على توحيده ونُبُوَّة نَبِيِّه (٦) محمد - ﷺ - تتلى عليكم.
وقوله تعالى: ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُه﴾ قال الزجاج (٧): جائزٌ أن يقال: [فيكم رسوله، والنبي - ﷺ - شاهد، وهذا مختصٌّ بأيَّامه. وجائزٌ أن يقال لنا] (٨) الآن: فيكم رسول الله؛ لأن آثاره، ومعجزته القرآن الذي أتى به، فِينا. فعلى هذا، كونُه فينا، لا يختص بزمان دون زمان.
(١) في (ب): (للمؤمنين).
(٢) انظر قول ابن عباس في "تفسير الطبري" ٤/ ٢٤ - ٢٥، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧١٩. وانظر أقوال بقية المفسرين في المصادر السابقة.
(٣) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). وفي (ب): (استفهام بمعنى)، والمثبت من (ج).
(٤) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (تضمنت كيف الاستفهام ومعنى). والمثبت من: (ج).
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٤٨. نقله عنه بتصرف.
(٦) (نبيه): ساقطة من: (ب).
(٧) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٤٨. نقله عنه بتصرف.
(٨) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
وقال الحسن (١): نزلت الآية في مشركي العرب.
وقوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ خطاب لهم، وهو توبيخٌ لهم على الكفر بعد نصب الحُجَّةِ، وبعثة الرسول.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ﴾ الاعتصام في اللغة: الاستمساك بالشيء، وأَصله مِن: (العِصمة). و (العِصْمَةُ): المَنْع في كلام العَرب. و (العاصِمُ): المانع. و (اعتصم فلانٌ بالشيء): إذا امتنع به (٢).
قال ابن عباس (٣) في قوله: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ﴾، يريد (٤): يمتنع بسبيل الله. وقال الزجاج (٥): يستمسك بحبل الله.
وقال ابن جريج (٦): ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ﴾؛ أي: يؤمن بالله.
١٠٢ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ قد ذكرنا ما في (التُقاة) عند قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨].
ومعنى ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، هو: أنْ يُطاعَ فلا يُعصى، ويذكَرَ فلا يُنْسى، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَر. وهذا يروى عن عبد الله مرفوعًا، ورُوي موقوفًا عليه (٧).
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) (العِصْمة) الاسم. أما المصدر، فهو: (العَصْمُ). واعتصم، قد يتعدّى بالباء، فيقال: (اعتصمت به)، وهي الأفصح، وقد يقال: (اعتصمته). انظر مادة (عصم) في "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة: ١٠٨، "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢٢٨، "تفسير الطبري" ٤/ ٢٦ - ٢٧، "الزاهر" ١/ ٥٧٩، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: ٥٦٩، "اللسان" ٥/ ٢٩٧٦.
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) من قوله: (يريد..) إلى (ومن يعتصم بالله): ساقط من: (ج).
(٥) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٤٨. نقله عنه بنصه.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٢٦، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٢٠، "تفسير البغوي" ٢/ ٧٧، "الدر المنثور" ٢/ ١٠٤ وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر.
(٧) أكثر الذين رووا الأثر عن عبد الله بن مسعود، رووه موقوفًا. انظر: "الزهد" لابن المبارك ٨، "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ٢٦٥، "تفسير سفيان الثوري" ٧٩، "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٢٩، "تفسير الطبري" ٤/ ٢٧ "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٢٢، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ص ٨٤ - ٨٥، "المعجم الكبير" للطبراني ٩/ ٩٣ رقم (٨٥٠١)، "المستدرك" للحاكم ٢/ ٢٩٤، وقال: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي.
وأورد البغويُّ طرفا منه -موقوفًا- في "تفسيره" ٢/ ٧٧، وأورده ابن كثير ١/ ٤١٦ من رواية ابن أبي حاتم موقوفًا، وقال: (وهذا إسناد صحيح موقوف).
وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٠٥ وزاد نسبة إخراجه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه.
أما المرفوع، فقد أخرجه: الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٨٦ أبسنده إلى عبد الله بن مسعود مرفوعًا إلى النبي - ﷺ -.
كما أورده القرطبي ٤/ ١٥٧ مرفوعًا، ونسب إخراجه للبخاري، وهو تصحيف؛ لأن البخاري لم يرو هذا الأثر، والصواب نسبته للنحاس، حيث ورد ذلك في نسخة أخرى لـ "تفسير القرطبي" أشار إليها محقق التفسير.
وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٤٣١، وقال رواه ابن مسعود عن النبي - ﷺ -. وأورده ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٤١٦ مرفوعًا من رواية ابن مردويه، وذكر أن الحاكم رواه مرفوعًا في "المستدرك" -كذلك-، وعَقَّب ابنُ كثير قائلًا: (والأظهر أنه موقوف. والله أعلم).
وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٠٥ ونسب إخراجه للحاكم، وابن مردويه. ولم أقف على المرفوع في مستدرك الحاكم.
وورد من رواية ابن عباس، أخرجها البيهقي في كتاب "الزهد الكبير" ٣٤٤ رقم (٨٧٣).
463
واختلفوا في هذه الآية: فقال ابن عباس في رواية الوالِبي (١): لَمْ تُنسَخ هذه الآيةُ، ولكن ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾: أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا
(١) هذه الرواية، في "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد: ٢٦٠، "تفسير الطبري" ٤/ ٢٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٢٢، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس: (٨٥) "الدر المنثور" ٢/ ١٠٦ وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر.
464
تأخذهم (١) في الله لومةُ لائم، ويقوموا (٢) بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم (٣).
واختار الزجاج هذا الوجه، وهو أن الآية مُحكَمَةٌ غير منسوخة؛ لأنه قال (٤) في قوله: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾: أي: اتَّقُوهُ فيما يحقُّ عليكم أن تتَّقُوهُ فيه.
وقال (٥) في رواية عطاء (٦): هذا منسوخٌ؛ لانهم قالوا: يا رسولَ الله! وما حَقُّ تُقاتِهِ؟ قال: "يُذكر فلا ينسى، ويُطاع فلا يُعصى" قالوا: ومَن يَقوَى على هذا؟ وشَقَّ (٧) عليهم؛ فأنزل الله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦].
وإلى هذا القول، ذهب: قتادة (٨) والرَّبِيع (٩) والسُّدِّي (١٠) وابن
(١) في (ج): (يأخذهم).
(٢) في (ب): (ويفرحوا).
(٣) ورد في الأثر عند أبي عبيد، والطبري، وابن أبي حاتم، زيادة في آخره: (وأبنائهم). ولا توجد لفظة (أنفسهم) عند النحاس. وفي "الدر": (وأمهاتهم) بدلًا من: (أبنائهم).
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٤٨. نقله بنصه.
(٥) أي: ابن عباس.
(٦) لم أقف على مصدر هذه الرواية. ولكن ورد عن ابن عباس بنحوه، أخرجه ابن مردويه، كما ورد عنه من طريق عكرمة، أخرجه عبد بن حميد. انظر: "الدر المنثور" ٢/ ١٠٦.
(٧) في (ب): (وحتى).
(٨) قوله في كتاب "الناسخ والمنسوخ" له: ٣٨، "تفسير الطبري" ٤/ ٢٩، ٢٨/ ٢٢٧، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٢٢ "الناسخ والمنسوخ" للنحاس: (٨٥)، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٠٥، ونسب إخراجه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأبي داود في ناسخه.
(٩) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٢٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٢٢.
(١٠) قوله في المصادر السابقة.
465
زيد (١)، وقال مقاتل (٢): ليس (٣) في آل عمران من المنسوخ إلا هذا (٤).
(١) قوله في "الطبري" ٤/ ٢٩، "زاد المسير" ١/ ٤٣٢، "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٤٦.
(٢) لم أقف على نص قوله هذا في تفسيره، وقد أورده الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٨٦ أ. وقد نص مقاتل في تفسيره على نسخها بآية التغابن. انظر: "تفسيره" ١/ ٢٩٢.
(٣) في (ب): (آيتين). بدلًا من: (ليس).
(٤) ممن قال بنسخها من الذين كتبوا في النسخ: هبة الله بن سلامة في "الناسخ والمنسوخ" له: ٦٢، ١٨١، وأبو عبد الله محمد بن حزم في "الناسخ والمنسوخ" له: ٣١، والبازري في "ناسخ القرآن ومنسوخه" له: ٢٨، وعبد القاهر البغدادي في "الناسخ والمنسوخ" له: ٩٢. والكرمي في "قلائد المرجان" ٨١.
ولكن ذهب آخرون إلى إحكام هذه الآية وعدم نسخها -وهو الراجح-؛ لأنه لا تعارض بين الآيتين؛ حيث إن آية سورة التغابن من قبيل المفسِّر والمبيِّن للمُبْهَم الوارد في آية سورة آل عمران؛ وذلك أنَّ (حقّ تُقاته) إنما هو بقدر الاستطاعة؛ لأنه ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ -٢٨٦ البقرة-، فمعنى الآية: أن نتَّقي اللهَ حقَّ تقاته، ما استطعنا، وُيبَين النَّحاسُ هذا بقوله:
(محال أن يقع في هذا ناسخ ولا منسوخ، إلا على حيلة؛ وذلك أن معنى (نسخ الشيء): إزالته بضدِّه، فمحال أن يقال: ﴿اتَّقُوا اللهَ﴾ منسوخ، ولا سيما مع قول رسول الله - ﷺ -، مما فيه بيان الآية) ثم ذكر رواية معاذ بن جبل عن رسول الله - ﷺ -: (قال لي رسول الله - ﷺ -: (يا معاذ أتدري ما حق الله -عز وجل- على العباد؟) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (أن يعبدوه، فلا يشركوا به شيئًا). أفلا ترى أنه محال أن يقع في هذا نسخ؟).
ثم ذكر رواية ابن عباس من طريق الوالبي التي أوردها المؤلف سابقًا، وقال: (فكل ما ذكر في الآية، واجب على المسلمين أن يستعملوه، ولا يقع فيه نسخ. وهذا هو قول النبي - ﷺ -: أن تعبدوه لا تشركوا به شيئًا، وكذا على المسلمين، كما قال ابن مسعود: أن تطيعوه فلا تعصوه، وتذكروه فلا تنسوه، وتشكروه ولا تكفروه، وأن تجاهدوا فيه حق جهاده فأما قول قتادة -مع محله من العلم-: إنها نسخت.=
466
........................
= فيجوز أن يكون معناه نزلت ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ بنسخ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، وأنها مثلها؛ لأنه لا يُكلَّفُ أحدٌ إلا طاقته). "الناسخ والمنسوخ" له: ٢٨٢ - ٢٨٤. وقال مكي بن أبي طالب -مؤكدًا القول بإحكام الآية وعدم نسخها-:
(وهذا القول حسن؛ لأن معنى ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾: اتَّقوه بغاية الطاقة، فهو قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ إذ لا جائز أن يكلِّفَ اللهُ أحدًا ما لا يطيق، وتقوى الله بغاية الطاقة واجب فرض لا يجوز نسخه؛ لأن في نسخه إجاة التقصير من الطاقة في التقوى، وهذا لا يجوز). "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ١٧١. ويؤكد هذا ما ورد عن طاوس بن كيسان في تفسير هذه الآية، وهو قوله: (وهو أن يُطاع فلا يُعصَى، فإن لم تفعلوا، ولن تستطيعوا، ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، قال: على الإسلام، وعلى حرمة الإسلام). أخرجه الطبري في "تفسيره" ٤/ ٣٠، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٧٢٣ واللفظ له.
ويرجح هذا المعنى: أن معنى النسخ عند السلف أعم وأشمل من المعنى الإصطلاحي، وهو: (رفع حكم شرعي متقدم بدليل شرعي متأخر عنه)، بل يشمله ويشمل غيره، وقد بين الشاطبي هذا الأمر فقال:
(الذي يظهر من كلام المتقدمين، أن النسخ عندهم في الإطلاق، أعم منه في كلام الأصولين: فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخًا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل متأخر نسخا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الإصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد: ما جيء به آخرًا، فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به). الموافقات: ٣/ ١٠٨.
وبمثله قال ابن القيم في إعلام الموقعين: ١/ ٣٥.
وممن رجح كون الآية محكمة غير منسوخة، وأن المراد بها هو: تقوى الله قدر الاستطاعة: الطبري في "تفسيره" ٤/ ٢٩، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٤٦، وابن الجوزي في المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم "الناسخ والمنسوخ" ١٢٢، والكيا الهراسي في "أحكام القرآن" ١/ ٢٩٨، والفخر الرازي في "تفسيره" ٨/ ١٦٧. ومن المعاصرين: د. مصطفى زيد في "النسخ في القرآن" ٢/ ٦١٤ - ٦١٥.
467
وقوله تعالى: ﴿ولَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ لفظ (١) النَّهْي واقعٌ على الموت، والمعنى واقعٌ على الأمر بالإقامة (٢) على الإسلام.
المعنى: كونوا على الإسلام فإذا أورد (٣) عليكم الموت، صادفكم على ذلك (٤).
وقال بعض أهل المعاني (٥): هذا في الحقيقة، نَهْيٌ عن ترك الإسلام؛ المعنى: لا تتركوا الإسلام فإن الموت لابد منه، فمتى (٦) صادفكم، [صادفكم] (٧) عليه، إلّا أنه وضع كلامًا موضع كلام؛ لِحُسْنِ الاستعارة؛ لأنه لَمَّا كان يمكنهم الثبات على الإسلام، حتى إذا أتاهم الموت، لاقاهم وهم على الإسلام، صار الموت على الإسلام، بمنزلة ما (٨) قد [دَخَلَ] (٩) في إمكانهم. وقد مضى الكلام في هذا عند قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّين﴾ [البقرة: ١٣٢]، الآية.
(١) من قوله: (لفظ..) إلى (صادفكم على ذلك): نقله -بنصه- عن: "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٤٩.
(٢) في (ب): (والإقامة).
(٣) في (ب): (اود). وفي "معاني القرآن": (ورد).
(٤) في (ب): (الإسلام): بدلًا من (ذلك).
(٥) لم أقف عليهم. وقد نقل هذا القول، بتصرف: الفخر الرازي في "تفسيره" ٨/ ١٧٧. ونقله -بنصه- الخازن في "تفسيره" ١/ ٣٢٨ دون أن ينسباه لقائل.
(٦) في (ب): (التي).
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). و"تفسير الفخر الرازي"، و"تفسير الخازن".
(٨) في (ب): (من).
(٩) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب)، (ج): (دخله). ولكن لم أر لها وجهًا، وأثبتُّها من تفسير الفخر الرازي، وتفسير الخازن.
468
١٠٣ - وقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾. الآية. ذكرنا معنى (الاعتصام) (١). وأما (الحَبْل)؛ فقال أبو عبيد (٢): أصل الحَبْل في كلام العرب، ينصرف على وجوهٍ منها: (العَهْدُ) وهو الأمان (٣)، وذلك أن العرب كانت تخفيف بعضها بعضًا في الجاهلية، فكان (٤) الرجل إذا أراد سفرًا أخذ عهدًا مِن (٥) سيِّد القبيلة (٦)، فَيَأمَن به ما دام في تلك القبيلة، حتى ينتهي إلى الأخرى، فيأخذ مثلَ ذلك أيضًا، يريد به الأمان. وربما أعطاه حَبْلًا أو سَهْمًا (٧).
و (٨) هذا المعنى ذَكَرَهُ الأعشى في قوله يذكر مَسِيرا له (٩):
وإذا تُجَوِّزُها حِبَالُ قَبِيلةٍ أَخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إليكَ حِبَالَها (١٠)
(١) عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ﴾. الآية: ١٠١ من هذه السورة.
(٢) في "غريب الحديث" له: ٢/ ٢١٩ نقله عنه بتصرف. وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٧٣٠ (حبل).
(٣) انظر: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" لليزيدي: ١٢١ - ١٢٢.
(٤) في (ج): (وكان).
(٥) في (ب): (على).
(٦) في (ب)، (ج): (القبيل).
(٧) في (ب): (أن سهل). بدلًا من: (حبلًا أو سهامًا). وقوله: (وربما أو سهما): غير موجودة في "غريب الحديث". وقال السمين الحلبي معلقًا على هذا القول: (وهذا معنى غير طائل، بل سُمِّي العهد حبلًا للتوصل به إلى الغرض). "الدر المصون" ٣/ ٣٣٢.
(٨) في (ب): (في).
(٩) في "غريب الحديث": (يذكر مسيرًا له، وأنه كان يأخذ الأمان من قبيلة إلى قبيلة، فقال لرجل يمتدحه) وذَكَرَ البيتَ.
(١٠) البيت، في ديوانه: (١٥١). كما ورد منسوبًا له، في "غريب الحديث" لأبي عبيد:=
469
قال أبو عبيد: (١) فالاعتصام بحبل الله؛ هو: ترك الفرقة، واتباعُ القرآن؛ لأن المؤمن إذا اتبع القرآن، أَمِنَ العذابَ (٢)، كما أن الآخذ [عهد] (٣) سيِّد القبيلة يأمَنُ به.
قال ابن الأنباري (٤): لمَّا ذَكَرَ اللهُ عز وجل الاعتصامَ، ذكر الحبلَ، إذ كان العهد في التمسك به والتوصل، يجري مجرى الحبل، فأقامه الله تعالى مقامه، وأجراه مُجراهُ، ولم تزل العربُ تُشَبِّهُ العهودَ بالحبالِ.
قال الشاعر:
= ٢/ ٢١٩، "تأويل مشكل القرآن" ٤٦٥، "المعاني الكبير" ١١٢٠، "تفسير الطبري" ٤/ ٣٠، "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٥٠، "الزاهر" ٢/ ٣٠٧، "تهذيب اللغة" ١/ ٧٣٠ (حبل)، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٤٥٣، "مقاييس اللغة" ٢/ ١٣١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٨٦ ب، "المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" لأبي موسى المديني: ١/ ٣٩٤، "اللسان" ٢/ ٧٦٠ (حبل)، "التاج" ١٤/ ١٣٤ (حبل)، وغيرها. وورد غير منسوب في الموضع في " التفسير" ٣٨.
وروايته في الديوان: (فإذا تجوزها..)، وعند الزجاج: (وإذا أجوز بها..). وهذا بيت من قصيدة يمدح فيها الشاعر قيس بن معد يكرب، ويقول فيها مخاطبًا له، وذاكرًا ناقته -أي: ناقة الشاعر-: إنها -وهي تمر في أراضي القبائل، قاصدةً إليك-، لا يُسَوِّغ لها هذا المرور، ولا يُسَهِّل لها قطعَ هذه الطرق، إلا ما تأخذه من عهود الأمان من هذه القبائل، وهكذا من قبيلة إلى قبيلة حتى تصل إليك. انظر: "المعاني الكبير" ١١٢٠، "المقاييس" ٢/ ١٣١.
(١) في "غريب الحديث" له ٢/ ٢١٩. نقله عنه بالمعنى.
(٢) في (ب): (العرب).
(٣) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). وفي (ب): (عن). والمثبت من (ج).
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
470
مازلتُ معتَصِمًا بِحَبْلٍ منكُمُ مَن حَلَّ ساحَتَكم بأسبابٍ نَجَا (١)
أي: بعهد وذِمَّةٍ.
فَسُمَي عهدُ الله حبلًا؛ لأنه سبب النجاة، كالحبل الذي يُتمسك به للنجاة من [سبي] (٢). ونحوها (٣).
قال ابن عباس (٤): أي: تمسكوا بدين الله (٥). وقال قتادة (٦)، والسدي (٧)، والضحاك (٨): حبل الله، هو: القرآن (٩).
(١) لم أقف على قائله. وقد ورد في مادة (حبل) في "تهذيب اللغة" ١/ ٧٣١، "اللسان" ٢/ ٧٥٩.
(٢) هنا كلمة غير مقروءة في (أ)، (ج). وفي (ب): (شيء)، ولم أر لها وجهًا.
(٣) في (ب): (ونحوهما).
قال ابن الأنباري: (والحبل توقعه العرب على السبب تشبيهًا له بالحبل المعروف والسبب المذكور في القرآن هو الحبل، سمَّاه الله -عز وجل- سببًا؛ لأنه يوصل من تمسك به إلى الأمر الذي يَؤُمُّهُ. وكذلك الأسباب المعروفة هي وُصلات وأسباب تصل شيئًا بشيء..). "الزاهر" ٢/ ٣٠٧، وانظر: "تأويل مشكل القرآن" ٤٦٤ - ٤٦٩، "تفسير الطبري" ٤/ ٣٠.
(٤) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٨٦ ب، "زاد المسير" ١/ ٤٣٣.
(٥) وقد ورد نفى هذا المعنى عن ابن زيد، في "تفسير الطبري" ٤/ ٣٠، "النكت والعيون" ١/ ٤١٤، "زاد المسير" ١/ ٤٣٣.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٣١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٨٦ - ب، "النكت والعيون" ١/ ٤١٣، "زاد المسير" ١/ ٣٣. وفي رواية أخرى عنه، فسره بـ (عهد الله وأمره). انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٣١، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٢٤.
(٧) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٣١، والمصادر السابقة.
(٨) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٣١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٨٦ ب.
(٩) ورد عنه - ﷺ - تفسير (حبل الله)، بقوله: (كتاب الله، حبل الله ممدود من السماء إلى الأرض). ورد ذلك من رواية أبي سعيد الخدري، أخرجها: أحمد، في "المسند" =
471
.......................
= ٣/ ١٤، ١٧، ٢٦، ٥٩. والترمذي، في "السنن" ٥/ ٦٦٣ رقم (٣٧٨٨) كتاب المناقب، باب: (مناقب أهل البيت). وأورده من طريقين: الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد. والأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زيد بن أرقم. وقال: (هذا حديث حسن غريب).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٦/ ١٣٤ (٣٠٠٧٢)، والطبري في "تفسيره" ٤/ ٣١، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٨٧ ب، وابن أبي عاصم في "السنة"٦٣٠ (١٥٥٤). وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٩/ ١٦٣ ونسب إخراجه إلى الطبراني في "الأوسط" وقال: (وفي سنده رجال مختلف فيهم)، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٠٧. ومدار سنده عندهم على عطية العوفي، وهو ضعيف، ويخطئ كثيرًا، وكان شيعيًّا مدلِّسًا.
انظر: "ميزان الاعتدال" ٣/ ٤٧٦، "تقريب التهذيب" ٣٩٣ (٤٦١٦).
وورد بلفظ: (إني تارك فيكم كتاب الله، هو حبل الله..)، من رواية يزيد بن حبان، عن زيد بن أرقم. أخرجه: ابن أبي شيبة في "المصنف" ٦/ ١٣٤ (٣٠٠٦٩)، وابن حبان في "صحيحه" ١/ ٣٣٠ - ٣٣١ (١٢٣)، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٨٧ ب.
وورد بنفس السند وبنحو لفظه، إلا أنه ليس فيه تفسيره بأنه حبل الله، وإنما ورد فيه: (وأنا تارك فيكم ثَقَلَيْن: أولهما كتاب الله..). أخرجه:
مسلم في "الصحيح" (٢٤٠٨) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب. وأحمد في "المسند" ٤/ ٣٦٦ - ٣٦٧، وابن أبي عاصم في "السنة" ٦٢٩ (١٥٥١)، والبيهقي في "السنن" ٤/ ٢٠٩٠ (٣٣٥٩)، والدارمي في "السنن" ٢/ ٤٣١ كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل من قرأ القرآن.
ووردت تفسيراتٌ أخرى لـ (حبل الله) عن بعض السلف، منها: أنه: طاعة الله، وقيل: إخلاص التوحيد، وقيل: الجماعة، وقيل: عهد الله.
انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٣١، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٢٣، ٧٢٤.
والاختلاف -هنا- من قبيل اختلاف التّنَوُّع، وليس التَّضاد، فإن من التزم القرآن فقد التزم الإسلام -أصلا-، وبالتالي، فقد أطاع الله، واستقام على عهده، وهو ما عليه جماعة المسلمين.
472
والخطاب في هذه الآية للأوس والخزرج (١).
وقوله تعالى: ﴿جَمِيعًا﴾ منصوب (٢) على الحال؛ المعنى: اعتصموا بحبل الله، مجتمعين على الاعتصام به.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ قال ابن عباس (٣): أي: كما كنتم في الجاهلية مقتتلين على غير دين الله.
وقال قتادة (٤): لا تفرقوا عن دين الله الذي أمر فيه بلزوم الجماعة، والائتلاف على الطاعة.
وقال الزجاج (٥): أي: تناصروا على دين الله، ولا تتفرقوا (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ قال ابن عباس (٧): يريد: دين الإسلام.
﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾ يريد: ما كان بين الأوس والخزرج من الحرب التي (٨) تطاولت عشرين (٩) ومائة سنة، إلى أن ألَّفَ اللهُ عز وجل بين قلوبهم
(١) ويدخل فيه المسلمون عمومًا؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما هو مقرر فى أصول هذا الفن.
(٢) من قوله: (منصوب..) إلى (الاعتصام به): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٥٠.
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٣٢ بنحوه، "النكت والعيون" ١/ ٤١٤.
(٥) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٥٠ نقله عنه بنصه. وقد فسره الزجاج بلازمه؛ لأن التناصر من لوازم الوحدة وعدم التفرق.
(٦) (ولا تتفرقوا): غير موجودة في "معاني القرآن".
(٧) لم أقف على مصدر قوله.
(٨) في (ج): (الذي).
(٩) في (ج): (عشرون).
473
بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد، وصاروا إخوانًا في الإسلام، مُتَوادِّينَ على ذلك (١).
قال الزجاج (٢): وأصل (الأخ) في اللغة [مِن] (٣) [(التَّوَخِّي)، وهو] (٤): الطَّلَبُ. فالأخ [مقصده مقصد] (٥) أخيهِ، وكذلك هو في الصداقة: أن تكون إرادةُ كلِّ واحدٍ من الأَخَوَيْنِ موافقةً (٦) لِمَا يُريد صاحِبُه (٧).
(١) انظر حول ذلك: "تفسير الطبري" ٤/ ٣٣، "الكامل" لابن الأثير ١/ ٤٠٢ - ٤٢٠.
(٢) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٥١. نقله عنه بتصرف.
(٣) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). ولكنه بعد التمعن والتدقيق قد يقرأ (من) كما
أثبتُه. وقد وجدته كذلك في تفسير الفخر الرازي: ٨/ ١٧٩؛ حيث نقل عبارة
الزجاج كما هي عند المؤلف- هنا-.
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
وقوله: (من التوخي، وهو الطلب) ليس في "معاني القرآن" وإنما حكى المؤلف المعنى، ونصها عند الزجاج -في آخر كلامه-، كالتالي: (والعرب تقول: (فلان يَتَوَخَّى مَسَارَّ فلانٍ)؛ أي: يقصد ما يسره).
(٥) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (مقصد فمقصد). والمثبت من (ج).
(٦) في (ج): (مفارقة).
(٧) قال الأزهري: (وأصله من: (وَخَى، يَخِي): إذا قصد. فقلبت الواو همزة). "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٨ (أخو). ونقل عن أبي عمرو: (وَخى فلان يَخي وخيْا: إذا توجه لأمر). المصدر السابق: ٤/ ٣٨٥٦ (وخى). وانظر: "معجم مقاييس اللغة" ٦/ ٩٥ (وخى)، ١/ ٧٠ (أخو). وجمع (أخ): (أخُون، وإخْوان، وإخْوَة، وأخْوَة، وآخاء). ويرى سيبويه أن (إخوة) اسم جمع. انظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ٦٢٥، "الصحاح" ٦/ ٢٢٦٤ (أخا)، "اللسان" ١/ ٤٠ (أخا).
474
قال أبو حاتم (١): قال أهل البصرة: (الإخوَةُ؛ في النَّسَبِ، و (الإخوان)؛ في الصَّداقة. قال: وهذا غلط (٢). يقال (٣) للأصدقاء، و [الأنسباء] (٤): (إخوةٌ) و (إخوانٌ). قال الله سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]، ولم يعْنِ (٥) النَّسَبَ.
وقال عز وجل: ﴿أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ﴾ [النور: ٦١]، وهذا في النَّسَبِ. وقوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ (شَفَا الشيءِ): حَرْفُهُ، مقصورٌ (٦)، مثل: شَفَا البئر. والجمع: (الأشفاء). ويقال لِمَا بين الليل والنهار، عِند غُروب الشَّمس، إذا غاب بعضها: (شَفَا).
قال الراجز:
أدركتُهُ قَبْلَ شَفًا أو بِشَفَا والشمسُ (٧) قدكادت تَكُونُ دَنَفَا (٨).
(١) قوله في "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٨ (أخ)، نقله باختصار وتصرف يسير. وقد تقدمت ترجمته.
(٢) في "التهذيب"، وهذا خطأ وتخليط.
(٣) في (ج): (فقال).
(٤) ما بين المعقوفين: مطموس في (أ). وفي "تهذيب اللغة" وغير الأصدقاء. والمثبت من (ب)، (ج).
(٥) في (ب): (يقل).
(٦) في (ج): (مقصورة).
(٧) في (ج): (فالشمس).
(٨) البيت، للعجاج، وهو في ديوانه (تح: د. عزة حسن): ٤٩٣. كما ورد في "مجاز القرآن" ١/ ٣٨٨، "العين" ٦/ ٢٨٨، ٨/ ٤٨، "غريب الحديث" لأبي عبيد: ٢/ ٤٢٧، "إصلاح المنطق" ٤٠٩، "الجمهرة" ٢٧٤، ٦٧٩، "الخصائص" ٢/ ١١٩، "المخصص" ٩/ ٢٥، ١٧/ ٣١، "المقاييس" ٢/ ٣٠٤، "اللسان" ٣/ ١٤٣٢ - ١٤٣٣ (دنف)، ١٤/ ٤٣٧ (شفى). =
475
ومِن هذا، يقال: (أشفى على الشيء): إذا أشرف عليه؛ كأنه بلغ شَفَاهُ؛ أي: حَدَّهُ وَحَرْفَه (١).
قال ابن عباس (٢): يريد: لو مُتُّمْ على ما كنتم عليه في الجاهلية، لكنتم من أهل النار.
وقوله تعالى: ﴿فَأَنْقَذَكُمْ﴾ قال الأزهري (٣): يقال: (نَقَذْتُهُ)، و (أنقَذتُه)، و (استَنْقذتُه)، و (تَنَقّذتُه)؛ أي: خلَّصته ونجَّيته. ومنه يقال (٤):
= وورد في الديوان: (أشرفته قبل شفا). وفي "إصلاح المنطق"، "المخصص"، "اللسان": (أشرفته بلا شفى).
وقال في "اللسان" -في تفسير البيت-: (بلا شفى)؛ أي: وقد غابت الشمس، (أو بشفى)؛ أي: وقد بقيت منها بقية) ٤/ ٢٢٩٤ (شفى).
يقال: (شَفَت الشمسُ، تشفو، وتشفي)، و (شفيت شَفًى)، فالكلمة واوية ويائية. انظر المصدر السابق: ٤/ ٢٢٩٤ (شفى).
و (الدَّنَف): هو المرض اللازم، وقيل: مطلق المرض. ويقال: (رجلٌ دَنَفٌ، ودنِف، ومُدْنَف، ومدْنِف)؛ أي: براه المرضُ حتى أشفى على الموت. ويقال: (دِنفَت الشمس وأدْنَفَت): إذا دنت للمغيب أو أصفَّرَتْ.
وأراد في البيت: مداناة الشمس للغروب، فكأنها حينئذ كالشخص الدَّنِفِ، وهو استعارة انظر: "اللسان" ٣/ ١٤٣٢ - ١٤٣٣ (دنف).
(١) انظر المعاني السابقة في مادة (شفا)، في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٠٢، "تفسير الطبري" ٤/ ٣٦ - ٣٧، "المخصص" ٩/ ٢٥، "اللسان" ٤/ ٢٢٩٤ - ٢٢٩٥.
(٢) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد بنحوه عن السدي، في "تفسير الطبري" ٤/ ٣٨، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٢٦.
(٣) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٤٦٤٣ (نقذ). نقله عنه بنصه.
(٤) هذا قول أبي عبيد، كما في المصدر السابق: ٤/ ٤٦٤٣ (نقذ).
476
(النقائِذ)، للخيل التي (١) تُنُقِّذَت مِن أيدي الناس (٢) وقوله تعالى: ﴿مِنْهَا﴾.
الكناية (٣) راجعةٌ إلى النار، لا إلى الشَّفا؛ لأن القصد: الإنجاء مِن النَّارِ لا مِن شَفَا الحفرة. هذا قول الزجاج (٤).
وقال غيره (٥): الكِناية تعود إلى الحفرة، فإذا أنقذهم الله من الحفرة، فقد أنقذهم من شَفَاها؛ لأن شفاها منها. على أنه يجوز أن يُذكَر المضافُ، والمضافُ إليه، ثم تعود الكنايةُ إلى المضاف إليه دون المضاف، فذكر الشفا، وعادت الكناية إلى الحفرة. كقول (٦) جرير:
[أَرَى مَرَّ] (٧) السِّنِين أَخَذْنَ مِني كما أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ (٨)
(١) في (ب): (الذي)
(٢) قال ابن دريد: (وكل شيء استرجعته من عدوك من بعير أو فرس، فهو: (نقِيذ)، والجمع: (نقائذ). "الجمهرة" ٧٠٠.
(٣) أي: الضمير.
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٥١. وهو معنى قوله.
(٥) ممن قال بذلك: أبو عبيد، في "مجاز القرآن" ١/ ٩٨، والطبري، في "تفسيره" ٤/ ٣٧ - ٣٨.
(٦) من قوله: (كقول..) إلى (وكذلك شفا الحفرة): ساقط من: (ب).
(٧) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ج)، ومصادر البيت.
(٨) البيت في ديوانه: ٣٤١. وقد ورد منسوبًا له، في "مجاز القرآن" ١/ ٩٨، ٢/ ٨٣، "الكامل" للمبرد: ٢/ ١٤١، "تفسير الطبري" ٤/ ٣٧، "الأصول في النحو" ٣/ ٤٧٨، "البحر المحيط" ٣/ ١٩، "الدر المصون" ٣/ ٣٣٧، "الدر اللوامع" ١/ ٢٠.
وورد غير منسوب، في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٧، "المقتضب" ٤/ ٢٠٠، "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٤٩، "الصاحبي" ٤٢٣، "اللسان" ٢/ ١١٨٧ (خضع)، "همع الهوامع" ١/ ٤٧. =
477
فَذَكَرَ (مَرَّ السِّنِين)، ثم أخبر عن السنين.
وكذلك قول العَجَّاج:
طُولُ اللَّيالي أسرعت في نَقْضِي طَوَيْنَ طُولِي وطَوَيْنَ عَرْضِي (١)
= وروايته في الديوان وأكثر المصادر: (رأت مرَّ السنين..).
والسِّرَارُ: هي آخر ليلة من الشهر. ويقال: (سَرَرُ الشهر، وسَرارُه، وسِراره)، وهو مشتق من: (استسر القمرُ)؛ أي: خفي ليلة السرار، وقد يكون ذلك ليلةً، أو ليلتين. انظر: "الصحاح" ٦٨٢ (سرر).
قال الأستاذ محمود شاكر: (وأراد جرير بـ (السرار) -في هذا البيت-: نقصان القمر حتى يبلغ آخر ما يكون هلالًا، حتى يخفى في آخر ليلة، فهذا النقصان هو الذي يأخذ منه ليلة بعد ليلة، أما (السِّرَار) الذي شرحه أصحاب اللغة، فهو ليلة اختفاء القمر، وذلك لا يتفق في معنى هذا البيت). هامش "تفسير الطبري" ٧/ ٨٦ (ط. شاكر).
قال ابن السراج: (فقال (أخَذْنَ)، فردَه إلى السنين، ولم يرده إلى (مَرّ)؛ لأنه لا معنى للسنين إلّا مرُّها). "الأصول في النحو" ٣/ ٤٧٨.
(١) البيت من الرجز، في ملحق ديوانه (بعناية: وليم بن الورد، نشر ليبسك ١٩٠٣ م): ٨٠، مما نسب له.
وقد ورد منسوبًا له، في "كتاب سيبويه" ١/ ٥٣، "مجاز القرآن" ١/ ٩٩، "تفسير الطبري" ٤/ ٣٧، "المخصص" ١٧/ ٧٨.
وقد نسبته بعض المصادر للأغلب العجلي، ومنها: "المُعمِّرون" لأبي حاتم السجستاني (تح: عبد المنعم عامر، ط: البابي الحلبي - مصر ١٩٦١م) ١٠٨، و"الأغاني" ٢١/ ٢٨، "المقاصد النحوية" ٣/ ٣٩٥، "التصريح" للأزهري ٢/ ٣١، "خزانة الأدب" ٤/ ٢٢٤ - ٢٢٦.
وورد غير منسوب، في "البيان والتبيين" للجاحظ: ٤/ ٦٠، وقال فيه: (ورأى معاويةُ هُزالَه وهو مُتَعر، فقال:..) وذَكَرَه. ولا يدلُّ هذا على أنه لمعاوية، بل قد يكون مما استشهد به من حفظه، وورده في "المقتضب" ٤/ ١٩٩، "الخصائص" ٢/ ٤١٨، "الأصول في النحو" ٣/ ٤٨٠، "الصاحبي" ٤٢٣، "مغني اللبيب" ٦٦٦=
478
وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه (١). فإن (مَرَّ السنين)، هو السنون. وكذلك (شَفَا الحفرة). فَذَكَرَ الشَّفَا وعادت الكناية إلى الحفرة (٢).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾ الكاف (٣) في موضع نصب (٤)؛ أي: مِثْلَ البَيَانِ الذي يُتلى عليكم، يُبَيِّنُ اللهُ لكم آياته لعلكم تهتدون؛ أي: لتكونوا على رجاء هدايته.
= (وانظر:"شرح شواهد المغني" ٨٨١)، "منهج السالك" ٢/ ٢٨٤.
وقد ورد برواية: (إن الليالي..) و (أرى الليالي..)، ولا شاهد فيه -هنا- على هاتين الروايتين. وورد: (مرُّ الليالي..).
وورد الشطر الثاني برواية: (نَقَّضن كلِّي ونقضن بعضي)، و (أخَذْنَ بعضي وتَرَكْنَ بعضي). والشاهد فيه: أنه تكلم عن (طول الليالي)، ولكن أخبر عن الليالي، حيث أنَّثَ (أسرعت)، و (طَوَيْنَ) مع أنه يعود على (طول) وهو مذكر؛ وذلك لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه، وهو (الليالي)، وليس الطول شيئًا غيرها، فأخبر عنها، دون الطول.
(١) (إليه): ساقطة من: (ج).
(٢) وذهب أبو حيان إلى عَوْد الضمير على (الشفا)، وعلَّلَ قائلًا: (لأن كينونتهم على الشفا، هو أحد جزئي الإسناد، فالضمير لا يعود إلا عليه، وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها..) ثم أضاف: (وأما ذكر النار فإنما جيء بها لتخصيص الحفرة، وليست -ايضًا- أحد جزئي الإسناد [و] لا محَدّثا عنها، و -أيضًا- فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ منها لا يستلزم الإنقاذ من الشفا، فعَوْدهُ على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى). "البحر المحيط" ٣/ ١٩.
(٣) من قوله: (الكاف) إلى (هدايته): نقله بنصه عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٥١.
(٤) وفي هذه الحالة إما أن تكون نعتًا لمصدر محذوف، أو تكون حالًا؛ أي: (يبيِّن بيانًا مثل ذلك البيان). أو: (يبيِّن لكم تبيينًا مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة). انظر: "الفريد في إعراب القرآن" ١/ ٦١٢، "الدر المصون" ٣/ ٣٣٨.
479
١٠٤ - قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾. الآية. (مِنْ) دخلت لتخص المُخاطَبِين مِن سائر الأجناس، و [ليس المُراد] (١) به التبعيض (٢)، [وهذا] (٣) كما تقول: (لِفُلان من أولادِهِ جُهْدٌ)، و (للأمير مِن غِلْمانِهِ عِدَّةٌ)؛ تريد بذلك: جميعَ أولاد وغلمانه، لا بعضهم. وقد قال الله تعالى (٤): ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ [الحج: ٣٠]، ليس (٥) يأمرهم باجتناب بعضِ الأوثان، ولكن المعنى: اجتنبوا الأوثان، فإنها رِجْسٌ (٦). ومثله من الشعر، قولُ الأعشى (٧):
أخُو رغائِبَ يُعْطِيها ويُسْأَلُها يأبَى الظُّلامَةَ مِنْهُ النّوْفَلُ الزُّفَرُ (٨)
(١) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (ومن يراد). والمثبت من (ج).
(٢) قال المالقي: (وكثيرًا ما تَقْرُب التي للتبعيض من التي لبيان الجنس، حتى لا يُفرق بينهما إلا بمعنى خفي؛ وهو: أن التي للتبعيض تُقَدَّرُ بـ (بعض)، والتي لبيان الجنس تُقدَّر بتخصيص الشيء دون غيره). "رصف المباني" ٣٨٩.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٤) (تعالى): ساقطة من: (ج).
(٥) من قوله: (ليس..) إلى (اجتنبوا الأوثان): ساقط من: (ج).
(٦) ذكر ابن هشام أن بعض العلماء ذهب إلى أن (من) في قوله -تعالى-: ﴿مِنَ اَلأوْثَانِ﴾ للابتداء، والمعنى: فاجتنبوا من الأوثان الرجس؛ أي: عبادتها. وقال -معقِّبًّا على هذا القول-: (وهذا تكلف). "مغني اللبيب" ٤٢٠ - ٤٢١.
(٧) هو: أعشى باهلة، أبو القُحفان، عامر، وقيل: عمر بن الحارث بن رياح الباهلي، من همدان، شاعر جاهلي. انظر: "المزهر" ٢/ ٤٥٧، "الخزانة" ١/ ١٨٧، "الأعلام" ١/ ٢٥٠.
(٨) ورد البيت منسوبًا له في أكثر المصادر التالية: "الأصمعيات" ٩٠، "الكامل" للمبرد: ١/ ٥٧، "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٥٢، "جمهرة أشعار العرب" ص٢٥٥، "الأضداد" لابن الأنباري: ٢٥٢، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٣٧ (نفل)،=
480
وهو النَّوْفَلُ الزُّفَرُ لا بعضه (١).
= "شرح الأبيات المشكلة" ٥٢١، "أمالي المرتضى" ٢/ ٢١، "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: ٢/ ٦٦٥، ٦٦٦، "التنبيه والإيضاح" لابن بري: ٢/ ١٩٢، "زاد المسير" ١/ ٤٣٤، "اللسان" ٣/ ١٨٤٢ (زفر)، ٦/ ٣٧٠١ (قفر)، ٨/ ٤٥١٠ (نفل)، "خزانة الأدب" ١/ ١٨٥، ١٨٦، ١١٩٥ وردت روايته في "الأضداد": (يعطاها) بدلًا من: (يعطيها)، كما وردت روايته كذلك: (ويَسْلُبُها) -بالبناء للمعلوم-، من: (السلب) بدلًا من: (وُيسألُها).
والبيت من قصيدة قالها الشاعر في رثاء أخيه من أمه: المنتشر بن وهب الباهلي. والرغائب: هي العطايا الكثيرة. والمفرد: (رَغِيبة)، وهي: ما يُرغَب فيه من أشياء. والظُّلامَة: هي ما تطلبه عند الظالم، وهي: اسمٌ لما أُخِذَ من الإنسان ظلما. ويقال -كذلك-: (الظليمة)، و (المظلِمة) - بكسر اللام وضمها.
والنوفل: السيد من الرجال الكثير الإعطاء للنوافل، وهي: العطايا. وفي "اللسان" ٨/ ٤٥١٠ (نفل) ينقل عن ابن الأعرابي: (للنوافل: من ينفي عنه الظلم من قومه؛ أي: يدفعه)؛ من (انتفل من الشيء): انتفى وتبرأ منه، و (انتفل)، و (انتفى) بمعنى واحد، كأنه إبدال منه. انظر المرجع السابق.
والزُّفَر: السيد الذي يتحمل بالأموال في الحَمَالات من دَيْن، أو دِيَة، مطيقًا لها. وأصلها من: (ازْدَفَر)؛ أي: حَمَل. والزَّفْرُ: الحَمْل من قولك: (زفَرَ الحِمل، يزفِرُهُ، زفْرا)، و (ازدفَرَهُ) -أيضًا-؛ أي: حمله.
ويقال -كذلك- (زُفَر) للأسد، والجمل الضخم، والرجل الشجاع، والجواد. انظر: (زفر) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٣٨، "اللسان" ٣/ ١٨٤١.
(١) قال ابن الأنباري: (ومستحيل أن تكون (مِن) -ههنا- تبعيضًا، إذ دخلت على ما لا يتبعض، والعرب تقول: قطعت من الثوب قميصًا، وهم لا ينوون أن القميص قطع من بعض الثوب دون بعض، إنما يدُلُّون بـ (مِن) على التجنيس..). "الأضداد" ٢٥٢ - ٢٥٣. وانظر: "التنبيه والإيضاح" لابن بري: ٢/ ١٩٢. وممن ذهب إلى ذلك: الزجاج، في "معاني القرآن" ١/ ٤٥٢، ولكنه جوَّز أن تكون (مِن) في الآية تبعيضية. وممن ذهب إلى أنها لبيان الجنس: النحاس، في "معاني القرآن" ١/ ٤٥٦. وانظر في هذا الموضوع: "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج ٢/ ٦٤٤.=
481
وفيه قول آخر، وهو: إنَّ المراد: تخصيص للعلماء والأمراء، والذين هم أعلامٌ، في الأمر بالمعروف، فهو أمر لجماعة من جملة المسلمين، على الكفاية؛ كأنه قيل: لِيَقُمْ بذلك بعضكم، فأيُّ بعضٍ قام به سقط عن الآخر. ولو كان الأمر للجميع على غير الكفاية لم (١) [تسقط] (٢) الفريضةُ بقيام البعض به (٣).
١٠٥ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ يعني: اليهود والنصارى في قول أكثر المفسرين (٤). ومعنى ﴿تَفَرَّقُوا﴾، أي: بالعداوة
وقوله تعالى: ﴿وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يعني: اختلفوا في الديانة. ولاختلافهم وجوهٌ:
= وممن ذهب -كذلك- إلى أن الأمر في هذه الآية عام لكل الأمة: أبو بكر الجصاص، في "أحكام القرآن" ٢/ ٢٩ - ٣٤، وأطال النفس في بيان ذلك والاستدلال له، وانتصر لهذا الرأي الشيخ محمد عبده، وأسهب في بيان ذلك. انظر: "تفسير المنار" ٤/ ٢٣ وما بعدها.
(١) في (ب): (ثم).
(٢) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (تكون). والمثبت من (ج).
(٣) ممن قال بأن المراد -هنا- بعض الأمة، وهم العلماء: الضحاك، كما في "تفسير الطبري" ٤/ ٣٨، ومقاتل بن حيان، كما في "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٢٦، وبكفائية هذا الفرض قال: الطبري، والماوردي، وأبو يعلى الفراء، والزمخشري، والقرطبي، وأبو حيان، وابن تيمية، وابن كثير، وهو رأي جمهور العلماء.
وانظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي: ٢٤٠، "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى: ٢٨٤، "الكشف" ١/ ٤٥٢، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٦٥، "الحسبة في الإسلام" لابن تيمية ٦، ٢٠، "تفسير ابن كثير" ١/ ٤١٩، "البحر المحيط" ٣/ ٢٠.
قال ابن تيمية: (ويصير فرضَ عَيْن على القادرة إذا لم يقم به غيره). الحسبة: ٦.
(٤) منهم: ابن عباس، الربيع، والحسن، ومقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان، =
482
أحدها: أن اليهود اختلفوا مِن بعد موسى، فصاروا فِرَقًا، والنصارى اختلفوا من بعد عيسى، فصارت (١) فِرَقًا، فأمر الله عز وجل بالاجتماع على كتابه، وأعلَمَ أنَّ التَّفَرُّقَ (٢) فيه، يُفضي بأهله إلى مثل ما أفضى بأهل الكتاب إليه من الكفر.
= والطبري، والزجاج.
انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٩٣، "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٥٣، "تفسير الطبري" ٧/ ٩٢ - ٩٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٢٨، "زاد المسير" ٤٣٥.
وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، قائلًا: قال النبي - ﷺ -: (افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة).
أخرجه: أبو داود كتاب: السنة (٤٥٩٦)، باب شرح السنة، والترمذي (٢٦٤٠) كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال: (حديث حسن صحيح). وابن ماجه (٣٩٩١) كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، وقال عنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: ٢/ ٣٦٤ (حسن صحيح). والحاكم في "المستدرك" ١/ ٦، ١/ ١٢٨، وصححه ووافقه الذهبي. وأخرجه أحمد في "المسند" ٢/ ٣٣٢، وابن حبان في صحيحه "الإحسان" ١٤/ ١٤٠ رقم (٦٢٤٧)، والآجري في الشريعة: ١٥.
وأورده السخاوي في "المقاصد الحسنة" (١٩٠)، وذكره الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم الحديث (٢٠٣).
وورد بنحوه بروايات أخرى فيها زيادات، أخرجها: أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والآجري، والحاكم، كلهم في المواضع السابقة
وانظر: "الدر المنثور" ٢/ ١١٠ - ١١١، "كشف الخفاء" للعجلوني: ١/ ٣٦٩، "الفوائد المجموعة" للشوكاني: ٥٠٢، "فتح القدير" له: ١/ ٥٥٩، "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (٢٠٣، ٢٠٤).
(١) في (ب): (فصاروا).
(٢) في (ب): (التفريق).
483
والثاني: أن المراد بالاختلاف ههنا: اختلاف (١) أهل الكتاب في الإيمان (٢) بمحمد ﷺ (٣): فبعضهم آمَنَ، وبعضهم كفر.
والثالث: أنَّ الاختلاف ههنا: اختلاف اليهود والنصارى، و (٤) كتابهم جميعًا (٥) التوراة، وهم يختلفون، كل فرقة (٦) منهم ليست على شريعة الأخرى.
فإن قيل (٧): إذا (٨) كان الاختلاف في الدِّين مذمومًا منهيًا عنه، فَلِمَ اختلفت هذه الأُمَّةُ في المذاهب والدِّيانات؟.
قلنا: ذاك اختلافٌ في المُجْتَهَدَاتِ، وجميع ذلك مدلولٌ على صحته، فيصير كاختلاف الأحكام المنصوص عليها، مثل: حُكْم المقيم والمسافر، في الصلاة والصيام، ونحو ذلك من الأحكام، في أنَّ كلًّا منها مأذون فيه بالشرع.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ ولم يقل (جاءت)؛ لجوازِ حذفِ علامَةِ التأنيث من الفعل في التقديم؛ تشبيهًا بعلامة التثنية والجمع (٩).
(١) في (ب): (اختلفوا).
(٢) في الإيمان: ساقطة من: (ج).
(٣) في (ج): (عليه السلام).
(٤) في (ب): (في).
(٥) جميعًا: ساقطة من: (ب).
(٦) في (ب): (حرفة).
(٧) فإن قيل: ساقطة من: (ب).
(٨) في (ب): (إذا).
(٩) وقال العكبري: (إنما حذف التاء؛ لأن تأنيث البيِّنةِ غير حقيقي، ولأنها بمعنى الدليل). "التبيان" ص ٢٠٣.
484
وقد فسَّرنا ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ في مواضع (١).
١٠٦ - قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ انتصاب اليوم على الظرف، والعامل فيه معنى قوله: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي: يثبت لهم العذاب يوم تبيض وجوه، و (٢) يعذبون يوم تبيض وجوه (٣).
ومعنى ابيضاض الوجوه: إشراقها (٤) واستنارتها وسرورها واستبشارها (٥)؛ لما تصير إليه من ثواب الله ورحمته؛ كقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢]، وقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٨ - ٣٩].
ومعنى اسْوِدادِها: حزنها، وكآبتها، وكسوفها؛ لما تصير إليه من العذاب؛ كقوله: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ [عبس: ٤٠]، وقوله تعالى: ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ [يونس: ٢٧].
قال ابن عباس في رواية عطاء (٦): تبيض وجوه المهاجرين
(١) انظر تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ من الآية: ٨٦.
(٢) في (ج): (أو). بدلا من: (و). و (أو) أولى هنا من (و)؛ لما تتضمنه من معنى المغايرة.
(٣) أو يكون منصوبًا بفعل محذوف، تقديره: اذكر يوم... انظر: "البيان" للأنباري ١/ ٢١٤، "التبيان" (٢٠٣)، "محاسن التأويل" للقاسمي ٤/ ٩٣٣.
(٤) في (ج): (وإشراقها). ومن قوله: (إشراقها..) إلى (عليها غبرة): موجود بمعناه في "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٥٢.
(٥) (سرورها واستبشارها): ساقط من (ج).
(٦) لم أقف على مصدر هذه الرواية وقد أورد الثعلبي والقرطبي هذا القول وعزواه لعطاء دون رفع لابن عباس. انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٩٦ ب، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٦٧.
485
والأنصار، وتسود وجوه بني قريظة والنضير والذين كذبوا بمحمد - ﷺ -.
وقال في رواية سعيد بن جبير (١): تَبْيَضُّ وجوهُ أهل السُنَّة، وتَسْوَدُّ (٢) وجوهُ أهل البدعة.
وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ﴾ قال الفرَّاء (٣) والزجاج (٤): جواب (أمَّا) محذوفٌ مع القول، وهو: [الفاء] (٥) مع قولٍ مُضمَرٍ، فلما سقط القول، [سقط] (٦) الفاء معه (٧)، والمعنى:
(فيقال لهم: اكفرتم بعد إيمانكم؟)، وحَذَف القولَ؛ لأن في الكلام دليلًا عليه.
ومثله كثير في التنزيل؛ كقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ (٨)، وقوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
(١) أخرجها ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٧٢٩، والثعلبي -بسنده- في "تفسيره" ٣/ ٩٦ ب. وأوردها البغوي في "تفسيره" ٢/ ٨٧، والسيوطي في "الدر" ٢/ ١١١ - ١١٢ ونسب إخراجها لأبي نصر في الإبانة، والخطيب في تاريخه، واللالكائي في "السنة".
(٢) في (ج): (وتبيض).
(٣) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٢٨.
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٥٤.
وانظر: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٢١١، "تفسير الطبري" ٤/ ٤٠، "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: ١/ ٣٨، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٤٥٧. "الصاحبي" ٣٩٠، "الإكسير في علم التفسير" للطوفي ١٨٥، ١٩٣، "ارتشاف الضرب" ٢/ ٦٣، ٥٧٠، ٣/ ١٥١.
(٥) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وفي (ب): ساقط. والمثبت من: (ج).
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). وفي "معاني القرآن" للفراء: سقطت.
(٧) انظر: "البسيط في شرح جمل الزجاجي" ٢/ ٨٣٤.
(٨) سورة الرعد: ٢٤. وتمامها: {بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾. والمعنى: يقولون: سلامٌ عليكم.
486
رَبَّنَا} (١)، وقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا﴾ (٢) الآية.
وقوله تعالى ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء (٣): يعني: اليهود؛ شهدوا لمحمد عليه السلام (٤) بالنُّبُوَّةِ، فَلمَّا قَدِمَ عليهم كذَّبوه وكفروا به. وهذا قول عكرمة (٥) واختيار الزجاج (٦).
وقال قتادة: هم أهل البدع كلهم (٧).
وقد روي عن النبي - ﷺ - مرفوعًا في قوله: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾؛ أي:
(١) سورة البقرة: ١٢٧. وتمامها: ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. والمعنى: يقولان: ربَّنا..
(٢) سورة السجدة: ١٢. وتمامها: ﴿أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾. والمعنى: يقولون: ربنا..
(٣) لم أقف على مصدر هذه الرواية.
(٤) في (ب): (صلى الله عليه وسلم).
(٥) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٩٧ - ب، "تفسير القرطبي" ٤/ ١٦٧، وأروده السيوطي في "الدر" ٢/ ١١٢ ونسب إخراجه للفريابي، وابن المنذر.
(٦) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٥٥.
(٧) أورده بهذا النص الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٩٧ ب. وهو معنى قول قتادة الذي أخرجه الطبري في "تفسيره" ٤/ ٤٠، ونصه عنه -بعد أن قرأ الآية-: (لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون، ولقد ذكر لنا أن النبي - ﷺ - كان يقول: "والذي نفس محمد بيده، لَيَرِدنَّ عليَّ الحوض ممن صحبني أقوام، حتى إذا رُفِعوا إليَّ ورأيتهم، اختُلِجوا مِن دوني، فلأقولن: ربِّ! أصحابي! أصحابي! فليقالنَّ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك".
وقد ذكر الثعلبي هذا النص الذي أخرجه الطبري مستدلًا به على معنى قول قتادة الذي ذكره، قائلًا: (ودليل هذه التأويلات) ثم أورد الخبر السابق.
وأورد -كذلك- قول قتادة -كما هو عند المؤلف-: البغوي في "تفسيره" ٢/ ٨٨ وابن الجوزي في الزاد: ١/ ٤٣٦. وانظر هذا الخبر وأحاديث أخرى نحوه في "لوامع الأنوار" للسفاريني: ٢/ ١٩٧.
487
بعد الإقرار بالميثاق الأول (١).
أخبرنا أبو علي ابن أبي القاسم المذكِّر (٢)، أبنا محمد بن حمدوية النيسابوري (٣)، [حدَّثنا علي بن حَمْشَاذ (٤)، ثنا حُمَيد بن حَكيم الدقَّاق (٥)، ثنا عباس بن الوليد الخلَّال (٦) (٧)، ثنا] (٨) أبو صفوان، القاسم بن [يزيد
(١) أي المذكور في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [سورة الأعراف. آية: ١٧٢].
(٢) لم أقف على ترجمته.
(٣) هو: أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعَيم الضَّبِّي الطهماني، الحاكم النيسابوري، المعروف بـ (ابن البَيِّع). ولد سنة (٣٢١ هـ)، الإمام الجليل الحافظ المتفق على جلالة قدره، صاحب "المستدرك على الصحيحين"، و"معرفة علوم الحديث" وغيرها من التصانيف الكثيرة. توفي سنة (٤٠٥ هـ). انظر: "تاريخ بغداد" ٥/ ٤٧٣، "سير أعلام النبلاء" ١٧/ ١٦٢، "طبقات الفقهاء الشافعية" ١/ ١٩٨، "لسان الميزان" ٦/ ٢٥٠.
(٤) هو: أبو الحسن، علي بن حمشاذ بن سختويه بن نصر النيسابوري. ولد سنة (٢٨٥ هـ)، إمام عدل ثقة حافظ عابد. قال عنه الحاكم: (ما رأيت في مشايخنا أثبت في الرواية والتصنيف من علي بن حمشاذ). توفي سنة (٣٣٨ هـ). انظر: "تاريخ الإسلام" ٢٥/ ١٦٥وفيات (٣٣١ - ٣٥٠ هـ)، "سير أعلام النبلاء" ١٥/ ٣٩٨، "تذكرة الحفاظ" ٣/ ٨٥٥، "شذرات الذهب" ٢/ ٣٤٨.
(٥) لم أقف له على ترجمة، إلّا ما ورد في (ذيل ميزان الاعتدال)، للحافظ العراقي، حيث قال: (حُمَيد بن حَكِيم. حديثه في سنن الدارقطني، قال ابن القطان: لا تُعرف حاله). الذيل: ٢٠٣.
(٦) هو: أبو الفضل، عباس بن الوليد بن صُبْح الخلال السُلَمي الدمشقي. قال ابن حجر: (صدوق)، ووثقه ابن حبان، قال أبو داود: كان عالما بالرجال والأخبار، لكنه لم يحدث عنه. توفي سنة (٢٤٨ هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٢١٥، "الميزان" ٣/ ١٠٠، "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٩٥،
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٨) ما بين المعقوفين ليس في (أ)، وجاء فيه: (ثنا أبو صفوان القاسم بن يزيد العامري، ثنا يحيى بن كثير أبو النضر، ثنا عاصم.
488
العامري] (١)، ثنا يحيى بن كثير، أبو النضر (٢)، ثنا عاصم الأحول (٣) وداود بن أبي هند (٤)، عن أبي العالية الرِّيَاحِي، قال:
قال أُبَيُّ بن كعب (٥):
(١) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). وساقط من: (ب). ومثبت من: (ج). وقد وردت رواية القاسم -هذا- عن يحيى بن كثير، في "تفسير ابن أبي حاتم" ١/ ٧٧، ١٠٩ باسم أبي صفوان، القاسم بن يزيد بن عوانة. ولم أقف له على ترجمة.
(٢) في (ب): ثنا أبو النصر. في (ج): أبو النصر. عَدّه ابنُ حجر مِن الطبقة الصغرى من أتباع التابعين، شيعي، قال ابن حجر: (ضعيف)، وقال أبو حاتم: (ضعيف ذاهب الحديث جدًا)، وقال الدارقطني: (متروك).
انظر: "المجروحين" لابن حبان: ٣/ ١٣٠، "ميزان الاعتدال" ٦/ ٧٧، "المغني في الضعفاء" ٢/ ٤١٠"التقريب" ص٥٩٥ (٧٦٣١).
(٣) هو: أبو عبد الرحمن، عاصم بن سليمان الأحول، البصري. تابعي، ثقة حافظ، توفي بعد سنة (١٤٠ هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٣٤٣، "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٥٢.
(٤) هو: أبو بكر أو أبو محمد، داود بن أبي هند - (دينار) - القُشَيري بالولاء، البصري- تابعي، ثقة متقن، إلا أنه يهم إذا حدّث مِن حِفْظِه، توفي سنة (١٤٠هـ). انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ٤١١، "ميزان الاعتدال" ٢/ ٢٠١، "تهذيب التهذيب" ١/ ٥٧٢، "التقريب" ص٢٠٠ (١٨١٧).
(٥) هو: أبو المنذر، أبَيُّ بن كعب بن قيس، الأنصاري الخزرجي. ويكنى بـ (أبي الطفيل) -أيضًا-، من فضلاء الصحابة، شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها، سيد القراء، وأحد كتَّاب النبي - ﷺ -، توفي سنة (٢٢ هـ)، وقيل: (٣٠ هـ) ورجحه ابن الأثير.
انظر: "المعارف" لابن قتيبة: ٢٦١، و"أسد الغابة" ١/ ٦١، "صفة الصفوة" ١/ ٢٤٥، "الإصابة" ١/ ١٩.
489
(قال) (١) النبي (٢) - ﷺ - في قوله، فذكره (٣).
١٠٧ - قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس (٤): يريد: ففي جنة الله.
قال أهل المعاني (٥): وإنما قيل [لـ (الجَنَّةِ): رحمةُ] (٦) الله؛ إعلامًا أنً العبدَ لا يدخلها إلا برحمته (٧)، وإنْ اجتهد في طاعته.
(١) في (أ): (قال قال).
(٢) في (ج): (رسول الله).
(٣) الأثر: أخرجه الطبري في "تفسيره" ٤/ ٤٠، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٧٣٠، وأورده الثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٨٨ أ، والبغوي في "تفسيره" ١/ ٣٤٠، والماوردي في "النكت والعيون" ١/ ٤١٥، وابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٤٣٦، والسيوطي في "الدر" ٢/ ١١٢ وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر.
وقد أوردوه كلهم موقوفًا على أبي بن كعب - رضي الله عنه - (ولم أر من رفعه سوى المؤلف. ونصه كما عند الطبري: (قال صاروا يوم القيامة فريقين: فقال لمن أسوَدَّ وجهُه، وعيَّرَهم: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾، قال: هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم، وأقرُّوا كلهم بالعبودية، وفطرهم على الإسلام، فكانوا أمة واحدة مسلمين. يقول: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾، يقول: بعد ذلك الذي كان في زمان آدم..). وعلى هذا فالآية عامَّةٌ في جميع الكفار، ورجَّح هذا الطبري.
(٤) لم أقف على مصدر قوله وقد أورده ابن الجوزي في الزاد: ١/ ٤٣٧.
(٥) ممن قال ذلك: ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" ١٤٥. وانظر: "الوجوه والنظائر" لهارون بن موسى: ٥٣، "تفسير الطبري" ٤/ ٤٠، "الأشباه والنظائر" للثعلبي: ١٦٢، "قاموس القرآن" للدامغاني: ١٩٩، "نزهة الأعين النواظر" لابن الجوزي: ٣٣١، "تفسير الكريم المنان" للسعدي: ١/ ١٩٤، "محاسن التأويل" ٤/ ٩٣٢. حيث فسروها جميعًا بالجنة.
(٦) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٧) في (ج): (رحمة الله).
وقال آخرون (١): رحمة الله ههنا: ثوابهُ لأهل طاعته.
وقوله تعالى: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ قال أبو إسحاق (٢): كرَّر (في)؛ للتأكيد، الذي هو تمكين المعنى في النفس.
وقال غيره (٣): كرَّر (في)؛ للبيان عن الصفتين (٤)؛ المعنى: أنهم في رحمة الله، وأنهم خالدون فيها، فكل واحدةٍ منهما قائمةٌ بنفسها.
١٠٨ - قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ أي (٥): تلك التي جرى ذكرها، حُجَجُ اللهِ وعلاماتُه.
وصَلح ﴿تِلْكَ﴾ ههنا في موضع (هذه)؛ لانقضاء الآيات؛ فلمَّا انقضت، صارت كأنها بَعُدَت، فقيل فيها: ﴿تِلْكَ﴾ (٦).
وقال ابن عباس (٧): ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾، يعنى: القرآن (٨).
وقوله تعالى: ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾ أي: نُعرِّفُك إيَّاها. قال ابن
(١) ممن قال بذلك: الزجاج، في "معاني القرآن" ١/ ٤٥٥، والنحاس، في "معاني القرآن" ١/ ٤٥٨.
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٥٥. وعبارته -هنا- بالمعنى.
(٣) لم أقف على هذا القائل.
(٤) في (ج): (البيان عن الصفين).
(٥) من قوله: (أي..) إلى (وعلاماته): نقله بنصه عن: "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٥٤.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للفراء: ١/ ١٠، ٢٢٩، "تفسير الطبري" ١/ ٩٦.
(٧) لم أقف على مصدر قوله. وهو مذكور في (تنوير المقباس)، المنسوب له: ٥٣. وقد قال بهذا القول: قتادة انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٤٦٨.
(٨) (القرآن): مطموسة في (ج).
وقد اختار المؤلف هذا القول في تفسيره (الوجيز) (المطبوع بهامش (مراح لبيد): ١/ ١١٣). وذهب إليه القرطبي. انظر: "تفسيره" ٤/ ١٦٩.
491
عباس (١): نُبَيّنها.
وقوله تعالى: ﴿بِالْحَقّ﴾ أي: بأنَّها (٢) حقٌ؛ كما تقول: أعامِلُك بالحَقِّ؛ أي: معاملتي حقٌّ.
ويجوز أنْ يكون المعنى: نتلوها بالمعنى الحق؛ لأن معنى المَتْلُوِّ حقٌّ.
﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ فيعاقبهم بلا جُرْمٍ. (قاله) (٣) ابنُ عبَّاس. وقال أبو إسحاق (٤): أعلم الله جل وعزَّ أنَّهُ (٥) يُعذِّبُ مَن يُعذِّبُهُ باستحقاقٍ.
[وحَسُنَ] (٦) ههنا نفيُ إرادةِ الظلم للعالمين؛ لأن ذِكْرَ العقوبةِ قد تقدم، فبيَّنَ أنَّه لا يُعاقِب أحدًا (٧) ظالمًا إيَّاهُ.
فإنْ قيل: أليس لو فعل ذلك، لم يكن ظالمًا عندكم؟ فلِمَ (٨) قال: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ [غافر: ٣١]؟ ولو أراده لم يكن ظُلمًا؟ (٩).
قلنا: سمَّاه ظلمًا؛ لأنه في سورة الظُّلْم (١٠)، ولو عَذَّبَ غير (١١)
(١) لم أقف على مصدر قوله. واختاره المؤلف في تفسيره (الوجيز) (المطبوع بهامش (مراح لبيد): ١/ ١١٣).
(٢) في (ب): (بيانها).
(٣) من (أ)، وفي باقي النسخ: (قال).
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٥٥. نقله عنه بمعناه
(٥) في (ج): (أنَّ).
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٧) في (أ)، (ب): أحد. والمثبت من: (ج). وهي أليق بالعبارة -هنا- وأوجه.
(٨) في (ج): فلما.
(٩) في (ب): (ظالمًا).
(١٠) انظر حول هذا الموضوع: "شرح العقيدة الطحاوية" ٤٥٣ - ٤٥٥.
(١١) في (ج): (غيره).
492
مُستَحِقٍّ (١) للعذاب، لم يكن منه ظلمًا حقيقيًّا، ولكنه يكون في صورة الظلم، وقد يُسمَّى الشيءُ بالشيء، إذا أشبهه، وكان في صورته؛ كجزاء السيِّئة، يُسَمَّى: (سيئةً) (٢)، وجزاء الاستهزاء، يُسمَّى (٣): (استهزاءً) في التنزيل (٤)، ومثله كثير.
١١٠ - قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ اختلف قول أهل المعاني في هذا:
فقال الفرَّاء (٥) والزجاجُ (٦)، وغيرُهما (٧): كنتم خير أُمَّةٍ عند الله، في اللَّوْح المحفوظ. وقالا (٨) أيضًا: معنى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾: أنتم خير أمة؛
(١) في (ج): (مستحقًا).
(٢) كقوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: ٤٠].
(٣) في (ج): (سمي).
(٤) يعني المؤلف قولَه -تعالى-: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٤ - ١٥].
وقد ذكر الطبريُّ هذا المعنى في تفسيره، ورَدَّهُ، فـ (الاستهزاء) في هذه الآية صفة من صفات الله على الحقيقة، تليق بجلال الله -تعالى-، وليس المقصود بـ (الاستهزاء) هنا مجازاتهم في الآخرة على استهزائهم بأوليائه في الدنيا، فهذا صرفٌ للصفة عن حقيقتها. انظر: "تفسير الطبري" ١/ ١٣٢ - ١٣٤. وانظر ما سبق من تعليق على تفسير المؤلف لقول الله -تعالى-: ﴿وَمَكَرَ اَللهُ﴾ من الآية: ٥٤.
(٥) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٢٩.
(٦) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٥٦. وقد أورده الزجاج بلفظ (قيل:..).
(٧) ممن جوز هذا القول: النحاس، في "إعراب القرآن" ١/ ٣٥٧.
(٨) قائل هذا القول، هو: الفراء، في المرجع السابق. والعبارات التالية له نقلها =
493
كقوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: ٨٦]، وقال في موضع آخر: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ﴾ [الأنفال: ٢٦]. وإضمارُ (كان) (١) وإظهارُها في مثل هذا، سواءٌ، إلّا أنها إذا ذُكِرت كانت للتأكيد، ووقوع الأمرِ لا مَحالة.
قال ابن الأنباري (٢): وهذا القول ظاهرُ الاختلال؛ لأن (كان) يُلغى (٣) مُوسَّطًا ومُؤَخَّرًا، ولا يُلغَى (٤) مُقدَّما؛ تقول العرب: (عبدُ الله كان قائمٌ) و (عبدُ الله قائمٌ، كان)؛ على أنَّ (كان) مطروحة، ولا يقولون: (كانَ عبدُ الله قائمٌ)، على إلغائها، لأنَّ سبيلهم أن يبدأوا بما [تنصرف الغايةُ إليه، والمُلْغَى غير معني به، على أنَّه لا يجوز] (٥) إلغاءُ الكَوْنِ في الآية؛ لانتصاب خبره، وإذا (أُعْمِلَ) (٦) الكَوْنُ في الخَبَرِ، فنصبه، لم يكن مُلغًى.
وقال بعضُ النحويين (٧): إنما قال: ﴿كُنْتُمْ﴾، ولم يقل: (أنتم)؛
= المؤلف بتصرف يسير. أما الزجاج فلم يذكر هذا المعنى في هذا الموضع.
وممن قال بهذا: ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ٢٩٥. وجعله من باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه، قال: (ومنه أن يأتي الفعلُ على بِنْيَةِ الماضي وهو دائمٌ أو مُستَقبَل) وذكره. وقال به الطبري، في "تفسيره" ٤/ ٤٥ - ٤٦، وابن فارس، في "الصاحبي" ٣٦٤، ويرويه أبو العباس عن ابن الأعرابي، كما في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٠٨٤ (كون)، وجوزه النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٣٥٧.
(١) في (ج): (كل).
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) في (ب)، (ج): (تلغى).
(٤) في (ب)، (ج): (تلغى).
(٥) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج).
(٦) في (أ): (عمل).
(٧) لم أقف عليهم.
494
لتَقَدُّمِ (١) البِشَارَةِ بهذه الأُمَّة، ولِمَا قد (٢) كان يُسمَعُ مِنَ الخير في هذه الأمَّةِ؛ فكأنَّه (٣) قيل: كنتم خير أُمَّةٍ بُشِّرَت بها. وهذا القول، يُروى معناه عن الحَسَنِ (٤).
وقال بعضهم (٥): الكَوْنُ ههنا بمعنى: الوقوع والحُدُوث، وهي التَّامَّةُ التي لا تحتاج إلى خبر، فمعنى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾: حَدَثْتم خَيْرَ أُمَّةٍ، ووُجِدْتُم وخُلِقْتُم خَيرَ أمَةٍ، فيكون ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ حينئذ بمعنى الحَالِ. وهذا معنى قولِ [ابن] (٦) جَرِير (٧).
وحكى الزجاجُ (٨) عن بعضهم: كنتم [منذ] (٩) آمنتم خيرَ أُمَّةٍ (١٠).
فأمَّا المُخاطَبون بهذا: فقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير (١١):
(١) في (ج): (فتقدم).
(٢) في (أ)، (ب): (قدم). والمثبت من (ج).
(٣) في (ج): (وكأنه).
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٤٥، "النكت والعيون" ١/ ٤١٦.
(٥) منهم الطبري، كما سيأتي.
(٦) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج).
(٧) في "تفسيره" ٧/ ١٠٦.
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٥٦. أورد هذا القول وصدَّره بلفظ (قيل..).
(٩) في (أ)، (ب)، (ج): (قد). ولم أر لها وجهًا. وأثبتُّها من: "معاني القرآن" للزجاج. وقد تكون (مُذ) فحرِّفت إلى (قد).
(١٠) قد يكون القائل ابن الأنباري؛ حيث أورد ابن الجوزي في الزاد نحو هذا القول، وقال: (ذكره ابن الأنباري) ونصه: (مذ كنتم). انظر: "زاد المسير" ١/ ٤٣٩.
(١١) هذه الرواية، في "مصنف ابن أبي شيبة" ٦/ ٣٩٨ رقم (٣٢٣٤٩)، و"مسند أحمد" (شرح الشيخ أحمد شاكر): ٤/ ١٥٣ رقم (٢٤٦٣)، ٣٣٥ (١٩٢٨)، ٣٥٥ (٣٩٨٩)، ٥/ ١١٢ (٣٣٢١)، وصححه الشيخ شاكر، وتفسير النسائي: ١/ ٣١٩، "تفسير الطبري" ٤/ ٤٥، "تفسير عبد الرزاق" ١٣٠، "تفسير ابن أبي حاتم" =
495
هم الذين هاجروا مع النبي - ﷺ - إلى المدينة. وعلى هذا (١): عِكْرِمة (٢)، ومقاتل (٣)، والضَّحَّاك (٤): أن هذا خاصة لأصحاب محمد (٥) - ﷺ -. يدل على هذا القول:
ما روي عن عمر رضي الله عنه، أنه قال في هذه الآية (٦): هي
= ٣/ ٧٣٢، "المعجم الكبير" للطبراني: ١٢/ ٦ رقم (١٢٣٠٣)، ومستدرك الحاكم: ٢/ ٢٩٤. وصححه ووافقه الذهبي، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٩٨ أ، وذكرها ابن حجر في "المطالب العالية" ٣/ ٣١٥ رقم (٣٥٧٠) وعزاها للحارث بن أبي أسامة في مسنده عن ابن عباس، وذكرها الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٦/ ٣٢٧ وقال: (رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح)، وأوردها ابن حجر في "فتح الباري" ٨/ ٢٢٥ وعزاها لمن سبق وقال عن إسنادها: (جيد)، وأوردها السيوطي في "الدر" ٢/ ١١٣، وزاد نسبة إخراجها لعبد بن حميد، والفريابي، وابن المنذر، عن ابن عباس موقوفًا.
(١) في (ج): (ذلك).
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٤٣، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٩٨ أ، "أسباب النزول" للواحدي: (١٢١)، "تفسير البغوي" ٢/ ٨٩، "زاد المسير" ١/ ٤٣٨، "الدر المنثور" ٢/ ١١٣ وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر.
(٣) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٩٥، والمصادر السابقة ما عدا الطبري.
وقد ورد قول مقاتل وعكرمة في معرض بيانهما لسبب نزول الآية، فقد قال مقاتل في تفسيره (وذلك أن مالك بن الصَّيف، ووهب بن يهوذا، قالا لعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة: إن ديننا خيرٌ مِمَّا تدعوننا إليه فأنزل الله عز وجل - فيهم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ في زمانكم، كما فضل بني إسرائيل في زمانهم). وانظر المصادر السابقة.
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٤٤، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٩٨ أ، ولكنه فيه: (عن الضحاك عن ابن عباس)، "تفسير البغوي" ٢/ ٨٩
(٥) في (ب): (النبي).
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٤٣، وابن أبي حاتم: ٣/ ٧٣٢، "تفسير الثعلبي" ٣/ ٩٨ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٨٩.
496
لأوَّلِنا، ولا تكون لآخرنا.
وقال (١) في رواية عطاء (٢): يريد: أُمَّةَ محمد - ﷺ -. فعلى هذا: هم جميع المؤمنين من هذه الأمَّة.
قال الزجاج (٣): هذا الخطاب، أصلُه: أنه خوطب به أصحابُ رسول الله - ﷺ -، وهو يَعُمُّ سائرَ أُمَّتِهِ.
وقوله تعالى: ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ يُحتَمَلُ أنْ يكون ﴿للِنَّاسِ﴾، مِنْ صِلَةِ ﴿أُمَّةٍ﴾، أي: كنتم خير أمةٍ للنَّاسِ أُخْرِجَت، يعني: أفهم (٤) خير أمَّة للنَّاس، تجيئون بهم في السلاسل، فتُدْخِلُونَهم في الإسلام. وهذا المعنى يُروى عن أبي هريرة (٥).
(١) أي: ابن عباس - رضي الله عنه -.
(٢) لم أقف على مصدر هذه الرواية.
(٣) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٥٦، نقله عنه بتصرف يسير جدًّا.
(٤) في (ج): (أنتم).
(٥) ورد هذا عنه مرفوعا وموقوفًا، أما المرفوع فقد أخرجه: البخاري في "الصحيح" (٣٠١٠) في الجهاد، باب الأسارى في السلاسل، ولفظه عنده من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - قال: "عجب ربنا من قوم يدخلون الجنة في السلاسل". وأخرجه أحمد مرفوعًا بنحو لفظ البخاري. انظر: "المسند" (شرح الشيخ شاكر): ١٥/ ١٦٨ (٨٠٠٠)، ١٨/ ٤٨ (٩٢٦٠)، ١٩/ ٣٣ (٩٧٨١)، ٦٦ (٩٨٩٠)، وأبو داود في "السنن" (٢٦٧٧) كتاب الجهاد، باب: (في الأسير يوثق). وابن حبان في "صحيحه" "الإحسان" ١/ ٣٤٣ رقم (١٣٤).
أما الموقوف، فقد أخرجه: البخاري (٤٥٥٧) في التفسير، سورة آل عمران، باب (٧) ولفظه: (﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام).
وأخرجه عنه كذلك: النسائي في "تفسيره" ١/ ٣١٨، والطبري في "تفسيره" =
497
وقال قتادة (١): لم يُؤْمَرْ نَبِيٌّ وأمَّتُهُ بالقتال، إلّا هذه الأمَّة ونَبِيها، يُقاتِلُونَ، فَيَسْبُونَ الرُّومَ والتُّرْكَ والعَجَمَ، فَيُدْخِلونهم في دينهم، فهم خير أمَّة للنَّاس.
ويُحتَمَلُ (٢) أن يكون ﴿للِنَّاسِ﴾ (٣) مِن (٤) صِلَةِ ﴿أُخْرِجَتْ﴾؛ ومعناه: ما أَخرَجَ (٥) [اللهُ] (٦) للنَّاسِ أمَّةً، خيرًا (٧) مِنْ أمَّةِ أحمد (٨)؛ فهم (٩) خير أمَّةٍ أُظْهِرَت (١٠) وأُخْرِجَت للنَّاس.
٤/ ٤٤، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٧٣٢، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٩٨ب، وأورده البغوي في "تفسيره" ٢/ ٩٠، والسيوطي في "الدر" ٢/ ١١٣ وزاد نسبة إخراجه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم. ولكنيِّ لم أجده في مستدركه.
قال ابن حبان في معناه: (والقصد في هذا الخبر: السَّبْيُ الذين يسبيهم المسلمون من دار الشرك مكتَّفِين في السلاسل يُقادون بها إلى دور الإسلام، حتى يُسْلِمُوا، فيدخلوا الجنة). "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" ١/ ٣٤٣ - ٣٤٤. وقد نقل ابنُ حجر أقوال أهل العلم في شرحه. انظر: "فتح الباري" ٦/ ١٤٥، ٨/ ٢٢٥.
(١) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ٩٩ أ، "تفسير البغوي" ٢/ ٨٩.
(٢) من قوله: (ويحتمل..) إلى- (أخرجت للناس): نقله بتصرف يسير عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ٩٩ أ.
(٣) في (ج): (من الناس).
(٤) من: ساقطة من (ج).
(٥) في (ب): (فلا تخرج).
(٦) ما بين المعقوفين: في في (أ)، (ب): إليه. وهي ساقطة من: (ج). وليست في "تفسير الثعلبي". ورجَّحتُ أن أصلها كما أثبتُّه، وقد حُرِّفت إلى (إليه).
(٧) في (ج): (خير).
(٨) في (ج): (محمد).
(٩) (من أمة أحمد فهم): ساقطة من: (ب).
(١٠) في (ج): (ظهرت).
498
وقوله تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ الظاهرُ أنَّ (١) هذا مَدْحٌ لهذه الأمَّة بهذه الخصال، وإخبارٌ عنهم بهذه الجملة، وحُكِي عن مجاهد أنه قال (٢): الخَيْرِيَّةُ في هذه الأمَّةِ على هذه الشَّرِيطَةِ (٣)؛ يعني: كنتم خيرَ أُمَّةٍ، ما أَمَرْتُم بالمعروف، ونَهَيْتُم عن المنكر، وآمنتم بالله، وهذا أيضًا اختيار الزجاج (٤).
والمَعْرُوفُ: كلُّ حَسَنٍ جميل، يُعرَفُ بجلالته، وعُلُوِّ قَدْرهِ (٥). ولا يجوز إطلاق هذه الصفة على القبيح، وإنْ كان يُعرَف، لأنه بمنزلة ما لا يُعْرَف؛ لخُمُولِهِ وسُقُوطِهِ.
١١١ - قوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ هذا وعْد مِنَ الله تعالى (٦) للمؤمنين، في أهل الكتاب، أنَّهم منصورون عليهم، وأنَّه لا ينالهم منهم غَلَبَةٌ. ومعنى ﴿إِلَّا أَذًى﴾؛ أي: أذًى باللِّسانِ، مثل (٧): الوعيد، والبُهْت (٨).
(١) في (ج): (من).
(٢) قوله في "الطبري" ٤/ ٤٤، "الدر المنثور" ٢/ ١١٣ وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر.
(٣) في (ب): (الطريقة).
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٥٦.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٤٤، "اللسان" ٥/ ٢٨٩٩ - ٢٩٠٠ (عرف)، و"التعريفات" للجرجاني: ٢٢١، و"التوقيف على مهمات التعاريف" ٦٦٦.
(٦) تعالى: ساقطة من: (ب)، (ج).
(٧) في (ج): (ثم).
(٨) البُهْت -بضم الباء-، والبَهِيتة، والبهتان: الكذب والافتراء.
والبَهت -بفتح الباء-: أن يقول المرء في غيره ما لم يفعله. يقال: (بَهَته، يَبهَتُه، بَهْتًا، وبَهَتا، وبُهْتانًا).
والبَهْتُ: الانقطاع والحَيْرة، يقال: (بَهَتَ، وبَهِتَ، وبُهِتَ): إذا تَحيَرّ. وهو أصل=
499
وقال الحسن (١) وقتادة (٢): أي: دعاء إلى الضلالة.
وموضع ﴿إِلَّا أَذًى﴾ نصبٌ بالاستثناء المتصل؛ المعنى: لن يضروكم إلا ضَرَرًا يسيرًا. فـ (الأذى) وقع موقع الضَّرَر (٣).
والأذى: مصدر (أَذِيْتُ بالشيء أذًى) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ قال أبو على (٥): (وَلَّى) منقول مِن (فَعل)؛ تقول: (داري تَلِي دارَهْ)، وَ (وَلِيَتْ (٦) داري دارَه)،
= معنى الكلمة. فـ (البُهتان): هو الباطل الذي يُتحير من بطلانه. انظر: (بهت) في. "مقاييس اللغة" ١/ ٣٠٨، والنهاية في "غريب الحديث" ١/ ١٦٥، "اللسان" ١/ ٣٦٧ - ٣٦٨.
(١) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٤٧، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٣٤، "زاد المسير" ١/ ٢٤٠.
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٤٦ ونصه عنده: (لن يضروكم إلا أذى تسمعونه منهم). "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٣٤.
(٣) وقيل: هو استثناء منقطع؛ أي: لن يضروكم بقتال أو غلبة، ولكن بكلمة أذى أو نحوها. وممن قال بهذا: الأخفش، والطبري، والنحاس، ومكي، وأبو بكر الأنباري.
انظر: "معاني القرآن" للأخفش: ١/ ٢١٣، "تفسير الطبري" ٤/ ٤١، "إعراب القرآن" للنحاس: ١/ ٣٥٨، "البيان" للأنباري: ١/ ٢٨٥، "الدر المصون" للسمين الحلبي: ٣/ ٣٥٢، "مشكل إعراب القرآن" لمكي: ١/ ١٧٠.
(٤) الأذى: هو ما تسمعه من مكروه. يقال: (أذِيتُ بالشيء، آذَى أذًى وأذاة وأذِيَّة)، فـ (أنا أذٍ). أمَّا (آذى)، فمصدرها: إيذاء، وأذيّة. وتأذَّيْت به تأذِّيا.
انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ١٤٠ (أذا)، "الصحاح" ٦/ ٢٢٦٦ (أذا)، "اللسان" ١/ ٥٤.
(٥) هو: الفارسي، ولم أقف على مصدر قوله فيما رجحت إليه من مؤلفاته، وقد وجدته -مع اختلاف يسير جدًا- في "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: ٢/ ٤٤٧ في كلام طويل نقله عن أبي علي في تعليقه على قوله -تعالى-: ﴿فَلَنُوَليَنَّكَ قِبْلَة تَرضَاهَا﴾ [الآية: ١٤٤ من سورة البقرة].
(٦) في (ب): (ووليته).
500
فإذا (١) نَقَلْتَ (٢) إلى (فَعَّلَ)، قلت: (ولّاني مآخيرَهُ) (٣)، و (ولّاني مَيَامِنَه) (٤)، فهو مثل: (فَرِحَ) و (فَرّحْتُه) (٥)، ومثل هذا: قوله: ﴿لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ﴾ [الحشر: ١٢]، وقوله: ﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: ٤٥]، إلّا أنّ المفعول الثاني الزائِد في نَقل (فَعِلَ) (٦) إلى (فَعَلَ) محذوفٌ من الآيتين، ولو لم يُحذَفْ لكان كقوله: ﴿يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ (٧).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ محمول (٨) على الاستئناف، لا على
(١) في (ج): (وإذا).
(٢) في "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: نقلته.
(٣) في (أ)، (ب): (ما آخيره). والمثبت من: (ب)، (ج)، "إعراب القرآن". وفي "إعراب القرآن": (قلت: وَلِيتُ مآخيره، وولّاني مآخيره).
والمآخير: لم أقف على المراد بها في معاجم اللغة التي رجعت إليها، وقد ورد فيها (المئخار)، وهي النخلة التي يبقى حملها إلى آخر الصِّرام، أو يبقى إلى آخر الشتاء، وجمعها: مآخير.
انظر: "كتاب النخل"، لأبي حاتم السجستاني: ٩٢، وانظر مادة (أخر) في "اللسان" ١/ ٤٥، "التاج" ٦/ ١٧.
ولكن هذا المعنى ليس هو - المراد هنا، وإنما يراد بها هنا -والله أعلم- جهة الخلف من الإنسان: الظهر وما يليه. ويعزز هذا قوله بعده: (وولاني ميامنه).
(٤) ورد في "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج: (ووليت ميامنه، وولاني ميامنه). والميامن: جمع (مَيمَنه)، وهي خلاف الميسرة في الإنسان. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٩٦٧ (يمن).
(٥) في "إعراب القرآن" السابق، أضاف بعدها: (وليس مثل: لقي وألقيته ولقَّيْته).
(٦) في (أ): (فعِّل). وفي (ب)، (ج): (غير مشكولة). وما أثبته هو الصواب.
(٧) فـ (الأدبار) مفعول ثانٍ. انظر: "التبيان" للعكبري: ص ٢٠٤، "الدر المصون" ٣/ ٣٥٢.
(٨) من قوله: (محمول..) إلى (ثم لا ينصرون): ساقط من (ج).
501
العطف (١). والتقدير: ثم هم لا ينصرون.
وإنَّما لم يُحتملْ (٢) على العطف؛ لأنه غير مشاكل للمعطوف عليه؛ وذلك أن سبب التولية: القتال، وليس كذلك منعُ النصر؛ لأن (٣) سببه: الكفر (٤). وأيضًا فإنه آخر آية، فكان الرفعُ فيه أقوى؛ ليشاكل (٥) سائرَ الفواصل بالنُّون (٦)، كما قال: ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦] (٧).
قال المفسرون: صدق الله وعْدَه بالنصر، فلم يقاتل يهودُ (٨) المدينة رسولَ الله - ﷺ - والمسلمين (٩)، إلّا ولَوا منهزمين، وكانت الدَّبْرَةُ (١٠) عليهم،
(١) انظر: "إعراب الحديث النبوي" للعكبري: ١٧٢.
(٢) في (ج): (يحمل).
(٣) في (ج): (لأنه).
(٤) أي: لو قلنا بعطفه على جواب الشرط، للزم تقييد عدم نصرهم في حالة مقاتلتهم لنا فقط. ولكن -في الحقيقة- هم غير منصورين مطلقًا؛ لكفرهم، سواءً أقاتلوا أم لم يقاتلوا.
(٥) في (ج): (لتشاكل).
(٦) في (ب): (والنون).
(٧) في رفع ﴿فَيَعْتَذِرُونَ﴾ -هنا- وجهان:
أ- أنها معطوفة على ما قبلها ﴿وَلَا يُؤْذَنُ﴾ فهي نفي؛ أي: فلا يعتذرون فلم يجعل الاعتذار متسببًا عن الإذن؛ إذ لو كان كذلك لنُصب وحذف النون. وذهب الفرَّاء إلى أن الرفع فيها لمراعاة الفواصل.
ب- أنها مستأنفة؛ أي: فهم يعتذرونه ومعناها: أنهم ينطقون في مواقف دون أخرى. انظر: "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢٢٩، ٣/ ٢٢٦، "التبيان" للعكبري: ص ٢٠٤، "البيان" للأنباري: ٢/ ٤٨٨، "البحر المحيط" ٨/ ٤٠٨.
(٨) في (ب): (بعد) بدلًا من (يهود).
(٩) (والمسلمين): ساقطة من: (ج).
(١٠) في (ج): (الدائرة).
502
ففيه أعظم دلالة على (صحة) (١) نبوة محمد - ﷺ -.
١١٢ - قوله تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ قد مضى الكلام في معنى ضَرْبِ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ على اليهود، في سورة البقرة (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ أي: وُجِدوا، وصُودِفوا (٣). ومضى الكلام في هذا عند قوله: ﴿حَيثُ ثَقفتُمُوهُم﴾ [البقرة: ١٩١].
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ قال الفرّاء (٤): يقول: (إلَّا أنْ يَعتَصموا بحبل من الله)، فأضمر ذلك، وأنشد:
رأتني بحَبْلَيْها فَصدّتْ مَخَافَةً وفي الحَبْلِ رْوْعاءُ الفُؤادِ فَرُوقُ (٥)
= الدَّبْرَة: العاقبة، والهزيمة في القتال. أمَّا الدِّبْرة -بكسر الدال المشددة- فهي خلاف القِبلة. انظر: "القاموس المحيط" ص ٣٨٩ (دبر).
(١) زيادة من (أ).
(٢) انظر: "تفسير البسيط" عند تفسير آية: ٦١ من سورة البقرة.
(٣) انظر: (ثقف) في "اللسان" ١/ ٤٩٢، "القاموس" ص ٧٩٥.
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٣٠. نقله عنه بنصه.
(٥) البيت لحميد بن ثور، وهو في ديوانه: ٣٥. وورد في "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢٣٠، "تفسير الطبري" (٤٩)، "تهذيب اللغة" ١/ ٧٣١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠١ أ، "أساس البلاغة" ١/ ٣٨١، "اللسان" ٢/ ٧٦١، ٧/ ٤٤١٠، ٦/ ٣٤٠١. "البحر المحيط" ٣/ ٣٢.
وروايته في الديوان:
فجئت بحبليها فردَّت مخافةً إلى النفس روعاءُ الجَنان فَرُوق
ووردت روايته في "اللسان" ٧/ ٤٤١٠
رأتني بنِسْعَيها فردت مخافتي إلى الصدر روْعاءُ الفؤادِ فَرُوق
وفي "اللسان" ٦/ ٣٤٠١:
رأتني مُجَلِّيها فصدت مخافةً وفي الخيل روعاء الفؤاد فروق
و (الروعاء): الناقة الحديدة الفؤاد. "القاموس" ٧٢٤ (روع). و (الفَرُوق): =
503
قال أراد: أقْبَلْتُ (١) بحبليها (٢).
وقد نُعي هذا عليه، فقيل: لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته (٣)؛ وذلك أن الموصول لمّا احتاج إلى الصِّلَةِ للبيان عنه، فالحاجة إلى ذِكْرِهِ أشدُّ (٤)، وإنَّما يجوز حذفُ الشيء للاستغناء بدلالة غيره عليه، فلو دَلّ دليل عليه لحُذف مع صلته؛ لأنه معها بمنزلِةِ شيءٍ واحد. ويجوز حذف الصلة دون الموصول؛ لأن الموصول [هو المعتمد عليه، والصلة تبع له؛ لأنها للبيان عنه، فإذا حُذِفَ الموصول] (٥) وجب حذفُ الصلة معه؛ [لأنها تَبَعٌ] (٦) له.
وقد أخبرني العَرُوضي رحمه الله، عن الأزهري، قال (٧): أخبرني
= الشديدة الفزع. من (الفَرَق): وهو الخوف. "اللسان" ٦/ ٣٣٩٧ (فرق). قال الأستاذ محمود شاكر في تعليقه على البيت في هامش "تفسير الطبري" ٧/ ١١٣ (ط. شاكر): (مدح ناقته بحدة الفؤاد، تفزع لكل نبأة؛ من يقظتها؛ كما قالوا: (مجنونة)، يقول ذلك في ناقته: رأتني أقبلت بالحبلين لأشد عليها راحلي، فصدَّت خائفة. يصفها بأنها كريمة لم تبتذلها الأسفار. ثم قال: فلما شددت عليها الرحل، كانت في الحبل ذكية شهمة، تتوجس لكل نبأة؛ من يقظتها وتوقدها).
(١) في (ب): (قبلت).
(٢) في (ج): (بحبلها).
(٣) وهي -هنا- الجار والمجرور. ففي الآية ﴿بِحَبْلٍ﴾، وفي البيت (بحبليها).
(٤) في (ج): (ذكر ما شد).
(٥) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج).
(٦) ما بين المعقوفين: في (أ)، (ب): (لا يتبع). والمثبت من (ج).
(٧) قوله في "تهذيب اللغة" ١/ ٧٣١ - ٧٣٢ (حبل) إلى نهاية: (ومعنى (ألا): (لكن). وقد نقله عنه بتصرف واختصار يسيرين.
504
المُنْذِريُّ، عن ثعلب، أنه قال: هذا الذي قاله الفرّاء (١)، بعيدٌ (٢)، ولكن المعنى إن شاءَ الله: ضربت عليهم الذِّلَّة أينما ثُقِفُوا؛ أي: بكلِّ مَكان إلّا بموضِع حَبْلٍ مِنَ الله، وهو استثناء مُتَّصل، كما تقول: (ضُرِبت عليهم الذِّلَّة في الأمكنة، إلّا في هذا المكان)، ثمّ حذف المضافُ (٣).
قال: وقول الشاعر: (رأتني بحبليها)؛ هو كما تقول: (أنا بالله، وبك) (٤)؛ أي: مُتَمَسِّك. فتكون الباءُ مِن صِلَة (رأتني متمسكًا
(١) (الفراء): ساقطة من: (ج).
(٢) وفي "تهذيب اللغة": (بعيد أن تحذف (أن) وتُبقِي صلتها).
(٣) ثم حذف المضاف: ليس في "تهذيب اللغة". وقد ذهب إلى هذا الزمخشري، وأيَّد كون الاستثناء متصلًا هنا، وقال: (وهو استثناء من أتم الأحوال؛ المعنى: ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حالة اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس..). "الكشاف" ١/ ٤٥٥.
(٤) وبك: ليس في "تهذيب اللغة".
بالنسبة لهذه الألفاظ مثل (أنا بالله، وبك) وأمثالها، وبغض النظر عن مجال الاستدلال النحوي بها، فإن الآثار الشرعية قد وردت بالنهي عن استعمالها بهذه الصورة. فقد قال - ﷺ -: "إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل: ما شاء الله، ثم شئت". أخرجه ابن ماجه (٢١١٧) كتاب الكفارات، باب (١٣)، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه": ١/ ٣٦٢.
وورد في الحديث عنه - ﷺ -: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان". رواه أبو داود في "السنن" (٤٩٨٠)، كتاب الأدب، والبيهقي في "السنن" ٣/ ٢١٦، وأحمد في "المسند" ٥/ ٣٨٤، ٣٩٤، ٣٩٨.
وعن ابن عباس: جاء رجل إلى النبي - ﷺ -، فراجعه في بعض الكلام، فقال: ما شاء الله وشئت. فقال - ﷺ -: "أجعلتني والله عِدْلاً، بل ما شاء الله وحده".
أخرجه البيهقي في "السنن" ٣/ ٢١٧، والبخاري في الأدب المفرد: ٣٤٤ رقم (٧٨٣)، وغيرهما. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: ١/ حديث رقم (١٣٦ - ١٣٩). وقد ذكر العلماء أن قول الإنسان (ما لى غير الله وأنت)، و (توكلت على الله =
505
بحبليها) (١)، فاكتفى بالرُّؤيَةِ (٢) مِن التمسك.
قال الأزهري: والقول، ما قال أبو العباس (٣).
وقال الأخفش (٤): قوله: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ استثناء خارج عن (٥) أول الكلام (٦)، ومعنى (إلّا): لكِنْ (٧).
واختار الزَّجَّاج هذا الوجه، فقال (٨): ما بعد الاستثناء (٩) ليس من الأول؛ المعنى (١٠): أنهم أذلَّاءُ، إلَّا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أُعطوه.
ونَصَرَ محمدُ بن جَرِير هذه الطريقة أيضًا، فقال (١١): إن أهل الكتاب (قد) (١٢) ضربت عليهم الذلة، سواء كانوا على عهد من الله، أو لم يكونوا
= وعليك)، وأنا بالله وبك) وأمثالها من عبارات، تعد من ألفاظ الشرك التي يجب أن تُجتَنَب، كما دلت على ذلك الآثار السابقة. انظر تيسير العزيز الحميد: ٥٩٨ - ٦٠٢
(١) في (ج): (بحبلها).
(٢) في (ب): (بالراية).
(٣) هو ثعلب.
(٤) قوله في "معاني القرآن" له ١/ ٢١٣، ولكنه هنا من، تتمة قول الأزهري السابق في "التهذيب".
(٥) في (ب)، "معاني القرآن"، "تهذيب اللغة": (من).
(٦) أي إنه استثناء منقطع.
(٧) في "معاني القرآن"، "تهذيب اللغة": (في معنى لكن).
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٥٧ نقله عنه بنصه.
(٩) في (ج): (الا استثناء).
(١٠) المعنى: ليست في "معاني القرآن".
(١١) في "تفسيره" ٤/ ٥٠. نقله عنه بالمعنى.
(١٢) زيادة من (أ).
506
على عهد، فلا يخرجون بالاستثناء (١) عن الذِّلة إلى العِزَّة.
قال (٢): وتمام الكلام عند قوله: ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾، ثم قال: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ أراد (٣): لكن قد يعتصمون بحبل من الله، أو قد يُثْقَفُونَ بحبل من الله، وحَبْلٍ مِنَ الناس كما قال: ﴿وَمَا كاَنَ لِمُؤمِنٍ أَن يَقتُلَ مُؤْمَنًا إِلا خَطأ﴾ [النساء: ٩٢]، فـ (الخَطَأ) وإن كان منصوبًا بما عمل فيِه ما قبل الاستثناء، فليس باستثناء مُتَّصل حتى يَدُلَّ على أنَّ قتلَه خطأ مباحٌ (٤)، ولكن معناه: قد يقتله خطأ (٥).
ومَن نَصرَ طريقة أبي العباس، قال (٦): إنَّ عِزَّ (٧) المسلمين عِزٌّ لأهلِ الذِّمَةِ؛ لأنَّ أخْذَهم عَهْدَ المسلمين يَحقِنُ دماءَهم، ويمنع فُرُوجَهم وأموالهم عن الاغتنام بالسَّبْي، ثم هذا [العِزُّ] (٨) لا يخرجهم عن الذِّلَّة في أنفسهم، فهم على ما وصفهم الله من الذِّلَّة أينما ثقفوا، وإنْ اعتصموا بالذِّمَة (٩).
وأما التفسير: فقد ذكرنا معضى (الحبل) عند قوله: ﴿وَاعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٠٣] وبعض المفسرين يذهب إلى أن حبلَ الله ههنا
(١) في (ج): (بالاستغناء).
(٢) في المرجع السابق. نقله بالمعنى.
(٣) من قوله: (أراد..) إلى (بحبل من الله): مكرر في (أ).
(٤) في (ج): (ماح).
(٥) (خطأ): ساقطة من: (ب).
(٦) لم أقف على هذا القائل. وممن ذهب إلى أن الاستثناء منقطع ونصر هذا الرأي: ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٧٠.
(٧) في (ج): (إن الله عز).
(٨) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج).
(٩) وهو اختيار ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٧٠ - ٢٧١.
507
الإسلام (١)؛ يعني [إلّا] (٢) أنْ يُسْلِمُوا. وهذا بعيدة لعطف (حبل الناس) عليه، وإذا أسلموا، استغنوا عن حَبْلِ الناس، ولو أرادَ الله تعالى بالحبلَ الأوَّل: الإسلام، وبالثاني: الذِّمَّة؛ لقالَ: (أو حبل من الناس)، ولكن الصحيح: أن كلا (٣) الحبلين؛ المراد به العهد، والذِّمَّة، والأمان، كما قال ابن عباس (٤) يريد: بعهد مِنَ الله، وعهد مِنَ المؤمنين، وانما ذكر الله تعالى حبلَ الله مع حبل المؤمنين؛ لأن الأمان الذي يأخذونه (٥) من المؤمنين، هو بإذن الله تعالى، فهو أمانٌ مِن جهته.
وباقي الآية مشروح في سورة البقرة (٦).
١١٣ - قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَآءً﴾ قال أبو الهيثم (٧): يقال: (فلانٌ وفلانٌ سَواء) (٨)؛ أي: متساويان، و (قوم سَواء)؛ لأنه مصدر لا يُثَنّى ولا يُجمع. ومضى الكلام في (سواء) في أول سورة البقرة (٩).
(١) ممن قال بذلك: ابن زيد، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٩٣، "تفسير الطبري" ٧/ ٧٣.
(٢) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج).
(٣) في (أ)، (ب)، (ج): كلي.
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٤٨، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٣٥، وأورده السيوطي في " الدر" ٢/ ١١٥ وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر.
(٥) في (ج): أخذونه.
(٦) انظر: "تفسير البسيط" [البقرة: ٦١].
(٧) قوله في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٩٤ (سوى).
(٨) في "تهذيب اللغة": (سواعد) -بدلًا من: (سوى) - ويبدو أنها تصحيف.
(٩) عند آية ٦ من سورة البقرة.
انظر حول (سواء): "الوجوه والنظائر" لهارون بن موسى ٣٦، و"تحصيل نظائر =
508
قال ابن الأنباري (١): يريد: ليس أهل الكتاب الذين سبق ذكرُهم وتقدم وصفُهم، سواءً؛ أي: متساوين في دينهم ومذهبهم. ثمّ ابتدأ فقال (٢):
﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ إنقطع الكلامُ عند (سواءً)، ورفع (الأُمة) بـ (مِنْ) (٣)، وأضمر (٤) (الأمَّة) المذمومة؛ لأن القائمة تكفي من التي ليست بقائمة، على مذهب العرب من الاكتفاء بالشيء من ضده، كما قال أبو ذؤيب (٥):
عَصاني إليها القَلْبُ إِنّي لأمرها مطيعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها؟ (٦)
= القرآن" للحكيم الترمذي ٢٧، "الأضداد" لابن الأنباري ٤٠، "الحجة" للفارسي ١/ ٢٤٥، "الصحاح" ٦/ ٢٣٨٤ (سواء)، و"قاموس القرآن" للدامغاني ص ٢٥٢، و"التصاريف" لمكي ١١١، و"نزهة الأعين النواظر" ٣٥٩، "المغني" لابن هشام ١٨٧ - ١٨٩.
(١) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد بعضُ قوله في "إيضاح الوقف والابتداء" له: ٢/ ٥٨٢.
(٢) فقال: ساقطة من: (ب).
(٣) ممن قال بالوقف التام -هنا- أكثر أهل العلم، ومنهم: نافع، ويعقوب، والأخفش، والزجاج، وأبو حاتم.
انظر: "القطع والائتناف" للنحاس: ٢٣٢، "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٢١٣، "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٥٨، و"منار الهدى" للأشموني ٦٨ وقال: (وهو الأصح).
وإعراب ﴿أُمَّةٌ﴾ على هذا الوجه: مبتدأ مؤخر، و ﴿مِن أَهلِ الكِتَابِ﴾ خبر مقدم. انظر: "التبيان" للعكبري: ص ٢٠٥.
(٤) في (ج): (فأضمر).
(٥) في (ج): (ذيب). وهو: خويلد بن خالد بن مُحرِّث الهُذَلي. تقدم.
(٦) ورد البيت منسوبًا له في "شرح أشعار الهذليين" ١/ ٤٣، "تأويل مشكل القرآن" =
509
أراد: أم غيٌّ؟. فاكتفى بالرُّشد مِن غيره (١).
وقال آخر:
وما أدري إذا يَمَّمْتُ أرضًا أُريدُ الخيرَ أيُّهُما يَلِيني (٢)
=٢١٥، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠١ - ب، "مغني اللبيب" ١٨، ٥٩، ٨٢٠، وانظر: "شرح شواهد المغني" ٢٧، ١٤٢، ٦٧٢)، "الدرر اللوامع" ٢/ ١٧٢.
كما ورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢٣٠، "منهج السالك" ٣/ ١١٦، "همع الهوامع" ٥/ ٢٤١.
وقد ورد في بعض المصادر: (دعاني إليها القلب) وفي معاني الفراء، وتأويل المشكل، وتفسير الثعلبي: (عصيت إليها القلب) كما ورد في جميع المصادر المذكورة: (إني لأمره * سميع..).
قال الأصمعي: (عصاني القلب): جعل لا يقبل مني؛ أي: ذهب إليها قلبي سفها، فأنا أتبع ما يأمرني به، فما أدري أرُشدٌ الذي وقع فيه أم غيٌّ). "شرح أشعار الهذليين" ١/ ٤٣.
(١) وقد تطرق المؤلف لهذا المعنى عند الآية: ٦ من سورة البقرة.
(٢) في (ج): (أيهما أريد).
والبيت للمثقب العبدي، وهو في ديوانه: ٢١٢. وورد منسوبًا له، في "المفضليات" ٥٧٤، "الشعر والشعراء" ١/ ٤٠٣، و"الصناعتين" ٢٠٥، و"الحماسة البصرية" ١/ ٤٠، "شرح شواهد المغني" ١٩١، "خزانة الأدب" ١١/ ٨٠
وورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء: ٢٣١.
وروايته في "المفضليات": (يممت أمرًا..)، وعند الفراء: (يممت وجها..) وفي "الحماسة البصرية" كما عند المؤلف، وفي "شرح شواهد المغني" "الخزانة": (وجهت وجهًا..).
وبعد هذا البيت:
أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني
ومعنى (يميت): قصدت، و (يليني): من (الوَلْي)، وهو: القرب.
510
أراد (١): أريد الخير والشر، فاكتفى بالخير من الشر (٢).
ويجوز أن يرتفع (الأُمَّة) (٣) بـ (سواء)، ويكون المعنى: لا يستوي من أهل الكتاب أمَّةٌ قائمةٌ، وأخرى غيرُ قائمةٍ.
وهذا الذي ذكر (٤) ابنُ الأنباري، كُلُّهُ مذهبُ الفرّاء في هذه الآية (٥).
قال [أبو إسحاق] (٦): هذا الذي قاله (٧)، خطأ فاحش في هذا المكان (٨)؛ لأن ذِكْرَ أهلِ الكتابِ قد جرى في هذه القصة، وأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون [الأنبياء] (٩)، فأعلمَ اللهُ عز وجل أنَّ منهم المؤمنين، الذين هم (١٠) أمةٌ قائمةٌ، فما الحاجَةُ إلى أن يقال: غير قائمة؟ وإنما [المبدوء] (١١) به ما (١٢) كان مِن فِعْلِ أكثرِهم؛ من الكفر والمُشَاقَّةِ للنبي - ﷺ -.
(١) في (ج): (المعنى: لا يستوي أراد). ولم أثبت هذه الزيادة؛ لأنه لا وجه لها، ويبدو أنها سبق قلم من الناسخ.
(٢) انظر المصادر السابقة التي أوردت البيتين؛ حيث تطرقت إلى موضوع الحذف الوارد في الآية.
(٣) في (ج): (الأمر).
(٤) في (ج): (ذكره).
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٣٠.
(٦) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج). وقوله في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٦٠. نقله عنه بنصه.
(٧) في (ج): (قال).
(٨) في "معاني القرآن" في مثل هذا المكان.
(٩) ما بين المعقوفين: مطموس في (أ). ومثبت من (ب)، (ج)، "معاني القرآن".
(١٠) هم: ساقطة من (ب).
(١١) ما بين المعقوفين: في (أ): البدو. والمثبت من (ب)، (ج)، "معاني القرآن".
(١٢) في (ب): (مما).
511
فّذَكَرَ مَنْ كان منهم مباينًا لهؤلاء.
فعند الزجّاج: لا يحتاج إلى إضمار الأمَّةِ المذمومة؛ لأن ذِكْرَ أهلِ الكتاب قد جرى، ثُمّ أخبر الله تعالى أنهم غير متساوين، بقوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾، وههنا وقف التمام. ثُمّ أنبأ بافتراقهم، فقال: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ (١)
قال أبو بكر (٢): وقول الفرّاء هو الحق، واحتجاج الزّجاج عليه مُخْتَلٌّ (٣) فاسد، لأنه لو اكتفى بقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ﴾ [آل عمران: ١١٢] من إضمار الأُمَّة الكافرة بعد ذِكْرِ الأُمَّة المؤمنة، لاكتفى بقوله عز وجل: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠]، مِن ذِكْر الأُمَّتين جميعًا؛ فلما لم يكتفِ بالمؤمنين من الأُمَّة القائمة، لم يكتفِ بالفاسقين من الأُمَّة الكافرة، إذْ كان الله جل وعلا أتى بإخبار بعد إخبار، وَوَصْفٍ لهم إثْرَ وَصْفٍ؛ للزيادة (٤) في الإفهام، والمبالغة في الإيضاح والبيان. والله أعلم.
وكان أبو عبيدة يذهب مذهب الفرّاء: من إضمار الأُمَّة المذمومة، إلّا أنه لا يجعل تمامَ الوقف عند قوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾، ويقول (٥): (الأُمَّة) رُفِع
(١) في (أ)، (ب): ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾. وما أثبته من: (ج)؛ لأنه الأولى والأنسب بسياق الكلام. وما ورد في (أ)، (ب) مما سبق به الفكر والقلب عادة في مثل هذه المواطن.
(٢) هو ابن الأنباري، كما سبق، ولم أقف على مصدر قوله وهو من تتمة النقل السابق عنه.
(٣) في (ج): (محتمل).
(٤) في (ج): (الزيادة).
(٥) لم أقف على مصدر قوله وليس موجودًا في "مجاز القرآن" بهذا النص؛ ونَصُّهُ =
512
بـ ﴿لَيْسُوا﴾.
قال: وجُمِعت (ليس) وهي مُقَدَّمة، على لغة مَن يجمع الفعلَ وإن يقدم، كقولهم: (أكلوني البراغيثُ) (١)، واحتج بقول الفرزدق:
ولكنْ دِيافِيٌّ أَبُوهُ وأُمُّهُ بِحَوْرانَ (٢) يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أقارِبُهُ (٣)
= في (المجاز) هو: (العرب تُجوِّزُ في كلامهم مثل هذا أن يقولوا: (أكلوني البراغيثُ)، قال أبو عبيدة: سمعتها من أبي عمرو الهذلي في منطقه، وكان وجه الكلام أن يقول: (أكلني البراغيث). وفي القرآن: ﴿عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٧١]، وقد يجوز أن يجعله كلامين، فكأنك قلت: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، ثم قلت: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾.) "المجاز" ١/ ١٠١ - ١٠٢.
(١) هذا مثل وضع عَلَما على لغة (طيئ)، وقيل لغة (أزد شنوءة)، أو (بلحارث)، وكما ورد في الهامش السابق عن أبي عبيدة أنه نطق بها بعض (هذيل).
وقد ألحقوا في هذه اللغة علامة الجمع أو التثنية بالفعل، مع ظهور الفاعل، فجمع في (أكلوني البراغيث) واو الجماعة والاسم الظاهر. والأصل المتبع أن يقال: (أكلني البراغيث).
انظر الكلام عن هذه اللغة في "كتاب سيبويه" ٢/ ٤٠ - ٤١، "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٣١٦، "المسائل المشكلة" للفارسي: ١٠٩، "سر صناعة الإعراب" ٦٢٩، "نتائج الفكر" للسهيلي: ١٦٦، "إعراب الحديث النبوي" للعكبري: ١٢٥، ١٣٧ - ١٣٨، "رصف المباني" ١١١، "الجنى الداني" ١٥٠، ١٧٠، "البحر المحيط" ٣/ ٢٤، "مغني اللبيب" ٤٧٨، "أوضح المسالك" ص ٨٢، "همع الهوامع" ٢/ ٢٥٦، "الاقتراح في علم أصول النحو" للسيوطي: ٤٣، "معجم الشوارد النحوية" ١٠٨.
(٢) في (أ)، (ب)، (ج): (بحوزان). والمثبت من: الديوان ومصادر البيت.
(٣) البيت في ديوانه: ٤٤. وقد ورد منسوبًا له في "كتاب سيبويه" ٢/ ٤٠ (وانظر شرح أبيات سيبويه، للنحاس: ١١٣)، "أمالي بن الشجري" ١/ ٢٠١، "شرح المفصل" ٣/ ٨٩، ٧/ ٧، "معجم البلدان" ٢/ ٤٩٤، "خزانة الأدب" ٥/ ٦٣، ٢٣٤، ٧/ ٣٤٦، ٤٤٦، ١١/ ٣٧٢، "اللسان" ٢/ ١١٩٣ (خطأ)، ٤/ ٢٠٦٥ (سلط)،=
513
ولم يرتض هذا القولَ أحدٌ مِن النحويين، وقالوا: هذا الذي قاله، لغة رديئة في القياس والاستعمال.
أما القياس؛ فلأن الجمعَ عارِضٌ، والعارِضُ لا تُؤكَّد عَلامَتُه؛ لأنه بمنزلة ما لا يُعتَدُّ بِه، وليس كالتأنيث؛ للزومه، فَتُقَدَّم [له] (١) العَلامَةُ؛ لِتُؤذِنَ به قبل ذِكْرِهِ. ومع (٢) [هذا؛ فجائز] (٣) تركها فيه، فكيف (٤) بالعارض (٥)؟ ولزوم (٦) الفعل للفاعل يغني عن التثنية والجمع فيه، فلا
= ٣/ ١٤٥٥ (دوف)، "الدر اللوامع" ١/ ١٤٢.
وورد غير منسوب في "الحجة" للفارسي: ١/ ١٣٢، "الخصائص" ٢/ ١٩٤، و"إعراب الحديث النبوي" ١٢٥، ١٣٨، "رصف المباني" ١١٢، "الجنى الداني" ١٥٠، "همع الهوامع" ٢/ ٢٥٦.
والبيت من قصيدة قالها في هجاء عمرو بن عفراء الضبِّي.
و (دِيافيّ) نسبة إلى (دِياف) وهي من قرى الشام، وأهلها نَبَط، و (حوران): من قرى الشام. انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٤٩٤، "الخزانة" ٥/ ٢٣٥.
و (السليط): الزيت. وقيل: كل دهن عصر من حب. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٠٦٥ (سلط). يقول الشاعر -هنا- عن المهجو: إنَّ أهله من النَّبطِ، وليسوا من العرب الخلَّص، أصحاب الانتجاع والشجاعة والحروب، بل هم من أهل (دِياف)، ممن يعيشون على عصر الزيت. وزاده هجاءً بقوله: (يعصرن) -بنون النسوة- يشبههم بالنساء ذوات الخدمة والتبذل، وليسوا كالرجال ممن شأنهم الحروب.
والشاهد فيه: قوله: (يعصرن السليط أقاربه) ولم يقل (يعصر)، على الأصل، حيث إنه فعل مقدمة، وفاعله (أقاربه)، والنون في الفعل علامة لكون الفاعل جمعًا.
(١) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٢) في (ج): مع.
(٣) ما بين المعقوفين: غير مقروء في (أ). وفي (ب): هذا الحيز. والمثبت من: (ج).
(٤) في (ج): (وكيف).
(٥) في (ب): (العارض).
(٦) في (ب): ولزومه. في (ج): (ولزم).
514
يدخل جمعٌ على جمع، كما لا يدخل تعريفٌ على تعريف.
وأما الاستعمال؛ فإن أكثر العرب تَرَك هذه اللغة، وهي من لغة من لا يُرتَضى لغتُه، ولم ينزل الله عز وجل كتابَه إلا بأعرب اللغات، وأقربها من البيان. ومتى جُمع الفعلُ مُقدَّمًا [أوْهَمَ] (١) أسماءً (٢) قبله، ولم يَقِفْ المخاطَبُ على معنى الكلام، إلّا بعد تفكر [من التَّوَهُّم] (٣).
ومعنى ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾: قال ابن عباس (٤): يريد: قائمة على الحَقِّ، وعلى أمر الله، لم تتركه كما تركه الآخرون.
وقال مجاهد (٥): عادلة. وقال السُدِّي (٦): قائمة بطاعة الله. وقال ابن قتيبة (٧): مواظبة على أمر الله.
وقوله تعالى: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ﴾. أي: يقرأون كتاب الله.
(١) في (أ)، (ب)، (ج): وهم. وما أثبته هو كما رجحت صوابه؛ لأني لم أجد في معاجم اللغة التي رجعت إليها، أن (وهم) يتعدى بدون الهمزة، أو بالتضعيف. وما يؤكد هذا أن الواو في (وهم) لصقت بالألف في (مقدما) في (أ)، (ج).
(٢) في (ب): (إنهاء).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من: (ج).
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٥٤، "ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٣٨، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٤٦٢، "تفسير البغوي" ٢/ ٩٣، وقد رجح هذا الطبري في تفسيره في الموضع السابق، وابن كثير في "تفسيره" ١/ ٤٢٧.
(٥) قوله في "تفسيره" ١٣٣، "تفسير الطبري" ٤/ ٥٣، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٣٨، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٤٦٢، "تفسير البغوي" ٢/ ٩٣، "الدر المنثور" ٢/ ١١٦ وزاد نسبته لعبد بن حميد.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٥٣، "ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٣٧، "البغوي" ٢/ ٩٣.
(٧) في "تفسير غريب القرآن" له ١٠٨.
515
﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾. ساعاته. والواحد: (إنًى)، مقصورٌ؛ مثل: (مِعًى) (١). قال الراجز:
لله درُّ جعفرٍ أيَّ فتًى مُشَمِّرٍ عن ساقه كُلَّ إنًى (٢)
ويجوز: (إنْيٌ)، مثل: (نِحْيٌ) (٣)، و (حِسْيٌ) (٤).
قال الأعشى:
في كلِّ إنْيٍ حَذَاهُ الليلُ يَنْتَعِلُ (٥)
(١) في (أ)، (ب)، (ج): (معًا). والمثبت من كتب اللغة. انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٢٢٥ (أنى).
(٢) في (ب): (أنى). ولم أقف على قائله، وقد أورده الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٠٢ أ، ولم يعزه لقائل، ولم أقف على مصادر أخرى له.
(٣) في (ب): (محي).
والنِحْيُ: الزِّقُّ -وهو السقاء الذي يُتَّخذ للشراب، أو ما كان للسمن خاصة-، أو نوع من الرُّطَب، أو سهم عريض النصل. ويقال -كذلك-: (النِّحْي، والنَّحَى). والجمع: (أنحاء، ونُحِيٌّ، ونِحاءٌ).
انظر: (نحا) في "اللسان" ٧/ ٤٣٧٢، "القاموس" ص ١٣٣٧.
(٤) الحِسْيُ: سهل من الأرض يستنقع فيه الماء. وقيل: غِلَظٌ فوقه رمل يجتمع فيه ماء المطر، فكلما نَزحتَ دلوا جمَّت أخرى. والجمع: أحساء.
انظر: "الصحاح" ١٣١٣ (حسا)، "المجمل" ٢٣٣ (حسو)، "اللسان" ٢/ ٨٨٠ (حسا)، "القاموس" ص ١٢٧٤ (حسا).
(٥) في (أ)، (ب)، (ج): ورد البيت كالتالي: (في كل إنيٌ جداه الليل شغل). وما أثبته فمن مصادر البيت.
والبيت ليس للأعشى كما ذكر المؤلف، بل هو لأبي أُثَيْلَة، المُتَنَخِّل، مالك بن عويمر بن عثمان الهُذَلي. وقد ورد منسوبًا له في "سيرة بن هشام" ٢/ ١٨٦، "مجاز القرآن" ١/ ١٠٢، ٢/ ٣٣، "شرح أشعار الهذليين" ٣/ ١٢٨٣، "الشعر والشعراء" ص ٤٣٩، "الصحاح" ٢٢٧٣ (أنا)، "اللسان" ١/ ١٦٢ (أنى).
516
قال المفسرون: يعني بـ (الأُمَّة القائمة) ههنا: عبد الله بن سلام، ومن آمَنَ معه من أهل الكتاب. هذا قول ابن عباس (١)، وقتادة (٢)، وابن
= وورد غير منسوب في "تفسير الطبري" ٤/ ٥٤، "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٥٩، "المنتخب" لكراع النمل: ٢/ ٦٠٨، "معاني القرآن" للأخفش: ١/ ٢١٤، وكتاب "حروف الممدود والمقصور" للكسائي: ٦٤، "المنصف" ٢/ ١٠٧، "تهذيب اللغة" ١/ ٣٦١٤ (نعل)، ١/ ٢٢٥ (أنى)، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠٢ أ.
وأول البيت:
حلْوٌ ومُرٌّ كَعَطْفِ القِدْح مِرَّتُهُ
وقد ورد في بعض المصادر: (بكل إني..)، وورد: (قضاه الله..)، و (قضاه الليل..) بدلًا من: (حذاه الليل)، وفي المنتخب، لكراع النمل: (حَدَاهُ الليل)، وورد: (كعطف القدح شيمتُهُ..).
الشاعر -هنا- يرثي ابنه أثَيْلَة، ويصفه بأنه (حلو ومر)؛ أي: حلو وسهل لمن يستحق المعاملة الحسنة، ومرٌّ وشديد على من يستحق الشدة والخشونة. وقوله: (كعطف القدح)، (القِدْح): السهم قبل أن يُراش ويُنْصل. و (المِرَّة): الشِّدّة، والقوة. يريد: أنه يُطوَى كما يُطوَى القِدح، ثم يعود إلى شدَّته واستقامته. قوله: (حذاه الليل): أي: قطعة اليل حِذاءً. و (ينتعل)، أي: يتخذه نعلًا. أي: إنه يسري في كل ساعة من ساعات الليل، لا يتأَخر ولا يهاب.
انظر: "شرح أشعار الهذليين" ٢/ ١٢٨٣، وتعليق الأستاذ محمود شاكر على البيت في هامش "تفسير الطبري" ٧/ ١٢٥ - ١٢٦.
وفسر كراع النمل: (حداه الليل)؛ أي: ساقه وقال: (أي: ينتعل كل إنيٍ حداه؛ أي: ساقه، و (في) زائدة) المنتخب: ٦٠٨.
(١) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٥٢، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٣٧، "الدر المنثور" ٢/ ١١٥، وزاد نسبة إخراجه لابن إسحاق، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر.
(٢) لم أقف على مصدر قوله وقد أورده ابن الجوزي في الزاد: ١/ ٤٤٢. والذي في تفسير الطبري عنه: (ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية) ٤/ ٥٢.
517
جريج (١).
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ قال الفرَّاء (٢)، والزجاج (٣): أي: يُصلُّون؛ لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع. فالمراد بـ (السجود) (هنا) (٤): الصلاة، وإنَّما ذكرت بلفظ السجود؛ لأن السجود نهاية ما فيها من التواضع.
فعلى ما ذكروا (٥)؛ الواو في (وهم) واو الحال؛ أي: يقرأون القرآن مُصَلِّينَ.
وقال غيرهما (٦): يجوز أن يكون المراد: حقيقة السجود، لا الصلاة؛ فيكون التأويل: يتلون آيات الله آناء الليل (٧)، وهم مع ذلك يَسجدون. فليست الواوُ حالًا، وإنَّما هي عطف جملةٍ على جملة (٨). وعلى هذا؛ لم يعدل بالسجود عن ظاهره.
وقال ابن مسعود (٩): هذه في صلاة العَتَمَة؛ يصلونها، ومن سواهم
(١) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٥٢.
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣١.
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٥٩. المؤلف -هنا- دمج بين عبارات الفراء والزجاج، ولفَّقَ بينها.
(٤) زيادة من (أ).
(٥) في (أ) و (ج): (ذكر).
(٦) ممن قال ذلك: الطبري في "تفسيره" ٤/ ٥٦، رادًّا على الفراء رأيَه السابق. والعبارة التالية قريبة من عبارته في تفسيره.
(٧) (آناء الليل): ساقطة من: (ج).
(٨) أي: أنها معطوفة على قوله تعالى ﴿يَتْلُونَ﴾، في موضع رفع نعت لـ ﴿أُمَّةٌ﴾. وقد تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب. واستحسن هذا مكِّي بن أبي طالب.
(٩) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٥٥، "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٧٣٩، "التاريخ =
518
من أهل الكتاب لا يصليها.
١١٤ - قوله تعالى ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال ابن عباس (١): يريد: بتوحيد الله. ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾: يريد: عن الشرك بالله.
وقال الزجاج (٢): أي: يأمرون باتِّباع (٣) النبي - ﷺ -، وينهون عن
= الكبير" للبخاري ١/ ٢/ ٣٠٨، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١١٦ وزاد نسبة إخراجه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
وقد وردت في رواية أخرى للطبري عن ابن مسعود عبارةٌ مُدرَجة، تبيِّن أن صلاة العتمة هي صلاة العشاء، ونصها: (خرج علينا رسول الله - ﷺ -ونحن ننتظر العشاء- يريد: العتمة- فقال لنا: ما على الأرض أحدٌ من أهل الأديان ينتظر هذه الصلاة في هذا الوقت غيركم. قال: فنزلت: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾). وقد يكون الإدراج من الطبري أو من أحد رواة الأثر عن ابن مسعود.
أخرج هذه الرواية: أحمد ١/ ٣٩٦، والطبري في "تفسيره" ٤/ ٥٥، وابن أبي حاتم ٣/ ٧٣٨، والنسائي في "تفسيره" ١/ ٣٢٠، وابن حبان (الإحسان) ٤/ ٣٩٧ رقم: ١٥٣٠)، والبزار (انظر: "كشف الأستار" ١/ ١٩٠ رقم: ٣٧٥)، والواحدي في "أسباب النزول" ص١٢٣، وانظر: "تفسير ابن مسعود" ١/ ١٧٦ - ١٧٨.
وقد ورد عن ابن عباس، والسُدِّي تفسير ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ بجوف الليل. وعن الثوري، عن منصور بن المعتمر السلمي: أنها بين المغرب والعشاء.
وهي معان متقاربة، لأن كلًّا منها يصدق عليه أنه من آناء الليل.
إلا أن الطبري يرى أن أَوْلاها، هو قول من قال: هي تلاوة القرآن في صلاة العشاء، لأنه صلاة لا يصليها أحد من أهل الكتاب.
انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٥٤ - ٥٦، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٣٨ - ٧٣٩.
(١) لم أقف على مصدر قوله. وفي "النكت والعيون" ٢/ ٨٨١ أورد عن ابن عباس، أن (المعروف: اتباع الرسول. والمنكر: عبادة الأصنام).
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٦٠. نقله عنه بنصه.
(٣) في (ب): (يأمرون بتوحيد الله باتباع النبي).
الإقامة على مُشَاقَّتِه.
وقوله تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ فيه وجهان لأصحاب المعاني:
أحدهما: أنهم يبادرونها خوف الفَوْتِ بالموت (١). والآخر: [يعملونها] (٢) غير متثاقلين (٣) فيها (٤).
والسُّرْعة محمودةٌ، بخلاف العَجَلَة؛ وذلك أنَّ (السرعة): التقدم فيما ينبغي أن تتقدم (٥) فيه. ونقيضها مذموم، وهو: (الإبطاء) (٦).
و (العَجَلَة) مذمومة، وهي: التقدم فيما لا ينبغي أن تتقدم (٧) فيه (٨). ونقيضها: (الأَنَاة) (٩)، وهي محمودة.
١١٥ - قوله تعالى: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ موضع ﴿يَفْعَلُوا﴾: جزم بالشرط، وجوابه: ﴿فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾.
وفيهما قراءتان (١٠):
(١) ممن قال بذلك: الطبري في "تفسيره" ٤/ ٥٦. وهو المتبادر من معنى الآية.
(٢) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب): (يعلمونها). والمثبت من: (ج).
(٣) في (ب): (متشاقين).
(٤) لم أقف على من قال بهذا القول، ممن سبق المؤلف.
(٥) في (ب): (يتقدم).
(٦) انظر: "اللسان" ٤/ ١٩٩٤ (سرع)، "بصائر ذوي التمييز" ٣/ ٢١٤.
(٧) في (ب): يتقدم.
(٨) قال الفيروز آبادي: (والعجلة من مقتضيات الشهوة؛ فلذلك ذُمَّت في جميع القرآن، حتى قيل: إن العجلة من الشيطان. وقوله -تعالى-: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: ٨٤]، ذُكر أن عجلته -وإن كانت مذمومة- فالذي دعا إليها أمرٌ محمود، وهو: طلب رضا الله). "بصائر ذوي التمييز" ٤/ ٢٣.
(٩) في (ب): (الإناء).
(١٠) قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم بالياء في ﴿يَفعَلُوا﴾ و ﴿يُكفَرُوهُ﴾.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبي بكر عن عاصم، وابن عامر، بالتاء فيهما. وورد عن أبي عمرو القراءة بالياء، والتاء.
انظر: "السبعة" ٢١٥، "الحجة" للفارسي: ٣/ ٧٣، "النشر" ٢/ ٢٤١.
520
الياءُ؛ للكناية عن الأُمَّةِ القائمة، ثم سائر الخلق داخل في هذا الشرط.
ومن قرأ بالتَّاء؛ فلأن نظائره جاءت بالتَّاء؛ مخاطبة لجميع الخلائق، من غير تخصيص قوم دون قوم؛ كقوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ١٩٧]، ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ (١) [البقرة: ٢٧٢].
ومعنى ﴿فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾: فلن تعدموا (٢) ثوابه، ولن تُجحَدوا جزاءَه (٣) وسُمِّيَ منعُ الجزاء على عمل الخير كفرًا؛ لأنه بمنزلة الجَحْدِ له، والسَّتْر (٤)؛ لئلا يقع الجزاء عليه. ولمَّا جعل ثواب الطاعة من الله تعالى
(١) ورد في (أ)، (ب)، (ج): (وما تفعلوا من خير يوف غليكم) وليست هذه آية قرآنية. والصواب ما أثبته.
وقد أورد هذه الآية في هذا الموضع -في سياق بيان وجه القراءة بالتاء- الفارسيُّ في "الحجة" ٣/ ٧٣ - وهو من مصادر المؤلف في كتابه هذا-، وكذا أوردها مكيُّ في "الكشف" ١/ ٣٥٤.
(٢) في (ب): (تقدموا).
وقوله: (ولن تعدموا ثوابه ولن تجحدوا جزاءه): بنصها في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠٣أ.
(٣) في (ج): (جزاه). انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٥٧.
(٤) أصل معنى كلمة (كفر): السَّتْر والتغطية. انظر: (كفر) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٦٠. "مقاييس اللغة" ٥/ ١٩١.
وعبارة الطبري في بيان معنى الآية: (فلن يغطي على ما فعلوا من خير، فيتركوا بغير مجازاة، ولكنهم يشكرون على ما فعلوا من ذلك فيجزل لهم الثواب). "تفسيره" ٤/ ٥٧، وانظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٨٠.
521
شُكْرًا لأن معنى الشاكر في (١) صفته: أنَّه يُثِيب (٢) على الطاعة (٣) جعل منع الثواب كفرًا.
ومعنى (٤) قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ أي: لا يُضيع شيئًا من أعمالهم (٥)؛ لأن المُجازي به عليمٌ بهم.
١١٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قال ابن عباس (٦): يريد: قريظة والنضير (٧).
﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾ أي: لن تدفع عنهم الضَّررَ إذا نزل بهم أموالُهم ولا أولادُهم. خُصَّا بالذكر؛ لأنهما مُعتَمَد ما يقع به الاغترارُ، فإذا لم يغنيا، فغناء مَن دونهما أبعد.
وقال الزجّاج (٨): لأن رؤوساء اليهود مالوا إلى الأموال في معاندتهم
(١) في (ج): (مع).
(٢) في (ج): (يثبت).
(٣) قال الزجاج: (فكأن الشكر من الله -تعالى- هو: إثابتة الشاكر على شكره، وقبوله للطاعة شكرا على طريقة المقابلة؛ كما قال عز اسمه: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم﴾ [البقرة: ١٩٤]). "تفسير أسماء الله الحسنى" ٤٨. ونقل الأزهري عن الزجاج -كذلك- قوله: (والشكور من أسماء الله -جل وعز- معناه: أنه يزكو عنده القليل من أعمال العباد، فيضاعف لهم به الجزاء). "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩١٣.
(٤) ومعنى: ساقطة من: (ج).
(٥) في (أ) و (ج): (عملهم).
(٦) لم أقف على مصدر قوله.
(٧) قال الطبري:
(وهذا وعيد من الله عز وجل للأمَّة الأخرى الفاسقة من أهل الكتاب ولمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بالله ورسوله..). "تفسيره" ٤/ ٥٨.
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٦٠. نقله عنه بالمعنى.
النبي - ﷺ -، وإنما قامت لهم الرياسة، واكتسبوا الأموالَ بمعاندته.
والدليل على ذلك: قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩] الآية.
وخص الأولاد؛ لأنهم أقرب أنسبائهم (١) إليهم.
وقال بعض المفسرين (٢): لن تغني عنهم أموالُهم في الصدقات، ولا أولادُهم في الشفاعات، بخلاف المؤمن، فإنَّ المؤمنَ ينفعه مالُه في الكَفَّارات والصدقات؛ وأولاده في الشفاعة. والدليل على صحة هذا التفسير: ما ذكر مِن بُطلان نفقاتهم عقيب هذه الآية في:
١١٧ - قوله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الآية.
قال يَمَان (٣): نزلت في إنفاق أبي سفيان والمشركين في بدر وأحد، على عداوة النبي - ﷺ -.
وقال مقاتل (٤): يعني: نفقة سَفَلَة اليهود على علمائهم (٥).
وقال مجاهد (٦): يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا، وصدقاتهم.
(١) في (ب)، (ج): أنسابهم.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠٣ ب، وقد أورد الماوردي هذا القول في "النكت والعيون" ١/ ٤١٨ ولم يعزه لقائل.
(٤) قوله في "تفسيره" ١/ ٢٩٦، "تفسير بحر العلوم" ٢/ ١٣٥، "الثعلبي" ٣/ ١٠٣ ب.
(٥) بيَّن مقاتل أن نفقة سفلة اليهود على علمائهم، يبتغون بها الآخرة، ثم أردف مقاتل قائلًا: (فكذلك أهلك الله نفقات سفلة اليهود ومنهم كفار مكة التي أرادوا بها الآخرة، فلم تنفعهم نفقاتهم). "تفسيره" ٢٩٧.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٥٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٤١، وتفسير مسلم بن خالد الزنجي: ٧٧ (ضمن الجزء الذي فيه تفسير القرآن ليحيى بن اليمان وغيره =
523
الزجّاج (١): كل ما أُنفق في التظاهر على عداوة الدين.
ومعنى (المَثَل): الشَّبَهُ الذي يصير كالعَلَمِ؛ لكثرة استعماله فيما يُشَبَّه به (٢). ولا بُدَّ من تقدير محذوفٍ من الكلام، حتى يتقابل المثلان في التشبيه (٣)، وهو: مَثَل إهلاك ما ينفقون، كَمَثَل إهلاك ريح. فحذف الإهلاك؛ لدلالة آخر الكلام عليه (٤).
= رواية أبي جعفر الرملي). وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١١٧ وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(١) في "معاني القرآن" له: ١/ ٤٦١.
(٢) انظر: (مثل) في "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب: ٧٥٩، "اللسان" ٧/ ٤١٣٢. وانظر الوجوه المختلفة لكلمة (مثل) في القرآن، في "التصاريف" ٢٥٣، "الوجوه والنظائر" في القرآن، د. القرعاوي: ٥٨٨.
(٣) وذلك أن الظاهر -هنا-: تشبيه الشيء المُنفَق بالريح، وفي ذلك إشكال؛ لأنه ليس هو المقصود من معنى المثل هنا، لذا لزم التقدير.
(٤) وقيل: هو من باب التشبيه المركب، شبَّه هيئة حاصلة من أشياء، بهيئة أخرى. وبه قال الزمخشري في "الكشاف" ١/ ٤٥٧.
وقيل: هو من باب التشبيه بين شيئين وشيئين، فذكر الله أحد الشيئين المشبَّهين وترك الآخر، وذكر أحد الشيئين المشبَّه بهما -وليس هو مما يقابل المذكور الأول- وترك ذكر الآخر، ودلَّ المذكوران على المتروكَيْنِ.
وبه قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٨١ وقال: (وهذا غاية البلاغة والإعجاز). وانظر: "البحر المحيط" ٣/ ٣٧، "الدر المصون" ٣/ ٣٥٨ - ٣٥٩.
قال ناصر الدين بن المنير: (أصل الكلام-والله أعلم-: مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا، كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم، فأصابته ريح فيها صِرٌّ فأهلكته، ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور؛ لفائدة جليلة، وهو: تقديم ما هو أهم؛ لأن الريح التي هي مثل العذاب، ذِكْرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث، فقدمت عناية بذكرها، واعتمادًا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة بردِّ الكلام إلى أصله على أيسر وجه..). الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال (مطبوع مع "الكشاف" (١/ ٤٥٨).
524
وقوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ اختلفوا في (الصّر): فقال أكثر المفسرين، وأهل اللغة (١): الصِّرُّ: البَرْد الشديد.
وهو قول ابن عباس في رواية عطاء (٢)، وقتادة (٣)، والربيع (٤)، والسدّي (٥)، وابن زيد (٦).
ومعنى الآية: أن إنفاقهم في الدنيا على عداوة الدين، أفسد عليهم أعمالَهم في الآخرة، كما أفسدت هذه الريحُ -التي فيها الصِّرُّ- الزرعَ الذي وقعت به (٧).
(١) (أهل اللغة) ساقط من: (ج).
(٢) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه من طريق عطاء، ولكن ورد عنه ذلك من طرق أخرى أخرجها الطبري ٤/ ٥٩، وابن أبي حاتم ٣/ ٧٤١، وذكر هذا القول عنه الماوردي في "النكت والعيون" ١/ ٤١٨، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١١٧ وزاد نسبة إخراجه لسعيد بن منصور، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٥٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٤١، "النكت والعيون" ١/ ٤١٨.
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٥٩، "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٤١.
(٥) قوله في المراجع السابقة، "النكت والعيون" ١/ ٤١٨.
(٦) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٦٠، ونصه: (قال: (صر): باردة، أهلكت حرثهم، وقال: والعرب تدعوها (الضريب)، تأتي الريح باردة فتصبح ضريبا قد أحرق الزرع). و (الضريب) هنا معناها: الثلج والجليد والصقيع. انظر: "القاموس" ص ١٠٧ (ضرب).
وممن فسر (الصر) بـ (الريح الباردة): أبو عبيدة، وأبو عبيد بن سلام، وابن السكيت، والمبرد، والطبري، والزجاج، والنحاس.
انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٠٢، "غريب الحديث" لأبي عبيد: ٤/ ٤٧٢، "إصلاح المنطق" ٢١، "الكامل" للمبرد: ١/ ٢٥، "تفسير الطبري" ٤/ ٦٠، "معاني القرآن" للزجاج: ١/ ٤٦١، "معاني القرآن" للنحاس: ١/ ٤٦٤.
(٧) قال ابن القيم: (هذا مثل ضربه الله -تعالى- لمن أنفق ماله في غير طاعته =
525
وقال الزّجاج (١): أعلم الله -تعالى-: أن ضَرَرَ نفقتهم عليهم، كضَرَرِ هذه الريح على (٢) هذا الزرع.
وقال ابن عباس (٣): الصِّرُّ: السَّمُومُ الحارَّةُ التي تقتل (٤).
وإلى قريبٍ من هذا القول ذهب ابنُ كيسان، وابن الأنباري (٥) (فقالا) (٦): الصِّرُّ: النار. وهو قول مجاهد -في رواية ابن أبي نَجِيح- (٧).
= ومرضاته، فشبَّه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر، وكسب الثناء، وحسن الذكر، لا يبتغون به وجه [الآخرة]، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله -عليهم الصلاة والسلام-، بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره، فأصابه ريح شديدة البرد جدًا، يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته). أمثال القرآن: ٥٢.
(١) في: "معاني القرآن"، له ١/ ٤٦١. نقله بنصه.
(٢) في "معاني القرآن": في.
(٣) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده البغوي ٢/ ٩٤، وابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٤٤٤. وذكر هذا القول عنه: ابن القيم في "أمثال القرآن": ٥٣، وابن كثير في: "تفسيره": ١/ ٤٢٧.
(٤) في (ج): (تقبل).
والسَّمُوم: ريح حارَّة تكون غالبًا في النهار. والجمع: سمائم. انظر: "القاموس": ص ١١٢٤ (سمم).
(٥) لم أقف على مصدر قوليهما.
وفي تفسير الفخر الرازي: (الصِّر: هو السموم الحارة، والنار التي تغلي، وهو اختيار أبي بكر الأصم، وأبي بكر بن الأنباري) ٨/ ٢١٣. ثم ذكر بقية قول ابن الأنباري الآتي.
(٦) من (أ) وفي باقي النسخ: (فقال).
(٧) أخرج عنه ذلك ابن أبي حاتم في: "تفسيره": ٣/ ٧٤١ قائلًا: (وروي عن مجاهد في إحدى الروايات نحو ذلك)؛ أي: نحو قول ابن عباس في تفسير (الصِّرِّ) =
526
قال ابن الأنباري (١): وإنما وُصِفت النارُ أنها صِرٌّ؛ لتَصْرِيَتِها (٢) عند الالتهاب.
قال الزجاج (٣): وهذا غير ممتنع. وصوت لهيب النار يُسمَّى صِرًّا (٤)، ومن هذا: (صرير الباب). ويقال: (صَرْصَرَ الأخطَبُ (٥)
= بـ (النار)، ولم يُبَيِّن ابنُ أبي حاتم السندَ إلى مجاهد.
وابنُ أبي نَجِيح، هو: أبو يَسَار، عبد الله، بن أبي نجيح - (يسار) -، المَكِّي، الثقفي بالولاء. من الأئمة الثقات، إلا أنه رُمي بالقدر والاعتزال، وربَّما دَلَّس. قال ابن تيمية: (تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد، من أصح التفاسير، وليس بأيدي أهل التفسير كتاب في التفسير، أصح من تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد، إلا أن يكون نظيره في الصحة)، مات (١٣١ هـ)، وقيل: بعدها.
انظر: "تفسير سورة الإخلاص"، لابن تيمية: ٢٠١، و"ميزان الاعتدال": ٣/ ٢٢٩، و"تقريب التهذيب": ص ٣٢٦ (٣٦٦٢).
(١) لم أقف على مصدره. وقد أورد قوله هذا ابن الجوزي في: الزاد: ١/ ٤٤٥، وابن القيم في: أمثال القرآن: ٥٣، والفخر الرازي في: "تفسيره": ٨/ ٢١٣. وكذا نقل صاحب "اللسان" هذا المعنى، فقال: (وقال ابن الأنباري في قوله -تعالى-: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾، قال: فيها ثلاثة أقوال: أحدها: فيها برد، والثاني: فيها تصويت وحركة، وروي عن ابن عباس قوله آخر: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾، قال: فيها نار) ٤/ ٢٤٢٩ (صرر).
(٢) في "زاد المسير"، و"تفسير الفخر الرازي" لتصويتها. وورد في "أمثال القرآن" لابن القيم: (لتصريتها) -كما هي عند المؤلف-.
(٣) في: "معاني القرآن"، له: ١/ ٤٦١.
(٤) ونص عبارة الزجاج: (وجعل فيها صِر؛ أي: صوت، وهذا يخرج في اللغة، وإنما جعل فيها صوتًا؛ لأنه جعل فيها نارًا، كأنها نار أحرقت الزرع. فالصر -على هذا القول-: صوت لهيب النار، وهذا كله غير ممتنع).
(٥) الأخطب: من نوع الطيور، قيل: هو الشِّقِرَّاق، وهو طائرٌ مُرَقَّط، وقيل: هو الصُّرَد. وسُمِّيا بذلك، لأن فيهما سوادًا وبياضًا. انظر: "تاج العروس": ١/ ٤٦٩ (خطب).
527
صَرْصَرَةً) (١). و (الصَّرَّةُ): الصَّيْحة (٢)، ومنه قوله تعالى: ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ﴾ (٣) [الذاريات: ٢٩]. وقول ابن عباس على هذا يتوجه، فإن السموم الحارة لها صوت، ألا ترى إلى قول الراعي:
فَعُجْنَا على رَبْعٍ بِرَبْعٍ تَعُودُهُ مِنْ الصَّيفِ جَشَّاءُ الحَنِينِ نَؤُوجُ (٤)
(١) تقول العرب: (صَرَّ الجُنْدبُ صَرِيرًا)، و (صرصر الأخطبُ صَرْصَرَةً)، و (صَرَّ البابُ يَصِرُّ). (وكل صوت شِبْه ذلك فهو صرير؛ إذا امتد، فإذا كان فيه تخفيف وترجيع في إعادة ضُوعِف). "العين": ٧/ ٨٢ (صرّ)، وانظر: "الصحاح": ٧١٢ (صرر).
(٢) انظر: "اللسان": ٤/ ٢٤٢٩ (صرر).
(٣) تفسير (الصرَّة) بـ (الصيحة) هو ما عليه أكثر أهل التفسير. انظر: "تفسير الطبري" ٢٦/ ٢٠٩، و"العمدة في غريب القرآن" لمكي ٢٨٢، و"تفسير أبي المسعود" ٨/ ١٤٠، و"الدر المنثور": ٢/ ١١٧.
وقال السمين الحلبي في تفسيرها: (قيل: جماعة من النساء. سميت صرة؛ لانضمام بعضها إلى بعض، كأنهم جُمِعوا وصُرُّوا في وعاء واحد..). "عمدة الحفاظ" ٢٩٢ (صرر)، ثم ذكر المعنى الآخر.
وما ذكره الحلبي صحيح من ناحية اللغة. انظر هذا المعنى في: "الصحاح": ٢/ ١٧٠ (صرر)، و"اللسان": ٤/ ٢٤٢٩.
(٤) البيت في: ديوانه: ٢٢. وورد منسوبًا له في: "تهذيب اللغة": ٢/ ١٣٤٧ (ربع)، و"اللسان": ٣/ ١٥٦٣.
وروايته في الديوان:
فعجنا على رَسْمٍ بربْعٍ تَجُرُّهُ
وفي "اللسان": (تُؤَرِّجُ) بدلًا من: (نَؤُوُج).
وقوله: (فعُجْنا)، من (عاج بالمكان، وعاج عليه، عَوْجًا)؛ أي: عَطَفَ عليه، ومالَ، وألَمَّ به، ومرَّ عليه.
والرَّبْع: هو المنزل، وأهل المنزل. والرَّبع الثاني الذي ذكره في البيت، يريد به: طَرَف الجَبَل. =
528
فعلى هذا، قوله: ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ أي: سَمُوم؛ كالنار أحرقت الزرع، أو نارٌ لها صوت (١).
وروى ابن الأنباري -بإسناده- عن السُّدِّيّ، عن أبي مالك (٢)، عن ابن عباس، في قوله: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾، قال: فيها نار (٣).
وقوله تعالى: ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ قال ابن عباس (٤): جحدوا نعمة الله عندهم. وقال آخرون (٥): ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية.
= وقوله: (جشَّاء الحنين): (الأجش): الغليظ الصوت، والمؤنث: (جَشَّاء)؛ أي: لها صوت أجش. يقال للريح التي لها حنين يشبه حنين الإبل: (الحَنُون).
وقوله: (نؤوج) من (نَأجَ، ينأجُ، نأجًا) وهو من الإنسان أحزن ما يكون من الدعاء وأضرعه وأخشعه. و (النَّأج، والنئيج)، بمعنى: الصوت والسرعة، ويقال عن الريح: (نَأجَتْ، تَنْأجُ، نَئِيجًا): تحركت، فهي (ريح نؤوج)، و (لها نَئيج)؛ أي: مَرٌّ سريع مع صوت.
انظر: "تهذيب اللغة": ٢/ ١٣٤٧ (ربع)، و"اللسان": ٥/ ٣١٥٦ (عوج)، ٧/ ٤٣١٢ (نأج)، ٢/ ١٠٢٩ (حنن)، ٢/ ٦٢٨ (جشش).
(١) قال ابن القيم: (وأقوال الثلاثة متلازمة، فهو برد شديد محرق بِيبُسْه للحرث، كما تحرق النار، وفيه صوت شديد). "أمثال القرآن": ٥٣. وانظر: "تفسير ابن كثير": ١/ ٤٢٧.
(٢) هو: غَزْوان الغِفاري الكوفي، مشهور بكنيته (أبي مالك). ثقة، عده ابن حجر من الطبقة الوسطى من التابعين، توفي بعد المائة.
انظر: "الجرح والتعديل": ٧/ ٥٥، و"التقريب": ص ٤٤٢ (٥٣٥٤).
(٣) وقد أخرج هذا القول عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره": ٣/ ٧٤١ من رواية عنترة بن عبد الرحمن الكوفي عنه.
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) منهم السدي، وهو ما يفهم من قوله في الآية: (فكذلك أنفقوا، فأهلكهم شركهم). "تفسير الطبري": ٤/ ٦٠. و"تفسير ابن أبي حاتم": ٣/ ٧٤٢. وهو قول الطبري في "تفسيره".
وهو قول الكلبي. انظر: "بحر العلوم" ٢/ ١٣٥، وقول الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٠٣ ب.
529
﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ لأنَّ كلَّ ما فعله بخلقه فهو منه عدلٌ، ومَن تَصَرَّف في حقيقة مُلْكِهِ، لا يُوصَفُ تصرفُهُ بأنه ظلم.
﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ لأنَّ الإنسان -بالكفر والعصيان- هو الذي يَظلِمُ نفْسَه.
قال أهل المعاني: وفي هذا حسرة شديدة لهؤلاء المنفقين، ومصيبة عظيمة؛ لأنهم رجوا (١) فائدة نفقاتهم، وعائدتها، فعادت عليهم بالمَضَرَّة (٢)، كما رجا أصحابُ الزرع عائدةَ زرعِهم، فضربته (٣) الريحُ وأهلكته (٤).
١١٨ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ الآية. قال المفسرون: نزلت في النهي عن مداخلة اليهود والمنافقين (٥).
(١) في (أ)، (ب): ربحوا. ولا وجه لها. والمثبت من: ج؛ نظرًا لمناسبته لما بعده من قوله: (كما رجا أصحاب الزرع..)، ولمناسبته للمعنى المراد. وقد وردت هذه الكلمة في: "تفسير الطبري": ٤/ ٦٠ عند تفسير هذه الآية.
(٢) في (ب): (المضرة).
(٣) في (ج): (فضربتها).
(٤) انظر معنى هذا القول في: "تفسير الطبري" ٤/ ٦٠.
(٥) ورد ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والربيع، وغيرهم. انظر: "سيرة ابن هشام": ٢/ ١٨٦، و"تفسير الطبري": ٤/ ٦١، و"تفسير ابن أبي حاتم": ٣/ ٧٤٢ - ٧٤٣، و"تفسير الثعلبي": ٣/ ١٠٤ أ، و"أسباب النزول" للواحدي: ص ١٢٤، و"الدر المنثور": ٢/ ١١٨.
ولا يمنع كونها نازلة في اليهود والمنافقين، أن يدخل في النهي اتِّخاذ جميع أصناف الكافرين بطانة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، وقد قال الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ﴾. [سورة الممتحنة: ١]. =
530
و (البِطَانَة): قال أبو حاتم، عن الأصمعي (١): (بَطَن فلانٌ بفلان، يَبْطُنُ به بُطُونًا، وبِطَانَةً) (٢): إذا كان خاصًّا به، داخلًا في أمره. فـ (البِطانة) (٣) مصدرٌ يُسَمَّى به الواحد والجمع.
قال الشاعر:
أولئك خُلْصاني نَعَمْ وبِطانَتِي وهُمْ عَيْبَتِي (٤) مِن دونِ كلِّ قَرِيبِ (٥)
= وقد قيل لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه -: (إن ههنا غلامًا من أهل الحيرة، حافظًا كاتبًا، فلو اتّخذته كاتبًا. قال: قد اتّخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين). أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٧٤٣، وأورده ابن كثير ١/ ٤٢٨، والسيوطي في "الدر": ٢/ ١١٨، وزاد عزوه لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة.
قال ابن كثير -معلقًا في هذا الموضع-: (ففي هذا الأثر مع هذه الآية [أي: آية سورة آل عمران ١١٨] دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، وإطلاع على دواخل أمورهم، التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل العرب؛ ولهذا قال: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾). "تفسيره": ١/ ٤٢٨. وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ٨/ ٢١٥.
(١) قوله، في: "تهذيب اللغة": ١/ ٣٥٠ (بطن). وهو من قوله: (أبو حاتم..) إلى (في أمره). نقله عنه بنصه.
(٢) وبطانة: ليست في: "تهذيب اللغة". وهي في: "اللسان": ١/ ٣٠٤ (بطن) حيث أورد نفس النص، ولكن دون عزو.
(٣) في (أ): (بالبطانة). وفي (ب): (في البطانة). والمثبت من (ج).
(٤) في (ب): (عينتي).
(٥) لم أقف على قائله. وقد ورد غير منسوب في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠٤ أ، و"البحر المحيط" ٣/ ٣٣، و"الدر المصون" ٣/ ٣٦٣، و"فتح القدير" للشوكاني ١/ ٥٦٦. وفي "فتح القدير": (وهم خلصاني كلهم وبطانتي). وقوله: (خُلْصاني)؛ أي: خُلَصائي. ويستوي فيه الواحد والجماعة. =
531
وبِطَانة الرجل: خاصَّتُه الذين يَسْتَبْطنون (١) أمْرَهُ. وأصله من: (البَطْنِ) خلاف الظهر، ومنه (٢): (بِطانَة الثوب)، خلاف (ظهارته) (٣).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي: مِن دون المسلمين، ومِن غير أهل ملَّتكم، وظاهر هذا للمخاطَبِين، وهو يريد: جميع المسلمين. يعني لا تتخذوا بطانة مِن دون (٤) المسلمين (٥).
وصلح أن يُعَبَرَ ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ عن هذا. كما يقول الرجل: (قد قتلتمونا [وهزمتُمُونا] (٦)؛ وهو يريد قتلتم إخواننا. وقد تقدم لهذا نظائر (٧).
وقوله تعالى: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ يقال (٨): (أَلَوْتُ في الشيء،
= و (عَيْبَة الرجل): موضعُ سِرِّه والجمع: (عِيَبٌ)، و (عِياب)، و (عَيْبات). انظر: "اللسان": ٥/ ٣١٨٤ (عيب)، ٢/ ١٢٢٨ (خلص).
(١) في (أ)، (ب): (يستنبطون). ولا وجه لها. والمثبت من (ج)، ومصادر اللغة.
(٢) منه: ساقطة من (ج).
(٣) انظر: (بطن) في: "الصحاح" ٢٠٧٩ - ٢٠٨٠، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٥٩.
(٤) في (ب): من دونكم من دون المسلمين.
(٥) انظر: "تفسير غريب القرآن"، لابن قتيبة ١/ ١٠٣، و"تفسير الطبري" ٤/ ٦١، و"تفسير أبي السعود" ٢/ ٧٦، و"فتح القدير" ١/ ٥٦٦.
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٧) ومن ذلك قوله -تعالى- عن بني إسرائيل: ﴿فَأقتُلُوَا أَنفُسَكُم﴾ [من سورة البقرة: ٥٤]. لا يعني بها أن يقتل كل واحد منهم نفسه بيده، بل يعني ليقتل بعضكم بعضًا، أو ليقتل البريء منكم المجرم.
ومنها قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [من سورة البقرة: ٦١]. والمعنِيِّين في الآية لم يقتلوا النبيين، وإنما الذي قتل النبيين آباؤهم، وإنما هم تولوا القتلة.
وانظر: الآية: ٢١ من سورة آل عمران، والآية: ٦١ من سورة النور. وانظر: "معاني القرآن"، للنحاس: ١/ ٤٦٥، و"تفسير الفخر الرازي": ٨/ ٢١٦.
(٨) في (أ)، (ب): (لا يقال). وهو خطأ واضح. والمثبت من (ج).
532
أَلْوًا (١)؛ أي: قَصَّرت.
قال امرؤ (٢) القيس:
وما المَرْءُ ما دامت حُشَاشَةُ (٣) نَفْسِهِ بِمُدْرِكِ أطرافِ الخُطُوبِ ولا آلِي (٤)
قال أبو الهيثم (٥):
يقال: (أَلاَ، يَألُوا): إذا فَتَرَ (٦)، وضعُف، وقَصَّر (٧)، ومثله: (أَلَّى (٨)، وائْتَلَى)، وأنشد:
(١) في (أ): (آلوا). وهي خطأ. والمثبت من: (ب)، (ج)، ومصادر اللغة.
(٢) في (ب): (امرئ).
(٣) في (أ): (حَشاشة) -بفتح الحاء-. ولم أرها في معاجم اللغة التي رجعت إليها. وأهملت حركاتها في: (ب)، (ج). وما أثبتُّه، فمن مصادر البيت وكتب اللغة.
(٤) في (ج): (ولا ألي).
والبيت في: ديوانه: ص ١٢٩. كما ورد منسوبًا له في: كتاب "المعاني الكبير": ٣/ ١٢٥٥، و"الزاهر": ١/ ٢٦٨.
وورد غير منسوب في: "اللسان": ٢/ ٨٨٦ (حشش)، ١/ ١٧٦ (ألا).
والحُشاشة: الروح ورمق الحياة، وبقية الروح في المريض، وكل بَقِيَّة: (حشاشة). انظر: "اللسان": ٢/ ٨٨٦ (حشش).
ومعناه: إن المرء ما بقيت فيه بقية من روح، فإنه يبذل قصارى جهده في سبيل تحقيق ما يريد، ومع هذا فإنه لن يحصل على كل شيء، ولن يدر أواخر الأمور.
(٥) قوله، في: "تهذيب اللغة": ١/ ١٧٩، و"اللسان": ١/ ١١٧.
(٦) في (أ)، (ب): (أفتر). والمثبت من: (ج)، و"تهذيب اللغة"، و"اللسان".
(٧) وقصَّر: غير موجودة في (التهذيب)، "اللسان".
(٨) في (أ)، (ب): (آلى). وفي (ج): (الا). وقد أثبتُها (ألَّى)؛ لأنه بدا لي -والله أعلم- أن المؤلف هكذا أرادها؛ والدليل على ذلك: أنها جاءت بهذه الصورة في: "التهذيب" و"اللسان"، وبقية مصادر اللغة التي رجعت إليها. إضافة إلى أن =
533
فما أَلَّى بَنِيَّ ولا أساؤوا (١)
أي: ما قصَّروا (٢).
= المؤلف أورد الشاهد الشعري بعدها دليلًا على ورودها في اللغة بهذه الصورة، وقد وردت فيه (ألَّى) كما سيأتي.
مع ملاحظة أن (آلى) صحيحةٌ لغةً، وقد أوردها ابنُ فارس في: "مقاييس اللغة": ١/ ١٢٨ (ألوى)، وأورد بعدها الشاهد الشعري الآتي دليلًا عليها، وفيه (آلى) بدلًا من (ألَّى).
ومن معاني (آلى): حَلَفَ. يقال: (آلَى، يُؤلي، إيلاءً). وتأتي: (يَتَألَّى تألِّيًا)، و (ائْتَلَى يأتَلي ائْتِلاءً). كلها بمعنى: اليمين. انظر: "مقاييس اللغة": ١/ ١٢٨ (ألوى)، و"اللسان": ١/ ١١٧ (ألا).
(١) في (ب)، (ج): وردت (ألَّى) في البيت مهملة بدون همز ولا تشكيل.
وهذا شطر بيت للرَّبيع بن ضبُع الفَزَاري. وأول البيت:
وإنَّ كَنَائِني لَنِساءُ صِدْقٍ
وقد ورد منسوبًا له في: كتاب " المعاني الكبير" ١/ ٥٣٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٧٩ (ألى)، و"غريب الحديث"، للخطابي ١/ ٥٨، و"الصحاح" ٦/ ٢٢٧٠ (ألا)، و"أمالي المرتضى" ١/ ٢٥٥، و"الإفصاح" للفارقي ٢٧٠ و"الفائق" للزمخشري ١/ ٦٥، و"اللسان" ١/ ١١٧ (ألا)، و"خزانة الأدب" ٧/ ٣٨١، ٣٨٢.
وورد غير منسوب في: "مقاييس اللغة" ١/ ١٢٨ (ألوى).
وقد ورد في كل المصادر السابقة -إلا في: "المقاييس"، و"أمالي المرتضى" كالتالي: (وما ألَّى بَنِيَّ). أما في: "المقاييس"، و"الأمالي"، فورد: (.. آلَى..)، وورد في بعض المصادر: (وما أساؤوا).
الكَنائن: جمع: كَنَّة. وهي امرأة الابن والأخ. انظر: "القاموس": ١٥٨٥ (كنن).
و (ألَّى) فعَّلَ، من: (ألَوت)؛ أي: أبطأت. أو من: (الألُوِّ)؛ أي: التقصير.
انظر: كتاب "المعاني الكبير": ١/ ٥٣٢، و"التهذيب": ١/ ١٧٩ (ألى).
ويعني الشاعر: أن كنائنه نِعْم النساء، وأن بنيه ما أبطؤوا عن فعل المكارم، وما يجب عليهم من القيام بأمره، وما قصَّروا في ذلك.
(٢) نقل في "خزانة الأدب" قول أبي حاتم السجستاني، معلقًا على البيت: (والتألية: =
534
قال امرؤ القيس:
أَلاَ رُبَّ خَصْمٍ فيكِ أَلْوَى رَدَدْتُهُ نَصِيحٍ على تَعْذالِهِ غيرِ مُؤْتَلِي (١)
أي: غير مقصر.
و (الخَبَالُ) -في اللغة-: الفساد والشر. ومنه قوله تعالى: ﴿مَّا زَادُوكُم إِلَّا خَبَالًا﴾ (٢)؛ أي (٣): يريد (٤): [إلَّا] (٥) شرًّا (٦).
= التقصير، ومن قال: (وما آلى) بالمد؛ فمعناه ما أقسموا؛ أي لا يَبرُّوني) ٧/ ٣٨٢. وذكر محقق "أمالي المرتضى" ١/ ٢٥٥: أنه في حاشية نسخة أخرى للأمالي، ورد التالي: (ألّى) - بتشديد اللام. قال: وهو الصحيح، ومعنى (ألّى): قصر، في قول بعضهم. واللغة الأخرى: (ألا) -مخففًا-؛ يقال: (ألا الرجلُ)، (يألوا): إذا قصر وفَتَر. فأما (آلى) في البيت، فلا وجه له؛ لأنه بمعنى: حلف، ولا معنى له -ههنا-). وانظر: "الخزانة"، في الموضع السابق.
(١) البيت في: ديوانه: (١١٦). و"شرح القصائد السبع"، لابن الأنباري: ٧٣، و"شرح المعلقات السبع"، للزوزني: ٢٥، و"شرح القصائد العشر"، للتبريزي: ٣٥. (الألوى): الشديد الخصومة، الجَدِل. و (النصيح): الناصح. و (التَّعْذال): هو العَذْل؛ أي: اللوم. و (غير مؤتلي): غير مقصر.
ومعنى البيت: ألا رُبَّ خصم؛ شديد في خصومته؛ جَدِلٍ في كلامه، كان ينصحني، غير مقصر في نصيحته لي، ولومه إيّاي على حبي لكِ، قد رددته، ولم أرجع عن هواك بلومه ونصحه.
أي: إنه بلغ من شدة حبه لها الغاية القصوى، لدرجة أنه لا يؤثر فيه، ولا يثنيه عن ذلك نصح ناصح، ولا لومُ لائم. انظر: المراجع السابقة.
(٢) [سورة التوبة: ٤٧]، وتمامها: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾.
(٣) (أي): ساقطة من (ب)، (ج).
(٤) في (أ): (لا يريد).
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من (ب).
(٦) انظر: "مجاز القرآن": ١/ ١٠٣، ٢٦١ و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ١٨٧،=
535
ويقال: (في قوائم الدابَّة خَبَالٌ)، و (في عَقْلِهِ خبالٌ)؛ أي: و (رجلٌ مُخَبَّلُ الرأي): فاسدُهُ، [و] (١) مُضْطَرِبُهُ. و (خَبَلَهُ (٢) الحُبَّ)؛ أي: أفسده (٣).
ومعنى قوله: ﴿لَا يَأْلُونَكُم خَبَالًا﴾ أي: لا يَدَعُونَ جهدَهم في مضرَّتِكم، وفسادكم (٤).
يقال: (ما أَلَوْتُهُ نُصْحًا)؛ ما قصَّرت في نصيحته (٥)، و (ما أَلَوْتُه شَرًّا)، مثله. قال الزجَّاج (٦): ﴿لَا يألُونَكُم خَبَالًا﴾ أي: لا يُبْقون (٧) غايةً في إلقائكم فيما يضركم (٨).
ومحل قوله: ﴿لَا يأْلُونَكُمْ﴾: النَّصْبُ، لأنه صفة البطانة (٩).
= و"نزهة القلوب" للسجستاني ٢١٧، و"بحر العلوم" لأبي الليث ١/ ٢٩٤، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠٤ ب، و"تحفة الأريب" لأبي حيان ١١٣.
(١) ما بين المعقوفين: زيادة من (ب).
(٢) في (ج): (ختله).
(٣) انظر: (خبل) في: "إصلاح المنطق": ٥٢، و"تهذيب اللغة": ١/ ٩٨١، و"مقاييس اللغة": ٢/ ٢٤٢.
(٤) انظر: "بحر العلوم" لأبي الليث: ١/ ٢٩٤.
(٥) في (ج): (نصيحة).
(٦) في: "معاني القرآن"، له: ١/ ٤٦٢.
(٧) في (ج): (لا يتقون).
(٨) في "معاني القرآن": في إلقائهم فيما يضرهم.
(٩) انظر: "البيان"، للأنباري ١/ ٢١٧، و"التبيان" للعكبري (٢٠٦).
وقيل: هي حال من الضمير في قوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ على أن يكون الجارُّ صفة لـ (بطانة). وقد جوز كونها -والجمل التي بعدها- صفة، الزمخشريُّ، ولكنه جعل الأَوْلَى من ذلك أن تكون مستأنفة على وجه التحليل للنهي عن اتِّخاذهم بطانة. وأيد ذلك ابن هشام. =
536
وانتصب (١) (الخَبَالُ) بـ (الأَلْوِ)؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين، كما ذكرنا (٢). وإن شئت نصبته (٣) على المصدر؛ لأن معنى قوله: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾: يُخبلونكم خَبَالًا (٤).
= انظر: "الكشف": ١/ ٤٥٨، و"المغني"، لابن هشام: ٥٠٣ - ٥٠٤.
أما أبو حيان فلا يرى أن تكون هذه الجمل صفة للبطانة أو حالًا، ولا يجيز ذلك، ويرى لها وجهًا واحدًا فقط، هى أن تكون استئنافية، لا محل لها من الإعراب (جاءت بيانًا لحال البطانة الكافرة؛ لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة).
ويرى أن من قال عنها أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به (مِن) (فبعيد عن فهم الكلام الفصيح؛ لأنهم نُهوا عن اتخاذ بطانة كافرة، ثم نبَّه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين، ووداد مشقتهم، وظهور بغضهم، والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند انتفائهما). "البحر المحيط": ٣/ ٣٨.
(١) من قوله: (وانتصب) إلى (يخبلونكم خبالًا): نقله بتصرف عن "الثعلبي" ٣/ ١٠٤ ب.
(٢) أي هو مفعول ثانٍ.
قال الزمخشري عن تعدِّي فِعْلِ (ألا) الذي بمعنى قصَّر: (يقال: (ألاَ في الأمر، يألو): إذا قَصَّرَ فيه، ثم استعمل فعدِّيَ إلى مفعولين في قولهم: (لا آلُوكَ نُصْحًا)، و (لا آلوك جهدًا)؛ على التضمين؛ والمعنى: لا أمنعك نصحًا، ولا أنقصكه). "الكشاف": ١/ ٤٥٨.
(٣) في (ج): (نصبت).
(٤) في (أ): لا يختلونكم خبالًا. ب: لا يخبلونكم خبالًا. والجملة ساقطة من (ج). وأثبتُّها بحذف حرف النفي (لا) كما جاءت في: "تفسير الثعلبي"، ولأنها لا وجه لها بوجود حرف النفي. وأثبتُ (يخبلونكم) من: ب، و"تفسير الثعلبي". وقد ذُكر في نصب (خبالًا) أقوالٌ أخرى، منها:
- إنها منصوبة على إسقاط حرف الجر، والتقدير: لا يألونكم في خبال؛ أي: في تخبيلكم، ويكون حينها فعل (ألاَ) يتعدى إلى مفعول واحد بغير حرف الجر.
- وقيل: إنها مصدر في موضع الحال. أي: مُتَخبلين. انظر: "التبيان" للعكبري (٢٠٦)، و"الفريد في إعراب القرآن المجيد" ١/ ٦٢٠.
537
وقوله تعالى: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾.
قال المفسرون (١): ودُّوا عَنَتَكم (٢). والعَنَت (٣): دخول المشقة على الإنسان، ووقوعه فيما لا يستطيع الخروج منه. يقال: (عَنِتَ الرجل): إذا صار إلى هذه الحالة. و (عَنِتَ) -أيضًا-: إذا أثم (٤).
و (ما) (٥) -ههنا- (ما) المصدر، كقوله: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ (٦)؛ أي (٧): عزيز عليه عنَتُكم (٨)، وهو: لقاء الشِّدَّةِ والمَشَقَّةِ (٩).
وقيل (١٠) في قوله: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾، أي: ما أعنتكم من مكروه،
(١) منهم: ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن": ١٠٩، والزجاج في: "معاني القرآن" ١/ ٤٦٢، والطبري في: "تفسيره": ٤/ ٦١.
(٢) في (ج): (ودُّوا ما عنتم).
(٣) في (ج): (فالعنت).
(٤) انظر هذا المعنى في: كتاب "العين": ٢/ ٧٢، و"مجاز القرآن": ١/ ٧٣، ١٢٣، و"تفسير الطبري": ٢/ ٣٧٥، و"معاني القرآن"، للزجاج: ١/ ٣٦٢، و"جمهرة اللغة": ١/ ٤٠٣ (عنت)، و"الزاهر": ١/ ٤٣٦، و"تهذيب اللغة": ٣/ ٢٥٨٤، و"مقاييس اللغة" ٢/ ١٥٠ (عنت).
(٥) (ما): ساقطة من (ج).
(٦) [سورة التوبة: ١٢٨]. ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
(٧) (عزيز عليه ما عنتم أي): ساقط من (ج).
(٨) انظر: "المغني" لابن هشام ٣٩٩.
(٩) قوله: (لقاء الشدة والمشقة): هو نص قول الأزهري في: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥٨٤ (عنت).
(١٠) القائل هو ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" ١٠٩.
538
وضُرٍّ (١). وهو معنًى وليس بتفسير.
وقال السُّدِّي (٢): ودُّوا ضلالكم عن دينكم؛ وذلك أن الحَيْرَة بالضلال مشقة.
ومضى الكلام في (العَنَتِ)، و (الإعْنَاتِ) عند قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠].
ولا محل لقوله: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾؛ لأنه استئنافٌ بالجملة. وقيل (٣): إنَّه من صِفَةِ البِطَانَةِ، ولا يصح هذا؛ لأن البطانة قد وصفت بقوله: ﴿لَا يألُونَكُم خَبَالًا﴾.
فلو رجع هذا إلى البطانة، لأدخل حرف العطف؛ لأنك لا تقول في الكلام: (لا تَتَّخذ صاحبًا يَشْتِمُكَ، أحبَّ مُفارقَتَكَ) (٤).
وقوله تعالى: ﴿قَد بَدَتِ اَلبغضَاَءُ مِن أَفوَاهِهِم﴾ البَغْضاءُ: شِدَّةُ البُغْضِ (٥) قال الفراءُ (٦): البغضاء: مصدرٌ مؤنثٌ.
(١) ونصه قول ابن قتيبة: (أي: ودُّوا عنتكم وهو ما نزل بكم من مكروه وضر). وبه قال مكي في: "تفسير المشكل" ٥١، وأبو الليث في: "بحر العلوم" ١/ ٢٩٤.
(٢) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ٦٢، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٧٤٣ و"النكت والعيون" ١/ ٤١٩.
(٣) ممن قال ذلك: الأخفش في: "معاني القرآن"، له: ١/ ٢١٤، والطبري في: "تفسيره": ٤/ ٦٢.
(٤) أورد قولَ الواحديِّ -هذا- ابنُ هشام في: "المغني": ٥٠٤، وفيه: (يؤذيك) بدلًا من (يشتمك) وقد علق ابن هشام على قول الواحدي هذا بقوله: (الذي يظهر، أنَّ الصفةَ تتعدد بغير عاطف، وإن كانت جملة، كما في الخبر، نحو: ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤)﴾ [الرحمن: ١ - ٤]).
(٥) انظر: "القاموس المحيط" (٦٣٧) (بغض).
(٦) قوله، في: "معاني القرآن" له: ١/ ٢٣١، نقله عنه بالمعنى.
539
ومعنى الآية: قد ظهرت العداوةُ من أفواههم، بالشتِيمَةِ والوَقِيعَةِ في المسلمين، وإطلاع المشركين على أسرارهم (١).
وواحد (الأفواه): فَمٌ. وأصله (٢): (فَوْهٌ)، بوزن: (سَوْطٍ)، فحُذِفت الهاءُ تخفيفًا، كما حذفت من (سَنَةٍ)، فيمن قال:
لَيْسَتْ (٣) بِسَنْهاء... (٤).
(١) قال القرطبي: (وخص الله -تعالى- الأفواهَ بالذكر، دون الألسنة؛ إشارة إلى تشدُّقهم، وثرثرتهم في أقوالهم هذه، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه). "تفسيره": ٤/ ١٨٠.
(٢) من قوله: (وأصله..) إلى (كالحات وبسل): نقله بتصرف واختصار عن: "سر صناعة الإعراب": ١/ ٤١٤.
(٣) في (ب): (لست).
(٤) قطعة من بيت، لِسُوَيد بن الصامت الأنصاري. وتمامه:
ليست بِسَنْهاءٍ ولا رُجَبيَّةٍ... ولكنْ عَرَايا في السِّنينَ الجَوائِح
وقد ورد منسوبًا له في: "كتاب النخل" لأبي حاتم السجستاني: ٨٨، ٩٣، و"اللسان": ٣/ ١٥٨٣ (رجب)، ٦/ ٣٥٧١ (قرح)، ٢/ ٧١٩ (جوح)، ٤/ ٢١٢٧ (سنة)، (عرا). وأورده أبو عبيد بن سلام في: "غريب الحديث": ١/ ١٤١، وابن فارس في: "المقاييس": ٤/ ٢٩٩، ونسباه لشاعر الأنصار، ولم يصرحا باسمه. وورد غير منسوب في: "مجالس ثعلب": ٧٦، و"جمهرة اللغة": ١/ ٢٦٦، و"الأمالي"، للقالي: ١/ ١٢١، و"تهذيب اللغة": ٦/ ١٢٩ (سنه)، و"المخصص": ١٦/ ٥٤.
وقد وردت (سنهاء) في مصادر البيت بفتح الهمزة، وبكسرها مُنوُّنَةً، ووردت (رُجَبِيَّةٍ) بفتح الجيم مع التشديد فيها وبدونه.
يصف الشاعر -هنا- نخلةً بالجودة و (السنهاء): إما هي التي تحمل سنة ولا تحمل أخرى، أو تلك التي أصابتها السنة المجدبة فأضرت بها.
و (الرُّجَبِيَّة): هي النخلة التي تكون كريمة على صاحبها، فتميل، فيسندها =
540
و (عملت (١) معه مُسَانَهَةً) (٢)، ومن: (شاةٍ) (٣)، و (شَفَةٍ) (٤)، فصار التقدير: (فَوْ) (٥). فلما صار الاسم على حرفين، لا ثاني منهما (٦) حرف لين، كرهوا حذفه للتنوين، فَيُجْحِفُوا به، فأبدلوا من الواوِ مِيْمًا لقرب الميم
= بِـ (رُجْبة)، أي: بخشبة ذات شعبتين، وقيل: الترجيب، هو: أن يُجعَل حولها شوكٌ حتى لا يرقى لها راقٍ فيجني ثمرها. وأرى -والله أعلم- أن القول الثاني هو المراد في البيت؛ لأنه يصفها أنها ليست من تلك التي يُمنع ثمرها من الناس، بل هي مبذولة لهم، لأنه قال بعدها: (عرايا)، أي: التي يوهب ثمرها لناس، ومفردها (عَرِيَّة). و (الجوائح): هي السنون الشداد التي تجتاح المال. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ١٤١، و"اللسان" ٣/ ١٥٨٣ (رجب)، ٤/ ٢١٢٧ (سنه).
(١) في (ج): (علمت).
(٢) المسانهة: أن يعامله إلى مدَّة سنة يقال: (سانَهَهُ مسانهةً وسِناهًا). انظر (سنه) في: "اللسان": ٤/ ٢١٢٧، و"المعجم الوسيط" ١/ ٤٥٩. ويجوز أن يكون المحذوف من (سنة) واوًا أو هاءً؛ لأنها في الجمع: (سنوات)، و (سنهات). انظر حولها: "كتاب سيبويه" ٣/ ٣٦٠، ٤٥٢، و"اللسان" ٤/ ٢٨٧ (سنة)، و"نزهة الطرف" ١٧٢.
(٣) أصل (شاة): (شَوْهَةٌ) ويقال في تصغيرها: (شُوَيهة)، وفي جمعها تكسيرًا: (شياه)، ويقولون: (شَوَّهتُ شاةً)، أي: اصطدتها.
انظر: "الممتع في التصريف" ٢/ ٦٢٦.
(٤) أصل (شَفَة): (شَفَهَة) فيقال في تصغيرها: (شُفَيهة)، وفي جمعها: (شِفاه) والفعل منها: (شافهتُ فلانا)، والمصدر: (المُشافهة).
انظر: "كتاب سيبويه": ٣/ ٣٥٨ - ٣٥٩، ٤٥١، و"الوجيز في علم التصريف" ٤١، و"الممتع" ٢/ ٦٢٥، و"نزهة الطرف" ١٧٣.
(٥) في (أ)، (ب)، (ج): (فوه). والمثبت من: "سر صناعة الإعراب"، وهي الصواب.
(٦) في (ج): (منها).
541
من الواو؛ لأنهما (١) شفويتان (٢)، وفي الميم هُوِىٌّ في الفَمِ يضارع امتداد الواو.
والدليل على أن أصله (فَوْه): جمعه على (أفواه)، نحو: (سَوْطٍ، وأسواط)، و (حَوْضٍ، وأحواض)، و (طَوْقٍ، وأطواق).
وقال أُمَيَّةُ (٣):
وما فَاهُوا بِهِ أبدًا مُقِيمُ (٤).
وقالوا: (رجلٌ مُفَوَّهٌ): إذا أجادَ (٥) القولَ، و (أَفْوَهُ): إذا كان واسع الفَمِ. وجمعه: (فُوْهٌ) (٦).
(١) في (ب): (ولأنهما).
(٢) في: "سر صناعة الإعراب": شفهيتان.
(٣) تقدمت ترجمته.
(٤) شطر بيت، وتمامه - كما في الديوان:
وفيها لحم ساهرة وبَحرٍ وما فاهوا به لهم مقيمُ
وهو في "ديوانه" ٦٨. وورد منسوبا له في "معاني القرآن"، للفراء ١/ ١٢١، و"اللسان": ١/ ٢٩ (أثم)، ٦/ ٣٤٩٢ (فوه)، و"المقاصد النحوية" ٢/ ٣٤٦، و"شرح التصريح" ١/ ٢٤١، و"الدرر اللوامع" ٢/ ١٩٩.
وورد غير منسوب في: "اللسان" ٤/ ٢١٣٢ (سهر)، ٦/ ٣٤٩٢ (فوه)، و"شرح شذور الذهب" (١٢٣)، و"شرح ابن عقيل" ٢/ ١٥، و"منهج السالك" للأشموني ٢/ ١١. وأكثر المصادر -ومنها "سر صناعة الإعراب"- تورد الشطر الأول كالتالي: (فلا لغوٌ ولا تأثيم فيها..) وهذا إنما هو صدر بيت آخر وعجزه: (ولا غَوْلٌ ولا فيها ملُيِمُ). وهو في القصيدة بعد البيت المستشهد به بأبيات.
و (الساهرة): الأرض. و (مقيم): ثابت. انظر: "اللسان" ٤/ ٢١٣٢ (سهر).
(٥) في (ب): (جاد).
(٦) انظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ٢٦٤، ٣٦٥ - ٣٦٦، و"المسائل المشكلة"، للفارسي ١٤٩ - ١٦٣، ٥٠٤، و"المخصص" ١/ ١٣٤ - ١٣٧، و"شرح المفصل" =
542
قال الشَّنْفَرَى (١):
مُهَرَّتَةٌ (٢) فُوْهٌ كأنَّ شُدُوقَها شُقُوقُ العِصِيِّ (٣) كالِحاتٌ (٤) وبُسَّلُ (٥)
ذكر ذلك أبو الفتح الموصلي (٦).
= ١٠/ ٣٣، و"الوجيز في علم التصريف" ٥٠، و"الممتع" ٣٩١، ٦٢٥، و"نزهة الطرف" ١٧٣، و"أوضح المسالك" ٣/ ٣٤١.
ويرى الأخفش أن الميم في (فم) بدل من الهاء؛ حيث إن أصله عنده (فَوْه)، ثم قلب، فصار (فَهْو)، ثم حذفت الواو، وجعلت الهاء ميما. انظر "شرح الشافية" ٣/ ٢١٥.
(١) هو: ثابت بن أوس الأزدي. شاعر جاهلي، من عَدّائي العرب المعدودين، وصعاليكهم، وأكثرهم جرأة ودهاءً، أَسَرَتْه بنو سَلامَان صغيرًا، ونشأ فيهم، فلما شبَّ وعرف بقصة أسره، قَتَل منهم كثيرًا، فقتلوه ثأرا وانتقامًا. انظر: "خزانة الأدب": ٣/ ٣٤٣، و"الأعلام": ٣/ ١٧٧.
(٢) (أ)، (ب): (مبوته). وفي (ج): (مهونه). والمثبت من: سر الصناعة، ومصادر البيت.
(٣) في (ب): (العصا).
(٤) (أ)، (ب): (الحاق). والمثبت من (ج)، وسر الصناعة، ومصادر البيت.
(٥) البيت من لامِيَّتِهِ المسماة بـ (لامية العرب). انظر: "بلوغ الأرب في شرح لامية العرب" ١٥٢. المُهَرَّتَة: الواسعة الأشداق. و (فُوْهٌ): جمع: (أفْوَه) و (فوهاء)، يقال للواسع الفم، أو من تخرج أسنانه من شفتيه من طولها.
و (الشدوق): جمع كثرة، وأما جمع القلة، فـ (أشداق)، والمفرد: شِدْق، وهو جانب الفم. و (الكالحات): المكشرات في عُبوس. و (بُسَّل): الكريهة المنظر، المفرد: باسل. ويقال للأسد، وللرجل الشجاع.
الشاعر -هنا- يعين بهذه الأوصاف: الذئابَ وقوله: (كالحات وبسل) نعت لـ (فُوُهٌ). انظر: المرجع السابق ١٥٢ - ١٥٤.
(٦) في "سر صناعة الإعراب" ١/ ٤١٣ - ٤١٦.
543
قوله تعالى: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ (١) أي: من العداوة والخيانة (٢). وقيل (٣): من الكفر بالله ومحمد - ﷺ -.
وقوله تعالى: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ قال عَطَاء (٤): يريد: ما أمرهم به مِن طاعته، وما نهاهم عنه من معصيته.
وقال السُّدِّي (٥): قد بيَّنَّا آياتهم؛ لتعرفوهم بها.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون﴾ قيل (٦): إن كنتم تعقلون موقعَ يقع (٧) البيان، ومبلغَ عائدتِهِ عليكم (٨).
وقيل (٩): إن كنتم تعقلون الفَصْلَ بينَ ما يستحقه العدوُّ، والوَلِيُّ.
١١٩ - قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ الآية. مضى الكلام في (ها) مع (أنتم) عند قوله: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ﴾ [آل عمران: ٦٦].
قال الفراء (١٠): العرب إذا جاءت إلى اسمٍ مَكنيٍّ قد وُصِفَ بـ (هذا) و (هذان) و (هؤلاء)، فَرَّقوا بينَ (ها) وبين (ذا)، المَكنِيَّ بينهما، وذلك في
(١) في (ج): (وما تخفي الصدور).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٩٧، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠٤ب.
(٣) لم أهتد إلى القائل، ولا فرق بين القولين لأنهما متلازمان.
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) قاله -بمعناه- الطبري في "تفسيره" ٤/ ٦٤.
(٧) هكذا في: (أ)، (ب). وفي (ج): مهملة من النقط وأرى أن الأصوب أن تقرأ (نفع)؛ لأنها تتناسب مع عبارة الطّبَري التالية.
(٨) ونص قول الطبري: (إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم، ومبلغ عائدته عليكم).
(٩) لم أهتد للقائل.
(١٠) في: "معاني القرآن"، له ١/ ٢٣١. نقله عنه بنصه.
544
جهة التقريب (١)، فيقولون: (أين أنت؟) فيقول القائلُ:
(ها أنا ذا) (٢). ولا يكادون يقولون: (هذا أنا) (٣). و-كذلك-: التثنية والجمع، ومنه (٤): ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾، وربَّما أعادوا (ها) فوصلوها بـ (ذا)، و (ذان)، و (أولاء) (٥)، فيقولون: (ها أنت هذا)، و (ها أنتم هؤلاء). قال الله -تعالى-: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ﴾ [النساء: ١٠٩].
(١) "التقريب" هو: أن تجعل (هذا)، و (هذه) بمثابة الأفعال الناقصة كـ (كان) وأخواتها التي تحتاج إلى تمام الخبر، وهذا من اصطلاحات الكوفيين، وقد بَيَّنَه السيوطي في: "همع الهوامع": ١/ ٢٦٤ فقال: ذهب الكوفيون إلى أن (هذا) و (هذه)، إذا أريد بهما التقريب، كانا من أخوات (كان)، في احتياجهما إلى اسمٍ مرفوعٍ وخبر منصوب، نحو: (كيف أخاف من الظلم، وهذا الخليفة قادمًا؟)، و (كيف أخاف البرد، وهذه الشمس طالعة؟)، وكذلك كل ما كان فيه الاسم الواقع بعد أسماء الإشارة لا ثاني له في الوجود، نحو: (هذا ابنُ صياد أشقى الناس)، فيعربون (هذا): (تَقْريبا)، والمرفوع اسم التقريب، والمنصوب خبر التقريب؛ لأن المعنى إنما هو عن الخليفة بالقدوم، وعن الشمس بالطلوع، وأتى باسم الإشارة تقريبًا للقدوم والطلوع. ألا ترى أنك لم تشر إليهم وهما حاضران؟ و-أيضا-، فالخليفة والشمس معلومان، فلا يحتاج تبيينهما بالإشارة إليهما. وتبين أن المرفوع بعد اسم الإشارة يخبر عنه بالمنصوب؛ لأنك لو أسقطت الإشارة لم يختل المعنى، كما لو أسقطت (كان) من: (كان زيدٌ قادمًا).
وانظر في هذا المعنى: "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٢، و"تفسير الطبري" ٤/ ٦٤ - ٦٦، ١٥/ ٤١٦، و"دراسة في النحو الكوفي" ٢٣٧، و"النحو وكتب التفسير" ١/ ١٨٥.
(٢) هكذا جاء رسمها في (أ)، (ب)، وكذا وردت في "تفسير الطبري" ٤/ ٦٥، ووردت في (ج): (هاناذا). أما في الرسم الإملائي فقد اصطلح على كتابتها كالتالي: هأنذا.
(٣) في (ج): (ها أنا).
(٤) في (ج): (منه) بدون واو.
(٥) في "معاني القرآن": فوصلوها بذا وهذا وهذان وهؤلاء.
545
قال (١): وإنَّما فعلوا ذلك؛ ليفصلوا بين (التقريب) وغيره. ومعنى (التقريب) عنده: أنك لا تقصد أن تخبر (٢) عن (هذا) بالاسم (٣)، فيقولون (٤): (هذا زيد).
وإذا (٥) كان الكلام على غير تقريبٍ، وكان (٦) مع اسم ظاهر، جعلوا (ها) موصولةً بـ (ذا)؛ فقالوا (٧): (هذا زيد)، و (هذان الزيدان) (٨)، إذا كان على خَبَرٍ يكتفي كلُّ واحدٍ بصاحبه بلا [فِعْلٍ] (٩). فقد (١٠) أنشد ابنُ الأنباري (١١) على هذا قولَ أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت:
لَبَّيْكُما لَبَّيْكُما ها (١٢) أنا ذا لَدَيْكُما (١٣)
(١) من قوله: (قال..) إلى (فيقولون هذا زيد): هو نص قول الزجاج في "معاني القرآن" له ١/ ٤٦٣، يحكي به معنى قول الفراء في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣١ - ٢٣٢.
(٢) في "معاني القرآن"، للزجاج الخبر. بدلًا من: (أن تخبر).
(٣) في "معاني القرآن"، للزجاج (الخبر عن هذا الاسم). وقوله: (بالاسم)؛ أي: بالاسم الظاهر، غير المكنيِّ عنه.
(٤) في (ج) و"معاني القرآن" للزجاج: (فتقول).
(٥) من قوله: (وإذا..) إلى (بلا فعل): من تتمة كلام الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٢٣٢ نقله عنه ببعض التصرف.
(٦) في "معاني الفراء": أو كان.
(٧) في (ب) و"معاني الفراء": (فيقولون).
(٨) في "معاني القرآن": هذا هو، وهذان هما.
(٩) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، و"معاني القرآن". وبقية عبارة الفراء: (والتقريب لابد فيه من فعل؛ لنقصانه، وأحبوا أن يفرقوا بذلك بين معنى التقريب وبين معنى الاسم الصحيح).
(١٠) (فقد): ساقطة من (ج).
(١١) في: "الزاهر" ١/ ٢٧٩.
(١٢): ساقطة من (ج).
(١٣) بيت من الرجز، ورد منسوبًا لأمية في "طبقات فحول الشعراء" ١/ ٢٦٦، و"الزاهر" ٢/ ٢٧٩.
546
فَجَعَل (أنا) بين (ها) و (ذا)؛ لتقريبه طاعتهما، والانقياد لأمرهما.
وقال الزَّجاجُ (١): (ها) -ههنا- تَنْبيهٌ (٢) دَخَلَ على (أنتم) و (٣) (أولاء) في معنى: (الذين)، كأنه قيل: (ها أنتم الذين تُحِبُّونَهم ولا يُحِبُّونَكم). فيكون ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ صِلَةً (٤).
قال (٥): وكُسِرت (أولاء)؛ لأن أصلها السكون، لكن الهمزة كُسِرت؛ لسكونها وسكون الألف. وإنما كان أصلُها السكون؛ لأنها بمنزلة حَرْفِ الإشارة، والحروفُ أصلها السكون.
وسنذكر الفرقَ بين (أولاء) و (أولئك) عند قوله: ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ [النساء: ٩٩].
قال المفسرون: هذا خطاب للمؤمنين، أُعلِموا فيه أن منافقي أهلِ الكتابِ (٦) لا يُحِبُّونَهم، وأنهم يَصْحَبونَ هؤلاء المنافقين بالبِرِّ، والنصيحة
(١) في: "معاني القرآن" ١/ ٤٦٣. نقله عنه بمعناه
(٢) في (ج): (ها تنبيه ههنا).
(٣) (و): ساقطة من (ب).
(٤) وفي "البسيط في شرح جمل الزجاجي": ١/ ٣١٠ قال عن هذه الآية: (فيحتمل أن يكون الأصل: (أنتم هؤلاء)، فاعْتُني بحرف التنبيه فقُدِّم، وأن تكون (ها) التنبيه، ولا تكون المقرونة بالإشارة؛ كما تقول: (ها زيد قائمٌ) ولكون هذا بمنزلة قوله سبحانه ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ [آل عمران: ٦٦]).
(٥) أي: الزجاج، في المصدر السابق. نقله عنه معناه.
(٦) لم أقف على من خص المراد هنا بمنافقي أهل الكتاب، وإنما قيل في المراد: هم المنافقون، أو اليهود. وقد سبق أن ذكر المؤلف أن المعنِيَّ في هذه الآيات: اليهود والمنافقون معًا، وهو قول لابن عباس ومجاهد، وغيرهم. وقد سبق بيان مصادر هذا القول عند التعليق على شرح المؤلف لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ [آية: ١١٨]. =
547
التي يفعلها المُحِبُّ.
قال المُفَضَّلُ (١): معنى ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾: تريدون لهم الإسلام، وهو خير الأشياء. ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾؛ لأنهم يريدونكم على الكفر، وهو الهلاك.
قوله تعالى: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ أي: بالكتب كلها، وهو اسم جنس؛ كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس، أو لأن الكتاب مصدر، فيجوز أن يسمى (٢) به الجمع.
قال ابن عباس (٣): يريد: الذي أُنزل على محمد، والذي أنزل على عيسى، والذي أنزل على موسى، وهم لا يؤمنون بشيء منه؛ لأنهم (٤) يَنتحِلون (٥) التوراةَ، ولم يعلموا بما (٦) فيها.
= وممن قال بأنهم اليهود: ابن عباس -في رواية عنه- والحسن، وقتادة، ومجاهد، وابن جريج، والنحاس، والقرطبي، وابن كثير.
انظر: "تفسير مجاهد" ١٣٤، و"تفسير مقاتل" ١/ ٢٩٨، و"تفسير الطبري" ٤/ ٦٠ - ٦٤، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٤٢، و"معاني القرآن"، للنحاس ١/ ٤٦٦، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠٥ أ، و"تفسير البغوي": ٢/ ٩٥، و"تفسير القرطبي" ٤/ ١٨١، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٢٨، و"الدر المنثور" ٢/ ١١٨ - ١١٩.
(١) قوله، في: "تفسير الثعلبي": ٣/ ١٠٥ ب.
(٢) في (ج): (نسمي).
(٣) لم أقف عليه بهذا اللفظ عنه، والذي في: "تفسير الطبري" ٤/ ٦٥ قوله: (أي: بكتابكم وكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء منهم لكم).
وأورده السيوطي في: "الدر المنثور" ٢/ ١٢٠ وزاد نسبة إخراجه لابن إسحاق،
وابن المنذر. وانظر: "سيرة ابن هشام" ٢/ ١٨٦.
(٤) (لأنهم): ساقطة من (ب).
(٥) يقال: (انتحل كذا): أي: دان به. و (انتحل فلانٌ شِعْرَ غيره): ادَّعاه ونسبه لنفسه. و (انتحل مذهبا): انتسب إليه. انظر: "لسان العرب" ٧/ ٤٣٦٩ - ٤٣٧٠ (نحل).
(٦) في (ج): (ما).
548
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ يقال: عَضَّ، يَعَضُّ، عَضًّا، وعَضِيضًا) (١).
قال امرؤ القَيس:
كَفَحْلِ الهِجَانِ يَنْتَحِي لِلعَضِيض (٢)
والأنامِل: جمع أَنْمُلَة (٣)؛ وهي: أطراف الأصابع (٤).
[والغَيْظُ: الإغضابُ (٥)، يقال؛ (غاظَهُ الشيءُ)؛ أي: أغضبه (٦).
(١) في (ج): (يغض غضًا وغضضا).
(٢) في (ج): (العضيض).
وهذا عجز بيت، وأوله:
له قُصْرَيا عَيْرٍ وساقا نعامةٍ
وهو في "ديوانه" ٩٧.
والقُصْرَيان: مفردهما: (قُصْرى). وهما الضلعان اللذان يليان الخصر بين الجنب والبطن، وهما آخر الضلوع. و (العَيْر): الحمار، ويغلب إطلاقه على الوحشي منه. و (فحل الهجان)؛ أي: فَحل الإبل الكريمة البيضاء، ولا يكون فحلها إلا كريمًا مثلها. و (الانتحاء): القصد، والاعتماد، والجد، وقوله: (ينتحي للعضيض)؛ أي: يعتمد ويعترض للعض.
انظر: "تهذيب اللغة" (٢٩٧٤) (قصر)، و"القاموس" (١٣٣٧ - ١٣٣٨) (نحا).
(٣) يقال: (أنْمُلَة) -بفتح الهمزة وضم الميم-، و (أنمَلَة) -بفتح الهمزة وفتح الميم-.
انظر: (نمل) في "الصحاح" ١٨٣٦، و"القاموس" (١٠٦٥)، و"المجمل" ٨٨٦، و"اللسان" ٨/ ٤٥٥٠.
(٤) انظر المصادر السابقة
(٥) (الإغضاب): ساقطة من (أ)، (ب). وفي (ج): (الأعصاب). وما أثبَتُّهُ هو الصواب.
(٦) يقال: (غاظه، وأغاظه، وغيَّظه): بمعنى واحد، والمصدر: الغيظ. انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٢٢ (غيظ).
قال الراغب: (الغيظ: أشد الغضب، وهو: الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه). "مفردات ألفاظ القرآن": ٦١٩ (غيظ).
549
وعَضُّ الأصابع] (١)، والأنامِل، واليد (٢): مِن فِعْلِ المُغضَبِ (٣)، الذي فاته ما لا يقدر [على] (٤) أن يتداركه، أو يرى شيئًا يكرهه، ولا يقدر على أن يُغيِّره. ثم كثر استعمال (٥) [هذا] (٦) فيه، حتى استُعمِلَ مَثَلًا، مجازًا، فيقال للمُغضبِ: (هو يَعَضُّ يدَهُ غَضَبًا وحَنَقًا) (٧)، وإنْ لم يكن هناك عَضٌ. قال الشاعر:
قَدَ أَفْنَى أنامِلَهُ أَزْمُهُ فأَضْحى يَعَضُّ عَلَيَّ الوَظِيفا (٨)
(١) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٢) في (ب): (ولليد).
(٣) في (ج): (الغضب).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٥) في (ج): (استعماله).
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٧) قال -تعالى- عن حال من يعض على يديه ندمًا وأسفًا يوم القيامة: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٧].
(٨) البيت لصخر الغَيّ بن عبد الله الخُثَمِي الهذلي. وقد ورد منسوبًا له في: "شرح أشعار الهذليين" ١/ ٢٩٩، وورد في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٧٧ (يدي)، و"اللسان" ٨/ ٤٩٥٣ (يدي)، وقالا فيه: (قال الهذلى). وروايته في هذه المصادر: (فأمسى يَعَضُّ..). وقوله: (أزْمُهُ): عَضُّهُ. من: (أزَمَ يأزِم أزْما) و (أُزوما)، فهو (آزم وأزُوم): إذا عَضَّ بالفم كلِّه عَضًّا شديدًا. و (الوظيفة): أصل استعمالها لذوات الأربع من الخيل والإبل، وهي ما استدَقَّ من الذراع أو الساقين، ففي البعير هي: ما بين الرسغ والذراع، أو بين الرسغ والساق، وجعلها الشاعر هنا للإنسان.
انظر: "الصحاح" ١٤٣٩ (وظف)، و"الفرق" لابن فارس ٦١، و"زينة الفضلاء" للأنباري ٩١، و"القاموس المحيط" (١٠٧٥) (أزم).
قال الأزهري عن معنى البيت: (أكل أصابعه حتى أفناها بالعض، فصار يعض وظيف الذراع). "تهذيب اللغة" ١/ ١٥٦ (أزم).
550
وقال أبو طالب (١):
يَعَضُّونَ غَيْظًا خلفَنا بالأَنَامِلِ (٢)
قال المفسرون (٣): وإنما ذلك لِما يَرَوْنَ من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم، وصَلاح ذات بَيْنِهم.
وفي الآية تقديم وتأخير؛ لأن التقدير: وإذا خَلَوْا عَضُّوا الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ عليكم.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ خرج هذا مخرج الأمر، وليس معناه الأمرَ، لكنَّه دعاء عليهم، أمر اللهُ نَبِيَّهُ - ﷺ - بأن يَدْعُوَ عليهم بهذا (٤).
(١) واسمه: عبد مَناف -بن عبد المُطَّلِب بن هاشم، عَمُّ النبي - ﷺ -، الذي كفله بعد موت جده عبد المطلب، وكان حدِبًا على أمر النبي - ﷺ -، عطوفًا عليه، منع عنه أذى قريش، إلا اْنه لم يُسْلِم، ومات على الشرك، قبل الهجرة بثلاث سنين. انظر: "سيرة ابن هشام" ١/ ١٩٣ - ١٩٤، ٢/ ٢٥ - ٢٦.
(٢) عجز بيت، وصدره:
وقد حالفوا قوما علينا أظنَّةً
وقد ورد منسوبًا له في: "سيرة ابن هشام" ١/ ٢٨٦، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠٥ ب، و"البحر المحيط" ٣/ ٤١، و"الدر المصون" ٣/ ٣٧٠.
وأول البيت في: "تفسير الثعلبي"، والبحر: (وقد صالحوا قومًا عليهم أشحة)، ولكن في: "البحر المحيط": (علينا أشحة).
والبيت من قصيدة طويلة يخاطب فيها أشراف قومه لَمّا خافهم على النبي - ﷺ -، بعد أن علا ذِكرُه وظهر أمرُه، ووقفوا منه موقف العداء، وفيها كذلك مدح للنبي - ﷺ -. انظر حول هذه القصيدة: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ٢٤٤.
(٣) ممن قال ذلك: قتادة، والربيع، والطبري. والعبارة -هنا- عبارة الطبري. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٦٦ - ٦٧، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٤٦.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٦٧.
وقال أبو الليث: (يقول: موتوا بحنقكم على وجه الدعاء والطرد واللعن، لا على وجه الأمر والإيجاب؛ لأنه لو كان على وجه الإيجاب لماتوا من ساعتهم. كما =
551
ومعنى موتِهم بِغَيْظِهم: هو أن يَدُوم غيظُهم إلى أن يموتوا، أو (١) يصير الغيظُ قاتِلَهم، وسببَ موتهم (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي: بما فيها من خير وشر. قال (٣) النحويون (٤): (ذات) تأنيث (ذو). وإذا وقَفْتَ (٥) على (ذات): فمنهم مَن يَدَعُ التَّاء على حالها؛ لكثرة ما جرى على اللسان بالتَّاء، ومنهم من يردها إلى هاء (٦) التأنيث. وهو القياس.
وقال ابن الأنباري (٧): ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، أي: بما فيها (٨) من خير وشر (٩). معناه: بحقيقة القلوب من المضمرات. فتأنيث (ذات) (١٠)
= قال في موضع آخر: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ [البقرة: ٢٤٣]، فماتوا من ساعتهم، وههنا لم يرد به الإيجاب). "بحر العلوم": ١/ ٢٩٤ - ٢٩٥.
وذهب الضحاك إلى أن هذا يراد به الخبَر؛ أي: يخبر عنهم أنهم يخرجون من الدنيا بالموت وهم بهذه الحسرة والغيظ. انظر: المرجع السابق.
(١) في (ب): (و).
(٢) أي: أن الباء -هنا- في ﴿بِغَيْظِكُمْ﴾، إما للحال، أو للسببية.
(٣) من قوله (قال..) إلى (عليم بذات الصدور): مكرر مرتين في (أ).
(٤) هذا قول الليث في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٩٩ (ذو)، نقله عنه المؤلف بتصرف يسير. وانظر: "اللسان" ٣/ ١٤٧٧ - ١٤٧٨ (ذو).
(٥) في (ب)، (ج): (وقعت).
(٦) في (ب): (تاء).
(٧) قوله، في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٠٠. نقله عنه بتصرف يسير وانظر: "المذكر والمؤنث" لابن الإنباري ٢/ ٣٦٧ - ٣٦٨، و"اللسان" ٣/ ١٤٧٨ (ذو).
(٨) (أي بما فيها): ساقط من (ج).
(٩) (من خير وشر): ساقط من (ج).
(١٠) في (ج): (ذا).
552
لهذا المعنى؛ كما قال: ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧]، فَأَنَّثَ؛ لمعنى (الطائفة)؛ كما يقال: (لقيته ذات يوم)، فيؤنثون؛ لأن مقصدهم: لقيته مرَّةً في يوم. وقد ذكرنا زيادة في الشرح والبيان عند قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [آل عمران: ١٥٥].
١٢٠ - قوله تعالى: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ الآية. (المَسُّ)، أصله باليد، ثم يُسَمَّى المُقارِبُ والمخالِطُ: (ماسًّا)؛ تشبيهًا بالمتناوِلِ للشيء، فيقال: (أمْرُكَ يَمَسُّنِي)؛ أي: يَكْرِثُني (١)، ويهمني، ويَقْرُبُ مِن قلبي. فأشبه بذلك المَسَّ بالأصابع (٢).
ومعنى (الحسنة) -ههنا-: النصر (٣)، والغنيمة، والخِصْب (٤).
(١) يقال: (كَرَثَه، وأكرَثَه الغَمُّ)، (يكرِثُهْ ويَكرُثه): اشتد عليه، وأقلقه، وحرَّكَه. و (الاكتراث): الاعتناء. و (لا تكترث بالأمر): لا تعبأ به، ولا تبالي. وذكر ابن الأثير أنها لا تستعمل إلا في النفي، وقد جاءت في الإثبات وهو شاذ.
انظر: (كرث) في: "أساس البلاغة" ٢/ ٣٠٢، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير ٤/ ١٦١، و"التاج" ٣/ ٢٥٢.
(٢) يقال: (مَسَسْتُ) -بفتح السين الأولى وبكسرها-، (أمَسُّ مَسًّا ومَسِيسا، ومِسِّيسَى): وهو ما كان باليد. و (المَسُّ، والمَسِيس) يُكنى به عن النكاح -كذلك-. ويقال: (مِسْتُ) - يحذفون السين الأولى، ويحولون كسرتها إلى الميم، أو تترك الميمُ مفتوحة. انظر: "العين"، للخليل ٧/ ٢٠٨، ٢٠٩ (مسس)، و"إصلاح المنطق" ٢١١، و"المقاييس" ٥/ ٢٧١، و"الفرق بين الحروف الخمسة" ٤٠٨، ٤٠٩، و"بصائر ذوي التمييز" ٤/ ٤٩٨.
(٣) في (ج): (النصرة).
(٤) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ١/ ١٠٣، و"تفسير الطبري" ٤/ ٦٧، و"بحر العلوم" ١/ ٢٩٥، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٢٩.
لفظ الآية في (الحسنة) و (السيئة) عامٌّ، لم يخصص نوعًا منها دون نوع، فيدخل فيها كل ما يحسن ويسوء. وما ذكره المؤلف من النصر والغنيمة والخصب، إنما هو على سبيل التمثيل لها. انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٩٢.
553
و (تسؤْهم)، أي: تُخْزِيْهم، يقال: (ساءَهُ، يَسُوءُهُ، مَسَاءَةً (١)، ومَسَائِيَةً) (٢)، فـ (استاءَ) (٣)؛ أي: اهتم (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾ أي: نالكم ضد ذلك.
ويقال: (ساء (٥) الشيءُ)، (يسوء (٦)، فهو سيِّء)، والأنثى: (سيِّئةٌ)؛ أي: قَبُحَ (٧). ومنه قوله: ﴿سَاَءَ مَا يَعمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٦]. و (سَوَّأتُ على الرجل (٨) فعلَهُ)؛ أي: قَبَّحْتُهُ عليه، وعِبْتُهُ به. و (السُّوْءَى) (٩): ضد الحُسْنَى، و (السَّوْءاءُ) (١٠): المرأةُ القبيحة (١١).
(١) في (ج): (ساه يسوه مساه).
(٢) في (أ)، (ب)، (ج): مسايبة والمثبت من كتب اللغة. وفي "القاموس المحيط" ٤٣ (سوء): قال: (ومسائية مقلوبًا، وأصله: مساوِئة).
(٣) في (أ): فاستَاءً، والمثبت من: (ب)، (ج)، وكتب اللغة.
(٤) انظر: (سوء) في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٩٥ - ١٧٩٦، و"القاموس" ٤٣.
(٥) في (ج): (أسى).
(٦) يسوء: ساقطة من (ج).
(٧) في (ب): (قبح).
(٨) في (ب): (الوجه).
(٩) في (ج): (السوى).
(١٠) في (ب): (السؤا). وفي (ج): (السوا).
(١١) انظر: المصادر السابقة.
قال ابن عطية: (وذكر تعالى المسَّ في (الحسنة)؛ ليُبَيِّن أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءةُ بنفوس المبغِضِين، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة، وهي: عبارة عن التمكن؛ لأن الشيء المصيب لشيء، فهو متمكن منه أو فيه، فدلَّ هذا المنزعُ البليغُ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب، ولا سيما في هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة). "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٩٢ - ٢٩٣.
554
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾. أي: على ما تسمعون منهم، وعلى أذاهم.
﴿وَتَتَّقُوا﴾. قال ابنُ عباس (١): وتخافوا ربَّكم، في سِرِّكم وعلانِيَتِكم. وقال غيره (٢): وتتقوا مقاربتهم في دينهم، والمحبة لهم.
﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ يقال: (ضارَهْ، يَضِيرُهُ، ضَيْرًا)، و (يَضُورُهْ ضَوْرا): إذا ضرَّهُ (٣).
وقرئ: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ مُشَدَّدا (٤) من: الضَّرِّ (٥). وأصله: (يَضْرُرْكُمْ) -جَزْمًا-، وأُدغِمَت (٦) الرَّاءُ في الرَّاءِ، ونقلت ضَمَّةُ الرَّاء الأولى إلى
(١) لم أقف على مصدر قوله. والذي في: "زاد المسير" ١/ ٤٤٨ من قول ابن عباس: (الشرك).
(٢) لم أهتد لقائل هذا القول. وقد يفهم ذلك من عبارة الطبري في "تفسيره" ٤/ ٦٨، حيث قال: (وإن تصبروا -أيها المؤمنون- على طاعة الله، واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه: من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود -الذين وصف الله صفتهم- من دون المؤمنين وغير ذلك من سائر ما نهاكم..).
(٣) انظر: "الزاهر" ٢/ ١٧٤، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٠٧٨ (ضور)، و"اللسان" ٥/ ٢٦١٩ (ضور)، ٥/ ٢٦٢٣ (ضير).
(٤) هي قراءة عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي -بضم الصاد، وتشديد الراء المرفوعة-. انظر: "السبعة" ٢١٥، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٧٤.
(٥) انظر: "الحجة"، لابن خالويه ١١٣. وورد في: "اللسان": (الضَّرُّ، والضَّرُّ): ضد النفع. و (الضَّرُّ): المصدر، و (الضُّرُّ): الاسم. وقيل: إذا جمعت بين الضَّرِّ والنفع: فتحتَ الضاد، وإذا أفردت الضُّرَّ: ضممت الضاد: إذا لم تجعله مصدرًا.
وقال: (وضَرَّه يضُرُّه ضَرًّا)، و (ضَرَّ به وأضَرَّ به)، و (ضارَّه مُضَارَّة، وضِرَارًا) والاسم: (الضَّرر). "اللسان" ٥/ ٢٥٧٣ (ضرر)، وانظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٦٨.
(٦) في (ج): (فأدغمت).
555
الضاد، وضُمَّت الرَّاءُ الأخيرةُ؛ إتْباعًا لأقرب الحركات إليها، وهي: حركة الضادُ، كقولهم: (مُدُّ يا هذا) (١).
واعلم أنه إذا كان قبل الحرف المُدْغم (٢)، حرفٌ مضمومٌ، فلك في تحريك الأخير ثلاثة أوجه: الضمُّ؛ للإتْباع، والكسرُ؛ على أصل ما يجب (٣) في التقاء الساكنين، والفتحُ؛ للخفة.
قال جرير:
فَغُضّ الطَرْفَ إنك مِن نُمَيْرٍ (٤)
يُنشَد باللغات الثلاث (٥). ولا يجوز في القراءة إلّا الرفع، على ما قرأته القُرَّاءُ المُتَّبَعون (٦).
(١) انظر: "المغني" لابن هشام ٧١٧ - ٧١٨؛ حيث لم ير في إعرابها إلا أنها مجزومة، وأن الضم اتباع، كالضمة في قولك: (لم يَشُذُّ ولم يَرُدُّ).
(٢) (المدغم): ساقطة من (ب).
(٣) في (ب): (التأنيث). بدلًا من: (ما يجب).
(٤) صدر بيت، وتمامه:
فلا كَعْبَا بَلَغتَ ولا كِلابا
وهو في: ديوانه: ٦٣، وورد في: "كتاب سيبويه" ٣/ ٥٣٣، و"المقتضب" ١/ ١٥٨، و"المصون في الأدب" ١٩، و"العمدة" ١٢٦، ١٢٧، ٨٤٤، ١٠٥٣، و"شرح المفصل" ٩/ ١٢٨، و"المقاصد النحوية" ٤/ ٤٩٤، و"منهج السالك" ١/ ٢٥٢، و"التصريح" ٢/ ٤٠١، و"همع الهوامع" ٦/ ٢٨٨، و"خزانة الأدب" ١/ ٧٢، ٦/ ٥٣١، ٩/ ٣٠٦، ٥٤٢، و"شرح شواهد شرح الشافية" ٤/ ١٦٣. والبيت من قصيدة طويلة له، يهجو فيها الراعي النميري، وُيعَرِّض بقومه.
(٥) أي يقال: (فَغُضَّ) -بضم الضاد المشددة، وفتحها، وكسرها. انظر فيما ذكره المؤلف سابقًا: "معاني القرآن"، للفراء ١/ ٢٣٢، و"الطبري" ٤/ ٦٨.
(٦) أي: لا يجوز في قراءة: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ إلا الرفع في الراء، من ناحية القراءة القرآنية، مع صحة قراءتها بالفتح والكسر من ناحية اللغة كما ذكر المؤلف؛ لأن =
556
قال أبو إسحاق (١): ضمن الله -عز وجل- للمؤمنين النصرَ إن صَبَروا، وأَعلَمَهم أَنَّ عَدَاوَتَهم (٢) وكَيْدَهُم غَيْرُ ضَارٍّ لهم.
والكَيْدُ -في اللغة-: الاحتيال بغير ما يبدي (٣)، وهو: أن يحتال ليَغْتَالَ صاحِبَهُ، ويوقِعَهُ في مكروه (٤)، وابن عباس فَسَّرَ الكيْدَ بالعداوة (٥).
= الراء الثانية مُدغَمَة في الراء الأولى، مع سبقها بحرف مضموم. وقد وردت قراءة أخرى صحيحة، متواترة، وهي: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ على التخفيف -بتسكين الراء وكسر الضاد المخففة- وقد قرأ بها: ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، ويعقوب، ورواية أخرى عن حمزة. انظر: "السبعة" ٢١٥.
قال الفارسي: (فكلتا القراءتين حسنة؛ لمجيئهما جميعًا في التنزيل). "الحجة" ٣/ ٧٥. وانظر: "المحلى" لابن شغير ١٧.
ووردت قراءات أخرى شاذة، وهي: قراءة عاصم برواية أبي زيد عن المفضل عنه: (لا يَضُرَّكم) بضم الضاد وفتح الراء المشددة. وقرأ الضحاك: (يَضُرِّكم) -بضم الضاد، وكسر الراء المشددة-.
انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٦١، و"تفسير القرطبي" ٤/ ١٨٤، و"البحر المحيط" ٣/ ٤٣.
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٦٥. نقله عنه بنصه.
(٢) في "معاني القرآن": عدوانهم.
(٣) في (ج): (ما مدى).
(٤) أصل (كَيَدَ) -في اللغة- يدل على معالجة شيء بشدة، ثم يتسع بابه ويدخل فيه المعنى المراد -هنا- الذي ذكره المؤلف وهو: الاحتيال لإيقاع مكروه بالغير؛ لأنه فيه معالجة وبذل وُسْع، واجتهاد للمكر والإضرار بالآخرين. انظر: "المقاييس" ٥/ ١٤٩ (كيد). وعَرَّف الجرجانيُّ (الكيد)، فقال: (إرادة مضرة الغير خفية، وهو من الخلق: الحيلة السيئة). التعريفات: ١٨٩. وانظر: "اللسان": ٧/ ٣٩٦٦ (كيد)، و"التوقيف على مهمات التعاريف" ٦١٤.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
557
[ورُدَّ على الفرَّاء] (١) [في هذه الآية شيئان:
أحدهما: أنه قال (٢): ولو] (٣) قرئ: (لا يَضُرْكم) -بضم الضاد-، جازَ؛ فقد سمع الكسائيُّ بعضَ أهل العالِيَةِ (٤) يقول: [(لا ينْفَعُني ذاك (٥) ولا يَضُورُني) (٦).
قال الزجاج (٧): وهذا غير جائز، لا يُقرأ حرفٌ من كتاب الله -عز وجل- بخلاف الإجماع، على قول رجل من أهل العالية. وهذا كما قاله؛ لأن القراءةَ بالسَّمَاع والتَّوْقِيف، لا بالجَوَازِ في اللغة.
والآخر: أنه قال (٨) في قوله: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ -على قراءة من قرأ بالتشديد-: يجوز أن يكون جواب الشرط: فَاء مُضْمَرَة (٩)، ويكون (لا)
(١) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، وساقط من (ب)، والمثبت من (ج).
(٢) في: "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٢. نقله عنه بمعناه.
(٣) ما بين المعقوفين مطموس في: (أ)، والمثبت من (ب)، (ج).
(٤) العالية: اسم لكل ما كان من جهة نجد من المدينة إلى تهامة، وهي عالية الحجاز، وما كان دون ذلك من جهة تهامة فهي السافلة. وقيل: هي ما جاوز الرُّمَّة -وهي أرض واسعة بنجد تنصب فيها عدَّة أودية- إلى مكة. انظر: "معجم البلدان" ٤/ ٧١.
(٥) (ذاك) مطموس في (أ). وساقط من (ب). ومثبت من (ج)، و"تهذيب اللغة": ٣/ ٢٠٧٨. وفي "معاني القرآن": ذلك.
(٦) (يضورني): مطموسة في (أ). وفي (ب): (يضرني). والمثبت من (ج)، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٠٧٨، و"معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٣٢، و"تفسير الطبري" ٤/ ٦٨.
(٧) في: "معاني القرآن" له ١/ ٤٦٥. نقله عنه بتصرف يسير.
(٨) في: "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٢. نقله عنه بمعناه
(٩) (فاء مضمرة): مطموس في (أ)، وساقط من (ب). والمثبت من (ج).
558
بمعنى (ليس) والتقدير: (فليس يَضُرُّكُمْ كيدُهم شيئا).
وأنشد (١) على هذا بيتًا (٢).
قال النحويون: وهذا غلطٌ، مَن حَذَفَ الفاءَ، إنما (٣) يجوز لِضرُورة الشعر (٤)، والقرآن لا يُحْتَمل (٥) على ضرورة الشعر (٦)، سِيَّما إذا كان لرفع
(١) من قوله: (وأنشد..) إلى (من حذف الفاء): مطموس في (أ). وساقط من (ب). والمثبت من (ج).
(٢) البيت هو:
فإن كان لا يُرضيكَ حتى تَرُدُّني إلى قَطَريِّ لا إخالُكَ راضيا.
وقائله، هو: سوَّار بن المُضَرِّب السعدي التميمي.
وقد ورد البيت في: "النوادر" لأبي زيد ٥٤، و"الكامل" للمبرد ٢/ ١٠٢، و"الطبري" ٤/ ٦٨، و"القراءات" للأزهري ١/ ١٢٤، و"الخصائص" ٢/ ٤٣٣، و"المحتسب" ٢/ ١٩٢، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ١٨٥، و"شرح المفصل" ١/ ٨٠، و"المقاصد النحوية" ٢/ ٤٥١، و"منهج السالك" ٢/ ٤٥، و"التصريح" ١/ ٢٧٢.
والشاعر يخاطب الحجاجَ لمَّا أراد بعثَه وقومَه بني تميم لقتال الخوارج وزعيمِهم قَطَرِي بن الفجاءة. ويعبر الشاعر عن رفضه لهذا الأمر.
والشاهد في البيت قوله: (لا إخالُك)، أي: فلست إخالُك) -برفعها-.
(٣) في (ب): وإنما. والمثبت من (ج). وهو الصواب.
(٤) انظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ٦٤ - ٦٥، و"المقتضب" ٢/ ٧١، و"المغني" لابن هشام: ٨٠، ١٣٣، ٢١٨، ٣١١، ٨٣٢. وذكر ابن هشام أن المبرّدَ منع حذف الفاء حتى في الشعر. انظر: "المغني" ٢١٩. إلا أن الظاهر من كلام المبرّد في كتابه "المقتضب": ٢/ ٧٢ خلاف ما ذكره ابن هشام. وانظر تعليق محقق "المقتضب" في هامش ٢/ ٧٢ - ٧٣.
وأجاز الأخفشُ حذفَ الفاء في جواب الشرط في القرآن. انظر: "معاني القرآن" له ١/ ١٥٨ عند تفسيره لآية (١٨٠) من سورة البقرة ﴿إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ﴾. ورُدّ بأن ﴿الوَصِيَّةُ﴾ نائب فاعل لـ ﴿كُتِبَ﴾، وجواب الشرط محذوف، وهو (فَلْيُوصِ). انظر: "المغني" ١٣٣، ٢١٩.
(٥) في (ج): (لا يحمل).
(٦) في (ب): (الشاعر).
559
الراء في ﴿يَضُرُّكُمْ﴾ وجهٌ حسن.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أي: عالم به؛ على معنى: أنه باقتداره عليه، وعلمه به (١)، قد (٢) حَصَرَه مِن (٣) جميع جهاته، كما حَصَرَه (٤) المحيطُ به. هذا معناه وحقيقته؛ لأن المحيط بالشيء، هو المحيط به من حواليه، وهذا من صفة الإحكام (٥)] (٦).
١٢١ - قوله تعالى (٧): ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ (٨) الآية. مضى (٩) الكلام [في (إذ) في مواضع؛ (١٠) والعامل فيه -ههنا- محذوف، وهو: اذكر. وحُذِفَ؛ لأن الحال تدل على أن (١١)] (١٢) المعنى تذكير لتلك الحال.
قال ابن عباس (١٣)، وقتادة (١٤)، والربيع (١٥)، والسدي (١٦)، وأكثر
(١) أنه باقتداره عليه وعلمه به: مطموس في (أ). وساقط من (ب). ومثبت من (ج).
(٢) في (ج): (ود). والمثبت من (ب).
(٣) في (ج): (في). والمثبت من (ب).
(٤) في (ج): (يحصره)، والمثبت من (ب).
(٥) في (ج): (الأجسام)، والمثبت من (ب).
(٦) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٧) (قوله تعالى): ساقط من (ج).
(٨) ﴿مِن أَهلِكَ﴾: ليس في (ب).
(٩) (مضى): مطموسة في (ج).
(١٠) منها: عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ [آل عمران: ٣٥].
(١١) ليست في (أ)، (ج). ومثبتة من (ب).
(١٢) ما بين المعقوفين: مطموس في (أ)، ومثبت من (ب)، (ج).
(١٣) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٧٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٤٨، و"النكت والعيون" ١/ ٤٢٠.
(١٤) انظر المصادر السابقة.
(١٥) انظر المصادر السابقة.
(١٦) انظر المصادر السابقة.
560
المفسرين (١): هذا كان يوم أُحُد، غدا رسول الله - ﷺ - من منزل عائشة إلى أُحُد (٢)، فجعل يصف أصحابَه للقتال.
قال ابن عباس (٣): ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾؛ يريد: مِن (٤) منزل عائشة (٥).
وقوله تعالى: ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يقال: (بَوَّأتُه مَنْزِلًا)، و (بَوَّأتُ له منزلًا)؛ أي: أنزلته إيَّاهُ (٦).
قال ابن هَرْمَة (٧):
وبُوِّئَتْ في صَميمِ مَعْشَرِها فَتَمَّ في قومِها مُبَوَّؤُها (٨)
(١) ممن قال بذلك: ابن مسعود - رضي الله عنه -، ومجاهد، والكلبي، والزهري، وابن إسحاق، والطبري. انظر: المراجع السابقة، و"سيرة ابن هشام" ٣/ ٥٨، و"بحر العلوم" ١/ ٢٩٥، و"زاد المسير" ١/ ٨٨٤ و"الدر المنثور" ٢/ ١٢٠ وما بعدها.
(٢) المصادر التي أشرت إليها، وقد ذكرت أقوال من سبق ذكره، ولكن لم تذكر أنه - ﷺ - خرج من منزل عائشة رضي الله عنها.
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) (من): ساقطة من (ج).
(٥) وممن ذكر أن المنزل الذي خرج منه - ﷺ - هو منزل عائشة: أبو الليث في "بحر العلوم" ١/ ٢٩٥، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٠٧ أ، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ٩٦، وقد نسباه لمجاهد والكلبي والواقدي، وابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٤٤٩، وابن الديبع في "حدائق الأنوار" ٥٢١.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٧٢، و"الصحاح" ١/ ٣٧ (بوأ)، و"اللسان" ١/ ٣٨٢.
(٧) هو: أبو إسحاق، إبراهيم بن علي بن سَلَمَة بن عامر بن هَرْمَة القرشي، من الخُلْج، وهم من قيس بن الحارث بن فِهْر. سكن المدينة، وهو من آخر الشعراء الذين يُحتَجُّ بشعرهم، قال الأصمعي: (خُتِم الشعرُ بابن هَرْمة)، عاصر الدولة الأموية والعباسية، مات بعد سنة (١٥٠هـ) تقريبا. انظر: "طبقات الشعراء" لابن المعتز ٢٠، و"تاريخ بغداد" ٦/ ١٢٧، و"خزانة الأدب" ١/ ٤٢٤.
(٨) البيت ورد منسوبًا له في: "مقاييس اللغة" ١/ ٣١٢ (بوأ)، وورد غير منسوب في: "اللسان" ١/ ٣٨٢ (بوأ).
561
وفي قراءة عبد الله: (تبوِّئُ للمؤمنين) (١). و (المَبَاءَة) (٢)، و (البَاءَة) (٣): المنزل (٤).
قال أبو علي (٥): (بَوَّأتُ فُلانًا (٦) منزلًا)، تُعدِّيْهِ إلى مفعولين، وكأنه منقول من قولك: (باءَ فلانٌ منزِلَهُ)؛ أي: لَزِمَه. وإن كنّا لا نرى ذلك؛ ولكن يدل على ذلك قولهم: (المَبَاءَة) (٧) - وهي: المُرَاحُ (٨) الذي تبيت فيه النَّعَم (٩) -: [اسمٌ] (١٠) للمكان (١١).
(١) انظر: "معاني القرآن"، للفراء ١/ ٢٣٣، و"تفسير الطبري" ٤/ ٧٢، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٦٢.
(٢) في (ج): (والمباه).
(٣) في (ج): (والمباه).
(٤) انظر: "تهذيب اللغة": ١/ ٢٤٦ (بوأ).
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) في (ب): (لفلان).
(٧) في (ج): (المباه).
(٨) تضبط (المُراح) بضم الميم، إذا كانت من (أراح) الرباعي، وهو: حيث تأوي الماشية بالليل. أما (المَراح) بفتح الميم، إذا كانت من (راح) الثلاثي. وقد ضبطت بالضم في: "تفسير الطبري" ٤/ ٧٢، و"التهذيب" ٢/ ١٣٠٩ (راح)، و"القاموس": ٢٧٢ (روح)، و"اللسان" ٣/ ١٧٦٩ (روح)، و"المصباح المنير" ٩٣ (روح).
(٩) في (ج): (الغنم).
(١٠) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(١١) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٢٤٦ (بوأ)، و"مقاييس اللغة" ١/ ٣١٢ (بوأ)، و"المصباح المنير" ٩٣ (روح).
ولم أعثر في كتب اللغة -التي رجعت إليها- على: (باء فلان منزله) بمعنى: لزمه، وإنما تأتي (باء) بمعنى الرجوع، واللزوم، والإقرار إذا عُدِّيت بالباء أو بـ (إلى) ومنه. (باء بإثمه، يَبُوء بَوْءا) و (أبوء بذنبي)؛ أي: ألتزم وأرجع وأقر. و (باء بالشيء): رجع. ويقا- كذلك: باء فلانٌ لفلان، بَوْءا، وبَوَاءً): إذا كان مكافئًا له، يقتل به. =
562
وقوله تعالى: ﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ أي (١): مواطن. قال ابن عباس (٢): كل رجل لِمَقعَدِه الذي يصلح له.
وقد بيّنّا أن معنى القُعُود -في أصل اللغة-: الثُّبُوت، على أي حال كانت، عند قوله: ﴿الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ [البقرة: ١٢٧].
فمعنى: ﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ مراكز (٣)، ومَثابِتَ، لا مَجَالِس (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. قال ابن عباس (٥): يريد: سميعٌ لقولكم، عليمٌ بما في قلوبكم؛ وذلك أن رسول الله - ﷺ - استشار أصحابه في ذلك الحرب (٦)، فمنهم من أشار عليه بأن يقيم في المدينة، ومنهم من أشار عليه بالخروج إليهم، فقال الله -تعالى-: أنا ﴿سَمِيعٌ﴾ لِمَا يقوله المُشيرون عليك (٧)، ﴿عَلِيُمٌ﴾ (٨) بما يُضْمِرُون.
= أما (المَباءة) فهي من: (أبَأتُ الإبلَ مَباءَةً): أنخت بعضها إلى بعض. فيتعدى الفعل هنا بالهمزة. انظر: (بوأ) في: "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٩٤، و"الصحاح" ١/ ٣٧، و"اللسان" ١/ ٣٨٢.
(١) من قوله: (أي..) إلى (.. مقاعد للقتال): ساقط من (ج).
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) في (ج): (مراكب).
(٤) قال ابن دريد: والمقاعد: موضع القعود في الحرب وغيرها. "الجمهرة" ٢/ ٦٦١ (قعد).
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) هكذا جاءت (ذلك الحرب) على التذكير. والمعروف أن الحرب مؤنثة، لكن حكى ابن الأعرابي والمبرد فيها التذكير، ولكنها نادرة، وقد تُذكَّر إذا ضُمِّنت معنى القتال. انظر: (حرب) في: "الصحاح" ١/ ١٠٨، و"اللسان" ٢/ ٨١٥.
(٧) في (ج): (عليكم).
(٨) (عليم): ساقطة من (ج).
563
١٢٢ - قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ قال الزّجاج (١): العامل في (إذ) (٢): التَّبْوِئَة؛ المعنى: كانت التَّبْوِئَةُ في ذلك الوقت. و ﴿هَمَّتْ﴾؛ أي: قَصَدَت وأرادت. يقال: (هَمَمْتَ بالشيء)، (أَهَمُّ به هَمًّا) (٣). والطائفتان -في قول ابن عباس وأكثر المفسرين- (٤): بَنُو سَلِمَة (٥) مِن الخزرج، وبنو حَارِثَة من الأنصار (٦).
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٦٥. نقله عنه بنصه.
(٢) في (ب): (إذا).
(٣) انظر: "اللسان": ٨/ ٤٧٠٢ (همم).
(٤) قول ابن عباس في: "تفسير الطبري": ٤/ ٧٢، و"تفسير ابن أبي حاتم": ٣/ ٧٤٩. وهو قول جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، ومجاهد، وقتادة، والربيع، والسدي، والشعبي. انظر: "صحيح البخاري": (٤٠٥١)، كتاب: المغازي، باب: (إذ همت طائفتان...)، (٤٥٥٨) كتاب التفسير. سورة آل عمران. باب: (إذ همت طائفتان..)، و"تفسير الطبري" ٤/ ٧٢، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٤٩.
(٥) في (ب): (بنو أسلمة). و (سَلِمة) -بفتح السين وكسر اللام-، وترد في بعض المراجع بفتح اللام، وهو خطأ.
قال الأستاذ محمود شاكر: (بنو سَلِمة -بفتح السين وكسر اللام- وليس في العرب (سَلِمة) -بكسر اللام- غيرها، وسائرها بفتح اللام. وهم: بنو سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن سادرة بن تزيد بن جشم بن الخزرج). هامش "تفسير الطبري" ٧/ ١٦١. (ط. شاكر).
ويذكر ابن الأثير أن النسبة إلى سَلِمة بن سعد المذكور سابقًا: (السَّلَمي) عند النحويين، وينطقونها بفتح اللام، وأما المُحدِّثون فينطقونها (السَّلِمي) بكسر اللام. انظر: اللباب في "تهذيب الأنساب" ٢/ ١٢٩.
وقد ورد ضبطها بالكسر في: "المغازي" للواقدي ١/ ٣١٩، و"المعارف" لابن قتيبة ١٠٩، ١٥٩، و"تاريخ الطبري" ٢/ ٣٥٤، ٣٥٦، و"الاشتقاق"، لابن دريد ٥٦٦، و"عيون الأثر" ٢/ ٩، و"فتح الباري" ٧/ ٣٥٧.
(٦) هم بنو حارثة بن النَّبت، أو النبيت، من الأوس. انظر: "سيرة ابن هشام": ٣/ ٥٨، و"المعارف" ١١٠، ١٥٩، و"تفسير الطبري" ٤/ ٧٢، و"معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٦٩، و"التعريف والإعلام" للسهيلي ٧٧.
564
وكان سبب ذلك أن (١) عبد الله بن أُبَيٍّ انْخَزَلَ (٢)، فرجع عن الطريق في ثلاثمائةٍ، وهمت الطائفتان بالانصراف معه، فعصمهم الله، فلم ينصرفوا ومضوا مع رسول الله - ﷺ - (٣).
والفَشَل: الجُبْنُ، والخَوَرُ (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ قال ابن عباس (٥): يريد: ناصِرُهما، ومُوَالٍ لهما على مَنْ عاداهما (٦).
(١) أن: ساقطة من (ج).
(٢) انخزل؛ أي: انفرد وانقطع. و (الخَزْلُ، والاختزال، والانخزال): القطع والتقطع. انظر: "المجموع المغيث في غريب القرآن والحديث" ١/ ٥٧٤، و"النهاية في غريب الحديث": ٢/ ٢٩ (خزل).
(٣) وبقي من المجاهدين مع رسول الله - ﷺ - سبعمائة - رضي الله عنه - أجمعين- بعد رجوع ابنِ أُبَي ومن معه من الثلاثمائة، وكان عدد المشركين: ثلاثة آلاف.
انظر خبر هذه الغزوة في "سيرة ابن هشام" ٣/ ٣ وما بعدها، "طبقات ابن سعد" ٢/ ٣٦، و"تاريخ الطبري" ٢/ ٤٩٩ وما بعدها، و"المنتظم" لابن الجوزي ٣/ ١٦١، و"الكامل في التاريخ" ٢/ ١٠٣، و"عيون الأثر" ٢/ ٥، و"البداية والنهاية" ٣/ ١٠، و"حدائق الأنوار" لابن الديبع: ٢/ ٥١٨.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٧٤، و"معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٦٥، و"تفسير المشكل من غريب القرآن" لمكي ٥١، و"تذكرة الأريب" لابن الجوزي ١/ ٩٨، و"تحفة الأريب" لأبي حيان ٢٤٧.
قال ابن عباس: ﴿أَنْ تَفْشَلَا﴾ يعني: أن تَجْبُنا، بلغة حِمْيَر). "اللغات في القرآن": ٢٠.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) وقد فسرها ابن إسحاق بقوله: (المدافع عنهما ما همَّتا به من فشلهما؛ وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما، غير شك في دينهما، فتَولَّى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته، حتى سلمتا من وهونهما وضعفهما، ولحقتا بالنبي - ﷺ -). "سيرة ابن هشام": ٣/ ٥٨. وانظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٧٤، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٤٩.
565
وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ التَوَكُّل: تَفَعُّل، مِن: (وَكَلَ أمْرَهُ إلى فلان): إذا اعتمد في كفايته عليه، ولم يَتَوَلَّهُ بنفسه (١). وفي الآية إشارة إلى أنَّه ينبغي أن يستدفع (٢) الإنسان ما يعرض له مِن حَرْفٍ (٣) ومكروهٍ بالتوكل على الله، وأن (٤) يَصْرِفَ الجَزَعَ (٥) عن نفسه بالتوكل.
١٢٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ﴾. الآية (٦).
النَّصْرُ: حُسْنُ المَعُونة (٧). وبَدْرٌ: بِئْرٌ (٨) لرجل [يقال] (٩) له: بَدْر (١٠)،
(١) (والتوكل: إظهار العجز، والاعتماد على الغير، والاسم: التُّكلان). "القاموس": (١٠٦٩) (وكل). وانظر: "مقاييس اللغة": ٦/ ١٣٦ (وكل).
(٢) في (ب): (يدفع).
(٣) في (ج): (حرب). وما في نسخة (ج) له وجاهته، ومناسبته التامة هنا؛ لأن المقام هنا مقام حديث عن الحرب، إلا أن ما أثبته وهو في نسخة الأصل (أ)، (ب)، له وجهه كذلك؛ لأن (الحرف) من (حَرَفَ الشيء، يحرف حَرْفا)، و (انحرف، وتَحرَّف): عَدَلَ. ومال عن الشيء، و (حَرَف الشيءَ عن وجهه): صرفه. فيكون معناها في هذا الموضع هو الصرف والميل والعدول عن الأمر السوي. وهو ما كان من أمر الطائفتين اللتين همَّتا بالميل والانصراف عن القتال مع النبي - ﷺ -، مما يستدعي أن يدفع الإنسان هذا الوهم الشيطاني عن نفسه بالتوكل.
انظر: (حرف) في: "اللسان" ٢/ ٨٣٩، و"القاموس" (٧٩٩).
(٤) في (ج): (أن).
(٥) في (ب): (الجذع). الجَزَع: نقيض الصبر. وهو أبلغ الحزن، الذي يصرف الإنسان عما هو بصدده، ويقطعه عنه. يقال: (جَزع جَزَعًا، وجُزُوعا). انظر: (جزع) في: "مفردات ألفاظ القرآن" ١٩٤، و"القاموس" (٧٠٩).
(٦) (الآية): ساقطة من (ب).
(٧) انظر: (نصر) في: "المجمل" ٨٧٠، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٨٠٨
(٨) (بئر): ساقطة من (ب)، (ج).
(٩) ما بين المعقوفين: غير واضح في (أ). وفي (ب): اسمه -بدلًا من: (يقال له) -. وأثبَتُّه من (ج). وهكذا جاءت العبارة في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠٨ - ب. ويبدو أن المؤلف نقلها عنه.
(١٠) في (ب): وبدر كان رجل اسمه بدر.
566
سُمِّيَت باسم صاحبها، في قول الشعبي (١).
يدل على هذا قولُ حَسَّان (٢):
وبِبِئْرٍ إذْ يَرُدُّ وجوهَهُم جبريلُ تحت لِوائِنا ومُحَمَّدُّ (٣)
وقال الواقِدِيُّ (٤) -عن شيوخه- (٥): (بدر) (٦)، هو اسمٌ لِمَوضِعٍ (٧).
(١) بيَّن الشعبي أن هذا الرجل من جهينة. انظر قوله في: "مصنف ابن أبي شيبة" ٧/ ٣٥٣ رقم (٣٦٦٤٦)، و"الطبقات الكبرى" ٢/ ٢٧، و"المعارف" ١٥٢، "تفسير الطبري" ٤/ ٧٤ - ٧٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥٠، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠٨ ب، و"معجم ما استعجم" ١/ ٢٣١، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٢٣ وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
وذكر ابن قتيبة والسهيلي أن بدرًا -هذا- رجل من غفار، من بطن يقال لهم: بنو النار. وقيل: إن بدرا -هذا- هو ابن قريش بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة.
انظر: "المعارف": ١٥٢، و"التعريف والإعلام"، للسهيلي ٧٧ - ٧٨.
(٢) تقدمت ترجمته.
(٣) البيت لكعب بن مالك الأنصاري، وليس لحسّان، ولم أقف عليه في ديوانه، ولم أجد من نسبه له. رضي الله عنهما.
وهو في: "ديوان كعب" ١٩١، وورد منسوبًا له في: "العمدة" لابن رشيق ٧٩٩، و"معجم ما استعجم" ٢٣٢.
وفي المعجم: (.. نَرُدُّ..) بدلًا من: (.. يَرُدُّ..).
والبيت من قصيدة يرثي فيها حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - عم النبي - ﷺ -.
والضمير في (وجوههم) يعود على المشركين الذين قُتِلوا وغيِّبوا في قليب بدر بعد المعركة.
(٤) لم أهتد إلى قوله هذا في كتابه "المغازي"، وقد ورد في: "الطبقات الكبرى" ٢/ ٢٧، و"تفسير الطبري" ٤/ ٧٥، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠٨ ب، و"معجم ما استعجم" ١/ ٢٣١.
والواقدي، هو: محمد بن عمر بن واقد السَّهْمي، تقدمت ترجمته.
(٥) عن شيوخه: ساقطة من (ب).
(٦) بدر: زيادة من (ب).
(٧) وفي هذا الخبر عنه، أن الواقدي ذكر قول شيوخه -هذا- ليحيى بن النعمان =
567
وقيل: هو ماءٌ (١) لبني غِفَار (٢)، بين مكة والمدينة (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَأَنتُم أَذِلَّةٌ﴾ في موضع الحالِ، وإنّما كانوا أذلةً؛ لقلة العَدَدِ، وضعف الحال (٤)؛ لقلة (٥) السلاح والمال عن مقاومة العدو (٦).
= الغفاري، فقال: (سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون: هو ماؤنا ومنزلنا، وما مكه أحدٌ قطُّ يقال له بدر، وما هو من بلاد جهينة، إنما هو من بلاد غفار. قال الواقدي: وهو المعروف عندنا) "معجم ما استعجم" ١/ ٢٣١.
(١) (ماء): ساقط من (ب).
(٢) في (ب): (لبني عفان).
(٣) ورد عن الربيع، والضحاك، وقتادة أنه ماء بين مكة والمدينة. وليس فيه أن هذا الماء لبني غفار. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٧٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥٠، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠٧ ب، و"معجم ما استعجم" ١/ ٣٠٧، و"الدر المنثور" ٢/ ١٢٣.
(٤) وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والحسن، والربيع، وابن إسحاق. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٧٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥١.
(٥) في (ب): ولقلة.
(٦) بلغ عدد المسلمين في هذه المعركة: ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، وهذا قول عامة السلف، كما يقول الطبري في تاريخه: ٢/ ٤٣٢. على اختلاف الأقوال في العدد بعد الثلاثمائة: فقيل: (٣٠٥)، وقيل: (٣٠٧)، وقيل: (٣١٣)، وقيل: (٣١٤)، وقيل: (٣١٨)، وقيل: (٣١٩). ومعهم: فرسان، وستون درعًا، وسبعون بعيرا. أما المشركون: فقيل: عددهم: تسعمائة وخمسون رجلًا، وقيل: ألف رجل. ومعهم: ستمائة درع، ومائتا فرس، وقيل: مائة، وقيل: ثمانون، وقيل: ستون. انظر: "صحيح البخاري": كتاب: المغازي. باب: عدة أصحاب بدر، و"صحيح مسلم": كتاب: الجهاد والسير، باب: الامداد بالملائكة في غزوة بدر، و"طبقات ابن سعد" ٢/ ٢١ - ٢٢، و"سيرة ابن هشام" ٢/ ٣٥٤، و"تاريخ الطبري" ٢/ ٤٢٣، ٤٣١ - ٤٣٢، و"المنتظم" ٣/ ٩٨، ١٠٠، ١٠٢، و"البداية والنهاية": ٣/ ٢٥٩،=
568
ومعنى الذلِّ: الضَّعْف عن المقاومة. ونقيضه: العِزُّ، وهو: القوة والغَلَبَة (١).
و ﴿أَذِلَّةٌ﴾ (٢): جمع ذليل. والأصل في (فَعِيل) إذا كان صفةً، أن يجمع على (فُعَلاَء، نحو: (ظَرِيف وظُرَفَاء)، و (شَرِيك وشُرَكَاء)، ولكن لفظ (٣) (فُعَلاَء) [اجتُنِبَ] (٤) في التضعيف؛ لأنه [لو قيل: (خُلَلاَء) (٥)، و (قُلَلاَء)، في جمع: خَلِيل (٦) وقَلِيل، لا جتمع حرفان من جنسٍ واحد، فَعُدِل به] (٧) إلى (أفْعِلَة)؛ لأن (أفْعِلَة) مِن جمْع الأسماء في (فَعِيل) (٨)، [نحو: جَرِيب] (٩) وأَجْرِبَة) (١٠)، و (قَفِيز (١١) وأَقْفِزَة) (١٢).
=٢٦٠، و"حدائق الأنوار" ٢/ ٤٩٨، ٤٩٩، و"عيون الأثر" ١/ ٣٨١، ٣٨٣، وانظر: تفسير المصنف لقوله تعالى: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ من آية ١٣ سورة آل عمران.
(١) انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" (٣٣٠) (ذلل)، "اللسان" ٥/ ٢٩٢٥ (عزز) ٣/ ١٥١٣ (ذلل)، "القاموس" ٥١٧ (عزز).
(٢) من قوله: (وأذلة..) إلى (.. وأقفزة): نقله بتصرف يسير من "معاني القرآن"، للزجاج ١/ ٤٦٦، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٠٥.
(٣) (لفظ): في (أ) غير واضحة وفي (ب): (لفظت)، وليست في "معاني القرآن". والمثبت من (ج).
(٤) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (خففت). وفي "معاني القرآن" (اجتنب). والمثبت من (ج).
(٥) في "معاني القرآن": (جللاء).
(٦) في "معاني القرآن": (جليل).
(٧) ما بين المعقوفين زيادة لازمة من (ج) ومن "معاني القرآن".
(٨) في (ب): (فعل).
(٩) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وفي (ب): (نحو جريت). والمثبت من (ج) و"معاني القرآن".
(١٠) في (ب): (أجريت).
(١١) في (ب): (وقفز).
(١٢) الجريب: من الأرض والطعام، مقدار معلوم الذراع والمساحة. وهو عشرة =
569
قال أبو إسحاق (١) في هذه الآية (٢): أعلم الله -جَلَّ وعَزَّ- أنَّهم حين لَزِمُوا الطاعةَ، نصرهم اللهُ، وهم قليل، ويوم أُحُد نَزَلَ بهم ما نزل؛ بمخالفة أمرِ النبي - ﷺ -، فجعل ذلك عقوبة.
وقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي: اتقوا معاصي الله بالعمل بطاعته، أو اتَّقوا عقابَ اللهِ بالعمل بطاعته؛ لتقوموا بشكر نعمته. وهذا (٣) معنى قول محمد بن إسحاق بن يَسَار في هذه الآية (٤): اتَّقُونِي فإنَّه شكر نعمتي (٥).
= أقفزة وقيل: قدر أربعة أقفزة. وقيل: يختلف باختلاف البلدان، كالاختلاف في الرطل والمد والذراع وغير ذلك. وقيل: ثلاثمائة وستون ذراعًا.
ويطلق -كذلك- على المزرعة، والوادي. وجمعه: أجربة وجُربان.
والقفيز: مكيال، وهو ثمانية مكاكيك عند أهل العراق - والمكّوك: مكيال يسع صاعًا ونصف، وقيل: غير ذلك.
وقيل: القفيز: مقدار مساحة من الأرض. وقيل: مكيال يتواضع الناس عليه.
ويجمع على أقفزة، وقُفْزان -بكسر القاف وضمها-. انظر: "التاج": ١/ ٣٦١ (جرب)، ٨/ ١٢٩ (قفز)، و"القاموس": ص ٩٥٤ (مكك).
(١) في "معاني القرآن"، له: ١/ ٤٦٦. نقله عنه باختصار قليل وتصرف.
(٢) (في هذه الآية): ساقط من (ج).
(٣) في (ج): (هذا) بدون واو.
(٤) قوله في: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٥٩، و"تفسير الطبري" ٤/ ٧٤، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥١.
(٥) في (ب): (لنعمتي).
570
١٢٤ - قوله تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية. قال الشَّعْبيُّ (١): حُدِّثَ المسلمون أن كُرْز بن جابر المُحَارِبي (٢) يريد أن يُمِدَّ (٣) المشركين، فَشَقَّ ذلك عليهم، فقيل لهم: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾.
ومعنى الكِفَايَةِ، هو: سَدُّ الخَلَّةِ (٤)، والقيام بالأمر، يقال: (كفاهُ أمْرَ كذا): إذا قامَ (٥) بِهِ دونه، وسَدَّ خَلَّتَهُ (٦).
ومعنى الإمْدَاد: إعطاء الشيء حالًا بعد حال (٧).
قال المُفَضَّلُ (٨): ما كان على جهة القوة والإعانة، قيل فيه: (أَمَدَّهُ،
(١) قوله في: "مصنف ابن أبي شيبة" رقم (٣٦٦٥٩) كتاب: المغازي. غزوة بدر الكبرى، و"تفسير الطبري" ٤/ ٧٦، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥٢، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٠ ب، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٣٢، و"الدر المنثور" ٢/ ١٢٣، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٢) هو كرز بن جابر بن حُسيل بن لاحب بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فِهْر القُرَشي الفهري. كان من رؤساء المشركين قبل أن يسلم، وهو الذي أغار على سَرْح المدينة مرَّةً، وفات النبي - ﷺ -، ولم يدركه، وهي المسماة: (غزوة بدر الأولى)، ثم أسلم وحسن إسلامه، ولاه رسول الله - ﷺ - الجيش الذي بعثهم في أثر العرنيين الذين قتلوا راعيه، واستشهد يوم في فتح مكة سنة (٨ هـ). انظر: "أسد الغابة" ٤/ ٤٦٨، و"الإصابة" ٣/ ٢٩٠.
(٣) في (ب): (أن هذا). بدلًا من (أن يمد).
(٤) الخَلَّةُ -هنا-: الحاجة، والفقر. انظر: "القاموس" (٩٩٤) (خلل).
(٥) في (أ)، (ب): (أقام). والمثبت من (ج).
(٦) انظر: "النكت والعيون" ١/ ٤٢١، و"اللسان" ١٥/ ٢٢٥ (كفي)، و"بصائر ذوي التمييز" ٤/ ٣٦٨.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٦١ (مدد)، و"النكت والعيون" ١/ ٤٢١.
(٨) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١١١ ب.
يُمِدُّهُ) (١)، وما كان على جهة الزيادة، قيل فيه: (مَدَّةُ، يَمُدُّهُ، مَدًّا) (٢)، ومنه قوله: ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ﴾ (٣).
١٢٥ - قوله تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ الآية. ﴿بَلَى﴾: تصديق لوعد الله. ومضى الكلامُ فيه (٤) إذا وقع في ابتداء الآية.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا﴾ (٥). أي: على لقاء العدو.
(١) في (ب): (المد مده). وفي "تفسير الثعلبي": أمدَّه يُمِدُّه إمدادًا.
(٢) في "تفسير الثعلبي": (مدَّه يمده مدادًا).
ذكر الرَّاغبُ أن أكثر ما جاء (الإمداد) في المحبوب، و (المد) في المكروه. فمن (الإمداد) قوله تعالى: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ [الطور: ٢٢]، و ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ [نوح: ١٢].
ومن (المد) قوله تعالى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥]، وقوله: ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّ﴾ [مريم: ٧٩].
وقد نقل الطبري عن يونس الجرْمي ذلك، وبيَّن أن ما كان منها متعلقًا بالشر وبمعنى أنك تركته، فهو: (مددت)، وما كان في الخير، وبمعنى أنك أعطيته، فهو: (أمددت). ونقل عن بعض نحوي الكوفة -ولم يسم أحدا منهم-: أنَّ كل زيادة أحدثت في الشيء من نفسه، فهي: (مَدَدت)؛ كقولنا: (مدَّ النهر، ومدَّه نهرٌ آخر غيرُه) حيث يتصل به، فيصير منه.
وكل زيادة أحدثت في الشيء من غيره، فهي: (أمدَدْت)؛ كقولنا: (أمددت الجيش بمدد).
انظر: "تفسيرالطبري" ١/ ١٣٥، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٧٦٣ (مدد)، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١١ ب، و"بصائر ذوي التمييز" ٤/ ٤٨٩.
(٣) سورة لقمان: ٢٧. وتمامها: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
(٤) في (ج): (في).
(٥) في (ج): ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾.
572
﴿وَتَتَّقُوا﴾ معصية الله، ومخالفة النبي - ﷺ - (١).
﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ قال ابنُ عبَّاس -في رواية العَوْفي- (٢): مِن وجههم هذا. وهو قول: الحسن (٣)، وقتادة (٤)، والربيع (٥)، والسّدِّي (٦)، وابن زيد (٧).
وقال (٨) في رواية باذان: من غَضَبِهم هذا (٩). وهو قول: مجاهد (١٠)، والضَّحَّاك (١١).
وأصل الفَوْرِ: غَلَيانُ القِدْرِ. يقال: (فارت القِدْرُ، تَفُورُ فَوْرًا)، وهو
(١) انظر: "بحر العلوم": ١/ ٢٩٦، و"تفسير ابن أبي حاتم": ٣/ ٧٥٣ ولفظه عندهما: (من سفرهم هذا)، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٢ أ، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٠٠، و"زاد المسير" ١/ ٤٥١.
(٢) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٨٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥٣، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٢ أ، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٠٠، و"زاد المسير" ١/ ٤٥١.
(٣) قوله في المصادر السابقة.
(٤) قوله في المصادر السابقة.
(٥) قوله في: "الطبري" ٤/ ٨٠، و"ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥٣، و"الثعلبي" ٣/ ١١٢ ب.
(٦) قوله في المصادر السابقة.
(٧) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٨٠، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٢ب.
(٨) أي: ابن عباس.
(٩) ورد هذا القول في "تفسير الطبري" ٤/ ٨٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥٣، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٢ أ، و"النكت والعيون" ١/ ٤٢١، ولكن هذه المصادر نسبت هذا القول لأبي صالح باذان، وليس في الأثر أنه رفعه لابن عباس.
(١٠) قوله، في "تفسيره" ١٣٥، و"تفسير الطبري" ٤/ ٨١، و"ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥٣، و"الثعلبي" ٣/ ١١٢ أ، و"البغوي" ٢/ ١٠٠، و"زاد المسير" ١/ ٤٥١.
(١١) قوله في المصادر السابقة، عدا الأول.
573
غليانها عند شدة الحَمْي (١). ومنه: فَوْرُ الغَضَبِ؛ لأنه كَفَوْرِ القِدْرِ بالحَمْي. ومنه، يقال: (جاء على الفَوْر)؛ أي: على ابتداء الحَمْي، قبل أن تَبْرُدَ نَفْسُه عنه (٢).
وقوله تعالى: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ مَنْ فَتَحَ الواو (٣)، معناه: مُعْلَمِين، قد سُوِّمُوا، فهم مُسَوَّمِين.
والسُّوْمَة: العَلاَمَةُ يُفْرَقُ بها الشيءُ مِن غَيْرِه. ومضى شيءٌ من هذا في قوله: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ (٤).
وهذه (٥) العَلامَةُ يُعْلِمُها الفارسُ يوم اللقاء؛ ليُعْرَفَ بها.
قال عنترة (٦):
فَتَعَرَّفوني إنَّنِي أنا ذِلكُم شاكٍ سِلاحي في الحوادِثِ مُعْلَمُ (٧)
(١) انظر: (فور) في: "مقاييس اللغة" ٤/ ٤٥٨، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٦٤٧.
(٢) انظر: المصادر السابقة، و"تفسير الطبري" ٤/ ٨١، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٢ أ.
(٣) هي قراءة: نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾. انظر: "السبعة": ٢١٦، و"حجة القراءات": ١٧٣.
(٤) [سورة آل عمران: ١٤]. وانظر: "تهذيب اللغة": ٢/ ١٦٠١ (سوم).
(٥) من قوله: (هذه) إلى نهاية بيت الشعر الآتي: نقله بنصه عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٧٦. غير أنه ليس في "الحجة": (قال عنترة) وإنما: (قال) فقط دون نسبة لقائل.
(٦) تقدمت ترجمته.
(٧) البيت: ليس لعنترة، وإنما هو لطريف بن تميم العنبري. وقد ورد منسوبًا له في: "كتاب سيبويه" ٣/ ٤٦٦، ٤/ ٣٧٨، و"الأصمعيات" ١٢٨، و"البيان والتبيين" ٣/ ٩٣، و"الاختيارين" ١٨٩، و"العقد الفريد" ٣/ ٢٠٨، و"الاقتضاب في شرح أدب الكتاب" ٣/ ٤٠٨، و"شرح أدب الكاتب"، للجواليقي ٢٨٤، و"الكامل" لابن الأثير ١/ ٣٦٧، و"معاهد التنصيص" ١/ ٢٠٤، و"شرح شواهد شرح الشافية" (مطبوع مع شرح الشافية) ٤/ ٣٦٨. =
574
ومَن كَسَرَ الواو (١)، نَسَبَ الفِعْلَ إليهم؛ لِمَا جاء في الخبر: أن النبي - ﷺ - قال يوم بدر: "سَوَمُوا، فإن الملائكة قد سَوَّمَتْ" (٢).
= كما ورد غير منسوب في: "المقتضب" ١/ ١١٦، و"المنصف" ٢/ ٥٣، ٣/ ٦٦، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٧٧.
وقد روي البيت في بعض المصادر بـ (فتوسَّموني) بدلا من: (فتعرفوني)، و (ذاكم) بدلًا من (ذلكم) وفي بعضها: (شاكي السلاح)، وفي "الكامل"، لابن الأثير: (لا تنكروني إنني داء لكم..). وقبل هذا البيت:
أوَ كلما وردت عكاظ قبيلةٌ بعثوا إليَّ عريفهم يَتَوَسَّمُ
لقد كان من عادة الفرسان في الجاهلية -نظرا لما عليهم من ثارات كثيرة- أنهم إذا ما وردوا عكاظ في الموسم، يتقنعون لئلا يُعرَفوا، فيُقصدوا في الحروب؛ لأخذِ الثأرِ منهم، إلا الشاعر، فإنه لشجاعته يلقي القناع عن وجهه على خلاف العادة، فكان بعضُ من لهم ثأر عنده يمر به ويتفرس في وجهه، فخاطبهم الشاعرُ بقوله: تعرفوا عليَّ جيدًا، وتفرسوا فيَّ، فإنني لا أخشاكم، ولا أهابكم.
وقوله: (شاك سلاحي)؛ أي: لسلاحي شوكة وله حد. وأصله: (شائك)، فقُلِب إلى: شاكٍ وقيل: أصله: (شاككٌ) من: الشكَّة، وهي: السلاح. وقيل غير ذلك. وينطق (شاكٍ) -في البيت- بالضم، أو بالكسر، مع التنوين. وقوله: (مُعْلَم)، أي: يُعلِم نفسه بعلامة في الحرب؛ ليُعرَف بها. انظر: "الاقتضاب": ٣/ ٤٠٩.
(١) هي قراءة: ابن كثير، وأبي عمرو، وعاصم، ﴿مُسَوِّمِينَ﴾. انظر: "السبعة" ٢١٦، و"حجة القراءات" ١٧٣.
(٢) الحديث أخرجه: ابن أبي شيبة في: "المصنف" ٧/ ٣٥٥ رقم (٣٦٦٥٧) وأبو عمرو الدوري في "جزء فيه قراءات النبي - ﷺ -" ٨٠، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٤/ ٨٢.
وأوردته الكتب التالية، غير مسند: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٢ ب، و"تفسير البغوي" ٢/ ٩٩، ١٠٠، و"زاد المسير" ١/ ٤٥٢، و"الدر المنثور" ٢/ ١٢٥. والحديث مرسل؛ لأنه من رواية عمير بن إسحاق، قال: (.. قال رسول الله - ﷺ -) وذكره. =
575
قال ابن عباس: كانت الملائكة قد سَوَّمت يوم بدر بالصُّوف الأبيض في نواصي الخيل، وأذنابها (١).
وقال الربيعُ (٢)، وهشامُ بن عُرْوة (٣): كانت عليهم عمائم صُفْرٌ،
= قال الشيخ أحمد شاكر: (وعمير بن إسحاق، أبو محمد مولى بني هاشم، روى عن المقداد بن الأسود، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، كان قليل الحديث. قال أبو حاتم: لا نعلم روى عنه غير ابن عون. قال ابن معين: ثقة. وقال -ايضًا-: لا يساوي حديثه شيئًا، ولكن يكتب حديثه) ثم تابع الشيخ شاكر قائلًا: (فهذا الحديث مرسل -كما ترى-، وعن رجل يكتب حديثه ولا يحتج به). هامش "تفسير الطبري" ٧/ ١٨٦. (ط. شاكر). وانظر: "ميزان الاعتدال" ٤/ ٢١٦.
وأخرج الواقدي في "المغازي": ١/ ٧٥ - ٧٦ عن محمود بن لبيد، قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن الملائكة قد سَوَّمت فسَوِّموا، فأعْلَموا بالصوت في مغافرهم وقلانسهم".
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" ٢/ ١٦ ولم يسنده، وأورده المتقي الهندي في: "كنز العمال": ١٠/ ٤٠٣ رقم (٢٩٩٦٤) وزاد نسبة إخراجه لابن النجار.
ومحمود بن لييد بن عقبة بن رافع الأوسي الأشهلي، أبو نعيم المدني. قال عنه ابن حجر: (صحابي صغير، وجل روايته عن الصحابة، مات سنة ٩٦، وقيل: ٩٧، وله تسع وتسعون سنة). "تقريب التهذيب": ٥٢٢ (٦٥١٧).
(١) في (ب): (وأذناها). وفي (ج): (وأذانها).
ولم أقف على قول ابن عباس بهذا اللفظ، وإنما الذي ورد عنه، قوله: (فإنهم [أي: الملائكة] أتوا محمدًا النبي - ﷺ - مسومين بالصوف، فسوَّم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف).
أخرجه الطبري ٤/ ٨٣، وابن أبي حاتم ٣/ ٧٥٤، وانظر: "النكت والعيون" ١/ ٤٢٢.
(٢) لم أقف على مصدر قوله هذا. والذي في "تفسير الطبري" ٤/ ٨٣ قوله: (كانوا يومئذ على خيل بُلْق) وكذا ورد في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٢ ب.
(٣) قوله في: "مصنف ابن أبي شيبة" ٧/ ٣٦١ رقم (٣٦٦٩٢)، و"تفسير الطبري" ٤/ ٨٣، و"ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥٥، و"المستدرك" ٣/ ٣٦١، و"تفسير الثعلبي" =
576
وروي عن علي (١) وابن عباس (٢): كانت عليهم عمائمُ بِيضٌ، قد أرسلوها بين أكتافهم.
قال المفسرون: فصبر المسلمون يوم بَدْرٍ، واتَّقوا اللهَ، فأَمَدَّهم (٣) الله
= ٣/ ١١٢ب، و"النكت والعيون" ١/ ٤٢٢، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٠١، و"زاد المسير" ١/ ٤٥٢، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٣٢، وقال: (رواه ابن مردويه من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير).
وهشام، هو: أبو المنذر، ابن عُرْوة بن الزبير بن العوام الأسدي. إمام ثقة حافظ حجة، مشهور بالورع والصلاح. توفي بغداد سنة (١٤٥هـ) أو (١٤٦هـ).
انظر: "الجرح والتعديل" ٩/ ٦٣، و"الميزان" ٥/ ٤٢٦، ٤٢٧، و"التهذيب" ٤/ ٢٧٥، و"شذرات الذهب" ١/ ٢١٨.
(١) قوله في "سيرة ابن هشام" ٢/ ٢٧٤ ولفظه عنده: (العمائم تيجان العرب، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء، أرخوها على ظهورهم، إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء).
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قوله: (كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض)، وفي رواية أخرى عنده: (كان سيما الملائكة أهل بدر الصوف الأبيض، وكان سيما الملائكة -أيضًا- في نواصي الخيل). "تفسيره" ٢/ ٥٢٥.
وورد في "مصنف ابن أبي شيبة" بنفس السند الذي عند ابن أبي حاتم، ولكن لفظه: (كان سيما أصحاب رسول الله - ﷺ -..) وذكره
وأورده الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١١٢ ب، بنفس لفظ المؤلف، حيث قال: (وقال علي ابن أبي طالب وابن عباس..) وذكره، وكذا أورده البغوي في "تفسيره": ٢/ ١٠١، وأورده المتقي الهندي في "كنز العمال" ٢/ ٣٧٨ رقم (٤٢٩٩) بنفس لفظ ابن أبي حاتم، وزاد نسبته لابن المنذر.
(٢) قوله في: "سيرة ابن هشام" ٢/ ٢٧٤، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٢ ب، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٠١، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٣٢، وورد في "الدر المنثور" ٢/ ١٢٥، وزاد نسبة إخراجه للطبراني.
(٣) في (ب): (فأيديهم).
577
بخمسة آلافٍ من ملائكته (١) على ما [وَعَدَهم] (٢). قال الحسن (٣): فهؤلاء الخمسة آلاف رِدْءٌ (٤) للمؤمنين إلى يوم القيامة.
وقال ابن عباس (٥)، ومجاهد (٦): لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك، يشهدون القتال ولا يُقاتِلُون.
١٢٦ - قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى﴾ الكناية (٧) تعود على المَصْدَرِ؛ كأنه قال: وما جعل الله المَدَدَ والإمْدادَ إلّا بُشْرى. فَدَلَّ ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ على الإمداد، فَكَنَى عنه (٨)، كما قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: ١٢١]؛ معناه (٩): وإن أكلَهُ لَفِسْقٌ. فَدَلَّ ﴿تَأْكُلُوا﴾ على الأكل، فكنى عنه، والعرب تقول: (مَنْ صَدَقَ؛ كان خيرًا له، ومَن كَذَبَ؛ كان شرًا له). فدل الفعلان على المَصْدَرَيْنِ (١٠). هذا كلام
(١) في (ج): الملائكة.
(٢) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب): (وهم). والمثبت من (ج). وممن قال بهذا: ابن عباس، وقتادة، والربيع. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٧٧.
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) الرِّدْءُ -هنا-: العَوْنُ. انظر: "القاموس المحيط" ٤١ (ردأ).
(٥) قوله في "المغازي" ١/ ٧٩، و"سيرة ابن هشام" ٢/ ٢٧٤، "تفسير الطبري" ٤/ ٧٧، "النكت والعيون" ١/ ٤٢٢، و"ابن كثير" ١/ ٤٣٢، ونسب إخراجه إلى ابن مردويه.
(٦) قوله في "تفسيره" ١٣٥، و"تفسير الطبري" ٤/ ٧٨.
(٧) سبق بيان أن الكناية يُراد بها: الضمير.
(٨) وقيل: الضمير يعود على النصر، وقيل: يعود على التسويم، وقيل: على التنزيل، وقيل: على العدد، وقيل: على الوعد.
انظر: "غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٢٦٨، و"الدر المصون" ٣/ ٣٨٩ - ٣٩٠.
(٩) (معناه وان أكله لفسق): ساقط من (ج).
(١٠) وهما الصدق والكذب.
578
ابن الأنباري (١). وكذلك قال الزجاج (٢)؛ أي: وما جَعَلَ اللهُ ذِكْرَ المَدَدِ إلّا بُشْرَى (٣).
والبُشْرى: اسم من (الإبشار)، و (التبشير) (٤).
ومضى الكلام في معنى التبشير (٥)، وسيأتي الكلام في (بُشْرى) في سورة يوسف إن شاء الله (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ﴾ فلا تجزع من كثرة العَدُوِّ (٧)، وقِلَّةِ عَدَدِكم. وإنما قال: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾، ولم يقل: واطْمِئْنانًا، كما قال ﴿بُشْرَى﴾، لأن ذِكْر المَدَدِ سببٌ لاطمئنان القلوب، ولم يكن نفس الاطمئنان، وكان ذكر المَدَدِ نفس البُشْرَى.
وقال صاحب النظم (٨): هذا على تأويل: وما جعله الله إلّا لِيُبَشِّركم (٩)، ولِتَطمئنَّ به قلوبُكم.
ومن أجاز إقحام الواو -وهو مذهب الكوفيِّين (١٠) - جعلها مقحمةً في
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) في "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٦٧.
(٣) ومن قال بهذا: أبو الليث في "بحر العلوم" ١/ ٢٩٦، والنحاس في "معاني القرآن" ١/ ٤٧١، وابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٤٥٤.
(٤) انظر: "القاموس المحيط" ٧٤٤ (بشر).
(٥) انظر: "تفسير البسيط" عند تفسير ﴿إِنَ اَللَّهَ يُبَشِرُكِ﴾ الآية: ٣٩.
(٦) وردت لفظة (بشرى) في سورة يوسف: ١٩ ﴿قَالَ يَابُشرَى هَذَا غُلاَمٌ﴾.
(٧) في (ج): (العدد).
(٨) قد أورد قوله هذا بنصه السمينُ الحلبي في "الدر المصون" ٣/ ٣٨٩.
(٩) في (ب): (إلا بشرى لكم).
(١٠) سبق بيان مذهب الكوفيين والبصريين في موضوع زيادة الواو العاطفة. انظر: التعليق على تفسير قوله تعالى: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ﴾ [الآية ٥٠ من سورة آل عمران].
579
﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ فيكون التقدير: وما جعله الله إلا بُشْرَى لكم؛ لِتَطمئنَّ قلوبكم به.
قال: وزعم بعضهم أنَّ الواو لإضمارٍ بعده، على تأويل: (ولتطمئن قلوبكم به، جَعَل ذلك). واحتج بقوله: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا﴾ [فصلت: ١٢]، على تأويل: (وحفظًا لها، جَعَل ذلك). ومثله: قوله: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: ٤٢]، على (١) تأويل: ليقضي اللهُ أمرًا كان مفعولًا، فَعَلَ ذلك.
ونحو هذا قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)﴾ (٢) [الأنعام: ٧٥].
وقوله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ قال المفسرون: أرادَ الله تعالى: أنْ لا يَرْكَن المؤمنون إلى الملائكة، وأَعْلَمَ أنهم وإنْ (٣) حضروا وقاتلوا، فما النصر إلا من عند الله؛ ليستعينوا به [و] (٤) يَتَوَكَّلوا عليه. والإمداد بالملائكة؛ بُشرَى لهم [وطُمَأنِينة] (٥) لقلوبهم (٦)؛ لما في البَشَرِ من الضَّعْف، فأما حقيقة النصرِ والاستعلاءِ في العرب، فهو من عند الله العزيز الحكيم (٧).
(١) من قوله: (على..) إلى (.. مفعولًا): ساقط من (ج).
(٢) والتأويل هنا، على هذا الرأي: أي: وليكون من الموقنين أريناه انظر: "الدر المصون" ٥/ ٧.
(٣) في (ج): (إن) بدون واو.
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٥) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب): (بطمأنينة). والمثبت من (ج).
(٦) في (ب): (قلوبهم) بدون اللام.
(٧) انظر هذا المعنى في: "تفسير الطبري" ٤/ ٨٤
580
١٢٧ - قوله تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ اللّام تعود إلى قوله: ﴿وَلَقَد نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدرٍ﴾ (١).
﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾؛ أي: لِيُهلك طائفةً، ولِيَقْتُلَ قِطْعَةً. قال السُّدِّي (٢): معناه: لِيَهدِمَ رُكْنًا مِن أركان الشرك، بالقتل والأَسْرِ، فقُتِلَ من قادتهم وسادتهم يومَ بَدْرٍ، سبعون، وأُسِرَ سبعون (٣).
وقال بعضهم (٤): المعنى: وما النصر إلا من عند الله، ليقطع طرفًا (٥). وقيل (٦): إنَّ هذا راجعٌ إلى [معنى قوله] (٧): ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾،
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٨٥، و"الثعلبي" ٣/ ١١٣ أ، و"البغوي" ٢/ ١٠١. وعزا السمين الحلبي هذا القول -كذلك- للحوفي. انظر: "الدر المصون" ٣/ ٣٩٠، واستبعده السمين؛ لطول الفصل بين اللام ومتعلقه.
(٢) قوله هذا -بنصه- في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٣ أ، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٠١.
(٣) الذي وقفت عليه من قول السدي: أن المَعني بالآية: مَن قُتِل من الكفار يوم أحد، وهم ثمانية عشر رجلًا. وقد ورد قوله هذا في: "تفسير الطبري" ٤/ ٨٥، و"النكت والعيون" ١/ ٤٢٢، و"زاد المسير" ١/ ٤٥٤.
وممن قال بأن المراد بها مَن قتل يوم بدر: قتادة، والربيع، والحسن، وابن إسحاق، والجمهور. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٨٥، و"زاد المسير" ١/ ٤٥٤.
أما ما ذكره المؤلف من عدد قتلى وأسرى المشركين في معركة بدر، فانظر: "سيرة ابن هشام" ٢/ ٣٦٢، و"تاريخ الطبري" ٢/ ٤٧٤.
(٤) لم أقف على القائل.
(٥) قال السمين: (وفيه نظر من حيث إنه قد فُصل بين المصدر ومُتَعَلَّقه بأجنبي، وهو: الخبر). "الدر المصون" ٣/ ٣٩٠.
(٦) ممن قال بهذا: أبو الليث في "بحر العلوم" ١/ ٢٩٧.
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
وعلى هذا الوجه يكون قوله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه. =
581
و ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾، ولكنه ذُكِر بغير حرفِ العطف؛ لأنَّ الكلامَ إذا كان بعضُه ملتبسًا ببعضٍ، جاز حذفُ العاطف؛ كقوله: ﴿ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢].
وإنما قال: ﴿طَرَفًا﴾ ولم يقل: (وَسَطًا)؛ لأنه لا يُوصَلُ إلى الوَسَطِ الا بعد قطع الطَّرَفِ، وهذا القَطْعُ إنما هو بأيدي المؤمنين، وإنما يقطعون الطَّرَفَ الذي يليهم مَنَ الكافرين، وهذا يوافق قوله: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ [التوبة: ١٢٣]، وعلى هذا -أيضًا- قولُه: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد: ٤١].
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ الكَبْتُ -في اللغة-: صَرْعُ الشيء على وجهه؛ يُقال: (كَبَتَهُ، فانْكَبَتَ) (١). هذا تفسيره، ثم قد (٢) يُذكرُ (٣) المرادُ به: الإخزَاءُ، والإهلاكُ، واللَّعْنُ، والهَزِيمَةُ، والغَيْظُ، والإذلالُ. وكلُّ هذا ذكره المفسرون في تفسير (الكَبْتِ) (٤).
= وهناك أقوال أخرى في عود الللام في ﴿لِيَقْطَعَ﴾. انظر: "تفسير ابن عطية" ٣/ ٣١٣، و"الدر المصون" ٣/ ٣٩٠.
(١) انظر: كتاب "العين" ٥/ ٣٤٢ (كبت)، و"مجاز القرآن" ١/ ١٠٣، و"تهذيب اللغة" ١٠/ ١٥٢ (كبت).
(٢) (قد): ساقطة من (ب).
(٣) (يُذْكَرُ): وردت في (أ)، (ج): (يذكرو). وفي (ب): (يذكروا). وما أثبتُّهُ هو ما استصوبته، لأن في (أ)، (ج) قد تكون الضمة التي على الواو كتبها الناسخ بحجم أكبر من حجمها الطبيعي، وتزحلقت قليلًا إلى ما بعد الرَّاء. أما الذي في نسخة (ب) فلا وجه له، لأن الفعل كُتِب فيها في حالة الجمع، وحذفت منه النون التي هي علامة رفعه، والصواب إثباتها، لأنه من الأفعال الخمسة.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٢٩٩، و"سيرة ابن هشام" ٣/ ٦١، و"غريب القرآن" لابن اليزيدي ٤٤، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ١١٠، و"تفسير الطبري" ٤/ ٨٦، =
582
وقوله تعالى: ﴿خَائِبِينَ﴾ الخَيْبَةُ: حِرْمانُ البُغْيَة (١)، ولا تكون إلّا بعد الأَمَلِ. واليَأْسُ قد يكون قبل الأَمَلِ، وقد يكون بعده. فنقيض اليَأْسِ: الرَّجَاءُ، ونقيض الخَيْبَةِ: الظَّفَرُ.
وقد أنجز الله وَعْدَهُ يوم بَدْرٍ؛ بِقَطْع (٢) طَرَفٍ مِن الكفار بالقتال والأسر، وَرَدَّ الباقين منهزمين، خائبين مِمّا أَمَّلُوا مِن الظَّفَرِ، فتحقق نصرُه، وعَلَت كلمَتُهُ.
١٢٨ - قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ الآية.
ذَكَرَ النحويون -الفرّاء (٣)، والزّجاج (٤)، وغيرُهما (٥) - في هذه الآية قولين:
= و"معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٦٧، و"ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥٦، و"نزهة القلوب" للسجستاني ٤٨٥، و"بحر العلوم" ١/ ٢٩٧، و"زاد المسير" ١/ ٤٥٤.
قال ابن قتيبة: (لأن أهل النظر يَرَوْن أن التاء فيه منقلبة عن دال؛ كأن الأصل فيه: (يكبدُهُم)، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ وشدة العداوة. ومنه يقال: (فلان قد أحرق الحزنُ كبِدَهُ). و (أحرقت العداوة كبده). والعرب تقول للعدو: (أسود الكبد)..) ثم أتبع قائلاً: (والتاء والدال متقاربتان المَخرَجَيْن. والعرب تدغم إحداهما في الأخرى، وتبدل إحداهما من الأخرى). "تفسير غريب القرآن" ١١٠. وانظر (كبت) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٠٨٨، "اللسان" ٦/ ٣٨٠٥، "عمدة الحفاظ" ٤٧٧.
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٩٥٧ (خاب)، و"معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٧٢، و"اللسان" ٣/ ١٢٩٧ (خيب).
(٢) في (ج): (فقطع).
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٤.
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٦٨.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٢١٥، و"تفسير الطبري" ٤/ ٨٦، و"إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري ٢/ ٥٨٣، و"القطع والائتناف" للنحاس ٢٣٣، و"معاني القرآن" له ١/ ٤٧٤. واستحسنه الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١١٥ ب.
583
أحدهما: أنَّ قوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ عَطْفٌ عَلَى قوله: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾، ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾، ويكون قولُه: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ اعتراضًا بين المعطوف والمعطوف عليه؛ كما تقول: (ضَرَبْتُ زيدًا -فاعْلَمْ ذلك- وعَمْرًا) (١). فعلى هذا القول: هذه الآية متصلة بما قبلها.
القول الثاني: وهو أنَّ الموافق لِمَا ذُكِرَ في تفسير هذه الآية: أنَّ معنى (أو) -ههنا- معنى (حتَّى) و (إلّا أنْ)؛ وذلك أنَّ أكثر المُفَسِّرِين -ابنَ عباس (٢)، والحسنَ (٣)، وقتادةَ (٤)، والربيع (٥) - قالوا: لَمّا كان من المشركين يوم أحد ما كان (٦)، مِنْ كَسْرِ رَبَاعِيّةِ (٧) النبي - ﷺ -، وشَجِّهِ حتَّى
(١) وقد رجح الطبري هذا الرأي في "تفسيره" ٤/ ٨٦، وقال معلَّلًا: (لأنه لا شيء من أمرالخلق إلى أحد سوى خالقهم، قبل توبة الكفار وعقابهم، وبعد ذلك).
(٢) لم أقف على مصدر قوله. وقد ذكره الماوردي في "النكت" (٤٢٣)، وابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٤٥٦.
(٣) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ٨٧، ٨٨، و"النكت والعيون" ٢/ ٤٢٣، و"زاد المسير" ٤٥٦.
(٤) قوله في المصادر السابقة.
(٥) قوله في المصادر السابقة.
(٦) (ما كان): ساقطة من (ج).
(٧) الرَّبَاعِيَّة: هي السن بين الثَّنِيَّة والناب. وجمعها: رباعيات. وهن أربع رباعيات: ثنتان من فوق، وثنتان من أسفل. انظر: كتاب "خلق الإنسان"، لابن أبي ثابت ١٦٦، و"القاموس" (٧١٩) (ربع).
قال ابن حجر: (والمراد بكسر الرَّباعية.. أنها كسرت فذهب منها فلقة، ولم تقلع من أصلها). "فتح الباري" ٧/ ٣٦٦.
وفي "سيرة ابن هشام" عن ابن إسحاق أن الذي فعل ذلك هو: عقبة بن أبي وقاص. =
584
جَرَت الدِّماءُ على وجهه، قال: "كيف يُفْلِحُ قومٌ خَضَبُوا وَجْهَ نَبِيِّهم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟! " (١)، فأنزل اللهُ هذه الآية، لِعِلْمِهِ أنَّ كثيرًا منهم سيؤمِنُونَ، فَكَفَّ عن ذلك (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ مختَصَرُ معناه: ليس لَكَ مِنَ الأمْرِ في عقابهم، أو (٣) استصلاحهم شيءٌ، حتى تقَعَ إنابَتُهم (٤) أو
= حيث رمى النبي - ﷺ - فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته العليا وشَجَّه في وجهه.
ويذكر ابن هشام، عن أبي سعيد الخدري، أن عبد الله بن شهاب الزهري شجَّه في وجهه، وأن ابن قَميئة جرح وجنته، فدخل حلقتان من حِلَق المِغْفَر في وجنته. انظر: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٢٧، و"تاريخ الطبري" ٢/ ٥١٤.
(١) الحديث -كذلك- ورد من رواية أنس، وقد أخرجته الكتب التالية بألفاظ مختلفة، بنحو الذي ذكره المؤلف. فقد أخرجه البخاري -معلقًا- ٥/ ٣٥. كتاب المغازي. باب (ليس لك من الأمر شيء)، وأخرجه مسلم في (١٧٩١) كتاب الجهاد. باب غزوة أحد، وأحمد ٣/ ٢٠٦، ٣/ ٩٩، ٢٥٣، ٢٨٨، والترمذي (٣٠٠٢ - ٣٠٠٣) كتاب التفسير. (سورة آل عمران) وقال: (حسن صحيح). وابن ماجه (٤٠٢٧) كتاب الفتن: باب الصبر على البلاء. والنسائي في "تفسيره" ١/ ٣٢٩، والبغوي في "شرح السنة" ١٣/ ٣٣٣ رقم (٣٧٤٨) وقال عنه: (صحيح)، وابن سعد في "الطبقات" ٢/ ٤٤، والطبري في "تفسيره" ٤/ ٨٧، وفي "تاريخه" ٢/ ٥١٥، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٧٥٦، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ١/ ٢١٣، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١١٤ أ، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ١٠٢، والمؤلف في "أسباب النزول" (١٢٤).
(٢) وهناك أسباب أخرى لنزول هذه الآية ذكرها المفسرون. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٨٦ - ٨٩، و"ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥٦ - ٧٥٨، و"أسباب النزول" للمؤلف ١٢٤ - ١٢٦، و"لباب النقول" ٥٧ - ٥٨، و"الصحيح المسند من أسبالب النزول" ٥٣ - ٥٦.
(٣) في (ج): (و) بدلًا من: (أو).
(٤) وهكذا وردت في "تفسير الوسيط" للمؤلف (تح: بالطيور): ٣٢٦. وورد في "تفسير الوجيز" له ١/ ١١٨ (إثابتهم).
585
تعذيبهم. فيكون أمْرُكَ -حينئذٍ - تابعًا لأمْرِ اللهِ، بِرِضَاكَ بتدبيره
قال الفرّاء (١): ومِثْلُ هذا مِن الكلام: (لأَذُمَّنَّكَ (٢) أو تُعْطِيَنِي)؛ على معنى: (إلّا أنْ تُعْطِيَني)، و (حتى تُعْطِيَنِي) (٣).
وأنشد ابن الأنباري (٤) على هذا:
فَقُلْتُ لَهُ لا تَبْكِ عيْنُكَ إنَّما نُحاوِلُ مُلْكًا أو نَمُوتَ فَنُعْذَرَا (٥)
أراد: (حتَّى)، و (إلّا أنْ نموت) (٦).
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٤. نقله بمعناه وانظر: "معاني القرآن" ٢/ ٧٠.
(٢) في (أ)، (ب): (لا أذمنك). وهي خطأ. والمثبت من (ج).
(٣) الذي في "معاني القرآن" -في هذا الموضع-: (وإن شئت جعلت نصبه على مذهب (حتى)؛ كما تقول: (لا أزال ملازمك أو تعطيني)، أو (إلا ان تعطيني حقي).
وقال في موضع آخر ٢/ ٧٠: (والله لأضربَنك أوْ تُقِرَّ لي). فيكون معناه معنى (حتى) أو (إلا).
(٤) في "إيضاح الوقف والابتداء" له ٢/ ٥٨٤.
(٥) في (ج): (فنعذرا). والبيت لامرئ القيس، في "ديوانه" ٦٤. وقد سبق إيراده وبيان مصادره عند تفسير قوله تعالى: ﴿أَو يُحَاجُّوكُمْ﴾ [الآية: ٧٣ من سورة آل عمران].
(٦) الذي في كتاب "إيضاح الوقف والابتداء"، قوله -بعد أن ذكر البيت-: (أراد: حتى نموت).
وهناك قولان آخران في نصب ﴿يَتُوبَ﴾، وهما: -النصب بإضمار (أنْ) عطفًا على (الأمر)، والتقدير: (ليس لك من الأمر لك من الأمر شيء، أو من أن يتوب عليهم، أو يعذبهم)؛ أي: ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم، أو من تعذيبهم شيء. وهو قول أبي حاتم، كما في "تفسير الثعلبي"- إنها معطوفة بالتأويل على ﴿شَئءٍ﴾ وتقديرها: ليس لك من الأمر شيءٌ، أو توبةُ الله عليهم، أو تعذيبهم؛ أي: ليس لك أيضًا توبتهم ولا تعذيبهم، إنما مرد ذلك إلى الحقِّ تعالى.
انظر: كتاب "إيضاح الوقف والابتداء" ٢/ ٥٨٤، وكتاب "القطع والائتناف" ٢٣٣، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٥ ب، و"الدر المصون" ٣/ ٣٩٣.
586
١٢٩ - وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ قال أهلُ المعاني (١): لَمَّا نَفَى [اللهُ] (٢) الأمرَ عَنْ نَبِيِّهِ - ﷺ -، ذَكَرَ أنَّ جميع الأمر له؛ كأنه قال: الأمر ليس لك منه شيءٌ، فمن شاء عَذَّبَهُ، ومَن شاءَ غَفَرَ له.
وقوله تعالى: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ ولم يقل: (مَنْ)؛ لأنه ذهب به مَذْهَب الجنس، فَدَخَلَ فيه الجميع (٣).
وقوله تعالى: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ قال ابنُ عَبَّاس، في رواية عطاء (٤): الذنْبَ العظيمَ للمُوَحِّدِينَ (٥).
﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ يريد: المشركين (٦)، على الذنب الصغير (٧).
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ لأوليائه، ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم.
١٣٠ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ قال ابن عباس (٨)، وسعيد بن جبير (٩) هو أنهم كانو يزيدون على
(١) لم أقف عليهم.
(٢) ما بين المعقوفين: زيادة من (ب).
(٣) قال البقاعي: (وعُبِّر بـ (ما)؛ لأن غير العاقل أكثر، وهي به أجدر). "نظم الدرر" ٥/ ٦١.
(٤) لم أقف على مصدر هذه الرواية
(٥) وقد أورد أبو الليث عن الضحاك مثل هذا القول: انظر: "بحر العلوم" ١/ ٢٩٧.
(٦) في (ج): (للمشركين).
(٧) في (ج): (الصغير). وفي "تفسير ابن أبي حاتم" عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة في قوله تعالى: ﴿وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ﴾ قال: (وأما أهل الشكِّ والرَّيْب فيخبرهم بما أخفوا من تكذيب) ٣/ ٧٥٨.
(٨) لم أقف على مصدر قوله.
(٩) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٥٩، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٥ ب، و"زاد المسير" ١/ ٤٥٨.
المال، وُيؤَخِّرُونَ الأَجَلَ، كلَّما أخّر عن أَجَلٍ إلى غيره، زِيد زيادة.
وانتصب ﴿أَضْعَافًا﴾ على الحال.
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ قال عطاء (١): يريد: كي تسعدوا، وتبقوا في الجنة. وقال الزّجاج (٢): المُفْلِحُ: الذي أدرك ما أمَّلَ مِنَ الخير. وذكرنا معنى (الإفلاح) فيما تقدم (٣).
١٣١ - قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ النَّارَ﴾ الآية. قال أبو إسحاق (٤): أي: اتَّقُوا أن تُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ، فإنَّ مَنْ أَحَلَّ شيئًا مِمَّا حَرَّمَ اللهُ، فهو [كافرٌ] (٥) بإجماع.
وهذا معنى قول ابن عبَّاس، قال (٦): يُهَدِّدُ المؤمنين إن استحلوا ما حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ الرِّبَا وغيره، مِمَّا أوجَبَ الله فيه النَّارَ؛ والتقدير: واتَّقُوا النَّارَ التي أُعِدَّت للكافرين، أن تستحلوا الرِّبا، فتستحقوها (٧).
وفي الآية تَقْويَةٌ لِرَجاءِ المؤمنين، رحمةً من الله -تعالى-؛ لأنه قال: ﴿أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ﴾. فَجَعلها مُعَدَّةً للكفار، دونَ أهلِ الإيمان.
١٣٢ - قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اَللَّهَ وَاَلرَّسُولَ﴾ لَمَّا نَهَى عن أكل الرِّبَا، أمَرَ بطاعة الرسولِ فيما يأمرهم به، وينهاهم عنه، مِن أكلِ الرِّبَا وغيره.
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٦٨. نقله عنه بنصه.
(٣) انظر: "تفسير البسيط" عند تفسير قوله تعالى ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥].
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٦٨. نقله عنه بنصه.
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من (ج) و"معاني القرآن".
(٦) لم أقف على مصدر قوله. وقد ذكره ابن الجوزي في: "زاد المسير" ١/ ٤٥٩.
(٧) في (ج): (فيستحقوها).
وذُكِر عن محمد بن إسحاق بن يَسَار، أنَّه قال (١): [في] (٢) هذه الآية معاتَبة للذين عَصَوا رسولَ الله - ﷺ - حين أمرهم بما أمرهم به يوم أُحُد.
١٣٣ - قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ قُرِئ بالواو، وبغير الواو (٣). فَمَن (٤) قرأ بالواو؛ فلأنه عَطَفَ الجملة على الجملة، والمعطوف عليها قوله: ﴿وَأَطِيعوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾، ﴿وَسَارِعُوَاْ﴾.
ومَن تَرَكَ الواو؛ فلأن الجملة الثانيةَ مُلْتَبسَةٌ بالأولى (٥)، مستغنية بالتباسها عن عطفها بالواو (٦).
وقد جاء الأمران في التنزيل، في قوله: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢] الآية (٧)، وقوله -تعالى-: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
(١) قوله، في: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٦١ - ٦٢، و"تفسير الطبري" ٤/ ٩١، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٦١.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٣) قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر: {سَارِعُوا﴾ بغير الواو. وهي في مصاحف المدينة والشام.
وقرأ باقي القرّاء: ﴿وَسَارِعُوا﴾ بإثبات الواو. وعليه مصاحف مكة والعراق.
انظر: "القراءات" للأزهري ١/ ١٢٦، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٧٨، و"المبسوط" لابن مهران ١٤٧، و"النشر" ١/ ٢٤٢، و"كتاب المصاحف" للسجستاني (٣٨).
(٤) من قوله: (فمن..) إلى (.. فكذلك المكسورة تجلبها): نقله عن "الحجة"، للفارسي ٣/ ٧٨. نقل بعض العبارات بالنص، وبعضها تَصرَّف فيها.
(٥) وذلك لأن الضمائر فيها وفي التي قبلها متحدة، وكذلك المأمورين غير مختلفين. انظر: "الكشاف" ١/ ٣٥٦.
(٦) وهي كذلك مستأنفة. انظر: المرجع السابق، و"التبيان" ص ٢٠٨.
(٧) وجه الدلالة فيها أن قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ يجوز فيه من الناحية النحوية دخول واو العطف على ﴿رَابِعُهُمْ﴾، وكذا دخولها على ﴿سَادِسُهُم﴾،=
589
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: ٣٩] (١).
ورُوِي عن الكِسائي الإمالة في (٢) ﴿وَسَارِعُواْ﴾ و ﴿أُولَئِكَ يسُارِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٦١] و ﴿نُسَارِعُ﴾ (٣) [المؤمنون: ٥٦]. وذلك مُستَحسَنٌ لِمَكان الرَّاءِ المكسورة؛ فكما تمنع المفتوحةُ الإمالةَ، فكذلك المكسورةُ تَجلِبُها (٤).
وفي الكلام محذوف، والمعنى على: وسارعوا إلى مُوجِبِ (٥) مغفرة مِن رَبِّكم.
واختلفوا في ذلك الذي إذا سارع إليه، فقد سارع إلى مغفرة: فقال عطاء عن ابن عباس (٦): يريد: لا تُصِرُّوا على الذنب. إذا أذنب أحدٌ فلْيُسْرع الرجوع، يغفر الله له.
وقال ابن عباس -أيضًا- (٧): سارعوا إلى الإسلام. وروي عن
= كما يجوز حذفها من ﴿وَثَامُنهُم﴾؛ لأن الضمير العائد يكفي عن الواو.
انظر: "إعراب مشكل القرآن" ١/ ٤٣٩، و"التبيان" ص ٥٣٥.
(١) قال أبو علي في "الحجة" ٣/ ٧٨ بعد أن أورد هذه الآية: (فهذا على قياس قراءة نافع وابن عامر). فقوله تعالى: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لم تحتج لعطف بالواو؛ لأنها حال من ﴿أَصْحَابُ﴾، فالجملة ملتبسة بما قبلها متحدة معها، فاستغنت عن العطف بالواو.
(٢) (في): ساقطة من (ج).
(٣) والإمالة -هنا- هي رواية أبي عمرو الدوري عن الكسائي. ورواية غيره عن الكسائي ترك الإمالة. انظر: "السبعة" (٢١٦)، و"إتحاف فضلاء البشر": ص ٣١٩.
(٤) انظر: "الإقناع" لابن الباذش ١/ ٢٧١ - ٢٧٧، و"النشر" ٢/ ٥٤.
(٥) في (ج): (لما موجب).
(٦) لم أقف على مصدر قوله. وقال البغوي: (وروي عنه: إلى التوبة، وبه قال عكرمة). "تفسيره" ٢/ ١٠٤.
(٧) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٦أ، و"البغوي" ٢/ ١٠٤، و"زاد المسير" ١/ ٤٦٠.
590
علي - رضي الله عنه -، أنه قال (١): إلى أداء الفرائض. وعن أنس بن مالك، قال (٢): هو التكبيرة الأولى (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ أي: عرضها عَرْضُ السَّموات والأرض، فحذف المضاف، كقوله: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (٤). يدل على هذا قوله في سورة الحديد: ﴿عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد: ٢٨].
قال ابن عباس (٥): تُقرَنُ السَّمواتُ السبعُ والأرَضُونَ السَّبْعُ، كما يُقرن (٦) الثيابُ بعضها إلى بعض، فذلك عَرْضُ الجنَّةِ.
(١) قوله في المصادر السابقة.
(٢) قوله في المصادر السابقة، و"معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٧٦، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٠٤.
(٣) وهناك أقوال أخرى، منها:
- وسارعوا بالأعمال الصالحة. وهو قول أبي سعيد الخدري، ومقاتل.
- وسارعوا إلى أداء الطاعة. وهو قول الكلبي.
- وسارعوا إلى الجهاد الأكبر. وهو قول الضحاك.
- وسارعوا إلى الإخلاص. وهو قول عثمان رضي الله عنه. وقيل غير ذلك.
انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٣٠١، و"بحر العلوم" ١/ ٢٩٨، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٦ أ. ويلاحظ أن القول الأول وهو تفسيرها بالمسارعة بالأعمال الصالحة، أو تفسيرها بالمسارعة بالطاعة هو أعم الأقوال، وتدخل تحته كل الأعمال التي ذكرت في الأقوال الأخرى، حيث إنها مفردات للعمل الصالح، وطاعة الله تعالى، ومن أنواعه. فليس بينها تعارض، وإنما اختلاف تنوع.
(٤) [سورة لقمان: ٢٨ وبقيتها ﴿وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾].
والتقدير: ولا بعثكم إلا كبعث نفس واحدة فحذف المضاف، وهو (بَعْث).
(٥) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ٩١، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٠٤.
(٦) هكذا في (أ)، (ب): (يقرن). وفي (ج): غير منقوطة. وفي "تفسير الطبري": تُقرن.
591
قال أهل المعاني (١): إنَّمَا خَصَّ العَرْضَ دون الطول، لأن طولَ كلِّ شيءٍ في الأغلب أكثر من عَرْضِه. يقول: هذه صفة عرضها، فكيف طولُها؟. كما قال الزُّهْري (٢): إنما وصف عرضها، فأما طولها فلا يعلمه إلَّا الله. وهكذا قوله: ﴿بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ [الرحمن: ٥٤]، وصَفَ (٣) البِطَانَةَ وتَرَكَ الظِّهارَةَ؛ إذ مِنَ المعلوم (٤) أنها (٥) أحسن وأنفس من البطائن.
وقال عطاء عن ابن عباس (٦) - في قوله: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾، يريد: لِرَجُلٍ واحدٍ مِن أوليائه.
[و] (٧) قال جماعة من أهل المعاني (٨): لم يُرِدْ العَرْضَ الذي هو ضِد الطُوْلِ، وإنما أراد بالعرض: السَّعَةَ. والعرب تقول: (بلاد عَرِيضةٌ)، أي:
(١) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٢٩٨، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٦ب، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٠٩، والعبارات التي ذكرها المؤلف متطابقة مع ما في "تفسير الثعلبي"، وهي من قوله: (إنما خص..) إلى (.. من البطائن).
(٢) هو: محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب. تقدمت ترجمته.
(٣) في (أ)، (ب): (وصفةُ). والمثبت من (ج)، و"تفسير الثعلبي" و"تفسير القرطبي".
(٤) في (أ): (العلوم). والمثبت من (ب)، (ج).
(٥) أنها: ساقطة من (ب).
(٦) لم أقف على مصدر قوله.
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٨) قال ذلك ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ١١١. وقد نقله عنه المؤلف بتصرف مع اختصار قليل. وقد ورد بعض هذا القول في تفسير "بحر العلوم" ١/ ٢٩٨، نقله عن ابن قتيبة، وورد في: "غريب الحديث" للخطابي ١/ ٧٠٥، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٦ ب.
592
واسعة. (وفي الأرض العريضة مذهبٌ) (١) [و] (٢) قال:
كأنَّ بِلادَ اللهِ وَهْيَ عَرِيضةٌ على الخائفِ المَطْلُوبِ كِفَّةُ حابِلِ (٣)
وإنما يقال للشيءِ الواسع: (عَرِيض)؛ لأن الشيء إذا عَرُضَ اتَّسَعَ، وإذا لم يَعْرُضْ، ضاقَ وَرَقَّ.
قالوا (٤): وتشبيه عرض الجنة بعرض السَّموات والأرض على التمثيل لا على التحقيق؛ معناه: عرضها كعَرْضِ السموات والأرض عند ظَنِّكم؛ لأنه لا شيء عندنا أعرض منها، فهو كقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ (٥)؛ يعني: عند ظنكم؛ لأنَّهما لابد زائلتان. فَلمَّا كانَ قوله: ﴿مَا
(١) في "تفسير غريب القرآن": ضبطها المحقق: (مذهبُ) بدون تنوين. وهذه العبارة أشبه لأن تكون مقطعًا من بيت شِعْرٍ، ولكني لم أقف عليه.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٣) البيت لم أهتد إلى قائله، وقد ورد غير منسوب في: "تفسير غريب القرآن" ١١١، و"الكامل" للمبرد ٣/ ١٣١، و"غريب الحديث" للخطابي ١/ ٧٠٥، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٦ب، و"زاد المسير" ١/ ٤٦٠، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٠٥، و"لسان العرب" ٧/ ٣٩٠٤ (كفف)، و"البحر المحيط" ٣/ ٥٧.
وقد ورد في "الكامل" و"اللسان": (كأن فجاج الأرض..).
والكِفَّةُ -بكسر الكاف-: كل شيء مستدير، وهي هنا: حِبالة الصائد، لاستدارتها، أما إذا كانت مستطيلة فهي: (كُفَّة) -بضم الكاف-، وجمعها: (كِفَف)، و (كِفاف). والحابل: الصائد الذي ينصب الحِبَالة، وهي المصيَدة. انظر: "الكامل" ٣/ ١٣١، و"اللسان" ٧/ ٣٩٠٤ (كفف)، و"القاموس" ص ٩٨١ (حبل).
(٤) ممن قال ذلك: الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١١٦ ب. ويبدو أن المؤلف نقل هذا القول عنه بتصرف.
(٥) سورة هود: من آية ١٠٧، وآية: ١٠٨. وتمام الآيات ليتضح المعنى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾.
593
دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَاَلأَرضُ} عندنا -في عادة الاستعمال- من ألفاظ التأبيد، خُوطِبْنا على ما نَعْرِف (١)؛ كذلك في هذه الآية.
وسُئِل أنسُ بن مالك عن الجَنَّة: أفي الأرض أم في السماء؟ فقال: وأيُ أرضٍ وسماءٍ تَسَعُ الجَنَّة؟! قيل: فأين هي؟ فقال: فوق السَّموات السَبْع، تحت العَرْش (٢) (٣).
١٣٤ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ قال ابن عباس (٤): يعني: في اليُسْرِ والعُسْر. كأنه يريد: السَّرَّاء؛ بكثرة المال، والضَّراء، بِقِلَّتِهِ.
وهذه الآية من صفة المُتَّقِين الذين أعِدت لهم الجَنَّة. وأول ما وصفهم الله تعالى به: الإنفاق في كل حال. وهو من أقسام السَّخَاء.
وقوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ يقال: (كَظَمَ غَيْظَه): إذا سكت
(١) هذا القول هو ما ذهب إليه الطبري في "تفسيره" ١٢/ ١١٧. وهناك قول آخر، وهو: إن المراد: سموات الدار الآخرة، وأرضها، وهي دائمة بدوام الدار الآخرة؛ حيث إنه لابد لهم من أرض تقلهم وسماء تظلمهم. وقد ورد عن ابن عباس قوله: (لكل جنة أرضٌ وسماء) وروي نحوه عن السدي والحسن.
انظر: "المحرر الوجيز" ٧/ ٤٠١، و"تفسير النسفي" ٢/ ١٧٣، و"تفسير أبي السعود" ٤/ ٢٤١، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ٥٠٤، و"فتح البيان" ٤/ ٤٠٣، و"منهج صديق حسن خان في تفسيره" ٥٢٦ - ٥٢٧.
(٢) أورد قوله هذا بنصه: الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١١٧ أ، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ١٠٤. ولم أقف على مصدر آخر له.
(٣) انظر حول مكان الجنة روايات أخرى بنفس ما روي عن أنس بن مالك في: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: ٦٥ - ٦٧.
(٤) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٩٣، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٦٢.
594
عليه، ولم يُظْهِرْهُ بقول أو فِعْلٍ (١).
قال المُبَرِّد (٢): تأويله: أنه كتمه على امتلائه منه. ويقال: (كظَمتُ [السِّقَاءَ): إذا ملأتُه] (٣)، وَشَدَدْتُ عليه. ويقال: ما يَكْظِمُ فلانُ على (جِرَّةٍ) (٤): إذا كان لا يحتمل شيئًا.
قال أبو زيد (٥): وكل ما سددت (٦) من مجرى ماءٍ أو طريق؛ فهو (كَظْمٌ). ويُدعَى الذي تَسُدُّه (٧) به: (الكاظِمَة) و (السَّدَادَة).
و (فلانٌ كَظِيْمٌ)، و (مَكْظُومٌ): إذا كان ممتلئا (٨) حُزْنًا، مُمْسِكًا عليه. وهما في التنزيل (٩).
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٦٩، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٥١ (كظم)، و"الزاهر" ٢/ ٣٤٤.
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٤) في (أ)، (ب)، (ج): (حره). وما أثبتُّ هو الصواب.
(الجِرَّةُ): هي ما يخرجه البعير من كرشه، ويَجْترّه؛ أي: يردده في حلقه. انظر: (جر) في: "تهذيب اللغة": ١/ ٥٧٨، و"اللسان": ١/ ٥٩٤ (جرر).
وقولهم: (ما يَكظِمُ فلانٌ على جِرَّةٍ)، مَثَلٌ يُضرَب لِمن لا يَكتِمُ سِرًا. ومثله: (ما يَخنُق فلان على جِرَّةٍ) كما في: النوادر لأبي زيد. وفي: "اللسان": (ما يَحْنَق..). انظر: "النوادر" لأبي زيد ١٣٢، و"جمهرة الأمثال" للعسكري ٢/ ٢٣٤، و"مجمع الأمثال" للميداني ٣/ ٢٨٨، و"اللسان" ١/ ٥٩٤.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) في (أ)، (ب): (شددت). والمثبت من (ج)، ومن "تفسير الفخر الرازي" ٩/ ٧؛ حيث أورد هذا النص بتمامه.
(٧) في (ج): (تشده).
(٨) في (ج): (ممكا).
(٩) ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾. يوسف: ٨٤. وقوله: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [النحل: ٥٨]، [الزخرف: ١٧]. وقوله: ﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ [القلم: ٤٨].
595
ويقال للقناة (١) التي تجري في بطن الأرض: [كِظَامَة] (٢)؛ لامتلائها بالماء كامتلاء القِرْبَةِ المكظومة. ومنه الحديث: (كيف بك إذا بُعِجَتْ مَكَّةُ كظَائِمَ) (٣).
(١) في (أ): (الفتاة). والمثبت من (ب)، (ج) وكتب اللغة.
(٢) ما بين المعقوفين غير مقروء تماما في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج)، وكتب اللغة.
(٣) الأثر ورد في: "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ٢٦٩ (ط. السلفية)، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٥ (كظم)، و"الفائق" للزمخشري ٣/ ٢٦٣، و"المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" ٣/ ٥٠، و"غريب الحديث" لابن الجوزي ٢/ ٢٩١، و"النهاية في غريب الحديث" ٤/ ١٧٨. ولم أقف عليه في غيرها من مصادر الحديث.
وكل المراجع السابقة أوردته غير مسند وصرحت بأنه حديث، إلا في "المجموع المغيث" حيث قال: (ومنه قول عبد الله بن عمرو..). وفي (الفائق)، للزمخشري، و"غريب الحديث"، لأبي عبيد أورداه من حديث عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما. وفي "المجموع المغيث"، و"النهاية" عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما. ولكن أشار محقق "غريب الحديث" لأبي عبيد، إلى أنه في نسخة أخرى للكتاب، ورد: (ومنه حديث عبد الله بن عَمرو). ثم ذكرت هذه النسخةُ السندَ، وهو: (حدثنيه هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه عن عبد الله بن عَمْرو، قال:..).
أقول: وهذا هو الصواب؛ لأن عطاء والد يَعْلى، وهو عطاء العامري الطائفي روى عن ابن عمرو بن العاص وروى عنه ابنه يعلى، كما في "تهذيب التهذيب" ٣/ ١١١. ونصه عند أبي عبيد: (إذا رأيت مكة قد بُعِجت كظائم، وساوى بناؤها رؤوس الجبال، فاعلم أن الأمر قد أظللك، فخذ حذرك). "غريب الحديث": ١/ ١٦٩، وانظر: المصادر السابقة التي أوردت الأثر.
و (الكظائم)، جمع: كِظَامَة، وهي: آبارٌ تُحفَر، ويُباعَد ما بينها، ثم يُحفَر ما بين كل بئرين بقناة مِن تحت الأرض، توصِل الماءَ مِن الأولى إلى التي تليها، حتى يجتمع الماءُ في أخراهن.
انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ١٦٣، والمصادر السابقة التي أوردت الأثر.
596
ومنه يقال: (أَخَذَ بكَظْمِهِ): إذا أخذ بمجرى نَفَسِهِ؛ لأنه موضع الامتلاء بالنَّفَسِ. و (كَظَمَ البعِيرُ والنَّاقَةُ، كُظُومًا): إذا أَمْسَكا على ما في جَوْفِهما ولم يَجْتَرَّا (١).
قال الراعي:
فَأَفَضْنَ (٢) بعد كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةٍ مِن ذِي الأَبَاطِح إذْ رَعَيْنَ حَقِيلاَ (٣)
(١) انظر المعاني السابقة و (كظم) في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٥١، و"المقاييس" ٥/ ١٨٤ - ١٨٥، و"اللسان" ٧/ ٣٨٨٦ وما بعدها.
(٢) في (أ)، (ب)، (ج): (فأفرضن). والمثبت من مصادر البيت التالية.
(٣) البيت في "ديوانه" ٢٢٤. وقد ورد منسوبًا له في: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٦٩، و"جمهرة أشعار العرب" (٣٣٣)، و"الزاهر" ٢/ ٣٤٤، و"مجالس العلماء" ٣٩، ٨٠، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٥١ (كظم)، و"الفهرست" ٨٦، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٢٦ (برق)، ٢/ ٨٨ (حقل)، ٤/ ٤٦٥ (فيض)، و"المجمل" ٢٤٥ (حقل)، و"معجم ما استعجم" ٢/ ٤٦٠، و"أساس البلاغة" ٢/ ٢٢٢ (فيض)، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٣٢٦، و"إنباه الرواة" ٢/ ٣٢١، و"معجم البلدان" ٢/ ٢٧٩ (حقيل)، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٠٦، و"اللسان" ٦/ ٣٥٠٠ وما بعدها (فيض)، و٢/ ٩٤٧ (حقل)، و٧/ ٣٨٨٦ وما بعدها (كظم).
وورد غير منسوب في: "جمهرة اللغة" ٥٥٨، و"الصحاح" ٣/ ١١٠٠ (فيض). وقد ورد في كل المصادر السابقة: (من ذي الأبارق). وقال البكري: (ورواه أبو حاتم: (من ذي الأباطح)، قال: وهو واد في بني عامر). "معجم ما استعجم" ٢/ ٤٦٠. وورد في "جمهرة أشعار العرب": (أو رَعَيْن..).
ومعنى البيت: أي: دفعن بالجِرَّةِ من كروشهن، فاجتررنها بعد أن كُنَّ كُظُومًا لا يجتررن.
و (ذي الأبارق) -على الرواية الأخرى-: موضع. أي: أن هذه الجِرَّة التي اجتررنها أصلها مما رعينه من هذه الموضع.
و (حقيل): موضع. وقيل: نبت. وقيل: جبل في (ذي الأبارق).
انظر: "الزاهر" ٢/ ٣٤٤، و"اللسان" ٢/ ٩٤٧ (حقل)، ٧/ ٣٨٨٦ (كظم)، و"معجم البلدان" ٢/ ٢٧٩ (حقيل).
597
وإنَّما تفعل ذلك الإِبِلُ مِنَ الفَزَع أو الجهد. قال الأعشى (١) -ووصف رجلًا نَحَّارًا للإبل، وهي (٢) تفزع منه-:
قَد تَكْظِمُ البُزْلُ مِنه حين تُبْصِرهُ حتَّى تَقَطَّعَ في أجوافها الجِرَرُ (٣)
ومعنى ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾: الكافِّينَ غَضَبَهم (٤) عن إمضائه، يَردُّون غيظهم في أجوافهم، ويصبرون فلا يُظِهرون (٥). وهذا الوصف من أقسام
(١) هو أعشى باهلة (عامر بن الحرث)، وليس الأعشى الكبير (ميمون بن قيس).
(٢) في (ج): (فهي).
(٣) البيت ورد منسوبًا له في: "الأصمعيات" ٨٩، و"الكامل" للمبرد ٤/ ٦٥، و"جمهرة أشعار العرب" (٢٥٥)، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٨ أ، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٠٦، و"خزانة الأدب" ١/ ١٩٤. وقد اختلفت روايات البيت، فقد ورد في بعض المصادر:
(وتفزع الشَّوْلُ منه حين تبصره حتى تقطع في أعناقها الجرر).
وورد: (وتفزع الشول منه حين يفجؤها)، وورد: (قد تكظم البَرْك منها حين يفجؤها).
والبيت من قصيدة يرثي بها أخاه المنتشِر بن وهب الباهلي. انظر خَبَرَة في: "الكامل": ٤/ ٦٤ - ٦٥.
و (البُزْل): جمع: بازِل. وهو -من الإبل-: الداخل في السنة التاسعة، وفطر نابه. وتُجمَع -كذلك- على: (بُزَّل)، و (بوازل). ومعناه: أن الإبل قد تعودت على أن يَعقِرَ منها، فإذا رأته كظمت على جِرَّتها فزعا منه.
و (البَرْك): -على الرواية الأخرى-: جمع بارك. و (الشَوْل): جمع: شائلة، وهي -من الإبل-: ما أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر، فجف لبنها. انظر: "المصباح المنير" ١٩ (بزل)، و"القاموس" (١٠٢١) (شول).
(٤) في (ب)، (ج): (غضبهم).
(٥) قال ابن عطية: (و (الغيظ) أصل الغضب، وكثيرًا ما يتلازمان، ولذلك فسر بعض الناس (الغيظ) بـ (الغضب)، وليس تحرير الأمر كذلك، بل الغيظ فعل النفس، لا يظهر على الجوارح، والغضب حال بها معه ظهور في الجوارح، وفعل ما ولا بد). "المحرر الوجيز" ٣/ ٣٢٧، وانظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ٢٠٧، و"البحر المحيط" ٣/ ٥٨.
598
الصبر والحِلْم (١).
وقوله تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ قال ابن عباس (٢): يريد: المَمَالِيك؛ إذا أذنب واحد منهم ذنبًا، عفوت عنه؛ لما يرجو من ثواب الله.
وقال زيد بن أسلم (٣)، ومقاتل (٤): أي: عمَّن ظَلَمَهم وأساء إليهم.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال ابن عباس (٥): يريد: المُوَحِّدِين، الذين هذه الخِصَال فيهم.
قال الثَّوْرِي في هذه الآية (٦): الإحسان: أن تُحْسِن إلى مَن أساء
(١) قال الإمام ابن حِبَّان البُسْتي: (الحِلْم: اسم يقع على زَمِّ النفس عن الخروج - عند الورود عليها ضد ما تحب- إلى ما نُهِي عنه). "روضة العقلاء" ٢٥٢.
(٢) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "تنوير المقباس" ٥٦، و"زاد المسير" ١/ ٤٦١. وبهذا قال: الربيع، والكلبي، ومكحول، وأبي العالية.
انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٦٣، و"بحر العلوم" ١/ ٢٩٩، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٨ ب، و"زاد المسير" ١/ ٤٦١.
وقد ورد عن ابن عباس حول هذه الآية قوله: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ كقوله: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ﴾ إلى ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور: ٢٢]، يقول: لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئاً واعفوا واصفحوا). "تفسير الطبري" ٤/ ٩٤، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٦٣.
(٣) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٨ ب، و"البغوي" ٢/ ١٠٥، و"زاد المسير" ١/ ٤٦١.
(٤) (ومقاتل): ساقطة من (ج). ولم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في: "زاد المسير" ١/ ٤٦١، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٠٥.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٩ أ.
والثوري، هو: أبو عبد الله، سفيان بن سعيد بن مسروق. أمير المؤمنين في الحديث، ولد في الكوفة سنة (٩٧ هـ)، ونشأ بها، مشهور بالورع والعلم، مُجْمَع على إمامته، مات بالبصرة سنة (١٦١ هـ). انظر: "تاريخ بغداد" ٩/ ١٥١، و"وفيات الأعيان" ٢/ ٣٨٦، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٥٦.
599
إليك؛ فإنَّ الإحسانَ إلى المُحسِنِ مُتَاجَرَةٌ (١)، كَنَقْدِ السُّوقِ: خذْ مِنِّي وهات (٢).
وصدَقَ؛ فإنَّ الله -تعالى- عقَّبَ وَصْفَ هؤلاء بالكَظْمِ والعَفْوِ، بِحُبِّهِ المحسنين. وفي ذلك دليل على أن هؤلاء محسنون، والأوصاف التى وُصِفوا بها، كلُّها إحسانٌ إلى مَن أساء إليهم.
١٣٥ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ الآية. الظاهر أنَّ هذا عطفٌ على ﴿المُتَّقِينَ﴾ (٣). فيكون موضع (الذين): جَرًّا (٤). ويُحتمل أنْ يكون موضِعُه: رفْعًا على الاستئناف؛ بعطف جملة على جملة. وهو قول أكثر المفسرين.
قال ابن عباس -في رواية عطاء- (٥): نزلت الآيةُ في نَبْهان التَّمَّار؛ أتته امرأة حسناء، تَبْتَاعُ منه تَمْرًا، فَضمَّها إلى نَفْسِه وقَبَّلَها، ثم ندمَ على
(١) في (أ)، (ب): (متأخره). وفي (ج): (مناحرة). والمثبت من:"تفسير الثعلبي".
(٢) يعني رحمه الله: أن الإحسان إلى من أحسن إليك لا يُسَمَّى إحسانًا، بل يُعَد من قبيل المكافأة؛ لأنَّ ذلك بمثابة أن تعطي من سبق له أن أعطاك؛ وترد الفضلَ له؛ لما سبق أن أولاك من فضل. ويسميه الثوري -هنا- متاجرة، لأنه كالمقايضة، والأخذ والعطاء.
قال ابن حِبان: وما الفضل إلا للمحسن إلى المسيء، فأما من أحسن إلى المحسن وحلُمَ عمن لم يؤذه؛ فليس ذلك بحِلْم ولا إحسان. "روضة العقلاء" ص ٢٥٤.
(٣) في (ج): (المنفقين).
(٤) الجَرُّ؛ على النعت لـ ﴿المُتَّقِينَ﴾ في الآية: ١٣٣، أو البدل منه أو البيان.
(٥) هذه الرواية في: "بحر العلوم" ١/ ٣٠٠، ولم يعزها إلى ابن عباس. وأوردها الثعلبي في: "تفسيره" ٣/ ١١٩ ب قائلًا: (قال عطاء: نزلت هذه الآية في نبهان التَّمَّار، وكنيته: أبو مقبل). وأوردها المؤلف في "أسباب النزول" ص ١٢٧، وابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٤٦١.
600
ذلك، فأتى النبي - ﷺ -، وذَكَر له ذلك، فنزلت هذه الآية (١).
(١) قال ابن حجر: ذكر مقاتل بن سليمان في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس، في قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾. الآية، قال: هو نبهان التمار، أتته امرأة حسناء..) ثم ذكر نحو ما ذكر المؤلف، وأضاف ابن حجر: إن المرأة قالت له: (والله ما حفظت غيبة أخيك، ولا نلت حاجتك، فسقط في يده، فذهب إلى النبي - ﷺ - فأعلمه، فقال له: إيَّاك أن تكون امرأة غاز! فذهب يبكي ثلاثة أيام يصوم النهار ويقوم الليل، فأنزل الله في اليوم الرابع هذه الآية، فأرسل إليه فأخبره، فحمد الله وأثنى عليه وشكره، وقال: يا رسول الله هذه توبتي، فكيف بأن يقبل شكري؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: ١١٤]، ثم قال ابن حجر بعده:
(وهكذا أخرجه عبد الغني بن سعيد الثقفي في: تفسيره، عن موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس مطوَّلًا. ومقاتل متروك، والضحاك، لم يسمع من ابن عباس، وعبد الغني وموسى هالكان. وأورد هذه القصة: الثعلبي، والمهدوي، ومكي، والماوردي، في تفاسيرهم بغير سند). "الإصابة": ٣/ ٥٥٠. وهذه القصة لم يذكرها مقاتل في تفسيره المطبوع، ولا الماوردي في "النكت والعيون" خلاف ما ذَكَرَه ابنُ حجر.
وهناك سبب آخر ذكره العلماء لهذه الآية، وهو: أن رجلين؛ أنصاريا وثَقَفِيًّا، آخى بينهما رسول الله - ﷺ -، فكانا لا يفترقان، فخرج الثقفي مع رسول الله - ﷺ -، في إحدى غزواته، وخلَّفَ الأنصاريَّ على أهلِهِ، وحاجته، فكان يتعاهد أهل الثقفي، فرأى يومًا امرأة أخيه الثقفي بارزة، فوقعت في نفسه، فراودها عن نفسها فأبت، وسترت وجهها منه بكفِّها، فقَبَّلَ كفَّها، ثم خرج بعدها، سائحا في الجبال، نادِمًا خائِفًا من ذنبه، إلى أن أتاه أخوه الثقفي فأخذ بيده إلى رسول الله - ﷺ -، بعد أن علم بحاله، فأنزل الله هذه الآية.
وقد ذكر هذا السبب -مع اختلاف في التفاصيل-: مقاتل في "تفسيره" ١/ ٣٠١، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١١٩ ب، وعزاها للكلبي عن ابن عباس، وابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٤٦٢ وقال: (رواه أبو صالح عن ابن عباس).
601
وقال ابنُ مسعود (١): قال المؤمنون للنبي - ﷺ -: كانت بنو إسرائيلَ أكرَمَ على اللهِ مِنَّا؛ كان أحدُهم إذا أذنب ذَنْبًا، أصبحت كفَّارةُ ذَنْبِهِ مكتوبةً (٢) في عَتَبَةِ بابِهِ (٣): (اجْدَعْ أنفَكَ)، (افعل كذا)! فأنزل اللهُ هذه الآيةَ، وبَيَّنَ أنَّهم أكرم على اللهِ منهم؛ حيث جعل كفّارةَ ذنوبهم الاستغفار.
وقوله تعالى: ﴿فَعَلُواْ فَاحِشَةً﴾ يعني: الزِّنَا -ههنا- (٤). وهي-في اللغة-: كلُّ قَبِيحةٍ خارِجَةٍ عَمَّا أذِنَ اللهُ فيه (٥). وذكرنا معنى (الفُحْش) و (الفحشاء) فيما تقدم.
والفاحشة -ههنا- نعتُ محذوفٍ؛ التقدير: فعلوا فِعْلَةً فاحشةً (٦).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ قال ابنُ عباس (٧)، ومقاتل (٨)،
(١) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٩٦، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٩ أ، و"النكت والعيون" ١/ ٤٢٤. وسياق المؤلف للخبر قريب جداً من سياق الثعلبي له.
إلا أن لفظ الأثر هنا أقرب إلى لفظ الأثر الوارد عن عطاء بن أبي رباح، الذي أخرجه الطبري في: "تفسيره" ٤/ ٩٦، والمؤلِّف في: "أسباب النزول" ص ١٢٨، وابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٤٦٢.
(٢) (مكتوبة): ساقطة من (ج).
(٣) في (أ)، (ب): (بأنَّه). وهي تصحيف. والمثبت من: (ج)، ومصادر الخبر.
(٤) وممن قال ذلك: جابر بن زيد، والسدي، ومقاتل بن حيان. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٩٥ - ٩٦، و"ابن أبي حاتم" (٧٦٤)، و"زاد المسير" ١/ ٤٦٢.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٩٥، و"المقاييس" ٤/ ٤٧٨ (فحش).
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٩٥، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٠ أ.
(٧) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "تنوير المقباس" ٥٦.
(٨) قول مقاتل بن سليمان في: "تفسيره" ٣٠٢، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٠ أ، وورد عن مقاتل بن حيان: (أصابوا ذنوبًا). "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٦٤.
602
والكلبي (١): هو ما دون الزِّنَا، مِن قُبْلَةٍ أو لَمْسَةٍ، أو نَظَرٍ فيما [لا يَحِلُّ؛ مثل الذي (٢) فَعَلَ نَبْهانُ التَّمَّار.
وقوله تعالى: ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ فيه وجهان: أحدهما: أن المعنى: ذكروا وعيد الله. فيكون من باب حَذْفِ المضاف.
والذِّكْرُ -ههنا- يكون: هو الذي ضد النسيان. وهذا معنى قول: الضحاك، ومقاتل، والواقدي. فإن الضَّخَاكَ قال (٣): ذكروا العَرْضَ الأكبر على الله. ومقاتل والواقدي قالا (٤): تَفكَّرُوا أنَّ اللهَ سائِلُهُم عنه.
الوجه الثاني: ذكروا الله بأن قالوا: اللهُمَّ اغفر ذنوبنا، فإنَّا تُبْنا إليك، ونَدِمْنا. وهذا معنى قولِ مُقاتل بن حَيَّان (٥). والذكْر -ههنا- ليس الأول
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ قال الفَرَّاءُ (٦) هذا محمولٌ على المعنى؛ تأويله: ما يَغْفِرُ الذنوبَ أحَدٌ إلّا اللهُ؛ فلذلك رفعت
(١) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٠ أ.
(٢) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٣) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٥ أ، و"زاد المسير" ١/ ٤٦٣، و"القرطبي" ٤/ ٢١٠.
(٤) قوله مقاتل في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٥ أ، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢١٠. وقول الواقدي في: "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٦٤، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٠ أ، و"زاد المسير" ١/ ٤٦٣، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢١٠.
(٥) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٠ أ، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٠٧.
وفي "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٦٤ عن مقاتل بن حيان: (ذكروا الله عن تلك الذنوب الفاحشة). وليس فيه بيان نوع الذكر هنا. وفي "تفسير القرطبي" ٤/ ٢١٠ ذكره عن مقاتل، ولم يبِّن أيَّ المُقاتِلَيْن، ابن سليمان أو ابن حيَّان.
(٦) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٤. نقله عنه بمعناه. وانظر: "معاني القرآن"، للزجاج ١/ ٤٦٩، و"تفسير الطبري" ٤/ ٩٧.
603
ما بعد (إلّا) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ يقال: (أصَرَّ (٢) على الشيء): [إذا قام عليه] (٣)، ودام. ومِن هذا يقال للعَزِيمَةِ (٤) التي لا تُنْقَضُ: (صِرِّي) (٥).
قال المفسرون (٦): معناه: لم يُقِيموا، ولَمْ يَدُومُوا، [بل تابوا، وأَقَرُّوا] (٧)، واستغفروا. والذي يُؤَكِّد هذا القول (٨):
(١) ونص قول الفراء -ليتضح المعنى-: (يقال ما قبل (إلّا) معرفة، وإنما يُرفَع ما بعد (إلّا) باتْباعِهِ ما قَبْلَهُ، إذا كان نكرة، ومعه جحد؛ كقولك: (ما عندي أحدٌ إلّا أبوك)، فإن معنى قوله: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾: ما يغفر الذنوب أحدٌ إلّا اللهُ، فجعل على المعنى).
وقال أبو حيان عن رفع اسم الجلالة: (فهو على البدل مِن ﴿مَنْ﴾، أو مِن الضمير الفاعل في ﴿يَغْفِرُ﴾ العائد عليها، وجاز هذا؛ لأن في الكلام معنى نفي، وتقديره: لا يغفر أحدٌ الذنوبَ إلا اللهُ). "تذكرة النحاة": ٢٩٦.
(٢) في (ب): (صر).
(٣) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٤) في (ج): (العزيمة).
(٥) يقال: (هذا منِّي صِرِّي، وأصِرِّي، وصِرَّى، وأصِرَّى، وصُرِّي، وصُرَّى): أي: عزيمةٌ وجِدٌّ و (إنها مني لأصِرِّي)؛ أي: لحقيقة.
وهي مشتقة من: (أصررت على الشيء): إذا أقمت ودمت عليه. انظر: (صرر)
في: "إصلاح المنطق" ٣١٩، و"تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٠٣، و"المجمل" ٥٣٢، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٤٨٢، و"الفرق بين الحروف الخمسة" ٣٨٦.
(٦) ممن قال ذلك: مجاهد، وقتادة، وابن إسحاق، ومقاتل، والزجاج، والطبري، وأبو الليث. انظر: "تفسير مجاهد" ١٣٦، و"تفسير مقاتل" ١/ ٣٠٢، و"الجزء الذي فيه تفسير القرآن" ٧٨، و"تفسير الطبري" ٤/ ٩٧ - ٩٨، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٦٦، و"معاني القرآن" للزجاج / ٤٦٩، و"بحر العلوم" ١/ ٣٠٠.
(٧) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (تابوا وأنابوا). والمثبت من (ج).
(٨) حيث إن هناك أقوال أخرى منها:
لم يواقعوا الذنب إذا همُّوا به. قاله الحسن، ونُسب لمجاهد، وليس هو في تفسيره.
- وقيل: السكوت على المعصية، وترك الاستغفار منها. قاله السدي، وعطاء الخراساني.
انظر: "الجزء الذي فيه تفسير القرآن" ١٠٢، و"تفسير الطبري" ٤/ ٩٧، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٦٦، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٠ب، و"النكت والعيون" ١/ ٤٢٤.
604
أنه تعقب (١) قوله: ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ فوَصَفَ الذَّاكرَ بأنه غير مُصِرٍّ (٢). ورُوِيَ عن [النبي] (٣) - ﷺ - أنه قال: "ما أصَرَّ مَن استَغْفَرَ، وإنْ عادَ في اليوم سبعينَ مَرَّةً" (٤).
(١) في (ج): (يعقب).
(٢) انظر توجيه هذا الترجيح في: "تفسير الطبري" ٤/ ٩٨.
(٣) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ج).
(٤) الحديث من رواية أبي بكر الصدِّيق (أخرجه: أبو داود في "السنن" رقم (١٥١٤). كتاب الصلاة. باب في الاستغفار، والترمذي في "السنن" رقم (٣٥٥٩). كتاب الدعوات. باب: ١٠٧. وقال: (هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث أبي نُصَيْرة، ليس إسناده بالقوي).
وأخرجه أبو بكر المروزي في "مسند أبي بكر" ١٨٦ رقم (١٢١)، (١٢٢)، والشهاب القضاعي في "مسنده" ٢/ ١٣رقم (٧٨٨)، والطبري في "تفسيره" ٤/ ٩٨، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٧٦٦. والبيهقي في "السنن" ١٠/ ١٨٨، والبغوي في "شرح السنة" ٥/ ٨٠ (١٢٩٧)، وفي "تفسيره" ٢/ ١٠٧.
وأورده الغزالي في "الإحياء" ١/ ٣١٢. وذكر الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" نَفْسَ قول الترمذي السابق في الحديث، مما يدل على موافقة الحافظ العراقي للترمذي في تضعيف الحديث.
وأورده التبريزي في "مشكاة المصابيح" ٢/ ٧٢٣ رقم (٢٣٤٠)، وابن كثير في "تفسيره" ١/ ٤٣٩ وزاد نسبة إخراجه إلى أبي يعلى، والبزار.
وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٣٩ وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، والبيهقي في "الشعب". وأورده في: "الجامع الكبير" ١٥/ ١٩٦٣ رقم (١١١٧)
وزاد نسبة إخراجه إلى ابن السني في "عمل اليوم والليلة" وأورده في: "الجامع الصغير" (انظر: "فيض القدير" ٥/ ٥٣٨) ورمز له بالضعف، وكذا ضعفه الألباني في ضعيف "الجامع الصغير" ٥/ ٨٢ (٥٠٠٤).
وفي سند الحديث: (.. عثمان بن واقد، عن أبي نصيره، عن مولى لأبي بكر عن أبي بكر..).
قال الغَماري: (وقال البزَّار: لا نحفظه إلا من حديث أبي بكر بهذا الطريق، وأبي نصيرة وشيخه لا يعرفان. انتهى. قلت: أما أبو نصيرة، فمعروف، اسمه: مسلم بن عبيد. قال أبو طالب عن أحمد: ثقة وقال ابن مَعِين: صالح. وذكره ابن حِبَّان في: الثقات، وقال: الأزدي: ضعيف. ومولى أبي بكر، اسمه: أبو رجاء، ولم اقف فيه على جرح ولا تعديل، إلا قول البزار المتقدم: إنه مجهول. وقد قال الزيلعي: إن جهالته لا تضر، إذ يكفيه نسبته إلى الصديق. وعثمان بن واقد، وثقه ابن معين..). "فتح الوهاب بتخريج أحاديث الشهاب" ٢/ ٥٤ - ٥٥.
وقال ابن كثير -بعد أن ذكر نحو القول السابق-: (فهو حديث حسن). "تفسيره" ١/ ٤٣٩.
605
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ قال عطاء (١): يعلمون أنَّ اللهَ يُعذِّب على الإصْرارِ.
وقال ابن عباس (٢)، والحسن (٣)، ومقاتل (٤)، والكلبي (٥): وهم
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) قوله، في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٠ ب، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٠٧. وورد في "زاد المسير" ١/ ٤٦٤ و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢١٢، عنه وعن الحسن: (وهم يعلمون أن الإصرار يضر، وأن تركه أولى من التمادي).
(٣) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٠ ب، و"البغوي" ٢/ ١٠٧، و"القرطبي" ٤/ ٢١٢.
(٤) قوله في "تفسيره" ١/ ٣٠٢، و"زاد المسير" ١/ ٤٦٤.
(٥) قوله في "تفسير الكلبي" ٣/ ١٢٠ ب، و"البغوي" ٢/ ١٠٧، و"القرطبي" ٤/ ٢١٢.
606
يعلمون أن الذي أَتَوْهُ معصية.
وقال الحسين بن الفَضْل (١): وهم يعلمون أنَّ لهم رَبًّا يغفر الذنوب، وكان هذا من قوله- عليه السلام-: "من أذنب ذَنْبًا، وعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يغفر الذنوبَ، غُفِرَ له وإنْ لم يَستَغْفِر" (٢).
١٣٦ - قوله تعالى: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ مختصر المعنى (٣): ونِعْمَ أجْرُ العاملين؛ المغْفِرَةُ. فحُذِفَ؛ لدلالة ما قبله عليه.
١٣٧ - قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ أصل (٤) (الخُلُوِّ) -في
(١) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢١ أ، و"البغوي" ٢/ ١٠٧، و"القرطبي" ٤/ ٢١٢.
(٢) الحديث: لم أقف على من أخرجه بهذا اللفظ، وقد أورده الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٢١ أ. ولم يسنده.
وقد ورد حديث آخر بنفس معنى هذا الحديث، ولفظه: "من أذنب ذنبًا، فعلم أن الله قد أطَّلَعَ عليه، غفر له وإن لم يستغفر". أورده الغزالي في "إحياء علوم الدين" ١/ ٣١٢. قال الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود، بسند ضعيف).
وهناك حديث آخر قريب منه، من رواية أنس رضي الله عنه، ولفظه: "من أذنب ذَنْبًا، فعلم أن له رَبًّا إن شاء أن يغفر له غفر له، وإن شاء أن يعذِّبَه عذبه، كان حقًا على الله أن يغفر له".
أخرجه الحاكم في "المستدرك" ٤/ ٢٤٢، وقال: (حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، وأخرجه أبو نعيم في "حِلية الأولياء" ٨/ ٨٢٦.
وفي سنده عندهما: جابر بن مرزوق المكي. قال الذهبي في تعليقه على تصحيح الحاكم له: (قلت: لا والله، ومَنْ جابر؛ حتى يكون حُجَّة؟ بل هو نَكِرة، وحديثه مُنْكَر).
(٣) في (ب): (معناه).
(٤) (أصل): ساقطة من (ج).
607
اللغة-: الانفراد. والمكان الخالي (١): المنفرد عن الساكن. والخَلِيَّةُ من النُوْقِ: التي ذُبح ولَدُها، فَخَلَت عن الوَلَدِ (٢).
ويستعمل في الزمان، والقُرُون، بمعنى: المُضِيِّ، لأن ما مضى انفرد عمَّا يأتي بعده. فالأيَّام الماضية: التي انفردت بالمُضِيِّ عن غيرها، كذلك الأمَم الخالية (٣).
والسُّنَنُ: جمع: سُنَّة (٤). والسُّنَّة (٥): الطريقة المستقيمة (٦). ويقال للخط الأسود على مَتْنِ الحِمَار: سُنَّة.
و (سَنَّ اللهُ سُنَّةً)؛ أي: بَيَّنَ طريقًا قويمًا. ويقال: (هذه سُنَّةْ اللهِ)؛ أي: أمْرُهُ ونَهْيُهُ وحُكْمُهُ. و (سُنَّةُ النبي - ﷺ -): طريقته.
(١) في (ج): (الخال).
(٢) في كتاب "العين": (والخَلِيَّة: الناقة التي خلت من ولدها، ورَعَت ولدَ غيرها. ويقال: هي التي ليس معها ولد) ٤/ ٣٠٨ (خلو). وذكر الأزهري أنها التي ينحر ولدها عمدًا؛ ليدوم لبَنُها، فتُستَدَرَّ بِخُوارِ غيرها، أو التي يُجَرُّ ولدُها مِن تحتها، ويُجعَل تحت أخرى، وتُخلى هي للحلب. انظر: "التهذيب" ١/ ١٠٧٤ (خلو). وانظر المعاني السابقة لـ (خلو) في المصدر السابق ١/ ١٠٧٤، و"المقاييس" ٢/ ٢٠٤.
(٣) انظر: (خلو) في "التهذيب" ١/ ١٠٧٤، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٢٩٧.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٩٩.
(٥) من قوله: (والسنة..) إلى (.. قويما): نقله بنصه عن "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٨٠ (سنن). وانظر: "الزاهر" ٢/ ٣٥٢، و"اللسان" ٤/ ٢١٢٥ (سنن).
(٦) قال ابن الأنباري في: "الزاهر" ٢/ ٣٥٢: (وهي مأخوذة من: (السَّنَن)، وهو: الطريق. يقال: (خذ على سَنَنِ الطريق، وسُننَهِ، وسُنُنه).. أي: وسطه وجادته). وقال: (ثم تستعمل السن في كل شيء يراد به القصد).
608
والسُّنَّةُ (١): المِثالُ المُتَّبَعُ، والإمام المُؤتَمُّ به. يقال: (سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، و [سَنَّ] (٢) سُنَّةً سيِّئَةً): إذا عمل عملًا اقتُدِيَ به (٣)، مِن خيْرٍ أو شَرٍّ.
قال لَبِيد:
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّت لهمْ آباؤُهُمْ (٤) ولِكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإمَامُها (٥)
واختلفوا في اشتقاق (السُّنَّةِ):
فقال بعضهم: هي (فُعْلَة)، من: (سَنَّ الماءَ، يَسُنُّهُ): إذا والَى صَبَّهُ. والسَّنُّ: صَبُّ الماءِ، والعَرَقِ، وغيره (٦). قال زُهَيْر:
(١) من قوله: (والسنة..) على نهاية بيت الشعر (.. وإمامها): نقله -بتصرف يسير- عن: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٠.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٠٠.
(٣) في "تفسير الطبري" اتبع عليه.
(٤) في (أ): (آبائهم)، وفي (ب): (آبائهم). والمثبت من (ج)، ومن مصادر البيت.
(٥) البيت في: ديوانه: ٣٢٠، وورد منسوبًا له في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٠، و"جمهرة أشعار العرب" (١٣٧)، و"الزاهر" ٢/ ٣٥٢، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ٥٩٣، و"تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٦، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢١ ب، و"شرح المعلقات السبع" للزوزني ٢٥١، و"شرح القصائد العشر" للتبريزي ١٧٣، و"اللسان" ١/ ١٣٤ (أمم)، و"الدر المصون" ٣/ ٣٩٩.
والبيت من معلقته. وقد تقدم هذا البيت أبياتٌ يذكر فيها قومه، ويذكر أنَّ مِن قومه مَن لهم فضائل متعددة، ومكارم وجلائل من الأعمال متنوعة. وفي هذا البيت يقول: إن هؤلاء الذين ذكرتهم وأشرت إليهم هم من معشر فيهم هذه العادات والفضائل سنة قديمة متَّبعة، سنَّها لهم آباؤهم فتوارثوا عنهم، ولكل قوم سنة، وإمامها؛ أي: مِثَال يُحتَذى ويُسَارُ على طريقته.
(٦) قال ابن السكيت: (وكل صبٍّ سهل، فهو: سَنّ). "إصلاح المنطق": ٣٧٨. وانظر هذا المعنى في: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" لليزيدي: ٢٧٠، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٧٧ (سنن)، و"غريب الحديث" للخطابي ١/ ٤٣٨ - ٤٣٩، و"مجالس ثعلب" ٢/ ٣٥٢، و"الصحاح" ٢١٤١ (سنن)، و"المقاييس" ٣/ ٦٠، و"اللسان": ٤/ ٢١٢٦ (سنن).
609
تعودها الطرادَ (١) فَكلَّ (٢) يومٍ يُسَنُّ على سَنَابِكِها قُرُونُ (٣)
أي: يُصَبُّ عليها دُفَعٌ (٤) من العَرَقِ. يريد: أنهم يُضَمِّرُونها.
شُبِّهَ فِعْلُ النبي - ﷺ -، الذي كان يأتيه مَرَّةً بعد أخرى، بالماءِ المَسْنُون؛ وهو (٥): المصبوب صَبًّا مُتَوَالِيًا. فهي (فُعْلَة) بمعنى: (مفعول)،
(١) في (ب): مطرد.
(٢) في (ج): وكل.
(٣) البيت في: "شرح ديوانه" ص١٨٧، ورد منسوبا له في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٨٠ (سنن)، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٧٧ (قرن)، و"الدر المصون" ٣/ ٤٤٠، و"اللسان" ٤/ ٢٥٢٢ (صوح)، ٤/ ٢١٢٥ (سنن)، ٦/ ٣٦٠٩ (قرن).
ورد في كل المصادر السابقة: (نُعَوِّدُها) -بالنون-. وورد الشطر الأول في الديوان، و"اللسان" ٦/ ٣٦٠٩ (قرن): (تُضَمَّر بالأصائل كل يوم..). وورد في الديوان و"اللسان" (تُسَنُّ) -بالتاء-.
الطِّرَاد: هو عَدْوُ الخيل، وتتابعها. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٦٥٣ (طرد).
السَّنابِك: جمع: سُنْبُك، وهو: طرف الحافر في الفرس. انظر: "كتاب الفرق" لابن فارس ٦٣، و"القاموس" ٩٤٤.
والقُرُون: جمع: قَرْن، وهو: الدُّفْعَة من العَرَق. وقال أبو عمرو الشيباني: (القرن: العرق). كتاب الجيم، له: ٧٠. وانظر: "اللسان" ٦/ ٣٦٠٩ (قرن).
يقول: إننا نعوِّدها الجري في كل يوم، حتى يسيل عرقها، ويصل إلى سنابكها؛ مبتغين بذلك أن تكون ضامرة، خفيفة الجسم.
(٤) في (أ)، (ب)، (ج): رسمت الدالُ فيها قريبًا من الراء. والمثبت من كتب اللغة وهو الصواب. والدُّفَع: جمع: دُفْعَة. وهي: الدَّفْقَة المنصبة بمرَّة انظر: "القاموس" ٧١٥ (دفع).
(٥) (أ)، (ب): (وهي)، والمثبت من (ج). وهو الصواب؛ لأن الضمير يعود على الماء المسنون.
610
كـ (الغُرْفَة) (١) من الماء وأشباهها. فَمَا رَسَمَهُ النبي - ﷺ -: (سُنَّة)، و (مسنون).
ويجوز أن يكون من قولهم: (سَنَنْتُ النَّصْلَ والسِّنَانَ، أسُنُّهُ سَنًّا)، فهو (مَسْنُون): إذا أحْدَدْتُهُ على المِسَنِّ (٢). فالفعل (٣) الذي كان تهذيبُه منسوبًا إليه، سُمِّيَ (سُنَّة)؛ على معنى: أنه (مَسْنُون).
ويجوز أن يكون من قولهم: (سَنَّ الإِبِلَ): إذا أحْسَنَ رِعْيَتَها (٤). فالفعل الذي كان النبي - ﷺ - يتولَّى رِعايَتَه وإدامَتَه مِن العبادات سُمِّيَ: (سُنَّةً ومسنونًا)؛ ذهابًا إلى أنَّه كان يَتَوَفَّرُ عليها بإقامةِ شروطِها، تَوَفُّرَ الرَّاعِي على الإِبِلِ بإِحْسانِ رَعْيَها. هذا كلامُ أهلِ اللغة في (السُّنَةِ).
فأما معنى الآية وتفسيرها؛ فقال أكثر المفسِّرين (٥):
معنى الآية: قد مضت منِّي-فيمن (٦) [قد] (٧) كان قبلكم، من الأمم
(١) في أ: قد تُقرأ: (الغَرْفة) -لقرب رسم الفتحة كالضمة-. وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. وما أثبته هو الصواب؛ لأن (الغَرْفة) لا دليل فيها على ما أراد المؤلف. أما (الغُرْفَة) فهي من: (غَرَفَ الماء يَغرِفُه، وَيغرُفه). و (اغترَفَهُ): أخذه بيده. واسم المَرَّة منه: (غَرْفَة). و (الغِرْفة) -بكسر الغين-: هيئة الغَرْفِ. و (الغُرفَة) بضم "العين": بمعنى: المغروف. وهي المراد بالتمثيل هنا. انظر: "القاموس" (٨٤١) (غرف).
(٢) انظر: (سنن) في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٧٦، و"اللسان" ٤/ ٢١٢٣.
(٣) في (ج): (والفعل).
(٤) قال ابن السكيت: (ويقال: (سَنَّ الإبل، يَسُنُّها، سَنًّا): إذا أحسن رِعْيَتها، حتَّى كأنه صَقَلَها). "إصلاح المنطق" ٥٤. وانظر: (سنن) في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٧٧، و"الصحاح" ٢١٣٩، و"اللسان" ٤/ ٢١٢٣.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٣٠٣، و"تفسير الطبري" ٤/ ٩٩، ١٠٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٦٨، و"بحر العلوم" ١/ ٣٠٠، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢١ ب.
(٦) في (ج): (في من).
(٧) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج).
611
الماضية المكذِّبَةِ الكافرة-، سُنَنٌ؛ بإمهالي واستدراجي إيَّاهم، حَتَّى يبلغَ الكتابُ فيهم أجَلِي الذي أجلته، في إهلاكهم واستئصالهم، وبَقِيَت لهم آثارٌ في الدنيا، فيها (١) أعظمُ الاتِّعاظِ والاعتبار، فَسِيرُوا في الأرض فانظروا كيف كان [آخِرُ أمْرِ] (٢) المكذِّبِين منهم.
والمعنى: أنكم إذا سِرْتُم في أسفاركم، عرفتم أخبارَ قومٍ أُهْلِكُوا؛ بتكذيبهم، ورأيتم مصارِعَهم، وما بقي بعدَهم مِن آثارِ مساكنهم، التي [خربت] (٣)، فاعتبرتم، وكنتم على حَذَرٍ بما تَرَون (٤) في غيرِكم مِن المَثُلاتِ (٥) التي نزلت بهم على قبيحِ فِعْلِهم. وهذا في يوم أُحُد، يقول الله: فأنا أمهلهم (٦) [حتى يبلغ أجلي الذي] (٧) أجَّلْتُ في نُصْرَةِ النبي وأوليائِه، وهلاكِ أعدائِهِ.
فـ (السُّنَنُ) -على هذا- جمع: (سُنَّة)، وهي سُنَّة الله عز وجل في [إهلاكِ الأُمَمِ الضالَّةِ] (٨). وهذا تفسير الآية من غير إضمار.
(١) في (ج): فهم.
(٢) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب): (احزا من). والمثبت من (ج).
(٣) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٤) في (أ): (يرون)، والمثبت من (ب)، (ج).
(٥) المَثُلات، والمُثُلات: جمع: مَثُلَة؛ وهي: النقمة والعقوبة التي تنزل بالإنسان، فيجعل مثالًا يرتدع به غيره.
انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" ٧٦٠ (مثل)، و"تذكرة الأريب" لابن الجوزي ١/ ٢٧١، و"تحفة الأريب" لأبي حيان ٢٨٤.
(٦) في (ج): (مهلكهم).
(٧) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٨) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
612
وقال (١) ابن عباس -في رواية عطاء- (٢): قد خلت سُنَنٌ مِن قبلِكُم؛ يريد: شرائعُ.
قال ابن الأنباري (٣): يعني: شرائع مذمومة؛ لأن باقي الآية يدل على ذَمِّها، وإنَّ المُعَاقَبِينَ بالتكذيب كانوا مُسْتَعْمِلِينَ لها، وجارِينَ (٤) على منهاجها، فأقامَ المذكورَ في آخرِ الآيةِ، مقامَ النَّعْتِ لها.
وتلخيص الآية: قد خَلَت مِن قبلكم طرائقُ سَلَكها (٥) قومٌ، فأهْلِكُوا بِمَعاصيهم وخِلافِهم على أنبيائهم.
وقالَ أبو إسحاق (٦): معنى الآية: قد خَلَت [مِن قَبْلِكم] (٧) أهلُ سُنَنٍ، وأصحاب سُنَن في الشَّرِّ، [فحذف المضاف] (٨)، ولم يذكر (في الشَّرِّ) (٩)؛ لأن في الآية دليلًا عليه، فهو (١٠) إهلاك من اتَّبَعَها.
و (العاقبة): آخر الأمر (١١). يقال: (عَقَبَهُ، يَعْقُبُهُ، عَقْبًا، وعُقُوبًا)،
(١) في (ج): (قال) بدون واو.
(٢) أورد هذا القول الثعلبي في: "تفسيره" ٣/ ١٢١ ب، وعزاه لعطاء دون ابن عباس. وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٤٦٥.
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) في (أ): (وجازين). وفي (ب): (وجازبن). والمثبت من (ج).
(٥) في (ب): (سنها).
(٦) في: "معاني القرآن" له ١/ ٤٧٠. نقله عنه بمعناه.
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٨) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٩) في "معاني القرآن" (وقول الناس: فلان على السنة؛ معناه: على الطريقة، ولم يحتاجوا أن يقولوا على السنة المستقيمة؛ لأن في الكلام دليلًا على ذلك).
(١٠) في (ج): (وهو).
(١١) انظر: "القاموس" ص ١١٦ - ١١٧ (عقب).
613
وعاقَبَهُ: إذا (١) جاءَ بعده (٢). فالعاقب (٣): الذي يَخْلُف مَن كان قَبْلَهُ (٤).
ومنه قيل للنبي - ﷺ -: (العاقب) (٥).
١٣٨ - قوله تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ أي: هذا القرآن. عن أكثر المفسِّرِين (٦).
(١) في (ج): (وإذا).
(٢) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ١٤٧، و"اللسان" ٥/ ٣٠٢٢ (عقب).
(٣) في (ب): (كالعاقب). وفي (ج): (والعاقب).
(٤) العاقب: الآخر، والذي هو دون السيد، وقيل: الذي يخلفه، وقيل: الذي يخلف من كان قبله في الخير، وهو -كذلك-: العَقُوب. انظر: (عقب) في: "اللسان" ٥/ ٣٠٢٢، و"القاموس" ص ١١٦.
(٥) ورد ذلك في الحديث الذي رواه جبير بن مطعم رضي الله عنه، عن النبي - ﷺ -، قال: "إن لي أسماء: أنا محمد: وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
أخرجه: البخاري في "الصحيح" (٣٥٣٢). كتاب التفسير. سورة الصف (٦١).
ومسلم في " الصحيح" رقم (٢٣٥٤) كتاب الفضائل. باب في أسمائه - ﷺ -، وفيه: "وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد"، وفي لفظ: "ليس بعده نبي".
وأخرجه الترمذي في "السنن" (٢٨٤٠). كتاب الأدب باب ما جاء في أسماء النبي - ﷺ -. والدارمي في "السنن" (٢٨١٧). وأحمد في "المسند" ٤/ ٨١، ٨٤ (وانظر: "الفتح الرباني" ٢/ ١٨٧ - ١٨٨).
وأخرجه عبد الرزاق في: "المصنف": ١٠/ ٤٤٦ رقم ١٦٩٥٧) وفيه: (قال معمر: قلت للزهري: وما العاقب؟ قال: الذي ليس بعده نبي).
وأخرجه مالك في: "الموطأ" (انظر: "تنوير الحوالك" ٣/ ١٦٢ - ١٦٣). وقال السيوطي عن عبارة (والعاقب: الذي ليس بعده نبي): (وهو مدرج من تفسير الزهري). "تنوير الحوالك" ٣/ ١٦٣.
(٦) ممن قال بذلك: الحسن، وقتادة، والربيع، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل " ١/ ٣٠٣، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٠١، و"زاد المسير" ١/ ٤٦٥.
614
وقال ابن (١) إسحاق (٢): ﴿هَذَا﴾؛ أي: ما ذَكَرْت؛ يعني قولَه: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ [آل عمران: ١٣٧]، أي: هذا (٣) الذي (٤) عَرَّفْتُكم، بيانٌ للناس. قال ابن عباس (٥): يريد: لجميع الخَلْقِ.
﴿وَهُدًى﴾. ذَكَرَهُ بعد ذِكْرِ البَيَان؛ لأن البَيَان: ظُهور المعنى للنَفْسِ (٦)، كائنًا ما كان (٧). والهُدَى: بَيَانٌ لِطَريق الرُّشْد؛ لِيُسْلَكَ دُونَ (٨) طَرِيق الغَيِّ (٩).
وقوله تعالى: ﴿وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ عَمَّ في أَوَّلِ (١٠) الآية، عند ذِكْرِ البَيَان؛ لِيَدُلَّ [على] (١١) أنَّ الخِطَابَ في التكليف، شَامِلٌ لِلمُشْرِكِ والمُسْلِم. وخَصَّ بـ (الهدى)؛ لأنه يهدي بالقرآن مَن يشاء مِن عِبَادِهِ بفضله.
(١) في (أ): (أبي)، وفي (ب)، (ج): (أبو). والصواب ما أثبته.
(٢) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠١، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢١ب، و"زاد المسير" ١/ ٤٦٥.
(٣) في (ج): (هذا القرآن). ولفظة (القرآن) -هنا- مقحمة.
(٤) (الذي): ساقطة من (ج).
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) في (ب): (لليقين).
(٧) انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف": ١٤٩.
(٨) في (ب): (بعد).
(٩) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢/ ٢٢، ٩/ ١٣، و"تفسير الخازن" ١/ ٣٥٥، و"غرائب القرآن" للنيسابوري ٤/ ٧٢.
(١٠) في (أ)، (ب): (تأويل). والمثبت من (ج).
(١١) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
615
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية
عماد البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة آل عمران من آية (١٣٩) إلى آخر السورة
تحقيق
د. أحمد بن صالح الحمادي
سورة النساء من أول السورة إلى آية (٨٣)
تحقيق
د. محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود أ. د. تركى بن سهو العتيبي
الجزء السادس
1
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية
عماد البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة آل عمران من آية (١٣٩) إلى آخر السورة
تحقيق
د. أحمد بن صالح الحمادي
سورة النساء من أول السورة إلى آية (٨٣)
تحقيق
د. محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود أ. د. تركى بن سهو العتيبي
الجزء السادس
2
جامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤٣٠ هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الواحدي، علي بن أحمد
التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت٤٦٨هـ)./ علي بن أحمد الواحدي، محمد بن صالح بن
عبد الله الفوزان، الرياض١٤٣٠ هـ.
٢٥مج. (سلسلة الرسائل الجامعية)
ردمك: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٥ - ٨٦٣ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج٦)
١ - القرآن تفسير... ٢ - الواحدي، علي بن أحمد
أ- العنوان... ب- السلسة
ديوي ٢٢٧. ٣... ٨٦٨/ ١٤٣٠
رقم الإيداع: ٨٦٨/ ١٤٣٠ هـ
ردمك: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٥ - ٨٦٣ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج٦)
3
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
[٦]
4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ

5
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة آل عمران من آية (١٣٩) إلى آخر السورة
تحقيق
د. أحمد بن صالح الحمادي
6
١٣٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ الآية.
قالَ الزُهْرِيُّ (١)، وقتادة (٢)، وابن أبي نَجِيح (٣): هذه الآية تَسْلِيَةٌ مِن الله -تعالى- للمسلمين، لِمَا نالَهُمْ يومَ أُحُد مِنَ القتل والجَرْح.
ومعنى ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾: لا تضْعُفُوا. والوَهْنُ (٤): الضَعْفُ في العَمَلِ، وفي العَظْمِ. يقال: (وَهِنَ (٥)، يَهِن، وَهْنًا)، فهو (واهِنٌ): إذا ضَعُفَ في العمل. و (مَوْهُونٌ) في العَظمِ والبَدَنِ، و (وهِنَ وَهَنًا)، لُغَةٌ (٦). و (أَوْهَنَهُ اللهُ) (٧)، فهو (مَوْهُونٌ)؛ مثل: (أَحَمَّهُ)، فهو (مَحْمُوم)، و (أزْكَمَه) فهو (مَزْكُوم) (٨). ومنه قول طَرَفَة:
(١) في (ج): (الأزهري).
وقول الزهري، في "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٢.
(٢) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٢، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٠.
(٣) قوله هذا يرويه عن مجاهد، وهو في: "تفسير مجاهد" ١٣٦، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٠٢، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٠.
(٤) من قوله: (والوهن..) إلى (.. وهَنا لغة): نقله -بتصرف واختصار- عن: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٦٦ (وهن).
(٥) هكذا جاءت في (أ): (وَهِنَ) -بكسر الهاء-. وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. وفي "التهذيب" (وَهَنَ) -بفتح الهاء- وقد وردت الكلمة في مصادر اللغة بالحركات الثلاث (فتح الهاء وكسرها وضمها). انظر مادة (وهن) في: "الصحاح" ٢٢١٥، و"التاج" ١٨/ ٥٧٩.
(٦) في (أ): (وَهْنًا) بتسكين الهاء وفي (ب)، (ج): مهملةٌ غير مشكولة. والمثبت هو الصواب. انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٦٦ (وهن).
(٧) من قوله: (وأوهنه الله..) إلى نهاية شطر بيت الشعر: (.. فقر): نقله -بتصرف يسير- عن "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٦٧ (وهن).
(٨) انظر (وهن) في: "جمهرة اللغة" ٩٩٦، و"الصحاح" ٢٢١٥ - ٢٢١٦، و"التاج" ١٨/ ٥٧٩.
5
إنَّنِي لَسْتُ بِمَوْهُونٍ فَقِرْ (١)
قال المفسِّرُون: ﴿وَلَا تَهِنُواْ﴾ عن جهاد عدوِّكم، بما نالَكُم مِنَ الهزيمة (٢)، ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ على ما فاتكم من الغَنِيمَةِ (٣)؛ فإنَّكم ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾؛ أي: لكم تكون العاقِبَةُ بالنَصْرِ والظَّفَرِ.
(١) عجز بيت، وصدره:
وإذا تَلْسُنُنِي ألسُنُها
وهو في: ديوانه: ٥٣، وورد منسوبًا له في: "التهذيب" ٤/ ٣٩٦٧ (وهن)، و"الصحاح" ٢٢١٥ (وهن)، و"اللسان" ٦/ ٤٤٥ (فقر)، ٧/ ٤٠٣٠ (لسن)، ٨/ ٤٩٣٥ (وهن).
ومعنى (تلسُنُني)؛ أي: تأخذني بلسانها، يقال: (لَسَنَه لَسْنًا): إذا أخذه بلسانه. انظر: "اللسان" ٧/ ٤٠٣٠ (لسن).
والمَوْهون: هو الذي أصابه وَجَعُ (الواهنة)، وهو وَجَعٌ يصيب العِرْق المستبطن حبْل العاتق إلى الكتف. انظر: "التهذيب" ٤/ ٣٩٦٧ (وهن).
والفَقِر: الذي يشتكي من فَقَارِهِ. انظر: "اللسان" ٦/ ٤٤٥ (فقر).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٢ - ١٠٣، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧١.
(٣) في (ج): (القسمة). لم أقف على من قال بأنهم نُهُوا عن الحزن على ما فاتهم من الغنيمة. وقد ذكر هذا القول الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٢٢ ب. وصدَّره -مع القول السابق- بقوله: (وقيل:..). ولم يبين القائل.
وأورده ابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٤٦٦ وقال: (ذكره علي بن أحمد النيسابوري) يعني: المؤلف (الواحدي).
ويرى مقاتل أنهم نُهوا عن الحزن على ما أصابهم من هزيمة يوم أحد. انظر: "تفسيره" ١/ ٣٠٣. ويرى الماوردي أنهم نهوا عن الحزن على ما أصاب النبي - ﷺ - من شَجِّه، وكَسْرِ رَبَاعِيَتِهِ. انظر: "النكت والعيون" ١/ ٤٦٦.
وقيل: نُهُوا عن الحزن على مَن قُتِل من إخوانهم من المسلمين. ونسبه ابن الجوزي لابن عباس. انظر: "زاد المسير" ١/ ٤٦٦.
6
قال ابن عباس (١): يريد: في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يعني: أَنَّ الإيمانَ يُوجِب ما ذكر مِن تَرْكِ الوَهْنِ والحُزْن. فقيلَ: إنْ كُنتم مؤمنين؛ فَلا تَهِنوا ولا تحزنوا؛ أي (٢): من كان مؤمنًا فيجب ألّا (٣) يَهِنَ، ولا يَحْزَن؛ لثقته باللهِ -جل وعَزَّ-. وإلى هذا أَشَار ابنُ عبَّاس، فقال (٤) في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يريد: مُصَدِّقِينَ؛ تحريضًا مِنَ اللهِ تعالى لهم.
وفيه وجْه آخر، وهو: أن (٥) المعنى: إنْ كنتم مؤمنين بِصِدْق (٦) وَعْدِي إيَّاكُمْ بالنَصر؛ حتى تَسْتَعْلُوا على عَدُوِّكُم، وتَظْفَرُوا بِبُغْيَتِكُم.
وفي قوله: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ وجهان:
أحدهما: أنه في موضعُ الحَال؛ كأنَّهُ قيل: لا تَحْزَنوا عَالِينَ؛ أي: منصورين على عَدُوِّكُم (٧) بالحُجَّةِ (٨).
الثاني: أنه اعتراضٌ بِوَعْدٍ مؤكد؛ كأنه قيل: ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا إنْ كُنْتُم مؤمنين، وأنتم الأَعْلَوْن (٩).
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) في (ج): (إلى).
(٣) في (ب): (أن لا).
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) (أن): ساقطة من (ج).
(٦) في (ج): (لصدق).
(٧) (على عدوكم): ساقطة من (ج).
(٨) انظر: "البيان"، للأنباري ١/ ٢٢٢، و"الدر المصون" ٣/ ٤٠١.
(٩) انظر: "الفريد في إعراب القرآن المجيد" ١/ ٦٣٣.
7
وفي هذه الآية إشارَهٌ إلى أنَّ (١) مَنْ كان مؤمنًا، لا يَنْبَغِي له أن يَضْعُفَ لِمَا يَنَاله مِن مُصِيبَةٍ في الدُّنْيَا، بل يجب أن يسكن نفسُهُ، وينتفي حزْنُهُ بما هو عليه مِن الاستعلاء، والفوز بالأُمْنِيَةِ في العاقِبة.
١٤٠ - قوله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ الآية.
مَعْنَى ﴿يَمْسَسْكُمْ﴾: يُصِبْكم (٢). يقال: (مَسَّهُ أَمْرُ كذا)، [أو] (٣) (مَسَّتْهُ الحَاجَة)؛ أي: أصابته. وتأويله: لَصِقَ بِهِ، وأصابَهُ في ذاته (٤).
و (القَرْحُ): قُرِئ بِضَمِّ القَافِ، وفَتْحِه (٥).
قال أهل اللغة (٦): هُمَا لُغَتَانِ في عَضِّ السِّلاح ونَحْوِهِ، مِمَّا يَجْرَحُ [الجَسَدَ] (٧)، مثل: (الوَجْد، والوُجْد) (٨)، و (الضَّعْف، والضُّعْف)، وبابه (٩).
(١) أن: ساقطة من (ج).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٤.
(٣) (أو): في (أ)، (ب): و. والمثبت من (ج).
(٤) أصل (المَسِّ): لمس الشيء باليد. ثم تُوُسِّعَ فيه، واستعير للتعبير عن معانٍ عدَّة. انظر: (مسس) في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٩٤، و"اللسان" ٧/ ٤٢٠١.
(٥) القراءة بضم القاف في (قُرْح)، هي من رواية أبي بكر عن عاصم، وقراءة حمزة، الكسائي. والقراءة بفتحها (قَرْح)، من رواية حفص عن عاصم، وابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وابن عامر.
انظر: "علل القراءات" ١/ ١٢٦، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٧٩، و"التبصرة" ٤٦٤.
(٦) هو قول الليث. ذكره الأزهري في: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٨ (قرح).
(٧) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ)، والمثبت من (ب)، (ج).
(٨) يقال: (وَجَدَ الشيءَ، يجِدُه، جِدَةً، ووُجْدًا، ووَجْدًا، ووجودا؛ ووُجْدانًا، وإجْدانًا). وتأتي (الوُجْدُ) و (الوَجْدُ)، بمعنى: اليَسَار، والسَّعَة. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٧٧٠ (وجد).
(٩) ومنها: (الكَرْه والكُرْه)، و (الفَقر والفُقْر)، و (الدَّف والدُّفُّ)، و (الشَّهْد والشُّهْد)،=
8
قال الفراء (١): وكأن (القُرْح): أَلَمُ الجِرَاحات، وكأن (القَرْح): الجراحات (٢) بأعيانها.
وقال الزجاج (٣): هما عند أهل اللغة بمعنى واحد؛ ومعناهما: الجراح وألَمُهَا. يقال: (قَرَحَهُ): إذا جَرَّحهُ (٤).
قال الشاعر:
لا يُسلِمُونَ قَرِيحًا حَلَّ وَسْطَهُمُ يَوْمَ اللِّقَاءِ ولا يُشْوُونَ مَنْ قَرَحُوا (٥)
= و (الجَهْد والجُهْد)، و (الوَسْع والوُسْع).
انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٣٤، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٧٩.
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٤. نقله عنه بنصه.
(٢) (وكأن القرح الجراحات): ساقط من (ج).
وفي "معاني القرآن" الجرح -بدلًا من: الجراحات-.
(٣) في "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٠. نقله عنه بنصه.
(٤) هكذا جاءت في (أ): (جَرَّحَه). وفي (ب)، (ج): مهملة من علامات الشكْل. والأصوب: (جَرَحَه) بدون تشديد في الرَّاء. وهكذا وردت في مصادر اللغة.
قال ابن السكيت: (قَرَحَه، يَقْرَحُهُ، قَرْحًا: إذا جَرَحَه). "إصلاح المنطق" ص ٨٠، ١٩٥. وانظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٨ (قرح)، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٦٦٥ (قرح)، و"الدر المصون" ٣/ ٤٠٣.
(٥) البيت للمتنخل الهذلي. وقد ورد منسوبًا له في: "إصلاح المنطق" ٨١، ١٩٥، و"شرح أشعار الهذليين" ١٢٧٩، و"الأمالي" للقالي ١/ ٢٨، و"الصحاح" ٣٩٥ (قرح)، و"اللسان" ٦/ ٣٥٧١ (قرح).
وورد غير منسوب في: كتاب "المعاني الكبير" ٩٠١، و"جمهرة اللغة" ٥٢٠ (قرح). وقد وردت روايته في "الجمهرة":
لا يُسْلِمون قَرِيحا كان وسْطَهُمُ تحت العَجَاج ولا يشوون من قرحوا
القريح: الجريح. و (لا يُشْوُون مَن قَرَحُوا): يقال: (أشواه): إذا أصاب (شَوَاهُ)، وهي: أطرافه، وأخطأ مقتله. ومعنى البيت: أن من جُرِح منهم حاموا عليه حتى يستنقذوه، ولا يخطِئون مقتل من جرحوه. انظر: "المعاني الكبير" ٩٠١، و"الجمهرة" ٥٢٠ (قرح)، و"اللسان" ٦/ ٣٥٧١ (قرح).
9
و (قَرِحَ الرَّجُلُ، يَقْرَحُ): إذا صَارَ قَرِيحا (١).
قال المفسِّرُون (٢): يقول: إنْ أصابكم جُرْحٌ يوم أُحُد، فقد أصابَ المشركين (٣) مثْلُهُ يومَ بَدْر.
وقوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ﴾.
قال ابنُ عبَّاس (٤): يعني: أيَّام الدُّنْيَا، نُداوِلُها [بَيْنَ النَّاس] (٥). [قال الحَسَنُ] (٦)، وقَتادة (٧)، والرَّبِيع (٨)، والسُّدِّي (٩): نصرفها مَرَّةً
(١) انظر: المعاني السابقة لـ (قرح) في: "إصلاح المنطق" ٨١، ١٩٥، و"جمهرة اللغة" ٥٢٠ (قرح)، و"التهذيب" ٣٧ (قرح)، و"المخصص" ٥/ ٩٠.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٣٠٣، و"الطبري" ٤/ ١٠٤، و"بحر العلوم" ١/ ٣٠٤، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٢ ب، و"النكت والعيون" ١/ ٤٢٦.
وقد رجح هذا القول: البغوي، والقرطبي، والنسفي، والشوكاني، وصديق خان.
انظر: "تفسير البغوي" ٢/ ١١٠، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢١٧، و"تفسير النسفي" ١/ ٨٤، و"فتح القدير" ١/ ٥٨٤، و"فتح البيان" ٢/ ١٣٧.
(٣) في (ب)، (ج): (المشركون).
(٤) لم أقف على مصدر قوله هذا. وُيفهم من قوله -هنا- عموم أيام الدنيا، وما فيها من مداولة بين الناس، من عُسْر وُيسْر، وفَرَح وغَمِّ، بينما وردت آثار أخرى عنه، تخصص هذه الأيامَ بما حدث يوم بدر واحد، حيث كانت الدولة للمسلمين على المشركين يوم بدر، وللمشركين على المسلمين يوم أحد. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٢.
(٥) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٦) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
وقول الحسن، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٤ - ١٠٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٣، و"النكت والعيون" ١/ ٤٢٦.
(٧) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٥، و"النكت والعيون" ١/ ٤٢٦.
(٨) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٣.
(٩) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٥.
10
لِفِرْقَةٍ ومَرَّةً عليها.
والدَوْلَةُ: الكَرَّةُ (١). و (أَدَالَ اللهُ فُلانًا مِن [فُلان): إذا جَعَلَ الكَرَّةَ لَهُ عليه؛ يريد] (٢): أَنَّهُ أدالَ المسلمينَ مِنَ المُشْرِكين يَوْمَ بَدْر، وأدال المشركين مِنَ المسلمين يوم أُحُد.
وقوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾. اختلفوا في العامل في اللام، فذكروا فيه وجهين:
أحدهما: أن اللام صِلَةٌ لِفِعْلٍ مُضْمَر (٣)، يدل عليه أولُ الكلام،
(١) (الدَّوْلَة) -بفتح الدال-، أو (الدُّوْلَة) -بضم الدال-: أصل معناهما: تَحَوُّل شيء من مكان إلى مكان. يقال: (تداولوا الشيء بينهم): إذا صار مِن بعضهم إلى بعض. وتستعمل (الدوْلَة) -بفتح الدال وبضمها-: لانقلاب الزمان من حال البؤس، إلى حال السرور. وكذلك في العُقْبَة في المال، أي: النَّوبة فيه.
ويرى بعضُ أهل اللغة أن بينهما فرقًا، فقالوا: الدَّولة -بالفتح-: تستعمل في العرب خاصة، وهو أن تدال إحدى الفئتين على الأخرى. وبالضم: في المال خاصة. يقال: (صار الفيءُ دوْلة بينهم)؛ أي: يتداولونه مرَّة لهذا ومرة لهذا. وقيل: بالفتح: للفعل، وهو الانتقال من حال إلى حال. وبالضم: اسمٌ للشيء المتداول بعينه. وقيل: بالفتح: أن ترجع الكرة للجيش المهزوم، فينتصر على من هزمه، فتكون له الدَّوْلة. وبالضم: في الملْك والسنن التي تُغير وتُبدل عن الدهر. انظر (دول) في: "التهذيب" ٢/ ١٢٤٨، و"المقاييس" ٢/ ٣١٤، و"اللسان" ٣/ ١٤٥٥، و"التاج" ١٤/ ٢٤٥.
(٢) ما بين المعقوفين ورد مكانه في سورة الأصل: العبارةُ التالية: (عن خلق وتأتي مثله). وهي عِبَارَةٌ مكانها في الصفحة التي تليها في الأصل، ولكن نظْرًا لوجود خرم في الأصل في هذا الموضع، فقد ظهرت هذه العبارة في المصورة في هذه الصفحة. وقد أثبتها من (ب)، (ج).
(٣) في (ب): (لمضمر). -بدلًا من: لفعل مضمر-.
11
بتقدير: ولِيَعلم اللهُ الذين آمنوا؛ نُدَاولها (١).
الوجه الثاني: أن العامل فيه: ﴿نُدَاوِلُهَا﴾ (٢) المذكور؛ بتقدير: نداولها بين الناس؛ ليظهر أمرهم، وليَتَبَيَّنَ (٣) أعمالَهم، وليعلم الله الذين آمنوا.
فَلَمَّا انكشف معنى اللّامِ المُضمَرة في (لِيظهر)، و (لِيَتبيَّن)، جرت مجرى الظاهرة؛ فأمكن (٤) العطْفُ عليها. [و] (٥) الوجهان، ذكرهما ابنُ الأنباري (٦)، وغيرُهُ مِن أهلِ النَّحْو.
و (العِلْمُ) إذا لم يتعلق بالذَّاتِ، اقتَضَى مَعْلُومَيْنِ؛ كما تقول: (عَلِمْتُ زَيْدًا عاقلًا، وَجَوادا). فلا (٧) تقول: (عَلِمْتُ زَيْدًا) فقط؛ إلّا أن تريد به: عَرَفْتَهُ، وعَلِمْتَ مَنْ هُوَ (٨).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٦.
(٢) في (ج): (تداولها).
(٣) ورد هذا النص في: "الدر المصون" ٣/ ٤٠٥ ينقله عن ابن الأنباري، وفيه: (ولِيُظْهِرَ أمرَهم، ولِنبيِّن أعمالهم).
(٤) في (ب): (وليكن).
(٥) غير واضحة في (أ)، وفي (ب): (بـ). والمثبت من (ج).
(٦) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده السمين الحلبي في "الدر" ٣/ ٤٠٥.
(٧) في (ج): (ولا).
(٨) أي: أن العِلْمَ -هنا- متعلق بذاته. ويجوز أن يتعدى (عَلِمَ) إلى مفعول واحد؛ وذلك إذا كان بمعنى (عَرَف)، أو أن يكون العِلْمُ متعلقًا بالذوات دون الأحوال. فأما إذا كان بمعنى (عرف) فيرى السمينُ الحلبيُّ أنه يُشْكِلُ في هذا الموضع؛ لأن الله -تعالى- لا يجوز أن يوصف بذلك، وإنما يوصف بالعلم؛ لأن المعرفة هي: إدراك الشيء على ما هو عليه، وهي مسبوقة بجهل، أو نسيان حاصل بعد العلم.=
12
والمفعول الثاني -ههنا- محذوف. والتقدير: وَلِيَعلمَ اللهُ الذين آمنوا [مُمَيَّزينَ] (١) بالإيمان مِنْ غيرهم؛ أي: إنما يجعل الدَّولةَ للكفارِ على المسلمين، لِيُميِّزَ (٢) [المؤمن] (٣) المخلص (٤)، مِمَّن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبةٌ.
ويحتمل أن يكون (العِلْمُ) -ههنا- بمعنى: معرفة الذات؛ والتأويل: وَلِيَعلمَ اللهُ الذين آمنوا بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوِّهم؛ أي: لِيَعرِفَهم بأعيانهم. إلَّا أنَّ سَبَبَ العِلْم، -وهو: ظهور الصبر -حذف ههنا-.
وقال الفراء (٥): هذا في مذهب [(أيّ)] (٦) و (مَنْ)؛ التأويل: ليعلم الله مَن المؤمن، وأيّهُم المؤمن؛ كما قال: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى﴾. وجاز ذلك؛ لأنَّ في (الذي)، وفي الأَلِفِ واللَّامِ تأويل (مَن) و (أيّ)؛ كما قال: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ٣].
= أما العِلْم، فهو: الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع، إذ هو صفة توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض. انظر: كتاب "التعريفات" للجرجاني ١٥٥، ٢٢١، و"التوقيف على مهمات التعاريف" ٥٢٣، ٦٦٦، و"الدر المصون" ٣/ ٤٠٦، و"الكليّات"، لأبي البقاء: ٨٦٨.
(١) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ)، وساقط من (ب). والمثبت من (ج).
(٢) في (ب): (ليتميز).
(٣) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ)، وساقط من (ب). والمثبت من (ج).
(٤) في (ب): (الملخص).
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٤. نقله عنه باختصار، وتصرف يسير. وانظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٦.
(٦) ما بين المعقوفين في (أ) غير مقروء. وفي (ب): (أين). والمثبت من (ج).
13
وتأويل قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، واللهُ تعالى يعلم الشيءَ قبلَ وُجُودهِ، ولا يحتاج إلى سَبَبٍ حَتى يعلم؛ وإنما المعنى: وَلِيَعْلَمَ ذلك واقِعًا منهم.
أي: لِيَقَعَ ما عَلِمَهُ غَيْبًا، مُشَاهَدَةً للناس. والمُجَازاة إنَّمَا تَقَع بِما يعلمه موجودًا كائِنًا، لا (١) بِمَا عَلِمَهُ غَيْبًا (٢). وهذا كقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [محمد: ٣١]. وقد استقصينا ما في هذا عند قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ [البقرة: ١٤٣].
وقوله تعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ أي: وَلِيُكْرِمَ قَوْمًا بالشَّهَادةِ؛ وذلك أنَّ المسلمين تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوَّ، وأنْ يَكُونَ لهم يومٌ كيوم بَدْر، يقاتِلُوا فيه العَدُوَّ، ويَلْتَمِسُوا الشهادة (٣).
والشُّهَدَاء: جمع شَهِيد؛ كـ (الكُرَمَاء)، و (الظُّرَفَاء). والمقتول مِنَ المسلمين بِسَيْفِ الكُفَّار، يُسَمَّى: شهيدًا.
واختلفوا فيه: لِمَ سُمِّيَ شهيدًا؟:
فقال النَضْرُ بن شُمَيْل (٤): الشَّهِيد: الحَيُّ. قال الأزهري (٥): أراه تَأَؤَّلَ قولَ اللهِ جلَّ وَعَزَّ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ
(١) (لا): ساقطة من (ج).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٠ - ٤٧١، و"معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٨٢، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٣٤١، و"البحر المحيط" ٣/ ٦٣.
(٣) من قال ذلك: ابن عباس، ومجاهد، وابن جريج، والضحاك، وقتادة، والربيع، والسدي، وابن إسحاق. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٦ - ١٠٧.
(٤) قوله، في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٤٣ (شهد)، و"اللسان" ٤/ ٢٣٤٨ (شهد).
(٥) قوله، في "التهذيب" ٢/ ١٩٤٣ (شهد). نقل أكثر قوله بنصِّه وتصرف قليلًا في آخره.
14
عِنْدَ رَبِّهِمْ} (١)، كأنَ أرواحَهُم أُحْضرَت (٢) دارَ السَّلام [أحياءً، و] (٣) أرواحَ غيرهم لا يَشهَدها (٤). وهذا قولٌ حَسَنٌ.
وقال ابنُ الأنباري (٥): سُمَّي شهيدا، لأن الله وملائكته شُهُودٌ له. فهو (فَعِيل)، بمعنى: (مَفْعُول له).
وقال قومٌ (٦): سُمُّوا شُهَداء؛ لأنهم يُسْتَشْهَدُونَ يومَ البَعثِ (٧)، مع الأنبياء والصِّدِّيقِينَ على الأمم؛ كما ذَكَرَهُ اللهُ تعالى في قوله: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٣].
قالَ أبو منصور (٨): والشهادة -يومئذ- تكون للأفضل (٩) فالأفضل مِنَ الأُمَّةِ. فأفضلهم مَن قُتِلَ في سبيل الله؛ أَبَانَهم اللهُ من غيرهم -بالفضل الذي يميَّزوا به- مِن جَمَاعَةِ المؤمنين. (١٠) وبَيَّن أنَّهم ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٩]، الآية. ثم يتلوهم في الفضل مَنْ عَدَّه النبيُّ - ﷺ - مِنَ
(١) سورة آل عمران ١٦٩. وبقيتها: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.
(٢) في (ج): (حضرت).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة لازمة من: "تهذيب اللغة".
(٤) وفي "التهذيب": وأرواح غيرهم أخِّرَتْ إلى يوم البَعْث.
(٥) قوله، في: المصدر السابق. نقله عنه بمعناه.
(٦) أورد هذا القول الأزهريُّ في المصدر السابق، ولم ينسبه لقائل.
(٧) في (ب): (بالبعث). بدلًا من: (يوم البعث).
(٨) هو الأزهري، وقوله في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٤٣. نقله عنه بتصرف واختصار.
(٩) في (أ)، (ب): الأفضل. والمثبت من (ج)، و"تهذيب اللغة".
(١٠) وعبارة "التهذيب": ميّزت هذه الطبقة عن الأمة بالفضل الذيَ حازوه.- بدلًا من عبارة المؤلف: (أبانهم.. المؤمنين).
15
المسلمين شهيدا؛ فإنه قال: "المَبْطْونُ شَهِيد (١)، والغرِيق شَهيد (٢) " (٣).
وذَكَرَ -أيضًا- غيرَ هذين. ويدل على هذا ما رُوي أنَّ النَبِيَّ - ﷺ - قال:
(١) في (أ): (شهيدا). والمثبت من: (ب)، (ج)، و"التهذيب"، ومصادر الخبر.
(٢) في (ب): (شهيدا).
(٣) الحديث ورد من رواية جابر بن عتيك، ونصه: (.. فقال رسول الله - ﷺ -: "وما تعدُّون الشهادة؟." قالوا: القتل في سبيل الله. فقال رسول الله - ﷺ -: "الشهداء سَبْعَةٌ، سوى القَتْل في سبيل الله: المَطْعُونُ شهيد، والغَرِقُ شهيد، وصاحبُ ذات الجَنْب شهيد، والمَبْطُونُ شهيد، والحَرِقُ شهيد، والذي يموت تحت الهَدْمِ شهيد، والمرأَة تموت بِجُمْعٍ شهيد".
وقد أخرجه مالك في: "الموطأ" ١٦١ رقم (٣٦) كتاب الجنائز. باب النهي عن البكاء على الميت. واللفظ له.
وأخرجه أحمد في "المسند" ٥/ ٤٤٦ انظر: "الفتح الرباني" ١٤/ ٣٩)، وأبو داود في "السنن" رقم (٣١١١). كتاب الجنائز. باب في فضل من مات في الطاعون. وأخرجها النسائي في "السنن" رقم (١٨٤٦) كتاب الجنائز. باب النهي عن البكاء على الميت. رقم (٣١٩٤) كتاب الجهاد. باب من خان غازيا..
وأخرجه ابن ماجه في "السنن" رقم (٢٨٠٣) كتاب الجهاد. ما يرجى فيه الشهادة، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" رقم (٢٢٦١).
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" ٣/ ٥٦٢ رقم (٦٦٩٥).
وابن حبان في صحيحه ٧/ ٤٦١ رقم (٣١٨٩)، ٤٦٣ رقم (٣١٩٠).
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ١/ ٣٥١ كتاب الجنائز، وصححه ووافقه الذهبي،
والطبراني في "المعجم الكبير" ٢/ ١٩١ رقم (١٧٧٩)، ١٩٢ رقم (١٧٨٠)، و"الأوسط" ٢/ ١٤٢ (١٢٦٥)، والبغوي في "شرح السنة" ٥/ ٤٣٣ رقم ١٥٣٢.
وأخرج الشافعى أوَّلَه في "المسند" ١/ ١٩٩ رقم (٥٥٦)، وكذا البيهقي في "السنن" ٤/ ٦٩ واقتصر على أوَّله.
وقد ورد حديث آخر بنحو هذا الحديث عن أبي هريرة: (الشهداء خمسة:..) وذكر بعضر الأنواع التي وردت في الحديث السابق. =
16
"مالَكُمْ إذا رَأَيتم الرَّجلَ يُخَرِّقُ (١) أغرَاَض الناس، ألآ تُعَرِّبُوا عليه (٢) "؟
= أخرجه البخاري في "الصحيح" (٢٨٢٩). كتاب الجهاد: باب الشهادة سبع سوى القتل، ومسلم في "الصحيح" رقم (١٩١٤) كتاب الإمارة. باب بيان الشهداء. وأحمد في "المسند" ٢/ ٤٤١، ٣١٠، وابن ماجة في "السنن" رقم (٢٨٠٤)، والطيالسي ٣١٦ رقم (٢٤٠٧)، وعبد الرزاق في "المصنف" ٥/ ٢٧٠ رقم (٩٥٧٤).
وانظر أحاديث، وآثارًا أخرى في: "صحيح البخاري" (٥٧٣٣) كتاب الطب. باب ما يذكر في الطاعون، و"مصنف عبد الرزاق" ٥/ ٢٦٩ رقم (٩٥٧٢)، ٢٧١ رقم (٩٥٧٥، ٩٥٧٦، ٩٥٧٧)، و"سنن سعيد بن منصور" ٢/ ٢٣٥ - ٢٣٦ رقم (٢٦١٥، ٢٦١٦، ٢٦١٧)، و"فتح الباري" ٦/ ٤٣ - ٤٤، و"كنز العمال" ٤/ ٤٢١ - ٤٢٤ رقم (١١٢١٣ - ١١٢٣١)، و"الفتح الرباني" ١٤/ ٣٤ - ٣٩.
و (المبطون): الذي مات بداء البطن، كالاستسقاء، ونحوه من العلل. و (المطعون): الذي مات من إصابته بالطاعون. و (المرأة تموت بجُمْع): التي تموت وولدها في بطنها. وقيل: التي تموت بكرًا. و (ذات الجنب): التهاب يصيب غلاف الرئة، ينتج عنه سُعال وحمى، ونخس في الجنب، ويسمى- كذلك (الجُناب).
(١) (يُخرِّق) جاءت في: (أ)، (ب)، (ج) مهملة من الشكل، وفي "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٤٤: (يَخرِق)، خلاف ما جاء في مخطوط التهذيب، كما أشار إلى ذلك محقق التهذيب. وكذا ورد ضبطها في: "اللسان" ٤/ ٢٣٤٨ (شهد)، وما أثبتُّه هو ما استصوبته؛ لأنها وردت في مصادر الخبر (يُخرِّق)، ومن هذه المصادر: أصل مخطوط "تهذيب اللغة"؛ حيث أشار إلى ذلك محقق التهذيب في هامش نفس الصفحة قائلًا: (ضُبط في مُصوَّرة التهذيب بضم أوَّلِه؛ فكأنه يُراد فيها مشدَّد الراء من (التخريق). ولكن المحقق أثبتها (يَخرِق) إما باجتهاد منه، أو اعتمادًا على ما في "اللسان".
وكذا وردت (يُخرَق) في: "غريب الحديث" لابن سلّام ١/ ١٠٢، ٢/ ٢٨، و"الفائق" للزمخشري ٢/ ٤١٤، و"غريب الحديث" لابن الجوزي ٢/ ٧٨، و"النهاية" لابن الأثير ٣/ ٢٠١.
(٢) (تُعَرِّبوا) وردت في (أ)، (ب)، (ج) مهملة من الشكل. ووردت في "تهذيب اللغة" (تُعرِبوا)، وهو خلاف ما ورد في أصل التهذيب كما أشار إلى ذلك =
17
فقالوا: نَخَاف لِسَانَهُ يا رَسُولَ الله. فقال: "ذلك [أدْنَى] (١) أنْ لا تَكُونوا شُهَداء" (٢) معناه: أنكم إذا لَمْ تُعَرِّبُوا على مَن يتناول أعراضَ المسلمين؛ مَخَافَة لِسَانِهِ، لم تَدْخُلُوا في جُمْلَةِ المُسْتَشْهَدِين يومَ القيامة على الأمم التي كَذَّبَتْ أنبياءَها.
= محققه؛ حيث قال: (ضُبطت بتشديد الراء في المصورة).
وكذا وردت بتشديد الراء في مصادر الخبر المشار إليها سابقًا. وهي ما اعتمدت عليه في ضبط الكلمة.
أما في "لسان العرب" ٤/ ٢٣٤٨ (شهد) فقد نقل هذا النص عن الأزهري وفيه: (أنْ لا تَعْزِمُوا عليه).
(١) ما بين المعقوفين زيادة من "تهذيب اللغة"، وبقية مصادر الأثر التالية.
(٢) الأثر، لم أهتد إليه في كتب السنة، وقد أورده: أبو عبيد بن سلّام في: "غريب الحديث" ١/ ١٠٢ من قول عمر - رضي الله عنه -، حيث قال: (وقد روي عن عمر أنه قال:..) وذكره، وفي: ٢/ ٢٨ قال: (وفي حديث عمر: ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل..) وذكره وأشار محقق "غريب الحديث" في هامش: ٢/ ٢٥٢ إلى أنه وردت زيادة في بعض نسخ الغريب فيها سند هذا الأثر، وهو: (.. قال: حدثناه أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن زيد بن صوحان، عن عمر..).
وفي "التهذيب" ٦/ ٧٤: جعله من قول عمر، حيث قال: القوله (..)، وقد أورده الزمخشري في "الفائق" ٢/ ٤١٤، وابن الجوزي في "غريب الحديث" ٢/ ٧٨ وقال: (قال عمر: مالكم..) وذكره، وابن الأثير في "النهاية" ٣/ ٢٠١.
وفي جميع المصادر السابقة التي أوردت الأثر لم يرد فيها قولهم: (.. يا رسول الله..). وقوله: (تُعَرِّبوا عليه)؛ أي: تقبِّحوا قولَه، وتعيبوه، وتَرَدُّوه عليه، وتُفسِدوا عليه كلامَه، وتهجِّنوه.
انظر: "الفائق" ٢/ ٤١٤، و"اللسان" ٥/ ٢٨٦٦ (عرب)، في كتاب "النخل" لأبي حاتم السجستاني ١٠١: (وفي الحديث: (فما عرَّبتم عليه)، أيَ: فما غيَّرتم).
18
وقيل في الشَّهِيد: إنَّه سُمِّيَ (شَهِيدا) (١): لأنه شَهِد الجَنَّة؛ أي: حَضَرَها حين استشهد. فهو على هذا التأويل، بمعنى (٢): (شاهد)، وهو: الحاضر؛ كما يقال: (سميع وسامع)، و (عليمٌ وعالِم) (٣). وهذا قريب مِمَّا قاله ابنُ شميل (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ قال ابن عباس (٥): أي: المشركين.
وفي هذا [إشارة] (٦) إلى أنه إنَّما [يُدِيل] (٧) الكافرين على المؤمنين؛ لِمَا ذَكَرَ (٨)، لا (٩) لأنَّهُ يُحِبُّهم. وإذْ (١٠) أَدَالَ المؤمنين، أدَالَهُمْ نُصْرَةً لهم، ومَحَبَّةً منه إيَّاهم.
وجملة معنى الآية: أنها [تَسْلِيَة] (١١) للمؤمنين [عَمَّا نالَهُم مِنَ
(١) لم أقف على من قال بهذا القول.
(٢) في (أ)، (ب): (معنى). والمثبت من (ج).
(٣) وردت -هنا- عبارة مكررة في (ج)، وهي: (فهو على هذا التأويل).
(٤) أورد ابن حجر في "فتح الباري" هذه الأقوال في سبب تسمية الشهيد بهذا الاسم، وزاد عليها أقوالًا أخرى، ثم قال: (وبعض هذه يختص بمن قتل في سبيل الله، وبعضها يعم غيره، وبعضها قد ينازع فيه). "فتح الباري" ٦/ ٤٣.
(٥) قوله، في "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٤.
(٦) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٧) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب): (يريد). والمثبت من (ج). وهو الصواب.
(٨) أي في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾
(٩) لا: ساقطة من (ج).
(١٠) في (ب)، (ج): (وإذا).
(١١) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
19
الجِرَاح] (١) بِأَنَّ عَدُوَّهم قد نَالَ مِثْلَهُ، وأَنَّ سُنَّةً لَهُ في عِبَادِهِ أنْ يَبْلُوهم مَرَّةً بالخير، ومَرَّةً بالشَّرِّ [كما قال] (٢): ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ (٣)] (٤).
١٤١ - قوله تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: لِيُظْهِرَهم (٥) مِن ذنوبهم، وُيسْقِطَها عنهم. وتأويل (المَحْص) [-في اللغة-: التَّنْقِيَةُ والتَّخْلِيص (٦)] (٧).
قرأت على سَعِيد بن محمد الحِيري، فقلت: أَخْبَرَكم أبو علي الفارسي، عن الزجَّاج، قال: سمعت المبَرِّد يقول: (مَحَصَ (٨) الحبْلُ،
(١) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٢) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٣) سورة الأنبياء: ٣٥. وتمامها: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.
(٤) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٥) هكذا في (أ)، (ب): (لِيُظْهرهم) -بالظاء-. وفي (ج): (ليطهِّرهم) -بالطاء-. وهي أوْلى. إلّا أنَّ الأولَى، وهي (لِيظْهِرَهم) تدخل في المعنى المراد من التمحيص. جاء في "اللسان" (.. وقد أمْحَصَت الشمسُ؛ أي: ظهرت من الكسوف وانجلت) ٧/ ٤١٤٥ (محص).
وقد قال المؤلف -فيما سيأتي- عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [آية: ١٥٤]: (قد ذكرنا للتمحيص ثلاثة معانٍ، عند قوله تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾: التطهير، والكشف، والابتلاء.
وهذا القول يعزز ما جاء في نسخة (ج)؛ لأن التطهير مصدر لـ (طهَّر)، إلا أنِّي آثرت أن أبقِيَ ما في نسختي (أ)، (ب)؛ لأن الكلمة وردت فيهما مضبوطة بالشكل، واضحة، فكأن الناسخ أراد بشَكْلها أن يُنَبِّهنا إلى رسمها.
(٦) في (ب): (والتلخيص).
(٧) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، والمثبت من: (ب)، (ج) و"معاني القرآن"، للزجاج، حيث وردت العبارة فيه.
(٨) هكذا ضبطت في (أ): (مَحَصَ) -بفتح الحاء-. وكذا وردت في "معاني =
20
يَمْحَصُ، مَحْصًا) (١): إذا ذهب زِئْبِرُهُ (٢) حتَّى [يَمَّلِصَ] (٣)
و (حبْلٌ مَحِصٌ، ومَلِصٌ)، بمعنًى واحدٍ (٤).
= القرآن"، للزجاج ١/ ٤٧١. أمّا في (ب)، (ج) فأهمِلَت من الشَّكْل. وفي "التهذيب" ٤/ ٣٣٥٠، و"اللسان" ٧/ ٤١٤٥ فقد وردت فيهما: (مَحِصَ) -بكسر الحاء-.
(١) (أ)، (ب)، (ج): (محصا) مُهْمَلة من الشَّكْل. وضَبَطْتُها من: "معاني القرآن"، للزجاج ١/ ٤٧١، و"التهذيب" ٤/ ٣٣٥٠ حيث نقل نَصَّ الزجاج، و"الدر المصون" ٣/ ٤٠٧ حيث نقل هذا النص عن الواحدي. أمّا في: "الزاهر" ١/ ١٠٨، و"اللسان" ٧/ ٤١٤٥ فقد وردت فيها: (مَحَصًا) -بفتح الحاء-.
(٢) (أ)، (ب)، (ج): زبيره وفي "معاني القرآن" للزجاج: (إذا ذهب منه الوبَرُ). وقد وردت (زبيره) في: "عمدة الحفاظ" للسمين الحلبي: ٥٣٦ إلا أني لم أجدها في كتب اللغة الأخرى التي رجعت إليها. وقد ذكرها السمين الحلبي -نفسه- في: "الدر المصون" ٣/ ٤٠٧ (زئبره) وفق ما أثبَتُّهُ.
والمثبت من كتب اللغة. انظر: "مقاييس اللغة" ٥/ ٣٠٠ (محص)، و"اللسان" ٧/ ٤١٤٥، و"الدر المصون" ٣/ ٤٠٧.
الزِّئْبِرُ -بكسر الباء، وقد يضمها بعضُهم-: هو ما يظهر من درز الثوب. وهو الزَّغَب والوَبَر الذي يعلو المنسوجات. انظر: "التاج" ٦/ ٤٤٩ (زأبر)، و"المعجم الوسيط" ١/ ٣٨٨ (زأبر).
(٣) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج). وهي فيهما غير مشكولة.
وفي "معاني القرآن"، للزجاج وردت: (يَمْلَصَ). وقد ضبطْتُها بالشكل من: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٥٠ (محص)، و"اللسان" ٧/ ٤١٤٥ (محص). وهي الصواب.
ويَمَّلص: يَنْزَلِقُ من اليد. والمَلَص: الزَّلَق. يقال: (مَلِصَ مَلَصًا)، (فهو أمْلَصُ، ومَلِصٌ، ومَلِيصٌ).
قال في: "اللسان" (و (امَّلَصَ، وتَمَلَّص): زَلَّ انسلالًا لِمَلاسَتِهِ. وخصَّ اللِّحيانيُّ به الرِّشاءَ، والعِنان، والحبل، قال: و (انمَلَص الشيءُ): أفْلَتَ. وتُدْغمُ النون في المِيمِ) ٧/ ٤٢٦٢ (ملص).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧١، و"الزاهر" ١/ ١٠٨، و"تهذيب اللغة" =
21
قال (١): ويُسْتَحَبُّ مِن الفَرسِ أنْ تَمْحَصَ (٢) قوائِمُهُ؛ أي (٣): تَخْلُصَ من الرَّهَلِ (٤). وأنشد (٥) ابنُ الأنباريِّ (٦) -على هذا- لأبي دُوَاد (٧)، يَصِف قوائمَ الفرس:
صُمِّ النُّسُورِ صِحاحٌ غيرُ عاثِرَةٍ رُكِّبْنَ في مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ (٨)
= ٤/ ٣٣٥٠ (محص)، و"اللسان" ٧/ ٤١٤٥، و"الدر المصون" ٣/ ٤٠٧.
(١) القائل هو الزجاج، ويروي المؤلفُ قولَه هذا بسنده السابق، وقول الزجاج -بنصه- في: "معاني القرآن" له ١/ ٤٧٢. قال الزجاج: (ويقال:..) وذكره.
(٢) في (ب): (يملص). وفي "معاني القرآن" (تُمَحَّصَ). وما أثبتُّه ورد كذلك في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٥٠ (محص) حيث نقل نَصَّ الزجاج. و"الدر المصون" ٣/ ٤٠٧ حيث نقل نَصَّ المؤلف (الواحدي). وورد في "اللسان" ٧/ ٤١٤٥ (محص) قوله: (أنْ تُمْحَصَ) -بضم التاء-.
(٣) في (ب)، (ج): (أن).
(٤) في (ب): (الرها). والرَّهل -هنا-: استرخاء اللحم مِنْ سِمَنٍ. يقال: (رَهِلَ اللحم، يَرْهَلُ، رَهَلًا)، فهو (رَهِلٌ): إذا استرخى واضطرب.
انظر (رهل) في: "جمهرة اللغة" ٨٠٢، و"المجمل" ٤٠٣، و"اللسان" ٣/ ١٧٥٦.
(٥) في (ج): (أنشد) -بدون واو-.
(٦) في "الزاهر" ١/ ١٠٧.
(٧) قال البغدادي: (وأبو دُوَاد، بدالين مهملتين، أوْلاهما مضموم، بعدها واو). "خزانة الأدب" ٩/ ٥٩٠. وكذا كُتِب في "الأصمعيات" ١٨٥. أما في المصادر التالية، فقد ورد (دُؤاد).
وهو: أبو دؤاد الإيادي، جارية بن الحجَّاج، وقيل: جُوَيْرِية بن الحجاج، وقيل: حنظلة بن الشَّرْفي.
(٨) البيت في "ديوانه" ٢٨٥. وورد منسوبًا له في "الزاهر" ١/ ١٠٧، وورد غير منسوب في "الدر المصون" ٣/ ٤٠٨. وقد وردت روايته في المصادر السابقة: (.. صِحاحٍ غيرِ عاثرةٍ..) - بكسمِ (صِحاحٍ)، و (غيرِ).
قال ابن الأنباري: (النُّسْور: اللحم الذي في باطن الحافر، يشبه النوى، واحدها: نَسْر). "الزاهر" ١/ ١٠٧.
22
قوله: (في مَحِصَات)؛ معناه: في قوائمَ مُتَجَرِّداتٍ عن اللحم، ليس فيها إلا العَظْمُ، والعَصَبُ، والجِلْدُ (١).
قال المُبرِّد (٢): وتأويل قول الناس: (مَحِّصْ عنَّا ذُنُوبَنا)؛ أي: أذهب (٣) ما تَعَلَّقَ بنا مِنَ الذُّنُوب.
وهذا الذي ذكره المبرِّدُ، تأويل (المَحَصِ) -بفتح الحاء-، وهو واقعٌ (٤)، و (المَحْص) -بسكون الحاء- مطاوع (٥).
قال الخليل (٦): يقال: (مَحَصْتُ الشيءَ، أَمْحَصُه، مَحْصًا): إذا
(١) انظر: المصدر السابق. وورد فيه: (.. من العظم، والجلد، والعصب).
(٢) قوله في "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧١.
(٣) في "معاني القرآن" أذهب هنا.
(٤) الفعل الواقع هو الفعل المتعدي إلى مفعول أو أكثر. وسمي بـ (الواقع)؛ لوقوعه على المفعول بِه، ويسمى كذلك بالفعل المجاوز، لمجاوزته الفاعل إلى المفعول به. انظر: "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" ٢٤٥، و"موسوعة النحو والصرف" ٤٩٨.
(٥) في "الدر المصون" ٣/ ٤٠٨ - وقد نقل نَصَّ الواحدي هذا-: (.. والمحص-بسكون الحاء- مصنوعٌ).
المطاوع من (محص) هو: انْمَحَص، وتُدغم النونُ في الميم فيصير: (امَّحَص) قال في "اللسان" (وقَدْ أَمْحَصَت الشمسُ: أي: ظهرت من الكسوف وانجلت. وُيروَى: امَّحَصت على المطاوعة، وهو قليل في الرباعي). ٧/ ٤١٤٥ (محص).
(٦) قوله في: كتاب "العين" له ٣/ ١٢٧. ولكن المؤلف نقل قوله عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٢ نظرًا لتطابق النص معه.
ونص قول الخليل: (المحْصُ: خُلُوص الشيء. (مَحَصْتُهُ محْصًا): خلَّصْته من كل عيب).
وفي "معاني القرآن" للنحاس: (قال أبو إسحاق: قرأت على أبي العباسِ، محمد =
23
خَلَّصته من كلِّ عَيبٍ. قال رُؤبَةُ -يصف فَرَسا (١) -:
[شَدِيدُ] (٢) جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ الشَّوَى (٣)
= ابن يزيد، عن الخليل: أن التمحيص: التخليص؛ يقال: (مَحَصَه، يَمْحَص، مَحْصًا): إذا خلَّصه) ١/ ٤٨٣.
(١) في (ب): (ذئبا).
(٢) (شديد) غير مقروء في (أ). وفي (ب): (فيديد). والمثبت من (ج)، ومصادر البيت.
(٣) في (ج): السوى. -غير معجمة-.
والبيت من الرجز، وتمامه:
كالكَرِّ لا شَخْتٌ ولا فيه لَوَى
وقد ورد منسوبًا لرؤبة، في: "تهذب اللغة" ٤/ ٣٣٥٠ (محص)، و"اللسان" ٧/ ٤١٤٥ (محص)، و"الدر المصون" ٣/ ٤٠٨، و"التاج" ٩/ ٣٥٩ (محص).
وفي "اللسان" ٧/ ٣٨٥١ (كرر) نقله عن الأزهري، ولم ينسبه.
والبيت ليس في ديوان رؤبة، وإنما في ديوان العجاج (بعناية وليم بن الورد) ص ٧٣. وقد ورد منسوبًا له في "اللسان" ٧/ ٤١٠٩، وقد أورد الأزهري شطره الثاني، ونسبه للعَجَّاج في "التهذيب" ٤/ ٣٣١٤ (لوى).
وورد في "اللسان" ٧/ ٣٨٥١ (كرر): (.. لا سَخْتٌ..) وهي تصحيف -والله أعلم-، وفي "الدر المصون" (.. السوى..).
(الجَلْز): الطيُّ، واللَّيُّ. وكل شيء يُلوى على شيء، ففعله: الجَلْز. يقال: (جَلَزْته، أجْلُزُه، جَلْزًا). انظر: "اللسان" ٢/ ٦٥٦ (جلز).
و (الصُّلْب): الظهر. انظر: "المجمل" ٥٣٨ (صلب) و (الشَّوَى): الأطراف، و (شَوَى الفَرَسِ): قوائمه. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٣٦٨ (شوى).
يصف الفرس بأنه شديد طَيِّ الظهر؛ أي: وثيق الخلْق، أطرافه وقوائمه نَقِيِّة من العيوب المشينة.
أما (السَّوَى) -على الرواية الثانية التي أوردها السمين الحلبي-، فقد فسَّرَهُ السمين بأنه: الظَّهْر. جعله مقصورًا للضرورة. وأصله: (السواء).
و (الكَرُّ): الحبل الذي يصعد به على النخل. وجمعه (كرور). و (الشخت): =
24
ومِن هذا؛ يُقال للسِّنَانِ المَجْلُوِّ: (مَمْحُوص) (١). قال أُسَامَةُ الهُذَلِيُّ (٢):
وَشَقّوا (٣) بمَمْحُوصِ القِطَاعِ (٤) فُؤَادهُ (٥)
يعني: بِمَجْلُوِّ النِّصَالِ (٦).
= الدقِيق، الضامر. و (اللَّوَى): العِوَج.
انظر: "التهذيب" ٤/ ٣١٢٣ (كرر)، ٤/ ٣٣٥٠ (محص)، و"القاموس" ١٩٨ (شخت).
(١) انظر (محص) في: "التهذيب" ٤/ ٣٣٥٠، و"اللسان" ٧/ ٤١٤٥.
(٢) هو: أسامة بن الحارث الهذلي. وقيل: أسامة بن حبيب. شاعرٌ مُخَضْرَم (جاهلي، إسلامي). انظر: "الشعر والشعراء" ٢/ ٦٧٠، و"شرح أشعر الهذليين" ٣/ ١٢٨٩، و"الإصابة" لابن حجر ١/ ٣١.
(٣) في (ج): (شقوا) - بدون واو-.
(٤) في (ج): (القطاة).
(٥) صدر بيت، وتمامه:
لَهُمْ قُتَرَاتٌ قد بُنِينَ مَحاتِدُ
وقد ورد منسوبًا له في: "شرح أشعار الهذليين" ٣/ ١٣٠٠، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٥٠ (محص)، و"اللسان" ٧/ ٤١٤٥ (محص)، و"التاج" ٤/ ٤١٠ (حتد). وورد غير منسوب في: "اللسان" ٢/ ٧٦٨ (حتد).
ولكنه ورد في "شرح أشعار الهذليين" بالرواية التالية: (.. بِمَنْحُوضِ القِطَاع..) وليس في هذه الرواية شاهد على ما ذهب إليه المؤلف. وفي "التهذيب" (أشَفُّوا..)، وفي "اللسان" ٢/ ٧٦٨: (.. له قُتُرات..)، وفي ٧/ ٤١٤٥: (أشْفَوْا..). يصف الشاعر حِمَارًا رُمي بالنِّصال، حتى رَقَّ فؤادُه من الفزع، فيقول: شَقُّوا فؤادَه. بـ (مَنْحوض القِطَاع)، وهو النَّصْل الدَّقيق المُرْهف. يقال: (سِنان نَحِيض)، أي: رقيق. و (نَحَّضَه): رقَّقَه. و (القطاع): جمع: قِطْع، وهو نصلٌ قَصِير عَرِيض.
و (القُترات) واحدها: (قِتْر)، و (قِتْرَة)، وهي: نوع من النصال حاد الطَّرف.
و (محاتد): أي: قديمة ورثوها عن آبائهم فهي لهم أصل، و (المحتِدُ): الأصل.
انظر: المصادر السابقة. و"الصحاح" ١١٠٧ (نحض)، و"اللسان" ٦/ ٣٥٢٦ (قتر).
(٦) النِّصَال، والأنْصُل، والنُّصُول)، واحدها: (نصْل)، وهي حديدة السَّهم، =
25
فمعنى قوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: لِيُخَلِّصهم مِن ذُنوبهم. وإلى هذا ذَهَب أكثرُ أهلِ المعاني والتفسير.
وقال (١) ابن عباس (٢): يريد (٣): يُمَحِّصَ ذنوبَهم حتى يَلْقَوْهُ؛ وليس لهم قَبْلَهُ سَيِّئَةٌ يعذبهم عليها. ووجه هذا القول: ما قاله أبو عَمْرُو الشيباني (٤): معنى التمحيص في اللغة: الكشف. و (مَحِّصْ عنَّا ذنوبَنا)؛ معناه: واكشف (٥) عنَّا ذنوبَنا. و (تَمَحَّصَ الشيءُ): إذا تَكَشَّفَ. وأنشد:
حتى بَدَتْ قَمْرَاؤُهُ وتَمَحَّصَتْ ظَلْمَـ ـاؤُهُ (٦) ورَأَىَ الطريقَ المُبْصِرُ (٧)
وهذا اختيار الفرَّاء؛ لأنه قال (٨): يريد: لِيُمَحِّصَ (٩) اللهُ الذنوبَ عن الذين آمنوا.
= والرُّمْح، والسَّيف ما لم يكن له مِقْبَض، فإذا كان له مقبض، فهو سيف. انظر: "التاج" ١٥/ ٧٣٨ (نصل).
(١) في (ج): (قال) -بدون واو-.
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) (يريد): ساقطة من (ب).
(٤) لم أقف على مصدر قوله، وليس في كتابه (الجيم). نقله عنه القالي في "أماليه" ٢/ ٢٧٥.
(٥) في (ب): (اكشف) -بدون واو-.
(٦) في (أ): (ظلماه)، والمثبت من (ب)، (ج). و (القَمْرَاء): ضوء القَمَر. و (ليلة قمراء): مضيئة. و (الظَّلْمَاء): الظُلْمة. و (ليلة ظلماء): شديدة الظلمة. انظر: "اللسان" ٧/ ٣٧٣٦ (قمر)، ٥/ ٢٧٥٩ (ظلم).
(٧) ينظر: "أمالي القالي" ٢/ ٢٧٥، و"الفاخر" ١٣٥، و"اللآلئ" ٩١٦، و"أساس البلاغة" (محص)، والزاهر ١/ ١٥.
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٥. نقله بنصه.
(٩) في "معاني القرآن" يمحص.
26
وعلى هذا القول؛ تقدير الآية: وَلِيُمَحِّصَ الله ذنوبَ الذين آمنوا. فحذف المضاف (١).
وروى أبو عُبَيْد (٢)، عن أبي عَمْرو، قال (٣): التَّمْحِيص: الابتلاء والاختبار (٤). وإلى هذا القول ذهب جماعة من المفسرين: السُّدِّي (٥)، ومجاهد (٦)، وروي ذلك عن ابن عباس -في بعض الروايات- (٧)، قالوا: ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ أي: لِيَبْتَلِي. وهذا اختيار القُتَيْبِيِّ (٨).
وقوله تعالى: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾.
(المَحْقُ) في اللغة معناه: النُّقْصَان.
يقال: (مَحَقَهُ اللهُ، فامْتَحَقَ، وامَّحَقَ) (٩).
(١) انظر: "مجالس ثعلب" ١/ ٢٦٦، فقد حكى هذا القول.
(٢) (أبو عبيد): في (أ) تُقرأ: (أبو عبيدة) -فيشتبه السكون على الدال بالتاء المربوطة-. وفي (ج): أبو عبيدة. وما أثبتُّه من (ب)، و"تهذيب اللغة"، وهو الصواب؛ لأن أبا عبيد هو المعروف بالرواية عن أبي عمرو الشيباني. انظر: مقدمة تحقيق كتاب "الجيم" ١/ ٢٥.
(٣) انظر قوله في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٥٠ (محص).
(٤) في (ج): (والاختيار) وفي "التهذيب" الاختبار والابتلاء.
(٥) قوله، في "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٧، و"زاد المسير" ١/ ٤٦٧.
(٦) قوله، في "تفسيره" ١٣٧، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٠٧ - ١٠٨، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٤.
(٧) في "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٨، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٥ - من رواية ابن جريج عنه-، وانظر: "النكت والعيون" ١/ ٤٢٦. وهو قول: الحسن، وابن إسحاق، وقتادة انظر: المصادر السابقة.
(٨) هو ابن قتيبة، واختياره هذا في: "تفسير غريب القرآن" له ١/ ١٠٦، وهو -كذلك- قول المبرد في "الكامل" ١/ ٢١٣.
(٩) انظر: (محق) في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٥١، و"اللسان" ٧/ ٤١٤٦.
27
وقال أبو زيد (١): (مَحَقَهُ اللهُ)، و (أَمْحَقَهُ). والأصمعي يأبى إلّا (محَقَه) (٢). وأما (أَمْحَق) (٣)، فقال أبو عمرو (٤): هو أن يَنْقُصَ ويَدِقَّ (٥)، كَمُحَاقِ (٦) الهِلالِ.
وأنشد ابن السِّكِّيت (٧):
... حتى أنسَّ وأَمْحَقَا (٨)
(١) قوله، في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٥٢ (محق)، و"اللسان" ٧/ ٤١٤٦ (محق).
(٢) قول الأصمعي هذا، مِن تتمة كلام أبي زيد. قال: (وأبَى الأصمعيُّ إلا (محقه)). وفي "الصحاح" (و (مَحقَه الله)؛ أي: ذهب ببركته. و (أمحقه) لغة رديئة) ١٥٥٣ (محق). وانظر: "اللسان" ٧/ ٤١٤٦ (محق).
(٣) نلاحظ هنا أن الفعل (أمحق) لازم، وأما (أمحقه) السابق، فمتعدٍّ.
(٤) قوله في: "إصلاح المنطق" ٢٧٨، و"التهذيب" ٤/ ٣٣٥٢ (محق)، و"الصحاح" ١٥٥٣ (محق).
(٥) في (ب): (يرق).
(٦) مُحَاق، ومَحاق، ومِحاق. بضم الميم، وفتحها، وكسرها-. انظر: "اللسان" ٧/ ٤١٤٧ (محق).
(٧) ولفظ أبي عمرو كما في "إصلاح المنطق" (قال أبو عمرو: الإمحاق: أن يَهلِك؛ كمُحاق الهلال، وأنشد..). وفي "التهذيب" (عن ابن السكيت عن أبي عمرو: الإمحاق: أن يهلك الشيء..).
(٨) في (ج): (وامَّحقا).
وهذا مقطع من بيت وتمامه -حسب روايته في "إصلاح المنطق" ٢٧٨ - :
أبوك الذي يَطْوِي أُنُوفَ عُنُوقهِ بأظفاره حتى أنَسَّ وأمْحَقا
وقد نسبه في "اللسان" ٧/ ٤١٤٧ (محق) لسَبْرة بن عمرو الأسدي، يهجو به خالد بن قيس، وقد ورد غير منسوب في: "إصلاح المنطق" ٢٧٨، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٥٢ (محق)، و"الصحاح" ١٥٥٣ (محق)، و"اللسان" ٧/ ٤١٤٧ (محق). وقد وردت روايته في هذه المصادر -عدا "إصلاح المنطق"-: (يَكْوي أنوث عنوقه).
و (العُنُوق): مفردها: (عَنَاق)، وهي: الأنثى من أولاد المِعْزى، إذا أتت عليها =
28
وقال ابن الأعْرَابي -عن المفَضَّل- (١): (المَحْقُ) -عند العرب (٢) -: أن يذهب الشيءُ كلُّهُ، حتى لا يُرَى مِنْهُ شيءٌ. ومنه ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ (٣)، أي: يستأصله.
قال أبو إسحاق (٤): ومعنى الآية: جَعَلَ اللهُ الأيَّامَ مُدَاوَلَةً بين الناس؛
لِيُمَحِّصَ اللهُ المُؤْمنينَ، إذا أدَالَ عليهم، بما يقع عليهم (٥) مِنْ قَتْلٍ وَجُرْحٍ وذَهابِ مَالٍ. و ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾: يستأصلهم، إذا أدال عليهم، ويهلكهم بذنوبهم.
فَقَابَلَ (٦) تَمْحِيصَ المؤمنين بِمَحْقِ الكافرين، لأن تمحيص هؤلاء، بإهلاك ذنوبهم، نَظِير مَحْقِ أولئك، بإهلاك أنْفُسِهِمْ. وهذا مُتقابِلٌ في المعنى، حَسَنٌ.
١٤٢ - قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ الآية (٧).
= سنة. وتُجمع -كذلك- على: (أعْنُق، وعُنُق). و (العُنوق) جمعٌ نادرٌ.
و (أنَسَّ)؛ أي: بلغ نَسِيسَهُ، ونَسِيسَتَهُ؛ وهو: بقية روحه، أو غاية جهده. انظر: "التهذيب" ٣/ ٢٥٩٧ (عنق)، و"القاموس" ٤/ ٥٧٧ (نسس).
(١) قول ابن الأعرابي في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٥٣ (محق)، وفيه: (أبو العباس عن ابن الأعرابي، قال: المحق:..) وليس فيه (عن المفضل). وكذا أورده صاحب "اللسان" في: ٧/ ٤١٤٦ (محق).
(٢) (عند العرب): ليس في "تهذيب اللغة"، ولا في "اللسان".
(٣) سورة البقرة: ٢٧٦. وتمامها: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾.
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٧٠. نقله عنه بتصرف.
(٥) (بما يقع عليهم): ساقط من (ج).
(٦) في (ب): (مقابل).
(٧) (الآية): ساقطة من (ج).
29
معنى ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾: (بَلْ حَسِبْتُم)، على جهة الإنكار (١)، أي: لا تحسبوا ذلك. ومضى الكلام في هذا، في مواضع (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾.
قال أبو إسحاق (٣): (لَمَّا) جوابٌ لقولِ القائل: (قَدْ فَعَلَ فُلان). فجوابه: (لَمَّا (٤) يَفْعَل)؛ لأن (لَمَّا) مُؤَكَّدٌ بِحَرْفٍ؛ كما أُكِّدَ الابتداءُ بـ (قد).
وإذا قال: (فَعَلَ فلان)، فجوابه: (لَمْ يَفْعَل). وإذا قال: (لَقَد فَعَل)، فجوابه: (ما فَعَل) (٥) كأنه قال: (واللهِ لَقَد فَعَل) (٦)، وقال المُجِيبُ: (واللهِ ما فَعَل) وإذا قال هو يفعل فجوابه و (لا يَفْعَل) (٧) وإذا قال سيفعل
(١) (أم) هذه، هي المنقطعة، التي تقدر بـ (بل) -التي للإضراب-، وهمزة الاستفهام التي تفيد الإنكار. والتقدير: (بل أحسبتم؟). وانظر أقوالًا أخرى فيها، في: "المغني" لابن هشام ٨٢١، و"البحر المحيط" ٣/ ٦٥ - ٦٦، و"الدر المصون" ٢/ ٣٨٠، ٣/ ٤٠٨ - ٤٠٩، و"دراسات لأسلوب القرآن الكريم" القسم الأول ١/ ٣١٣ - ٣١٥.
(٢) انظر: "البسيط" عند تفسير الآيات: ١٠٨، ١٣٣، ٢١٤ من سورة البقرة.
(٣) في "معاني القرآن" ١/ ٤٧٢. نقله عنه بتصرف.
(٤) (لما): ساقطة من (ج).
(٥) في "المعاني": ما يفعل.
(٦) في "المعاني" (والله هو يفعل). وقد أورد هذا سيبويه في "الكتاب" ٣/ ١١٧ وفيه: (والله لقد فعل) كما هي عند المؤلف.
(٧) انظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ١١٧ فقد وردت نفس العبارات التي أوردها الزجاج، ويبدو أنه نقلها عن سيبويه.
قال الزمخشري: (و (لَمَّا) بمعنى (لم)، إلا أن فيها ضربًا من التوقع، فدل على نفي الجهاد فيما مضى، وعلى توقعه فيما يُستقبل. وتقول: (وعدني أن يفعل كذا، ولَمَّا)، تريد: ولم يفعل، وأنا أتوقع فعله). "الكشاف" ١/ ٤٦٧.
قال أبو حيان -معلقًا على قول الزمخشري السابق-: (وهذا الذي قاله في (لَمَّا) =
30
فجوابه (لن يفعل) و (لا يفعل).
والنَفْيُ في الآية، واقِعٌ على العِلْمِ. والمعنى: على نَفْي الجِهَادِ دونَ العِلْم؛ وذلك لِمَا فِيهِ مِنَ الإيجاز في انتفاءِ جهادٍ؛ لَوْ كانَ؛ لَعَلِمَهُ.
والتقدير: (ولَمَّا لم (١) يكن المعلوم من الجهاد الذي أَوْجَبَ عليكم). فجرى النفيُ على العِلْمِ؛ للإيجاز؛ على سبيل التوسع في الكلام؛ إذ المعنى مفهومٌ مِن غير إخلال.
وقال الزجاج (٢): المعنى: وَلَمَّا يقع العِلْمُ بالجهاد، والعِلْمُ بِصَبْرِ الصابرين؛ أي (٣): وَلمَا يَعْلَمِ اللهُ ذلك واقِعًا منكم (٤)؛ لأنه يَعْلَمُه غَيْبًا (٥)، وإنما يجازيهم على عَمَلِهِم.
وقوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ انتصب على الصَّرْفِ (٦) عن
= أنها تدل على توقع الفعل المنهي بها، فيما يُستَقبَل؛ لا أعلم أحدًا من النحويِن ذكره، بل ذكروا: أنك إذا قلت: (لمَّا يخرج زيد)، دَلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى، متصلًا نفيُهُ إلى وقت الإخبار، أمَّا أنها تدل على توقعه في المستقبل، فلا، لكني وجدت في كلام الفراء شيئًا يقارب ما قاله الزمخشري، قال: (لَمَّا) لتعريض الوجود، بخلاف (لم))
"البحر المحيط" ٣/ ٦٦. وانظر: "دراسات لأسلوب القرآن الكريم" القسم الأول ٢/ ٦٢٠ - ٦٢٢.
(١) لم: ساقطة من (ج).
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٧٢. نقله عنه بنصه.
(٣) أي: ليست في "معاني القرآن".
(٤) في "معاني القرآن": منهم.
(٥) في (أ): (غنيا). والمثبت من: (ب)، (ج)، و"معاني القرآن".
(٦) (الصرف) اصطلاح للكوفيين، يعني: أن الفعل كان من حقه أن يُعرَبَ بإعراب ما =
31
العطف (١). إذ ليس المعنى على نفي الثاني والأول، وإنما هو على نفي اجتماع الثاني والأول؛ على نحو: (لا يَسَعُنِي (٢) شيءٌ، وَيعْجَزَ (٣) عنك). ومثله:
لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأتِيَ مِثْلَهُ (٤)
= قبله، ولكن صَرَفَتْهُ الواو إلى وجهٍ آخر من الإعراب. انظر: "المحلى" لابن شقير ٤٢، و"مغني اللبيب" ٤٧٢، و"الدر المصون" ٣/ ٤١١، و"النحو وكتب التفسير" ١/ ١٨٧. وسيفسر الفراءُ هذا المصطلح، كما سيأتي.
(١) والرأي الثاني، -وهو للبصريين-: أن النصب في هذه الآية وأمثالها، بإضمار (أن) وجوبًا بعد الواو، إذا قصد بها المصاحبة.
والرأي الثالث، -وهو لأبي عمرو الجَرْمي، من البصريين-: أنها نصبت بالواو نفسها؛ لأنها خرجت عن باب العطف.
وقد عرض هذه الآراء وناقشها أبو البركات الأنباري في "الإنصاف" ص ٤٤٢. وانظر: "شرح ابن عقيل" ٤/ ١٤.
(٢) (أ)، (ب): (يستعني). والمثبت من (ج). وهو الصواب.
(٣) في (ب)، (ج): (ولا يعجز). وهو خطأ؛ لأنه خلاف ما يريد المؤلف في هذه المسألة النحوية، وسيأتي بيان ذلك في قول الفراء.
(٤) صدر بيت، وعجزه:
عار عليك إذا فعلت عظيمُ
وقد اختلف في قائله، فنُسِب للشعراء التالين: أبي الأسود الدُؤَلي، والمتوكل الليثي، وسابق البربري، وحسان بن ثابت، والطرماح. وقد ورد في الكتب التالية: "ديوان أبي الأسود الدؤلي" ٢٣١، و"كتاب سيبويه" ٣/ ٤٢، و"معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٤، و"المقتضب" ٢/ ٢٦، و"تفسير الطبري" ١/ ٢٥٥، ٢/ ١٨٥، و"الأصول في النحو" ٢/ ١٥٤، و"المحلى" لابن شقير ٤٢، و"اللمع" لابن جني ١٨٩، و"الإيضاح العضدي" ١/ ٣٢٣، و"جامع بيان العلم" لابن عبد البر ١/ ٢٤٠، و"فصل المقال" للبكري ٩٣/ و"شرح المفصل" ٧/ ٢٤، و"البسيط في =
32
قال الفراء (١): ومعنى (الصرف): أن يجتمع فِعْلان ببعض حروف النَّسَقِ (٢)، وفي أوَّلِهِ ما لا يَحْسُنُ إعادَتُه في حروف النَّسَقِ (٣)، فتنصب الذي بعد حرف العطف، لأنه مَصرُوفٌ عن معنى الأول. وذلك يكون مع جْحدٍ أو استفهامٍ أو نَهْيٍ في أول الكلام. كقولهم: (لا يَسَعُنِي مكانٌ، ويَضِيقَ عنك) بفتح (ويضيقَ)، لأن (لا) التي مع (يَسَعُنِي)، لا يَحْسُن أن يذكرها مع (يضيقَ عنك) (٤).
وقال ابن الأنباري (٥): قوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ معناه:
= شرح جمل الزجاجي" ١/ ٢٣٢، و"المغني" لابن هشام ٤٧٢، و"شرح شذور الذهب" ٢٩٦، ٣٦٠، و"شرح ابن عقيل" ٤/ ١٥، و"خزانة الأدب" ٨/ ٥٦٤ وقد ذكر البيت، والاختلاف في قائله.
والشاهد في البيت: نصب الفعل المضارع (وتأتي) بعد الواو في جواب النهي. وهي الواو التي يسميها الكوفيون: واو الصرف. أما عند البصريين: فالنصب بـ (أن) المضمرة وجوبًا، بعد واو المعية التي تقتضي الجمع.
انظر: "شرح ابن عقيل" ٤/ ١٤ والمصادر النحوية السابقة.
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٥. نقله عنه بالمعنى. وعبارة المؤلف قريبة جدًا من عبارة الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢٤٧، وقد يكون المؤلف نقل قول الفراء عن الطبري. وعبارة الفراء في المعاني أوضح وأجلى.
(٢) في المعاني: بالواو، أو (ثُمَّ)، أو الفاء، أو (أو).
(٣) في المعاني: (وفي أوله جحد، أو استفهام، ثم ترى ذلك الجحد، أو الاستفهام، ممتنعًا أن يُكَرَّر في العطف، فذلك الصرف..).
(٤) انظر -لبيان معنى الصرف-: "تفسير البسيط" فقد تناول هذه المسألة عند تفسير آية ٤٢ من سورة البقرة، و"معاني القرآن"، للفراء: ١/ ٣٣ - ٣٤، و"تفسير الطبري" ١/ ٢٥٥، ٤/ ١٠٨، و"الإنصاف" ٥٥٥ - ٥٥٦.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
33
الحال لِمَا قبله. وهذه الواو، يُسَمُّون (١) النحويون: (واو الصرف)، والذي بعدها يُنْصَبُ (٢) على خلافِ ما قبلها. كما تقول العربُ: (لا تأكل السَّمَكَ، وتَشْرَبَ اللَّبَنَ (٣))؛ أي: لا تجمع بينهما، ولا تأكلِ السَّمَكَ، في حال شُرْبِكَ اللَّبَنَ.
قال: وقَرَأ الحَسَنُ: ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ -بالكسر- (٤)، وهو جزمٌ بالعطف على الأول، وليس بحالٍ لما قبله.
وهذه الآية خطابٌ للذين انهزموا يوم أحد، فقيل لهم: أَحَسِبتم أنْ تدخلوا الجَنَّةَ، كما دَخَلَ الذين قُتِلوا، وبَذَلُوا مُهَجَهُم (٥) لِرَبِّهم، وثَبَتُوا على أَلَمِ الجِرَاح والضَّرْبِ، مِن غير أنْ تَسْلُكُوا (٦) طَرِيقهم، وتصبروا صَبْرَهُمْ.
١٤٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ الآية.
قال الحسن (٧)، ومجاهد (٨)،..................
(١) هكذا جاءت في: (أ)، (ب). وفي (ج): (تسميها).
(٢) في (ب): (نصب).
(٣) في (ب): (الماين).
(٤) انظر قراءة الحسن في: "معاني القرآن"، للفراء ١/ ٢٣٥، "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٨، وهي -كذلك- قراءة: يحيى بن يعمر، وابن حيوة، وعمرو بن عبيد، انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٤١.
وقرأها عبدُ الوارث عن أبي عمرو بن العلاء بالرفع: (ويعلمُ)، وهي إما على الاستئناف، وهو الأظهر، أو على أن الواو للحال.
انظر: "الكشاف" ١/ ٤٦٧، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٣٤٤، و"الدر المصون" ٣/ ٤١١.
(٥) في (ب): (جهدهم).
(٦) في (ج): (يسلكوا).
(٧) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٠٩، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٦.
(٨) قوله، في: "تفسيره" ١٣٧، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٠٩، و"تفسير ابن أبي حاتم" =
34
وقتادة (١)، والرَّبِيع (٢)، والسُدِّي (٣)، ومحمد بن إسحاق (٤): كانوا يَتَأسَّفُون (٥) على ما فاتهم مِن [بَدْر] (٦)، ويَتَمَنَّون يوما مع رسول الله - ﷺ -، ويقولون: لَنَفْعَلَنَّ ولَنَفْعَلَنَّ، ثم انهزموا يوم أُحُد، واستحقوا العِتَاب (٧).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾. يعني: مِن قَبْلِ يوم أُحُد.
وقوله تعالى: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي: رأيتم أسبابَهُ، وما يتولَّدُ منه الموتُ (٨)؛ كالسَّيْفِ، والأَسِنَّةِ، ونحوِها (٩).
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾.
قال الأخفش (١٠): هو تَوْكيدٌ (١١) لقوله: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾.
وقال أبو إسحاق (١٢): المعنى: فقد رأيتموه، وأنتم بُصَرَاء؛ كما
= ٣/ ٧٧٦، و"معاني القرآن"، للنحاس ٤٨٥، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٤١ وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(١) قوله، في: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٣٤، و"الطبري" ٤/ ١٠٩، و"ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٦، وأورده السيوطي فى "الدر" ٢/ ١٤١ وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
(٢) قوله، في: المصادر السابقة.
(٣) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١١٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٦.
(٤) قوله في: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٦٤، والمصادر السابقة.
(٥) في (ج): (يأسفون).
(٦) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، والمثبت من (ب)، (ج).
(٧) في (ج): (العقاب).
(٨) في (أ): (وما يتولد منه الموت منه)، وفي (ب): (وما يتولد الموت منه)، والمثبت من (ج).
(٩) انظر: "معاني القرآن"، للفراء ١/ ٢٣٦، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ١/ ١٠٦، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٠٨.
(١٠) قوله في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٦، وهو معنى قوله.
(١١) في (ب): (تأكيد).
(١٢) في "معاني القرآن"، له ١/ ٤٧٣. نقله عنه بنصه.
35
تقول: (رأيت كذا وكذا)، وليس في عينيك (١) عِلَّة (٢)؛ أي: قد رأيته رؤيةً حقيقية، وهو راجع إلى معنى التوكيد.
وقال غيره (٣): لِئَلَّا يُتَوَهَّم رؤية القَلْبِ؛ كما يقال: (رأيته عِيَانًا)، و (سمعته بأذني)؛ لئلا يتوهم سَمْع العِلْمِ.
وقيل (٤): ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾؛ أي: تَتَأَمَّلُون الحالَ في ذلك، كيف هي؟ (٥)
(١) في (ج): (عينك).
(٢) ورد في مخطوطات "معاني القرآن" -كما ذكر محققه-: (علمه)، ورأى المحقق أنها لا تناسب ما بعدها؛ ولذا أثبَتَها (عَمَه)، وفسرها في الحاشية بـ (العَمَى). وليس كما قال؛ لأن (العَمَه) هو: التَّحَيُّرُ في منازعة أو طريق، والتردد في الضلال. انظر: (عمه) في: "اللسان" ٥/ ٣١١٤، و"القاموس" ١٢٥٠.
وأرى أن صوابها كما أثْبَتَ المؤلف هنا، وإنما صُحِّفت في أصول مخطوطات "معاني القرآن". وقد وردت (عِلَّة) في "بحر العلوم" ١/ ٣٠٥ حيث نقل قول الزجاج.
(٣) لم أهتد إلى القائل.
(٤) لم أهتد إلى القائل.
(٥) قال الطبري: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ يعني: فقد رأيتموه بمرأى منكم ومنظر؛ أي: بقرب منكم). "تفسيره" ٤/ ١٠٩. وحكى الزجاجُ قولًا، ولم يعزه لقائل، فقال: (وقال بعضهم: وأنتم تنظرون إلى محمد - ﷺ -). "معاني القرآن" ١/ ٤٧٣، وانظر: "غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٢٧١. وقد أورده ابنُ عطيَّة، وضَعَّفَه. انظر: "المحرر" ٣/ ٣٤٦.
وقال أبو الليث: (وأنتم تنظرون إلى السيوف التي فيها الموت). "بحر العلوم" ١/ ٣٠٥ وأورد هذا القولَ ابنُ الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٤٦٨، وعزاه إلى أبن عباس. وعن ابن إسحاق: (تنظرون إليهم). "سيرة أبن هشام" ٣/ ٦٤، و"تفسير الطبري" ٤/ ١١٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٧.
36
وفي الآية محذوفٌ، لأن المعنى: (فقد رأيتموه، وأنتم تنظرون، فَلِمَ انهزمتم)؟ وهذا موضعُ العِتَاب. وهو قول ابن عباس (١).
١٤٤ - وقوله (٢) تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ الآية.
قال أهل التفسير (٣): لَمَّا نُعِيَ رَسُولُ الله - ﷺ - يومَ أُحُد، وأُشِيعَ أنه قد قُتِل، قال بعضُ المسلمين: لَيْتَ لَنَا رَسُولًا إلى عبد الله بن أُبَيّ، فيأخذ لنا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيان!
وقال أناسٌ مِنْ أهل النِّفَاق: إنْ كان محمدٌ قد قُتِلَ، فالْحَقُوا بدينكم (٤) الأَوَّل؛ فأنزلَ الله هذه الآية (٥).
و (مُحَمَد) (٦) هو المُسْتَغْرِقُ لجميع المَحَامِدِ؛ لأن الحَمْدَ لا يَسْتَوْجِبُهُ إلَّا الكامِلُ. و (التَحْمِيد) فوق (٧) (الحَمْدِ) (٨)، فلا يستحقه إلا المستولي على
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) في (ج): (قوله) -بدون واو-.
(٣) ممن قال بذلك: السدِّي، وقد ورد معناه عن ابن عباس، من رواية عطية العوفي. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١١٣، و"تاريخ الطبري" ٢/ ٥٢٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٧، و"أسباب النزول" للواحدي ١٢٩.
(٤) في (ج): (لدينكم).
(٥) ورد ذلك عن الضحاك، وابن جريج. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١١٣، ١١٤، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٥ ب.
(٦) من قوله: (ومحمد) إلى (في الكمال): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٦ أ.
(٧) في "تفسير الثعلبي" (قول). وما أثبتهُ موجود -كذلك- في "تفسير البغوي" ٢/ ١١٥ حيث نقل هذا النص.
(٨) لأن التحميد أبلغ من الحمد؛ يقال: (فلان محمود: إذا حُمِدَ، ومُحَمَّد: إذا كثرت خصاله المحمودة). انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" ٢٥٦ (حمد).
قال ابن فارس: (فإذا بلغ النهاية في ذلك، وتكاملت فيه المحاسِنُ والمناقِبُ، =
37
الأَمَدِ (١) في الكمال.
و (الرَّسُول) -قال ابن الأنباري، فيما حكى عنه الأزهري- (٢): معناه في اللغة: الذي يُتَابع أخبار مَنْ (٣) بَعَثَهُ (٤)؛ أُخِذَ مِنْ قولهم: (جاءت (٥) الإِبِلُ رَسَلًا) (٦)؛ أي: متتابعة (٧).
فمعنى (٨): ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ أي: إلَّا مُتَابع للأخبار عن الله.
وقال الأخفش (٩): (الرسول): هو (١٠) الرِّسَالة، وهو اسمٌ مِنْ (أَرْسَلْتُ) (١١).
= فهو (محمد).. وهذا البناء أبدًا يدل على الكثرة، وبلوغ النهاية.. وكذلك بناء اسم محمد - ﷺ -، دليل على كثرة المحامد وبلوغ النهاية في الحمد..). "أسماء رسول الله - ﷺ - ومعانيها" ٣٠.
(١) في "تفسير الثعلبي": على الأمة وفي "تفسير البغوي": على الأمر.
(٢) في "التهذيب" ٢/ ١٤٠٧ (رسل)، وقول ابن الأنباري في كتابه "الزاهر" ١/ ١٢٧.
(٣) في " التهذيب"، و"الزاهر" الذي.
(٤) (بعثه): مطموس في (ج).
(٥) في "الزاهر" قد جاءت.
(٦) في (ج): (رحلا).
(٧) الرَّسَلُ: القطيع من كل شيء، أو هو: القطيع من الإبل والغنم، وقيل: قطيع من الإبل، قدر عشر، يُرسل بعد قطيع، وقيل: ما بين عشر إلى خمس وعشرين. والجمع: أرسال. فإذا أوْرَدَ الرجل إبِلَهُ متقطعةً، قيل: أوردها أرسالًا. انظر: "اللسان" ٣/ ١٦٤٣ (رسل).
(٨) من قوله: (فمعنى..) إلى (.. الرسول هو): ساقط من (ج).
(٩) لم أهتد إلى قوله في كتابه "المعاني"، وهو في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٠٧ (رسل).
(١٠) في (ب): (من) بدلا من: (هو)، وساقطة من (ج).
(١١) وممن فسره بذلك: يونس بن حبيب البصري، وأبو عبيدة، والزجاج. فقالوا عن قوله تعالى: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٦]: إنه في معنى الرسالة؛ كأنه =
38
وقال أبو علي (١): (الرسول)، جاء على ضربين: أحدهما: يراد به المُرْسَلُ، والآخر: الرِّسَالة.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾، يريد: المُرْسَل. يُقَوِّي ذلك قوله: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [يس: ٣]. ومثل (٢) هذا في (فعُول)، يراد به (المفعول): (الرَّكُوب)، و (الحَلُوُب): لِمَا يُحْلَبُ، ويُرْكَبُ (٣).
والرسول بمعنى الرسالة كقوله:
لَقَدَ كَذَبَ الواشُوُنَ مَا (٤) بُحْتُ عِنْدَهُمْ بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ (٥)
أي: برسالة. ومِنْ هذا قولُهُ تعالى: ﴿أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ [مريم: ١٩] (٦).
= قال: إنا رِسَالة رَبِّ العالمين.
انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٨٤، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٨٥، و"الزاهر" ١/ ١٢٨.
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) في (ج): (وقيل).
(٣) في (ج): (لما يركب ويحلب).
(٤) في (ب): (بما).
(٥) البيت لكثير عَزَّة. وهو في "ديوانه" ١١٠. وورد منسوبًا له في "مجاز القرآن" ٢/ ٨٤، و"الصحاح" ١٧٠٩ (رسل)، و"اللسان" ٣/ ١٦٤٥ (رسل).
وورد غير منسوب في: "معاني القرآن"، للزجاج ٢/ ٨٥، و"الزاهر" ١/ ١٢٥، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٠٧، و"المسائل العضديات" ٣٦، و"البيان" للأنباري ٢/ ٢٠٦، ٢١٢، و"اللسان" ٣/ ١٦٤٤، و"تخليص الشواهد" لابن هشام ١٧٦، و"المقاصد النحوية" ١/ ٥٠٦، و"خزانة الأدب" ١٠/ ٢٧٨.
وقد وردت روايته في بعض المصادر: (ما فُهْتُ) بدلًا من: (ما بُحت)، وفي بعضها: (بسوء)، وفي أخرىَ: (بِلَيْلَى)، بدلًا من: (بِسِرٍّ).
(٦) في (ج): ﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ﴾ [طه: ٤٧]. وكذا وردت في تفسير الفخر الرازي ٩/ ٢٢، حيث نقل هذا النص.
39
وسنذكره (١) في موضعه إن شاء الله.
وقوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ معناه: أنه يموت كما ماتت الرُّسُلُ قَبْلَهُ. وقوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ ألِفُ (٢) الاستفهام دخلت على حرف الشرط؛ ومعناها: الدخول على الجزاء. المعنى: (أتنقلبون على أعقابكم؛ إن مات محمَّدٌ (٣) أو قُتِلَ)، إلّا أنَّ الشرط والجزاء مُعَلَّقٌ أحدُهُما بالآخَرِ، فانعقدا جملةً واحدةً، وخَبَرًا واحدًا؛ فدخلت أَلِفُ الاستفهام على الشرط، وأَنْبَأَت عن معنى الدخول على الجزاء؛ كما أنك إذا قلت: (هل زيدٌ قائمٌ؟)؛ فإنما تستفهم عن قيامِهِ، إلّا أنك أَدْخَلْتَ (هَلْ) على الاسم؛ لِيُعْلَمَ الذي استفهمتَ عن قيامه، مَنْ هُوَ؟ وكذلك قولك (٤): (ما زيدٌ قائما)، إنما نَفَيْتَ القيامَ، ولم تَنْفِ زيدًا، ولكنك أدخلت (ما) على (زيد)؛ ليُعْلَمَ مَن الذي نُفِيَ عنه القيامُ. يوضح هذا: أن هذا الاستفهام للإنكار، ولم ينكر عليهم الموت، وإنما أنكر عليهم الانقلاب.
وقوله تعالى: ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي: ارْتدَدْتُم كُفَّارًا بعد إيمانكم؛ وذلك؛ لأن الرجوع عن الحق إلى الباطل، بمنزلة رجوع القَهْقَرَى (٥)، في القُبْح والتنكيل بالنفس.
(١) في (أ): (سنذكر). والمثبت من (ب)، (ج).
(٢) من قوله: (ألف..) إلى (.. نفي عنه القيام): نقله -بتصرف- عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٤. وانظر: "الصاحبي" ٢٩٥ - ٢٩٦.
(٣) في (أ): (محمدً). وفي (ج): (محمدا). والمثبت من (ب)، وهو الصواب.
(٤) في (ج): (قول).
(٥) القَهقَرَىَ: الرجوع إلى خَلْفٍ. والفعل: (قهْقَرَ)، و (تَقَهْقَرَ): إذا رجع على عقبيه. انظر: (قهر) في: "اللسان" ٦/ ٣٧٤٦، و"القاموس" ٤٦٧.
40
ويقال لكلِّ مَن عادَ إلى ما كان عليه، ورَجَعَ ورَاءَهُ (١): انقَلَبَ على عَقِبِهِ (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا﴾ فيه معنى الوعيد؛ أي: فإنما يَضُرُّ نَفْسَهُ؛ باستحقاق العِقَاب.
﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ بِمَا يستحقونه مِنَ الثَّوَاب. قال ابن عباس (٣): يريد: الطائعين لله من المهاجرين والأنصار.
١٤٥ - وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الآية.
قال الأخفش (٤)، والزجَاجُ (٥): اللَّام في (لِنَفْسٍ) (٦)؛ معناها: النقل؛ بتقدير: وما كانت نفسٌ لِتَموتَ إلّا بِإذْنِ اللهِ (٧).
قال ابن عباس (٨): يريد: بقضائه وَقَدَرِهِ. وفي هذا رَدٌّ على القَدَريَّةِ؛ حيث قالوا: إنَّ المقتول لا يكون مَيتًا بِأَجَلِهِ (٩).
(١) في (ج): (وراه).
(٢) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ١١٣. ومن قوله: (على عقبه..) إلى (.. فلن يضر الله): ساقط من (ج).
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) لم أهتد إلى قوله في كتاب "المعاني" له، وقد ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٢٨أ.
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٧٤. وهو قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ١٠٤.
(٦) في (ج): النفس.
(٧) أي: أنَّ قوله: ﴿أَنْ تَمُوتَ﴾ جُعِل خبَرًا لـ ﴿كَانَ﴾، بعد أن كان اسمًا لها. وجُعِلَ ﴿لِنَفْسٍ﴾ اسمًا لـ ﴿كَانَ﴾ بعد أن كان خبرًا لها. انظر: "الدر المصون" ٣/ ٤٠٨.
(٨) لم أقف على مصدر قوله.
(٩) انظر رأيهم حول هذه المسألة في "كتاب الرد والاحتجاج على الحسن بن محمد بن الحنفية" ليحيى بن الحسين ١٥٣ وما بعدها، و"شرح جوهرة التوحيد" ١٦٠ - ١٦٢، =
41
واختلفوا في المراد بهذا: فقال بعض (١) أهل المعاني (٢): المراد به التَّسْلِيَةُ عَمَّا يلحق النفسَ بموت النبي - ﷺ - إذا (٣) وَقعَ. من جهة أنه إذا وَقَعَ كان بإذن الله.
وقال بعضهم (٤): المراد به: الحَضُّ على الجهاد، من حيث لا يموت أحدٌ فيه إلّا بإذن الله. وقال ابن الأنباري (٥): عاتب اللهُ تعالى (٦) بهذا المُنْهَزِمينَ يوم أُحُد؛ رَغْبَةً في الدنيا، وَضَنًّا بالحياة، وأخبرهم أن الحياة [لا تزيد] (٧) ولا تنقص، وأنَّ الموتَ بِأَجَلٍ عنده، لا يتقدم ولا يتأخر.
وقوله تعالى: ﴿كتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ إنتصب ﴿كِتَابًا﴾ بالفعل الذي دلّ عليه ما قبله، وذلك أن قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، يدل على: (كَتَبَ). وكذلك قوله: ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]، لأن في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣]، دِلاَلَةً على: (كَتَبَ هذا التحريمَ
= فقد ذكر آراء المعتزلة المختلفة في هذا الأمر، وذكر رأي أهل السنة، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٣٠٥، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٣٥١، و"تفسير القرطبي" ٧/ ٢٠٢، و"روح المعاني" ٤/ ٧٦.
(١) (بعض): ساقطة من (ج).
(٢) ممن قال بذلك: ابن فورك. انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٣٥١.
(٣) في (ج): (وإذا).
(٤) لم أقف عليهم. وقد ذكر هذا القولَ ابنُ عطية في "المحرر" ٣/ ٣٥١، ولم يعزه لقائل.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) كلمة (تعالى): ساقطة من (ج).
(٧) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب). (ج).
42
عليكم). ومثله: ﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾ [النمل: ٨٨]، و ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ [النساء: ١٢٢].
و (المُؤَجَّلُ): ذو الأَجَلِ. و (الأَجَلُ): الوقت المعلوم (١).
[و] (٢) قال عطاء (٣)، ومقاتل (٤): يريد مُؤَجَّلًا إلى أجله الذي هو في اللوح المحفوظ.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ قال المفسرون (٥): أي: من يُرِدْ بطاعته وعمله زينةَ الدنيا، وزُخْرُفَهَا؛ نُؤْتِهِ منها.
قال أهل المعاني (٦): هو مُجْمَلٌ (٧)، ومعناه: نؤته منها ما نشاء، مِمَّا قَدَّرناه له (٨) كقوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٨].
يعني بهذا: الذين تركوا المَرْكَزَ يوم أُحُد طلبًا للغنيمة، ورَغْبَةً في الدنيا (٩).
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٤.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) في "تفسيره" ١/ ٣٠٥.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١١٥ - ١١٦، و"معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٥، و"بحر العلوم" ١/ ٣٠٦، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٨ أ.
(٦) من قوله: (قال..) إلى (.. طلبًا للغنيمة): نقله -بتصرف يسير- عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٨ أ.
(٧) (هو مجمل): ساقط من (ج).
(٨) وممن قال بهذا: ابن إسحاق. انظر: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٦٤، و"تفسير الطبري" ٤/ ١١٥ - ١١٦، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٩، و"الدر المنثور" ٢/ ١٤٥ وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر. وهو قول الطبري. انظر: "تفسيره" ٤/ ١١٥ - ١١٦.
(٩) ممن قال هذا: مقاتل في "تفسيره" ١/ ٣٠٥.
43
﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ﴾ أي: مَنْ كانَ قَصْدُهُ بِعِمْلِهِ ثَوَابَ الآخرة. قال عطاء (١): يعنى: زينَتَها ومُلْكَها وسُرُورَهَا.
﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾. يعني بهذا: أولئك الذين ثَبَتُوا يومَ أُحُد حتى قُتِلُوا (٢).
أعْلَمَ الله -تعالى- أنَّهُ يُجازي كُلًّا على قَصْدِهِ وإرادته، فَمَنْ نَصِبَ للدنيا، و (٣) عمل لها، أُعْطِيَ منها حظًّا على قَدْرِما قُسِمَ له، ومَن عَمِلَ للآخرة فاز بها (٤)، كما رُوِيَ عن (٥) النبي - ﷺ - في قوله: "الأعمال بالنيَّاتِ" (٦)، الحديث المعروف.
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) هذا قول مقاتل في: "تفسيره" ١/ ٣٠٥، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٢٨ ب.
(٣) في (ج): (أو).
(٤) قال الزجاج: (وليس في هذا دليل أنه يحرمه خير الدنيا؛ لأنه لم يقل: (ومن يرد ثواب الآخرة، لم نؤته إلا منها)، والله -عز وجل- ذو الفضل العظيم). "معاني القرآن" ١/ ٤٧٥.
(٥) في (ج): (قال النبي) بدلًا من: روي عن.
(٦) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" -في مواضع منها-: (١) كتاب بدء الوحي. باب كيف كان بدء الوحي، و (٥٤) كتاب الإيمان: باب ما جاء من الأعمال بالنية، و (٢٥٢٩) كتاب العتق. باب الخطأ والنسيان في العتاق والطلاق، و (٣٨٩٨) كتاب مناقب الأنصار. باب هجرة النبي إلى المدينة.
وأخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (١٩٠٧) كتاب الإمارة. باب إنما الأعمال بالنيات. وأبو داود في "السنن" رقم (٢٢٠١) كتاب الطلاق. باب فيما عني به الطلاق والنيات. والترمذي رقم (١٦٤٧) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا. والنسائي ١/ ٥٨ كتاب الطهارة. باب النية في الوضوء، و ٦/ ١٥٨ كتاب الطلاق. باب الكلام إذا قصد به فيما يحتمل معناه، و٧/ ١٣ في الأيمان. باب النية في اليمين. وابن ماجة في "السنن" رقم (٤٢٢٧) كتاب "الزهد". باب النية. وأحمد في "المسند" ١/ ٢٥، ٤٣، والدارقطني في "السنن" ١/ ٥٠،=
44
وأَنَّثَ الكِنَاية (١) في ﴿مِنْهَا﴾، -وهي (٢) في المعنى راجعةٌ إلى الثواب-؛ لأن ثوابَ الدنيا، هو: الدنيا، وثوابَ الآخرة، هو: الآخرة. فرجوع الكِنَايَةِ إليها، كرجوعها (٣) إلى الثواب. ويقول القائل: (اللهم ارزقني الآخرة)؛ وهو يريد: ثوابَها.
وقوله تعالى: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ قيل (٤): إنَّه تكريرٌ للتأكيد الذي يُوجِبُ تمكين المعنى في النَّفْسِ؛ لأنه قد قال في الآية الأولى: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾.
وقال محمد بن إسحاق (٥): فيه إشارةٌ إلى أنَّ مَنْ أرادَ بِعَملِهِ الآخرةَ،
= وابن خزيمة في "الصحيح" ١/ ٧٣ رقم (١٤٢، ٢٤٣)، ١/ ٢٣٢ رقم (٤٥٥). وابن حبان في "الصحيح". انظر: "الإحسان" ٢/ ١١٣رقم: (٣٨٨)، (٣٨٩)، و١١/ ٢١٠رقم: (٤٨٦٨)، والبيهقي في "السنن" ١/ ٤١، ٢٩٨، و٢/ ١٤، و٤/ ١١٢، و٥/ ٣٩، و٧/ ٣٤١، والحميدي في مسنده ١/ ١٧ رقم (٢٨)، وأبو داود الطيالسي ١/ ٤١ - ٤٢ (٣٧)، وابن المبارك في "الزهد" ٦٢ رقم (١٨٨)، وهناد بن السري في "الزهد" ٢/ ٢٨٦ رقم (٨٨٣)، والخطيب في "تاريخ بغداد" ٩/ ٣٤٦، ٤/ ٢٤٤. وابن الجارود في: "المنتقى" انظر: "غوث المكدود" ١/ ٦٥ رقم (٦٤).
وقد وردت معظم روايات الحديث بلفظ: (إنما الأعمال بالنِّيَّة)، ووردت بعض الروايات: (الأعمال بالنية)، وفي رواية: (العمل بالنية)، والرواية التي أوردها المؤلف موافِقَةٌ لِما أورده ابن حبان في: "صحيحه"، ولفظه: "الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نَوَى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومَنْ كانت هجرتُه لدنيا يصيبُها أو امرأةٍ يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".
(١) أي: الضمير.
(٢) في (ج): (وهو).
(٣) في (ج): (لرجوعهما).
(٤) لم أقف على من قال بهذا القول.
(٥) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١١٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٧٩.
45
أُعْطِيَ ثوابَها، ولَمْ يُحْرَمْ مِن الدنيا ما يُعطَاه مِنْ عَمَلِ الدنيا (١)، مِمَّا قُسِمَ له.
١٤٦ - قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ﴾.
اجتمعوا (٢) على أنَّ معنى (كَأَيِّنْ): كم (٣)؛ وتأويلها: التكثير لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم. والكاف (٤) في (كَأَيِّنْ) كافُ التَّشْبِيه، دخلت على (أيٍّ)، التي هي الاستفهام-، كما دخلت على (ذا) مِن (كَذَا (٥)، و (أَنَّ) مِن (كَأَنَّ)، ولا معنى للتشبيه فيه، كما أنه لا معنى للتشبيه في (كَذَا)؛ لأنك تقول: (لي عليه كَذَا وكَذَا)؛ معناه: لي عليه عددٌ مَّا. فلا معنى للتشبيه. إلا أنها زيادةٌ لازمةٌ، لا يجوز حذفُها.
ولم يقع للتنوين صورةٌ في الخط، إلا في هذا الحرف خاصَّةً.
وكَثُرَ استعمالُ هذه الكلمة، فصارت كَكَلِمَةٍ واحدةٍ، موضوعة
(١) في "تفسير الطبري" مع ما يجري عليه من الرزق في الدنيا.
(٢) في (ج): (أجمعوا). وكذا ورد في "تفسير الفخر الرازي" ٩/ ٢٧ حيث نقل هذا النص عن المؤلف.
(٣) هي (كم) الخبرية التي يُكنى بها عن معدود كثير، ولكنه مجهول الجنس والكمية. و (كأين تشترك مع (كم) -هنا- في إفادة التكثير للمعدود، وهو الغالب من استعمالها، وتستعمل في الأكثر مع (مِنْ)، ولا تأتي استفهامًا إلا في النادر، وهو رأي الجمهور، وأثبت وقوعها استفهامًا: ابن قتيبة وابن عصفور وابن مالك؛ كما أفاد ذلك ابن هشام. ويرى سيبويه أن معنى (كأين) معنى: (رُبَّ).
انظر: "كتاب سيبويه" ٢/ ١٧٠، و"تأويل مشكل القرآن" ٥١٩، و"الإيضاح العضدي" ١/ ١٤٣، و"المغني" لابن هشام ٢٤٦، و"النحو الوافي" ٤/ ٥٧٧ - ٥٨٠.
(٤) من هنا إلى نهاية: (.. لدن غدوة): نقل معناه عن "الحجة"، للفارسي ٣/ ٨٠ - ٨٢، مع إضافات أخرى لم أقف على مصادرها.
(٥) (كذا) من كنايات العدد المبهمة التي يكنى بها عن معدود؛ سواء كان كثيرًا أو قليلًا.
46
للتكثير؛ كقول الشاعر:
كأيِّنْ في المَعَاشِرِ مِنْ أُنَاسٍ أخُوهُم فوقَهْمْ وهُمُ كِرَامُ (١)
أي: كَم مِن أُنَاسٍ.
وقرأ ابنُ كَثِير (٢): ﴿وَكَائِنْ﴾ (٣)، في وزن: (كاعِنْ).
ووجه هذه القِرَاءةِ: أن (٤) (كأيِّنْ) لَمَّا جُعِلَت كلمةً واحدةً، قُلِبت قَلْبَ الكلمة الواحدة؛ كما فُعلَ ذلك، فيما حكاه أحمد بن يحيى (٥) مِن قولهم: (لَعَمْري)، و (رَعَمْلِي)، فصارت بالقَلْبِ (كَيَّإن). فَحُذِفت (٦) الياءُ الثانيةُ تخفيفًا؛ كما حُذِفَت مِن (مَيْت) و (هَيْن) و (لَيْن) (٧)، فصارت: (كَيْإنْ) (٨) بعد
(١) للكميت بن زيد الأسدي في ديوانه، وأخبار أبي تمام، بلفظ (أخوهم منهم) والوساطة للجرجاني ص ٣٢٩.
وقد ورد في: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٦، و"حجة القراءات" ١٧٥، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٩ أ، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٣٥٤، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٢٨، و"البحر المحيط" ٣/ ٧٢، و"الدر المصون" ٣/ ٤٢٢. وروايته عند الثعلبي:
(وكأين من أناس لم يزالوا...................).
المَعَاشِر: جماعات الناس. والمَعْشَرُ: كلُّ جماعةٍ أمرُهُم واحد، نحو: مَعْشَر المسلمين، ومَعْشَر المشركين. انظر: "اللسان" ٤/ ٧٥٤ (عشر).
(٢) انظر: "السبعة" ٢١٦، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٨٠، و"الكشف" ١/ ٣٥٧.
(٣) (أ)، (ب)، (ج): (وكاين). والمُثْبَت هو الموافق للقراءة.
(٤) (أن): ساقطة من (ج).
(٥) هو ثَعْلب. وقوله في: "الحجة"، للفارسي ٣/ ٨١، و"المسائل المشكلة" له ٣٩٤، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٠٨.
(٦) من قوله: (فحذفت..) إلى (.. فصارت كَيْإن): ساقط من (ج).
(٧) الأصل فيها: (مَيِّت، وهَيِّن، ولَيِّن). انظر: "المنصف" ٢/ ١٥.
(٨) في (أ)، (ب): (كَيْأن). والمثبت من: "الحجة" ٣/ ٨١، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٠٧، و"المحتسب" ١/ ١٧١. ورسِمَت الكلمةُ فيها: (كَيْءٍ).
47
الحذف، ثم أبْدِلت من الياء الألف؛ كما أبدلت في (طَائِيٍّ) (١)، وكما أبدلت في (آيَةٍ) عند سيبويه (٢)، وكانت (أَيَّةً) (٣)، وقد حُذِفَت الياءُ مِن (أَيٍّ) في قول الفرزدق:
تَنَظَّرْتُ نَضرًا والسِّماكَيْنِ أيْهُمَا (٤) عَلَيَّ مِنَ الغَيثِ اسْتَهَلَّتْ مَواطِرُهْ (٥)
(١) في (أ)، (ب)، (ج): (طاي). والمثبت من المصادر السابقة، و"المسائل المشكلة" ٣٩٤.
والأصل في كلمة (طائي): (طَيِّئيّ)، ثم حذفوا الياء المتحركة من الياء المشددة الأولى، فصارت: (طَيْئيّ)، ثم قلبوا الياءَ الساكنةَ ألِفًا، فصارت (طائي). انظر: "الدر المصون" ٣/ ٤٢٣، و"روح المعاني" ٤/ ٢٧، ويرى مَكيُّ بن أبي طالب أنَّ أصل (طائي): (طيِّيّ) -بياءين مشددتين-؛ لأنه ينسب إلى (طَيّ)، لكن أبدلوا من الياء الأولى الساكنةِ ألِفًا، فوقعت الياء الثانية بعد ألف زائدة، فأبدلوا منها همزة.). "الكشف"١/ ٣٥٧. وانظر: "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٣، ٣٠٧، ٢/ ٦٦٩.
(٢) انظر: "الكتاب" له ٤/ ٣٩٨، و"الحجة" للفارسي ١/ ٨٥، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٣، ٢/ ٦٦٩، و"الكشف" ١/ ٣٥٧.
(٣) في (ب): (أبيه).
(٤) في (ج): (الهما).
(٥) في (ب): (مواطر). والبيت في: ديوانه: ٢٤٦. وقد ورد منسوبًا له في: "الحجة" للفارسي ١/ ٩٢، ٣/ ٨١، و"المحتسب"١/ ٤١، ١٠٨، ٢/ ١٥٢، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٣٥٥، و"اللسان" ٢/ ١٠٦٨ (حير). وقد ورد في: "اللسان" (تنظرت نَسْرا..).
وقوله: (نصرا) يعني: نَصْرَ بن سَيَّار، الذي قال القصيدة في مدحه.
والسِّمَاكان: نجمان نَيِّران، أحدهما: السماك الرامح، والآخر: السماك الأعزل. و (الرامح) لا نَوْء له، وهو في جهة الشمال. و (الأعزل): من منازل القمر، وهو من كواكب الأنوار، وجهتة الجنوب. انظر: (سمك) في: "التهذيب" ٢/ ١٧٥٩، و"اللسان" ٤/ ٢٠٩٩.
والشاهد فيه: تخفيفه لـ (أيِّهما)؛ بأن حذف الياءَ الثانِية.
48
فَلَمَّا أُبْدِلَت الألفُ مِن الياء، صارت: (كَائِنْ)، على وزن: (كاعِنْ). وأكثر ما جاء في الشعر، على هذه اللغة.
قال جرير:
وكايِنْ في الأَبَاطِحِ مِن صَدِيقٍ يَرَانِي لَوْ أُصِيبَ (١) هو المُصَابَا (٢)
(١) هكذا جاءت في كل (أ)، (ب)، (ج): (أصيبَ). وهي خلاف ما جاء في كل المصادر التي أوردت البيت. وقد أثْبَتها كذلك؛ لاتفاق النسخ عليها، ولأني وجدت ابن الحاجب أوردها كذلك. انظر: "أمَالِيه" ٢/ ٦٦٢.
وجاء في جميع نسخ تفسير (الوسيط) للمؤلف: (لو أصِيب)، ولكن المحقق جعلها (لو أصِبْتُ)، وقال: (في جميع النسخ: (لو أصيب) وما أَثبته هو "الصحيح". "الوسيط" (تحقيق: بالطيور) ٣٤٦.
(٢) البيت في "ديوانه" ٢١. وقد ورد منسوبًا له في أكثر المصادر التالية: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٥، و"الإيضاح العضدي"، للفارسي ١/ ١٤٣، و"شرح الأبيات المشكلة" له ٢٤٤، و"الحجة" له ٣/ ٨٠، و"حجة القراءات" ١٧٤، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ١٠٦، و"غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٢٧٢، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٣٥٢، و"شرح المفصل" ٣/ ١١٠، ٤/ ١٣٥، و"أمالي ابن الحاجب" ٢/ ٦٦٢، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٢٨، و"المغني" ٦٤٣، و"منهج السالك" ٤/ ٨٧، و"همع الهوامع" ١/ ٦٨، ٢٥٦، و"شرح شواهد المغني" ٨٧٥، و"الدرر اللوامع" ١/ ٤٦، ٢١٣، ٢/ ٩٢، و"خزانة الأدب" ٥/ ٣٩٧.
ورد البيت في جميع المصادر السابقة: (بالأباطح..). وورد في الديوان وجميع المصادر السابقة -عدا أمالي ابن الحاجب-: (.. يراني لو أصِبْتُ هو المصابا). وأشار في: "خزانة الأدب" ٥/ ٤٠١ إلى أن الأخفش رواه: (وكم في الأباطح..)، وليس فيه موضع الشاهد.
الأباطح، جمع: أبطح، وهو: مَسِيل واسعٌ فيه دقاق الحصى. ويجمع -كذلك- على: (بِطَاح)، و (بَطَائِح). انظر: "القاموس" ص ٢١٣ (بطح).
ومعنى (يراني لو أصيبَ هو المصابا) -على الرواية التي أوردها المؤلف-: يراني أننى المصاب فيما أصِيب هو. -والله أعلم-.
49
وأنْشَدَ المُفَضّل (١):
وكائِنْ (٢) تَرَى (٣) في الحَيِّ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ وغَيْرَان يَدْعُو ويلَهُ مِنْ حِذَارِيَا (٤)
فإنْ وقفت على هذه الكلمة؛ فَلَكَ في الوَقْفِ على قِرَاءةِ ابن كثير، ثلاثة أوجه:
أحدها: أنْ تحذف التنوين الدَّاخِلَ الكلمة مع الجرِّ، فيقول (٥): (كاءْ). فَتُسَكِّنْ (٦) الهمزةَ المجرورةَ للوقف.
الثاني: أن يقول: (كائِي) (٧)؛ على لغة من يقول: (مَرَرْتُ بِزَيْدِيْ)، في الوقف، فَيُبْدِل (٨) مِنَ التَّنْوِين الياءَ.
(١) قوله: (وأنشد..) إلى نهاية بيت الشعر: (.. حذاريا): ورد بنصه في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٩ أ. ويبدو أن المؤلف نقله عنه.
(٢) في (أ)، (ب)، (ج): (وكاين).
(٣) في (ب): (يرى). وفي (ج): (نرى).
(٤) لم أقف على قائله. وقد ورد في المصدر السابق، وأورد شطره الأول الفخرُ الرازي في "تفسيره" ٩/ ٢٧. والحِذار: المحاذرة، والتحرز، والتأهب. انظر: "اللسان" ٢/ ٨٠٩ (حذر).
(٥) هكذا في: (أ)، (ب). وفي (ج): مهملة من النقط. وقد تكون على تقدير: فيقول الواقف، أو القارئ.
(٦) في (ب): (كائنتسكن). وفي (ج): (كافتسكن).
(٧) (أ)، (ب)، (ج): (كايَ). وما أثبَتُّه من "الحجة"، للفارسي ٣/ ٨٢، وهو الصواب؛ لأن الإبدال من التنوين، وليس من الهمز.
(٨) في (ج): (فتبدل).
50
الوجه الثالث: أنْ تَقِفَ على التنوين، وتترك الحركة (١)؛ فتقول: (كَائِنْ) (٢)؛ وذلك أنَّ التنوين -بالقَلْبِ الذي حدث في هذه الكلمة-، صارت بمنزلة النون التي من نَفْسِ الكلمة [فَتُقِرُّهُ نُونًا في الوَقْفِ] (٣)، بمنزلة [ما هو من نفس الكلمة؛ كما أنهم جعلوا ما هو من نفس الكلمة] (٤)، [التنوينَ] (٥) الزائدَ (٦)، في قول من قال: (لَدُنْ غُدْوَةً) (٧).
فأما الوقف في القراءة (٨) الأولى، فتقف على الياء، وتترك التنوين، ولا
(١) في (ب): أن تترك الحركة، وتقف على التنوين.
(٢) في (ب)، (ج): (كاين).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٥) ما بين المعقوفين زيادة أضفتها ليتضح الكلام. انظر: "الحجة" ٣/ ٨٢.
(٦) في (ج): (الزائدة).
(٧) لَدُنْ: ظرف زمان ومكان، على حسب إضافتها، وهي مبنية على السكون، وتعني: (عند)، وهي تلازم الإضافة؛ إما إلى الاسم، أو الضمير. ويقال: (لُدْن، ولَدْن، ولَدِن، ولَدُ، ولَدَى). أما (لَدُنْ غُدْوَة)، فقال الأزهري عنها: (وَرَوَى أبو عمرو عن الإمامين: المبرد، وثعلب، قالا: العرب تقول: (لَدُنْ غُدوةً) و (لَدُنْ غُدْوةٌ)، و (لَدُنْ غُدْوَةٍ). قالا: فمن رَفَع؛ أراد: لدن كانت غُدْوةٌ [أي: (كان) -هنا- التَّامَّة. ومَن نَصَب؛ أراد: لدن كان الوقت غُدْوَةً. ومن خفض؛ أراد: مِن عِنْد غُدْوةٍ). "التهذيب" ٣/ ٢٦٣٦ (غدا)، وانظر: "شرح المفصل" ٢/ ١٢٧، و"اللسان" ٧/ ٤٠٢٢ (لدن)، و"معجم الشوارد النحوية" ٥١١ - ٥١٢.
والغُدْوَةُ: البُكْرَةُ ما بين صلاة الفجر، وطلوع الشمس. فإذا كانت مِن يَومٍ بعينه، فهي عَلَمٌ للوقت، غير مَصْروفَةٍ، فلا يدخلها التَنْوِينُ؛ لأنها مَعْرِفَة، أما إذا كانت نَكِرَةً، فإنها تُنَوَّنُ. انظر. "اللسان" ١٥/ ١١٦.
(٨) في (ب)، (ج): (القراة).
51
تقف على النون؛ لأنه لم يُقْلَبْ، كما ذكرنا من القَلْبِ في قراءة ابن كثير (١).
وقوله تعالى: ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾. ﴿قُتِلَ﴾، و ﴿قَاتَلَ﴾ (٢). فمن قرأ: ﴿قُتِلَ﴾ (٣)، احتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون القَتْلُ مُسْنَدًا إلى ﴿نَبِيٍّ﴾. [وقوله: ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾]، (٤) صِفَة لـ ﴿نَبِيٍّ﴾. و (الرِّبِّيُّون) -على هذا- مرتَفِعٌ بالظَّرْفِ (٥).
والثاني: أنْ يُسْنَدَ القَتْلُ إلى قوله: ﴿رِبِّيُّونَ﴾. ويكون معنى قوله: ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ أي: مَا وَهَنَ باقِيهم بَعْدُ، بِمَنْ (٦) قُتِلَ منهم في سبيل الله. فَحُذِفَ المُضَافُ، وأقُيِمَ المضافُ إليه مقامه؛ والمعنى: ما وَهَنَ مَنْ بَقِيَ
(١) انظر: الكلام حول (كائن) في: "كتاب سيبويه" ٣/ ١٥١، ٢/ ١٧٠ - ١٧١، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٨٠ - ٨٢، و"المسائل المشكلة" ٣٩٣ - ٣٩٤، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٠٦ - ٣٠٨، و"المحتسب" ١/ ١٧٠ - ١٧٣، و"الكشف" لمكي ١/ ٣٥٧، ٣٥٨، و"مشكل إعراب القرآن" له ١/ ١٧٥.
(٢) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع -من السبعة-، ويعقوب: ﴿قُتِلَ﴾. وقرأ باقي القراء: ﴿قَاتَلَ﴾.
انظر: "السبعة" ٢١٧، و"الحجة"، للفارسي ٣/ ٨٢، و"النشر" ٢/ ٢٤٢، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ١٨٠.
(٣) من قوله: (فمن قرأ..) إلى (.. وتضمر للمبتدأ خبرا): نقله -بتصرف واختصار- عن "الحجة"، للفارسي ٣/ ٨٣
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٥) ويكون الضمير الذي في ﴿مَعَهُ﴾ يعود لـ ﴿نَبِيٍّ﴾. ويجوز أن يكون ﴿قُتِلَ﴾ في محل جَرٍّ، صِفَةً لـ ﴿نَبِيٍّ﴾، و ﴿مَعَهُ رَبِّيُّونَ﴾. صِفَةً ثانية. أو يكون ﴿مَعَهُ رَبِّيُّونَ﴾ في حالة إسناد القتل إلى ﴿نَبِيٍّ﴾ -: حالًا مِن الضَمِير الذيَ في ﴿قُتِلَ﴾. انظر: "الحجة" ٣/ ٨٣، و"الدر المصون" ٣/ ٤٢٧.
(٦) في "الحجة" بعْدَ مَنْ.
52
منهم لِقَتْلِ (١) مَن قُتِلَ مِنَ الرِّبَيِّينَ، لأن مَنْ قُتِلُوا لا يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ (ما وَهَنُوا).
وحُجّة هذه القراءة: أنَّ هذا الكلامَ، اقتصاصُ ما جرى عليه سَيْرُ (٢) أُمَمِ الأنبياء -عليهم السلام- قبلهم؛ لِيَتَأَسَّوا بهم. وقد قال: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٤٤].
ومَنْ قَرَأَ: ﴿قَاتَلَ﴾، جاز فيه الوجهان اللذان ذكرنا في ﴿قُتِلَ﴾، مِن إسناد القِتَالِ إلى ﴿نَّبيٍّ﴾، أو إلى ﴿الرِّبِّيِّينَ﴾.
وحُجَّةُ هذه القراءة: أنَّ المُراد بهذه الآية مدح الطائفة الذين مع النَّبِيِّ، بالقتال والثَّبَاتِ على ما كان عليه نَبِيُّهُمْ. والقتال أَلْيَقُ بهذا المعنى مِنَ القَتْلِ، فَحَصلَ مِن هذا أنَّ قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ﴾، موضع الكاف الجَارَّةِ مع المجرور، رَفْعٌ بالابتداء، كما أنَّ موضع (لَهُ كَذَا وَكَذَا)، رَفْعٌ. وخَبَرُهُ: ﴿قُتِلَ﴾؛ إذا أسندت القَتْلَ إلى ﴿نَبِيٍّ﴾. وإذا لم يُسنَدْ القَتلُ إليه، كان قولُه: ﴿قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾: صِفَةً لـ ﴿نَبِيٍّ﴾، وتُضمِرُ للمبتدإ خَبَرًا؛ بتقدير: (كَأيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ معه رِبِّيُّونَ كثيرٌ قبلكم أو مضى). وما أشبهه من التقدير.
وهذا الذي ذكرنا في هذه الآية: قولُ الفَرَّاء (٣)، والزجَّاج (٤)، وأبي علي (٥)، وجميع مَن يُوثَقُ بِعِلْمِهِ في النحو (٦).
(١) في (ج): (بقتل).
(٢) في "الحجة"، ضُبِطت: سِيَرُ.
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٧.
(٤) في "معاني القرآن" له / ٤٧٦.
(٥) في "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٨٣ - ٨٤
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١١٧، و"إيضاح الوقف والابتداء" ٢/ ٥٨٥ - ٥٨٧،=
53
وقوله تعالى: ﴿رِبِّيُّونَ﴾.
قال الفَرّاء (١): الرِّبِّيُّون: الأُلُوف. وهو قول ابن مسعود (٢)، والضحاك (٣)، والكلبي (٤).
وقال الزّجاج (٥): هم الجماعة الكثيرة.
أخبرنا العَرُوضي (٦)، عن الأزهري، عن المنذري، عن أبي طالب، قال (٧): الرِّبِّيُّونَ: الجماعات الكثيرة. الواحد: (رِبِّيٌّ).
= وكتاب "القطع والائتناف" ٢٣٦ - ٢٣٧، و"حجة القراءات" ١٧٥ - ١٧٦، و"التبيان"، للعكبري ص ٢١٢ - ٢١٣.
(١) في "معاني القرآن"، له ١/ ٢٣٧.
(٢) قوله في "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٣٤، و"تفسير الطبري" ٤/ ١١٨، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٠، و"معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٩٠، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٩ب، و"تفسير البغوي" ٢/ ١١٦، و"زاد المسير" ١/ ٤٧٢، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٤٦ وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(٣) قوله في "تفسير الطبري"٤/ ١١٩ونصه عنده: (جموع كثيرة، قتل نبيهم). وفي "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٩ ب، ونصه عند: (الرِّبِّيَّة الواحدة: ألف)، وكذا في: "تفسير البغوي" ٢/ ١١٦.
وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٤٦ ونسب إخراجه إلى سعيد بن منصور، ولفظه: (الرِّبَّة الواحدة: ألف).
(٤) قوله، في: "بحر العلوم" ١/ ٣٠٦، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٩ ب، و"تفسير البغوي" ٢/ ١١٦، ونصه: (الرِّبِّيَّة الواحدة: عشرة آلاف)
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٧٦، وأوره بلفظ: (قيل:.. إنهم الجماعات الكثيرة) واستحسنه.
(٦) هو: أحمد بن محمد، أبو الفضل. تقدمت ترجمته.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٣٦ - ١٣٣٧ (ربّ)
54
وهو قول ابن عباس (١)، ومجاهد (٢)، وقتادة (٣)، والرَّبِيع (٤)، والسُّدِّي (٥).
[و] (٦) قال ابن قتيبة (٧) وأصله مِن (الرِّبَّةِ)، وهي: الجَمَاعة، يقال (٨): (رِبِّيّ)؛ كأنه نُسِبَ (٩) إلى (الرِّبَّةِ) (١٠)، ثم يُجمَع (رِبِّيّ) بالواو (١١).
وقال الأخفش (١٢): الرِّبَيُّونَ: الذين (١٣) يعبدون الرَّبَّ، واحِدُهم: (رِبِّيُّ).
(١) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١١٧ - ١١٨، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٠، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ١٤٦ - ١٤٧ وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر.
وفي رواية أخرى عنه فَسرها بـ (علماء كثير). انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١١٧.
(٢) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١١٨، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٠، و"معاني القرآن"، للنحاس: ٤٩٠، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٩ ب، و"النكت والعيون" ١/ ٤٢٨، و"زاد المسير" ١/ ٤٧٢.
(٣) قوله، في: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٣٤، و"تفسير الطبري" ٤/ ١١٨، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٠، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٩ ب، و"زاد المسير" ١/ ٤٧٢.
(٤) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١١٨، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٢٩ ب، و"زاد المسير" ١/ ٤٧٢.
(٥) قوله، في: المصادر السابقة، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٠.
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٧) في "تفسير غريب القرآن" له ص ١٠٦.
(٨) في "تفسير الغريب" يقال للجمع.
(٩) في (ج): (ينسب).
(١٠) (الربة): مطموس في (ج).
(١١) في "تفسير غريب القرآن" فيُقال: رِبَّيُّون.
(١٢) في "معاني القرآن"، له ١/ ٢١٧.
(١٣) (أ)، (ب): (الذي). والمثبت من (ج)، و"معاني القرآن".
55
قال أحمد بن يحيى (١): ينبغي أن يُفتَحَ [الرَّاءُ] (٢) على قول الأخفش، فيقال: (رَبِّي) (٣)؛ لِيَكونَ منسوبًا إلى الرَّبِّ.
فقال مَنْ نَصَرَ الأخفشَ (٤): العرب تنسب الشيءَ إلى الشيء، فتغيِّر حَرَكَتَهُ؛ كما قالوا: (بِصْرِي)، في النسبة إلى البَصْرَةِ.
وقوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا﴾ جَمَعَ بين الوَهْنِ والضَّعْفِ؛ لأن (الوَهْنَ): انكسارُ الحَدِّ بالخوف (٥).
و (الضَّعْفُ): نُقْصانِ القوة. أي: لم يَهِنْوا بالخوف، ولا ضَعُفُوا بنُقْصان القُوَّة. هذا معنى قول أبي إسحاق (٦): ما جَبُنُوا عن قِتَال عَدُوِّهم،
(١) قوله، في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٣٦ (ربّ)، و"اللسان" ٣/ ١٥٤٨ - ١٥٤٩ (ربب).
(٢) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب)، (ج): (إلّا). وهي تخل بالمعنى، وأراها تصحيفًا من النساخ. والمثبت من: المصادر السابقة.
(٣) في (أ): رِبِّي -بكسر الراء-. وفي (ب)، (ج): مهمل من النقط. وما أثبَتُّهُ -بفتح الراء- هو الصواب.
(٤) هو الثعلبي، في: "تفسيره" ٣/ ١٢٩ ب.
(٥) في (ج): (بالحذف).
لم أرَ في مصادر اللغة والتفسير التي رجعت إليها، مَن فسَّر (الوَهْن) بهذا المعنى الدقيق، وإنما فَسَّروه جميعًا بـ (الضَّعْف)، وجعلوهما مترادفين، وهما من عطف الشيء على نفسه. ومنهم من قال بأنه الضعف في الخَلْق والخُلُق، ومنهم من فَسَّره بالضعف في العمل والأمر.
انظر: "غريب القرآن"، لابن اليزيدي ٤٤، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٠٦، و"غريب الحديث" للحربي ١٠٥٦، وانظر مادة (وهن) في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٦٦، و"الصحاح" ٢٢١٥، و"المقاييس" ٦/ ١٤٩، و"اللسان" ٨/ ٤٩٣٥، و"تخليص الشواهد" لابن هشام ٤٥٢، و"عمدة الحفاظ" ٦٤٥.
(٦) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٧٦.
56
وَمَا فَتَرُوا (١)
وقوله تعالى: ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ الاسْتِكَانَةُ: الخُضُوعُ. وهو أنْ يَسْكنُ لصاحِبِهِ، لِيَفْعَلَ (٢) بِهِ ما يريد؛ أي: وما خضعوا لِعَدُوِّهم (٣).
قال المفسرون: هذه الآية احتجاجٌ على المنهزِمِينَ يومَ أُحُد، وذلك أنَّ صائِحًا صاحَ: قد قُتِلَ مُحمَد! فاضْطَرَبَ أمرُ المسلمينَ؛ كما ذكرنا القصة في قوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ [آل عمران: ١٤٤]، الآية.
واختلفوا فيما بينهم، فأنزل الله هذه الآية، يعاتبهم على ما كان مِن فِعْلِهم، وَيحَضُّهم على الجهاد في سبيل الله؛ لِسُلُوك طريقة العلماء مِن صَحَابَةِ الأنبياء، لِيَقْتَدِيَ الخَلَفُ بالسَّلَفِ في الصَّبْرِ، حتى يأتي اللهُ عز وجل
(١) نص عبارة الزجاج: (﴿فَمَا وَهَنُوا﴾: فما فَتَروا، ﴿وَمَا ضَعُفُواْ﴾: وما جبنوا عن قتال عدوهم).
أفهم من عبارة المؤلف -والله أعلم- أن (الوَهْنَ): أقرب إلى أن يكون نقصان القوة المعنوية، ومنها خَوَر العزيمة، ودبيب اليأس إلى النفس، وحُلُول الخوف. وأما (الضعف)؛ فهو: نقصان القوى البدنية، والفشل في المقاومة. ومن الطبيعي أنه إذا عمل الخوفُ عَمَلَه في النفس، خارت العزيمةُ، وضعفت القُوَى البدنيةُ، وقلّ إثرَها اندفاعُ الإنسان، وكُسِرت حدَّتُه، فيتضعضع حينها، ويذل، ويستكين. فالوهْنُ يكون أوَّلًا ثم الضعف، ثم الاستكانة.
انظر حول هذا المعنى: "التحرير والتنوير" لابن عاشور ٤/ ١١٨، و"تفسير الفخر الرازي" ٩/ ٢٨.
(٢) من قوله: (ليفعل..) إلى نهاية قوله: (.. وقال في موضع آخر: السلطان في اللغة: الحجة): سقط من: (ج) من هذا الموضع من المخطوط، ثم عاد الناسخ وكتبه بعد تفسير قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ آية: ١٥٢، بحيث تداخل مع تفسير هذه الآية.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٦.
57
بالفتح (١).
وقال ابنُ الأنباري (٢) في هذه الآية: أي: وقد كان واجبًا عليكم، أن تُقاتلوا على أَمْرِ نَبِيِّكُمْ لو قُتِلَ؛ كما قَاتَلَ أُمَمُ الأنبياء بعد قَتْلِهِم، وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهم.
١٤٧ - قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ قال ابن عباس (٣): يريد: عند لِقَاء العدو. وهذا بعد أنْ قُتِلَ نَبِيُّهُم.
وقوله (٤) تعالى: ﴿وَإِسْرَافَنَا﴾ الإسْرَافُ -في اللغة-: مُجَاوَزَةُ الحَدِّ. ومثله: السَّرَفُ (٥).
قال ابن الأعرابي (٦): هو تَجَاوُزُ ما حُدَّ لك. قال ابن عباس (٧) -في قوله: ﴿وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ -: يريد: في المَعَاصِي.
وقوله تعالى: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ قال ابن عباس (٨): يريد: بالقُوَّةِ مِن عِندك، والنُّصرَةِ. وعلى هذا أكثر المفسرين؛ أَنَّ المراد بهذا: سؤال
(١) (بالفتح): ساقط من (ج).
وانظر: التعليق على تفسير المؤلف لقوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ من آية: ١٤٤ سورة آل عمران، فقد وردت مصادر هذه الأقوال هناك.
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) في (ج): قوله. -بدون واو-.
(٥) انظر: (سرف) في: "مقاييس اللغة" ٣/ ١٥٣، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٤٠٧، و"بصائر ذوي التمييز" ٢/ ١٠٥.
(٦) قوله في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٧٥ (سرف).
(٧) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٢٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٣.
(٨) لم أقف على مصدر قوله.
[القوة و] (١) المعونة التي تَقَوَّى (٢) بها قُلُوبُهم على جهاد عدوهم، حتى يقع معها ثُبُوت (٣) أقدامهم (٤).
وقال (٥) أبو إسحاق (٦): معنى ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ أي: ثَبِّتْنَا على دينك. قال: فإذا (٧) ثَبَّتَهُمْ على دينهم، ثَبَتُوا في حربهم. واحتج بقوله: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ [النحل: ٩٤]، قال: المعنى: تَزِلَّ عن الدِّينِ.
وهذا تعليم لدعاء الاستفتاح والاستنصار على الكُفَّار، وتعريضٌ بالعِتابِ معهم، حين أخبر عن غيرهم من الأمم بهذا.
١٤٨ - قوله تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ قال ابن عباس (٨): يريد: النَّصْر (٩) والظَّفَر والغنيمة.
﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ يعنى: الأجر والمغفرة، وما يَلْقَوْنَه مِنَ النَّعِيم.
١٤٩ - قوله تعالى: ﴿إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: اليهود؛
(١) ما بين المعقوفين زيادة من (ب).
(٢) في (ب): (تقوي).
(٣) في (ب): (ثبات).
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٣٠٧، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٢١، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٠ ب. وهو قول ابن عباس؛ كما في: "زاد المسير" ١/ ٤٧٣.
(٥) في (ج): (قال).
(٦) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٧٧.
(٧) في (ج): (وإذا).
(٨) لم أقف على مصدر قوله. وهو قول: الحسن، وقتادة، والربيع، وابن جريج، وابن إسحاق. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٢٢، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٣ - ٧٨٤.
(٩) في (ب): (بالنصر).
في قول ابن عباس (١)، والأكثرين.
وقال السُّدِّي (٢): يعني: أبا سفيان، وأصحابه.
وقال علي (٣): يعني: المنافقين؛ في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجِعُوا إلى دِينِ آبائكم.
وقوله تعالى: ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي: يُرْجعوكم إلى أَوَّلِ أمْرِكم؛ الشركِ بالله (٤).
١٥٠ - وقوله تعالى: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ﴾ أي: ناصِرُكُم ومُعِينُكم. والمعني في هذه الآية: يقول: أنا مولاكم؛ فاسْتَغْنُوا عن مُوَالاةِ الكفَّار، وناصِرُكُمْ؛ فلا تَسْتَنْصِرُوهم.
١٥١ - [و] (٥) قوله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾.
قال المفسرون: هذا وَعْدٌ مِنَ الله تعالى للمؤمنين، بِخذلان أعدائِهم بالرُّعْب (٦).
(١) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد عن ابن جريج: أنهم اليهود والنصارى، وممن قال بذلك: الطبري، والثعلبي.
انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٢٣، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٥، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٠ ب.
(٢) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٢٣، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٤.
(٣) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٠ب، و"زاد المسير" ١/ ٤٧٤، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٣٢.
وبه قال مقاتل في "تفسيره" ١/ ٣٠٦، وأبو الليث في "بحر العلوم" ١/ ٣٠٧.
(٤) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٣٠٧، و"زاد المسير" ١/ ٤٧٤، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٣٢.
(٥) زيادة من (ب).
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٢٧٩.
60
وقال السُّدِّي (١): لَمَّا انصرَفَ أبو سفيان وأصحابه مِن أُحُد إلى مَكَّةَ، هَمُّوا بالرجوع لاستئصال المسلمين، فألقى اللهُ في قلوبهم الرُّعْبَ، فَمَضوا ولم يرجعوا.
و (الإلقاء) (٢): أصلُهُ في الأعيان؛ كقوله: ﴿وَأَلقَى اَلأَلوَاحَ﴾ [الأعراف: ١٥٠]، ﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ﴾ [الشعراء: ٤٤]، ﴿إِذْ يُلْقُونَ﴾ [آل عمران: ٤٤].
ويُسْتَعْمَلُ في غير الأعيان؛ تَوَسُّعًا؛ كقوله: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طه: ٣٩]، ويقال: ألقَى عليه مَسْئلةً).
ومِثْلُ (الإلقاء) -في أنه يُسْتَعْمَلُ في الأعيان حقيقةً، وفي غير الأعيان تَوَسُّعًا-: (القَذْفُ)، و (الرَّجْمُ)، و (الرَّمْيُ)؛ يقال: (رَمَاهُ بالزِّنَا)؛ قال الله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ [النور: ٦] أي: بالزِّنَا. وهذا اتِّسَاعٌ؛ لأن هذا ليس بِعَيْنٍ، وكذلك: (القَذْفُ).
قال الشاعر:
قَذَفُوا سَيِّدَهُم في وَرْطَةٍ قَذْفَكَ المَقْلَةَ وَسْطَ المُعْتَرَكْ (٣)
(١) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٢٤، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٠ ب، و"زاد المسير" ١/ ٤٧٤.
(٢) من قوله: (والإلقاء..) إلى (.. والعنق): نقله -بتصرف واختصار- عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٨٥ - ٨٨
(٣) البيت ليزيد بن طُعْمَة الخَطْمِيِّ. وقد ورد منسوبًا له في: كتاب "المعاني الكبير" ١/ ٣٠٩، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٣٠ (مقل)، و"اللسان" ٨/ ٤٨١٣ (ورط)، ٧/ ٤٢٤٥ (مقل).
وورد غير منسوب في: "مجالس ثعلب" ٢/ ٥٤٢، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٨٧. وقد ورد في "المعاني الكبير" (قذفوا جارهم في هُوَّةٍ..). =
61
فالأوَّل: على الاتِّسَاع، والثاني: على الأصل؛ ألا تَرَى أنَّ المَقلَةَ تُلقَى للتَّصَافُنِ (١).
وقوله تعالى: ﴿الرُّعْبَ﴾ يُقرأ (٢) بالتَّثْقِيلِ، والتخفيف (٣)، وهما لُغَتَانِ، كـ (الطُّنْبِ (٤) والطُّنُبِ)، و (العُنْقِ والعُنُقِ)، ومثله كثير (٥).
= والوَرْطَةُ: الهَلَكَةُ، أو كلُّ غامض. وأصلها: الأرض التي لا طريق فيها. و (أوْرَطَهُ)، وَ (وَرَّطَهُ): أوقعه فيما لا خلاص له منه.
والمَقْلَةُ: هى حصاة القَسْمِ، التي توضع في الإناء، ويصب فيه الماء حتى يغمرها، فيعرف بها قَدْرُ ما يسقى كلُّ واحد؛ وذلك إذا قل الماء، وكانوا في سفر. وفي "مجالس ثعلب": ٢/ ٥٤٢: أنها الحجر الذي يُلقى في البئر، يُقدر به الماء انظر: "اللسان" ٨/ ٤٨١٢ (ورط)، ٧/ ٤٢٤٥ (مقل).
(١) يقال: (تَصَافَنَ القومُ، تَصَافُنًا): إذا اقتسموا الماء بينهم على طريقة إلقاء المَقْلَةِ في الإناء. وذلك عند قلة الماء. كما سبق بيانه في الهامش السابق. انظر: "اللسان" ١٣/ ٢٤٩ (صفن).
(٢) في (ج): (يقرى).
(٣) قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة: (الرُّعْبَ) مخففة؛ أي: ساكنة العين.
وقرأ ابن عامر، والكسائي: (الرُّعُبَ) بالتثقيل؛ أي: مضمومة العين.
انظر: كتاب "السبعة" ٢١٧، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٨٥، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ١٧٦.
(٤) في (أ): كالطِّنْبِ. وهى خطأ، وفي (ب): مهملة من غير شكل. والصواب ما أثبته. الطُّنْب: الحبلَ الذي يُشَدُّ به الخِبَاء والسُّرَادق. أو هو -أيضا-: عِرْق الشجر، وعَصَبُ الجَسَد، وَسَيْرٌ يُوصَلُ بِوَتَرِ القَوْسِ، ثم يدار على مَحزِّهَا الذي تقع فيه حلقة الوَتَر. ويُسمَّى -كذلك-: (الإطنابة). وجمع الطُّنْب: (أطْنَابٌ)، و (طِنَبَةٌ).
انظر: (طنب) في "الصحاح" ١/ ١٧٢، و"اللسان" ٥/ ٢٧٠٨، و"التاج" ٢/ ١٨٦ - ١٨٨.
(٥) انظر: "أدب الكاتب" ٥٣٦ - ٥٣٧
62
والرُّعْبُ، بمعنى: الرَّوْع (١). يقال: (رَعَّبْتُهُ (٢) رَعْبًا، وَرُعْبًا) (٣) -لغتان-، فهو (مَرْعُوبٌ)، وَ (رَعِيبٌ) (٤). ويَجوز أنْ يكون (الرَّعْبُ) (٥) مصدرًا، و (الرُّعْبُ) اسم منه (٦). وهو: الخوف الذي يحصل [في القلب.
(١) الرَّوْع: الفزع. يقال: (رُعْتُه، أرُوعُهُ، رَوْعا). انظر: "إصلاح المنطق" ١٢٣ (روع).
(٢) هكذا جاءت في أ -بتشديد العين المفتوحة-. وأهملت من الشكل في (ب)، (ج). أكثر مصادر اللغة التي بين يدي، أوردتها: (رَعَبه) -بفتح العين من غير تشديد- والمصدر منها: (رُعْبًا ورُعُبا). أما (رَعَّبه) فمصدرها: (الترعيب).
انظر: (رعب) في: "اللسان" ٣/ ١٦٦٧، و"القاموس" ص ٩٠، و"التاج" ٢/ ٢٥ - ٢٦. وفي "الجمهرة" لابن دريد: "رُعِبَ الرجل، يُرْعَبُ رُعْبًا، فهو (مرعوب)، و (رَعَبْتُه أنا، أرْعَبُه)، فـ (أنا راعِبٌ له. ١/ ٣١٨ (رعب).
(٣) وهكذا ورد ضبطها -بفتح الراء في الأولى، وضمها في الثانية، مع تسكين العين في الحالتين في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٢٢، و"المقاييس" ٢/ ٤١٠، و"المجمل" ١/ ٣٨٤.
وورد ضَبْطُها في أكثر المصادر اللغوية التي بين يدي، كالتالي: (رُعْبًا، ورُعُبًا). انظر: (رعب) في: كتاب "العين" ٢/ ١٣٠، و"اللسان" ٣/ ١٦٦٧، و"القاموس" ص ٩٠، و"المصباح المنير" ٨٨، و"عمدة الحفاظ" ٢٠٥، و"التاج" ٢/ ٢٥ - ٢٦. وانظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ٢٣٢.
(٤) و -كذلك-: (رَعِبٌ). انظر: "عمدة الحفاظ" ٢٠٥.
(٥) في (أ): (الرَعَب). وفي (ب): (غير مشكولة). وفي (ج): ساقطة. والمثبت من: مصادر اللغة. ولتتناسب مع ما قبلها من قوله: (رَعْبا ورُعْبا).
(٦) انظر: "مقاييس اللغة" ٢/ ٤١٠.
وقال في "تاج العروس" عن الحالة الثانية، وهي: (الرُّعْب، والرُّعُب): (هما لغتان. وقيل: الأصل الضم، ولا سكون تخفيف. وقيل: العكس، والضم إتباع. وقيل: الأول مصدر، والثاني: اسم. وقيل: كلاهما اسم. وقيل: كلاهما مصدر). ١/ ٣٧١ (رعب).
وانظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ٢٣٢، و"تفسير الفخر الرازي" ٩/ ٣٣.
63
(رَعَبْتُ] (١) الشيءَ، أَرْعَبُهُ رَعْبًا). و (سَيْلٌ راعِبٌ): يملأ الأوديةَ والأنْهَارَ (٢). ثم قالوا: (رَعَبْتُهُ فارْتَعَبَ)؛ أي: أفْزَعْتُهُ فَفَزعَ؛ كأنك قلت: ملأتُ قَلْبَهُ فَزَعًا. ومعنى الآية: يملأ قلوبَهُم فَزَعًا.
وقوله تعالى: ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ﴾ (ما) ليست بموصولة؛ لأنها للمصدر؛ أي: بإشراكهم بالله.
والباء في ﴿بِاللَّهِ﴾، مِنْ صِلَةِ معنى الإشراك، لا لَفْظه؛ لأن لفظَ الإشراك لا يقتضي الباء.
قال الأزهري (٣): إنَّمَا دَخَلَتْ البَاءُ في قوله: ﴿لَا تُشرِك بِاَللَّهِ﴾ [لقمان: ١٣]؛ لأن معناه: لا تَعْدِلْ به غَيْرَه، فتجعله شريكًا له، وذلك (٤) قوله -تعالى-: ﴿بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: بِمَا عَدَلُوا باللهِ، ومَنْ عَدَلَ بالله شيئًا مِنْ خَلْقِهِ، فهو كافرٌ (٥).
وقوله تعالى: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾.
أي: حُجَّةً، وَبَيَانًا. و (السُّلْطَانُ)؛ معناه: الحُجَّةُ، في قول أكثر المفسِّرينَ، وأهلِ اللغة (٦).
(١) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). وساقط من (ج). والمثبت من (ب).
(٢) ويقال: (رعَبَ الحوضَ)، (يَرْعَبُهُ رَعْبا): مَلأه و (رَعَبَ السيلُ الوادي): ملأه. انظر: (رعب) في: "المقاييس" ٢/ ٤١٠، و"اللسان" ٣/ ١٦٦٧.
(٣) في "تهذيب اللغة"١٠/ ١٦ (شرك). نقله عنه بتصرف يسير.
(٤) في "التهذيب" وكذلك.
(٥) في "التهذيب" فهو مشرك. وفي نسخ أخرى منه أشار إليها محقِّقُهُ: فهو كافر مشرك.
(٦) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٠٦، و"تأويل المشكل" له ٥٠٤، و"تفسير الطبري" ٧/ ٢٧٩، و"نزهة القلوب" للسجستاني ٢٧٦، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٣٢ (سلط)، و"المجمل" ٢/ ٤٧١ (سلط)، و"مفردات ألفاظ القرآن"٤٢٠ (سلط).
64
قال الزَّجَّاجُ (١): واشتقاق (السُّلْطانِ) مِنَ (السَّلِيط)، وهو: ما يُضَاءُ به (٢) السِّرَاجُ (٣). وقيل (٤) للأمراء: سلاطين؛ لأنهم الذين يُقامُ (٥) بهم الحُجَجُ، والحُقُوقُ.
وقال في موضع آخر (٦): السُّلْطانُ -في اللغة-: الحُجَّةُ. وإنَّمَا قيل للخليفة والأمير: (سُلْطان)؛ لأن معناه: أنه ذو الحُجَّةِ. والعَرَبُ تُؤنِّثُ (السلطان) وتُذَكِّرُ (٧)؛ فتقول: (قَضَتْ (٨) بِهِ عَلَيْكَ السُّلْطَانُ (٩))، و (أمَرَتْكَ السُّلْطَانُ)؛ أي: قَضَتْ بِهِ عليك الحُجَّةُ، وَقَضَتْ به عليك حُجَّةُ الوَالِي.
ومَنْ قال: (قَضَى به عليك السُّلطانُ)؛ ذَهَبَ إلى معنى: (صاحبُ السُّلطانِ)؛ أي: صاحب الحُجَّةِ. وجائزٌ أنْ يذهب بـ (السُّلطان) إلى معنى: الاحتجاج والبرهان.
(١) في "معاني القرآن" له ٣/ ٧٦ عند تفسير آية ٩٦ من سورة هود.
(٢) السَّلِيطُ -عند عامَّةِ العرب-: الزَّيْتُ، وعند أهل اليمن: دهن السِّمْسِم، وقيل: هو كل دهن عُصِر من حَبِّ. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٠٦٥ (سلط).
(٣) السراج: ليست في: "معاني القرآن".
(٤) من قوله: (وقيل..) على (.. الحقوق): في "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٢٧ عند تفسير آية ٢٩ من سورة الحاقة.
(٥) في (ج)، و"معاني القرآن": (تقام).
(٦) في "معاني القرآن" له ٢/ ١٢٣ - ١٢٤ عند تفسير آية ١٤٤ من سورة النساء. نقله عنه باختصار، وتصرف ببعض عباراته. وانظر: "المذكر والمؤنث" له ٧٤.
(٧) في (ج)، و"معاني القرآن" (وتُذَكِّره).
(٨) في (ج): (قضيت).
(٩) من قوله: (السلطان..) إلى (.. قضت به عيك): ساقط من (ج).
65
قال ابن السِّكِّيت (١): السُّلْطان: مؤنَّثَةٌ (٢)؛ يُقَال: (قَضَت (٣) به عليهم (٤) السُّلْطانُ)، وقد (آمَنَتْهُ (٥) السُّلْطَانُ).
قال الأزهريُّ (٦): ورُبمَا ذُكِّرَ (السُّلْطانُ)، لأن لفظه (٧) مُذَكَّرٌ؛ قال الله تعالى: ﴿وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ (٨).
وقال اللَّيْثُ (٩): السُّلْطان: القُدْرَةُ. يقال: (جعلت لِفُلانٍ سُلْطانا على كذا). والنُّونُ فيه زيادة؛ لأن أصل بِنَائِهِ (١٠) مِنَ (التَّسْلِيط). وعلى هذا: (سُلْطان المَلِكِ): قُوَّتُهُ وقُدْرَتُهُ.
والسُّلْطانُ: البُرْهان، لِقُوَّتِهِ على دفع الباطل. والتَّسْلِيطُ على الشيء:
(١) في "إصلاح المنطق" ٣٦٢. نقله عنه بتصرف يسير.
(٢) في (ج): (مؤنث).
(٣) في (ج): (قضيت).
(٤) في "إصلاح المنطق" علينا. وفي بعض النسخ منه أشار إليها محققه: (عليك)، و (عليه).
(٥) في (ج): (أمنه).
(٦) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٣٢ (سلط). نقله عنه بنصه.
(٧) في (ج): (لأنه لفظا).
(٨) سورة هود: ٩٦، والمؤمنون: ٤٥، وغافر: ٢٣.
وورد في: "تهذيب اللغة" ﴿بِسُلطَانٍ مُبِينٍ﴾. وهي من سورة إبراهيم: ١٠، والنمل: ٢١، والدخان: ١٩، والذاريات: ٣٨، والطور: ٣٨.
انظر حول تذكير وتأنيث (السلطان): "المذكر والمؤنث" للفراء ٧٤، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ٣٨١، و"الزاهر" لابن الأنباري ٢/ ٢٩ - ٣٠، و"المذكر والمؤنث" لابن التستري ٥١، ٨٣، و"اللسان" ٤/ ٢٠٦٥ (سلط).
(٩) قوله: في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٣٣ (سلط). نقله عنه بمعناه.
(١٠) في (أ): (بنايه)، وفي (ج): (بيانه)، والمثبت من: (ب)، و"التهذيب".
66
التَّقْوِية عليه.
وقال ابن دُرَيد (١): سلْطان كلِّ شيء: حِدَّتُه. مِن (٢) اللِّسَان السَّلِيط الحدِيد. و (السَّلاَطَةُ)، بمعنى: الحِدَّة، قد جَاءَ، ومنه قول الشاعر -يَصِفُ نَصْلًا (٣) مُحَدَّدَة (٤) -:
سلاَطٌ حِدَادٌ أَرْهَقَتْهَا المَوَاقِعُ (٥)
هذا كلام أهل اللغة في معنى (السلطان) واشتقاقه.
قال أهل التفسير: لم [يُنْزل] (٦) اللهُ حُجَّةً ولا بَيَانًا في عِبَادَةِ غَيْرِهِ،
(١) في "الجمهرة" ٢/ ٨٣٦ (سلط). قال: (حِدَّته وسطوته). ويبدو أن المؤلف نقله عن الأزهري، نظرا لتوافق عبارة المؤلف مع عبارة التهذيب. انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٢٣ (سلط).
(٢) من قوله: (من..) إلى (.. أرهقتها المواقع): بنصه في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٣٢ (سلط).
(٣) في "التهذيب" نصالا.
النَّصْل: الحديدة التي توضع في رأس المهم أو الرمح، أو حديدة السيف ما لم يكن له مقبض. والجمع: أنْصُل، ونِصَال، ونُصُول. انظر: "القاموس" ١٠٦٢ - ١٠٦٣ (نصل).
(٤) في (أ)، (ب): (محدودة). والمثبت من: (ج)، و"تهذيب اللغة"، وهو ما استصوبته؛ لأنه يقال: (حَدَّده، فهو مُحدَّد). "التاج" ٢/ ٣٣٢ (حدد).
أما (المحدود) -في اللغة-، فهو: المَمْنوع من الخير وغيره، أو كلُّ مَصْروفٍ عن خير أو شر.
انظر: (حدد) في: "اللسان" ٢/ ٧٩٩، و"القاموس" ص ٢٧٦.
(٥) لم أهتد إلى قائله. وقد ورد غير منسوب في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٣٢ (سلط)؛ و"اللسان" ٤/ ٢٠٦٥ (سلط).
(٦) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
67
والإشْرَاكِ به؛ فهم يُشْرِكون بالله الأوثانَ مِنْ غيْرِ حُجَّةً ولا بُرْهان (١).
وقوله تعالى: ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾. أي مرجعهم ومصيرهم.
﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ المَثْوَى: المكان الذي (٢) يُقِيم به؛ مِن قولهم: (ثَوَى، يَثْوِي، ثَوَاءً) (٣).
ويقال للمقتول: (ثَوَى) (٤)؛ لإقامته حيث قُتِل. وجَمْعُ الـ (مَثْوَى) (٥): مَثَاوِي (٦).
١٥٢ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ الآية.
قال القُرَظِيُّ (٧): لَمَّا رَجَعَ رسولُ الله - ﷺ -، وأصحابُه إلى المدينة، وقد
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٢٤، و"بحر العلوم" ١/ ٣٠٧، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٣٣.
(٢) (الذي): ساقطة من (ب).
(٣) يقال: (ثَوَى المكانَ)، و (ثَوَى به)، (يَثوي، ثَواءً، وثُوِيًّا). ويقال -كذلك-: (أثْوَى)؛ بمعنى: أقام. و (أثْوَيْتُه، وثَوَّيْته): ألزمته الثَّواءَ فيه. انظر (ثوى) في: "التهذيب" ١/ ٥١٠، و"اللسان" ١/ ٥٢٤، و"التاج" ١٩/ ٢٦٢.
(٤) في "التهذيب" ١/ ٥١٠ (ثوى)، و"اللسان" ١/ ٥٢٥ (ثوى): (ويقال للمقتول: قد ثَوَى).
(٥) في (ج): (الثوى).
(٦) انظر: المصادر السابقة، و"القاموس" (١٢٦٨) (ثوى).
(٧) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣١ أ. وقد نقله المؤلف بنصه عنه، من قوله: (لما رجع..) إلى (.. ولقد صدقكم الله وعده).
وانظر قوله -كذلك- في: "أسباب النزول" للمؤلف (١٢٩)، و"زاد المسير" ١/ ٤٧٥، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٣٣.
والقُرَظي، هو: أبو حمزة، محمد بن كعب بن سليم بن أسد القُرَظي. تقدمت ترجمته.
68
أصابهم ما أصابهم بِأُحُد، قال ناسٌ مِن أصحابه: مِنْ أين أصابَنَا هذا، وقد وَعَدَنا اللهُ النصرَ؟ [فأنزل اللهُ] (١): ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾؟.
وقال بعضهم: كان رسولُ اللهِ - ﷺ -، رَأَى في المنام أنَّه (٢) يذبح كَبْشًا، فصدَق رُؤياهُ بقتل (٣) طَلْحَةَ بن عثمان (٤)، صاحبِ لِوَاءِ المشركين، يوم أُحُد، وقَتْلِ تِسْعَة نَفَرٍ بعده على اللواء (٥)، فذلك قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾؛ يريد: تصديق رؤيا رسول الله - ﷺ -.
والصِّدق يتعدى إلى مفعولين؛ تقول: صَدَقْتُهُ الوَعْدَ، والوَعِيدَ (٦).
(١) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، والمثبت من: (ب)، (ج)، و"تفسير الثعلبي".
(٢) (أ)، (ب)، (ج): (أن). وما أثبَتُه هو ما استصوبته.
(٣) في (ب): (فقتل).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٢٥ - ١٢٦.
وعند الواقدي: هو طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة هو: عبد الله بن عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصَي. انظر: "المغازي" ١/ ٢٢٠.
والذي ورد في كتب السِّيَر عن رؤيا رسول الله - ﷺ -: أنه رأى في منامه كأنه في دِرْعٍ حَصِينة، ورأى كأن سيفه ذا الفقار انفصم من عند ظُبَتِه، ورأى بقرا تُذبح، ورأى كأنه مردفٌ كَبْشًا. فأولَّ النبي - ﷺ - الدرعَ الحصينة بالمدينة، وأما انفصام سيفه من عند ظُبَته: فمصيبة في نفسه؛ بأن يُقتل رجلٌ من أهل بيته، وأما البقر المذبوح: فقتلى في أصحابه، وأما أنه مُرْدف كَبشا: فكبش كتيبة العدو الذي سيقتلونه، أي: حامل لواء المشركين. وفي رواية عن الواقدي: (ورأيت في سيفي فَلًّا فكرهته)، فهو الذي أصاب وجهه الشريف - ﷺ -.
انظر: "المغازي" ١/ ٢٠٩، و"سيرة ابن هشام" ٣/ ٦٦ - ٦٧، و"طبقات ابن سعد" ٢/ ٣٧ - ٣٨، و"تاريخ الطبري" ٢/ ٥٠٢، و"إمتاع الأسماع" للمقريزي ١/ ١١٦.
(٥) انظر: "المغازي" ١/ ٢٢٦ - ٢٢٨، و"الطبقات الكبرى" ٢/ ٤٠ - ٤١، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٧.
(٦) وقد يتعدى للثاني بالحرف، تقول: (صَدَقتك في القول).
69
قوله تعالى: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾.
قال اللَيْثُ (١): الحَسُّ: القَتْلُ الذَرِيع. قال: و ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾، أي: تقتلونهم قَتْلًا شديدًا كثيرًا.
وروى الحَرَّانيُّ (٢) عن ابن السِّكِّيت (٣): الحَسُّ: مصدرُ (حَسَسْتُ القومَ، أَحُسُّهُمْ، حَسًّا): إذا قتلتهم.
وقال أبو عبيدة (٤)، والزَّجَّاجُ (٥)، وابنُ قُتَيْبَة (٦): الحَسُّ: الاستئصال بالقتل؛ يقال: (جَرَادٌ مَحْسُوسٌ): إذا قَتَلَه البَرْدُ. و (سَنَةٌ حَسُوسٌ): إذا أتَتْ على كلِّ شيء (٧) ومعنى ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾: تستأصلونهم قَتْلًا (٨).
وقال أصحاب الاشتقاق: (حَسَّهُ، يَحُسُّهُ): إذا قَتَلَه؛ لأنه أبطل حِسَّهُ بالقتل، وأصابَهُ (٩)؛ كما يقال: (بَطَنَهُ): إذا أصاب بَطْنَهُ (١٠)، و (رَأَسَهُ): إذا
(١) قوله في: "تهذيب اللغة" ١/ ٨١٦ (حسس). نقله عنه ببعض التصرف.
(٢) هو: أبو شعيب، عبد الله بن الحسن الحَرّاني. تقدمت ترجمته.
(٣) في "تهذيب اللغة" ١/ ٨١٦ (حسس). وانظر قول ابن السكيت في "إصلاح المنطق" ٢٦.
(٤) في "مجاز القرآن" ١/ ١٠٤.
(٥) في "معاني القرآن" ٤٧٨.
(٦) في "تفسير غريب القرآن" له ١١٣.
(٧) هذا قول ابن قتيبة المصدر السابق، تصرف فيه المؤلف بالتقديم والتأخير.
(٨) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٢٧، "نزهة القلوب"، للسجستاني ١٥٥، و"الموضع في تفسير القرآن" للحدادي ٣٩.
(٩) انظر: "مقاييس اللغة" ٢/ ٩ (حسس)، و"النكت والعيون" ١/ ٤٢٩، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٣٥.
(١٠) (إذا أصاب بطنه): ساقط من (ج).
70
أصاب رَأسَهُ (١). والتَّحَسُّسُ: طَلَبُ الأخبار بحَاسَّةِ السَمْعِ (٢).
وقوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي: بِعِلْمِهِ (٣)
قال المفسرون (٤): كان المسلمون يوم أُحُد، يقتلون المشركين قتلا ذريعًا حتى وَلَّوْا هاربين، وانكشفوا منهزمين؛ فذلك قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾.
ثم أَخَلَّ الرُّمَاةُ (٥) بالمكان الذي ألزمهم رسولُ الله - ﷺ - إيَّاهُ، فَحَمَلَ -حينئذ- خالدُ بنُ الوَلِيد (٦)، مِن وَرَاء المسلمين، وتَرَاجَعَ المشركون، وقُتِلَ
(١) يقال: (بَطَنَه)، و (بَطَنَ له)، و (بَطَّنَه): ضرب بَطْنَه. انظر: "القاموس المحيط" ص ١١٨٠ (بطن).
و (رَأسَه، يرْأسَه، رَأسًا): أصاب رأسه. انظر: "اللسان" ٣/ ١٥٣٣ (رأس).
(٢) انظر: "الزاهر" ١/ ٤٧٣.
(٣) هذا قول الزجاج في "معاني القرآن" ١/ ٤٧٨.
وقيل: بأمره وحكمة وقضائه. وهو قول ابن عباس، والطبري، وأبو سليمان الدمشقي، وأبو الليث.
انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٢٧، و"بحر العلوم" ١/ ٣٠٨، و"زاد المسير" ١/ ٤٧٦، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٣٥.
وقيل: بلطفه، وقيل: بمعونته، وقيل: بصدق وعده. وهذه الأقوال الثلاثة ذكرها الماوردي في: "النكت والعيون" ٢/ ٩٠٦.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٢/ ١١٨، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣١ ب، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٤٤.
(٥) في (ب): (أجل الزمان).
(٦) هو: أبو سليمان، خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي. سماه الرسول - ﷺ -: (سيف الله)، كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وقائد خيلهم، وشهد مع الكفار حروبهم ضد المسلمين إلى عمرة الحديبية، وأسلم سنة سبع بعد خيبر، وقيل: قبلها. وهو من أشهر قادة الجيوشَ عند المسلمين. توفي سنة (٢١ هـ). انظر: "الاستيعاب" ٢/ ١١، و"الإصابة" ١/ ٤١٣.
71
مِن المسلمين سبعونَ رجلًا، ثم هُزِمُوا (١).
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ أي: جَبنْتُم عن عَدُوِّكم (٢).
قال الليث (٣): يقال: (فَشِلَ الرَّجُلُ، يَفْشَلُ) - عند الحَرْبِ والشِّدَّةِ: إذا ضَعُفَ، وذهبَتْ قُوَاهُ (٤). ويقال: (إنه لفَشْلٌ)، و (فَشِلٌ) (٥).
واختلفوا في جواب ﴿حَتَّى إِذَا﴾ (٦):
فقال الفراء (٧): جوابه: ﴿وَتَنَازَعْتُمْ﴾، والواو فيه مُقْحَمَةٌ، معناها السقوط؛ كما قال: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ﴾ (٨)؛ المعنى: نَادَيْنَاه. واحتج بقول الشاعر:
حَتَّى إذا قَمِلَتْ بُطُونُكُمُ ورَأَيْتُمُ أبْنَاءَكُمْ شَبُّوا
(١) انظر: أخبار غزوة أحد في: "صحيح البخاري" (٤٠٤٣) كتاب المغازي. باب غزوة أحد، و"سيرة ابن هشام" ٣/ ٣، و"الطبقات الكبرى" ٢/ ٣٦، و"إمتاع الأسماع" ١/ ١١٦ وما بعدها، و"البداية والنهاية" ٤/ ١٠ وما بعدها.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٨، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٢٨، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٦.
(٣) قوله في: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٩٢ (فشل). نقله عنه بتصرف يسير.
(٤) في (ب)، (ج): (قوته).
(٥) (فشل): ساقطة من (ج).
وفي "التهذيب" ويقال: (وإنه لَخَشْلٌ فَشْل، وإنه لَخَشلٌ فَشِلٌ).
والفَشِلُ: الرجل الضعيف الجبان، وجمعه: أفشال. يقال: فَشِلَ فَشلا. أما الخَشل والخَشلُ: فهو -هنا-: الرديء من كل شيء. والله أعلم. انظر: "الصحاح" ٤/ ١٦٨٥ (خشل)، و"اللسان" ٦/ ٣٤١٨ (فشل)، ٢/ ١١٦٧ (خشل).
(٦) (إذا): ساقطة من (ج).
(٧) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٨. نقله عنه باختصار، وتصرف.
(٨) سورة الصافات: ١٠٣، ١٠٤. وبقيتها: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾. آية: ١٠٤.
72
وقلبتمُ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا إنَّ اللَّئِيمَ العاجِزُ الخَبُّ (١)
قال: يريد: قَلَبْتُم. هذا مذهب الكوفيين.
وعند البصريين: لا يجوز زيادةُ الواو. ويتأولون هذه الآيةَ وأمثالَها،
(١) البيتان للأسود بن يَعْفُر النهشلي. وهما في "ديوانه" ١٩.
وأورد البكريُّ في "معجم ما استعجم" ٢/ ٣٧٩ البيت الأول ضمن أبيات نسبها للأسود قالها في هجاء بني نَجيح من بني مجاشع بن دارم.
وقد أورَدتْهما المصادر التالية، بدون نسبة "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٥١، و"تأويل مشكل القرآن" ٢٥٤، وكتاب "المعاني الكبير" ١/ ٥٣٣، و"المقتضب" ٢/ ٨١، و"مجالس ثعلب" ١/ ٥٩، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ٥٥، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٤٧ (قمل)، ١/ ٨٤ (باب الواوات)، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٤٦، ٦٤٧، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ١٢١، و"الإنصاف" للأنباري ص ٣٦٧، ٣٦٨، و"شرح المفصل" ٨/ ٩٤، و"رصف المباني" ٤٨٧، و"لسان العرب" ٦/ ٣٧٤٢ (قمل)، و"الجنى الداني" ١٦٥، و"تذكرة النحاة" ٤٥، و"خزانة الأدب" ١١/ ٤٤، ٤٥.
ورد في: "شرح القصائد السبع" (وقلبتم بطن المجن). وورد في بعض المصادر: (إن الغَدُورَ الفاحشُ الخب)، وفي بعضها: (إن اللئيم الفاجر)، وفي "سر صناعة الإعراب" (حتى إذا امتلأت بطونكم).
قَمِلَت: من (قَمِلَ القومُ): كثروا، و (قَمِل الرجلُ): سَمِنَ بعد هُزَال. ويريد -هنا-: كثرت قبائلكم.
والمِجَنُّ: التُّرْس. وقوله: (وقلبتم ظهر المجن): كناية عن إسقاط الحياء والتنكر للمعروف، وإبداء العداوة
والخِبُّ -بفتح الخاء وكسرها-: الخدّاع الذي يسعى بين الناس بالفساد. أما بكسر الخاء فقط - (الخِبُّ) -، فهو: الغَدْر.
والشاهد فيه عنده: أن الواو في (قلبتم) زائدة، وحقها أن تسقط. و (قلبتم): جواب (إذا).
73
على حذف الجواب، والتقدير عندهم: (حتى إذا فَشِلْتُمْ، وتَنَازَعْتُم في الأمر، وعَصَيْتُم، امْتُحِنْتُمْ (١)؛ بأن نِيلَ منكم، وعُوقِبْتُم بِظَفَرِ أعدائكم بكم)، فحذف الجواب؛ لبيان (٢) معناه؛ كما حذف في قوله -عز وجل-: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: ٣٥]؛ معناه: فافْعَلْ. فأسقط الجواب؛ إذْ أُمِنَ (٣) اللَّبْسُ (٤).
والآية -عند الفراء- على التقديم والتأخير؛ لأنه يذهب إلى أن الفَشَلَ مُؤَخَّرٌ بعد التَّنازُع؛ والمعنى عنده: (حتى إذا تنازعتم في الأمر وعَصَيْتُم؛ فَشِلتم). فقدم المؤخر وأخر المقدم؛ كقوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ (٥).
وغيره يقول: الفَشَل في موضعه، غَيْرُ مَنْوِيٍّ به التأخير. والتنازع والعصيان كانا بعد الفَشَلِ (٦).
والتنازع (٧): الاختلاف. وأصله مِنْ: (نَزَعَ القومُ الشيءَ، بعضُهُم مِن
(١) في (أ): (امتَحَنْتم) -بالبناء للمعلوم-. وفي: (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والصواب ما أثبتُّه.
(٢) (لبيان): ساقطة من (ج).
(٣) (أ)، (ب): (أمَرَّ). والمثبت من (ج).
(٤) وقد بينَّا مذهبي البصريين، والكوفيين في زيادة الواو من عدمه، مع ذكر طرف من أدلة الفريقين على ذلك. انظر التعليق على تفسير قوله تعالى: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ آية: ٥٠ من سورة آل عمران. والتعليق على زيادة الواو في قوله تعالى: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ آية: ٤٩، والتعليق على زيادة (إذ) في قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ آية: ٣٥.
(٥) سورة آل عمران: ٥٥.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٨، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٢٨ - ١٢٩.
(٧) من قوله: (والتنازع..) إلى (.. من بعض): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣١ ب.
74
بَعْضٍ). وسنذكر شرحه عند قوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [النساء: ٥٩]، إن شاء الله.
وكان اختلاف القوم (١): أن المشركين لَمَّا انكشفوا؛ قال بعضُ الرُّمَاةِ: ما مُقَامُنا هاهنا، قد انْهَزَمَ القومَ. وقال بعضُهم: لا نُجَاوِزُ أمْرَ رَسُولِ الله - ﷺ - (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾. أي (٣): بِتَرْكِ المَرْكَزِ (٤).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ يعني: الظَّفَرَ والنَّصْرَ والفَتْحَ، حين كان الدَّبْرَةُ (٥) على المشركين (٦).
وقوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ يعني (٧): الذين تَرَكُوا المَرْكَزَ، وأقْبَلُوا إلى النَّهْبِ.
(١) (القوم): ساقط من (ج).
(٢) انظر: "صحيح البخاري" (٤٠٤٣) كتاب المغازي. باب غزوة أحد، و"سنن أبي داود" رقم (٢٦٦٢)، و"تفسير النسائي" ١/ ٣٣٤، و"مسند الطيالسي" ٢/ ٩٥ - ٩٦ رقم (٧٦١)، و"الطبقات الكبرى" ٢/ ٤١، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٢٨ - ١٢٩، و"تاريخه" ٢/ ٥٠٧، و"إمتاع الأسماع" ١/ ١٢٧، و"البداية والنهاية" ٤/ ٢٦.
(٣) من قوله: (أي..) إلى (.. تحبون) ساقط من (ج).
(٤) يعني ترك الرماة لموقعهم الذي عينه لهم رسول الله - ﷺ - وأمرهم ألّا يبرحوه انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٢٨ - ١٢٩.
(٥) الدَّبْرَةُ -بفتح الدال-: الهزيمة في القتال. أما الدِّبرة -بكسر الدال-: فهي خلاف القبلة. انظر: "القاموس" ص ٣٩٠ (دبر).
(٦) وهذا قول عامة المفسرين، منهم: ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والسدي، وابن إسحاق.
انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٢٨ - ١٢٩، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٨.
(٧) من قوله: (يعني..) إلى (.. بالهزيمة) بنصه في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٢ أ.
75
﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ يعني: الذين ثَبَتُوا مَعَ عبد الله بن جُبَيْر -وهو أمير الرُّمَاةِ (١) - حتى قُتِلُوا.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ [أي] (٢): بالهزيمة؛ على معنى: صَرَفَ وجوهَكُم عنهم (٣).
وقال عَطَاء (٤): يريد: صرف حدكم (٥) عنهم. وهذا صريح في أن [المعصيةَ مَخْلُوقَةٌ لله] (٦) عز وجل؛ حيث أضاف انهزامهم وتَوَلِّيهم إلى نفسه؛ فقال: ﴿صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾، ولم يقل: (انْصَرَفْتُمْ) (٧).
وقوله تعالى: ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾. أي: لِيَخْتَبِرَكُمْ بِمَا جَعَلَ عليكم مِنَ الدَّبْرَةِ والهزيمةِ، فَيَتَبَيَّنَ الصابرُ (٨) مِنَ الجازع، والمُخْلِصُ مِنَ المنافق (٩).
(١) وهو أمير الرماة: ليس في "تفسير الثعلبي". وفي (ب): (الرملة). انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٢٩ - ١٣٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٩، و"المستدرك" ٢/ ٢٩٦ كتاب التفسير. سورة آل عمران.
وعبد الله بن جُبَيْر بن النعمان الأوسي الأنصاري. شهد العقبة وبدرًا، واستشهد يوم أحد -رضي الله عنه- انظر: "الاستيعاب" ٣/ ١٤، و"أسد الغابة" ٣/ ١٩٤.
(٢) ما بين المعقوفين في (أ): (إلى). والمثبت من: (ب)، (ج)، و"تفسير الثعلبي".
(٣) في (ج): (وههم).
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) هكذا في: (أ)، (ب)، (ج).
ومعناها -والله أعلم-: صرف بأسكم وقوتكم عنهم، لأن (حَدّ الرَّجُلِ): بأسه ونفاذُهُ. في نجدته. يقال: (إنه لذو حَدٍّ). انظر: "اللسان" ٢/ ٨٠١ (حدد).
(٦) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٧) انظر تأويل المعتزلة لها في: "تنزيه القرآن عن المطاعن" ٨٢.
(٨) (أ)، (ب): (الصابرين). والمثبت من (ج).
(٩) في (ب): (الشاك).
76
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ أي: ذَنْبَكُمْ (١)؛ حيث عصيتم رسولَ اللهِ - ﷺ - وحيث (٢) انهزمتم، فَلَمْ يُؤاخِذْكُمْ بذَنْبِكُمْ.
وقال بعضُ المُفَسِّرِينَ (٣): ولقد عفا عنكم، فَلَمْ يَسْتَأصِلْكُم بعد المعصية والمخالفة، نظيره: ﴿ثُمَ عَفَوْنَا عَنْكُمْ﴾ (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ قال ابن عباس (٥): يريد: بالمَغْفِرَةِ.
١٥٣ - قوله تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ (إذْ) مُتَعَلِّق بـ (عَفَا)؛ يعني: ولقد عَفَا عنكم إذْ تُصْعِدُونَ.
و (الإصْعَادُ)، قال الفَرَّاءُ (٦) والزَّجَّاجُ (٧): هو الابتداء في كلِّ سَفَرٍ؛ يقال: (أَصْعَدْنَا مِن بَغْدادَ إلى خُرَاسانَ وإلى مَكَّةَ): إذا خرجنا إليها، وأَخَذْنا (٨) في السَّفَرِ نحوها (٩).
(١) في (ج): (دينكم).
(٢) في (ج): (فحيث).
(٣) ممن قال ذلك: مقاتل، والحسن، وابن جريج، وابن إسحاق، والطبري، وأبو الليث، والثعلبي.
انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٣١ - ١٣٢، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٨٩ - ٧٩٠، و"بحر العلوم" ١/ ٣٠٨، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٢ أ. والعبارة له.
(٤) سورة البقرة: ٥٢. ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
(٥) لم أقف على مصدر قوله بهذا النص. وقد أورد ابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٤٧٧، عنه قولَه: (إذ عفا عنهم جميعًا).
(٦) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٩.
(٧) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٧٨ - ٤٧٩.
(٨) في (ب): (وابتدأنا).
(٩) في (ب): (يوما).
77
وأَقْرَأَني العَرُوضِيُّ، عن الأزهري، عن المُنْذِري، عن الحَرَّانِيِّ، عن ابن السِّكِّيت، قال (١): يقال: (صَعِدَ في الجَبَلِ)، و (أَصْعَدَ في البلاد).
وقال الأخفش (٢): (أَصْعَدَ في البلاد): سار ومَضَى (٣).
أبو عُبَيْد، عن أبي زيد، وأبي عمروٍ: يقال: (أَصْعَدَ الرجلُ في البلاد): حيث تَوَجَّهَ. (٤) قال الأعشى:
ألا أيُّهذا السَّائِلِي أينَ أَصْعَدَتْ فإنَّ لَهَا في أهلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا (٥)
(١) قوله في "إصلاح المنطق" ٢٥٦. ونصه: (قد أصْعَد في الأرض إصعادًا، وقد صَعِدَ في الجبل، وعلى الجبل). وأورده الأزهري في "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠١٣ (صعد)، والنص له.
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٢١٨.
(٣) ونصه عنده: "أصعد"؛ أي: مضى وسار. و (أصعد في الوادي)؛ أي: انحدر فيه. وأما (صَعِد)، فإنه ارتَقَى).
وأورده الازهريُّ -كما هو عند المؤلف-. ويبدو أن المؤلف نقله عنه. انظر: "التهذيب" ٢/ ٢٠١٣ (صعد).
(٤) نقله -بنصه- عن "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠١٣ (صعد).
(٥) البيت في: ديوانه: ٤٥. وقد ورد منسوبًا له في المصادر التالية: "السيرة النبوية" لابن هشام ١/ ٤١٢، و"المقتضب" ٤/ ٢٥٩، و"الأضداد" لابن الأنباري ٣١٥، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٢ب، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٣٩، و"المقاصد النحوية" ٣/ ٦٠، ٣٢٦، و"الدرر اللوامع" ١/ ١٥٣، وأورده السيوطي في "همع الهوامع" ٣/ ٥١ ولم ينسبه.
وقد ورد البيت في الديوان، وكل المصادر السابقة -ما عدا "الأضداد" وتفسيري الثعلبي، والقرطبي-: (أين يَمَّمَتَ) بدلًا من: (أين أصْعَدَتْ) وليس فيها موضع الشاهد. وورد عند القرطبي: (فإن لها من بطن يثربَ موعدا).
والبيت من قصيدة طويلة يمدح فيها النبي - ﷺ - وهو متوجه إلى المدينة المنورة؛ لِيُسْلِمَ، إلا أن قريشًا صرفته عن ذلك، فرجع ولم يُسْلِمْ. انظر خبره في: "سيرة ابن هشام" ١/ ٤١١.
78
وقال ابن قُتَيبة (١): ﴿تُصْعِدُونَ﴾: تُبْعِدُونَ في الهَزِيمَةِ؛ يقال: أَصعَدَ في الأرض: إذا أَمْعَنَ فيها (٢) في الذَّهَاب (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ أي: لا تُعَرِّجُونَ ولا تُقِيمون ولا تَلْتَفِتون هَرَبًا. يقال: (مَضَى ولم يَلْوِ على شيءٍ)؛ أي: لم يُعَرِّجْ. وأصله: أنَّ المُعَرِّجَ على الشيء، يَلْوِي إليه عُنُقَهُ، أو عِنَانَ (٤) دابَّتِهِ. فإذا مضى، ولمْ يُعَرِّج، قيل: (لم يَلْوِ). ثم استُعْمِلَ في تَرْكِ التَّعْرِيج على الشيء.
فإن قيل: أليس اللهُ قد أخبَرَ أنَّه عَفَا عنهم -إذْ هُزِمُوا-، فكيف ذلك العَفْو، مع ما ابتلاهم به مِنَ القَتْلِ والجَرْح، وإدَالَةِ العَدُوِّ عليهم؟.
قيل: لولا عَفْوُ اللهِ، ما نَجَا منهم أحدٌ (٥)، ولَصَارُوا في الآخرةِ من الخاسرين؛ حين عَصَوا رسولَهُ في تَرْكِ المَرْكَزِ والهزيمة، وهو يناديهم مِن وَرَائِهم: (إلَيَّ عِبَادَ اللهِ! إلَيَّ عِبَادَ الله!) وهم لا يَلْتَفِتُون إليهِ. وذلك قوله:
(١) في "تفسير غريب القرآن" له ١١٤، وانظر: "أدب الكاتب" له ٢٧٨.
(٢) (فيها): ليست في (ج)، ولا في "تفسير غريب القرآن".
(٣) وبقية عبارة ابن قتيبة: (وصعِد الجبل والسطح).
قال الطبري: (قالوا: فالهرب في مستوى الأرض، وبطون الأودية والشِّعاب: (إصعاد) لا صعود. قالوا: وإنما يكون (الصُّعُود) على الجبال والسلاليم والدَّرج؛ لأن معنى (الصعود): الارتقاء، والارتفاع على الشيء عُلُوًّا). "تفسيره" ٤/ ١٣٢ - ١٣٣. وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٠٥، و"الأضداد" لابن الأنباري ٣١٥.
ونقل الثعلبي عن المفضل، أن: (صَعِد، وأصْعَدَ، وصَعَدَ، بمعنى واحد). "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٣٢ ب.
وكذا فسر ابنُ اليزيدي (الإصعاد) بالصعود على الجبل. انظر: "غريب القرآن" لابن اليزيدي ٤٤.
(٤) (أ)، (ب): (عيْنان). والمُثبت من (ج).
(٥) في (ج): (أحدا).
79
﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾.
قال ابن عباس (١): يريد: مِن خَلْفِكُم. يقال (٢): (جاءَ فلانٌ في آخِرِ النَّاسِ)، و (آخِرَةِ (٣) النَّاس)، و (أُخْرَى الناس)، و (أُخْرَاة الناس) (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ الإثَابَةُ: أكثر ما تُسْتَعمل (٥) في الخير، ويجوز استعمالُه في الشَّرِّ، لأن أصله: ما يَرْجِعُ مِنَ الجَزَاء على الفِعْل، طاعةً كان أو معصيةً، ولكنه كَثُرَ في جَزَاء الطاعة (٦)، كما تقول في (الطَّرَب)، فإنَّ أصْلَهُ: خِفَّةٌ تأخذ الإنسانَ، مِنْ فَرَحٍ أو حُزْنٍ (٧)، كما قال (٨):
(١) لم أقف على مصدر قوله بهذا النص. والذي في "تفسير الطبري" ٤/ ١٣٣من قوله -في تفسيرها-: (إليَّ عبادَ الله!) وقد يفهم من هذا القول أنه يناديهم مِن خَلْفهم، وهو ما فهمه الطبريُّ، حيث فسرها بذلك، ثم أورد قول ابن عباس -السابق- دليلًا على ذلك. انظر: "تفسيره" ٤/ ١٣٣.
(٢) من قوله: (يقال..) إلى (.. وأخراة الناس): بنصه في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٣ أ. وأورده القرطبي في "تفسيره" ٤/ ٢٤٠. وعندهما زيادة: (.. وأخرَيَات الناس).
(٣) في (ج): (احرة). وفي "تفسير الثعلبي" (أَخَرَةِ) وعند القرطبي: (أُخْرَةِ). وما ورد في (أ)، (ب) مِمّا أثبَتُّه، قد ورد في مصادر اللغة. يقال: (جاء أَخَرَة، وبأخَرَةٍ، وَأُخَرَةً، وبأخَرَةٍ)؛ أي: جاء آخر كل شيء. ويقال: (جاء أُخُرًا، وبآخِرَةٍ)، ويقال: (وآخِرَةِ السَّرْج، أو الرَّحل).
انظر: (أخر) في: "اللسان" ١/ ٣٩، و"التاج" ٦/ ١٧.
(٤) (وأخرى الناس وأخراة الناس): ساقط من (ج). وقوله: (وأخراة الناس) ليس في "تفسير القرطبي".
و (أخراة) مثل (أخرى)؛ مؤنث (الآخر). انظر: "التاج" ٦/ ١٧ (أخر).
(٥) في (ج): (يستعمل).
(٦) انظر: (ثوب) في: "تهذيب اللغة" ١/ ٤٦٥، و"اللسان" ١/ ٥١٩.
(٧) انظر: (طرب) في: "التهذيب" ٣/ ٢١٧٤، و"اللسان" ٥/ ٢٦٤٩.
(٨) في (ب): (يقال).
80
طَرَبَ الوَالِهِ أوْ كالمُخْتَبَلْ (١)
إلا أنَّه كَثُرَ استعمالُهُ في خِفَّةِ الفَرَحِ، وَنَشَاطِ السُّرُورِ (٢).
وقال أصحابُ المعاني (٣): معنى قوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ﴾؛ أي: جَعَلَ مكانَ مَا تَرْجُونَ مِنَ الثَّوَابِ، الغَمَّ؛ كما تقول: (تَحِيَّتُكَ الضَّرْبُ)، و (عِتَابُكَ السَّيْفُ) (٤)؛ أي: تجعل هذا مكانَ ذاك. قال عَمْرو بن مَعْد يكَرِب (٥):
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ تَحِيَّةُ بَيْنهمْ ضرْبٌ وَجِيعُ (٦)
(١) شطر بيت للنابغة الجعدي. وصدره:
وَأرَانِي طَرِبًا في إثْرِهِمْ
وقد ورد في: شعره: ٩٣. وورد منسوبًا له في: "أدب الكاتب" ١٨، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٧٤ (طرب)، و"الاقتضاب" ٣/ ١٤، و"اللسان" ٥/ ٢٦٤٩ (طرب). وروايته في شعره: (فأراني..).
(الوالهُ): الذي ذهب عقله، أو قارب الذهاب؛ لفقد حبيبه، أو ولده، وهو (الثاكل).
و (المُختَبَل): الذي خَبَلَهُ الحُزْنُ فَجَنَّنَهُ وأفقده عقله، أو هو الذي قُطِع عضوٌ من أعضائه. وهذا التفسير الثاني، قال في: "الاقتضاب" إنه (أجود في هذا الموضع؛ ليختلف المعنيان).
انظر: "الاقتضاب" ٤/ ١٣٤، و"القاموس" ٩٧٢ (ثكل)، ٩٩٠ (خبل).
(٢) انظر: (مادة: طرب) في المصادر السابقة
(٣) انظر: "تفسيرِ الطبري" ٤/ ١٣٤، و"معاني القرآن" للنحاس ١/ ٤٩٧، و"بحر العلوم" ١/ ٣٠٨، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٣ ب.
(٤) وهذا من كلام العرب السائر. كما يقول أبو زيد في: النوادر: ١٤٩.
(٥) أبو ثور الزُّبَيْديَ، تقدم.
(٦) ورد البيت في: شعره ١٤٩. وقد ورد منسوبًا له في:
"كتاب سيبويه" ٣/ ٥٠، و"النوادر" لأبي زيد ١٥٠، و"العمدة" لابن رشيق ٢/ ١٠٥٦، و"الممتع في صنعة الشعر" ١٥٩. =
81
أي: جَعَلُوا الضربَ الوجِيعَ، مَكَانَ التَّحِيَّةَ بين القَوْمِ.
وقال الفَرّاء (١): الإثابة -ههنا- في معنى: (عِقَاب)، ولكنه كما قال الشاعر:
أَخَافُ زِيَادًا أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ (٢) أدَاهِمَ سُودًا أوْ مُحَدْرَجَةً فُتْلا (٣)
= وأوردته المصادر التالية غير منسوب: "كتاب سيبويه" ٢/ ٢٣٢، و"المقتضب" ٢/ ٢٠، ٤/ ٤١٣، و"الخصائص" ١/ ٣٦٨، و"مفردات ألفاظ القرآن" ١٢٦، ٨٣٥، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٣٧٥، و"شرح المفصل" ٢/ ٨٠، و"التصريح" ١/ ٣٥٣، و"خزانة الأدب" ٩/ ٢٥٧، ٢٦٣؛ حيث ذكر نسبته للشاعر ولم يجزم بذلك.
أراد الشاعرُ بـ (الخيل) الأولى: خيل الأعداء، وبالثانية: خيلَه. والخيل -هنا-، يعني بها: الفُرسان. و (دَلَفْتُ): دَنَوْتُ وزَخفْتُ؛ يقال: (دَلَفَ الشيخ): إذا مَشى مَشْيًا لَيِّنًا. انظر: "خزانة الأدب" ٩/ ٢٦٤.
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٣٩. نقله بنصه إلى نهاية بيت الشعر (فتلا).
(٢) (أ)، (ب): (عطآه). والمثبت من: (ج)، ومصادر البيت.
(٣) في (ج): (قتلا).
البيت، للفرزدق، وهو في: ديوانه: ١٦٩. وقد ورد منسوبًا له في. "طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٣٠٤، و"تاريخ الطبري" ٥/ ٢٤٧، و"الصحاح" ١/ ٣٠٥ (حدرج)، و"اللسان" ٢/ ٨٠٤ (حدرج). وورد غير منسوب في: "معاني القرآن"، للفراء ١/ ٢٣٩، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٣٤، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٣ أ، و"المدخل" للحدادي ٣٥٧، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٣٧٦، و"زاد المسير" ١/ ٤٧٨، و"البحر المحيط" ٣/ ٨٣.
ورواية البيت في الديوان، و"تاريخ الطبري":
فلمَّا خشِيتُ أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سُمْرا
وفي "طبقات فحول الشعراء" (فلما خشينا..). وورد في كل المصادر -ما عدا "تفسير الثعلبي"-: (سُمْرا) بدلا من: (فُتلا) التي لا تستقيم مع قافية القصيدة الرائية. واتفقت رواية المؤلف للبيت مع الثعلبي، مما يدل على أن المؤلف أخذ البِيت عنه.=
82
يعني بـ (السُّودِ): القيود (١)، وبـ (المحَدْرَجَة): السِّيَاط. وأرادَ: أخافُ أنْ يَجْعَلَ (٢) مَكانَ عَطائِهِ، القُيُودَ والسِّيَاطَ.
قال (٣): وقد يقول الرَّجُلُ [لـ] (٤) الذي اجترم (٥) إليه (٦): [(لَئِنْ] (٧) أتَيتَنِي (٨)؛ لأُثِيبنَّك ثَوَابَكَ)، معناه: لأعاقبنَّكَ. وهذا راجعٌ إلى ما ذكرنا مِن قَوْلِ أصحابِ المعاني.
وقوله تعالى: ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾ أي: أثَابَكم غَمًّا، وهو: الهَزِيمَة، وظَفَر
= (الأداهم): جمع: (أدْهَم)، وهو: الأسْوَد. وتُطلَقُ (الأداهمُ) على القيِود -وهي المرادة -هنا- في البيت-، وسميت بذلك؛ لِسَوَادها.
و (المُحَدْرَجة): السِّياط، وأصل المُحَدْرَج: المفتول، والأملس. ويقال -كذلك-: (الحُدرُج)، و (الحُدرُوج). انظر: "اللسان" ٤/ ١٤٤٣ (دهم)، ٢/ ٨٠٤ (حدرج). والبيت ضمن قصيدة طويلة قالها الشاعر في زِيَاد بن أبِيهِ، وكان قد تَوَعَّد الفرزدقَ، ثم أظهر عفوَهُ عنه، وأنه سيُؤَمِّنه وَيمُنُّ عليه، فلم يثق الشاعرُ في أمانه، وقال القصيدة في ذلك.
(١) في (ج): (القيود والسياط).
(٢) في (ج): (تجعل).
(٣) الفراء في: "معاني القرآن" ١/ ٢٣٩. نقله عنه بنصه.
(٤) ما بين المعقوفين زيادة لازمة لتستقيم العبارة.
(٥) في (ج): (احترم). اجْتَرَمَ، بمعنى: (جَرَم، وأجرم): تَعَدَّى، وارتكب جُرْما؛ أي: ذنبًا. يقال: (جرم إليهم، وعليهم جريمة)، و (فلان يَتَجَرَّم علينا)؛ أي: يَتَجَنَّى علينا ما لم نجْنِه. انظر: "اللسان" ١/ ٦٠٤ (جرم).
(٦) في "معاني القرآن" عليك.
(٧) ما بين المعقوفين في (أ)، (ج): (أي). وساقط من (ب). والمثبت من "معاني القرآن".
(٨) في (أ): (أثييني)، وفي (ب): (أيثبتني)، وفي (ج): مهملة من النقط. والمثبت من "معاني القرآن".
83
المشركين بكم. ﴿بِغَمٍّ﴾، يعني: بِغَمِّكمْ رَسول الله - ﷺ -؛ إذْ عَصَيْتموهُ وَضَيَّعتم أمرَهُ. فالغَمُّ الأوّل لهم، والغَمُّ الثاني للنبي - ﷺ -. وهذا القول، اختيار الزجاج (١).
وقال الحسن (٢): غَمّ يومِ أحُد للمسلمين، بغَمِّ يومِ بَدْرٍ للمشركين (٣).
وقيل: الغَمُّ الأَوَّل: ما أصابهم مِنَ الهزيمة والقتل. والغَم الثاني: إشْرافُ خالد بن الوَلِيد عليهم، في خَيْلِهِ، فَرَعَبَهم ذلك، وزَادَ مِنْ قَلَقِهم. وهذا قول أكثر المفسرين (٤)، واختيار الفراء (٥).
وقيل: الغَمّ الأوَّل: ما أصابهم مِنَ القتل والجرح. والغَمّ الثاني: ما سَمِعوا أنَّ مُحَمَّدًا قد قُتِلَ. وهذا قول: قَتَادة (٦)، والرَّبِيع (٧)، وابنِ عبَّاس -في رواية عطاء- (٨) فإنَّه قال في قوله: ﴿غَمَّا بِغَمٍّ﴾؛ يريد: الهزيمة، وحيث قال ابنُ قَمِيئَةُ (٩): قد قتلتُ محمدا.
(١) في "معانى القرآن" له ١/ ٤٧٩.
(٢) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٣ أ، و"النكت والعيون" ١/ ٤٣٠، و"زاد المسير" ١/ ٤٧٩، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٤٠.
(٣) وأخرج عنه ابن أبي حاتم قولَه في تفسيرها: (قال غَمَّا -والله- شديد، على غَمٍّ شديد، ما منهم إنسان إلا وقد همته نفسه). "تفسيره" ٣/ ٧٩١.
(٤) ممن قال ذلك: ابن عباس. انظر: "زاد المسير" ١/ ٤٧٨، ومقاتل. انظر: "تفسيره" ١/ ٣٠٧. ولم أقف على غيرهما قال به.
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٤٠.
(٦) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٣٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٩١، و"زاد المسير" ١/ ٤٧٨، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٥٤، وزاد نسبة إخراجه لابن المنذر.
(٧) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٣٥.
(٨) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه.
(٩) في (ج): (قتيبة). =
84
والباء في قوله: ﴿بِغَمٍّ﴾ -في القولين المتأخرين-؛ بمعنى: [(مع)] (١) أو بمعنى: (عَلَى)؛ كما يقال (٢): (نزلتُ بِبَنِي (٣) فلان)، و (على بَنِي فلان)، و (ما زِلْتُ به حتى فَعَلَ)، و (ما زِلْتُ معه حتى فَعَل) (٤).
قوله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾.
اختلفوا (٥) في اللّام في قوله: ﴿لِكَيْلَا﴾:
فقال بعضَ النحويِّين (٦): إنها مُتَّصِلَة بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ [كأنه قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾] (٧)، {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا
= ابن قَمِيئة: اسمه عمرو، وقيل: عبد الله. وهو الذي قَتَلَ مُصْعَب ابن عُمَيْر (وكان يَظُنُّه رسولَ الله - ﷺ -، وكان بِيَدِ مُصْعب اللِّواء.
انظر: "المغازي" ١/ ٢٤٤ - ٢٤٦، و"تاريخ الطبري" ٢/ ٥١٦، و"إمتاع الأسماع" ١/ ١٢٩، ١٣٠، ١٣١.
(١) ما بين المعقوفين زيادة لازمة من (ج).
(٢) في (ب): (قال).
(٣) في (ج): (بني).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٨١٢، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٣٤، و"رصف المباني" ٢٢٢، و"الجنى الداني" ٤٠، ٤٢.
و (الباء) في القول -وهو قول الحسن-: للسببية؛ أي: فأثابكم غمًّا؛ بسبب الغم الذي حلَّ بالكفار -على أيديكم- يوم بدر.
وابن عطية يسمي هذه الباء: (باء معادلة).
انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٣٧٦، و"البحر المحيط" ٣/ ٨٤، و"الدر المصون" ٣/ ٤٤٢.
(٥) في (ب): (واختلفوا).
(٦) لم أهتد إليهم.
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
85
فَاتَكُمْ}، [لأن] (١) في (٢) عَفوِهِ -جلَّ وعَزَّ-، ما يُذْهِبُ كُلَّ غَمٍّ وَحُزْنٍ (٣). وقال آخرون: إنها مُتَّصِلَةٌ بقوله: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾.
ثُمْ اختلفوا:
فَقَالَ [أبو إسحاق] (٤): المعنى: أثابكم غَمَّ الهزيمة، بِغَمِّكُمْ النبيَ - ﷺ - بِمُخَالَفتِهِ (٥)، ليكون غَمُّكُمْ، بأن خالفتموه فقط، لا على ما فاتكم مِنْ غَنِيمة، ولا ما أصابكم من هزيمة وجِرَاحٍ؛ وذلك أنَّ غَمَّ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ، يُنْسيهم غَمَّ فَوْتِ الغَنِيمَةِ.
وقال غيره: كان أصحاب رسول الله - ﷺ -، يَتَأَسَّفُونَ على ما فاتهم مِنْ غَنائم المشركين، وعلى ما حَلَّ بهم مِنَ القَتْلِ والجراح، فأنزلَ اللهُ بقلوبهم غَمَّ قَتْلِ الرسول - ﷺ -، ثمّ أزال ذلك الغم عنهم؛ لِيَفرحوا ببقائه، ولا يحزنوا مع بقائه على شَيءٍ (٦) فَاتَهُمْ (٧).
وقولُ أبي إسحاق ألْيَقُ بَظَاهِرِ الآية؛ لأنه ليس في الآية ذِكْرُ إزَالَةِ غَمِّ
(١) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، وساقط من (ب)، والمثبت من (ج).
(٢) في (ب): (من).
(٣) وقد استحسن هذا الوجه: القرطبي، واستبعده أبو حيان، والسمين الحلبي؛ وذلك لطول الفصل، ولأنه -في الظاهر- يتعلق بمجاوره، وهو: ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾. انظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ٢٤١، و"البحر المحيط" ٣/ ٨٥، و"الدر المصون" ٣/ ٤٤٣.
(٤) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، والمثبت من (ب)، (ج). وقول أبي إسحاق في "معاني القرآن" له ١/ ٤٧٩. نقله عنه بمعناه.
(٥) في (ج): (مخالفة).
(٦) في (ج): (ما) بدلا من (شيء).
(٧) لم أقف على من قال هذا القول بتمامه، إلا أن بعضه، وهو: أن الغم الأول: ما أصابهم من قتل وجراح، والغم الثاني: سماعهم قتل النبي - ﷺ -. قد سبق وروده عند تفسير قوله تعالى: ﴿غَمًّا بِغَمٍّ﴾ آية: ١٥٣.
86
قتلِ النبيِّ - ﷺ -، إلّا بأنْ (١) يُقال: إنَّ ذلك الغَمَّ، لَمْ يتحققْ؛ لأنَّهُ لَم يَصْدُقْ نعْيُ الرسول.
وحُكي عن المُفَضَّلِ (٢) أنه كان يَجْعَلُ (لا) -في هذه الآية- صِلَةً (٣)، ويقول: المعنى: لِكَيْ تَحْزَنُوا على ما فاتكم وما أصابكم؛ عُقُوبَةً لكم في خِلافِكُمْ إيَّاهُ؛ كقوله: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ﴾ (٤) [الحديد: ٢٩].
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. تذكيرٌ؛ للتَّحْذِير (٥).
١٥٤ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ الآية.
قال المُفسِّرون (٦): إنَّ المشركين لَمَّا انصرفوا يوم أُحُد، كانوا يتوَعَّدُون المسلمينَ بالرجوع، ولم يَأمَن المسلمون (٧) كَرَّتَهم، وكانوا تحت الحَجَفِ (٨)؛ مُتَأَهِّبِينَ للقتال، فأنزَل اللهُ -تعالى-[عليهم] (٩) -دونَ المنافقين- أمَنَةً؛ فأخذهم النُّعَاسُ.
(١) في (ج): (أن).
(٢) حكى قولَ المُفضَّل: الثعلبيُّ في "تفسيره" ٣/ ١٣٣ ب، والقرطبى في "تفسيره" ٤/ ٢٤١.
(٣) بمعنى: (زيادة).
(٤) انظر: "تفسير البيضاوي" ٢/ ٢٥٠، و"تفسير النسفي" ٤/ ٢٢١.
(٥) في (أ)، (ب): (التحذير)، والمثبت من (ج).
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٤٠، ١٤١، و"النكت والعيون" ١/ ٤٣٠.
(٧) في (ج): (المسلمين).
(٨) (الحَجَفُ)، جمعٌ، ومفردُها: (حَجَفَةٌ)، وهي: التُّرُوسُ الصغيرة، والمُتَّخَذَةُ من الجلود، وليس فيها خَشب، يُطَارَقُ بين جِلْدين، ويُجعل منها حَجَفة.
انظر: (حجف) في: "المجمل" ١/ ٢٦٥، و"القاموس" (٧٩٨)، و"المعجم الوسيط" ١/ ١٠٨.
(٩) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
87
قال ابن عباس (١): آمَنَهُم (٢) -يومئذ- بِنُعَاس يَغْشاهم بعد خوف، وإنَّمَا يَنْعُسُ مَنْ يَأمَنُ، والخائف لا ينام.
قال أبو طَلْحَة (٣): رَفَعْتُ رَاسِي يوم أُحُد، فَجَعَلْتُ (٤) ما (٥) أرى أحَدًا مِنَ القوم، إلّا وَهُوَ يَمِيد تحت حَجَفَتِهِ؛ مِنَ النُّعَاس. قال (٦): وكنت مِمَّن
(١) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٤٠، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٤ أ.
(٢) عند الطبري: أمَّنهم. وعند الثعلبي: أمَنَهم.
(٣) أخرج قوله: ابن أبي شيبة في: "المصنف" ٧/ ٣٧٢ رقم (٣٦٧٨٠). والترمذي في: "السنن" رقم (٢٠٠٧) كتاب التفسير. باب سورة آل عمران. وقال: (حسن صحيح).
والطبري في: "تفسيره" ٤/ ١٤٠، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٢٩٧. وقال: (صحيح على شرط مسلم)، ووافقه الذهبيُّ.
والطبراني في: "المعجم الكبير" ٥/ ٩٨ رقم (٤٧٠٧)، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" ٤٨٧ رقم (٤٢١)، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٣٤ أ، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ١٢١. وأبو طلحة، هو: زيد بن سهل بن الأسود، النَجَّاري الأنصاري. من فضلاء الصحابة، اشتهر بكُنْيَتِه، شهد العَقَبة، وبدرا، وأحدًا، وهو زوج أم سُلَيم بنت مِلْحان، أم أنس بن مالك، -رضي الله عنهم-، اختلف في تاريخ وفاته على السنوات التالية: (٣٢، ٣٣، ٣٤، هـ)، وقيل: (٥١ هـ). انظر: "أسد الغابة" ٢/ ٢٨٩، و"الإصابة" ٤/ ١١٣.
(٤) (فجعلت): ساقطة من (ج).
(٥) في (ج): (فما).
(٦) أخرج قوله هذا: البخاري في: "صحيحه" (٤٠٦٨) كتاب المغازي. باب (ثم أنزل عليكم..)، كتاب التفسير. سورة آل عمران. باب قوله: أمنة نعاسا..
والنسائي في "تفسيره" ١/ ٣٣٧، ٥١٦، والترمذي في "السنن" رقم (٣٠٠٨) كتاب التفسير. باب: (سورة آل عمران). وأحمد في "المسند" ٤/ ٢٩، والطبراني في "المعجم الكبير" ٥/ ٩٦ رقم (٤٧٠٠)، والطبري في "تفسيره" ٤/ ١٤١، وابن أبي حاتم ٣/ ٧٩٣، والثعلبي ٣/ ١٣٤ أ، والبغوي ٢/ ١٢١.
88
أُلْقيَ عليه النُّعَاس -يومئذٍ -، فكان السَّيْفُ سقُطُ مِن يدِي فَآخُذُهُ، ثم يَسْقُطُ السَّوْطُ من يدي فَآخُذُه.
وقال أبو إسحاق (١) -في قوله: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾: أي: أعْقَبَكم- بما نالكم (٢) مِنَ الرُّعْب-؛ أنْ آمَنَكم (٣) أمْنًا تنامون معه؛ لأنَّ الشَّدِيدَ الخوفِ لا يكاد يَنَام.
والأَمَنَةُ: مصدرٌ، كـ (الأمْنِ). ومثله من المصادر: (العَظَمَةُ)، و (الغَلَبَةُ).
وقال اللِّحْيانيُّ (٤): يُقال: (أَمِنَ فلانٌ، يَأمَنُ، أَمْنًا، وأَمَنَةً، وأَمْنَةً (٥)،
(١) في "معاني القرآن"، له ١/ ٤٧٩. نقله عنه بنصه.
(٢) في (ج): (أنالكم).
(٣) في "معاني القرآن" (أمنَكم).
(٤) قوله، في "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٩ (أمن).
(٥) (وأمْنَةً): ساقطة من (ج). وليست في "تهذيب اللغة".
ويبدو أنَّ إثبات هذه الكلمة، سبق قلم من الناسخ؛ حيث أبدلها بـ (أمَنًا) التي وردت في قول اللحياني في (التهذيب)، ولم يذكرها المؤلفُ هنا، ولم أقف في مصادر اللغة التي رجعت إليها، على مجيء (أمْنةً) مصدرًا لـ (أمِنَ)، إلا أنها وردت في قراءة ابن محيصن، ورُويت عن يحيى، وإبراهيم من القُرَّاء. وقال ابن جِنِّي: (روينا عن قطرب أنه قال: (الأمْنَةُ): الأمْنُ. و (الأمَنَة) -بفتح الميم-، أشبه بمعاقبة الأمْن). "المحتسب" ١/ ١٧٤.
وانظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ٢٤١، و"فتح القدير" ١/ ٥٨٩، و"القراءات الشاذة" لعبد الفتاح القاضي: ٣٠.
وورد من مصادرها: (.. إمْنًا) -بالكسر-. انظر: "القاموس" ١١٧٦. وفي "اللسان" "ما أحسن أمَنَتَك، وإمْنَتَك"؛ أي: دينك وخلقك. ١/ ١٤١ (أمن). و (أَمَنَةً) -إضافةً إلى مجيئها مصدرًا- فإنها تأتي صفة، بمعنى: الذي يثق بكلِّ أحد، أما (الأُمَنَة) -بضم الهمزة، وفتح الميم والنون-، فإنها صفهَ فقط، كـ (الأمَنَة)، ولا تأتي مصدرًا.
89
وأمَانًا). والنعاس: بَدَلٌ مِنَ (الأمَنَة) (١).
وقوله تعالى: ﴿يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ قُرِئ بالياء والتَّاءِ (٢). فَمَن قرأ بالياء؛ فلأن النُّعَاسَ هو الغاشي، والعرب تقول: (غَشِيَنِي النُّعاسُ)، وقلّما تقول: (غَشِيَني الأمْنُ).
و-أيضًا- فإنَّ النعاسَ مذكورٌ بالغِشْيَانِ في قوله: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ [الأنفال: ١١] ولأن النعاسَ يَلِي الفِعْلَ، وهو أقرب في اللفظ إلى ذِكْرِ الغِشْيانِ مِنَ الأمَنَة. فالتذكير أولى.
ومن قرأ بالتَّاءِ: جعل الأمَنَةَ هي الغاشِيَةَ.
والأَمَنَةُ والنُّعاسُ، أحدهما بَدَلٌ عن الثاني، فيجوز وَيحْسُن رَدُّ الكِنَايَةِ (٣) إلى أيِّهما شئت؛ كقوله: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي﴾ [الدخان: ٤٣ - ٤٥]، وَ ﴿وتَغْلِي﴾ (٤).
= انظر (أمن) في: "الصحاح" ٥/ ٢٠٧١، و"اللسان" ١/ ١٤٠، و"التاج" ١٨/ ٢٣ وما بعدها.
(١) وهو بدل اشتمال، ويكون بدلًا في حالة إعراب ﴿أَمَنَةً﴾ مفعولًا به لـ ﴿أَنزَلَ﴾. وقيل: هو عطف بيان، ويجوز أن يكون ﴿نُّعَاسًا﴾ مفعولًا، و ﴿أَمَنَةً﴾ حال منه. وقيل غير ذلك.
انظر: "معاني القرآن"، للزجاج ١/ ٤٧٨، و"البيان" للأنباري ١/ ٢٢٦، و"التبيان" للعكبري (٢١٥)، و"الدر المصون" ٣/ ٤٤٤، و"فتح القدير" ١/ ٥٨٩.
(٢) قرأ ابنُ كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر ﴿يَغْشَى﴾ -بالياء-. وقرأ حمزة، والكسائي ﴿وَتَغشَى﴾ بالتاء.
انظر: "القراءات" للأزهري ١/ ١٢٨، و"الحجة" ٨٨، و"الكشف" ١/ ٣٦٠.
(٣) الكناية: الضمير.
(٤) قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: ﴿يَغْلِي﴾. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، ونافع، وحمزة، والكسائي، وعاصم -في رواية أبي بكر-: ﴿تَغْلِي﴾.=
90
ومِمَّا يُقَوِّي القراءة بالتَّاء: أنَّ الأصل: الأَمَنَةُ، و (النُّعَاس): بَدَلٌ. وَرَدُّ الكناَيَةِ إلى الأصْلِ أحْسَنُ. والأَمَنةُ هي المقصودة، فإذا حَصَلَتْ (١) الأمَنَةُ، حَصلَ (٢) النُّعَاسُ، لأنها سَبَبُهُ، فإنَّ الخائفَ لا يكادُ يَنْعُسُ.
وقوله تعالى: ﴿طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ قال ابن عباس (٣): هم المهاجرون، وعامَّةُ الأنْصَارِ (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ هؤلاء هم المنافقون: عبد الله بن أُبَي، ومُعَتِّبُ بن قُشَيْر (٥)، وأصحابُهُما، كان هَمُّهُم خَلاَصَ أنفسِهِم (٦). يقال: (أهَمَّنِي الشيءُ): إذا كان مِنْ هِمَّتِي وقَصْدِي.
والواو في قوله ﴿وَطَاَئِفَةٌ﴾، واو الحال.
قال الفراء: (إذا كانت ﴿تغلي﴾، فهي الشجرة، وإذا كانت ﴿يَغلِى﴾، فهو المُهْل). "معاني القرآن" ١/ ٢٤٠. وانظر: "السبعة" ٥٩٢، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٣٩، و"المدخل" للحدادي ١٤٧ - ١٤٩، و"المسائل العضديات" ١٦٦.
(١) في (ج): (حصل).
(٢) في (ج): (وحصل).
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٢/ ١٢١، و"زاد المسير" ١/ ٤٨٠، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٥١، و"فتح القدير" ١/ ٥٩٠.
(٥) ويقال: مُعتِّب بن بشير الأوسي الأنصاري. شهد العقبة وبدرًا وأُحدًا، وقال ابن هشام بأنه ليس من المنافقين، وقيل: إنه تاب مما قاله يوم أحد.
انظر: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٢٣٨، ٣٤٤، و"الاستيعاب" ٣/ ٤٨٢، و"أسد الغابة" ٥/ ٢٢٥، و"الإصابة" ٣/ ٤٤٣.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٤١، و"النكت والعيون" ١/ ٤٣٠، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٢٢.
91
قال سيبويه (١): المعنئ: إذْ طائِفةٌ قد أهَمَّتْهُم أنفُسُهم، وهو (٢) رَفْعٌ بالابتداء، وخبرُهُ: ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾. وجائزٌ أن يكون الخَبَرُ: ﴿يَظُنُّونَ﴾، ويكون ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾: مِنْ صِفَةِ النَّكِرَةِ، ويكون المعنى: وطائفةٌ مُهِمَّتُهُمْ أنفُسُهم، يَظنُّونَ.
قال أبو الفَتْحِ المَوصِلِيُّ (٣): هذه الواو للحال، وهي وما بعدها في مَوْضِعٍ نَصْب، على تقدير: يَغْشَى طائفَةً منكم، مُهِمَّةً (٤) طائفةً أخرى منكم أنفُسُهم، في وقت غِشْيَانِهِ تلكَ الطائفة (٥) الأولى. ولا بُدَّ مِن هذا التقدير؛ كما أنَّ قولك: (جاءت هند، وعمرٌو ضاحكٌ)، في تقدير: (جاءت هند ضاحكًا (٦) عمرو في وقت مجيئها)، حتى يعود من الجملة التي هي حالٌ، ضميرٌ على صاحب الحال، ولهذا شبَّهَهَا سيبويه بـ (إذ) (٧).
(١) في "الكتاب" ١/ ٩٠. نقله عنه بمعناه.
وانظر: "الكامل" للمبرد ١/ ٣٢٧، ٣٢٨، وكتاب "معاني الحروف" للرماني ٦٠، و"الصاحبي" ١٥٧، و"أمالي ابن الشجري" ٣/ ١١، و"تذكرة النحاة" ٦٤٨.
(٢) من قوله: (وهو..) إلى (.. وطائفة مهمتهم أنفسهم): ساقط من (ج).
(٣) هو ابن جِنِّي في: "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٤٤ - ٦٤٥. نقله عنه بعضه بتصرف، ونقل أكثره بنصه.
(٤) في (أ): مهمةٌ -بضم التاء المربوطة المُنوَّنة-. وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والمثبت من: "سر صناعة الإعراب"؛ وهو الصواب؛ لأن موقعها في الجملة حال منصوب.
(٥) في (ب): (النعاس) بدلًا من: الطائفة.
(٦) في (أ)، (ب)، (ج): (ضاحك)، والمثبت من: سر الصناعة، لأن ابن جِنِّي أراد أنها حال منصوبة.
(٧) بـ (إذ): ساقط من (ج).
92
قال أبو علي (١): إنما فَعَلَ ذلك من حيث كانت (إذْ) منتصبةَ المَوْضعِ في الحال (٢)، وأنَّ ما بعد (إذْ) لا يكون إلّا جملةً، كما أنّ ما بعد واو الحال لا يكون إلّا جملةً مرَكَّبَةً مِن مبتدأ وخَبَر، كقولك: (مَرَرْتُ بزَيْد، وعمرٌو قائمٌ) (٣).
وقوله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ أي: يظنون أنَّ أمرَ النبي - ﷺ - مضمَحِلٌّ، وأنّه لا يُنْصر (٤).
وقوله تعالى: ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾. الجاهلية: زَمَان الفَتْرَةِ، قبل الإسلام (٥). والمعنى: إنهم على جاهليتهم في ظنهم هذا. وتقدير الكلام: يَظنُّونَ ظَنَّ أهلِ الجاهلية (٦).
وقوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي: ما لنا. استفهام يتضمن الجَحْدَ.
قال الحَسَنُ (٧): يقولون: أُخْرِجْنَا كَرْهًا، ولو كان الأمرُ إلينا ما
(١) قول أبي الفارسي -هنا- من تتمة كلام ابن جني في: المصدر السابق: ٢/ ٦٤٥ نقله المؤلف عنه بمعناه
وانظر رأي أبي علي الفارسي حول هذه المسألة في كتابيه: "المسائل المشكلة" ٥٩٣، و"المسائل الحلبيات" ١٥١.
(٢) عبارة أبي علي -كما نقلها ابن جني-، هي: (.. من حيث كانت (إذ) منتصبة الموضع بما قبلها، أو بعدها، كما أن (أو) منتصبة الموضع في الحال..).
(٣) في (ب): (قائما).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٩، و"زاد المسير" ١/ ٤٨١.
(٥) قال النووي: (سموا بذلك؛ لكثرة جهالاتهم). "صحيح مسلم بشرح النووي" ٣/ ٨٧، وانظر: "المزهر" للسيوطي ٢/ ٢٠٢.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٤٢، و"معاني القرآن"، للزجاج ١/ ٤٣١.
(٧) قوله، في: "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٩٥، و"النكت والعيون" ٢/ ٩٠٩، و"زاد المسير" ١/ ٤٨١.
93
خَرَجْنَا (١) وقال الأكثرون (٢): أي: ليس لَنا مِنَ النَّصْرِ والظَّفَرِ شيءٌ كما وعدنا، بل هو للمشركين. يقولون ذلك (٣) على جهة التكذيب. فقال الله: ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾، أي: النَّصْرُ بيد الله عز وجل.
وقال عطاء، عن ابن عباس (٤): يريد: القضاء والقدر، والنُّصْرَةُ والشَّهادة. واختلف القرّاء (٥) في قوله: ﴿كُلَّهُ﴾:
فَنَصَبَهُ [أكثرُهُم] (٦)؛ لأن (٧) الكُلَّ بمنزلة (أجمعين)، وجُمَعَ؛ في أنه للإحَاطَةِ والعُمُوم.
(١) لفظه عند ابن أبي حاتم: (.. ذلك المنافق، لما قُتِل مِن أصحاب محمد، أتَوا عبد اللهَ بن أبَي، فقالوا له: ما تَرَى؟ فقال: إنَّا والله ما نُؤامَر، لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا). وما أورده المؤلف هو معنى هذا اللفظ.
(٢) في (ب): (وقال الآخرون الأكثرون).
ولم أقف على من قال بهذا القول، وقد أوردته بعض كتب التفسير ولم تعزه انظر: "النكت والعيون" ١/ ٤٣١، و"زاد المسير" ١/ ٤٨١، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٤٢، و"فتح القدير" ١/ ٥٩٠.
(٣) (ذلك): ساقطة من (ج).
(٤) لم أقف على مصدر هذ الرواية. وأورد الثعلبي، والقرطبي -من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس- ما نصه: (يعني: القدر خيره وشره من الله). وهي بمعنى رواية عطاء عنه.
انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٤ ب، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٤٢.
(٥) في (ب): (واختلفوا القراء).
(٦) ما بين المعقوفين في (أ): غير واضح. والمثبت من (ب)، (ج). انظر هذه القراءة في: "السبعة" ٢١٨٧، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٩٠.
(٧) من قوله: (لأن..) إلى (.. إذا قال كله): نقله -بتصرف يسير- عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٩٠.
94
ولو قيل: (إن الأمرَ أجْمَعَ)، لم يكن إلّا النَّصبُ، -كذلك- إذا (١) قال ﴿كُلَّهُ﴾ (٢).
وقرأ أبو عمروٍ بالرَّفْعِ (٣)، وذلك أنه لم يُجْرِهِ على ما قَبْلَهُ، ورَفَعَهُ على الابتداء، و ﴿لِلَّهِ﴾: الخَبَر.
قال الفَرّاءُ (٤): ومثله مِمَّا قُطِعَ مِمَّا (٥) قبلَهُ: قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ (٦) [الزمر: ٦٠]، ومِنْ هذا -أيضًا-: ما أجازه سيبويه مِن قولِهِم: (أينَ تَظُنُّ زيدٌ ذاهِبٌ).
وقوله تعالى: ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ﴾ أي: مِنَ الشَّكِّ والنِّفَاقِ، وتكذيب الوَعْدِ بالاستعلاء على أهل الشرك.
وقوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾
رُوي (٧) عن الزُّبَيْر بن العَوَام -رضي الله عنه -، أنَّه قال (٨): أَرْسَلَ اللهُ علينا النَّوْمَ،
(١) (أ)، (ب): (إذ). والمثبت من: (ج)، و"الحجة".
(٢) فنصب ﴿كُلَّهُ﴾ إما على التوكيد، أو النعت، أو البدل.
انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٤٣، و"معاني القرآن" للأخفش ١/ ٢١٨، و"الأصول في النحو" لابن السراج ٢/ ٢٣، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٧١، و"التبيان" للعكبري ص ٢١٦.
(٣) أي: ﴿كُلَّهُ﴾ انظر: المصادر السابقة.
(٤) في "معاني القرآن"، له ١/ ٢٤٣. نقله عنه بمعناه.
(٥) في (ج): (من).
(٦) قوله تعالى: ﴿وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾، جملة مكونة من: مبتدإ، وهو: ﴿وُجُوهُهُمْ﴾، وخبر، وهو: ﴿مُّسْوَدَّةٌ﴾. والجملة في محل نصب على الحال. ويجوز من الناحية النحوية أن تُنْصبَ ﴿وُجُوهُهُمْ﴾ على أنها بدل من ﴿الَّذِينَ﴾. انظر: "البيان" للأنباري ٢/ ٣٢٥
(٧) في (أ): (رَوَي). والمثبت من: (ب)، (ج).
(٨) أخرج قوله: الواقدي في "المغازي" ١/ ٣٢٣، والطبري في "تفسيره" ٤/ ١٤٣،=
95
وإنِّي لأَسْمَعُ قولَ مُعَتِّب بن قُشَيْر -والنُّعَاس يغشاني-، ما أسمعه إلّا كالحُلم (١)، يقول: لو كان لنا من الأمر شىِءٌ، ما قُتلنا ههنا (٢). يَعْنُونَ أنهم أُخْرِجُوا كُرْهًا، ولو كان الأمر بيدهم لم يخرجوا.
وقال المفسرون (٣): إنَّ المُنافِقِينَ قال بعضُهم لِبَعضٍ: لَوْ كانَ لنا عُقُولٌ، لم نخرجْ مع محمد لِقِتال أهل مكة، وَلَمَا قُتِلَ رُؤَساؤُنا. وهذا منهم تكذيبٌ بالقَدَرِ؛ حين ظَنُّوا أنهم لو لم يخرجوا لم يُقْتَلوا. فَرَدَّ اللهُ -تعالى- عليهم هذا الكلام بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ أيها المُنافِقُونَ، وَلم تَخْرُجوا إلى أُحُد.
﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ يعني: لو تَخلَّفتم عن القتال؛ لَخَرَج منكم الذين كُتِب عليهم القَتْل، ولم يكن لِيُنْجِيهم قُعُودهم.
ومعنى (بَرَزَ): صار إلى (بَرَاز)؛ وهو المكان المنكشف (٤).
والمضاجع: جمعُ (المَضْجَع)؛ وهو الموضع الذي يَضْجَعُ عليه الإنسانُ. ومنه قوله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة: ١٦].
= وابن أبي حاتم ٣/ ٧٩٥، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" ٤٨٧ فصل ٢٥. رقم (٤٢٣)، وأورده السيوطي في "لباب النقول" ٥٩، و"الدر المنثور" ٢/ ١٥٦، وزاد نسبة إخراجه إلى ابن إسحاق، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في "الدلائل". وانظر: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٦٨.
(١) في (أ): (كالحِكم). والمثبت من: (ب)، (ج)، ومصادر الخبر.
(٢) في (أ): (هنا). والمثبت من: (ب)، (ج)، ومصادر الأثر.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٤٢، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٤ ب، والنَّصُّ له.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٨٠، و"نزهة القلوب" للسجستاني ١٤٤، و"المقاييس" ١/ ٢١٨ (برز).
96
قال الهُذَلِيُّ (١):
أَم ما لجنْبِكَ لا يُلائِمُ مَضْجَعًا إلّا أَقَضَّ عليكَ ذاكَ المَضْجَعُ (٢)
وقال: (أضْجَعْتُ فُلانا): إذا وَضَعْت جَنْبَهُ بالأرض. و (ضَجَعَ)، فهو يَضْجَعُ بنَفْسِهِ. ويريد بـ ﴿المَضَاجِعِ﴾ ههنا: مَصارِعَهم للقتل؛ أي: حيث يَسْقُطُون (٣) -هناك- قتلى.
وقوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ قال الكسائيُّ وغيرُهُ (٤): وليَبْتَلِيَ اللهُ ما في صدوركم، فَعَلَ ما فَعَلَ يومَ أُحُد. فَحُذِفَ واختُصِرَ؛ لِبَيَان المعنى.
ومعنى ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾: ليعاملكم معامَلَة المُبْتَلِي، المُخْتَبِرِ لكم.
(١) هو أبو ذؤيب، خويلد بن خالد الهذلي.
(٢) البيت ورد منسوبًا له في: "المفضليات" ٤٢١، و"الزاهر" ١/ ٤٧٣، و"الأمالي" ١/ ١٨٢، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٨٢ (قضض)، و"شرح أشعار الهذليين" ١/ ٥، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٢١ (قضض)، و"جمهرة أشعار العرب" ص ٢٤١، و"اللسان" ٦/ ٣٦٦٢ (قضض).
ورد في (التهذيب): (.. أقضَّ عليه ذاك..)، وفي "المقاييس" (أم ما لجسمك). البيت من مرثيته التي يرثي بها أبناءه الخمسة الذين ماتوا في عام واحد. وقبل هذا البيت:
قالتْ أُمَيْمَةُ ما لجسمك شاحبا منذ ابْتُلِيتَ ومثل مالِكَ يَنفَع
(أم) في البيت هي المنقطعة، بمعنى: (بل) والاستفهام. وقوله: (لا يُلائِم): لا يوافق، (أقضَّ عليك ذاك المضجع)؛ أي: لم يطمئن بك النوم، كأن تحت جنبك (قَضِيضا)، وهو: الحصى الصغار.
انظر: "الزاهر" ١/ ٤٧٣، و"التهذيب" ٣/ ٢٩٨٢، و"شرح أشعار الهذليين" ١/ ٦.
(٣) (يسقطون): مطموسة في (ج).
(٤) لم أقف على مصدر قول الكسائي، ولا على مصدر قول غيره ممن قال هذا القول.
97
وقال أبو إسحاق (١): أي: لِيَخْتَبِرَ ما في صدوركم، لِيَعلَمَهُ مُشَاهدَةً، كما يعلمه غَيْبًا؛ لأن المُجَازَاةَ تَقَعُ على ما عَلِمَهُ مُشَاهَدَةً.
وقيل (٢): لِيَبتلي أولياءُ اللهِ ما في صدوركم. إلّا أنه أُضِيفَ الابتلاءُ إلى
اللهِ -تعالى-، تفخيما لشأنهم؛ كقوله: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا﴾ (٣).
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٠. نقله عن بتصرف.
(٢) ممن قال ذلك: الطبري في "تفسيره" ٤/ ١٤٣، وقد أورد هذا القول الماورديُّ في: "النكت والعيون" ١/ ٤٣١ ولم يعزه
(٣) الزخرف: ٥٥. ومعنى ﴿آسَفُونَا﴾: أغضبونا. وهو قول: ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة، والسدي، وغيرهم من المفسرين. انظر: "تفسير الطبري" ٢٥/ ٨٤، و"تفسير ابن كثير" ٤/ ١٣٧.
والمؤلف يقصد -هنا- أن معنى الآية: فلما أغضبوا موسى عليه السلام ومن معه من أولياء الله، ولكن نُسِب الغضبُ إلى الله تعالى؛ تفخيمًا لشأن أولياء الله.
ولا مانع من قبول هذا التأويل الذي يراه المؤلف، مع إثبات صفة الغضب لله تعالى، ولكن قد يكون الدافع لهذا التأويل هو الهرب من نسبة هذه الصفة إليه تعالى، وحينها، فإن هذا التأويل لا يُسَلَّم؛ وذلك أنَّ الأشاعرة -والمؤلف منهم- يرون أن الغضب من صفات المخلوقين التي يجب أن لا تنسب إلى الله على الحقيقة؛ حيث إن الغضبَ عندهم هو: غَلَيَانُ دَمِ القَلْب؛ لإرادة الانتقام، وذاك محال على الله، وانما يُنْسَب إلى الله -عز وجل- على سبيل المجاز، ويراد به -حينها-: إرادة العقوبة، فيكون صفة ذات، أو يُراد به العقوبة ذاتها، فيكون صفة فعل.
ولكنْ سَلَفُ الأُمَّةِ -وقد شق بيان مذهبهم الحق في صفات الباري تعالى- يرون أن الغضب من صفات الله، يُنْسبُ إليه -تعالى- على الحقيقة، بما يليق بذاته، والشأن في الصفات أن تُمَرَّ كما جاءت، دون تعطيل ولا تشبيه ولا تحريف ولا تأويل، ولا بيان لكيفيَّتها، كما أن صفة الغضب تنسب إلى المخلوق على الحقيقة، بما يتناسب مع خَلْقِهِ، وطبيعته، ومن توابع هذه الصفة، ولوازمها في المخلوق: هو ما ذكره المُؤَوِّلُونَ مِنْ غَلَيَان دَمِ القلب، وبذا تفترق صفة الخالق عن المخلوق. انظر: "النكت والعيون" ٥/ ٢٣١ - ٢٣٢، و"تفسير الفخر الرازي" ٢٧/ ٢٢٠،=
98
وقوله تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ قد ذكرنا للتَّمْحِيصِ ثلاث مَعَانٍ، عند قوله -تعالى-: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران: ١٤١]: التَّطْهِير، والكَشْف، والابْتِلاء. وهذ كلها مُحْتَمَلَةٌ في هذه الآية.
قال قتادة (١) - في قوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾، أي: يُظْهِرها (٢) مِنَ الشَّكِّ والارْتِيَاب؛ بما يُرِيكم من عجائب صُنعه في إلقاء الأَمَنَةِ، وصَرْفِ العدُوِّ، وإعلانِ سَرَائِرِ المنافقين. وهذا (٣) التمحيص خاصٌّ للمؤمنين؛ فابن عباس قال (٤): يريد: يُمَحِّص قلوب أوليائه من الخطأ.
وقال الكَلْبِيُّ (٥): ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾: يُبَيِّن ما في قلوبكم. يعني: أن المؤمن يُظْهِر الرِّضَا بِقَدَرِ الله، والمنافق يُظْهر مثلَ ما أظهرَ مُعَتِّب بن قُشَيْر وأصحابُه. فَعَلَ اللهُ ما فَعَلَ يومَ أُحُد؛ لِيُبَيِّنَ ما في قلوب الفريقين.
ويَحْتَمِلُ التَّمْحِيصُ -ههنا- معنى الابتلاء، غير أن القولين الأَوَّلَيْن أجودُ؛ لِزِيَادَةِ الفائدة؛ فإنَّ الابتلاءَ قد ذُكِرَ في قوله: ﴿وَلِيَبْتَلىَ اللَّهُ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (ذاتُ الصدور)، تحتمل معنيين: أحدهما: أن (ذات الصدور) هي: الصدور؛ لأن ذاتَ الشيء
= ولوامع الأنوار" للسفاريني ١/ ٢٢١ - ٢٢٣، و"روح المعاني" ٢٥/ ٩١، و"أضواء البيان" ٧/ ٢٥٦، و"العقائد السلفية" لأحمد بن حجر ١/ ٨٦
(١) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده ابن الجوزي في: "الزاد" ١/ ٤٨٢.
(٢) في (ب)، (ج): (يطهرها) بالطاء.
انظر:"بحر العلوم" ١/ ٣٠٩، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٤ ب، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٢٢، و"زاد المسير" ١/ ٤٨٢.
(٣) من قوله: (وهذا..) إلى (.. يمحص قلوب): ساقط من (ج).
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
99
نَفْسُهُ، وعَيْنهُ. يقال: (فَهَمتُ ذاتَ كلامك)، كما يقال: (نَفْسَ كلامك). قال الشاعر:
نَطُوفُ بِذَاتِ البيتِ والخَيْرُ ظاهِرُ (١)
أي: البيت نفسه. وفيه معنى التأكيد. فيكون المعنى: واللهُ عليمٌ بالصدور.
والثاني: أنَّ (ذاتَ الصدور): الأشياء التي في الصدور، وهي الأسرار والضمائر، وهي (ذات الصدور)؛ لأنها فيها، تَحُلُّها (٢) وتصاحبها وصاحب الشيء: (ذُوهُ)، وصاحبته: (ذاته) (٣).
١٥٥ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ هذا الخطاب للمؤمنين خاصَّةً، يعني: الذين انهزموا يوم أحد (٤).
﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ أي: حَمَلَهُمْ على الزَّلَّةِ، وَكَسَبَهُمْ الزَّلَّةَ (٥).
(١) هو عمرو بن الحارث بن مضاض كما في "الأغاني" ١٥/ ١٧بلفظ (نمشّى به والخير إذ ذاك) وفي "نهاية الأرب" للنويري بلفظ (نطوف بذاك). وصدره:
فنحن ولاة البيت من بعد نابت
وينظر: "السيرة الحلبية" (١/ ١٥)، و"البدء والتاريخ" ٤/ ١٢٦، و"أخبار مكة" للأزرقي ١/ ٩٧، و"الاكتفاء" للكلاعي ١/ ٥٩، و"البداية والنهاية" ٢/ ١٨٦، و"المنتظم" ٢/ ٣٢١، و"تاريخ الطبري" ١/ ٥٢٣، و"الأنساب" ٥/ ٤٤٠، و"معجم البلدان" ٥/ ٣٦، ١٨٦.
(٢) في (ب): (وتحلها).
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٩٩ - ١٣٠١ (ذو)، و"اللسان" ٣/ ١٤٧٦ - ١٤٧٧ (ذو) وانظر: تفسير قوله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾. آية: ١١٩.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٤٤.
(٥) (وكسبهم الزلة): ساقط من (ج).
100
و (أَزَلَّ)، و (اسْتَزَلَّ)، بمعنى واحد. ذكرنا ذلك في قوله: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ [البقرة: ٣٦] (١).
وقال ابن قُتَيْبَة (٢): ﴿اسْتَزَلَّهُمُ﴾: طَلَبَ زَلَّتَهم؛ كما يقال: (استعجلته)؛ أي: طَلَبْتُ عَجَلَتَهُ، و (استعملته): طَلَبْتُ عَمَلَهُ.
وقول تعالى: ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ قال مقاتل (٣): يعني: معصيتهم النبيَّ - ﷺ -، وتركهم المَرْكَزَ.
وقيل: استزَلَّهم الشيطانُ بِتَذْكِيرِ خَطَايَا سَلَفَتْ لهم، فكرهوا أن يُقْتَلُوا قبلَ إخلاصِ التَّوْبَةِ. وهذا اختيار الزَّجَّاج؛ لأنه قال (٤): لَمْ يَتَوَلَّوا على جهة المُعَانَدَةِ، ولا على الفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ؛ رَغْبَةً في الدنيا، وإنَّمَا ذَكَّرَهُم الشيطانُ خَطَايَا كانت لهم، فكرهوا لقاءَ اللهِ، إلا على حَالَةٍ يَرْضَوْنَهَا (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾.
= يقال: (كَسَبَ هو)؛ بمعنى: أصاب. ويقال: (كَسَبْتُ زيدًا مالًا)، و (أكْسَبْتُ زيدًا مالًا)؛ أي: أعنته على كَسْبِه، أو جعلته يَكْسِبُهُ. انظر: "اللسان" ٧/ ٣٨٧٠ (كسب)، و"القاموس" ١٣١ (كسب).
والزَّلَّة: الخطيئة. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٤٥، و"القاموس" ص ١٠١٠ (زلل).
(١) انظر: "تفسير البسيط" عند تفسير هذه الآية
(٢) في "تفسير غريب القرآن" له ١٠٧. نقله عنه بتصرف.
(٣) في "تفسيره" ١/ ٣٠٩.
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨١. نقله عنه بتصرف يسير جدًّا. وانظر: "معاني القرآن" للنحاس ١/ ٥٠٠.
(٥) قال أبو حسان عن قول الزّجاج -هذا-: (ولا يَظْهَرُ هذا القول، لأنهم كانوا قادرين على التوبة قبل القتال، وفي حالة القتال، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.). "البحر المحيط" ٣/ ٩١.
101
قال الكلبيُّ (١)، ومقاتلُ (٢): عَفَا عنهم إذْ لَمْ يُقْتَلوا جميعًا، ولم يَسْتَأصِلْهم (٣).
وقيل (٤): عَفا عنهم؛ أي: غفر لهم تلك الخطيئة.
١٥٦ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية
قال ابن عباس -في رواية عطاء (٥) -: يريد قومًا من المنافقين قالوا فيمن بعثه رسولُ الله - ﷺ -، مِنَ السَّرَايَا إلى بِئْرِ مَعُونَة (٦)، وإلى
(١) لم أقف عليه
(٢) في "تفسيره" ١/ ٣٠٩.
(٣) وممن قال بهذا القول: الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وأبو الليث. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٩٧ - ٧٩٨، و"بحر العلوم" ١/ ٣١٠.
(٤) هذا قول الجمهور، ومنهم: عثمان بن عفان رضي الله عنه، وابن عمر -رضي الله عنهما-، وقتادة، والربيع، والطبري.
انظر: "صحيح البخاري" (٤٠٦٦) كتاب المغازي. باب: قول الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٤٤ - ١٤٦، و"بحر العلوم" ١/ ٣١٠، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٥ أ، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٢٨٧، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٤٤ - ٣٤٥، و"البحر المحيط" ٣/ ٩١، و"مجمع الزوائد" ٩/ ٨٣ - ٨٤.
(٥) لم أقف على مصدر هذه الرواية.
(٦) بَعَث النبي - ﷺ -، سبعينَ رَجُلا؛ لِحاجَةٍ، يُقال لهم القُرَّاء، فَعَرَضَ لهم حَيَّانِ من بني سُلَيْمِ: رِعْلٌ وذَكْوانُ، عند بِئْر يُقال لها بئرُ مَعُونَةَ، فقال القوم: والله ما إيَّاكم أرَدْنَا، إنَّمَا نحنُ مُجْتازُون في حاجة للنبي - ﷺ -، فقَتَلُوهم، فَدَعَا النبي - ﷺ -، عليهم شهرا، في صلاة الغَدَاةِ).
"صحيح البخاري" (٤٠٨٨)، كتاب: المغازي. باب: غزوة الرجيع. وهذ إحدى الروايات التي أوردها البخاري حول هذه السَّرِية، وهناك روايات أخرى عنده. انظرها في الباب نفسه. =
102
الرَّجيع (١)، فأُصِيبوا: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾.
وقال مجاهد (٢)، ومحمد بن إسحاق (٣): يعني بـ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: جميعَ المنافقين.
وقوله تعالى:
﴿وَقَالُواْ لِإِخوَانِهِم﴾. أي: في النِّفَاق. وقيل: في النَّسَبِ (٤).
= وانظر روايات أخرى لهذه السَّرِيَّة في كتب السيرة، منها: "المغازي" ١/ ٣٤٦، و"سيرة ابن هشام" ٣/ ١٨٤، و"الطبقات الكبرى" ٢/ ٥١، و"تاريخ الطبري" ٢/ ٥٤٥.
(١) بعث النبي - ﷺ -، سَرِيَّةً؛ عَيْنًا له، وقيل بعثهم استجابة لطلب عَضَل والقَارَة أن يبعث معهم من يُفَقِّههم في الإسلام ويقرؤهم القرآن، -وكان ذلك خدعة منهم، اتفقوا فيه مع بني لِحيان-، وأمَّرَ على السرِية عاصمَ بن ثابت، وقيل: مَرْثَد بن أبي مرثد الغَنَوِي، فخرجوا حتى إذا كانوا عند ماءٍ لهذيل، يقال له: الرَّجِيع، بناحية الحجاز، هجم عليهم بنو لِحيان، حيٌّ من هذيل، فاستل الصحابة سيوفهم، فقال لهم الأعداء: لكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم رجلًا، فرفض عاصم، وقاتل حتى قتل، مع نَفَرٍ من أصحابه، وأسِرَ البقيَّةُ، وانطلق الأعداء بِخبَيْب بن عَدي، وزيد بن الدِّثِنَّةِ، وباعوهما بمكة، فقتلهما أهل مكة ثأرا لقتلاهم في بدر.
انظر تفصيل أخبار هذه السرِيَّة في: "صحيح البخاري" (٤٠٨٦). كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع، و"المغازي" ١/ ٣٥٤، و"سيرة ابن هشام" ٣/ ١٦٠، و"الطبقات الكبرى" ٢/ ٥٥، و"تاريخ الطبري" ٢/ ٥٣٨.
(٢) الذي وقفت عليه عنه: قوله: (قول المنافق؛ عبد الله بن أبي بن سلول) "تفسير الطبري" ٤/ ١٤٦، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٧٩٩.
وقد أورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٥٨، إلا أن لفظه عنده: (هذا قول عبد الله بن أبي بن سلول، والمنافقين). ونسبه السيوطي إخراجه لهما، وزاد نسبته للفريابي، وعبد بن حميد وابن المنذر.
(٣) قوله في: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٦٩، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٤٦، و"تفسير أبن أبي حاتم" ٣/ ٧٩٨.
(٤) ذكر القولِين: الثعلبي في: "تفسيره" ٣/ ١٣٥ ب، ولم يعزهما لقائل. ورجح ابن =
103
﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي: ساروا وسافروا فيها. وكان (١) ينبغي في العَرَبِيَّةِ أنْ يُقَال: (وقالوا لإخوانهم إذْ (٢) ضَرَبُوا في الأرض)؛ لأنه ماضٍ، كما تقول: (ضربتك إذْ قُمْتَ)، ولا تقول (٣): (ضربتك إذا قُمْتَ). والذي في كتاب الله عَرَبِيٌّ حَسَنٌ، لأن القَوْلَ -وإن كان ماضيًا في اللفظ- فهو في معنى (٤) الاستقبال؛ لأن (الذين) يُذْهَبُ بها إلى معنى الجزاء، وكذلك: (مَنْ)، و (ما). فإذا وقع الماضي صِلَةً لِمُبْهَمٍ مِنْ (مَنْ) و (ما) و (الذين)، جازَ أنْ يكون بمعنى الاستقبال (٥).
فقوله (٦): ﴿كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾، في معنى: يَكْفُرُونَ، فدخلت (إذا) لِمَعْنى الاستقبال؛ والتقدير: (لا تكونوا كالذين يكفرون (٧)، ويقولون لإخوانهم
= عطية القولَ بأنها أخُوَّةُ النَسَبِ، قائلا: (لأن قَتْلَى أُحُد كانوا من الأنصار، أكثرهم من الخزرج، ولم يكن فيهم من المهاجرين إلا أربعة). "المحرر" ٣/ ٣٨٩.
(١) من قوله: (وكان..) إلى نهاية بيت الشعر: (.. ما كان في غد): نقله -بتصرف- عن "معاني القرآن"، للفراء ١/ ٢٤٣ - ٢٤٤، وأضاف إليه -مُلَفِّقا- بعضًا مِن كلام ابن الأنباري الذي أورده الأزهري في "التهذيب" ١/ ١٣٧ (إذ). وانظر: "الأضداد" لابن الأنباري ١٢١.
(٢) (أ)، (ب)، (ج): (إذا). وهي خطأ. والمثبت من "معاني القرآن". وهي الصواب.
(٣) (ضربتك إذ قمت ولا تقول): ساقطة من (ج).
(٤) في (ج): (بمعنى) بدلًا من: (في معنى).
(٥) يقول ابن عطية: (ودخلت (إذا) في هذه الآية -وهي حرف استقبال-؛ من حيث (الذين) اسمٌ فيه إبهام، ويعمُّ مَنْ قال في الماضي ومَنْ يقول في المستقبل، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان). المحرر ٣/ ٣٨٩.
(٦) في (أ)، (ب): (بقوله). وساقطة من (ج). وليست في "معاني القرآن"، والمثبت هو ما اسْتَصْوَبْتُه.
ومن قوله: (بقوله..) إلى (.. بمعنى الاستقبال): ساقط من (ج).
(٧) في (ج): (كفروا).
104
إذا ضربوا في الأرض (ومثله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحج: ٢٥]؛ معناه: إنَّ الذين يكفرون. وكذلك قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا﴾ [المائدة: ٣٤]؛ معناه: يَتُوبُون. ومثله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [مريم: ٦٠]؛ معناه: إلّا مَن يَتُوب.
ومشهورٌ في كلامهم، أنْ يقول الرجلُ للرجلِ: (لا تضربْ إلّا الذي ضَرَبَكَ؛ إذا سَلَّمْتَ عليه). فيجيء بـ (إذا)؛ لأن (الذي) غير مُؤَقَّت، فلو وَقَّته، لَقَالَ: (اضربْ هذا الذي ضَرَبَكَ؛ إذْ (١) سَلَّمْتَ عليه). ولا يجوز: (إذا سَلَّمْتَ) -ههنا-؛ لأنَّ توقيت (الذي) أبْطَلَ أنْ يكونَ الماضي في معنى المستَقبَلِ. وتقول: (ما هَلَكَ امرُؤٌ عَرَفَ قَدْرَهُ)؛ لأن الفعل حديثٌ عن مَنْكُورٍ؛ يُراد به الجنس؛ كأنَّ المتكلمَ يريد: (ما يهلك كُلُّ امرئٍ إذا عرف قدره)، أو الرَّجُل وما أشبهها (٢).
هذا مذهب الفراء (٣)، وأنشد:
وإنِّي لآتِيكمْ تَشَكُّرُ ما مَضَى مِنَ الأمرِ واستيجابَ ماكان في غَدِ (٤)
(١) في (أ)، (ب): (إذا). والمثبت من (ج). وهو الصواب.
(٢) في (ج): (أشبههما).
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٤٤.
(٤) البيت للطِّرِمّاح بن حكيم الطائي، وهو في: ذيل ديوانه ٥٧٢، وورد منسوبًا له، في: "أمالي بن الشجري" ١/ ٦٧، ٢/ ٥٣، ٤٥٣، و"اللسان" ٧/ ٣٩٦٢ (كون). وورد غير منسوب في: "معاني الفراء" ١/ ١٨٠، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٤٨، و"الخصائص" ٣/ ٣٣١، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٩٨، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٣٩٠.
وردت روايته عند ابن الشجري: (من الود)، و (من البر)، و (من الأمس) بدلًا من: (من الأمر). كما وردت روايته: (.. في الغد). وفي "اللسان" (واستنجاز ما كان =
105
أي: ما يكون.
وأجاز (١) قُطْرُب (٢) أنْ تُوقَعَ (إذْ) على معنى (إذا)، و (إذا) على معنى (إذ)، واحتج بقول الشاعر:
ثمَّ جَزَاهُ اللهُ عَنِّي إذ جَزَى جَنَّاتِ عَدْنٍ في العَلالِيِّ العُلى (٣)
معناه: إذا يجزي (٤).
قال ابن الأنباري (٥): والاختيار: مذهب الفراء؛ لأنه لا يصلح في كلِّ موضعٍ وَضْعُ (٦) (إذ) في موضع (إذا)، ولا وَضْعُ (إذا) في موضع (إذ).
= في غد). وفي جميع المصادر السابقة -ما عدا "معاني القرآن"- ورد: (وإني)، والصواب ما ورد في الديوان، و"معاني الفراء" (فإني)؛ لأن جوابٌ للشرط الوارد في البيت الذي قبله، وهو:
مَنْ كان لا يأتيك إلا لحاجة يروح بها فيما يروح ويغتدي
(١) في (ج): (وأجاب).
(٢) في كتاب "الأضداد" له ١٥٠ - ١٥٢. وانظر: "الأضداد" لابن الأنباري ١١٩، فقد ناقش هذا الأمر، وأورد قول الأخفش هذا.
(٣) البيت لأبي النجم العجلي. وقد ورد منسوبًا له في: المصادر السابقة، و"تفسير الطبري" ٧/ ١٣٧، و"الصاحبي" ١٩٦، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ٦٧، ١٥٣، و"اللسان" ٥/ ٢٧١٦ (طها)، ١/ ٥٠ (إذ) ولم يشبه هنا. وورد غير منسوب في: "تهذيب اللغة" ١/ ١٣٨. وقد ورد في كل المصادر السابقة: (.. جزاه الله عنا). (العلالي)، جمع: عُلِّيَّة -بكسر العين وضمها-، وهي الغُرْفة العالية في البيت. وأراد هنا (عِلِّيِّينَ) الواردة في القرآن. و (العُلَى)، جمع: عُلْيا. انظر: "عمدة الحفاظ" ٣٧٩، ٣٨٠ (علو).
(٤) في (ج): (إذ يجزي). وفي "الأضداد"، لقطرب، وابن الأنباري: إذا جزى.
(٥) لم أقف على مصدر قوله، وليس هو في كتابه "الأضداد" الذي تعرض فيه لهذه المسألة.
(٦) في (أ): (وضُعَ). وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. وما أثبته هو ما استصوبته.
106
والذي احْتَجَّ به من قولِ الراجز، فإن معناه: (ثم جزاه الله عني، إذْ حَكَمَ بالجزاء وأوجبه). فـ (إذ) في بابها، غير منقولة إلى معنى غيرها (١).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ (الغُزَّى) (٢): جمع (غازٍ)؛ مثل: (شاهِدٍ، وشُهَّد)، و (نائِم ونُوَّم)، و (صائِمٍ وصُوَّم)، و (قائلٍ وقُوَّل). ومثله من الناقص: (عَافٍ وعُفًّى (٣). ويجوز (غُزَاة)؛ مثل: (قُضَاة)، و (دُعَاة)، و (رُمَاة). ويجوز (غُزَّاء) مثل: (حُرَّاب) (٤)، و (ضُرَّاب) (٥).
ومعنى (الغَزْوِ) -في كلام العرب-: قَصْدُ العَدُوِّ. و (المَغْزَى): المَقْصد.
روى عَمْرُو (٦) عن أبيه: (الغَزْوُ): القَصْد. و-كذلك- (الغَوْزُ). و (قد غَزَاه، وغَازَه، غَزْوًا، وغَوْزًا): إذا قَصَدَه.
(١) انظر هذه المسألة في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٤٧ - ١٤٨، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٣٨ (إذ)، و"اللسان" ١/ ٥٠ (تفسير إذ).
(٢) في (ب): (الغز).
(٣) (العُفَّى، والعافِيَةِ والعُفَاة)؛ كلها جمعُ (عافٍ) و (مُعْتَفٍ)، وهو: كلُّ مَن جاءك يطلب رزقًا أو معروفًا، ويقال: (وفلان تَعْتَفِيه الأضيافُ) أو (هو كثير العُفَّى أو العافية)؛ أي: كثير الأضياف. انظر: "اللسان" ٥/ ٣٠١٩ (عفا).
(٤) في (أ): (خراب) بالخاء. والمثبت من: (ب)، (ج)، و"معاني القرآن" للزجاج.
(٥) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة (١٠٧)، "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٨١ - ٤٨٢، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٤٧، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٧٢ - ٣٧٣، و"الدر المصون" ٣/ ٤٥٤، وقال: (ويقال: غُزَّاء -بالمد، أيضًا-، وهو شاذ).
(٦) في (أ)، (ب): (عمر). والمثبت من (ج)، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٦١ - ٢٦٦٢؛ حيث نقل قول عمرو عنه بنصه. وعمرو هو: ابن أبي عمرو الشيباني (إسحاق بن مرار).
107
قال الأزهري (١): ويقال لِجَمْعٍ (الغَازِي): (غَزِيٌّ)؛ مثل: (نَاجٍ، ونَجِيٍّ)؛ للقوم يَتَناجَوْنَ، وأنشد لِزِياد (٢) الأعجم:
قُلْ لِلْقَوافِلِ والغَزِيِّ إذا غَزَوْا والباكِرِينَ ولِلْمُجِدِّ الرَائحِ (٣)
(١) قوله في: المصدر السابق ٣/ ٢٦٦٢.
(٢) في (أ)، (ب): (الزياد). والمثبت من (ج)، وهو الصواب؛ لأن اسمه (زياد) في المصادر التي تَرْجَمَت له، وليس (الزياد). وفي "التهذيب" (وقال زياد الأعجم). وهو: زياد بن سَلْمَى، وقيل: زياد بن جابر بن عمرو بن عامر، من عبد القيس، وقيل له الأعجم، لِلُكْنَة كانت فيه، شاعر إسلامي، شهد فتح إصطخر، وتوفي في حدود المائة للهجرة.
انظر: "الشعر والشعراء" ص ٢٧٩، و"معجم الأدباء" ٣/ ٣٥٢.
(٣) البيت، ورد في: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٦٢ (غزا)، و"إعراب القرآن"، للنحاس ص ٣٧٣، و"الأمالي" لأبي عبد الله اليزيدي ١، و"ذيل الأمالي" للقالي ٣/ ٨، و"أمالي المرتضى" ٢/ ١٩٩، و"اللسان" ٦/ ٣٢٥٣ (غزا)، و"المقاصد النحوية" ٢/ ٥٠٢.
وقد اختلف في نسبته، فقال اليزيدي في "الأمالي" (وقد قال لي الأصمعي، يرويها للصلتان العبدي). وقال القالي: (وكان في كتابي للصَّلتان، فقال [يعني ابن دريد]: هي لزياد الأعجم؛ وكان ينزل إصْطَخر، ورثى بهذه القصيدة المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة. قال: وأنشدنا هذه القصيدة أبو الحسن الأخفش لزياد الأعجم). "ذيل الأمالي" ٣/ ٨.
وقال ابن منظور: (رأيت في حواشي ابن برِّي أن هذا البيت للصليان [هكذا في "اللسان"، بالياء] العبدي، لا لزياد. قال: وقد غلط أيضًا في نسبتها لزياد، أبو الفرج الأصبهاني، صاحب الأغاني، وتبعه الناس على ذلك). "اللسان" ٦/ ٣٢٥٣. والصَّلَتَان، هو: قُثَم بن خبيئة، من عبد القيس.
انظر: "الشعر والشعراء" (٣٣١)، و"معاهد التنصيص" ١/ ٧٤.
وقد ورد في بعض المصادر: (والغزاة إذا غزو) وليس فيها موضع للشاهد. وورد: (للباكرين).
و (القوافل): جمع (قافِلَةٍ)، وهي: الرُّفْقَة الراجعة من سفرها إلى وطنها.
و (الباكِرِين): المُسْرِعين في الذهاب من أوَّلِ النهار. و (المُجِدّ الرائح): المجتهد في رجوعه آخر النهار، أو المجتهد في السير في وقت الرواح، وهو: من الزوال إلى الليل. والشاهد في البيت قوله: (الغَزِيِّ)، وهي جمعُ (غازٍ).
انظر: "اللسان" ٣/ ١٧٦٣ (روح)، و"الخزانة" ١٠/ ٥.
108
وفي الآية محذوفٌ، يَدُلُّ عليه الكلامُ؛ والتقدير: إذا ضَرَبُوا في الأرض، فَمَاتُوا أو كانوا غُزًّى فَقُتِلُوا، ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ (١).
فقوله: ﴿مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾؛ يَدُلُّ على موتِهم وقَتْلِهم.
وقوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي: لِيَجْعَلَ ظَنَّهُمْ -أَنَهم لو [لم]، (٢) يَحْضُروا (٣) الحربَ؛ لاندفع عنهم القتلُ- حَسْرَةً في قلوبهم. وحَسْرَتُهُم -في مَقَالَتِهم، التي كانوا كاذبين فيها على القضاء والقدر-؛ أشَدُّ (٤) عليهم مما (٥) نالهم في قَتْلِ إخوانهم ومَوْتِهم.
وتقدير الآية: لا تكونوا كهؤلاء الكفار في هذا القول منهم؛ لِيَجْعَلَ اللهُ ذلك حسرةً في قلوبهم دونكم. فـ (اللام) في ﴿لِيَجْعَلَ﴾ متعلقة بـ ﴿لاَ تَكُونُوا﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي (٦): ليس يمنع الإنسانَ تَحَرُّزُهُ مِن إتْيَان أجَلِهِ على ما سَبَقَ في عِلْمِ الله -عز وجل-. فهو إنكارٌ على مَن خالفَ أمْرَ اللهِ في الجهاد؛ طَلَبًا (٧) للحياة، وهَرَبًا من الموت. هذا قول أكثر
(١) (وما قتلوا): ليس في (ج).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ب)، والمُثبت من (ج).
(٣) في (ب): (حضروا).
(٤) في (أ): (اشتد). وفي (ب): (واشتد). والمثبت من (ج).
(٥) في (ب): (فيما).
(٦) من: (أي..) إلى (.. في علم الله): نقله -بتصرف يسير جدًا- عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٨٢٤.
(٧) في (أ)، (ب)، (ج): (وطلبًا). ولم أر للواو وجهًا -هنا- فحذفتها.
109
المفسرين في هذه الآية (١).
وقال ابن عباس -في رواية عطاء (٢) - في قوله: ﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾، يريد: يومَ القِيَامَةِ؛ لِمَا هم فيه من الخِزْيِ والهَوَان، ولما فيه أولياء (٣) الله مِنَ الكَرَامَةِ والنَّعِيم. ﴿حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾؛ يريد: الندامة على ترك الإسلام.
﴿وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾؛ يريد: يحيى قلوبَ أوليائه وأهلِ طاعته، وُيرْشِدُهم للعمل بطاعته، وُيميت قلوبَ أعدائِهِ من المنافقين والكُفَّار. واللَّام (٤) -على هذا التفسير- في قوله ﴿لِيَجْعَلَ اَللَّهُ﴾ متعلق (٥) بقوله ﴿كَفَرُوا﴾؛ على [أنها] (٦) لام العاقبة (٧)؛ مثل قوله: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ (٨).
(١) انظر: المصدر السابق، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٤٨.
(٢) لم أقف على مصدر هذه الرواية.
(٣) في (ج): (لأولياء).
(٤) في (ج): (فاللام).
(٥) في (ب): (تتعلق).
(٦) ما بين المعقوفين زيادة أضفتها لتستقيم بها العبارة
(٧) وتُسمَّى لام الصيرورة، ولام المآل.
(٨) سورة القصص: ٨. وبقيتها: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾. وينسب القول بأن اللام -هنا- لام الصيرورة، للأخفش، وليس هو رأي أكثر النحويين. قال ابن هشام: (وأنكر البصريون ومن تابعهم، لامَ العاقبة. قال الزمخشري: والتحقيق أنها لام العلة، وأن التعليل فيها وارد على طريق المجاز، دون الحقيقة، وبيانه: أنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عَدُوًّا وحَزَنا، بل المحبةَ والتَّبنِّي، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته، شُبِّه بالداعي الذي يُفعَلُ الفعل لأجله. فاللام مستعارة لما يشبه التعليل، كما استعير الأسدُ لمن =
110
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ بالياء والتاء (١). فمن قرأ بالتاء؛ فلأن الآية خطاب، وهو قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا﴾. ومن قرأ [الياء] (٢)، فلِلْغَيْبَةِ التي قبلها؛ وهو قوله: ﴿وَقَالُوا لِإخوَانِهِم﴾، فحمل الكلام على الغَيْبَةِ.
١٥٧ - قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
اللام في ﴿لَئِنْ﴾ لام القَسَم؛ بتقدير: والله لَئِنْ قُتِلتُمْ في سبيل الله -أيها المؤمنونَ- ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾؛ يريد: في سبيل الله؛ كقوله: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾ [الأحزاب: ٣٥]؛ يعني: فُرُوجَهم. وقال الكَلْبِيُّ (٣): أوْ مُتُّمْ في إقامتكم، وأنتم مؤمنون.
وقرأ بعضهم: ﴿مِتُّمْ﴾ بكسر الميم (٤).
= يشبه الأسدَ). "مغني اللبيب" ٢٨٣.
وانظر: كتاب "معاني الحروف" للرماني ٥٦، و"الدر المصون" ٣/ ٤٥٤ - ٤٥٦، و"همع الهوامع" ٤/ ٢٠٠.
(١) قرأ ﴿يَعْمَلُونَ﴾ بالياء: ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف. وقرأ الباقون: نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب: ﴿تَعْمَلُونَ﴾ بالتاء.
انظر: "السبعة" ٢١٧، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٩١، و"المبسوط" لابن مهران ١٤٨، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ١٨١.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٣) لم أقف على مصدر قوله. وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٣١٠، و"زاد المسير" ١/ ٤٨٥.
(٤) هي قراءة: نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف. وقد كسروا الميم في: ﴿مِتَّ﴾، و ﴿مِتْنَا﴾، و ﴿مِتُّمْ﴾ في كل القرآن. وقد كسر عاصم -في رواية حفص- هذه الكلمات في كل القرآن، ما عدا ما ورد في سورة آل عمران ﴿مُتُّمْ﴾: الآية ١٥٧، ١٥٨ فقد رفعهما.
ورفع الميم فيها في كل القرآن: ابن كثير، وعاصم -في رواية أبي بكر-، وأبو =
111
قال أهل اللغة (١): الأشهر الأقْيَس: (مُتَّ، تَمُوتُ)، مثل: (قُلْتَ، تقول). والكسر شادٌّ (٢). ونظيره في الصحيح (٣): (فَضِلَ يَفْضُلُ) (٤).
هذا مذهب الخليل (٥).
وحكى المُبرِّد (٦): أنَّ (مَاتَ يَمَاتُ)، لغة، مثل: (هَابَ يَهَابُ)،
= عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب.
انظر: "الحجة"، للفارسي ٣/ ٩٢، و"المبسوط" لابن مهران ١٤٨، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ١٨١.
(١) نقله باختصار عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٩٣، وانظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ٣٤٣.
(٢) الشذوذ -هنا- هو الشذوذ في القياس، لا في الاستعمال. انظر: "الكشف" لمكي ١/ ٣٦٢، و"شرح الشافية" ١/ ١٣٥.
(٣) يعني بـ"الصحيح" الفعل الصحيح الذي سلمت حروفه الأصلية من حرف العلة.
(٤) (يفضل): ساقطة من (ج).
وفي (أ)، (ب): فصل، يفصل -بالصاد-. والمثبت من "الحجة" للفارسي، و"كتاب سيبويه"، و"كتاب العين"، للخليل ٧/ ٤٤ (فصل)، وهي التي وردت في كتب اللغة والتصريف، مِثالًا على الشذوذ عن القياس؛ لأن القياس في مضارع (فَعِلَ)، هو: (يَفعَل) -بفتح العين-.
ونقل ابنُ السكيت عن أبي عبيدة، أنه (ليس في الكلام حرفٌ من السالم يشبه هذا). "إصلاح المنطق" ٢١٢.
قال في "اللسان" (وفَضَلَ الشيءُ يَفْضُلُ، مثال: (دَخَلَ يدخُلُ). وفَضِلَ يَفضلُ، كـ (حَذِر يحذَرُ). وفيه لغة ثالثة مركبة منهما: فَضِلَ -بالكسر-، يَفضُل -بالضم-، وهو شاذ لا نظير له. قال ابن سيدهْ: هو نادر) ١١/ ٥٢٥ (فضل).
(٥) انظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ٣٤٣ - ٣٤٥، و"التكملة" للفارسي ٩٧٩، و"حجة القراءات" ١٧٨، و"الكشف" ١/ ٣٦٢، و"الدر المصون" ٣/ ٤٥٨ - ٤٥٩، و"شرح الشافية" ١/ ١٣٥ - ١٣٧.
ونسب الخليل (فضِل يفضُل) لأهل الحجاز. انظر: "العين" ٧/ ٤٤.
(٦) لم أقف على مصدر قوله. =
112
و (خافَ يَخَافُ)، وأنشد:
عِيشِي ولا يَوْمِي بِأنْ تَمَاتِي (١)
فإن ثَبَتَ هذا، فهو لُغَةٌ.
قالَ ابنُ عباس (٢): هذه الآية رَدٌّ على المنافقين؛ حيث اختاروا الدنيا على الآخرة، وتركوا الجهاد؛ مَحَبَّةً للدنيا. فقيل للمؤمنين: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ في الجهاد ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ ليغفرن لكم، وهو ﴿خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
وقوله تعالى: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ﴾.
﴿لَمَغْفِرَةٌ﴾ (٣): جواب القسم. وقد قام مقام جواب الجزاء.
وقوله تعالى: ﴿خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أي: من أعراض الدنيا، التي
= وقول المؤلف: (هذا مذهب الخليل، وحكى المبرد): ليس في "الحجة"، للفارسي. وما بعده إلى نهاية بيت الشعر، في "الحجة".
(١) شطر بيت من الرجز، لم أقف على قائله.
وقد ورد غير منسوب في: الجمهرة، لابن دريد ٣/ ١٣٠٨، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٩٣، و"الصحاح" ١/ ٢٦٧ (موت)، و"تفسير القرطبي" ١/ ٢٢٠، و"شرح الشافية" ١/ ١٣٧، و"اللسان" ٧/ ٤٢٩٥ (موت)، و"الدر المصون" ١/ ١٧٤، ٣/ ٤٥٨، و"شرح شواهد الشافية" ٥٧.
وتمام البيت:
بنيتي سيدة البنات... عيشي ولا يومي بأن تماتي
وقد ورد في بعض المصادر: (بُنيَّ يا سيدة..)، وورد: (ولا نأمن أن..)، و (لا يُؤمَنُ أن..). أما (يَوْمي) فقد وردت في (الجمهرة)، و"الحجة" فقط من المصادر السابقة. وورد: (بنيتي يا خِيرَة البنات). قال ابن دريد عن (مِتَّ تمات): (وأكثر ما يتكلم بها طيِّئ، وقد تكلم بها سائر العرب). "الجمهرة" ٣/ ١٣٠٨.
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
113
يتركون القتال (١) في سبيل الله؛ للاشتغال بجمعها.
وروي عن ابن عباس، أنه قال (٢): ﴿تَجمَعون﴾ (٣): خطاب المنافقين؛ لأنه قال: ﴿خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُون﴾ (٤) يا معشرَ المنافقين. ومثله، قال الكَلْبِيُّ (٥).
وقرأ حَفْص، عن عاصم: ﴿يَجمَعُونَ﴾ -بالياء-. ويكون المعنى: لَمَغْفِرةٌ مِن اللهِ ورَحْمَةٌ، خيرٌ مِمَّا يجمعُهُ غَيْرُكُم، مِمَّا تَرَكوا القِتَال لِجَمْعِهِ (٦).
١٥٨ - قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ﴾ قال المفسرون: يريد: مقيمين عن الجهاد. ﴿أَوْ قُتِلْتُمْ﴾؛ يريد: مجاهدين (٧).
﴿لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾؛ يعني: في الحالين. وهذا تهديد بالحشر، وتحذير من القيامة.
واللام في ﴿لَئِنْ﴾ خلف من القسم. والثانية (٨): جواب، على معنى: والله إن متم، أو قتلتم لتحشرون إلى الله.
(١) في (أ)، (ج): (للقتال). والمثبت من (ب). وهي الصواب انظر: "الحجة"، للفارسي ٣/ ٩٤، فقد وردت العبارة فيه.
(٢) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "زاد المسير" ١/ ٤٨٥.
(٣) قرأ ﴿تَجمَعُونَ﴾ -بالتاء- كلُّ القرَّاءِ، ما عدا عاصم في رواية حفص؛ حيث قرأها: ﴿يَجمَعُونَ﴾ بالياء. انظر: "الحجة" للفارسي ٣/ ٩٤، و"الكشف" ١/ ٣٦٢.
(٤) في (ج): (يجمعها).
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) انظر: "الحجة" للفارسي ٣/ ٩٣.
(٧) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٣١٠، و"زاد المسير" ١/ ٤٨٥.
(٨) أي (اللام) التي في قوله: ﴿لَإِلَى اللَّهِ﴾.
قال أبو عبيد: وتقول في الكلام: (لَئِن أحسنتَ إِليَّ؛ لأحْسِنَنَّ إليك) -بالنُّونِ-. فإذا حُلْت بينهما بالصفة (١)، قلت: (لَئِن أحسنتَ إليَّ، لإليكَ أُحْسِن) -بغير نُونِ-. كما في الآية-، لأن اللام قد تحولت إلى الصفة (٢).
١٥٩ - قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾.
أكثر النحويِّينَ على أنَّ (ما) -ههنا- صِلَةٌ (٣)، لا تمنع الباءَ مِن عَمَلِها فيما عملت فيه، وهي مع كونها صلةً، تُحْدِثُ معنى التأكيد (٤) وحُسْن النَّظْم. وهي كثيرةٌ في القرآن؛ كقوله: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ [المؤمنون: ٤٠]، و ﴿جُندٌ مَّا﴾ [ص: ١١]، ﴿فبَمَا نَقضِهِم﴾ [النساء: ١٥٥]، ﴿مِمَّا خَطَايَاهُمْ﴾ (٥) [نوح: ٢٥].
(١) (بالصفة): ساقطة من (ج). ويعني بـ (الصفة): حرف الجَرِّ.
(٢) انظر: "الأصول في النحو" ٢/ ١٦٦، و"البسيط في شرح جمل الزجاجي" ٢/ ٩١٩.
(٣) (صلة)؛ بمعنى زيادة.
(٤) في (ب): (التوكيد).
(٥) المؤلف -هنا- أوردها على قراءة أبي عمرو: ﴿خَطَايَاهُم﴾. وقرأ الباقون: ﴿خَطِيئَاتِهِمْ﴾. انظر: "الكشف" لمكي ٢/ ٣٣٧، و"إتحاف فضلاء البشر" (٤٢٥). وممن ذهب إلى كون (ما) -هنا- (صِلَة):
الفراء في: "معاني القرآن" ١١٤، والمبرد في "الكامل" ١/ ٣٤٢، والطبري في "تفسيره" ٤/ ١٥٠، وكراع النمل في "المنتخب" ٢/ ٦٨٧، والزجاج في "معاني القرآن" ١/ ٤٨٢، وابن شقير في "المحلى ووجوه النصب" ٢٩٠، وابن جني في "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٦١، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٣٦ أ، والسفاريني في "لباب الإعراب" ٤٦٣.
قال الزجاج في "معاني القرآن" ١/ ٤٨٢: "ما" بإجماع النحويين -هنا- صِلَةٌ، لا تمنع الباء من عملها فيما عملت.
115
[وتكثر] (١) -أيضًا- في الشعر؛ قال امرؤ القيس:
وقاهم جَدُّهُمْ بِبَني أبِيهم وبالأشْقَيْنَ ما كانَ العِقَابُ (٢)
أراد: (وبالأشْقَيْنَ (٣) كان العِقَابُ) (٤).
وقال النابغة:
المرءُ يَهْوَى أنْ يَعِيـ ـشَ وطُولُ عَيْشٍ ما يَضُرُّهْ (٥)
(١) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٢) البيت في "ديوانه" ٤٥. وورد منسوبًا له في "الأصمعيات" ١٣١، و"الشعر والشعراء" ٥٤، وكتاب "المعاني الكبير" ٢/ ٨٨٦، و"فصل المقال" للبكري ٣٨٥. البيت من قصيدة قالها الشاعر حين غزا بني أسد فأخطأهم، وأصاب بني كنانة بدلًا منهم، وهو لا يدري. و (الجَدُّ) -هنا-: الحظ والبخت.
أي: أن بني أسد وقاهم حظهم من سطوته، بقتل بني عمهم -بني كنانة- لأن أسد وكنانة أخوان.
والشاهد في البيت زيادة (ما) في قوله: (وبالأشقين ما كان العقاب). ويجوز كون (ما) مع الفعل بتأويل المصدر؛ أي: وبالأشقَيْن كون العقاب.
(٣) في (ج): (بالأشقين). بدون واو.
(٤) (العقاب): ساقطة من (ج).
(٥) البيت نسب للنابغة الذبياني، وقد ورد في ديوانه ١٢٢. ونسبته له المصادر التالية: "الشعر والشعراء" ٨٥، و"جمهرة أشعار العرب" (٦٣)، و"الأضداد" لابن الأنباري ١٩٦. ونسب للنابغة الجعدي، وقد ورد منسوبًا له في "ديوانه" ١٩١.
ونسبته إليه المصادر التالية: "الأمالي" للقالي ٢/ ٨، و"الأمالي" للمرتضى ١/ ٢٦٦، و"الأشباه والنظائر في النحو" للسيوطي ٥/ ١٦٣، و"خزانة الأدب" ٣/ ١٧٢.
وقد ورد في الشعر المنسوب لِلَبِيد. انظر "ديوانه" ٣٥٦.
وأورده ابن الشجري في "أماليه" ٢/ ٣٦٥، ونسبه لبعض المُعمِّرِين.
وورد في: "المدخل" للحدادي ١٤٦، و"زاد المسير" ١/ ٤٨٥ ونسباه للنابغة ولم يحددا مَن مِنهما. =
116
أراد: (وطول عيش يَضُرُّهْ). فأكد الكلام بـ (ما).
والعرب قد تزيد في الكلام ما يُسْتغنى عنه؛ للتأكيد؛ كقوله: (أنت فعلت كذا وكذا؛ يا هذا!) فأدخلوا (يا هذا)؛ للتأكيد؛ إذ كانت (أنت) دالاًّ على الخطاب. وكذلك قولهم: (لَمَّا أنْ زارني عبد الله، زُرْتُه). معناه: لَمَّا زارني (١).
قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ﴾ [يوسف: ٩٦]، أراد: فلَمَّا جاء. فأكّد بـ (أنْ) (٢). وكذلك قولهم:
يا تَيْمَ تَيْمَ عَدِيٍّ (٣)
= وورد غير منسوب في: "أمالي الزجاجي" ١١١، و"النكت والعيون" ٢/ ٩١١. وورد البيت بروايات عدة منها: (المرء يرغب في الحياة)، و (المرء يأمل أن يعيش). و (المرء يهوى ما يعيش). وورد: (وطول عيش..)، و (وطول عمر..). وورد: (قد يضره) بدلًا من: (ما يضره) وليس فيها موضع الشاهد.
ويجوز أن تكون (ما) في البيت بمعنى (الذي)، والتأويل: وطول عيش الذي يضره. انظر: "الأضداد"، لابن الأنباري ١٩٦.
(١) انظر: "مغني اللبيب" ٥٠.
(٢) في (ج): (أن). بدلًا من: بأن.
(٣) في (أ)، (ب): (يتم يتم)، والمثبت من (ج)، ومصادر الشاهد. وهذا جزء من بيت شعر لجرير، وهو في "ديوانه" ٢١٩، وتمامه:
يا تيمَ تيمَ عَدِيٍّ لا أبا لكُمُ لا يُوقِعَنَّكمُ في سَوْأةٍ عُمَرُ
وقد ورد منسوبًا له في: "كتاب سيبويه" ١/ ٥٣، ٢/ ٢٠٥، و"الكامل" ٣/ ٢١٧، و"المقتضب" ٤/ ٢٢٩، و"اللامات" ١٠١، و"الخصائص" ١/ ٣٤٥، و"العمدة" ٢/ ٨٤١، و"شرح المفصل" ٢/ ١٠، ١٠٥، و"اللسان" ١/ ١٨ (أبي)، و"المقاصد النحوية" ٤/ ٢٤٠، و"شرح شواهد المغني" ٢/ ٨٥٥، و"خزانة الأدب" ٢/ ٢٩٨، ٣٠١، ٤/ ٩٩، ١٠٧، ٨/ ٣١٧، ١٠/ ١٩١.
117
أكد الكلام بـ (تَيْم) (١) الثاني. هذا قول أكثر أهل التأويل.
وقال بعضهم (٢): يجوز أن تكون (ما) استفهامًا للتعجب (٣)، تقديره: (فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لهم؟!)؛ أي: سَهُلَتْ لهم أخلاقُكَ، وكثر
= وورد غير منسوب في: "الأصول في النحو" ١/ ٣٤٣، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٣٠٧، و"شرح ابن عقيل" ٣/ ١٧، و"ارتشاف الضرب" ٣/ ٣١٥، و"منهج السالك". ٣/ ١٥٣، و"همع الهوامع" ٥/ ١٩٦، ٢/ ١٢٢، و"الدرر اللوامع" ٢/ ١٥٤.
وورد في أكثر المصادر: (لا يُلْقِيَنَّكُمُ في سوأة..).
والبيت من قصيدة قالها الشاعر في هجاء عمر بن لَجَأ التَيْمِي. ويعني بـ (تيم): تيم بن عبد مناة بن أدّ. و (عدي) أخو (تيم). وأضاف (تيم) إلى (عدي) تخصيصًا، وتمييزًا لهم عن بطون عدة كلها تُدْعَى تَيْمًا. وقوله: (لا أبا لكم)، أصلها: أن يُنسب المخاطبُ إلى غير أب معلوم؛ شتمًا له، ثم كثرت في الاستعمال حتى جُعلت في كل خطاب يغلظ فيه على المخاطب. و (السوأة): الفعلة القبيحة.
يريد الشاعر تحذير بني تيم، وهي قبيلة عمر بن لجأ، بأن يمنعوا عمر من التعرض للشاعر بهجاء؛ وإلّا فإن الشاعر سيتعرض لِتَيْم في شعره، ويلقيهم في بلِيَّة، هم في غنى عنها.
ويجوز في (تيم) الأولى الضمُّ، على أنه منادى مفرد عَلَم، ويحوز النصبُ على تقدير إضافته إلى ما بعد (تيم) الثانية، أو بتقدير إضافته إلى محذوف وهو: (عدي). (وتيم) الثاني لا يجوز فيه إلا النصب على أنه منادى مضاف، أو مفعول بإضمار (أعني)، أو عطف بيان، أو توكيد، أو بدل. انظر: "ارتشاف الضرب" ٣/ ١٣٥. والشاهد فيه: تكرير (تيم) للتأكيد.
(١) في (أ)، (ب): يتم. والمثبت من (ج).
(٢) لم أقف على القائل. وممن أورد هذا القول ممن سبق المؤلف: الثعلبيُّ في "تفسيره" ٣/ ١٣٦ أ، قائلاً: (وقال بعضهم:..) ولم يعين.
(٣) ورد في: (ج) في هذا الموضع كلمة زائدة، لا وجه لها، وهي: (قوله).
118
احتمالك (١).
وقوله تعالى: ﴿لِنْتَ لَهُمْ﴾ (لانَ، يَلِينُ، لِينًا) (٢)، و (لَيَانًا) -بالفتح: إذا رَقَّ، وحَسُنَ [خُلُقُهُ] (٣)، وانْقادَ (٤).
قال الشاعر:
وإنْ هي أعطتك اللَّيانَ كأنها لِغَيرك مِن خُلّانِها سَتَلِينُ (٥)
(١) وقد جوز هذا الرأي الفخر الرازي في "تفسيره" ٩/ ٦٤ قائلًا: (وقال المحققون: دخول اللفظ المهمل الضائع في كلام أحكم الحاكمين، غير جائز)، ثم ذكر هذا الرأي واستصوبه.
والذي دفع لهذا الرأي هو تنزيه كتاب الله من أن يكون فيه حرف زائد مهمل، لا معنى له. وهذا فيه نظر؛ لأن القائلين بزيادة (ما) ويغرها من الحروف، لا يقصدون جواز سقوطها، وأنها مهملة لا معنى لها، بل يقولون: إنها مَزيدة لمعنًى مقصود، وهو -هنا- في (ما): التوكيد؛ أسوة بسائر ألفاظ التوكيد الواردة في القرآن. وكون (ما) للاستفهام التعجبي، قد رَدَّه علماءُ النحو، من ناحية الصناعة النحوية، ومنهم: ابن هشام في "المغني" ٣٩٤، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٣/ ٩٨، والسمين الحلبي في "الدر المصون" ٣/ ٣٦٢.
(٢) ضُبطت: (لَيْنًا) بفتح اللام، في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣١٤ (لين)، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٦ أ، وضبطت في بقية المصادر اللغوية التالية: (لينا) بكسر اللام.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٤) ورد في مصادر اللغة: اللِّين: ضد الخشونة، قال الراغب: (ويستعمل ذلك في الأجسام، ثم يستعار للخُلُق وغيره من المعاني). "مفردات ألفاظ القرآن" ٧٥٢ (لين). أما (اللِّيان) بكسر اللام فمصدر الملاينة، يقال: (لايَنْته مُلايَنْة)، و (لِيَانا). انظر (لين) في: "جمهرة اللغة" ٢/ ٩٨٩، و"الصحاح" ٦/ ٢١٩٨، و"المقاييس" ٥/ ٢٢٥، و"اللسان" ٧/ ٤١١٧، و"القاموس" (١٢٣٢).
(٥) البيت، لكُثَيِّر عَزَّة وقد ورد منسوبًا له في: "زهر الآداب" ١/ ١٧. وليس في ديوانه، وأورده محقق ديوانه وجعله مما نُسِب له، وأحال على المصدر السابقة =
119
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا﴾ الفظُّ (١): الغليظ الجانب، السَّيّءُ الخُلُق (٢). يقال: (فَظِظْتَ، تَفَظُّ، فَظَاظَةً، وَفِظَاظًا)، فأنت فَظٌّ (٣)، وأصله. (فَظِظٌ)؛ كقولك: (حَذِرٌ) (٤)؛ من: (حَذِرْتَ) (٥)، و (فَرِقٌ) (٦)؛ مِن: (فَرِقْتَ). إلّا أنَّ ما كان مِن المضاعف على هذا الوزن، يُدْغَم؛ نحو: (رَجُلٌ صَبٌّ) (٧). وأصله: صَبِبٌ) (٨).
= انظر "ديوانه" ١٧٦.
ورواية البيت في المصدر السابق:
وإن هي أعطتك الليان فإنها لآخر من خلانها ستلين
(١) من قوله: (الفظ..) إلى (.. وأصله صبب): نقله -بتصرف- عن "معاني القرآن"، للزجاج: ١/ ٤٨٣.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٠٦ (فظظ)، و"الفرق بين الحروف الخمسة" ١٥٥، و"زينة الفضلاء" للأنباري ٩٨.
(٣) انظر: "اللسان" ٦/ ٣٤٣٧ (فظظ). قال الراغب: (الفظُّ: الكريه الخُلُق؛ مستعار من: (الفظِّ)؛ أي: ماء الكرش، وذلك مكروه شربه، لا يتناول إلا في أشدّ ضرورة). "مفردات ألفاظ القرآن" ٦٤٠ (فظظ).
(٤) في (أ): (حَذِرَ) بفتح الراء، وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل، والصواب ما أثبت.
(٥) في (أ): (حَذَرت) بفتح الذال، وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل، والصواب ما أثبت، وهي بكسر الذال. انظر: (حذر) في: "التهذيب" ١/ ٧٦٧، و"القاموس" ٣٧٣.
(٦) في (أ): (فَرِق) بفتح القاف. وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والصواب ما أثبت. يقال: (رجلٌ فَرقٌ): شديد الفزع. انظر: "القاموس" ٩١٧ (فرق).
(٧) في (أ): (صبِّ)، وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والصواب ما أثبت. يقال: (رجلٌ صبُّ): بيِّنُ الصَّبَابَة. والصبابة: رِقّة الشَّوْق. انظر: "جمهرة اللغة" ١/ ٧١ (صب)، و"المخصص" ٤/ ٦١.
(٨) في (أ): (صبَبٌ) بفتح الباء الأولى، وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل، =
120
قال الكلبي (١): ولو كنت فظًّا في القول، غليظ القَلْبِ في الفعل (٢). ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ أي: لَتَفَرَّقوا وَنَفَرُوا منك؛ كما تتطاير شظايا الشيء المتكَسِّر.
والفَضُّ: الكسر والتفريق (٣). يقال: (فَضضْتَ القومَ، فانْفَضُّوا). ومنه يقال: (لا يَفْضُضِ اللهُ فاكَ) (٤).
قال الزّجاج (٥): المعنى: إنَّ لِينَكَ لهم، يُوجِبُ (٦) دخولهم في الإسلام (٧)؛ لأنك تأتيهم بالحُجَجِ والبراهين، مع لِينٍ وخُلُقٍ عظيم.
= والصواب ما أثبت.
قال سيبويه عن (صَبِّ): (زعم الخليل أنها (فَعِلٌ)؛ لأنك تقول: (صَبِبْتُ صبابة)، كما تقول: (قَنِعْتُ قَناعةً)، و"قَنِعٌ". "كتاب سيبويه" ٤/ ٤١٩. وانظر: "المخصص" ٤/ ٦١.
(١) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٦ ب.
(٢) قال السمين الحلبي: (وعن الغِلْظَةِ تنشأ الفظاظة، فلم قُدِّمت؟ فقيل: قدِّم ما هو ظاهر للحسِّ، على ما هو خافٍ في القلب؛ لأنه كما تقدم أن الفظاظة: الجفوة في العشرة قولًا وفعلًا. والغِلْظُ: قساوة القلب، وهذا أحسن من قَوْلِ من جعلهما بمعنًى، وجمع بينهما). "الدر المصون" ٣/ ٤٦٣.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٩٩ (فض)، و"الفرق بين الحروف الخمسة" ١٥٦، و"زينة الفضلاء" ٩٨.
(٤) معناه لا يكسر الله أسنانك، ويفرِّقها. والفم يقوم مقام الأسنان. وقد يقال: (لا يُفْضِ الله فاك)، ومعناه حينها: لا يجعل الله فاك فضاءً، لا أسنان فيه.
انظر: "الزاهر" ١/ ٢٧٤ - ٢٧٧، و"تهذيب اللغة" (فض) ٣/ ٢٧٩٩، و"الفائق" ٣/ ١٢٣، و"النهاية في غريب الحديث" ٣/ ٤٥٣.
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٢. نقله عنه بنصه.
(٦) في "المعاني" مما يوجب.
(٧) في "المعاني" في الدين.
121
وقوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾. أي: ما فعلوا يومَ أُحُد حتى أشفعك فيهم. وقال الكلبي: فاعف عنهم أي الشيء يكون منهم و ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾. مِنْ ذلك الذَنْب.
وقوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ يقال: (شَاوَرَ مُشَاوَرَةً)، و (شِوارا) (١)، و (مَشُورَةً) (٢)، و (مَشْوَرَةً) (٣). و (القوم شُورى). وهي مصدرٌ، سُمِّي القومُ بها، كقوله: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ (٤) [الإسراء: ٤٧].
وقد ذَكَرْنا أمْرَ هذه الكلمة وما فيها، عند قوله: ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾ [البقرة: ٢٣٣].
قال أصحاب المعاني (٥): هذه عامَّةٌ في اللفظ، خاصَّةٌ في المعنى؛ لأن المعنى: وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله (٦) أَمْرٌ وَوَحْيٌ (٧) وعَهْد. يدل عليه: قراءةُ ابن عباس: (وشاورهم في بعض الأمر) (٨).
(١) في (ج): (سوارا).
(٢) قال في (لسان العرب): (والمَشُورَة بضم السين (مَفْعَلة) ولا تكون (مفعولة)؛ لأنها مصدر، والمصادر لا تجيء على مثال (مفعولة)، وإن جاءت على مثال (مفعول)، وكذلك المَشْوَرَة) ٤/ ٢٣٥٨ (شور).
(٣) (ومَشْوَرة): ساقطة من (ج). انظر (شور) في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٠٣، و"اللسان" ٤/ ٢٣٥٨.
(٤) في (ج): (فإذا).
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٨٣. ومن قوله: (قال أصحاب المعاني..) إلى نهاية تفسير هذا المقطع: موجود في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٧أ. نقله عنه بالمعنى.
(٦) في (ب): (من الله فيه) بدلًا من (فيه من الله).
(٧) في (ج): (ورحى).
(٨) أخرج هذه القراءة عنه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (٢٥٧)؛ وابن أبي =
122
وقال الكلبي (١): إنما أُمِرَ بالمُشَاوَرَةِ معهم في لِقَاءِ العدُوِّ، والحربِ ومكايِدِها (٢). فالأمر -عنده- بالمشاورة، خاصٌّ في الحرب.
وروى عَمرو بن دينار، عن ابن عباس، أنه قال (٣): الذي أُمِرَ النبيُّ - ﷺ -، بمشاورته في هذه الآية: أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما-.
وقال قتادة (٤)، والربيع (٥)، ومقاتل (٦): إنما أُمِرَ بالمشاورة مع استغنائه بوحي الله وجَزَالَةِ رأيه؛ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِ القوم، ورَفْعًا (٧) مِن أقدارهم؛ إذْ كانت العربُ إذا لم يُشَاوروا في الأمر، شَقَّ عليهم.
= حاتم في "تفسيره" ٣/ ٨٠٢، وذكرها ابن جني في "المحتسب" ١/ ١٧٥، وأبو الليث في "بحر العلوم" ١/ ٣١١، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٣٧أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٤٨٩، ونسبها -كذلك- إلى ابن مسعود، وذكرها السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ١٦٠ وقال: (بسند حسن)، وزاد نسبة إخراجها إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر.
(١) قوله في: "تفسير الثعلبي" / ١٣٧ أ.
(٢) من قوله: (ومكايدها..) إلى (.. خاص في العرب): ساقط من (ج).
(٣) أخرج قوله: الحاكم في "المستدرك" ٣/ ٧٠ كتاب معرفة الصحابة. وقال: (صحيح على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" ١٠/ ١٠٩ كتاب أدب القاضي. باب: (مشاورة الوالي..)، والنحاس في "معاني القرآن" ١/ ٥٠٢.
(٤) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٥٢، و"ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٠٢، و"الثعلبي" ٣/ ١٣٧أ، وأورده السيوطى في "الدر" ٢/ ١٥٩وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر.
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٥٢، والمصادر السابقة.
(٦) قوله في: "تفسيره" ١/ ٣١٠، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٣٧ أ.
(٧) في (ب): (ورخصا).
123
قال الشافعي ((١): وهذا كقوله - ﷺ -: "والبِكْرُ تُسْتَأمَر" (٢)، ولو أكرهها (٣) الأبُ على النِّكاح، جَازَ، لكنَّها تُسْتَأمر؛ تطييبا لِنَفْسِها.
وقال الحَسَنُ (٤)، وسُفْيانُ بن عُيَيْنَة (٥): إنما ذلك؛ لِيَقْتَدِيَ به غيرُهُ في المُشَاوَرَةِ، ويَصِير سُنَّة.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾؛ أي: على ما تريد إمضاءَهُ (٦).
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾، لا على المشاورة. ومعنى التَّوَكُّلِ: تفويضُ الأَمْرِ إلى الله؛ لِلثِّقَةِ بِحُسْنِ تدبيره.
(١) قوله معناه في كتاب "الأم" ٥/ ١٩.
(٢) الحديث: أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (١٤٢١) كتاب النكاح. باب: (استئذان الثيب في النكاح). ونصه عنده:
(الثَّيِّبُ أحق بنفسها من وليها، والبكر تُستَأمَر، وإذنها سكوتها). وورد عنده بلفظ: "الأيِّم أحق.. والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صُمَاتُها).
وأخرجه الشافعي بلفظ (تستأمر) في "الأم" ٧/ ١٦٥، وبلفظ (تستأذن) في "الأم" ٢/ ١٩، وأخرجه أحمد في "المسند" ١/ ٢١٩، وانظر: "الدراية" لابن حجر ٢/ ٥٩، ٦١، ٦٢.
(٣) في (ب): أكرمها.
(٤) قوله في: كتاب "الأم" للشافعي ٧/ ١٠٠، و"أحكام القرآن" له ٢/ ١١٩، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٦٣٢، و"معاني القرآن" للنحاس ٥٠٢، و"سنن البيهقي" ١٠/ ١٠٩، كتاب "آداب القاضي"، و"زاد المسير" ١/ ٤٨٨. وأورده السيوطي في: "الدر" ٢/ ١٥٩ وزاد نسبة إخراجه إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر.
(٥) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٥٣، و"زاد المسير" ١/ ٤٨٨.
(٦) في (أ)، (ب)، (ج): إمضاؤه. وما أثبت هو الصواب.
124
١٦٠ - قوله تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ الآية.
معنى (الخِذْلان): القعود عن النُّصرَةِ وقت الحاجة إليها، والإسلامُ للهَلَكَةِ.
يقال: (خَذَلَ، يَخْذُلُ، خِذْلانًا، وخَذْلًا). ويقال للبقرة والظَّبْيَة، إذا تخلفت مع ولدها في المرعى، وتركت صواحباتها: (خَذُول) (١).
قال (٢) طَرَفَة:
خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ تَنَاوَلُ أطرافَ البَرِيرِ وترتدي (٣)
(١) وتُسمَّى كذلك: خاذِل.
انظر هذه المعاني لـ (خذل) في: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" لليزيدي ١٢١، و"التهذيب" ١/ ٩٩٨، و"معاني القرآن"، للنحاس ١/ ٥٠٣، و"المقاييس" ٢/ ١٦٥، و"الكليات" لأبي البقاء ٣١٠، و"اللسان" ٢/ ١١١٨.
(٢) في (ج): (وقال).
(٣) البيت من معلقته، وهو في: "ديوانه" ٢١، و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ١٤١، و"جمهرة أشعار العرب" ص ١٤٩، و"تهذيب اللغة" ١/ ٩٩٩ (خذل)، و"المقاييس" ٢/ ١٦٥، و"شرح المعلقات السبع" للزوزني ٤٧، و"شرح القصائد العشر" للتبريزي ٥٨، و"اللسان" ٢/ ١١١٨ ولم ينسبه.
قوله: (تراعي ربربا)؛ أي: ترعى مع (الرَّبْرَب)، وهو: قطيع الظباء وبقر الوحش، وقيل: أولاد البقرة.
و (الخميلة): الأرض السهلة اللينة، التي فيها شجر. والجمع: (خَمائل).
و (البَرِير): ثمر الإراك البالغ، ومفردها: (بَرِيرة).
وخَصَّ الخذول -هنا-؛ لأنها فَزِعةٌ بانفرادها، وَلِهَةٌ على وليدها، فهي تمد عنقها مرتاعة، فيظهر -حينها- جمالها، وحسنها، ولو كانت في قطيعها، لم يَبِنْ حسنُها، ثم وصفها بأنها ترعى أطراف شجر الأراك، وتمد عنقها، وتتطاول؛ لتنال ما علا من أغصان الشجر، فتتهَدَّل عليها الأغصان حتى تصبح كأنها رداءٌ لها.
انظر: "شرح القصائد" لابن الأنباري ١٤١ - ١٤٢، والتبريزي ٥٨ - ٥٩.
125
وقال ذو الرُّمَّةِ (١):
دَعَتْ مَيَّةَ الأعدادُ واستَبدَلت بها خَنَاطِيلَ آجَالٍ (٢) مِنَ العِينِ (٣) خُذَّلِ (٤)
أي: متخلفات من الأولاد.
والخَنَاطِيل (٥): جماعاتٌ في تَفْرِقَةٍ، لا واحد لها مِنْ لَفْظِها. وقيل: واحدها (خُنْطُول) (٦).
(١) هو: أبو الحارث، غَيْلان بن عُقْبَة بن بُهَيْش. شاعر إسلامي، في الطبقة الثانية من فحول شعراء الإسلام، مات سنة (١١٧هـ).
انظر: "الشعر والشعراء" ص ٣٥٠، و"طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٥٤٩، و"وفيات الأعيان" ٤/ ١١.
(٢) في (أ)، (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والمثبت من مصادر البيت.
(٣) في (أ): (العَيْن). في (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والمثبت من مصادر البيت.
(٤) البيت في: ديوانه: ١٤٥٥.
وورد منسوبًا له في: "الصحاح" ٤/ ١٦٨٦ (خطل)، و"اللسان" ٥/ ٢٨٣٥ (عدد)، و"التاج" ١٤/ ٢١٥ (خنطل).
(الأعداد): جمع (عِدٍّ)، وهو الماء الدائم الذي لا ينقطع. و (الخناطيل): القطعان من الإبل والبقر، وهي -هنا في البيت- بقر الوحش. و (آجال): جمع: (إجْل) -بكسر الهمزة، وتسكين الجيم- وهو: القطيع من بقر الوحش والظباء. و (العِين): بقر الوحش. والثور منها: (أَعْيَن)، والبقرة: (عَيْناء). و (خُذل): أي: أقامت على ولدها، وتركت صواحبها.
الشاعر -هنا- يذكر امرأة تسمى (ميّة)، وهي التي كان يشبب بها ويعشقها، يقول: تركت منازلَها وظعنت عنها، بعدما نضبت الغدرانُ في القيظ، وحضرت ماءً عِدًّا؛ واستبدلت الدارُ بها بقرَ الوحش، التي خالفتها إلى منازلها وأقامت فيها.
انظر: "اللسان" ٥/ ٢٨٣٥ (عدد)، ٣/ ١٢٧٨ (خنطل)، ١/ ٣٢ - ٣٣ (أجل)، و"القاموس" ص ١٢١٨ (عين).
(٥) في (أ)، (ب)، (ج): والخناظيل -بالظاء-. والمثبت من: مصادر اللغة.
(٦) في (أ)، (ب)، (ج): (خنظول) بالظاء. =
126
قال محمد بن إسحاق بن يَسَار -في هذه الآية- (١): أي: إنْ يَنْصُرْكَ (٢) اللهُ؛ فَلاَ غالبَ لك مِنَ النَّاس، ولن يَضُرَّكَ خِذْلانُ مَنْ خَذَلَكَ، وإنْ يَخْذلْكَ؛ فَلَنْ يَنْصُرَكَ الناسُ؛ أي: لا تترك أمري للناس، وارفض الناسَ (٣) لأمري.
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾.
(مَنْ) -ههنا-: تقريرٌ لِلنَّفْي؛ أي: لا يَنْصُرُكُمْ أحدٌ (٤) مِنْ بَعْدِهِ. وإنما تضمن حرفُ الاستفهام معنى النفي؛ لأن جوابَهُ يجب أن يكون بالنفي، فصار ذِكْرُهُ يغني عن ذِكْرِ جوابه، وكان أبلغ لتقرير المخاطَبِ فيه، بما لا يتهيأ له إنكاره.
١٦١ - قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ الآية.
اختلفوا في سبب نزول هذه الآية:
فرَوَى عكرمةُ، ومِقْسَم (٥)، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنَّ الآية
= الوارد في كتب اللغة التي رجعت إليها، أن واحد الخناطيل: (خِنْطيلة)، و (خُنْطُولة). أما (الخنطول)، فهو يطلق على: القرن الطويل.
انظر: "التهذيب" ١/ ١١١٣ (خنطل)، و"الصحاح" ٤/ ١٦٨٦ (خطل)، و"اللسان" ٣/ ١٢٧٨ (خنطل)، و"التاج": ١٤/ ٢١٥ (خنطل).
(١) قوله، في:"سيرة ابن هشام" ٣/ ٧٠، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٥٤، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٠٣.
(٢) في (ج): (ينصركم).
(٣) في "سيرة ابن هشام": (وارفض أمر الناس..).
(٤) (أحد): مطموسة في: (ب).
(٥) هو: أبو القاسم، مِقْسم بن بُجْرة، ويقال: نَجْدة الكِنْدي، ثم التُّجيبي النخعي. يقال له: مولى ابن عباس، من مشاهير التابعين، أسلم في حياة النبي - ﷺ -، وبايع =
127
نزلت في قَطِيفَةٍ (١) حمراءَ، فُقِدَت يوم بَدْر، قال بعض الناس: لَعَلَّ النبي - ﷺ - أخذها (٢).
وقال -في رواية الضحّاك- (٣): إن رسول الله - ﷺ -، لَمَّا وَقَعَ في يده غنائمُ هَوَازِنَ يوم حُنَيْنٍ، غَلَّهُ رجلٌ بِمِخْيَط، فأنزل الله هذه الآية.
وقال قتادة -في نزول هذه الآية- (٤): نزلت وقد غَلَّ طوائفُ مِن أصحابه. ورُوي عن ابن عباس -من طريقٍ آخرَ-: أنَّ أشراف الناس
= معاذًا في اليمن، ويقال: إن له صُحبة، صَدوق وكان يُرْسل، مات سنة (١٠١هـ). انظر: "ميزان الاعتدال" ٥/ ٣٠١، و"الإصابة" ٣/ ٤٥٥، و"تقريب التهذيب" ٥٤٥ (٦٨٧٣).
(١) القطيفة: دِثَارٌ أو كِسَاءٌ مُخَمَّلٌ؛ أي: له أهداب. وجمعها: قطائف، وقُطُف. انظر (قطف) في: "القاموس" ٨٤٥، و"المعجم الوسيط" ٢/ ٧٥٣.
(٢) الأثر عن ابن عباس -من رواية مقسم-، أخرجه: أبو داود (٣٩٧١) كتاب الحروف والقراءات، والترمذي (٣٠٠٩) كتاب التفسير. باب: (٤) من سورة آل عمران. وقال: (حديث حسن غريب)، والطبري في "تفسيره" ٧/ ٣٤٨، ٣٤٩، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٣٦١ وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد. ومن رواية عكرمة، أخرجه: الطبري في "تفسيره" ٤/ ١٥٥، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٨٠٣، والطبراني في "المعجم الكبير" ١١/ ٣٦٤ رقم (١٢٠٢٨، ١٢٠٢٩)، والواحدي في "أسباب النزول" (١٣٠). ومن رواية سعيد بن جبير، أخرجه الطبري في "تفسيره" ٤/ ١٥٥.
(٣) من رواية جويبر عن الضحاك، عن ابن عباس، أوردها الثعلبي ٣/ ١٤٠ ب، وابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٤٩٠.
(٤) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٥٧، و"زاد المسير" ١/ ٤٩٠. وهذا القول من قتادة تفسير للآية على القراءة الثانية ﴿يَغُلَّ﴾.
128
استدعوا رسول الله - ﷺ -، [وطلبوا] (١) تخصيصهم (٢) بشيءٍ مِنَ المغانم؛ فنزلت هذه الآيةُ (٣)
وقال الكلبي (٤)، ومقاتل (٥): نزلت حين ترك الرُّمَاةُ المَرْكَزَ يومَ أحُد؛ طلبا للغنيمة، وقالوا: نخشى أنْ يقول النبي - ﷺ -: مَن (٦) أخَذَ شيئًا فهو له، وأنْ لا يقسِم الغنائمَ، كما لم يَقْسِمْ (٧) يومَ بَدْر. فقال النبي - ﷺ -: ظننتم أنَّا نَغُلُّ، ولا نَقْسِم لكم. فأنزل الله هذه الآية.
وفي قوله ﴿يَغُلَّ﴾ قراءتان: أحدهما: فتح الياء، وضم الغَيْن (٨)؛ ومعناه: ما كان لِنَبِيٍّ أن يَخُونَ. مِنَ (الغُلُول)، وهو: الخِيَانَةِ. يُقال: (غَلَّ، يَغُلُّ، غُلُولًا): إذا خَانَ، وأصلُهُ: أخْذُ الشيء في خُفْيَةٍ (٩).
(١) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.
(٢) ويجوز أن تكون: لتخصيصهم. بدلًا من الكلمة التي أضفتها قبلها.
(٣) لم أقف على مصدر هذه الرواية، وقد ذكرها ابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٤٩٠.
(٤) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤٠ ب.
(٥) قوله في "تفسيره" ١/ ٣١٠، والمصدر السابق. وبه قال الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٢٤٦.
(٦) من قوله: (من..) إلى (فقال النبي - ﷺ -): ساقط من (ج).
(٧) في (أ): (يُقْسَم). وفي: (ب)، (ج): مهملة من الشكل. وأثبَتُّ ضبطَها من "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤٠ ب؛ نظرًا لتقارب سياق المؤلف لهذا القول، مع سياق الثعلبي، وهي الأليق بسياق الكلام.
(٨) القراءة بفتح الياء، وضم الغَين: ﴿يَغُلَّ﴾، قرأ بها: ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم. وقرأ الباقون: ﴿يَغُلَّ﴾ -بضم الياء، وفتح الغين-. انظر: "الحجة" للفارسي ٣/ ٩٤، و"النشر" ٢/ ٢٤٣، و"إتحاف فضلاء البشر" ١٨١.
(٩) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٨٩.
129
قال الزّجاج (١): وما (٢) كان مِنْ هذا الباب، فهو راجعٌ إلى هذا، مِنْ ذلك: (الغَالُّ): وهو الوادي الذي (٣) يُنْبِتُ الشجرَ، في مُطْمَئِن مِنَ الأرض (٤)، وجمعه: (غُلّان)، ومن ذلك: (الغِلّ): الحقد في الصدر؛ لأنه كامن (٥)، و (الغِلاَلَة): الثوب الذي يلبس تحت الثياب (٦). و (الغَلَلُ) (٧): الماء الذي يجري في أصول الشجر؛ لأنه مستَتِرٌ بالأشجار.
فمعنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾، أي: أن يَخُونَ فيكم (٨)
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٤، وقد نقله عنه بتصرف، واختصار. وقد ورد نص قول الزجاج في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٨٩، مع اختلاف يسير عما في "معاني القرآن"، ووافق نقل المؤلف -هنا- عن الزجاج، بعضًا مما في نسخة "المعاني" المطبوعة، ووافق بعضًا مما في "التهذيب"، وليس في "المعاني". مما يدل على أن المؤلف نقل عن نسخةٍ من المعاني فيها بعض اختلاف عن النسخة المطبوعة المتداولة، أو نقل قولَ الزجاج عن كتابٍ آخر تصرف في عبارة الزجاج.
(٢) في "المعاني": فكل ما.
(٣) في (ب): (التي).
(٤) (في مطمئن من الأرض): ليست في "معاني القرآن". والعبارة في "التهذيب" (وهو الوادي المطمئن الكثير الشجر). وانظر: "المنتخب" لكراع النمل ١/ ٤٢٤.
(٥) في "المعاني": وهو الحقد. وفي "التهذيب": وهو الحقد الكامن.
(٦) قوله: (والغلالة: الثوب الذي يلبس تحت الثياب): أورده في "التهذيب" من قول أبي زيد، وليس من قول الزجاج.
(٧) في (أ)، (ب)، (ج): (الغال). وفي "المعاني": الغل. وما أثبت من مصادر اللغة. انظر (غلل) في: "إصلاح المنطق" ٢٦، و"غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ٤٩؛ و"جمهرة اللغة" لابن دريد ٢/ ٢٠١٢، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٨٩، و"المقاييس" ٤/ ٣٧٦، و"اللسان" ٦/ ٣٢٨٧.
(٨) هكذا وردت (فيكم) في (أ)، (ب)، (ج)، و"تفسير الوسيط" المؤلف ٣٧١. وأرى أن الأصوب أن تكون: (فيكتم)؛ لأنه أنسب للسياق الذي أراد المؤلف من خلاله أن يُدلِّل على أن معنى (الغل) -هنا- فيه كتمان وكمون وستر، وهو أنسب بسبب النزول الذي أورده المؤلف سابقًا، وأشار إليها هنا. ويعزز هذا ما قاله في تفسيره "الوجيز": (أي: يخون بكتمان شيء من الغنيمة عن أصحابه) ١/ ٢٤٠.
130
الغنيمةَ مِن أصحابه. أو أنْ يَخُونَ بأن يعطيَ البعضَ دون البعضِ، على ما روي في سبب النزول.
فإن قيل: ما معنى تخصيص النبي - ﷺ - ههنا-، وغيرُهُ يساويه في أنه ليس له ذلك؟.
قلنا: (أَنْ) مع المستقبل، تكون بمعنى المصدر؛ كأنه قيل: (ما كان لِنَبي الغُلُول)؛ أراد: ما غَلَّ نَبِيٌّ. ينفي عن الأنبياء الغُلُولَ، لا أنه (١) ينهاهم بهذا اللفْظَ.
وقال (٢) بعض أهلِ المعاني: اللّام فيه منقولة؛ معناه: ما كان نَبِيٌّ (٣) ليَغُل، كقوله -عز وجل-: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ [مريم: ٣٥]، أي: ما كان الله لِيَتّخِذَ [ولدا] (٤)، على نفي الاتخاذ، -كذلك- الآيةُ على نفي الغُلُول عن الأنبياء.
وحجة هذه القراءة: ما روي عن ابن عباسٍ -في أكثر الروايات- في سبب نزول الآية، وعن الكلبي ومقاتل، وذلك يدل على نَسَبِ الغُلُول إلى
(١) في (ج): لأنه -. بدلًا من: (لا أنه).
(٢) من قوله: (وقال..) إلى (.. ليتخذ ولدا): نقله بنصه عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤١ أ. ولم أقف على من قال بهذا القول، من أصحاب المعاني.
(٣) (في) (ج): (لنبي).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
131
النبي - ﷺ -، فَنَفى ذلك عنه. و-أيضًا- فإنَّ ما هو مِن هذا (١) القبيل في التنزيل، أُسنِدَ الفعلُ فيه إلى الفاعل، نحو: ﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ﴾ [يوسف: ٣٨]، و ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ﴾ [يوسف: ٧٦]، و ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ﴾ [آل عمران: ١٤٥]، و ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا﴾ [التوبة: ١١٥]، و ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٩].
ولا يكاد يجيء منه: (ما كان زيدٌ ليُضْرَبَ)، فيُسنَد الفعلُ فيه إلى المفعول به، فكذلك: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ يُسندُ (٢) فيه الفعلُ إلى الفاعل. يُؤكِّدُ (٣) هذا الفصل، ما حكى أبو عبيد (٤) عن يونس (٥) أنه اختار (يَغُلّ) -بفتح الياء-، وقال: لا يكون في الكلام: (ما كان لك أن تُضْرَب) بضم التاء.
(١) من قوله: (من هذا..) إلى (يُسند فيه الفعل إلى الفاعل): نقله -بتصرف يسير- عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٩٦.
(٢) من قوله: (يسند..) إلى (.. عن يونس أنه): ساقط من (ج).
(٣) في (أ): (بمؤكد). والمثبت من (ب)، (ج).
(٤) (أ)، (ب)، (ج): (أبو عبيدة). وما أثبَتُّه فمن "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٨٨. فقد ورد فيه: (وأخبرني المنذري، عن الحسين بن فهم، عن ابن سلام، قال: كان أبو عمرو بن العلاء، ويونس يختاران..) وذكره. وابن سَلّام، هو: أبو عبيد. والمؤلف، كثيرًا ما ينقل عن "تهذيب اللغة" بتصرف. وانظر: "اللسان" ٦/ ٣٢٨٦ (غلل).
(٥) هو: أبو عبد الرحمن، يونس بن حبيب الضَبِّي بالولاء نحوي بصري، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وحماد بن سلمة، وكانت له حلقة بالبصرة يحضرها أهل العلم، والأدباء وفصحاء الأعراب، توفي سنة (١٨٣هـ). انظر: "أخبار النحويين البصريين" ٥١، و"طبقات النحويين" للزبيدي ٥١، و"إنباه الرواة" ٤/ ٧٤.
132
وهذه القراءة اختيار ابن عباس، كان (١) يقرأ (يَغُلّ) بفتح الياء، فقيل له: إنَّ ابن مسعود يقرأ: ﴿يُغَلّ﴾، فقال ابن عباس: قد كان النبي يُقتَل، فكيف (٢) لا يُخَوَّنُ؟ (٣).
والقراءة الثانية: ﴿يُغَلّ﴾ بضم الياء، وفتح الغين.
وهذه القراءة تحتملُ وجهين (٤): أحدهما: أن يكون من (الغُلُول). والثاني: أن يكون من (الإغلال).
فإن جعلتها من (الغُلُول) احتملت معنيين: أحدهما: أن معنى قوله: ﴿وَمَا كاَنَ لِنبيٍّ أَن يُغَلّ﴾ (٥)؛ أي: ليس لأحدٍ أن يَغُلَّهُ، فيأخذ مِنَ الغنيمة التي حازها (٦) على طريق الخيانة، وإن كان لا يجوز أن يُغَلّ غيرُ النبيِّ، مِن إمام المسلمين وأميرٍ لهم (٧).
وفائدة تخصيص النبي - ﷺ - بالذِّكْر: أن الغُلُول يَعْظُمُ بحضرته، ويكبر كِبَرًا لا يكبر عند غيره؛ لأن المعاصي بحضرته أعظم.
المعنى (٨) الثاني: أن تكون (أَنْ) مع الفعل، بمنزلة المصدر؛ كما
(١) من هنا، وإلى: (.. لأن المعاصي بحضرته أعظم): نقله -بتصرف- عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٩٦ - ٩٧. وهو من تتمة النقل السابق.
(٢) في (ج): (كيف).
(٣) انظر هذا الأثر عن ابن عباس في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٥٥، وانظر قراءة ابن عباس في "تفسير سفيان الثوري" ٨١، و"المعجم الكبير" للطبراني ١١/ ١٠١ (١١١٧٤).
(٤) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ١٢٤، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤١ ب.
(٥) (أ)، (ب): (يَغُلّ) -بفتح الياء، وضم الغين، والمثبت من (ج)، وهو الصواب.
(٦) في (أ): (جازها). والمثبت من (ب)، (ج).
(٧) في (ب): (وأميرهم).
(٨) (المعنى): ساقط من (ب).
133
ذَكَرْنا في القراءة الأولى. ويكون المعنى: ما كان لِنَبيٍّ غُلولٌ من المُتَحقِّقِينَ بِنُبُوَّتِهِ؛ أي: لم يَخُنْهُ أصحابُهُ وأنصارُهُ، ويكون في هذا ذَمٌّ لِمَن خانَه.
يُؤكِّد هذا المعنى ما روى عطاءٌ عن ابن عباس (١)، في قوله: ﴿وَمَا كاَنَ لِنبيٍّ أَن يَغُلَّ﴾؛ يريد: أن يكون ممن يَصْحَبُهُ، أحدٌ يَغُلُّ ويَسْتَحلُّ الغُلُولَ.
وإن أخذت بهذه القراءةِ مِنَ (الإغْلال)، احتَمَلَتْ -أيضا- معنيين:
أحدهما: أن يكون (الإغلال) بمعنى (الغُلول). يقال: (غَلّ الرجلُ مِنَ الغنيمة، يَغل غَلًّا، وغلولًا)، و (أَغَلّ إغلالًا): إذا سَرَق منها (٢). ذكره الزّجاج في باب الوفاق (٣) ومِن هذا يقال: (أغَلّ الجازِر، والسَّالِخُ): إذا أبْقَى في الجِلْدِ شيئًا مِنَ اللَّحْمِ؛ على طريقِ السَّرِقَةِ والخيانة (٤).
قال النَّمْر بن تَوْلَب (٥):
(١) لم أقف على مصدر هذه الرواية.
(٢) يقال: (غَلَّ، يَغُلُّ، غُلولًا): للخيانة في المغنم خاصة. و (أغَلَّ، يُغِلُّ، إغلالًا): للخيانة في المغانم، وغيرها. و (غَلَّ، يَغِلُّ، غِلًّا): للحقد والضِّغْنِ والشحناء. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ١٢٤، و"إصلاح المنطق" ٢٦٥ - ٢٦٦، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٨٨ (غلل)، و"ما جاء على فعلت وأفعلت" للجواليقي ٥٧، و"اللسان" ٦/ ٣٢٨٥ (غلل).
(٣) لم أقف على مصدر قول الزجاج هذا.
(٤) انظر (غلل) في: "إصلاح المنطق" ٦٥، و"التهذيب" ٣/ ٢٦٩٠، و"اللسان" ٦/ ٣٢٨٦.
(٥) من بداية بيت الشعر، وإلى (.. أي: لا يقال له: غللت): نقله المؤلف -بتصرف؛ واختصار- عن: "الحجة" للفارسي ٣/ ٩٥ - ٩٧.
والنَّمْر، هو: ابن تَوْلَب بن أقَيْش العُكْلي، وكُنْيَته: أبو قيس، وأبو ربيعة. شاعر مُخضْرَم، أدرك الجاهلية والإسلام، وَفَدَ على النبي - ﷺ -، وأسلم وحسن إسلامه. انظر. "الشعر والشعراء" ص ١٩١، و"الإصابة" ٣/ ٥٧٢، و"الأعلام" ٨/ ٤٨.
134
جَزَى اللهُ عنَا جَمْرَةَ ابْنَةَ نَوْفَلٍ جَزاءَ مُغِلٍّ (١) بالأمانَةِ كاذبِ (٢)
وقال آخر:
حَدَّثْتَ (٣) نفْسَكَ بالوَفَاءِ ولم تَكُنْ للْغَدْر خائنَةً مُغلَّ الإصْبَع (٤)
قوله: (لِلْغَدْرِ) (٥)؛ أي: لِكَراهَةِ الغَدرِ. و (الخائِنَة): يحتمل أن تكَون مصدرا؛ كـ (العافِيَةِ)، و (العَاقِبَةِ).
(١) في (أ): (مُغَلٍّ). وفي (ب)، (ج): مهملة من الشكل. والمثبت من مصادر البيت.
(٢) البيت ورد في "شعره" ص ٣٨، وورد منسوبا له في: "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ١٢٣، و"إصلاح المنطق" ٢٦٦، و"الزاهر" ١/ ٤٦٩، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٨٩ (غلل)، و"الصحاح" ٥/ ١٧٨٤ (غلل)، و"المقاييس" ٤/ ٣٧٦ (غلل)، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٤٠١، و"اللسان" ٦/ ٣٢٨٥ (غلل).
وقد ورد في "التهذيب"، و"الصحاح": (حمزة) بدلًا من (جمرة).
ومعنى (المُغِلِّ): الخائن.
ورد في إحدى نسخ "إصلاح المنطق" أشار إليها محقق الكتاب: (جَمرة، كانت أخيذة عنده، فسألته أن يزيرها قومها، ففعل، فلما أتتهم منعوها الرجوع..). ص ٢٦٦.
(٣) في (ب): (حدثته).
(٤) نسبته المصادر التالية لرجل من بني أبي بكر بن كلاب:
"مجاز القرآن" ١/ ١٥٨، و"الكامل" للمبرد ١/ ٣٥٩، و"اللسان" ٣/ ١٢٩٤ (خون). وورد غير منسوب في: "إصلاح المنطق" ٢٦٦، و"تفسير الطبري" ٦/ ١٥٦، و"الجمهرة" لابن دريد ١/ ٣٤٧، و"المخصص" ٢/ ٤، و"اللسان" ٤/ ٢٣٩٥ (صبع)، ٦/ ٣٢٨٦ (غلل).
يقال: (فلانٌ مُغِلُّ الإصبع): إذا كان خائنًا. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٣٩٥ (صبع).
يخاطب الشاعرُ رجلًا يُسمَّى (قرين بن سُلْميّ الحنفي) قتل أخاه، وقبل هذا البيت:
أقَرِينُ إشك لو رأيت فوارسي بعَمَايَتَيْنِ إلى جوانب ضَلْفَعِ
و (عمايتين)، و (ضلفع): مواضع في نجد. انظر مناسبة البيت في "الكامل" ١/ ٣٥٨ - ٣٥٩.
(٥) في (ج): (الغدر).
135
و-حينئذٍ - يُقَدَّرُ حذفُ المضاف؛ أي: لم يكنَ صاحبَ خائِنَةٍ؛ أي: خيانَة. وإنْ شئتَ جعلته مثل: (راوِيَة).
ونَسَبَ (١) الإغْلالَ إلى الإصْبَع، كَمَا نَسَبَ (٢) الآخرُ الخيانةَ إلى اليَدِ، في قوله:
أَحَذَّ (٣) يَدِ القَمِيصِ (٤)
(١) في (أ): (نُسِبَ)، وفي (ب)، (ج) مهملة من الشكل. والمثبت من "الحجة" للفارسي. وهو الصواب؛ حتى تتناسب مع الكلمة المنصوبة المعمولة لها بعدها.
(٢) في (أ): نُسِبَ. وفي (ب)، (ج) مهملة من الشكل. والمثبت من "الحجة" للفارسي، ويقال فيها ما قيل في التي قبلها.
(٣) في (أ)، (ب): أحد. والمثبت من (ج)، ومصادر البيت.
(٤) جزء من بيت شعر، للفرزدق. وتمامه:
أأطعَمْتَ العراقَ ورافِدَيْه فَزَاريَّا أحَذَّ يَدِ القميصِ
وهو في "ديوانه" ٣٣٨، وورد منسوبًا له في: "الحيوان" للجاحظ ٥/ ١٩٧، ٦/ ٥١٠، و"الشعر والشعراء" ١/ ٩٤، و"المعارف" ٤٠٨، و"الكامل" ٣/ ٨٣، و"اللسان" ٣/ ١٦٨٨ (رفد)، ٢/ ٨٠٩ (حذذ).
وورد غير منسوب في: "المخصص" ٢/ ٤، و"همع الهوامع" ١/ ١٧٢، و"الدرر اللوامع" ٢٥.
جاء في بعض المصادر: (أوَلَّيْت العراق)، وورد: (فَوَلَّيت)، وورد: (بَعَثت إلى العراق)، وفي الهمع: (لأطعمت..) وهي خطأ بلا شك.
ومعنى (أحذَّ يدِ القميص)، أي: خفيف اليد. يصفه بالغلول والسرقة، وأراد: أحذ اليد، وأضاف اليد إلى القميص؛ لحاجته.
و (الحَذَذ): السرعة، وقيل: السرعة والخفة، و-كذلك-: خفة الذنَب، واللحية. و (فرسٌ أحَذّ): خفيف شعر الذنب، و (رجل أَحَذّ): سريع اليد خفيفها، وهذا التفسير هو الذي أراده المؤلف أعلاه. وقيل: (الأحَذّ): المقطوع؛ أي: أنه قصير اليد عن نيل المعالي، فجعله كالأحذ، الذي لا شعر لذنبه. انظر: "اللسان" ٢/ ٨٠٨ (حذذ).
136
قال: جعلت (الإغلالَ) بمعنى (الغُلول). فقد ذكرنا للغُلُول معنيين في هذه القراءة.
المعنى الثاني: أنْ يكون (الإغلالُ) بمعنى النسبة إلى الغُلُول. وقد يَردُ (١) (الإفْعَال) بمعنى النسمة، شاذًّا، وإن كان الأكثر فيه التَفْعيل؛ كقولهم: (أسْقاهُ)، أي: قال له: سَقَاكَ اللهُ (٢).
ومنه قول ذي الرُّمَّة:
وأُسْقِيهِ حتى كاد (٣)... البيت.
= والبيت، ضمن أبيات، يهجو بها الشاعرُ عمرَ بن هبيرة الفزاري، ويخاطب -معاتبًا- يزيدَ بن عبد الملك، الذي ولَّى ابنَ هبيرة العراقَ.
(١) في (ج): (ترد).
(٢) في "الحجة" للفارسي ٣/ ٩٧: (.. كقولك: أسقيْتُهُ؛ أي: قلت له: سقاك الله).
(٣) وتمامه:
وأسقِيهِ حتى كاد مما أبُثُّهُ... تكلِّمني أحجارُه ومَلاعبُه
وقبل هذا البيت:
وقفت على رَبْعٍ لِمَيَّة ناقتي... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وهو في "ديوانه" ٨٢١. وورد البيتُ -الشاهد- منسوبًا له، في: "كتاب سيبويه" ٤/ ٥٩، و"النوادر" ٢١٣، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٥٠، و"طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٥٥٧، و"تهذيب اللغة"١٠/ ٢٩٧، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٤٠٤، و"لسان العرب" ٤/ ٢٠٤٢ (سقى)، ٤/ ٢٣١٤ (شكا)، و"المقاصد النحوية" ٢/ ١٧٦، و"التصريح" للأزهري ١/ ٢٠٤، و"شرح شواهد الشافية" ٤١، و"الدرر اللوامع" ١/ ١٠٨.
وورد غير منسوب في: "منهج السالك" ١/ ٢٦٣، و"همع الهوامع" ٢/ ١٤٤. ورد في بعض الروايات: (وَأُشْكِيهِ..)، وورد: (.. أبِثُّهُ) -بضم الهمزة، وكسر الباء-. ومعنى (أبُثُّه): أظهر له البَثَّ، وهو: الحزن والغم. انظر: "اللسان" ١/ ٢٠٨ (بثث). يخاطب الشاعرُ -هنا- منزلَ معشوقته (مية). و (أسقيه): أدعوِ له بالسُّقْيا. والماضي: أسْقاهُ.
137
ويقال (أَكْفَرَهُ): إذا نَسَبَهُ إلى الكفر.
قال الكُمَيْت (١):
فَطَائِفَةٌ قَدْ أكفَرُوني بِحُبِّكُمْ (٢)
فيكون المعنى: وما كان لِنَبِيٍّ أن يُنْسَبَ إلى الغُلُول؛ أي: لا يُقَال له غَلَلْتَ.
قال الفرّاءُ، في (٣) هذه الآية (٤): وقرأ (٥) أصحاب عبد الله (٦): ﴿يُغَلّ﴾؛ يريدون: أنْ يُسَرَّقَ ويُخَوَّنَ (٧)، وذلك جائزٌ، وإنْ لم يَقُل: (يُغلَّل)، فيكون مثل قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾، و ﴿ويُكَذِّبُونَكَ﴾ (٨) [الأنعام: ٣٣].
(١) هو: أبو المُسْتَهِلّ، الكُمَيت بن زيد بن حُبَيْش، من بني أسد. شاعر إسلامي، عاش في أيام الدولة الأموية، ولم يدرك الدولة العباسية، وكان متشيعًا لبني هاشم، وُلِد سنة (٦٠ هـ)، ومات سنة (١٢٦هـ).
انظر: "الشعر والشعراء" ٢/ ٣٨٥، و"جمهرة أشعار العرب" ٣٥١، و"أمالي الزجاجي" ١٣٧، و"الخزانة" ١/ ١٤٤.
(٢) صدر بيت، وعجزه:
وطائفةٌ قالوا مسيءٌ ومذنب
ورد في: "شرح هاشميات الكميت" ٥٣، وورد منسوبًا له في "خزانة الأدب" ٤/ ٣١٤.
وورد فيه: (.. قد أكفرتني بحبهم..).
قال في "شرح الهاشميات": (و (طائفة)؛ يريد: الحرورية. (وطائفة)؛ يريد: المرجئة).
(٣) في (ج): (وفي).
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٤٦، نقله عنه بتصرف يسير.
(٥) في (ج): (وقال).
(٦) أي: ابن مسعود - رضي الله عنه -. وقال الطبري: (وهي قراءة عُظْم قَرَأة أهل المدينة والكوفة) "تفسيره" ٤/ ١٥٧.
(٧) أي: ينسب إلى السرقة والخيانة.
(٨) القراءة الأولى: ﴿يُكَذِّبُونَكَ﴾، لابن كثير، وعاصم، وأبي عمرو، وابن عامر =
138
ومِن حُجَّةِ هذه القراءة: ما رُوي عن ابن عبّاس، من طريق الضّحاك، وما روي عن قتادة، في سبب نزول هذه الآية (١).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
أي: يأتي به حاملًا له على ظهره، كما روي أن النبي - ﷺ -، خَطَبَ يومًا، فذَكَرَ الغُلُولَ، وعَظَّمَه، وعَظَّمَ أَمْرَهُ، فقال: "لا أُلْفِيَنَّ (٢) أحدَكمْ يجيء على رقبته يوم القيامة بَعِيرٌ له رُغَاء (٣)، يقول: يا رسولَ الله! أعِنِّي (٤).
= والقراءة الثانية: ﴿يُكْذِبُونَكَ﴾، لنافع، والكسائي.
انظر:"السبعة" ٢٥٧، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٣٠٢، و"المبسوط" لابن مهران ٦١٨. أي: أن (كَذَّبه، وأكْذَبه)، بمعنًى واحد، وهو: نسبته إلى الكذب، وكذلك: (غَلَّ، وأغَلَّ) تتواردان على معنى واحد، وهو: النسبة إلى الغلول. انظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ٥٨، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٣٠٢. وحول رأي الفراء -هذا-، قال الأزهري: (وقال أبو العباس: جَعَلَ (يَغُل)، بمعنى: (يُغَلَّل)، وكلام العرب على غير ذلك في (فعَّلت)، و (أفْعَلْت). و (أفعلته): أدخلت ذاك فيه، و (فعَّلتُ): كثرت ذاك فيه). "التهذيب" ٣/ ٢٦٨٨. وانظر: "الحجة" للفارسي ٣٠٢ - ٣٠٤.
(١) انظر ما سبق ص ١٢٨ - ١٢٩.
(٢) في (ج): (لألفين). وهذه توافق رواية الإمام أحمد في "المسند": (لألفِيَنَّ يجيء أحدكم يوم القيامة..) وسيأتي تخريجه.
وفي بعض الروايات: (لا ألفِينَّ..) انظر: "فتح الباري" ٦/ ١٨٦. ألفى الشيء: وجده. يقال: (ألْفَيْتُ الشيء، أُلْفِيهِ، إِلفاءً): إذا وجدته وصادفته ولقيته. انظر: "اللسان": ٧/ ٤٠٥٦ (لفا).
(٣) الرُّغاء: صوت البعير. قال: (رَغَا البعيرُ، والضَّبُعُ، والنَّعامُ، رُغاءً): صوَّتَت فَضَجَّت. انظر: "القاموس" (١٢٨٩) (رغا).
(٤) في مصادر الحديث التالية: أغثني.
139
فأقول: لا أملك لك مِنَ الله شيئًا، قد أَبْلَغْتُكَ". وذَكَر في الحديث: الشاةَ والفرَسَ والصَّامِتَ (١).
وهذا قول: ابن عباس (٢)، وأبي هريرة (٣)، وأبي حُمَيْد الساعدي (٤)،
(١) في (ج): (والفَرَسَ الصامِتَ).
والصامت من المال: الذهب، والفضة، خلاف الناطق منه، وهو: الحيوان. انظر: "النهاية في غريب الحديث" ٣/ ٥٢، و"القاموس" ١٥٥ (صمت)، و"فتح الباري" ٦/ ١٨٦.
والحديث من رواية أبي هريرة، أخرجه: البخاري في "الصحيح" (٣٠٧٣) كتاب الجهاد. باب الغلول وقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ﴾.
ومسلم في "الصحيح" رقم (١٨٣١) كتاب الإمارة. باب غلظ تحريم الغلول. وأحمد في "المسند" ٢/ ٤٢٦، وابن أبي شيبة في "المصنف" ٦/ ٥٢٩، رقم (٣٣٥١٩). والطبري في "تفسيره" ٤/ ١٥٨، والبيهقي في "السنن" ٩/ ١٠١، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٤١ ب. وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٦٣ وزاد نسبة إخراجه إلى البيهقي في "الشُّعَب".
(٢) قول ابن عباس - رضي الله عنه - ومن بعده، هي آثار رواها المذكورون عن النبي - ﷺ -، بالمعنى نفسه. وقول ابن عباس رضي الله عنهما في "تفسير الطبري" ٤/ ١٥٩، وأورد الأثر ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٤٥٥ ونسب أخراجه إلى ابن جرير، وقال: (لم يروه أحد من أهل الكتب الستة).
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٥٨، ١٦٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٠٥.
(٤) قوله في: "صحيح مسلم" رقم (١٨٣٢) كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، والطبري في "تفسيره" ٤/ ١٥٩، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ١٢٧، وابن كثير في "تفسيره" ١/ ٤٥٥.
وأبو حميد الساعدي، اختلف في اسمه كثيراً، المنذر بن سعد، وقيل: عبد الرحمن بن سعد بن المنذر، وقيل غير ذلك. أنصاري، صحابي مشهور، شهد أحداً وما بعدها، تُوفي في آخر خلافة معاوية، وأول خلافة يزيد بن معاوية. انظر: "الاستيعاب" ٤/ ١٩٩، و"الإصابة" ٤/ ٤٦.
140
وابن عمر (١)، وقتادة (٢).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾.
قال ابن عباس (٣): يريد: تجازى ثوابَ عَمَلِها.
﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾. قال (٤): وهم لا يُنقَصُونَ مِنْ ثوابِ أعمالهم شيئًا.
١٦٢ - قوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ﴾.
يعني: بترك الغُلُولِ -في قول: الكلبي (٥)، والضحاك (٦) -.
﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ﴾، في فِعْلِ الغُلول.
وقيل: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ بالعمل بطاعته والإيمان، ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ﴾ في العملِ بمعصيته، والكفر به. وهذا القولُ يُحكَى عن محمد بن إسحاق (٧).
وعلى هذا المعنى دلّ كلامُ ابن عباس -في رواية عطاء-؛ لأنه قال (٨): ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ﴾؛ يريد: المهاجرين والأنصار، {كَمَنْ بَاءَ
(١) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٠، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٣/ ٨٦، وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح.
(٢) قوله في: "المصنف" لعبد الرزاق ٥/ ٢٤٢ (٩٤٩٣)، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٦١.
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) قوله في "بحر العلوم" ١/ ٣١٢.
(٦) قوله في: "المصنف" لعبد الرزاق ٥/ ٢٤٦ رقم (٩٥٠٧)، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٦١، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٠٦. وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٦٥ وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر.
(٧) قوله في: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٧٠، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٦١، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٠٧.
(٨) لم أقف على مصدر قوله.
بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ}؛ يريد: المنافقين.
وقال الزجاج (١): يروى أن النبي - ﷺ -، حين أمر المسلمين يوم أحد بالحرب، اتَّبَعَهُ المؤمنون، وتَخَلَّفَ عنه جماعةٌ مِنَ المنافقين (٢).
فأعلم الله عز وجل: أنّ مَنْ اتَّبَعَ نَبِيَّهُ، اتَّبَعَ رِضوانَهُ، وأنَّ مَن تَخَلّف عنه فقد باء بِسَخَطٍ مِنَ الله.
ومعنى (باءَ به)؛ أي: احتمله، ورَجَع به. وقد ذكرنا هذا في سورة البقرة (٣).
١٦٣ - قوله تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: ذَوُو (٤) درجات. فحذف المضاف. وحَسُن ذلك ههنا؛ لأن اختلاف أعمالهم، قد صيَّرَهم بمنزلة المختلفي الذوات، كاختلاف مراتب الدرجات؛ لتبعيدهم من استواء الأحوال، فجاء على هذا المَجَاز.
والمجاز في موضعه، أحسنُ مِنَ الحقيقة، لِمَا فيه [مِنَ] (٥) الإيجاز مِن غيرِ إخلال، ومِنَ المُبالغة التي لا ينوبُ مَنَابها الحقيقة، إذْ (٦) قولك: (هو الشمسُ ضياءً)، أبْلَغُ في النفس مِن: (هو كالشمس ضياءً). فكذلك: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ (٧)، أبلغ مِنْ: (هم أهلُ درجاتٍ) (٨).
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٦. نقله عنه بتصرف.
(٢) انظر: تفسير ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ آية: ١٢٢ من سورة آل عمران.
(٣) انظر: "تفسير البسيط" عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ البقرة: ٦١.
(٤) في (ب): (ذو).
(٥) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج).
(٦) في (أ)، (ب): إذا. والمثبت من (ج).
(٧) في (أ): (بدرجات درجات).
(٨) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٨٦، و"معاني القرآن" للنحاس ١/ ٥٠٦. =
142
وأصل الدَّرَجَةِ: الرُّتْبَةُ (١)، ومِنْهُ: (الدَّرْجُ)، لأنه يُطوَى رُتْبةً بعد رُتْبةٍ؛ قال: (أدْرَجَني إدْرَاجًا) (٢) و (الدَّرَجَانُ) (٣): تَقارُبُ الخَطْوِ؛ كَمِشْيَة الشَّيْخ، والصَّبِيِّ؛ لتقارُبِ الرُّتَبِ (٤).
فأما التفسير: فالآيةُ تحتملُ ثلاثةَ أوجه:
أحدها: أن يكون المراد بقولهم: دَرَجاتُ المؤمنين والكافرين جميعًا. والمعنى: أن المؤمنين ذَوُو (٥) دَرَجةٍ رفيعةٍ، والكافرين ذَوُو
= قيل في تأويل الآية: إنهم جعلوا نفس الدرجات؛ للمبالغة؛ أي: إنهم متفاوتون في الجزاء على كسبهم، كما أن الدرجات تتفاوت. والأصل فيه: هم مثل الدرجات في التفاوت. انظر: "الدر المصون" ٣/ ٤٦٩ - ٤٧٠.
(١) انظر (درج) في: "جمهرة اللغة" ١/ ٤٤٦، و"التهذيب" ٢/ ١١٦٧، و"اللسان" ٣/ ١٣٥١، وانظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٢.
قال الراغب: (الدرجة، نحو المنزلة، لكن يقال للمنزلة: (درجة)، إذا اعتُبِرت بالصعود، دون الامتداد على البسيط؛ كدرجة السطع والسلَّم، ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة..). "مفردات ألفاظ القرآن": ٣١٠ (درج).
(٢) قال ابن دريد: (والدَّرْج: مصدر (دَرَجْتُ الشيء دَرْجًا)، و (أدرجته إدراجًا): إذا طويته). "جمهرة اللغة" ١/ ٤٤٦.
وأراد المؤلف، هنا والله أعلم: الدَّرْج -أو الدَّرَج-: الذي يُكتَبُ فيه. يقال: (أنفذته في دَرْج الكتاب)؛ أي: في طَيِّه. انظر: "الصحاح" ٣١٤ (درج).
وفي "مفردات ألفاظ القرآن": ٣١١ (درج): (والدرْج: طيُّ الكتاب والثوب. ويقال للمطوي: دَرْج).
(٣) في (أ)، (ب): (والدرجات). والمثبت من: (ج)، ومصادر اللغةُ.
(٤) انظر: (درج) في: "التهذيب" ٢/ ١١٦٧، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٣١١، و"اللسان" ٣/ ١٣٥١.
(٥) في (ب): (ذو). وكذا في الموضع التالي.
143
درجةٍ (١) خَسِيسَةٍ.
وهذا الوجه مروي عن ابن عباسٍ، قال (٢): يعني أنَّ مَن اتَّبَعَ رِضْوانَ الله، ومَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله، مختلِفُو (٣) المَنَازِلِ عند الله فَلِمَن اتبع رِضْوانه الكرامةُ والثواب، ولِمَن باء بسخطٍ منه المَهَانةُ والعذاب.
وهذا قول الكلبي -أيضًا-، فإنه قال (٤): هم درجاتُ، بعضهم أشدُّ عذابًا مِنْ بعضٍ، وكلٌّ في عذابٍ وهَوَانٍ، وأهل الجَنَّةِ بعضهم أفضلَ من بعض، وكلٌّ (٥) في فَضْلٍ وكَرَامَةٍ (٦).
الوجه الثاني: أن تكون الآيةُ خاصَّةً في المؤمنين؛ يريد: أنَّ بعضهم أرفع درجة عند الله مِنْ بعض.
وهذا قول ابن عباس -في رواية عطاء-، قال (٧): يريد: أصحاب النبي - ﷺ -، بعضهم أفضل من بعض، وهذا أيضًا اختيارُ الفرّاء، قال (٨): يقول: هم في الفضل مختلفون، بعضهم أرفع من بعض.
الوجه الثالث: أن تكون الآية خاصة في الكافرين (٩). وهذا قول
(١) (ذوو درجة): بياض في (ج).
(٢) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤٣ ب، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٢٩، و"زاد المسير" ١/ ٤٩٣.
(٣) في (ب): (يختلفوا).
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) من قوله: (وكل..) إلى (.. بعضهم أفضل من بعض): ساقط من (ج).
(٦) وهو قول ابن إسحاق، واختيار الطبري. انظر: "تفسيره" ٤/ ١٦٢.
(٧) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه.
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٤٦. نقله عنه بتصرف.
(٩) في (ج): (المنافقين).
144
الحسن، يقول (١): بعض أهل النار أشدُّ عذابًا مِنْ بعضٍ؛ ألا تَرَاهُ (٢) يقول: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأنعام: ١٣٢].
قال: وبلغني أن النبي - ﷺ - قال: (إنَّ منها (٣) ضحْضاحًا (٤)، وإنَّ منها غَمْرًا (٥)، وإني لأرجو أنْ يكون أبو طالب في ضحْضَاحِها) (٦).
(١) لم أقف على مصدر قوله. والذي وقفت عليه من قوله، الآتي:
أ- يعني أهل الخير وأهل الشر درجات.
ب- إنها درجات الجنة.
ج- للناس درجات بأعمالهم، في الخير والشر. انظر: "تفسير الحسن البصري" ٢٤٦، ٢٤٧.
(٢) في (ج): (تسمعه) بدلًا من: (تراه).
(٣) الضمير يعود على النار.
(٤) أصل الضحْضَاح: الماء القليل، الرقيق، أو الذي يصل إلى الكعبين. فشَبَّه قِلَّةَ النار به. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ٢/ ٤٠٠، و"الفائق" ٢/ ٣٣٢.
(٥) الغَمْر: الماء الكثير. وجمعه: غِمَار، وغُمُور. انظر: "القاموس" ٤٥٢ (غمر).
(٦) هذا الجزء من قول الحسن (والمتضمن حديث النبي - ﷺ -، المرسل عن الحسن (إن منها ضحضاحا..)، قد ورد بألفاظ مختلفة من طريق أخرى صحيحة، في بيان حال أبي طالب عم النبي - ﷺ -، يوم القيامة.
فقد أخرج البخاريُّ عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي - ﷺ -: ما أغنيت عن عمك؟ فوالله كان يحيطك ويغضب لك. قال: "هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا، لكان في الدرك الأسفل من النار". "الصحيح" (٣٨٨٣). كتاب مناقب الأنصار. باب قصة أبى طالب، (٦٢٠٨) كتاب الأدب. باب كنية المشرك.
وأخرجه مسلم في "الصحيح" رقم (٢٠٩) كتاب الإيمان رقم (٣٥٧) باب شفاعة النبي - ﷺ - لأبي طالب، وورد في لفظٍ لمسلم: "نعم وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إلى ضحضاح".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله - ﷺ - وذُكِرَ عنده عَمُّهُ أبو طالب، فقال -واللفظ للبخاري-: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار، يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه". =
145
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ (١).
فيه تحريضٌ على العمل بطاعته؛ لأن ثوابه لا يضيع؛ إذا عَمِلَه (٢) مَنْ يعمل له، وتحذيرٌ مِنَ العملِ بمعصيته؛ لأن جزاءه لا يفوتُ إذا كان عالِمًا به. فهو تهديد ووعيدٌ للكافرين، وتبشيرٌ ووَعْدٌ للمؤمنين.
١٦٤ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية.
لـ (المَنِّ) (٣) -في كلام العرب- مَعَانٍ:
أحدها: الذي يسقط من السماء، وقد مرّ ذكره في قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ [البقرة: ٥٧]. والمَنُّ: الاعتداد بالصنَّيعَةِ (٤)، وهو: أنْ تَمُنَّ بما أعطيت، وذلك في قوله: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ﴾ [البقرة: ٢٦٤].
والمَنُّ: القَطْعُ. ومنه قوله: ﴿أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [فصلت: ٨]؛ أي: غيرُ مَقْطُوع (٥).
= "صحيح البخاري": (٦٥٦٤) كتاب الرقاق. باب صفة الجنة والنار. و"صحيح مسلم" رقم (١٢٠) كتاب الإيمان، رقم (٣٦٠) باب شفاعة النبي - ﷺ - لأبي طالب.
وانظر روايات أخرى بألفاظ أخرى في: "فتح الباري" ٧/ ١٩٣ - ١٩٤، و"الفائق" للزمخشري ٢/ ٣٣٢.
(١) في (أ)، (ب)، (ج): تعملون. والمثبت من رسم المصحف.
(٢) في (ج): (علمه).
(٣) في (ج): (المن) بدلا من: (للمن).
(٤) الصَّنِيعة: العَطِيَّة، والكرامة، والإحسان. والجمع: صَنائِع. انظر: (صنع) في: "اللسان" ٤/ ٢٥١٠، و"القاموس" ٧٣٩.
(٥) وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم. وحكى السُدِّي عن بعضهم، =
146
والمَنُّ: الإعطاء والإنعام، والإحسان إلى مَنْ لا تَسْتَثِيبه. منه قوله تعالى: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ﴾ [ص: ٣٩]، وقوله: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: ٦] (١). و (المَنَّانُ) -في صفة الله- تعالى-؛ معناه: المُعْطِي ابتداءً (٢).
فمعنى قوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: أنعَمَ عليهم، وأحسَنَ
= أن معناه: غيرُ ممنونٍ عليهم. ورُدَّ عليه؛ لأن المِنَّة لله تعالى على أهل الجنة؛ لأنهم دخلوها برحمته تعالى وفضله، لا بأعمالهم. انظر: "تفسير ابن كثير" ٤/ ٥١٩.
(١) معنى الآية -على هذا الوجه-: لا تُعْطِ العطيَّةَ تلتمس أكثر منها. وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وأبي الأحوص، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم، واستظهره ابن كثير. ويرى الضحاك أن هذا خاص بالنبي - ﷺ -، مباح للناس عامة.
وقيل: لا تعط عطاءً وتستكثره؛ لأن الكريم يستقل ما يعطي، وإن كان كثيرًا. ذكره ابن جُزي.
وهناك أقوال أخرى في الآية، هي:
- لا تمنن بعملك على ربك تستكثره وهو قول الحسن، والربيع، واختيار الطبري.
- وقيل: لا تضعف أن تستكثر من الخير؛ على أنَّ (تَمْنُنْ) -في كلام العرب-: تضعف. وهي رواية خصيف عن مجاهد. أو لا تضعف عن تبليغ الرسالة، وتستكثر ما حملناك من ذلك. ذكره ابن جُزَي.
- وقيل: لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس، تستكثرهم به، تأخذ عليه عوضًا من الدنيا. وهو قول ابن زيد.
انظر: "تفسير الطبري" ٢٩/ ١٤٨ - ١٥٠، "وتفسير ابن جزي" ٨٠٦، و"تفسير ابن كثير" ٤/ ٤٦٦.
(٢) انظر هذه المعاني لـ (المن) في: "الزاهر" ٢/ ٣٥٥ - ٣٥٧، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٥٩ - ٣٤٦٠، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٧٧٧، و"قاموس القرآن" للدامغاني ٤٤٤، و"بصائر ذوي التمييز" ٤/ ٥٢٧ - ٥٢٨.
147
إليهم، إذ بَعَثَ فيهم رَسُولًا.
واختلفوا في المراد بـ (المؤمنين) في قوله: ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾.
فقال بعضهم (١): هذا خاصٌّ في العرب، لأن النبي - ﷺ -، كانَ مِنَ العَرَبِ، ولم يكُنْ حَيٌّ مِن أحياء العرب، إلّا [و] (٢) قد وَلَدَهُ، وله فيهم نَسَبٌ، غير بني تَغْلِب؛ لأنهم كانوا نَصَارَى (٣)، فطَهَّرَهُ (٤) اللهُ منهم؛ لأنهم ثَبَتوا على النصرانية (٥). وعلى هذا دلّ كلام ابن عباس -في رواية عطاء- (٦)، فإنه قال: يعنى المهاجرين والأنصار.
وعلى هذا التفسير، معنى قوله: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: مِنْ نَسَبِهم. قال ابن عباس (٧): يريد: نَسَبه نَسَبهم، هو مِن وَلَدِ إسماعيل. وبه قال الكلبيُّ (٨).
(١) من قوله: (قال بعضهم..) إلى (.. على النصرانية): نقله -بتصرف- عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤٣ - ب.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، و"تفسير الثعلبي".
(٣) هم بنو تَغْلب بن وائل بن قاسط. ينتهي نسبهم إلى مَعَدّ بن عدنان. ومساكنهم بالجزيرة الفُرَاتية، وتعرف بديار بكر. وبينهم وبين بني بكر بن وائل دارت حرب (البَسُوس) المشهورة التي استمرت (٤٠) سنة.
انظر: "جمهرة أنساب العرب" ٣٠٣، ٤٦٩، و"صبح الأعشى" ١/ ٣٣٨، و"معجم القبائل العربية" ١/ ١٢٠.
(٤) في (أ)، (ب): (فظهره). والمثبت من (ج)، و"تفسير الثعلبي"، وكذا جاءت في "تفسير القرطبي" ٤/ ٢٦٤، ١٨/ ٩٢. وهي الصواب.
(٥) أورد هذا القول القرطبيُّ في "تفسيره" ١٨/ ٩٢ ونسبه لابن إسحاق، وكذا أورده أبنُ عطية في "المحرر" ٣/ ٤٠٩ ونسبه للنقاش.
(٦) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه.
(٧) لم أقف على مصدر قوله؛ وقد ذكره ابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٤٩٤.
(٨) لم أقف على مصدر قوله.
148
ومعنى (المِنَّة) -على هذا التفسير-: أنه بُعِثَ واحدًا منهم؛ ليكونَ ذلك شَرَفًا لهم (١). ففيه إنعامٌ مِنْ وجهين:
أحدهما: أنه أنقذهم به من النار، وهداهم. والثاني: أنْ جعله منهم. ودليل هذا التأويل، قولُه: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة: ٢].
وقال آخرون (٢): أراد المؤمنين كلَّهم، وعلى هذا معنى قوله: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: إنه واحدٌ منهم، يعرفونه، ويعرفون نَسَبَهُ، ليس بِمَلَكٍ، ولا أحد مِن غيرِ بني آدم.
ومعنى (المِنّة) -على هذا القول-: أنّه (٣) مَنَّ على المؤمنين، بإرساله واحدًا منهم، عُرِفَ أمرُهُ، وخُبِرَ صِدْقُهُ وأمانَتُهُ، فكانَ تَنَاوُلُ (٤) الحُجّةِ والبرهانِ (٥) سَهْلًا مِنْ قِبَلِهِ (٦).
= وممن ورد عنه أن هذا خاصٌّ في العرب: عائشةُ -رضي الله عنها-. فقد أخرج عنها ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٨٠٨ أنها قالت -بعد أن قرأت هذه الآية-: (هذه للعرب خاصة). وأورده القرطبي في: "تفسيره" ٤/ ٢٦٤، ونسب إخراجه لأبي محمد عبد الغني، بسنده عنها.
وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٦٥ وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر، والبيهقي في "الشعب".
وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٤/ ١٦٣حيث قال: (﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ نبيًا من أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم، فلا يفقهوا عنه ما يقول).
(١) انظر: "بحر العلوم" لأبي الليث ١/ ٣١٣، و"النكت والعيون" ١/ ٤٣٤.
(٢) ممن قال هذا: الزجاج -كما سيأتي-، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٤٣ ب، ولم يعزه لقائل.
(٣) من قوله: (أنه) إلى (من قبله) نقله -بتصرف- عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٨٧.
(٤) في (أ)، (ب): (يتأول). والمثبت من (ج)، و"معاني القرآن".
(٥) في (أ): (البرهانُ) بضم النون. وفي (ب)، (ج): مهملة، وما أثبته هو الصواب.
(٦) في (ب): (قبل).
149
وهذا القول اختيار الزجّاج؛ لأنه قال (١): لو كانت المنّةُ فيه [أنه] (٢) مِنَ العرب، لكانَ (٣) العَجَمُ لا مِنَّة عليهم فيهِ، ولكن المِنَّة (٤) فيه: أنَّهُ قد خُبِرَ أمْرُه، وشأنُه، وعُلِمَ صدقُهُ، بعد أنْ عَلِمُوا أنه كان واحدًا منهم، وإذا كان واحدًا منهم، كانَ أيْسَرَ عليهم معرِفةُ أحوالِهِ مِنَ الصِّدقِ والأمانة.
وعلى هذا التفسير: خُصّ المؤمنون بالذكر، وإنْ كانَ جميعُ المُكَلَّفِينَ في هذا سواء؛ لأن المِنّة على المُؤْمِنِ في هذا أعظمُ منها على الكافر؛ لانتفاع المؤمن ببعثته، فصار كقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥]، وهو كان منذرًا لجميع البَشَرِ، ولكنْ لَمَّا كان المؤمنُ يخشَى الساعةَ دون الكافرين، وكان للمؤمن الانتفاعُ بإنذاره، أُضِيفَ إليه.
وباقي الآية مفسَّرَةٌ في سورة البقرة (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ قيل: معناه: وقد كانوا (٦).
وقيل: معناه: وما كانوا مِنْ قَبْلِهِ؛ أي (٧): مِنْ قبل محمد، إلَّا في
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٧. نقله عنه بتصرف يسير.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة ليستقيم بها السياق.
(٣) في (ب): (لكانت).
(٤) في (ب): (أمانته).
(٥) انظر: تفسير الآية ١٢٩، والآية ١٥١ من سورة البقرة.
(٦) لم أقف على من قال بهذا القول، إلا أنه يُخَرَّج على قول الكسائي -من الكوفيين- أنَّ (إنْ) إنْ دخلت على جملة فعلية، تكون بمعنى (قد)، واللام زائدة للتوكيد، وإن دخلت على جملة اسمية، فتكون (إنْ) هي النافية، واللام بمعنى (إلَّا).
انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٣، و"اللامات" للزجاجي ١١٥، و"الجنى الداني" ٢١٤، و"الدر المصون" ٢/ ٣٣٤.
(٧) (من قبله أي): ساقط من (ج).
150
ضلال مبين. ومثله قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ (١) [البقرة: ١٩٨].
١٦٥ - قوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ الآية.
الواوُ في ﴿أَوَلَمَّا﴾، لِعَطْفِ جملةٍ على جملة. ودخل أَلِفُ الاستفهام على واو النَّسَقِ (٢)؛ لأنَّ له صدر الكلام.
قال الزجّاج (٣): ومثله من الكلام قولُ القائل: (تكَلّمَ فلانٌ بكذا وكذا) فيقول مجيبًا له: (أوَ هُوَ مِمَّن يقول ذلك؟).
والمعنى: أَوَ حين أصابتكم مُصيبةٌ. ويعنى بالمصيبة: ما أصابتهم يوم أحد.
وقوله تعالى: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾.
هو مِنْ صفة النَّكِرَةِ (٤). ومعناه: قد أصبتم مثليها يوم بدر؛ وذلك [أنَّ] (٥) المشركين قتلوا من المسلمين يوم أُحُد سبعين، [وقَتَلَ المسلمونَ منهم يوم بدر، سبعين] (٦) وأسروا سبعين. هذا قول أكثرِ المفسرين: ابن
(١) هذا رأي الكوفيين، ومنهم: الفراء، أنَّ (إنْ) -هنا- نافية، بمعنى (ما)، واللام بمعنى: (إلا)، بينما مذهب أهل البصرة أنَّ (إنْ) هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين (إنْ) النافية.
انظر: المصادر السابقة، و"الفريد في إعراب القرآن المجيد" ١/ ٦٥٦، و"الجنى الداني" ٢٠٩، و"المغني" لابن هشام ٣٠٦.
(٢) النَّسَق، هو: العطف.
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٧. نقله عنه بتصرف يسير.
(٤) أي: في موضع رفع؛ صفة لـ (مصيبة).
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
151
عباس (١)، وقتادة (٢)، وعكرمة (٣)، والربيع (٤)، والسُدِّي (٥).
وقال بعضهم (٦): أي: أَصبتم في يوم أحد مثلها (٧)، وفي يوم بدر مثلها (٨). فقد أصَبتم مِثْلَيْ ما أصابكم، وقتلوا منكم في يوم أُحُد، وقتلتم منهم في يومين. وهذا اختيار الزجّاج (٩).
والأول أصح؛ لأن الكفار يوم بدر، نالوا مِنَ المسلمين -أيضًا- (١٠)؛ بقتل بعضهم (١١).
(١) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨١٠.
(٢) قوله في المصدرين السابقين.
(٣) قوله في المصدرين السابقين.
(٤) قوله في المصدرين السابقين.
(٥) قوله في المصدرين السابقين.
وانظر: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٧١، و"عيون الأثر" ١/ ٤٣٢، ٢/ ٤٧ - ٤٨، و"فتح الباري" ٧/ ٣٠٧، كتاب المغازي. باب ١٠ رقم الحديث: (٣٩٨٦).
قال ابن حجر: (واتفق أهل العلم بالتفسير على أن المخاطبين بذلك أهل أحُد، وأنَّ المراد بـ ﴿أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ يوم بدر، وعلى أن عدة من استشهد من المسلمين بأحد سبعون نفسًا). "الفتح" ٧/ ٣٠٧ وقد عدَّه الطبري إجماعًا. انظر "تفسيره" ٤/ ١٦٤.
(٦) لم أقف على من قال بهذا القول. إلا ما ورد عن الزجاج كما سيأتي.
(٧) حيث قتل من الكفار يوم أحد ثلاثة وعشرون رجلًا. انظر: "عيون الأثر" ٢/ ٤٨.
(٨) (وفي يوم بدر مثلها): ساقط من (ج).
حيث قَتَلَ المسلمون من الكفار سبعينَ -كما سبق-، ولا مَدْخَلَ للأسرى -هنا- على هذا القول؛ لأنهم قد تم فداؤهم، فلا تتم المماثلة بهم.
(٩) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٨.
(١٠) في (ب): (تعبا).
(١١) في (أ): (بعضُهم) برفع الضاد. وفي (ب)، (ج): مهملة. والصواب ما أثبت. واستشهد من المسلمين في بدر: أربعة عشر رجلًا؛ ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. انظر: "عيون الآثر" ١/ ٤٣٢.
152
وقوله تعالى: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾.
جواب الاستفهام. ومعناه: قلتم: مِنْ أينَ أصابَنَا هذا القتلُ والهزيمة، وقد تقدم الوَعْدُ بالنُّصْرَةِ، ونحن مسلمون، ورسول الله فينا، والوحي ينزل عليه [فينا] (١)؟.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾.
فيه ثلاثة أوْجُه:
أحدهما -وهو قول أكثر أهل التأويل-: أن (٢) معناه: أنّكم تركتم ما أمِرْتُم به، وطلبتم الغنيمةَ وتركتم مراكزكم، فَمِنْ قِبَلِكُمْ جاء الشَّرُّ. وهذا قول: الكلبي (٣)، وعطاء (٤)، واختيار: الفرّاء (٥)، والزجّاج (٦).
وعلى هذا القول: أضاف إليهم المعصيةَ والهزيمةَ، وإنْ كانت مخلوقة لله -تعالى- مُرَادةً، لأن المعصيةَ تضاف إلى العاصي من حيث المباشرة والكَسْب (٧).
(١) ما بين المعقوفين مطموس في (أ)، والمثبت من (ب)، (ج).
(٢) (أن): ساقطة من (ج).
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) لم أقف على مصدر قوله. وقد يكون قوله هو قول ابن عباس الذي أورده ابن الجوزي في: "الزاد" ١/ ٤٩٦؛ حيث إن أغلب أقوال عطاء التي يوردها المؤلف هي روايته عن ابن عباس.
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٤٦، وقد نقل المؤلف هذا القول عنه بنصه، وهو من قوله (تركتم ما أمرتم) إلى (.. جاء الشر).
(٦) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٨. وهو قول مقاتل في "تفسيره" ١/ ٣١١، وأبي الليث في "بحر العلوم" ١/ ٣١٣.
(٧) (الكسب هو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع، أو خير، كما قال تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦]. "مجموع فتاوى ابن تيمية" ٨/ ٣٨٧ =
153
والثاني: أن معنى قوله: ﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾؛ أي: بخرُوجِكُم مِنَ المدينة، وخلافكم على رسولكم؛ وذلك أنه دعاهم إلى التَحَصُّنِ بالمدينة، وكان (١) قد رأى في المنام أنَّ عليه درْعًا حَصِينَةً، فأوَّلَها: المدينة. فقالوا: كنا نَمْتَنِع في الجاهلية، ونحن اليوم أحقُّ بالامتناع، فأكرهوا رسولَ الله على الخروج. وهذا قول: قتادة (٢)، والربيع (٣)، وابن عباس -في رواية عطاء- (٤)؛ لأنه قال: يريد: حيث اختلفوا على النبي - ﷺ - (٥).
الوجه الثالث (٦): ما روي عن علي - رضي الله عنه -، أنه قال: جاء جبريلُ إلى النبي - ﷺ -، يوم بَدْر، فقال (٧): يا محمدُ: إنَّ الله -تعالى- قد كَرِهَ ما صَنَعَ
= وانظر:"شرح العقيدة الطحاوية" ص ٤٤٨.
وقد نقل السفاريني بعض اصطلاحات المتكلمين حول الكسب، فقال: (الكسب في اصطلاح المتكلمين: ما وقع من الفاعل مقارنًا لقدرة محدثة واختيار، وقيل: هو ما وجد بقدرة محدثة في المكتسب.
وقال العلَّامَةُ ابنُ حمدان -من علمائنا-: الكسب هو ما خلقه الله في محل قدرة المكتسب على وفق إرادته في كسبه..). "لوامع الأنوار" ١/ ٢٩١. وانظر ما بعدها. وانظر للتوسع في موضوع الكسب: "شفاء العليل" ١٢١ وما بعدها، و"شرح العقيدة الطحاوية" ص ٤٣٨ وما بعدها، و"المعتزلة وأصولهم الخمسة" ١٦٩ - ١٨٤، و"أفعال العباد في القرآن الكريم" لعبد العزيز المجذوب ٣٢٥ وما بعدها، و"الكليات"، لأبي البقاء ١٦١.
(١) (وكان): ساقطة من (ج).
(٢) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٤، و"زاد المسير" ١/ ٤٩٦، و"الدر المنثور" ٢/ ١٦٦، وزاد السيوطي نسبته إلى عبد بن حميد.
(٣) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٥، و"زاد المسير" ١/ ٤٩٦.
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) انظر ما سبق عند تفسير الآية: ١٥٢ ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾.
(٦) في (ج): (الثاني).
(٧) في (ج): (وقال).
154
قومُكَ في أخذهم الفداءَ من الأُسارى، وقد أمرك أن تُخَيِّرَهم بين أن يُقَدِّمُوا الأُسارى فَيَضْرِبُوا أعناقَهم، وبين أن يأخذوا الفداء، على أن يُقْتَلَ منهم عِدَّتُهُم. فَذَكَرَ ذلك رسولُ الله - ﷺ - لقَومِهِ، فقالوا: يا رسول الله: عشائرُنا وإخواننا، لا؛ بل نأخذ فِدَاهم (١)، فنقوى (٢) به على قتال العدوِّ، ويُستشهد منّا بعددهم (٣).
فقُتِلَ منهم يوم أحد سبعون رجلًا، عدد (٤) أُسارى أهلِ بَدْر. فهو معنى قوله: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾؛ أي: بأخْذِكُم الفداء، واختياركم القَتْلَ (٥).
(١) هكذا جاءت في: (أ)، (ب)، (ج). على التخفيف. والأصل فيها أن تكون: (فداءهم). كما هي في "تفسير الطبري". وقد وردت في بعض ألفاظ الحديث: (.. بل نفاديهم)، ووردت: (قالوا الفداء).
(٢) هكذا في: (أ)، (ب)، (ج). وجاءت في المصادر التالية: (فنتقوّى).
(٣) الحديث أخرجه: الترمذي في "السنن" رقم (١٥٦٧. كتاب السير. باب ١٨ (ما جاء في قتل الأسارى والفداء) وقال الترمذي: (حديث حسن غريب)، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ١/ ١٦٦، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٤٤ أ، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ١٢٩، وابن كثير في "تفسيره" ١/ ٤٥٩ وزاد نسبة إخراجه للنسائي، ولم أهتد إليه في (سننه) المطبوعة.
وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٣٦٨ وزاد نسبة إخراجه لابن أبي شيبة، وابن مردوية.
(٤) في (ج): (بعدد).
(٥) قال الشوكاني -بعد إيراده لهذا الأثر عن علي - رضي الله عنه -: (ولكنه يشكل على حديث التخيير السابق؛ ما نزل من المعاتبة منه سبحانه وتعالى لمن أخذ الفداء، بقوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧]، وما رُوي من بكائه - ﷺ -، هو وأبو بكر؛ ندمًا على أخذ الفداء. ولو كان أخذ ذلك بعد التخيير لهم من الله -سبحانه-، لم يعاتبهم عليه، ولا حصل ما حصل من النبي - ﷺ -، ومن معه من الندم والحزن، ولا صوَّب النبي - ﷺ - رأي عمر - رضي الله عنه -، حيث أشار بقتل الأسرى، وقال ما معناه: لو نزلت عقوبة لم ينج منها إلا عمر). "فتح القدير" ١/ ٥٩٨ - ٥٩٩.
155
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يعنى: مِنَ النَّصْرِ؛ مع طاعتكم النبي - ﷺ -، وترك النصر؛ مع مخالفتكم ما أُمرتم به. وقال ابن عباس (١): يريد: على نَصرِكُم، وعلى اتِّخاذِ الشهداءِ منكم، وتعجيلِ أوليائهِ إلى الجَنَّةِ، قديرٌ.
١٦٦ - قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ دَخَلَتْ الفاءُ في ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (٢)؛ لأن خبر (ما) التي بمعنى (الذي)، يشبه جواب الجزاء؛ مِنْ جهة أنه مُعَلَّقٌ (٣) بالفعل الذي في الصِّلَةِ، كتعلُّقِهِ بالفعل الذي في الشَّرْط. وقد شرحنا هذه المسألة عند قوله: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٥٨].
ومعنى قوله: ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾: قيل: بِعِلْمِ الله (٤). وقال ابن عباس (٥): يريد: فبقضاء الله. وهذا أوْلَى؛ لأن الآية تَسْلِيَةٌ للمؤمنينَ مما أصابهم (٦)، ولا تَقَعُ التسليةُ إذا كان واقعًا بِعِلْمِهِ، وإنما تقع؛ إذا كان واقعًا بقضاء الله وقدره، فحينئذٍ يرضون بما قضى عليهم. وفي هذا دليلٌ على أن الكائنات كلَّها تقع على ما قضاه الله في الأزَلِ.
وقوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
١٦٧ - ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ أي: لِيظْهرَ إيمان [المؤمنين] (٧)،
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) في (ج): (بإذن).
(٣) في (ج): (متعلق).
(٤) ممن قال ذلك الزجاج، في "معاني القرآن" ١/ ٤٨٨.
(٥) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده ابن الجوزي في: "زاد المسير" ١/ ٤٩٧.
(٦) في (أ): (أصابكم). والمثبت من: (ب)، (ج).
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
156
بِثُبُوتِهِمْ (١) على ما نالَهم، ويظْهرَ نفاق المنافقين، بِفَشَلِهم، وقِلَّةِ صبرِهِمْ على ما ينزلُ بهم.
وقد مضت نظائرُ لهذه الآية، وذكرنا معنى عِلْمِهِ فيما لا يزال، مع سبقِ عِلْمِهِ بالكائنات فيما لم يزل (٢).
وقوله تعالى: ﴿نَافَقُواْ﴾.
يقال: (نافق الرجلُ)، فـ (هو منافقٌ): إذا أظهر كلمةَ الإيمانِ، وأضْمَرَ (٣) خِلاَفَهَا. و (النِّفَاق): اسمٌ إسْلامِيٌّ (٤).
واختلفوا في اشتقاقه:
(١) في (ب): (ثبوتهم).
(٢) انظر: "تفسير البسيط"، عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ [البقرة: ١٤٣]، وانظر تفسير قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران: ١٤٠]، وتفسير: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا﴾ [آل عمران: ١٤٢].
(٣) في (ج): (وأظهر).
(٤) يعني أن (النفاق) اصطلاح جاءت به الشريعة الإسلامية، ولم يكن معروفًا من قبل، وإن كان أصله في اللغةِ معروفًا. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٥٠٨ (نفق)، و"المزهر" ١/ ٣٠١.
وقد ذكر د. عودة أبو عودة في كتابه "التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن" ٢٦٦ أن (النفاق) بمعنى التَّلَوُّنِ والمخادعة قد عرف في الجاهلية، واستدل ببيت شعرٍ منسوب إلى طرفة، وهو:
وأما رِجَالٌ نافَقُوا في إخائِهِم ولستُ إذا أحبَبْتُ حُرًّا أنَافِقُه
ويفيد د. عودة أنَّ هذا البيت لم تتأكد نسبتُه لطرفة، كما يفيد شارح ديوانه، وإنْ ثَبَتَ فيدل على استخدام مصطلح (النفاق) في الجاهلية، ولكن لا على سبيل الشيوع والانتشار، ولا ينفي ذلك إسلامية هذا المصطلح.
157
قال أبو عبيد (١): يقال (نافق اليَرْبُوعُ) (٢)، و (نَفَقَ) (٣). وَ (نَافِقاءُ اليربوع): أحَدُ جُحْرَيْهِ. وله جُحْرٌ آخر يقال له: (القاصِعَاء)، فإذا طُلِبَ مِنَ النافقاء، خرج (٤) من القاصعاء، وإذا طُلِبَ مِنَ القاصعاء، خَرَجَ (٥) مِنَ النافقاء، فقيل للمنافق: (مُنافِقٌ)، لأن يخرجُ مِنَ الإسلامِ مِنْ غير الوجه الذي دَخَلَ فيه؛ وذلك أنه دَخَلَ عَلاَنِيَةً وخرج سِرًّا.
وَحَكَى ابنُ الأنباري (٦) عن بعضهم: أن المنافقَ مِنَ (النَّفَق)، وهو: السَّرَبُ. ومعناه: أنَّه يَتَستَّرُ بالإسلام، كما يتستر (٧) الرجلُ في السَّرَبِ.
وقال قوم (٨): هو مأخوذ من (النافقاء)، على غير الوجه الذي ذكره أبو عبيد، وهو: أن [النافقاء] (٩) جُحْرٌ يَحْفِرُه اليَّرْبُوعُ مِن داخلِ الأرض، فإذا بَلَغَ إلى جِلْدَةِ (١٠) الأرض، رَقَّقَ التُّرَابَ، ولم يُتِم الحَفْرَ، حتى إذا رَابَهُ
(١) في "غريب الحديث" له ١/ ٣٨٢. نقله عنه بتصرف.
(٢) اليَرْبُوع: حيوان صغير على هيئة الجُرَذِ الصغير، وله ذنب طويل ينتهي بِخُصْلة من الشعر، وهو قصير اليدين، طويل الرجلين. والجمع: يَرَابيع. انظر (ربع) في: "الصحاح" ٢/ ١٢١٥، و"المعجم الوسيط" ١/ ٣٢٥.
(٣) يقال: (نَفَقَ، ونفَّق، وانتفق). انظر: "اللسان" ٨/ ٤٥٠٧ (نفق).
(٤) في (ب): أخرج. وفي "غريب الحديث" قَصَّعَ فخرج من القاصعاء.
(٥) في (ب): (أخرج).
(٦) في "الزاهر": ١/ ٢٣٠. نقله عنه بتصرف.
(٧) (بالإسلام كما يتستر): ساقط من (ج).
(٨) ذكر هذا ابن الأنباري في: "الزاهر" ١/ ٢٣٠ ونقله عنه المؤلف بتصرف. وقائل هذا القول هو ابن الأعرابي، وقد نقل معنى قوله هذا الأزهري، في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٣٥ (نفق).
(٩) ما بين المعقوفين في (أ) (النا)، والمثبت من: (ب)، (ج)، ومصادر القول.
(١٠) في (ج): (جلد).
158
رَيْبٌ، دفَعَ الترابَ بِرَأسِهِ، فَخَرَجَ.
فقيل للمنافق: منافقٌ؛ لأنه يُضمر غير ما يُظهر؛ بمنزلة النافقاء، ظاهِرُهُ (١) غير بَيِّن، وباطِنُه محفور في الأرض.
قال ابن عباس (٢): ويريد (٣) بـ ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾: عبد الله بن أُبَي وأصحابه.
وقوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
قال السدّيُّ (٤)، ومحمدُ بن إسحاق (٥): هذا حين انصرف عبد الله بن أُبَي، قبل أن يبلغ أُحُد، بثلاثمائة مِنْ جُمْلَةِ الأَلْفِ الذين خرج بهم رسولُ الله - ﷺ -، فقال لهم عبد الله بن عَمْرِو بن حرام -أبو جابر بن عبد الله- (٦): أذَكِّرُكُم اللهَ أنْ تَخْذلوا نبيَّكم وقومَكم، عندما حضر (٧) عَدُوُّهُم (٨)! ودعاهم إلى القتال في سبيل الله، فذلك قوله: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾، يعنى: قولَ عبد الله بن عمرو: تَعَالوا قاتلوا في سبيل الله.
(١) (ظاهره): ساقط من (ج).
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) في (ج): (يريد) بدون واو.
(٤) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٨.
(٥) قوله في: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٧١ - ٨٢، والمصدر السابق: ٤/ ١٦٧ - ١٦٨.
(٦) الأنصاري. الصحابي الجليل، شهد العقبة وكان نقيبًا، وشهد بدرًا، واستشهد في أحد، وصلى عليه النبي - ﷺ -. انظر: "الاستيعاب" ٣/ ٢٦ (١٦٣٣)، و"الإصابة" ٢/ ٣٥٠ (٤٨٣٨).
(٧) في (ب): (خبر).
(٨) في (ج): (عدوكم).
انظر خبر انصراف ابن أبَيّ بمن معه في: "المغازي" للواقدي ١/ ٢١٩، ٣٢٥، و"الطبقات الكبرى" ٢/ ٣٩، و"تاريخ الطبري" ٢/ ٥٠٤، و"حدائق الأنوار" ٢/ ٥٢١.
159
وقوله تعالى: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾.
قال السدّي (١)، وابنُ جُرَيْج (٢): ادفعوا عنّا العدُوَّ (٣)، بِتَكثير (٤) سَوَادِنَا، إنْ لمْ تُقَاتِلُوا معنا. وهذا اختيار الفرّاء، لأنه قال (٥): لأنهم إذا كثروا دفعوا القومَ عنهم بكثرتهم.
وقال جماعةٌ من المفسرين (٦): معناه: أو ادفعوا عن أهلكم وبلدكم وحرِيمكم. يعنى: إنْ لم تقاتلوا في سبيل الله، لأجلِ ديِنِهِ (٧)، فقاتِلُوا للدَّفْع عن الأهل والمال. يقول: فافعلوا هذا، أو ذلك.
وقوله تعالى: ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾.
هذا جواب المنافقيِن لعبد الله بن عَمرو بن حَرَام.
قال محمد بن إسحاق (٨): لَمَّا قال لهم عبد الله ما قال، قالوا: لو
(١) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٨، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤٤ب، و"زاد المسير" لابن الجوزي ١/ ٤٩٧.
(٢) قوله في المصادر السابقة.
وزاد ابن الجوزي نسبة هذا القول لابن عباس، والحسن، وعكرمة، والضحاك، وهو قول ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" ص ١٠٨، والنحاس في: "معاني القرآن": ١/ ٥٠٨.
(٣) في (ج): (العذاب).
(٤) في (ج): (وبتكثير).
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٤٦. نقله عنه بتصرف.
(٦) منهم مقاتل في: "تفسيره" ١/ ٣١٢، ونسبه ابن الجوزي لابن عباس، من رواية أبي صالح عنه. انظر: "زاد المسير" ١/ ٤٩٨، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٤٧٤، والقرطبي ٤/ ٢٦٦.
(٧) في (ج): (دينكم).
(٨) قوله، في: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٨٢. نقله عنه بتصرف.
160
ونعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكِنَّا لا نَرَى أنْ يكون قتال؛ يعنون: لا يكون اليوم قتالٌ؛ ولو نعلم أنه يكون لاتَّبعناكم؛ وأرادوا: أن انصرافنا؛ لِعِلْمِنَا بِأَنَّ (١) الفريقين لا يقْتَتِلان. ونافقوا بهذا القول؛ لأنه كان في قلوبهم خلاف ما تكلموا به.
قالَ الله تعالى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ يريد: أنَّهم [بما] (٢) أظهروا من خذلان المؤمنين عند الحرب، صاروا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان؛ وذلك (٣) أنهم قبل هذا، كانوا -بظاهر حالهم- أقرب إلى الإيمان، حتى هتكوا أنفسَهم عند مَنْ تخفى عليه حالُهم مِنَ المؤمنين، الذين كانوا يحسنون الظنَّ بهم. وفي هذا دليلٌ على أنَّ مَنْ أتَى بكلمة التوحيد لم يكفر، ولم يُطْلَق القولُ بتكفيره؛ لأن الله تعالى لم يُطْلق القول بتكفيرهم، مع أنهم كانوا كافرين؛ لإظهارهم القولَ بـ (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
وقوله تعالى (٤): ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ قال المفسِّرون (٥): يعنى: بإظهار الإيمانِ وإضمار الكفر.
وقال بعضهم (٦): يعنى (٧) قولَهم: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾، ولو
(١) في (ج): (أن).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ)، (ب). والمثبت من (ج).
(٣) من قوله: (وذلك..) إلى (.. إلى الإيمان): ساقط من (ج).
(٤) (وقيل): بدلًا من: (وقوله تعالى).
(٥) لم أقف على من قال بهذا القول. وقد أورده الماوردي في "النكت والعيون" ١/ ٤٣٥.
(٦) ممن قال ذلك الطبريُّ في "تفسيره" ٤/ ١٦٩.
(٧) في (ب) وردت هنا عبارة وهي: (إظهار الإيمان). وهي زيادة لا وجه لها.
161
عَلِمُوا ما اتَّبعوهم.
وذِكْرُ الأفواه -ههنا- زيادة للتوْكيد (١)، لأن القولَ قد يضاف إلى الإنسان، إذا كَتَبَ أو أشار به.
فأعْلَمَ اللهُ أنهم يقولون بألسنتهم؛ لِيُفَرِّقَ بين قول (٢) اللسان وقول الكتابة (٣).
١٦٨ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾.
في محل ﴿الَّذِينَ﴾ ثلاثةُ أوْجُهٍ:
أحدها: النصب على البدل من ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ (٤).
و (٥) الثاني: الرفع على البدلِ من الضمير في ﴿يَكْتُمُونَ﴾ (٦).
الثالث: الرفع على خبر الابتداء، بتقدير: (هم الذين) (٧).
(١) في (ب): (للتأكيد).
(٢) قول: ساقط من (ج).
(٣) وذكر الماوردي فائدة للتقييد -هنا- بـ (أفواههم)، وهي: أنه (رُبما نُسِب القولُ للساكت مجازًا؛ إذا كان به راضيًا). "النكت" ١/ ٤٣٦.
وقال الزمخشريُّ: (وذكر الأفواه مع القلوب؛ تصوير لنفاقهم، وأن إيمانهم موجود في أفواههم، معدوم في قلوبهم). "الكشاف": ١/ ٤٧٨.
وقال السمين الحلبي -معلقًا على قول الزمخشري-: (وبهذا الذي قاله الزمخشري، ينتفي كونه للتأكيد؛ لتحصيله هذه الفائدة). "الدر المصون" ٣/ ٧٨.
(٤) وهناك وجهان آخران للنصب، هما: النصب على الذمِّ؛ إي: أذم الذين قالوا.. ؛ أو بإضمار (أعني)، أو النصب على الصفة ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾.
(٥) الواو زيادة من (ج).
(٦) في (ج): (بلتون).
(٧) وهناك وجه ثالث، للرفع، وهو: أنه مبتدأ. والخبر: ﴿قُلْ فَادْرَءُوا﴾. على تقدير: قل لهم فادرءوا.
162
والمراد بـ ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾: عبد الله بن أُبَيّ، وأصحابه (١).
وقوله: ﴿لِإِخْوَانِهِمْ﴾، أكثر المفَسِّرينَ (٢) على أنَّ المرادَ بِهِ شهداءُ أُحُد، قالوا فيهم: لو أطاعونا في القعود بالمدينة، والانصراف عن رسول الله - ﷺ -، بعد الخروج، ما قُتِلوا. وعلى هذا؛ المراد بـ (الأخُوَّةِ) -ههُنا-: أخُوَّةُ النَّسَبِ، لا أخوَّةُ الدِّين (٣).
أو نقول: يجوز هذا في إطلاق اللفظ، من حيث إنهم كانوا يظهرون المَوَدّةَ والمؤاخَاةَ للمؤمنين.
فالمراد (٤) بقوله: ﴿قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ (٥): قالوا في إخوانهم الذين قُتِلوا،
= ويجوز -كذلك- الجرُّ في موضع ﴿الَّذِينَ﴾، إما على أنه بدل من الضمير في ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾، أو من الضمير في ﴿قُلُوبِهِمْ﴾.
انظر هذه الوجوه في: "إعراب القرآن" للنحاس ٣٧٧، و"مشكل إعراب القرآن"، لمكي ١/ ١٧٨، و"البيان" للأنباري ١/ ٢٣٠ - ٢٣١، و"التبيان" للعكبري ص ٢١٩، و"الفريد في إعراب القرآن المجيد" ١/ ٦٥٨، و"الدر المصون" ٣/ ٤٧٩.
(١) هذا قول: جابر بن عبد الله، وابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن جريج، والربيع، ومقاتل، والماوردي.
انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٣١٢، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٦٩ - ١٧٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨١١، و"زاد المسير" ١/ ٤٩٨، و"الدر المنثور" ٢/ ١٦٧.
(٢) منهم: مقاتل، وابن إسحاق، والطبري، والثعلبي.
انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٣١٢، و"سيرة ابن هشام" ٣/ ٧٢، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٦٩، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤٤ ب.
(٣) قال مقاتل: (كقوله سبحانه: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ [هود: ٦١]، ليس بأخِيهم في الدين ولا في الولاية، ولكن آخوهم في النسب والقرابة). "تفسيره" ١/ ٣١٣.
(٤) في (ج): (والمراد).
(٥) (قالوا): ساقطة من (ج).
163
لَوْ أطاعونا؛ لأنهم بعد أن قُتِلوا لا يخاطَبُون. ومثل هذا، قولُه: ﴿لَا (١) تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [آل عمران: ١٥٦] الآية. وقال الكلبي (٢): ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾، (٣)؛ يعني: من (٤) المنافقين (٥).
وعلى هذا التفسير: لا إشكال؛ فإن أصحابَ عبد الله بن أُبَي قالوا لقرنائهم مَنَ المنافقين: لو أطاعنا (٦) هؤلاء -الذين خرجوا مع محمد- في القعود؛ ما قُتِلوا.
وقوله تعالى: ﴿وَقَعَدُوا﴾ يعني: المنافقين، قعدوا عن الجهاد. والواو للحال (٧).
﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾؛ يعنون: شهداء أُحُد. ﴿مَا قتلُوا﴾.
فَرَدَّ الله عليهم، وقال: قل لهم يا محمد: ﴿فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾ إنْ صَدَقْتُم أنَّ الحَذَرَ ينفع مِنَ القَدَرِ.
(١) في (أ)، (ب)، (ج): (ولا). والمثبت من رسم المصحف.
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٤) (من): ساقطة من (ج).
(٥) ممن قال بهذا: ابن عباس، كما في "زاد المسير" ١/ ٤٩٨، وإليه ذهب أبو الليث في "بحر العلوم" ١/ ٣١٤.
(٦) في (ج): (أطاعونا).
(٧) قال السمين الحلبي: (و (قد) مرادة؛ أي: (وقد قعدوا). ومجيء الماضي حالًا بالواو و (قد)، أو بأحدهما، أو بدونهما، ثابت من لسان العرب)، ثم ذكر وجهًا آخر لإعراب جملة ﴿وَقَعَدُوا﴾ وهي أنها معطوفة على ﴿قَالُوا﴾، فتكون جملة اعتراضية بين ﴿قَالُوا﴾ ومعمولها ﴿أَطَاعُونَا﴾. "الدر المصون" ٣/ ٤٨٠.
164
وفي هذا دليل على أن المقتول يُقْتَلُ بِأَجَلِهِ، وأنَّ (١) المُنَافِقِينَ كَذَبُوا في أنَّهم لو قعدوا ما قُتِلُوا.
ومعنى (الدَرْء) -في اللغة-: الدَفْعُ. ومنه قوله: ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ﴾ [النور: ٨] أي: يدفع (٢) وقوله - ﷺ -: "ادرَءُوا الحُدُودَ بالشُّبُهاتِ" (٣).
(١) في (ج): (فإن).
(٢) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٠٨، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٦٩.
(٣) الحديث من الأحاديث المشهورة، وقد أورده السيوطي في "جمع الجوامع" ١/ ٢٨٤ رقم (٨٧٤) (٨٧٥)، وفي "الجامع الصغير" انظر: "فيض القدير" ١/ ٢٩٣ (٣١٤) ونسب إخراجه إلى ابن عدي في جزء له من حديث أهل مصر والجزيرة، من رواية ابن لهيعة عن ابن عباس، ونسب إخراجه كذلك إلى أبي سعد، عبد الكريم السمعاني، في "ذيل تاريخ بغداد"، بسنده عن عمر بن عبد العزيز، عن النبي - ﷺ -، مُرسلاً، ونسبه -كذلك- لأبي مسلم الكجِّي في سننه، عن عمر بن عبد العزيز مرسلًا.
وأورده الزركشي في: "المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر" ٣٦ رقم (٧٦)، وابن حجر في "التلخيص الحبير" ٤/ ٥٦ رقم (١٧٥٥)، والسخاوي في "المقاصد الحسنة" ٥٠ رقم (٤٦) ونسبوا إخراجه للحارثيِّ، في "مسند أبي حنيفة" له، بسنده عن مِقْسم، عن ابن عباس، مرفوعًا.
ونقل المُناوي -في "فيض القدير"- قولَ الحافظ ابن حجر، عن رواية ابن عدي: (إن كان بين ابن عدي وابن لهيعة مقبولٌ، فهو حسن).
وقال الزركشي عن رواية أبي مسلم الكجي: إنها معضلة. ونقل السخاوي عن شيخه ابن حجر، أن في سنده من لا يعرف. وضعفه الألباني في: ضعيف "الجامع الصغير" ١/ ١١٧ رقم (٢٥٨).
وقد ورد الأثر موقوفًا على ابن مسعود من رواية سفيان الثوري، عن عصام، عن أبي وائل عنه، وكذا رواه مسدد في مسنده موقوفًا عليه، بلفظ: (ادرءوا الحدود بالشبهة). وقال عنه ابن حجر: (وهو موقوف حسن الإسناد). انظر: "فيض القدير": ١/ ٢٩٤. =
165
١٦٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا﴾.
أكثر أهل التفسير على أن هذه الآية نزلت في شهداء أحد (١).
= وورد بلفظ: (ادرءوا الحدودَ عن المسلمين ما استطعتم..) أخرجه -من رواية يزيد بن زياد الدمشقي عن الزهري عن عروة عائشة-:
الترمذيُّ في "السنن" رقم (١٤٢٤) كتاب الحدود. باب: (ما جاء في درء الحدود)، وصحح الترمذيُّ وقفَهُ على عائشة، من رواية وكيع عن يزيد بن زياد، وقال: (وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي - ﷺ -، أنهم قالوا مثل ذلك، ويزيد بن زياد الدمشقي ضعيف في الحديث).
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ٤/ ٣٨٤. وحكم عليه بالصحة. وتعقبه الذهبيُّ بأن فيه يزيد بن زياد، شامي متروك.
وأخرجه الدارقطني في "السنن" ٣/ ٨٤، والبيهقي في "السنن" ٨/ ٢٣٨، والخطيب في "تاريخ بغداد" ٥/ ٣٣١، والديلمي في "مسند الفردوس" ٨٢ رقم (٢٥٦).
وورد عن علي، بلفظ: (ادرءوا الحدود..)، أخرجه الدارقطني في: "السنن": ٣/ ٨٤، والبيهقي في "السنن" ٨/ ٢٣٨ وفيه المختار بن نافع منكر الحديث.
وورد عن أبي هريرة، بلفظ: (ادرءوا الحدود ما استطعتم..) أخرجه: أبو يعلى في: مسنده. انظر: "نصب الراقي" للزيلعي ٣/ ٣٠٩، و"الدراية" لابن حجر ٢/ ٩٥. قال الغماري: (وفيه إبراهيم بن الفضل، ضعيف). "الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج" للغماري ٢٥٦.
وانظر في الكلام على هذا الحديث بألفاظه المختلفة -إضافة إلى ما ورد من مصادر-: "كشف الخفاء"، للعجلوني ١/ ٧٣ رقم ١٦٦.
(١) ممن قال ذلك: ابن عباس، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وقتادة، وسعيد بن جبير، والضحاك، وأبو الضحى، والربيع.
انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٧٠ - ١٧٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨١٢ - ٨١٣؛ و"زاد المسير" ١/ ٤٩٩، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٦٨ - ٢٦٩، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٦٠ - ٤٦٣.
وقيل: نزلت في شهداء بدر. وهو قول مقاتل في "تفسيره" ١/ ٣١٣.
وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة. روى ذلك عكرمة عن إسحاق بن أبي طلحة عن =
166
روى ابن عباس عن النبي - ﷺ -، قال: "لَمَّا أُصِيبَ إخْوانكم يومَ أُحُد، جَعَلَ اللهُ أرواحَهم في أجواف طَيْر خُضرٍ، تَرِدُ أنهارَ الجَنَّة، وتأكل مِنْ ثمارِها، وتَسْرَحُ مِنَ الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فَلَمَّا رأوا طِيبَ مَقِيلِهم (١) ومطعمهم ومشربهم، قالوا: يا ليت قومنا يعلمون مما نحن فيه من النعيم، وما صنع الله عز وجل بنا؛ كي يرغبوا في الجهاد، وقال الله عز وجل: أنا مخْبِرٌ عنكم، ومُبَلغ إخوانكم، فَفَرحوا بذلك واستبشروا؛ فأنزل الله هذه الآية" (٢).
= أنس بن مالك. انظر: "سيرة ابن هشام" ٣/ ١٨٤ - ١٨٧، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٧٣، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤٦ أ، و"أسباب النزول"، للواحدي ص ١٣٤، و"زاد المسير" ١/ ٥٠٠، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٦٩.
وقيل: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور، تحسروا على الشهداء
وقالوا: نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور. فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ تنفيسًا عنهم، وإخبارًا عن حال قتلاهم. ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٤٧ ب، والواحدي في "أسباب النزول" ص ١٣٤ ولم يعزواه لقائل. وانظر الروايات في أسبابها في: "الدر المنثور" ٢/ ١٦٩، و"فتح القدير" ١/ ٦٠٠ - ٦٠١، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٦٣.
(١) المقيل: هو النوم وقت القائلة، وهو: نصف النهار. يقال: (قال قَيْلا، وقائلة، وقَيْلُولة، ومَقَالا، ومَقِيلا) انظر: "القاموس" ١٣٥٩ (قيل).
(٢) الحديث، أخرجه: أبو داود في "السنن" رقم (٢٥٢٠) كتاب الجهاد. باب فضل الشهادة، وأحمد في "المسند" (شرح الشيخ شاكر) ٤/ ١٢٣، ١٢٤رقم (٢٣٨٨، ٢٣٨٩)، وهنّاد بن السري في "الزهد" ١/ ٢٣٤ رقم (١٥٦)، والطبري في "تفسيره" ٤/ ١٧٠ - ١٧١، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٢٩٧ - ٢٩٨. وقال: (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٤٥ أ، والواحدي في "أساب النزول" ص١٣٢، والبيهقي في "السنن" ٩/ ١٦٣، وأورده التبريزي في "مشكاة المصابيح" ٢/ ١١٣١ رقم (٣٨٥٣)، وابن كثير في "تفسيره" =
167
وقوله تعالى: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾، أي: (بل هم أحياءٌ)، فهو رَفعٌ بالابتداء. وخبره: قوله (١): ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ (٢). قال أبو إسحاق (٣): ولو قُرِئ: (أحياءً) (٤) -بالنصب-، لجاز (٥)، على معنى: بل احسبهم أحياءً (٦).
قال أبو علي الفارسي (٧): لا يجوز ذلك؛ لأنه أَمْرٌ بالشَّكِّ، ولا يجوز أنْ يَأْمُرَ (٨) الله (٩) بالشك، ولا يجوز أن نتأول (١٠) في (الحِسْبَانِ)
= ١/ ٤٢٧ وزاد نسبة إخراجه لسفيان الثوري، وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" (انظر: "صحيح الجامع الصغير" للألباني ٢/ ٩٢٤ رقم (٥٢٠٥) وصححه)، وأورده في "الدر المنثور" ٢/ ١٦٨ وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والبيهقي في "الدلائل".
(١) (قوله): ساقط من (ب).
(٢) فـ ﴿أَحْيَاءٌ﴾ خبر لمبتدأ مقدر هو (هم)، وجملة ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ خبر ثانٍ للمبتدأ المقدر. وقيل: إنها في محل رفع صفة لـ ﴿أَحْيَاءٌ﴾، وقيل في إعرابها غير ذلك. انظر: "الدر المصون": ٣/ ٤٨٣، و"روح المعاني" ٤/ ١٢٢.
(٣) في "معاني القرآن"، له ١/ ٤٨٨. نقله عنه بمعناه.
(٤) في (ج): (أحيا). وهكذا رسمت في (ج) فيما بعدها مما سيأتي منها. وقد قرأها بالنصب ابن أبي عبلة. انظر: "البحر المحيط" ٣/ ١١٣، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤٨ أ، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٤١٧.
(٥) أي: لجاز من الناحية النحوية، لا من ناحية جواز القراءة بها.
(٦) وإليه ذهب الزمخشري في "الكشاف" ١/ ٤٧٩. وهناك توجيه آخر للنصب، وهو: العطف على ﴿أَمْوَاتًا﴾، كما تقول: (ما ظننت زيدًا قائمًا بل قاعدًا). انظر: "التبيان" للعكبري ١/ ٣٠٩.
(٧) في "الإغفال" ١/ ٥٠٩. نقله عنه بمعناه
(٨) في (ج): (يأمرك).
(٩) (لفظ الجلالة): ليس في (ج).
(١٠) ورد في (ب) بعد قوله: (نتأول) عبارة: (هذا أن). وهي زيادة لا وجه لها.
168
معنى العِلْم، على أن يكون معنى (احسبهم أحياء): اعلمهم؛ لأن ذلك لم يذهب إليه [أحدٌ من أهل] (١) اللغة (٢)
واختلفوا في كيفية حياة الشهداء: فالأصح ما ذكرنا عن النبي - ﷺ -، أن أرواحهم في أجواف طير خضر، وأنهم يُرزقون ويأكلون ويتنعمون.
وقال جماعة من أهل العلم (٣): معنى قوله: ﴿أَحْيَاءٌ﴾: أن أرواحهم أُحْضِرَتْ دارَ السَّلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها (٤) إلى يوم البعث.
وقال آخرون (٥): لا تحبسهم أمواتًا في الدين والإيمان؛ بل هم (٦) أحياء، كما قال الله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢]. [وهذا الوجه] (٧) اختيار أبي إسحاق (٨).
(١) ما بين المعقوفين مطموس في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج).
(٢) قال أبو حيان -بعد أن ذكر قول الفارسي-: (وهذا الذي ذكره هو الأكثر، وقد يقع (حسب) لليقين؛ كما تقع (ظن)، لكنه في (ظن) كثير، وفي (حسب) قليل). ثم ذكر شواهد شعرية على ذلك. "البحر المحيط" ٣/ ١١٣، وانظر: "الدر المصون" ٣/ ٤٨٢.
(٣) لم أقف عليهم.
(٤) في (ج): (يشهدها).
(٥) ممن قال ذلك: الأصم البَلْخي، كما في "تفسير الفخر الرازي" ٩/ ٩٥. والأصم، هو: حاتم بن عنوان الأصم، زاهد اشتهر بالورع والتقشف، من أهل بَلْخ، زار بغداد واجتمع بأحمد بن حنبل، توفي ٢٣٧ هـ. انظر: "الأعلام" للزركلي ٢/ ١٥٢. وقد ذكر هذا القول الزجاج في "المعاني" ١/ ٤٨٨، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٤٨ أ، ولم يعزواه لقائل.
(٦) (هم): ساقط من (ج).
(٧) ما بين المعقوفين: مطموس في (أ). وفي (ج): (في هذا). والمثبت من (ب).
(٨) سياق أبي إسحاق لهذا القول لا يدل على اختياره له؛ حيث أورده مصدِّرًا له بقوله. (قال بعضهم:..) ولم يعقب عليه. وأتبعه بأقوال أخر في الآية.
169
وقيل (١): لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش، إلى يوم القيامة، كأرواح الأحياء من المؤمنين الذين باتوا على الوضوء (٢).
وقوله تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ فيه وجهان: أحدهما: بحيث لا يملك لهم أحدٌ نفعًا ولا ضرًّا، إلّا (٣) الله عز وجل.
(١) لم أقف على القائل. وقد أورده الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٤٨ أ، وأورد الأقوال السابقة وغيرها، ولم يعزها لقائل. وانظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ٢٧٠.
(٢) (أ)، (ب): (تابوا على الوضو)، وفي (ج): (ماتوا على الوضو). والمثبت من: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤٨ أ، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٧٠، حيث ورد فيهما هذا القول.
والأثر في هذا المعنى أخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد" ٤٤١ رقم (١٢٤٥) بسنده المتصل من طريق ابن لهيعة (قال: حدثنا عثمان بن نعيم الرعيني، عن أبي عثمان الأصبحي، عن أبي الدرداء، قال: إذا نام الإنسان عرج بروحه حتى يؤتى بها إلى العرش، فإن كان طاهرًا أذن لها بالسجود، وإن كانت جنبًا لم يؤذن لها بالسجود).
وأورد هذا الأثر الحكيمُ الترمذي في "نوادر الأصول" ٢/ ٣٥٦، موقوفًا على أبي الدرداء، ولفظه: (إن النفوس تعرج إلى الله -تعالى- في منامها، فما كان طاهرًا سجد تحت العرش، وما كان غير طاهر تباعد في سجوده، وما كان جنبًا لم يؤذن لها في السجود).
وأورده ابن القيِّم في كتاب "الروح" ٤٤ موقوفًا على أبي الدرداء من طريق ابن لهيعة. وأورد الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" ٢/ ٣٥٥ عن عبد الله بن عمرو؛ قال: (تعرج الأرواح إلى الله -تعالى- في منامها، فما كان طاهرًا يسجد تحت العرش، وما لم يكن طاهرًا يسجد قاصيًا، فلذلك يستحب أن لا ينام الرجل إلا وهو طاهر).
وذكر المعنى الغزاليُّ في "الإحياء" ١/ ٣٤٣ وزاد العراقي في "تخريج الإحياء" نسبته إلى البيهقي في "الشُّعَب" موقوفًا على عبد الله بن عمرو بن العاص.
(٣) في (ج): (لأن).
170
والثاني: هم أحياء عند ربهم؛ أي: في عِلْمِهِ بِعَمَلِهِم، -كذلك- كما تقول: (هذا عند الشافعي كذا)؛ أي: في عِلْمِهِ وقولِه.
وقل (١): معنى ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: أنهم أحياء في دار كرامته، فمعنى (عند): معنى القرب والإكرام، بحضور دار السلام.
١٧٠ - وقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الاستبشار: السرور بالبِشَارَةِ (٢) يُبَشَّرُ بها. وأصل الاستفعال: طَلَبُ الفعل.
فالمستَبْشِر بمنزلة الذي طَلَبَ السُّرُورَ فوجده بالبِشَارَةِ (٣).
وفي هذا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم يفرحون بإخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء، يقولون: إخواننا يُقْتَلُونَ كما قُتِلْنَا، فَيُصِيبونَ مِنْ كَرَامَةِ الله ما أَصبْنَا. وهذا قول:
(١) لم أقف على القائل.
(٢) في (ج): (بمنزلة البشارة). بدلًا من (السرور بالبشارة).
(٣) يرى ابن عطية أن (استفعل) -هنا- ليس بمعنى: طلب البشارة، بل بمعنى الفعل المجرد، مثل: (استغنى الله) أي: غَنيَ.
وقد ورد في اللغة: (بَشِرَ، واستبشر)، بمعنى واحد، وهو: فَرِح.
إلا أن أبا حيان يرى أن هذا المعنى لا يتعين، وأجاز أن يكون (استبشر) فعلًا مطاوعًا لـ (أبشر)؛ أي: أبشره الله، فاستَبْشَر؛ كقولهم: (أكانه الله فاستكان)، و (أراحه فاستراح). واستظهر أبو حيان هذا؛ لأن المطاوعة تدل على الانفعال عن الغير، فحصلت له البشرى بإبشار الله له بذلك، ولا يلزم المعنى إذا كان بمعنى الفعل المجرد لعدم دلالته على المطاوعة.
انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٢١، و"لسان العرب" ١/ ٢٨٧ (بشر)، و"البحر المحيط" ٣/ ١١٥.
171
الحَسَن (١)، وابن جريج (٢)، وقتادة (٣)، واختيار الفرّاء (٤)، فإنَّهُ قال: وَيَسْتَبْشَرُونَ بإخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة، للذي (٥) رَأَوا مِنْ ثواب الله، فهم يستبشرون بهم.
والثاني: يستبشرون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم في الفضل؛ لأنهم لم يُقْتَلُوا في سبيل الله، إلا أنّ لهم فضلًا عظيمًا بتصديقهم النبي [- ﷺ -] (٦)، وإيمانهم بالله، عَلِمُوا ذلك بإعلام الله إيَّاهم، [أن] (٧) أولئك الإخوان الذين خَلَّفُوهم في الدنيا، هم مرحومون عند الله، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فالشهداء يفرحون بذلك ويستبشرون. وهذا القول، اختيار أبي إسحاق (٨).
القول الثالث: ما قاله السُّدِّي (٩): وهو أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٧٤، و" النكت والعيون" ١/ ٤٣٧.
(٣) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٧٤، و"زاد المسير" ١/ ٥٠٢.
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٤٧. نقله عنه بتصرف يسير. وهو -كذلك- قول: الربيع، وابن إسحاق، وابن زيد. أخرجه عنه الطبري وذهب إليه. انظر: "تفسيره" ٤/ ١٧٤ - ١٧٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨١٤ - ٨١٥.
(٥) في (ج): للذين.
(٦) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٩. ونسبه الفخر الرازي -كذلك- لأبي مسلم الأصفهاني. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٩/ ٩٧.
(٩) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٧٥، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨١٤، و "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٤٩أ، و"النكت والعيون" ١/ ٤٣٧، و"زاد المسير" ١/ ٥٠٢.
172
ذِكْرُ (١) مَنْ يَقْدَمُ (٢) عليه من إخوانه، فَيُقَال: يَقدَمُ (٣) عليك فلانٌ يومَ كذا، وفلانٌ يوم كذا، فَيَسْتَبْشِرُ (٤) بهم حين يقدمون عليه، كما يستبشر أهلُ الغائب بقدومه في الدنيا.
وقوله تعالى: ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ (٥) موضع (أنْ): خفض، لأن المعنى: بأنْ لا خوف عليهم. هذا قول الخليل (٦)، والكسائي (٧)، والزجاج (٨).
(١) من قوله: (فيه ذكر..) إلى (.. عليك فلان): ساقط من (ج).
(٢) في (ب): (تقدم).
(٣) في (ب): (تقدم).
(٤) في (ج): (فيستبشرون).
(٥) (ألا): كتب في (أ)، (ب)، (ج): (أن لا). وأثبتُّها وفق رسم المصحف.
(٦) انظر مذهبه في "معاني القرآن"، للزجاج ١/ ٣٠٩ عند تفسير ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ [البقرة: ٢٣].
(٧) انظر مذهبه في "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٤٨، و"معاني القرآن" للزجاج ١/ ٣٠٩.
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٩.
وقد ذكر الزجاج -موضحًا مذهب الكسائي والخليل- عند قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ [البقرة: ٢٣٠]، أن موضع ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ خفض على إسقاط (في)، ومعنى إرادتها في الكلام.. ثم قال: والحذف مع (أن) سائغ؛ فلهذا أجاز الخليل وغيره أن يكون موضع جر على إرادة (في). "المعاني" ١/ ٣٠٩.
وعلى غرار هذا المثال يأتي قوله تعالى: ﴿أَلَّا خَوْفٌ﴾ على إرادة الباء، فتصير: (بأن لا خوف..) كما ذكر المؤلف.
وتعرب -كذلك- بدل اشتمال من (الذين)؛ أي: يستبشرون بعدم خوفهم وحزنهم، لأنه هو المستبشر به في الحقيقة، أما الذوات فلا يستبشر بها.
انظر: "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج ٢/ ٥٨١، و"البحر المحيط" ٣/ ١١٥، و"الدر المصون" ٣/ ٤٨٦.
173
ويجوز أن يكون نصبًا، على أنه لَمَّا حُذف الجارُّ، نُصبَ بالفعل، كما قال:
أمرتك الخيرَ......... (١).
أي: بالخير. وهذا هو القياس (٢). وقد مضت هذه المسألة فيما تقدم.
١٧١ - قوله تعالى: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ﴾ الآية.
(١) مقطع من بيت شعر، وتمامه:
أمَرْتُكَ الخيرَ فافعلْ ما أمِرْتَ به فقد تَرَكْتُك ذا مَالٍ وذا نَشَبِ
وقد اختلف في نسبته، فنسب لعمرو بن معديكرب، ولخُفاف بن نُدْبة، ولزرَعة بن خفاف، وللعباس بن مرداس، ولأعشى طرود. فقد ورد في: "شعر عمرو بن معد يكرب" ٦٣. ونسبته له المصادر التالية: "كتاب سيبويه" ١/ ٣٧، و"الأصول في النحو" ١/ ١٧٨، و"المخصص" ١٤/ ٧١، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٥٥٨، و"شرح شواهد المغني" ٢/ ٧٢٧، و"الخزانة" ٩/ ١٢٤.
وورد في: "شعر خفاف بن ندبة السُّلمي" ١٢٦.
ونسب لزرعة بن خفاف انظر: "خزانة الأدب" ١/ ٣٣٩، ٣٤٢، ٣٤٣.
وورد في "ديوان العباس بن مرداس" ١٣١.
ونسب لأعشى طرود في: "المؤتلف والمختلف" للآمدي ١٧، و"الخزانة" ١/ ٣٤٢، ٣٤٣.
وروايته عند الآمدي: (أمرتك الرُّشْد..) وقال الآمدي: (ويروى: بالسين المهملة)؛ أي: (وذا نسب).
وورد غير منسوب في: "الكامل" للمبرد ١/ ٣٣، و"المقتضب" ٢/ ٣٦، ٨٦؛ ٣٢١، و"اللامات" ١٣٩، و"المحتسب" ١/ ٥١، ٢٧٢، و"الإفصاح" للفارقي ١٢٧، ٢٧٠، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ١٣٣، و"شرح المفصل" ٢/ ٤٤، ٨/ ٥٠، و"البسيط في شرح جمل الزجاجي" ٤٢٦، و"شرح شذور الذهب" ٤٤٣. والنشب: المال الأصيل، المنقول منه والثابت. انظر (نشب) في: "القاموس" ١٣٧، و"المعجم الوسيط" ٩٢٨.
(٢) أو إنها مفعول لأجله، بتقديرِ: لأنهم لا خوف عليهم. انظر: "التبيان" ص ٢٢٠.
يُقرأ: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ بالفتح والكسر (١). فمن فتحها (٢): جعلها خفضًا، على معنى: (وَبِأَنَّ الله)، فـ (أَنَّ) معطوفة على الباء في ﴿بِنِعْمَةٍ﴾؛ والمعنى: يستبشرون بتوفير نِعْمَةِ الله عليهم، ووصول أجرهم إليهم؛ لأنه إذا لم يُضِعْهُ (٣)، وَصَلَ إليهم.
ومَنْ (٤) كَسَرَها: استأنف، وهو يَؤُولُ إلى معنى القراءةِ الأولى؛ لأنه إذا لم يُضِعْهُ وَصَلَ إليهم. والأول أشد إبانة لهذا المعنى.
١٧٢ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ الآية.
[قال المفسرون (٥): لما انصرف أبو سفيان] (٦) وأصحابه من أحد، ندموا على انصرافهم، وتلاوموا فيما بينهم، وقالوا: قتلتموهم حتى إذا [لم يَبْقَ إلا الشَّرِيدَ تركتموهم؟] (٧) ارجعوا فاستأصِلُوهم. فَبَلَغَ ذلك رسول الله - ﷺ -، فأراد أن يرهب العَدُوَّ، ويريهم من نفسه وأصحابه [قُوَّةً؛ فَنَدَبَ] (٨) أصحابَهُ للخروج
(١) قراءة ﴿وَإِنَّ﴾ -بكسر الهمزة- للكسائي. وقرأ الباقون: بفتحها ﴿وَأَنَّ﴾. انظر: كتاب "القطع والائتناف" للنحاس ٢٤٠، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٩٨، و"النشر" ٢/ ٢٤٤، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ١٨٢.
(٢) قوله: (فمن فتحها..) إلى (.. لهذا المعنى): نقله بتصرف واختصار عن "الحجة" للفارسي ٣/ ٩٨ - ٩٩.
(٣) (يضعه): غير واضحة في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج)، و"الحجة".
(٤) من قوله: (ومن..) على (.. وصل إليهم): ساقط من (ج).
(٥) منهم: عكرمة، وابن إسحاق، وقتادة، والسدي، وابن جريج، والحسن. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٧٦ - ١٧٨، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨١٥ - ٨١٧، و"أسباب النزول"، للواحدي: ص ١٧٢ - ١٧٣.
(٦) ما بين المعقوفين: بياض في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٧) ما بين المعقوفين: بياض في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
(٨) ما بين المعقوفين: بياض في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).
175
في طلب أبي سفيان، فانتدب عِصَابَةٌ منهم، مع ما (١) بهم من الجرح الذي أصابهم يوم أحد، فخرج رسول الله - ﷺ - في أصحابه، حتى بلغوا حَمرَاءَ الأسد -وهي مِنَ المدينة على ثمانية أميال (٢) -، وألقى (٣) الله عز وجل الرعبَ في قلوب المشركين، فانهزموا من غير حَرْبٍ، فذلك قولُه: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ (٤).
ومحل ﴿الَّذِينَ﴾: خَفْضٌ، على النعت للمؤمنين (٥). قال الزجّاج (٦): والأحسن أن يكون في موضع رَفْعٍ، على الابتداء، و (٧) يكون خبر الابتداء (٨) ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ على آخر الآية (٩).
و ﴿اسْتَجَابُوا﴾، بمعنى: أجابوا (١٠). وقد مَرَّ (١١).
(١) في (ج): (معما).
(٢) قال ابن سعد في: "الطبقات الكبرى" ٢/ ٤٩: (وهي من المدينة على عشرة أميال، طريق العقيق، متياسرة عن ذي الحُليفة، إذا أخذتها من الوادي).
(٣) في (ج): (فألقى).
(٤) انظر: "المغازي" للواقدي ١/ ٣٣٤ - ٣٤٠، و"سيرة ابن هشام" ٣/ ٧٤ - ٧٥، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد ٢/ ٤٨ - ٤٩، و"تاريخ الطبري" ٢/ ٥٣٤، و"البداية والنهاية" ٤/ ٥٠٤.
(٥) في (ب): (من للمؤمنين).
(٦) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٩، نقله عنه بتصرف.
(٧) (أ)، (ب): (أو). وساقط من (ج). والمثبت من: "معاني القرآن".
(٨) (ويكون خبر الابتداء): ساقط من (ج).
(٩) وفيه وجوه أخرى من الإعراب:
أنه خبر لمبتدأ مضمر، تقديره: (هم الذين)، أو إنه منصوب بإضمار أعني، أو أنه بدل من ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾، أو من ﴿الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾. انظر: "الدر المصون": ٣/ ٤٨٨.
(١٠) في (أ)، (ب): (جابوا). والمثبت من (ج). وهو الصواب؛ لأن (جابوا) لا وجه لها -هنا- لأنها بمعنى: خرقوا. يقال: (جاب الشيء جَوْبا)، و (اجتابه): خرقه. و (جاب يجوب جَوْبا): قطع وخرق انظر: "اللسان" ٢/ ٧١٧ (جوب).
(١١) انظر: تفسير الآية ١٨٦ سورة البقرة.
176
وقوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ﴾ أي: بطاعة رسول الله، وإجابته إلى ما دعاهم إليه، واتَّقَوا معصيتَهُ ومخالفته.
١٧٣ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ الآية.
قال المفسِّرُون: إنَّ أبا سفيان يوم أحد، حين أراد أن ينصرف، قال: يا محمد! موعِدُ ما بيننا وبينك موسمُ بَدْرٍ الصُّغْرَى (١)، لِقابِل، إنْ شِئْتَ.
فقال (٢) رسول الله - ﷺ - (٣)، (ذلك بيننا [وبينك] (٤)، إن شاءَ الله). فَلَمَّا كان العام المقبل، خرج أبو سُفيان في أهل مَكَّةَ، حتى نزل [مَجَنَّة] (٥)، ثم ألقى اللهُ الرُّعْبَ في قَلْبِهِ. فَبَدَا له الرجوع، فلقي نُعَيْمَ بنَ مَسْعُود الأشجَعِي (٦)، فبعثه أبو سفيان، وقال: ثَبِّطْ (٧) عنّا مُحَمَدًا، وخَوِّفْهُ حتى
(١) وتسمى هذه الغزوة -كذلك- بغزوة بدر الثانية، والآخرة، والموعد. و (بدر) هو نفسه المكان الذي وقعت فيه معركة بدر الكبرى، أو الأولى. وقد حدد المشركون هذا المكان للقاء رسول الله - ﷺ -؛ انتقامًا لقتلاهم الذين قتلهم المسلمون في هذا الموضع في معركة بدر الأولى.
انظر أخبار هذه الغزوة في: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٢٢١ - ٢٢٢، و"المغازي" ١/ ٣٨٤.
(٢) في (ج): (وقال).
(٣) (رسول الله - ﷺ -): ليس في: (ج).
(٤) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٥) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وفي (ب): (جنة). والمثبت من (ج)، ومصادر الخبر.
ومَجَنَّة: موضعٌ، كان سوقًا للجاهلية، يقع بناحية مرِّ الظهران، قرب جبل يقال له الأصفر، على بعد مسافة من مكة. وقيل في تحديد موقع مجنة غير ذلك. انظر: "معجم ما استعجم" ٤/ ١١٨٧، و"معحم البلدان" ٥/ ٥٨.
(٦) تقدمت ترجمته.
(٧) في (ج): (نسط).
177
لا (١) يلقانا ببدر الصغرى. ولأن يكونَ الخُلْفُ مِنْ قِبَلِهِم، أحبّ إليّ مِنْ أنْ يكون مِنْ قِبَلي. فأتاهم نعَيْم [وخَوَّفَهم] (٢)، فوجدهم يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال: قد أَتَوْكُم في بلدكم، وصنعوا بكم ما صنعوا، فكيف بكم إذا وَرَدْتُم عليهم في بَلْدَتِهِم، وهم أكثر، وأنتم أقل؟
وهذا قول: مجاهد (٣)، ومقاتل (٤)، وعكرمة (٥)، والواقدي (٦)، والكلبي (٧).
فـ ﴿النَّاسُ﴾ على قول هؤلاء، في قوله: ﴿قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾: هو نُعَيم ابن مسعود. وهو من العَامِّ الذي أريد به الخاصُّ. وهذا (٨) اختيار الفرّاء (٩) والزجّاج (١٠) أن ﴿النَّاسُ﴾ -في هذا الموضع (١١) -: واحدٌ. وجاز ذلك؛
(١) (لا): ساقطة من (ج).
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٣) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٨١، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥٣ أ، و"الدر المنثور" ٢/ ١٨١ وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٤) قوله في "تفسيره" ١/ ٣١٥.
(٥) قوله في: "تفسير سفيان بن عيينة" ٢٣٠، و"تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٤٠، و"سنن سعيد بن منصور" ٢/ ٣٢٧ رقم (٢٩١٤)، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٨١، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨١٦، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥٣ أ، و"الدر المنثور" ٢/ ١٨١ وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٦) قوله في "المغازي" ١/ ٣٢٧.
(٧) لم أقف على مصدر قوله. وقد ذكره القرطبي في "تفسيره" ٤/ ٢٧٩.
(٨) من قوله: (وهذا..) إلى (.. وجاز ذلك): ساقط من (ب).
(٩) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٤٧.
(١٠) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٨٩. وبه قال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ٢٨٢.
(١١) في (ج): (القول).
178
لأن هذا القول (١) جاء من قِبَل الناس، فوُضِعَ كلامٌ موْضِعَ كلامٍ؛ للإيجاز (٢)؛ وذلك أن نُعَيْمًا (٣) ابتدأ بقوله: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾، ثم انتشر هذا القولُ؛ وخاضَ فيه الناسُ، وتكلم به كلُّ (٤) أَحَدٍ، و-أيضًا- فقد يُطْلَقُ لفظُ (الناس) على الواحد، كما تقول -إذا انتظرت قومًا، فجاء واحدٌ منهم-: (قد جاءَ الناسُ)؛ إمَّا لتفخيمِ الشَأْنِ، وإمَّا لابتداء الإتيان.
وقال ابن عباس (٥)، ومحمد بن إسحاق (٦) -في قوله: ﴿قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ﴾ -: هم (٧) رَكْبٌ مِنْ عَبْد القيس، مَرُّوا بِأبِي سفيان، فَدَسَّهم (٨) على المسلمين لِيُجَبِّنُوهم (٩) عنه، وَضَمن على ذلك لهم جُعْلًا (١٠).
(١) (واحد وجاز ذلك لأن هذا القول): ساقط من (ج).
(٢) في (أ)، (ب)، (ج): الإيجاز. والمثبت هو ما استصوبته.
(٣) في (ب): (فيهما).
(٤) كل: ساقطة من (ج).
(٥) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٨٠.
(٦) قوله في: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٧٥، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٨٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨١٨.
(٧) هم: ساقطة من (ج).
(٨) هكذا في (أ)، (ب)، (ج). وقد تكون (فندبهم)، وهي أولى وأنسب للمعنى.
(٩) في (ب): (ليجيبوهم).
(١٠) الجُعْل، والجِعال، والجُعالة، والجَعالة، والجعيلة: هو ما جُعل من عطاءٍ على عملٍ، وهو أعم من الأجرة والثواب والجمع: جُعُل، وجعائل. انظر: (جعل) في: "اللسان" ٢/ ٦٣٧، و"التاج" ١٤/ ١٠٩.
وما ذكره ابن عباس، وابن إسحاق -هنا- يعنيان به ما حدث عند خروج النبي - ﷺ - وأصحابه في طلب أبي سفيان والمشركين، بعد انصرافهم من أحد إلى حمراء الأسد، وكان المشركون قد عزموا على الكَرَّة على المسلمين لاستئصالهم، فلما أن علموا بخروج رسول الله - ﷺ -، في إثرهم، فَتَّ ذلك في عَضُدِهم، وحينها =
179
وقال السُّدِّي (١): ﴿النَّاسُ﴾ ههنا هم: المنافقون، قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير إلى بدر، لميعاد أبي سفيان: قد أتوكم في دياركم، فقاتلوكم (٢) وظَفَرِوا (٣) فإنْ أتيتموهم في ديارهم لا يَرْجِعُ منكم أَحَدٌ.
ومحل ﴿الَّذِينَ﴾: رَفْعٌ أو خفْضٌ، على ما ذكرنا في قوله: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا﴾ [آل عمران: ١٧٢] لأن هذا بدل منه.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ يعني: أبا سفيان وأصحابَه.
وقوله (٤): ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ أي: زادهم قولُ الناس لهم إيمانًا. أضمر المصدر، وأسند الفعل إليه. ومثله: قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ [فاطر: ٤٢]؛ أي: ما زادهم (٥) مجيءُ النذيرِ. ومثله: قوله: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا﴾ [الأحزاب: ٢٢]؛ أي: ما زادهم رؤيتُهم لهم.
= طلبوا من الركب من (عبد القيس) الذين مروا بهم مبتغين المدينة للمِيرَة أن يهوِّلوا من أمر جيش المشركين، ويثَبِّطوا المسلمين عن لقائهم.
وهذا ما رجحه الطبري في "تفسيره" ٤/ ١٨٢، وقال ابن عطية: (وهذا هو تفسير الجمهور لهذه الآية، وأنها في غزوة أحد في الخرجة إلى حمراء الأسد)، واستصوبه "المحرر الوجيز" ٣/ ٤٢٦. ورجحه ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٤٦٣. وانظر: "أسباب النزول" للواحدي ١٣٤ - ١٣٥.
(١) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥٤ ب، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٧٩، و"زاد المسير" ١/ ٥٠٥.
(٢) (فقاتلواكم): ساقطة من (ج).
(٣) في (ج): (فطفروا).
(٤) (أ)، (ب): (وقولهم)، والمثبت من (ج).
(٥) في (ج). (ما جاهم).
180
ومثله مِنْ إضمار المصدر لِدِلالَةِ الفعلِ عليه كثيرٌ.
ومعنى قوله: ﴿إِيمَانًا﴾: قال ابن عباس (١): أي: تصديقًا ويقينًا.
وقال أبو إسحاق (٢): أي: فزادهم ذلك التخويف ثبوتًا في دينهم، وإقامة على نُصْرة نبيهم.
﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ [أي: الذي (٣) يكفينا أمرَهم: اللهُ.
قال ابن الأنباري (٤): معنى قوله: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ﴾] (٥): كافينا الله، وأنشد:
إذا كانت الهيجاءُ وانْشَقَّتِ العَصَا فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ (٦)
قال: معناه: يكفيك ويكفي الضحاكَ (٧).
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٠، نقله عنه بنصِّه.
(٣) (الذي): ساقطة من (أ)، (ب). وفي (ج): الذي. والمثبت هو ما استصوبته.
(٤) في "الزاهر" ١/ ٩٦. نقله عنه باختصار.
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٦) البيت، نُسِب لجرير في "ذيل الأمالي" ١٤٠. ولم أقف عليه في ديوانه.
ونُسِب لِلَبِيد في: "إعراب القرآن" المنسوب للزجاج ٣/ ٨٧٠، ولم أقف عليه في ديوانه. وورد غير منسوب في: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤١٧، و"الأصول في النحو" ٢/ ٣٧ و"جمهرة اللغة" ٢/ ١٠٤٧، و"الزاهر" ١/ ٩٦، و"التهذيب" ١/ ٨١٠، و"التكملة" للفارسي ٣٢٤، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٢٩ (عصا)، و"المخصص" ١٦/ ١٤، و"سمط الآلىء" ٨٩٩، و"شرح المفصل" ٢/ ٥١، و"اللسان" ٢/ ٨٦٥ (حسب)، ٨/ ٤٧٣٢ (هيج)، ٥/ ٢٩٨١ (عصا)، و"مغني اللبيب" ٧٣١، و"المقاصد النحوية" ٣/ ٨٤، ٢/ ١٣٦.
الهَيْجاء، والهَيْجا، والهَيْج، والهِياج: الحرب. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٧٣٢ (هيج). (انشقت العصا): أي: وقع الخلاف. انظر: "الصحاح" ٦/ ٢٤٢٨ (عصا).
(٧) ناقل في "لسان العرب" عن ابن بَرْي معنًى آخر، فقال: (الواو في قوله: =
181
ومثله (١) قول امرىء القَيْسِ:
وحَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٌ ورِيُّ (٢)
أي: يكفيك الشِبَعُ والرِيُّ.
ويقال: (أَحْسَبَني الشيءُ، إحْسابًا): إذا كفاني (٣). فـ (حَسْبُ) مأخوذٌ من (الإحْساب)، وهو: الكِفَايَة. وهو اسمٌ فيه معنى الفعل؛ ألا ترى أنه يُعْطَفُ على المَكْني المتصل به بالنصب، كقوله: (فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ)، على معنى: يكفيك. ومثله: ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾ [العنكبوت: ٣٣].
وقوله تعالى: ﴿وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ أي: الموكول إليه الأمور. (فَعِيل)
= (والضحاك) بمعنى الباءَ، وإن كانت معطوفة على المفعول، كما تقول: (بعت الشاءَ شاةً ودرهمًا)؛ لأن المعنى: أن الضحاك نفسه هو السيف المُهنَّد، وليس المعنى: يكفيك ويكفي الضحاك سيفٌ مهنَّدٌ كما ذكر). "اللسان" ٥/ ٢٩٨١ (عصا). ولكن المعنى الأوَّل الذي ذكره المؤلفُ هو الأوضح والأشهر.
(١) في (ج): ومنه. وفي "الزاهر": (ومن ذلك).
(٢) عجز بيت، وصدره:
فَتُوسِعُ أهلَها أقِطًا وَسَمْنًا
وهو في "ديوانه" ص ١٧١. وقد نسب له -كذلك- في: "الزاهر" ١/ ٩٦، و"الأمالي" للقالي ٢/ ٢٦٢، و"اللسان" ٨/ ٤٨٣٥ (وسع)، ٤/ ٢١٠٤ (سمن). وورد غير منسوب في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥٧أ، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٨٢. وقد ورد في بعض المصادر: (فتملأ بيتنا أقطًا..). والأقِط: شيء يصنع من اللبَن المخيض، على هيئة الجبن. والشاعر -هنا- يتحدث عن (مِعْزى)، تَدُرُّ الحليب، وتوسع أهلها بالأقط، والسَّمِن.
(٣) يقال: (أحسبني الشيءُ إحسابًا)، وهو (مُحسِبٌ): إذا كفاني. انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ٤٩، و"الزاهر" ١/ ٩٦، و"الأمالي" للقالي ٢/ ٢٦٢. انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤١٧.
182
بمعنى: (مَفْعُول) (١).
قال ابن الأنباري (٢): والعرب تتكلم بالوكيل، بمعنى: الكَفِيل. فتقول: (هو وكيلٌ بكذا وكذا)؛ يريدون: كفالته به. قال الشاعر:
ذَكَرْتُ أبا أرْوَى فَبِتُّ كَأنَنِي بِرَدِّ (٣) الأُمورِ الماضيات وَكِيلُ (٤)
أراد: كأنني برد الأمور كفيلُ.
وقال الفرّاء (٥): الوكيل: الكافي. قال الله -عز وجل-: ﴿أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا﴾ [الإسراء: ٢]، أي: كافيا.
قال أبو بكر (٦): والذي أختاره: مذهب الفرّاء؛ لأن (نِعْمَ) سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقًا للذي قبلها؛ كما تقول: (رازقُنا اللهُ، ونِعْمَ الرّازق). و (خالقُنا الله؛ ونعم الخالق). فيكون أحسنَ مِنْ قولك: (رازقنا الله؛ ونعْمَ الخالق)، وكذلك الآية: يكفينا (٧) الله، ونِعْمَ الكافي.
وأصلُه في اللغة: ما ذكرنا؛ أنه الموكول إليه، ثم الكافي (٨).
(١) انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ٥٤.
(٢) في "الزاهر" ١/ ١٠٠، نقله عنه بتصرف.
(٣) في (أ)، (ب): (بود). والمثبت من (ج)، ومصادر البيت.
(٤) البيت، ورد منسوبًا لشقران السلامي، في "بهجة المجالس" ٣/ ١١٢. وورد غير منسوب في: "البيان والتبيين" ٣/ ١٦٤، و"الزاهر" ١/ ١٠٠. وقد ورد في المصادر السابقة: (.. برد أمورِ الماضيات).
(٥) في "معاني القرآن" له ٢/ ١١٦. وقول الفراء -هنا-، هو من تتمة نقل المؤلف عن "الزاهر" ١/ ٩٩ - ١٠٠.
(٦) هو ابن الأنباري، في "الزاهر" ١/ ١٠٠. نقله عنه بالمعنى.
(٧) في (ج): (ويكفينا).
(٨) أنكر الزجاج أن يكون (الوكيل) بمعنى (الكافي)؛ فقال -بعد أن ذكر رأي =
183
والكفيل؛ يجوز أنْ يُسَمَّى: وكَيلاً؛ لأن الوكيل يكفي الأمور والكفيلُ -أيضًا- موكولٌ إليها الأمر.
١٧٤ - قوله تعالى: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ﴾ وذلك أنَّ رسولَ الله - ﷺ -، خرج في أصحابه حتى وافوْا بدرَ الصُّغْرَى، وهي ماءٌ لِبَني كِنَانَة (١)، وكانت موضع سُوقٍ لهم، يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام. فلم يلْقَ رسولُ الله - ﷺ -، وأصحابُه، أحدًا من المشركين، ووافقوا السُّوقَ، وكانت معهم نفقاتٌ وتجارات، فباعُوا واشتَرَوْا أُدمًا (٢) وزَبِيبًا، وربحوا وأصابوا للدرهم درهمَيْنِ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين (٣)؛ فذلك قوله: ﴿فَانْقَلَبُوا﴾، أي: وخرجوا فانقلبوا. فحذف الخروجَ؛ لأن الانقلابَ يَدُلُّ عليه؛ كقوله: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ﴾ [الشعراء: ٦٣]؛ أي: فَضَرَبَه (٤) فانْفَلَقَ.
وقوله تعالى: ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ﴾ قال السُّدِّي (٥)، ومجاهد:
= الفراء-: (ونحن لا نعرف في الكلام: (وَكَلْتُ) ولا (وكَلْتُ إليه): إذا كَفَيْت. فلا ندري من أين له هذا القول). "تفسير أسماء الله الحسنى" ٥٤.
(١) انظر: "معجم البلدان" ١/ ٣٥٧، وانظر تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آية: ١٢٣].
(٢) الأُدُم: جمعٌ، ومفردها: (أُدْم)، و (إدام)، وهو: ما يُستمرأ به الخبز؛ من سائل: كالخل، والزيت، واللبن، وما أشبهه؛ أو من جامد. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ٢٨٦، و"المصباح المنير" ٤ (أدم)، و"المعجم الوسيط" ١/ ١٠ (أدم).
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٨٢ - ١٨٣، و"تفسير النسائي" ١/ ٣٤٣ - ٣٤٥.
(٤) في (ج): (فضرب).
(٥) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٨٣، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨١٩، و"زاد المسير" ١/ ٥٠٥ - ٥٠٦.
النِّعمةُ -ههنا-: العافية. والفَضْلُ: التجارة (١).
وقوله تعالى: ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾. لم يُصِبْهُم قَتْلٌ وَلاَ جِراحٌ. في قول الجميع.
﴿وَاَتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اَللَّهِ﴾ في طاعةِ رَسُولِه.
١٧٥ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ﴾ (ذلك) إشارةٌ إلى التخويف؛
أي (٢): ذلك التخويفُ الذي كان، فِعْلُ الشيطان؛ لأنه سَوَّلَهُ للمُخَوَّفِين. قاله (٣) الزجاج (٤).
وعلى هذا (٥)؛ الآيةُ مِنْ باب حذف المضاف، على تقدير: إنما ذلكم فِعْلُ الشيطان (٦)، أو كَيْدُ الشيطان، أو تخويفُ الشيطان؛ لأنَّه سبب ذلك؛ بالدعاء (٧) إليه والإغواء فيه.
وقوله تعالى: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ مذهب النحويين في هذا (٨): أنَّ ﴿يُخَوِّفُ﴾ قد حُذِف معه مفعولٌ (٩) يقتضيه؛ تقديره: يخوفكم (١٠)، أو:
(١) ورد قولُه في المصادر السابقة، ولكنه فسر فيها (النعمة) و (الفضل) بما أصابوا من التجارة والأجر، ولم يَرِدْ فيها أنه فسَّرَها بالعافية.
(٢) في (ج): (إلى).
(٣) في (ج): (قال).
(٤) في: "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٠. نقله عنه بنصه.
(٥) في (ج): (هذه).
(٦) في (ج): (الشيد).
(٧) في (ب): (الدعاء).
(٨) في (ب): (في هذه الآية).
(٩) من قوله: (يقتضيه..) إلى (.. حذف منه): ساقط من (ج).
(١٠) في (ب): (خوفكم).
185
يخوفُ المؤمنينَ.
وقوله تعالى ﴿أَوْلِيَاءَهُ﴾ حُذِف منه الجارُّ، أي: بأوليائهِ، أو: مِن أوليائه، فَلَمَّا حُذِفَ الجار، وَصَلَ الفعلُ إلى المفعول الثاني فَنَصَبَهُ.
ومثله -مِن حذفِ المفعول منه-، قولُه: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ [القصص: ٧] المعنى: إذا خِفْتِ عليه فِرْعَونَ أو الهلاكَ.
والجارُّ المُظْهَرُ في قوله: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾، بمنزلة المحذوف مِن قوله: ﴿أَوْلِيَاءَهُ﴾.
والتقديرُ عندهم: يُخَوِّفُكم بأوليائِهِ.
قال الفَرّاءُ (١): ومِثْلُهُ، قولُهُ: ﴿لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ [غافر: ١٥]؛ معناه: لِيُنْذِرَكُمْ بِيَومِ التَّلاقِ. وقوله: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا﴾ [الكهف: ٢]؛ معناه: لِيُنْذِرَكُمْ بِبِأسٍ.
هذا الذي ذَكَرْنَا: مذهب الفرّاء، والزّجاج (٢)، وأبي علي (٣).
والذي يدلّ عل هذا: قراءةُ أُبَيِّ بن كعب: (يُخوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ) (٤). وللمفسِّرِينَ في هذه الآية مذهبان، سِوَى ما ذكرنا:
أحدهما: أنَّ هذا، على قول القائل: (خَوَّفْتُ زَيْدًا عَمْرًا). ومعنى الآية: يُخَوِّفكم أولياءَهُ. فحذف المفعول الأول؛ كما تقول: (أعطيتُ
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٤٨، نقله عنه بمعناه
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٠.
(٣) لم أقف على مصدر مذهبه.
انظر: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٢٢١، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٠٨، و"تأويل المشكل" له ٢٢٢، و"معاني القرآن" للنحاس ١/ ٥١٢.
(٤) أخرج القراءة عنه بسنده: الثعلبيُّ في "تفسيره" ٣/ ١٥٨ أ، وذكرها البغوي في "تفسيره" ٢/ ١٣٩، وأبن عطية في "المحرر الوجيز" ٣/ ٤٢٩، وأبو حيان في "البحر" ٣/ ١٢٠.
186
الأموالَ)؛ أي: أعطيتُ القومَ، أو الناسَ الأموالَ.
قال ابن الأنباري (١): وهذا أشْبَه مِن ادِّعاءِ جارٍّ (٢) ما عليه دليلٌ.
قال: وقوله: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا﴾ [الكهف ٢٠]، معناه: لِيُنْذِرَكمْ بأسًا. وكذلك قوله: ﴿لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ [غافر: ١٥] [معناه: لِيُنْذِرَكُم يومَ التَّلاقِ] (٣).
والتخويفُ يتعدَّى إلى مفعولين، من غير حرف جَرٍّ؛ تقول (٤): (خافَ زَيْدٌ القِتَالَ)، و (خَوّفْتُهُ القتالَ)؛ كما تقول: (عَرَفَ زيدٌ أخاكَ)، و (عَرَّفْتُهُ أخاكَ).
وهذا مذهب ابن عباس (٥)، ومجاهد (٦)، وقتادة (٧). ويَدلُّ على هذا
(١) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد -بنصه- في "زاد المسير" ١/ ٥٠٧، وورد -كما هو عند المؤلف- في: "تفسير الفخر الرازي" ٩/ ١٠٥.
(٢) في (ج): (جاز). وفي "زاد المسير": (وهذا أشبه من ادِّعاء (باء) ما عليها دليل، ولا تدعو إليها ضرورة).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٤) (تقول): ساقطة من (ب).
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٨٣ - ١٨٤، و"النكت والعيون" ١/ ٤٣٨، وقد ورد عنه من رواية عطاء، أنه كان يقرأها: (يخوفكم أولياءه). انظر: "المصاحف" لابن أبي داود ٧٤، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٢٠، و"المحتسب" ١/ ١٧٧، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٣٢٨، وأوردها عنه السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ١٨٢ وزاد نسبة إخراجها إلى الفريابي: وعبد بن حميد، وابن الأنباري في "المصاحف".
وأورد عنه ابن عطية في "المحرر" ٣/ ٤٢٨ أنه قرأ: (يخوفكم أولياؤُه)، أي: يخوفكم قريش ومن معهم.
(٦) انظر: "تفسيره" ١٣٩، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٨٣، و"ابن أي حاتم" ٣/ ٨٢٠، و"النكت والعيون" ١/ ٤٣٨، و"الدر المنثور" ٢/ ١٨٢ وزاد نسبة إخراجه إلى عبد ابن حميد، وابن المنذر.
(٧) انظر: "الطبري" ٤/ ١٨٣، و"ابن ابي حاتم" ٣/ ٨٢١، و"النكت والعيون" ١/ ٤٣٨.
187
قراءةُ ابن مسعود: (يخوِّفُكُم أولياءَهُ) (١).
المذهب الثاني: أنَّ معنى الآية: يُخَوَفُ أولياءَهُ [المنافقين (٢)؛ ليقعدوا عن قتال المشركين. كأنَّ المعنى: يُخَوِّف أولياءَه] (٣) الذين يُطيعونَهُ، وُيؤْثِرُونَ أمرَهُ، وَيعْصون رَبَّهم، ويُقِيمونَ على خِلافِهِ. فأمَّا أولياءُ اللهِ، فَإنَّهُمْ لا يَخَافُونَهُ إذا خَوَّفَهم، ولا يَنْقادُون لِمُرَادهِ منهم. وهذا قولُ: الحَسَن (٤)، والسدِّي (٥)، وابنِ عباس في رواية عطاء (٦).
فالمذهب الأول: فيه محذوفان، والثاني: فيه محذوفٌ واحد، والثالث: لا حَذْفَ فيه.
ومعنى (الأوْلِيَاء) -في القولين الأوَّلَيْنِ-: المشركون والكفار.
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ الكناية (٧) تعود إلى الأولياء في القولين الأوَّلَيْنِ. وفي الثالث: تعود إلى المشركين؛ وهم قد ذُكِروا في قوله: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٣].
(١) ذكر الثعلبي القراءة -بسنده عن عطاء- في "تفسيره" ٣/ ١٥٨ أ، وأوردها أبو حيان في "البحر" ٣/ ١٢٠.
(٢) أي: أولياءه من المنافقين. فالمنافقين -هنا- بدل من (أولياءه).
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٤) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في: "النكت والعيون" ١/ ٤٣٨، و"زاد المسير" ١/ ٥٠٧، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٨٢.
(٥) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٨٣، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٢٠، و"النكت والعيون" ١/ ٤٣٨، و"زاد المسير" ١/ ٥٠٧، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٨٢.
(٦) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه.
(٧) الكناية: هي الضمير.
188
وقوله تعالى: ﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي: خافونِ (١) في تركِ أمري؛ إنْ كنتم مصدِّقِينَ بوعدي، وقد أعلمتكم أنِّي أنصركم عليهم (٢)، فقد سقط عنكم (٣) الخوف.
١٧٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾.
أكثر القُرّاءِ على ﴿يَحْزُنْكَ﴾ -مِنَ الثلاثي-. وقرأ نافع: ﴿يَحْزُنْكَ﴾ -بضمِّ الياء- (٤).
واختلف أهل اللغة في هذا: فقال قومٌ: (حَزَنَ، وأحْزَنَ)، بمعنى واحد (٥).
قال الزّجاج -في باب الوفاق- (٦): (حزَنَني الأمْرُ، وأَحْزَنَنِي).
(١) في (أ)، (ج): (خافوني)، والمثبت من (ب).
(٢) في (ج): (عليكم).
(٣) في (ج): (عنهم).
(٤) وقد قرأ نافع هذه الآية، وقرأ ﴿ولِيُحْزِن﴾ في الآية ١٠ من سورة المجادلة، و ﴿ليُحْزِنني﴾ في الآية ١٣ من سورة يوسف، بضم الياء وكسر الزاي في كل القرآن، إلا قوله تعالى: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ [آية: ١٠٣] من سورة الأنبياء، فقد قرأها كباقي القراء الذين فتحوا الياءَ وضمُّوا الزايَ في كل القرآن.
انظر: "السبعة" ٢١٩، و"القراءات"، للأزهري ١/ ١٣١، و"الحجة" للفارسي ٣/ ٩٩.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٨٠٧ (حزن)، و"المقاييس" ٢/ ٥٤ (حزن)، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥٨ أ، و"ما جاء على فعلت وأفعلت" للجواليقي ٣٤.
قال ابن دريد: (و (حَزَنني الأمر)، و (أحْزَنَنِي)، لغتان فصيحتان، أجازهما أبو زيد وغيره. وقال الأصمعي: لا أعرف إلا حزنني يحزنني، والرجل (محزون) و (حزين)، ولم يقولوا: (مُحْزَن). "الجمهرة" ١/ ٥٢٩.
وفي "الصحاح" للجوهري، ينقل عن اليزيدي قوله: (حزَنه)، لغة قريش، و (أحْزَنَه) لغة تميم. ٥/ ٢٠٩٨ (حزن)
(٦) لم أقف على هذا المصدر.
189
و (أمرٌ حازِنٌ ومُحزِنٌ).
وقال ابن المُظَفَّر (١): تقول (٢): (حَزَنَنِي)، و (هو يَحزُنُني حُزْنًا)، (فأَنَا مَحْزُونٌ)، و (هو حازِنٌ) (٣) و (أحْزَنَنِي، فأنا مَحْزون) (٤)، و (هو مُحزِنٌ).
وحكى -أيضًا- سيبويه (٥) -عن بعض العرب-: أنهم يقولون: (أحْزَنْت الرجلَ): إذا جعلته حزينًا.
وحكى أبو زيد -في كتاب (خُبَأة) (٦): (أحْزَنَنِي الأمرُ إحزانًا)، و (هو
(١) ورد القول التالي -مع اختلاف يسير- في: "تهذيب اللغة": ١/ ٨٠٧ (حزن)، من قول أبي عمرو، برواية يونس عنه، وليس من قول الليث بن المظفر، فالمؤلف ينقل هنا عن "العين" للخليل وينسب الكلام لابن المظفر.
وانظر هذا المعنى في "العين" للخليل ٣/ ١٦٠ (حزن).
(٢) في (ج): (يقول).
(٣) (وهو حازن): لم ترد في "تهذيب اللغة".
(٤) في "التهذيب": (وأنا مُحْزَن)، وكلا الكلمتين واردتان في اللغة. انظر: "اللسان" ٢/ ٨٥١ (حزن).
(٥) في "الكتاب" ٤/ ٥٧.
(٦) لم أقف على هذا المصدر، ولم أعثر في ترجمة أبي زيد فيما رجعت إلي من مصادر على كتابٍ له بهذا الاسم. انظر: "معجم الأدباء" ٣/ ٣٧٨.
والخُبَأة -في اللغة-: هي المرأة التي تلزم بيتها، وتستتر. والتي تَطَّلِع ثم تختبئ. انظر: "اللسان" ٢/ ١٠٨٥ (خبأ).
وكأن الكتاب في الكلمة الغريبة المهمة، وهو ما يتناسب مع المعنى اللغوي له.
وقد يكون الاسم محرفًا عن كتاب آخر له، يحتمل رسمُ اسمِهِ التحريفَ في الخط، وهو: كتاب (حِيلَة ومَحالة)؛ حيث أن رسم (حيلة) قريب من (خبأة)، فحصل فيه التحريف. والله أعلم. انظر: المصدر السابق.
ومعنى (حيلة) و (مَحالة): الحِذْق وجودة النظر، والقدرة على التصرف. انظر: "القاموس" ص ٩٨٩ (حول).
190
يُحْزِنُنِي) بضم الياء.
وقال الخليل (١): إذا أردت تغيير (٢) (حَزِنَ)، قلت: (أحزنته). فهذا قولُ مَن سَوَّى بينهما، وجعلهما لُغَتَيْن. وهو حُجَّةٌ لِقِرَاءةِ نافع.
وروى أبو عُبَيد، عن أبي زيد، قال (٣): لا يقولون: (حَزَنه الأمرُ). ويقولون: (يَحْزُنُه). فإذا صاروا (٤) على (٨) الماضي، قالوا: [أحْزَنَهُ] (٥).
يستعمل الماضي مِنَ الرُّبَاعي، والمضارع مِنَ الثلاثي. وهذا شاذٌّ؛ لأنه استعمل (أحزَنَ)، وأهمل (يُحْزِن)، واستعمل (يَحْزُنُ)، وأهمل (حَزَنَ). فمن قرأ بقراءة العامَّة، فَحُجَّته: أنه أشهر اللغَتَيْنِ، وأكثرهما استعمالًا.
قال الأزهري (٦): اللغة الجَيِّدة: (حَزَنَهُ، يَحْزُنُه)، على ما قرأ به أكثر القرّاء.
وحجّة نافع: قولُ مَن زَعم أنهما لُغَتَان، وما حكاه سيبويه (٧) عن الخليل، أنَّك حيث قلت: (حَزَنْتُه)، لم تُرِدْ أن تقول: [جعلتُه حزينًا، كما
(١) انظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ٥٦.
(٢) في (ب): (تعيين).
(٣) قوله، في: "تهذيب اللغة" ١/ ٨٠٧ (حزن). نقله عنه بتصرف.
(٤) في (ب): (صيروا).
(٥) ما بين المعقوفين في (أ)، (ب)، (ج): (حزنه) والمثبت هو الصواب. وقد جاء في "التهذيب": (.. ويقولون: يَحْزُنُهُ. فإذا قالوا أفْعَلَهُ الله؛ فهو بالألف). وهو يتناسب مع ذكره المؤلف بعده من استعمال الماضي من الرباعي.
(٦) في "تهذيب اللغة" ١/ ٨٠٧ (حزن). نقله عنه بتصرف. وانظر: قريبًا من عبارة الأزهري هذه في كتابه: "القراءات" ١٣١.
(٧) في "الكتاب" له ٤/ ٥٦. نقله عنه بتصرف واختصار يسيرين.
191
أنك حيث قلت: (أدْخَلته)، أردت: (جعلته داخلًا). ولكنك أردت أن تقول:] (١) جعلت فيه حُزْنًا.
كما تقول: (كحَلْتُهُ)؛ أي: جعلت فيه كُحْلًا، و (دَهَنْته)؛ جعلت (٢) في دُهنًا، و (فَتَنْتُه): جعلت فيه فِتْنة. فجئت بـ (فَعَلْتُهُ) على حَدِّهِ (٣)، ولم (٤) تُرِد بـ (فَعَلْتُهُ) -ههنا- تغيير قوله: (حَزِنَ)، و (فَتِنَ) (٥). ولو أردت ذلك، لقلت: (أحزنته)، و (أفتنته).
وهذا الذي حكاهُ، حُجَّةُ نافع؛ لأنه أرادَ تغيير (حَزِنَ)، فنقله بالهمز.
قال الخليل (٦): ومثله: (شَتِرَ (٧) الرجلُ)، و (شَتَرْتُ عَيْنَه). فإذا أردت
(١) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). وهي في المصادر السابقة.
(٢) في (ب): (أي جعلت). ولم أثبت (أي)؛ لأنها لم ترد في بقية النسخ، ولا في مصادر النص.
(٣) ضبطت في "كتاب سيبويه": (حِدَةٍ). وقد ورد النص في كتاب "الحجة" للفارسي ٣/ ١٠٠، وضبطت فيه كالتالي: (حَدِّه) كما هي مثبتة أعلاه.
(٤) في (ج): (لم) بدون واو.
(٥) هكذا ضُبِطت -هنا- بكسر التاء، وكذا عند الفارسي في "الحجة". وضَبطت في (كتاب سيبويه): (فَتَنَ) -بفتح التاء-. وأكثر مصادر اللغة التي رجعت إليها لم تشر إلى (فَتِن) بالكسر، وإنما ذَكَرَتْها بفتح التاء، إلا ما وجدته في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٣٩ (فتن)، حيث نقل عن أبي زيد قوله: (فَتِنَ الرجلُ، يفْتَنُ، فُتُونًا: إذا وقع في الفتنة، أو تحول من حال حسنة إلى حال سيئة).
(٦) قوله في "كتاب سيبويه" ٤/ ٥٧. نقله عنه بمعناه.
(٧) في (ج): (شتر) مهملة من النقط والشكل. وهذا جاءت في بعدها مهملة من النقط والشكل.
والشَّتْرُ: القطع. و (شَتَرَ ثَوْبَه): مزَّقه. و (الشَّتَرُ): الانقطاع، وانقلابٌ في جَفْنِ العين، وانشقاقُهُ، وانشقاقُ الشَّفَةِ السفلى. يقال: (شَترت عينهُ شَتَرًا)، و (شَتَرها يشْتُرُها شَتْرا)، و (أشْتَرها وشَتَّرها)، و (شَتِرَ يَشْتَر شَتَرًا).
انظر (شتر) في: "اللسان" ٤/ ٢١٩٣، و"القاموس" ٤١٣.
192
تغيير (شَتِرَ الرجلُ)، قلت: (أشْتَرْتُ، كما تقول: (فَزعَ) (١) [و] (٢) (أفزَعْتُهُ).
وأراد بـ ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾: المنافقين، وقُرَيْظَة والنّضير -في قول ابن عباس- (٣).
ومعنى مسارعتهم في الكفر: مُظَاهَرَتُهُم (٤) الكفَّارَ على محمد - ﷺ -. وتأويله: يُسارِعُون في نُصْرةِ الكفر. وقال الضَّحَّاكُ (٥): يعني: كفّار قريش.
فإذا قيل: معنى قوله: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾: لا تحزن لِكفرِهم. والحزن على كفر الكافر، ومعصيةِ العاصي، طاعةٌ، فكيف نهى عنهُ؟.
قيل: إنما نهى عنه النبيَّ - ﷺ -، لأنه كان يُفرطُ وُيسْرِفُ في الحُزْنِ على كُفْر قومِهِ، حتى كان يؤدّي ذلك إلى أن يَضُرّ (٦) به، فنُهِي (٧) [عن] (٨) الإسراف فيه؛ ألا ترى إلى قوله -عز وجل-: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨].
(١) في (ج): (فزع) -مهملة من النقط ولاشكل-. وكذا التي بعدها.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من: كتاب سيبويه.
(٣) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد هذا القول عن الكلبي. انظر: "بحر العلوم" ١/ ٣١٧.
وورد عن مجاهد، وابن إسحاق: أنهم المنافقون. انظر: "تفسير مجاهد" ١/ ١٣٩، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٨٥.
(٤) المُظاهَرَةُ: المُعَاوَنَة. و (ظاهَرَ فلانٌ فلانًا): عاوَنَه. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٧٦٨ (ظهر).
(٥) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥٨ أ، و"زاد المسير" ١/ ٥٠٨.
(٦) في (ج): (نصر).
(٧) في (ج): (نهى).
(٨) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)
193
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ يعنى: أنَّ عائِدَ الوَبَالِ في ذلك عليهم، لا على غيرهم. وقال عطاء (١): يريد: لن يضروا أولياءَ اللهِ شيئا.
وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ يعنى: نصيبًا في المجنة. وفي هذا رَدٌّ على القَدَرِيّة، وبيان أنَ الخيرَ والشرَّ بإرادة الله -جلَّ وعزَّ- (٢).
(١) لم أقف على مصدر قوله. وقد ذكره ابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٥٠٨.
(٢) إنَّ الله -تعالى- خالق الخير والشر، ولكنَّ الشرَّ في بعض مخلوقاته، وليس في خلق الله وفعله؛ لأن خلقَ الله وفعلَه، وقضاءَهُ وقَدَرَه، خيرٌ كلُّه؛ لأنه -تعالى- وضع الأمور في مواضعها، وذلك هو الخير والعدل، أما الشر؛ فهو: وضع الأمور في غير مواضعها، وذلك هو الظُّلْم، واللهُ مُنَزّهٌ عن الظلم. فأفعاله كلها تدور بين العدل والفضل والحكمة والمصلحة، ولا تخرج عن ذلك، فالله -تعالى- لا ينسب إليه الشرُّ، بل ينسب إليه الخير، وإنما صار الشرُّ شرًا، لانقطاع نسبته واضافته إلى الله تعالى، وفي الحديث: (.. والخير كله في يديك، والشر ليس إليك..).
أخرجه النسائي في "السنن" ٢/ ١٣٠ كتاب الصلاة. باب: الدعاء بين التكبيرة والقراءة.
فلو أضيف إليه، لم يكن شرًّا. انظر: "شفاء العليل" لابن القيم ١٧٩. وقال: (فإن قلت: لِمَ خَلَقَه وهو شر؟ قلت: خَلْقُهُ له وفِعْلُه، خيرٌ لا شرٌّ، فإن الخلق والفعل قائمٌ به -سبحانه-، والشر يستحيل قيامه به واتصافه به. وما كان في المخلوق من شر، فلعدم إضافته ونسبته إليه، والفعل والخَلْق يضاف إليه، فكان خيرًا، والذي شاءه كله خير، والذي لم يشأ وجوده بقي على العدم الأصلي، وهو الشر، فإن الشر كلَّه عَدَمٌ، وإنْ سبّبَه جهل وهو: عدم العِلْم، وظلمٌ وهو: عدم العدل. وما يترتب على ذلك من الآلام فهو من عدم استعداد المحل، وقبوله لأسباب الخيرات واللذات) ١٨١ المصدر السابق، وانظر: "شرح العقيدة الطحاوية" (٤٥٣) وما بعدها.
194
١٧٨ - وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ الآية.
﴿الَّذِينَ﴾ (١) -في قراءة من قرأ: ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ بالياء (٢) -، رَفْعٌ؛ بأنه فاعل (يَحْسَبُ) (٣).
وإذا كان ﴿الَّذِينَ﴾ فاعلًا؛ اقتضى (يَحْسَبُ) مفعولين؛ لأنّه يتعدى إلى مفعولين، أو إلى مفعولٍ يَسُدُّ مَسَدَّ مفعولين، وذلك إذا جَرَى - في صلة
(١) من قوله: (الذين..) إلى (.. اللذين يقتضيهما ﴿يَحْسَبَنَّ﴾: نقله -بتصرف- عن: "الحجة"، للفارسي: ٣/ ١٠١ - ١٠٢.
(٢) القراءة الواردة في قوله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ﴾ في الآية: ١٧٨، ١٨٠ و ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾، و ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُم﴾ في آية: ١٨٨ كالتالي:
قرأها ابن كثير، وأبو عمرو، كلَّها بالياء، في كل القرآن.
وقرأها نافع، وابن عامر (لا تحسبن) و (فلا تحسبنهم).
وقرأ عاصم، والكسائي، ويعقوب: ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ في الآية: ١٧٨، ١٨٠ بالياء. وقرأوا ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ و ﴿تَحْسَبَنَّهُم﴾ في الآية: ١٨٨، بالتاء. وكَسَرَ الكسائيُّ السينَ، وفتحها عاصم. وقرأها حمزة كلَّها بالتاء.
ومن قرأ ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُم﴾ بالتاء، فتح الباءَ، ومن قرأها بالياء، ضم الباء.
انظر: "السبعة" ٢١٩، ٢٢٠، و"القراءات" للأزهري ١/ ١٣١، و"الحجة" للفارسي ٣/ ١٠٠ - ١٠١، و"الكشف" ١/ ٣٦٤ - ٣٦٨.
(٣) يقال: (حَسِبْتُ الشيءَ): ظَنَنْتُه، (أحْسِبُه، وأحْسَبُه)، والكسر أجْوَدُ اللغتين). "تهذيب اللغة" ١/ ٨١٠ (حسب).
قال الجوهري: (ويقال: (أحْسِبُه) -بالكسر-، وهو شاذٌّ؛ لأن كلَّ فِعْلٍ كان ماضيه مكسورًا، فإن مستقبله يأتي مفتوح العَيْنِ، نحو: (عَلِمَ، يَعْلَمُ)، إلا أربعة أحرف جاءت نوادر، قالوا: (حسِب يحسِب ويحسَبُ)، و (بَئِس يبأس ويَبْئِسُ)، و (يَئِس يَيْأسُ وَييئسُ)، و (نَعِمَ يَنعَمُ ويَنْعِم) فإنها جاءت من السالم بالكسر والفتح. ومن المعتَلِّ ما جاء ماضيه ومستقبله جميعًا بالكسر، نحو: (ومِقَ يمِق)، و (وفِقَ يَفِق)، و (وثِقَ يَثِق)، و (وَرع يَرعُ)، و (ورِمَ يَرِمْ)، و (ورث يرث)، و (وريَ الزندُ يَرِي)، و (وَلي يَلي). "الصحاح" ١/ ١١٢ (حسب).
195
ما يتعدى إليه الحِسْبانُ-، ذِكْرُ الحديثِ والمُحَدَّث عنه، نحو: (حَسِبْتُ أن زيدًا منطلقٌ)، و (حَسِبتُ أنْ يقومَ عمرٌو) (١).
فجرى (٢) فيما تَعَدَّى إليه (حَسِبْتُ) الحديثُ، وهو: الانطلاقُ والقيامُ. والمُحَدَّثُ عنه، وهو: زيدٌ أو عَمْرُو. فقام المفعولُ الواحدُ مقامَ المفعولين. وفقوله: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ قد سَدَّ مسَدَّ المفعولين اللَّذَيْن يقتضيهما ﴿يَحْسَبَنَّ﴾.
وقرأ حمزة: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا﴾ بالتاء. و ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ -في هذه القراءة- في موضع نَصْبٍ، بأنّه المفعول الأول.
واختلفوا في وجه هذه القراءة:
فقال الفرّاء (٣): هو على التكرير. المعنى: ولا تَحْسَبَنَّ يا محمدُ الذين كفروا، ولا تَحْسَبَنَّ أنَمَا نمْلِي لهم خيرٌ (٤) لأنفسهم. قال: وهذا كقوله -تعالى-: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾ (٥) [محمد: ١٨]؛ يعنى: فهل ينظرون إلا الساعة، هل يَنْظُرُونَ (٦) إلا أنْ تأتيهم بَغْتةً؟.
وقال الزّجاج (٧): هذه القراءة عندي، يجوز على البدل من
(١) في (ج): (أن عمرو يقوم) وفي "الحجة": وحسبت أن تقومَ.
(٢) في (أ)، (ب): (جرت). والمثبت من (ج).
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٤٨. نقله عنه بالمعنى. وهو رأي الكسائي -كذلك-. انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٨٠، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٨٧.
(٤) في (ج): (خيرا).
(٥) في (ج)، و"معاني القرآن": (هل).
(٦) في (ج): (ينتظرون).
(٧) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٩١. ناقله عنه بتصرف يسير.
196
﴿الَّذِينَ﴾؛ المعنى: ولا تَحسَبَنَّ ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ (١). وأنشد:
فَمَا كانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ (٢)
جعل (هُلكُهُ) بدلًا من (قَيس)؛ المعنى: فما كان هُلْكَ قيسٍ هُلكَ واحدٍ.
(١) في "معاني القرآن": (لا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيرًا لهم).
(٢) صدر بيت، وعجزه:
ولكنَّه بنيانُ قومٍ تَهَدَّما
وهو لعبدة بن الطبيب السعدي التميمي، وهو في "شعره" ٨٨. وورد منسوبًا له في: "كتاب سيبويه" ١/ ١٥٦، و"البيان والتبيين" ٢/ ٣٦٣، و"الشعر والشعراء" (٤٨٧)، و"عيون الأخبار" ١/ ٢٨٧، و"الأصول في النحو" ٢/ ٥١، و"الأغاني" ٢١/ ٢٥، ٢٦، و"شرح القصائد السبع"، لابن الأنباري ٩، و"ديوان المعاني" لأبي هلال العسكري (تصحيح: كرنكو، ن: مطبعة القدسي، القاهرة، ١٣٤٢ هـ): ٢/ ١٧٥، و"أمالي المرتضى" ١/ ١١٤، و"بهجة المجالس" ١/ ٥١٤، و"شرح ديوان الحماسة" للتبريزي (ن: دار القلم) ١/ ٣٢٨، و"شرح المفصل" ٣/ ٦٥. ونسبه في "الأغاني" ١٤/ ٨٦ لمرداس بن عبدة.
وورد غبر منسوب في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥٨ ب، و"شرح المفصل" ٨/ ٥٥، و"البسيط في شرح جمل الزجاجي" ٢/ ١٩٨، و"إعراب القرآن" لنحاس ١/ ٣٨٠، و"الإغفال" للفارسي ١/ ٥٩٣.
وقد ورد في بعض المصادر: (فلم يك قيس..).
قال الشاعر البيت في رثاء قيس بن عاصم المنقري، سيد بني تميم.
والشاهد في البيت: رفع (هلكُه) على أنه بدل من (قيس) اسم (كان) ويكون حينها (هلكَ) منصوبًا على أنه خبر (كان). ويجوز أن يكون (هلكُه) مرفوعًا على الابتداء، وحينها تكون (هلك) مرفوعة على أنها خبر المبتدأ.
قال ابن الأنباري: (والرواية الجيدة: (هلكُه هلكُ واحد) برفعهما جميعًا). "شرح القصائد السبع": ٩.
197
ومثلُه -مما جُعِلَ (أنَّ) مع الفعل بدلًا من المفعول-، قولُه: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ (١) [الكهف: ٦٣]، وقوله -تعالى-: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾ (٢) [الأنفال: ٧]، بَدَلًا مِنْ إحْدَى الطائفتين.
قال أبو علي الفارسي (٣): هذه القراءة على تقدير البدل، لا يصح إلا بنصب (خيْر) (٤)؛ لأن (أنّ) تصير بدلًا من ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وإذا صار بدلًا منه، فكأنه قال: لا تَحْسَبَنَّ إملاءَ الذين كفروا خيرًا. فيلزم انتصاب (خير) (٥) من حيثُ كان المفعول الثاني لـ (حَسِبْتُ).
ألا ترى أنه أبدل (٦) ﴿أَنَّمَا﴾ كما (٧) أبدل الشاعرُ (هلكُهُ) من (قيس)، فصار التقدير: وما كان هُلْك قَيْسٍ هُلْكَ واحدٍ، انتصب (هلكَ واحدٍ) (٨) على أنه خبرُ (كان)، ولو (٩) لم يبدل (هلكُه) من (قيس)؛ لارتفع بالابتداء، وصار (هُلْكُ واحدٍ) خَبَرَه. والجملة في موضع نصب على خبر (كان). كما أَنه لو لم يُبْدِلْ (أنّ) من ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لكسرها ولم يَفْتَحْها، ولو كسرها لصارت (أنّ) واسمها وخبرها، في موضع نصب؛ لأنه مفعول ثانٍ لـ ﴿تَحْسَبَنَّ﴾.
(١) انظر: "الحجة" للفارسي ٣/ ١٠٧، و"التبيان" للعكبري (٥٤٢).
(٢) انظر: "الحجة" للفارسي ٣/ ١٠٧، و"التبيان" للعكبري ٢/ ٤٠٤.
(٣) في: "الإغفال" ١/ ٥٩٣. نقله عنه بتصرف. وانظر: "الحجة" له ٣/ ١٠٧.
(٤) في (ج): (خبر).
(٥) في (ج): (خبر).
(٦) (أبدل): ساقطة من (ج).
(٧) في (ج): (كان).
(٨) (انتصب هلك واحد): ساقط من (ج).
(٩) (ولو): ساقطة من (ج).
198
وكما انتصب (هُلْكَ واحد) في البيت، لَمّا أبدل الأول مِنْ (قيس) بأنه خَبَرُ (كان)؛ كذلك ينتصبُ ﴿خيرٌ لهم﴾ في الآية، إذا أبدل الإملاء من ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بأنه مفعول ثانٍ لـ ﴿تَحْسَبَنَّ﴾.
فإذًا، قد جاء أنه لا يجوز أن يُقرأ ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ بالتاء، إلّا أن يُكسر (إنَّ) في ﴿أَنَّمَا نُمْلِي﴾، أو يُنصب ﴿خَيْرٌ﴾ (١)، مع فتح ﴿أَنَّمَا﴾، فيقرأ: (أنَّمَا نُمْلي لهم خيرًا لأنفسهم).
ولم يُرْوَ عن حمزةَ كسْرُ (أنّ)، ولا نَصْبُ (خَيْرٌ)، فلا تصح القراءة بالتاء، على ما قرأ به حمزةُ، عند أبي عليّ (٢).
قال ابن عباس (٣): أراد بـ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: المنافقين، وقُرَيْظَةَ والنَّضِير. وقال مقاتل (٤): يعنى: مشركي مكة.
وقوله: ﴿أَنَّمَا﴾، (ما) تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يَكون بمعنى (الذي) (٥)، فيكون التقدير: لا يحسبن
(١) في (ج): (خبر).
وقد جاء في (ج) بعد (خير) العبارةُ التالية: (فلا يصح بالياء إنما). وهي عبارة
مقحمة لا وجه لها.
(٢) قال النحاس، عن قراءة حمزة لقوله تعالى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ [الآيتان: ١٧٨، ١٨٠] (وزعم أبو حاتم أنه لحنٌ لا يجوز، وتابعه على ذلك جماعةٌ). "إعراب القرآن" ١/ ٣٧٩.
وعَقَّب القرطبيُّ على زعم أبي حاتم، قائلًا: (قلت: وهذا ليس بشيء؛ لما تقدم بيانه من الإعراب، ولصحة القراءة وثبوتها نقلًا). "تفسيره" ٤/ ٢٨٨.
(٣) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في: "زاد المسير" ١/ ٨٠٥
(٤) في "تفسيره" ١/ ٣١٧. نصه عنده -بعد أن ذكر الآية-: (أبا سفيان وأصحابه، يوم أحد).
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٠٨.
199
الذين كفروا أن الذي نمليه خيرٌ لأنفسهم، وحَذَفَ (الهاء) مِنْ ﴿نُمْلِي﴾؛ لأنه يجوز حذفُ الهاء مِنْ صِلَةِ (الذي)؛ كقولك: (الذي رأيتُ زيدٌ).
والآخر: أن يَكون (ما) بمنزلة الإملاء، فيكون مصدرًا، وإذا كان مصدرًا (١)، لم تقتض راجعًا إليها (٢).
وقوله تعالى: ﴿نُمْلِي لَهُمْ﴾.
معنى ﴿نُمْلِي﴾ -في اللغة-: نُطِيل، ونُؤَخِّر. والإملاء: الإمهال والتأخير. واشتقاقه (٣) من (المِلْوَة)، وهي: المُدَّة من الزمان. يقال: (مِلْوَةٌ مِنَ الدَّهْرِ)، و (مُلْوَةٌ، ومَلْوَةٌ، ومِلاَوَةٌ (٤)، ومَلاَوَةٌ (٥)، ومُلاَوَةٌ)، بمعنًى (٦).
قال العَجَّاج:
وقد أُرَانِي لِلغَوَانِي (٧) مِصْيَدا مُلاوَةً كأنَّ فَوْقِي جَلَدا (٨)
(١) (وإذا كان مصدرًا): ساقط من (ج).
(٢) في (ج): (إليهما).
(٣) من قوله: (واشتقاقه..) إلى نهاية بيت الشعر: (.. من طريف وتالد): هو من قول ابن الأنباري؛ حيث ورد بعض النص في: "زاد المسير" ١/ ٥٠٩، و"اللسان" ٧/ ٤٢٧٢ (ملا). ونسباه لابن الأنباري، ولم يبينا المصدر.
(٤) (أ)، (ب): وملاؤة. والمثبت من: (ج)، ومصادر اللغة.
(٥) في (ج): (ومَلاوة، ومِلاوة).
(٦) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٤، و"غريب القرآن" لابن اليزيدي ٤٥، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ١١٦، و"غريب الحديث" للحربي ١/ ٣٤١، و"تحفة الأريب" ٣٨٨، وانظر مادة (ملا) في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٣٨، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٩٦، و"اللسان" ٧/ ٤٢٧٢.
(٧) في (ج): (الغواني).
(٨) البيت في "ديوانه" (تح: د. عزة حسن): ٣٤٠. وورد منسوبًا له في: "إصلاح المنطق" ٤٧، ومادة (جلد) في: "تهذيب اللغة" ١/ ٦٣٤، و"الصحاح" ٢/ ٤٥٨.=
200
ومنه قولُ العَرَبِ: (الْبَسْ جَدِيدا، وتَمَلَّ حبيبًا) (١)؛ أي: لِتطل أيَّامك معه. وقال مُتَمِّم (٢):
بِودَّيَ أَنّي لو تَمَلَّيْتُ عُمْرَهُ بِمَالِيَ مِنْ مالٍ طَريفٍ وتَالدِ (٣)
= و"المقاييس" ١/ ٤٧١، و"اللسان" ٢/ ٦٥٤.
وورد غير منسوب في: "جمهرة اللغة" ١/ ٤٤٩، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥٩ أ. وروايته في الديوان والجمهرة: (فقد أكونُ..).
و (الغواني): جمع غانية، وقيل في معناها: التي غَنِت بالزوج. وقيل: التي غَنِيت بحُسْنها عن الزينة وقيل: التي تُطلَب، ولا تَطلُب. وقيل: الشابَّة العفيفة؛ كان لها زوجٌ أو لم يكن. وقيل: كلُّ امرأة، فإنها تُسمَّى غانية. وقيل غير ذلك. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٣٠٩ (غنا).
و (المِصْيَد) -بكسر الميم، وفتحها-: ما يُصاد به. "اللسان" ٤/ ٢٥٣٤ (صيد). و (الجَلَد)، فيه قولان: أحدهما: أن يُسلخ جِلْدُ البعيرِ وغيره، وُيلْبَس غيرَه من الدواب، وُيسمَّى هذا (جَلَدا). والقول الثاني: أن يُسلخ جِلْدُ الحُوار، ثم يُحشى ثُمامًا، أو غيره من الشجر، ثم يُعطف عليه أمُّه، فترأمه. انظر: (جلد) في: "تهذيب اللغة" ١/ ٦٣٤، و"المقاييس" ١/ ٤٧١.
ومعنى البيت: إنَّهنَّ يَرأمْنَنِي ويَعْطِفْنَ عليَّ، كما ترأم الناقةُ الجَلَدَ.
(١) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٣٤، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٩٧ (ملا)، و"اللسان" ٧/ ٤٢٧٢ (ملا). وقد ورد المثل فيه: (أبليت جَدِيدًا، وتَمَلَّيتَ حبيبًا). أي: عشت معه ملاوتَكَ من دهرك، وتمتعت به.
(٢) تقدمت ترجمته.
(٣) البيت في "شعره" ٨٦.
وقد ورد منسوبًا له، في: "الزاهر" ١/ ٢٥٦. وورد غير منسوب في: "اللسان" ٧/ ٤٢٧٢ (ملا) وردت روايته في المصادر السابقة: (بودي لو أني..).
قال في "الزاهر": (الطريف، والطارف)، وهما: المال المستحدث الذي كَسَبه الرجلُ، وجَمَعَهُ. و (التَّليد، والتالِدُ): ما ورثه عن آبائه ولم يكتسبه) ١/ ٢٥٦.
201
وقال الأصمعي (١): (أمْلَى عليه الزمانُ) (٢)؛ أي: طال عليه. و (أملَى له)؛ أي: طَوَّل له، وأمهله.
قال أبو عبيدة: ومنه: (المَلاَ) (٣): الأرض الواسعة الطويلة (٤).
قال ابن عباس (٥) -في قوله: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ -: يريد (٦): تماديهم في معاصي الله.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ قال ابن الأنباري (٧): قال جماعة من أهل العلم (٨): أنزل الله عز وجل هذه الآية في قوم يعاندون الحق، سَبَقَ في علمه أنهم لا يؤمنون، فقال: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ بمعاندتهم الحقَّ، وخِلاَفِهِم الرسولَ.
وقد قال رسول الله - ﷺ -: (إذا رأيتَ اللهَ يُعْطِي على المعاصي، فإنَّ
(١) قوله -بنصه-، في: "تهذيب اللغة" (٣٤٣٨) (ملو).
(٢) في "التهذيب": الزمن.
(٣) وهي غير مهموزة، وتكتب بالألف والياء، والبصريون يكتبونها بالألف. وقال الفراء: (والألف أجود). وكذا قال ابن الأنباري.
انظر: "المقصور والممدود" للفراء ٤٣، ٦١، و"المنتخب" لكراع ٢/ ٤٣٨؛ و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ٤٦٥، ومادة (ملا) في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٣٨، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٩٧، و"اللسان" ٧/ ٤٢٧٢.
(٤) لم أقف على مصدر قول أبي عبيدة، والذي ورد في "مجاز القرآن ": (ويقال للخرق الواسع في الأرض: مَلًا، مقصور) ١/ ٣٣٣.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) في (ج): (مريد).
(٧) لم أقف على مصدر قوله.
(٨) لم أقف عليهم.
202
ذلك استدراجٌ مِنَ اللهِ لِخَلْقِهِ)، ثم تلا هذه الآية (١).
ونحو هذا، قال الزّجاج (٢): إن هؤلاء قومٌ، أعلَمَ اللهُ نبيَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا، وأن بقاءهم يزيدهم كفرًا وإثما.
والآية حجّة ظاهرة على القَدَريّة (٣)؛ حيث أخبر الله -تعالى-، أنه يطيل أعمارَ قومٍ وُيمْهِلُهُم؛ لِيَزدادوا غَيًّا وكُفْرا.
(١) الحديث أخرجه: أحمد في "المسند" ٤/ ١٤٥، وابن أبي الدنيا في "كتاب الشكر" ٨٠ رقم (٣٢)، والطبراني في "المعجم الكبير" ١٧/ ١٣٣، والطبري في "تفسيره" ٧/ ١٩٥.
وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٠، ١٠/ ٢٤٥، وقال: (رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه، الوليد بن العباس المصري، وهو ضعيف).
وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٣/ ٢٢ وزاد نسبة إخراجه إلى ابن أبي حاتم، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في "الشعب".
وأورده في "الجامع الصغير" ورمز له بالحسن. انظر: "فيض القدير" ١/ ٤٥٥. وأورده الخطيب التبريزي في: "مشكاة المصابيح" ٣/ ١٤٣٥ رقم (٥٢٠١).
وحَسَّن الحافظ العراقي سنده (انظر: "تخريج الإحياء" بهامش "إحياء علوم الدين" ٤/ ١٣٢).
وصححه الألباني في: صحيح "الجامع الصغير" ١/ ١٥٨ رقم (٥٦١)، وفي "سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (٤١٤).
ولفظ الحديث -كما عند أحمد، من رواية عقبة بن عامر، عن النبي - ﷺ -: "إذا رأيت الله -عز وجل- يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يُحب، فإنما هو استدراج"، ثم تلا رسولُ الله - ﷺ -: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤]. فليس في الأثر -عند من رواه- أنه - ﷺ - قرأ هذه الآية من سورة آل عمران.
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٩١. نقله عنه بتصرف يسيِر.
(٣) سبق بيان أن المراد بـ (القدَريَّة) هم المعتزلة، الذين وافقوا القَدَرية القُدامى في نفي القدر.
203
والقَدَرِيّة، تأولوا الآية على وجهين:
أحدهما: على التقديم والتأخير؛ فقالوا: التقدير: (ولا يحْسَبَنَّ الذين كفروا إنما نُملي لهم لِيَزدادوا إثما؛ إنَّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم). وهذا (١) إنما كان يُحتمل لو قُرِئ بِكَسْرِ ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾، ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا﴾. ولم يقرأ به أحدٌ يُعرَف. ولا يجوز حملُ الآية على وجهٍ لا يجوز أن يُقرأ به (٢).
والوجه الثاني: قالوا (٣): معنى قوله: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾: إنما نُمْلي لهم، على أنَّ عاقبةَ أمْرِهم ازديادُ الإثم. وهذه لام العاقبة؛ كقوله: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: ٨]. وهذا (٤) الذي قالوه، خِلافُ ما ذَكَرَهُ المفسرون وأهل العلم، وعُدُولٌ عن ظاهرِ الخِطَاب، فلا يُقْبَلُ.
على أن لام العاقبة يشَاكِل ما قبله؛ كقوله: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾، الآية، وهم ما التقطُوهُ لِهذا؛ ولكنْ كان الالتقاطُ سبَبَ كونِهِ عَدُوًّا لهم، كذلك في الآية، يجب أنْ يكونَ إمْلاءُ اللهِ إيَّاهم، سَبَبَ ازديادهم الإثم (٥)،
(١) من قوله: (وهذا..) إلى (.. خير لأنفسهم): ساقط من (ج).
(٢) قال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٣٨٠ (قال أبو حاتم: سمعت الأخفش يذكر كسر (إنَّ) يحتج لأهل القَدَر؛ لأنه كان منهم، ويجعله على التقديم والتأخير.. قال: ورأيت في مصحفٍ في المسجد الجامع، قد زادوا فيه حرفًا؛ فصار: (إنما نملي لهم ليزدادوا إيمانًا)، فنظر إليه يعقوب القارئ، فتَبيَّنَ اللَّحَقَ، فحكَّه). وانظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ٢٨٨.
(٣) انظر: "تنزيه القرآن عن المطاعن" للقاضي عبد الجبار ٨٣
(٤) (أ)، (ب): (وهو)، والمثبت من: (ج)، وهو أولى وأصوب.
(٥) في (ج): (الكفر).
204
وهو ما نقول: إن الله -تعالى- يُملِي لهم، لِيَزدادوا إثمًا.
١٧٩ - قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ الآية.
اختلفوا في سبب نزول هذه الآية:
فقال الكَلْبيُّ (١): قال المشركون للنبي - ﷺ -: ما بَالُكَ تَزْعُمُ أن الرَّجلَ مِنْ أهلِ النار، حتى يَدْخُلَ في دِينِكَ، فإذا انتقل إلى دينك، ادَّعَيْتَ أنه من أهل الجَنَّةِ، فينبغي أنْ تُعَرِّفَنَا الذي يَنتَقِلُ، قبل أن ينتَقِلَ.
فأنزل الله -تعالى- مجيبًا لهم-: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ أي: ما كانَ اللهُ لِيَدَعَ المؤمِنَ (٢)، على ما عليه الكافرُ (٣). وأَعْلَمَ أنَّ حُكْمَ مَنْ كَفَر، أن يقال: أنه مِن أهل النار، ومَنْ آمَنَ: فهو من أهل الجَنَّة.
ومعنى: ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ -على هذا التفسير-: حتى يُفَرِّقَ بين المؤمن والكافر؛ بالحُكْمِ لِلْمُؤْمِنِ بالجَنَّةِ، ولِلكافر بالنار.
والخِطاب في قوله: ﴿أَنتُمْ﴾ -على هذا الوجْهِ-، للمشركين.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ أي (٤): وما كان اللهُ لِيُخْبِركم بإسلامِ مَنْ يُسْلِم قبل أن يُسْلِم؛ فَيَدُلكم على غَيْبِهِ؛ وذلك أنهم
(١) قوله في: "بحر العلوم" ١/ ٣١٨، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٥٩ أ، و"أسباب النزول" للمؤلف ١٣٦، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٤٠، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٨٨.
وأورد هذا القول ابنُ الجوزي في "الزاد" ١/ ٥١٠ ونسبه لابن عباس.
ونحو هذا القول، قال السُّدِّي. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٨٨، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٢٤.
(٢) في (ج): (المؤمنين).
(٣) في (ج): (الكافرين).
(٤) أي: ساقطة من (ج).
205
سألوا أن يُعرَّفوا ذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾: أي: يختارُ مِنَ الرُّسُل مَن يشاء بالغيب، فيُطْلِعُه على بعض عِلْمِ الغيب؛ كقوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦ - ٢٧]، الآية.
قال الزّجاج (١): وإنما يُطْلِعُ الرسلَ على الغيب؛ لإقامة البرهان في أنهم رُسُلٌ، وأنَ ما أتَوا به مِن عند الله.
ومعنى قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾؛ أي: بالغيب. فَحذف ذلك للعلم به؛ وذلك لاستثناء الرسولِ مِمَّن لا يُطلَعُ على الغيب.
وهذا (٢) قول جماعةٍ مِنَ المفسرين (٣)، واختيار الفرّاء (٤) والزّجاج (٥). والآية مطَّرِدَة على هذا التفسير.
وقال مجاهد (٦)، ومحمد بن إسحاق (٧): نزلت الآية في المنافقين، وتمييزهم عن المؤمنين، و-على هذا التفسير- الخطابُ للمؤمنين في قوله: ﴿أَنْتُمْ﴾، رَجَعَ من الخَبَر عن المؤمنين إلى مخاطبتهم.
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٢. نقله عنه بتصرف يسير.
(٢) يعني بـ (هذا): ما قاله الكلبيُّ في سبب نزول الآية، وما يترتب عليه في كون الخطاب فيها للمشركين.
(٣) منهم: مقاتل، في "تفسيره" ١/ ٣١٧ - ٣١٨.
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٤٨.
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٢.
(٦) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٨٧، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٢٤، و"النكت والعيون" ١/ ٤٣٩.
(٧) قوله في: "سيرة ابن هشام" ٣/ ٧٥، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٨٧.
206
ومعنى الآية: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين، على ما أنتم عليه مِن التباسِ المنافقِ بالمؤمنِ، والمؤمن بالمنافق، حتى يُمَيِّزَ الخبيثَ من الطَّيِّب، أي: المنافقَ مِنَ المُؤمِنِ.
قال مجاهد (١): فَمَيّزَ الله المؤمنين يومَ أحد مِنَ المنافقين؛ حيث أظهروا النفاقَ، وتَخَلَّوا عن رسول الله - ﷺ -.
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ فتعرفوا المنافقَ من المؤمنِ قبل التمييز، ولكنَّ اللهَ يختار بمعرفة (٢) ذلك مَنْ يَشَاء مِنَ الرُّسُلِ.
قال ابن عباس (٣): يريد: أنت يا محمد ممن اصطفيتُهُ وأطلعته على هذا الغيب.
وهذا معنى قول السُّدِّي في هذه الآية، فإنه قال في سبب نزولهما ما يُشاكِل هذا التفسير، وهو أنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أُعْلِمْتُ مَنْ يُؤْمِنُ بي وَمَنْ لا يُؤمِنُ" فَبَلَغَ ذلك المنافقينَ، فاستهزؤوا، وقالوا: كيف، ونحن معه لا يعرفنا؟! فأنزل الله هذه الآية (٤).
(١) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٨٧، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٢٤، و"النكت والعيون" ١/ ٤٣٩.
(٢) في (ج): (بمعرفته).
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) الحديث أورده -غير مسند-: الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٥٩ ب. ونَصُّه عن الثعلبي: (قال السدي: قال رسول الله - ﷺ -: "عُرِضت علي أمتي في صورها، كما عُرِضت على آدم، وأعْلِمتُ مَن يُؤْمِنُ بي ومن يكفر". فبلغ ذلك المنافقين، فاستهزؤوا، وقالوا: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر، ممن لم يُخلَق بعد، ونحن معه ولا يعرفنا. فبلغ ذلك رسول الله - ﷺ -، فقام على المنبر خطيبًا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "ما بال أقوام جهَلوني، وطعنوا في علمي، لا =
207
........................
= تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا أنبأتكم به" فقام عبد الله بن حذافة السهمي، فقال: يا رسول الله. من أبي؟ قال: "حذافة". فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله - ﷺ -، رضينا بالله ربا وبالإسلام دينًا وبالقرآن إمامًا وبك نبياً فاعف عنا، عفا الله عنك. فقال النبي - ﷺ -: "فهل أنتم منتهون؟ هل أنتم منتهون؟ " ثم نزل عن المنبر. فأنزل الله -تعالى- هذه الآية..).
والأثر طويل، وله عنده بقية، وأورده -كذلك- المؤلف في "أسباب النزول" ١٣٦، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ١٤١، وابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٥١٠، وكلهم نسبه للسدي، عن رسول الله - ﷺ -.
ولم أقف عليه في مصادر أخرى بهذا النص، وإنما ورد بنص آخر -من رواية حذيفة بن أسيد- "عُرضت علي أمتي البارحة، لَدُنْ هذه الحجرة، حتى إني لأعْرفُ بالرجل منهم، من أحدكم بصاحبه". فقال رجل من القوم: يا رسول الله، هذا عُرِض عليك مَنْ خُلِق منهم، أرأيت من لم يُخلَق؟. فقال: "صُوِّروا لي، فوالذي نفسي بيده، لأنا أعْرَفُ بالإنسان منهم بصاحبه".
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" ٣/ ١٨١ رقم (٣٠٥٤، ٣٠٥٥)، والديلمي في "مسند الفردوس" ٣/ ٦٦ رقم (٤١٨٥)، وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" وزاد نسبته للضياء المقدسي، ورمز له بالصحة. (انظر: "فيض القدير" ٤/ ٤١٤). وقال الهيثمي: (رواه الطبراني، وفيه زياد بن المنذر، وهو كذاب). "مجمع الزوائد"١٠/ ٦٩. وحكم عليه الألباني بالضعف في ضعيف "الجامع الصغير" ٤/ ٢٩ رقم (٣٧٠٣).
وهذه الرواية تختلف عما أورده الثعلبي في تفسيره، وليس فيه أنه سبب نزول الآية، ولا متعلق له بهذه الآية.
كما أخرج البخاريُ حديثًا آخر من رواية أنس، نحو ما أورده المؤلف، ونصه: "سألوا النبي - ﷺ - حتى أحفَوْهُ بالمسألة، فصعد النبي - ﷺ - ذات يوم المنبرَ، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم، فجعلت أنظر يمينًا وشمالًا فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان إذا لاحى يُدعى إلى غير أبيه، ومَال: يا نبي الله من أبي؟ فقال: أبوك حذافة. ثم أنشأ عمرُ فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولًا. نعوذ بالله من سوء الفتن، فقال النبي - ﷺ -: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قطّ، إنما صورت لى الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط). قال =
208
وهذا (١) وجهان من التفسير لهذه الآية.
وقيل فيه وجه ثالث من التفسير، وهو: إن الخطاب للمشركين والمنافقين واليهود (٢) في قوله: ﴿أَنْتُمْ﴾ (٣)؛ والمراد بـ (المؤمنين) (٤) في قوله: ﴿لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: الذين هم (٥) في أصلاب الرجال من المشركين، وأرحام النساء من المشركات، ممن يؤمنون.
ومعنى الآية: ما كان الله لِيَدَعَ أولادَكُمْ الذين جرى لهم الحكمُ بالإيمان، على ما أنتم عليه من الشِّرْك، حتى يُفَرِّق بينكم وبين مَن في أصلابكم، وأرحام نسائِكم من المؤمنين.
وهذا قول الضّحاك (٦)، وابن عباس في رواية عطاء (٧).
= قتادةُ: يُذكر هذا الحديث عند هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [سورة المائدة: ١٠١]). "فتح الباري" ١٣/ ٤٣، كتاب الفتن. باب التعوذ من الفتن، ١٣/ ٢٦٥، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال.
(١) هكذا في (أ)، (ب)، (ج). والأصوب أن يكون (هذان) إلا أني أبقيت (هذا) لاحتمال أن يريد بـ (هذا): ما سبق من قول في الآية.
(٢) في (ج): (ولليهود).
(٣) (أنتم): ساقطة من (ج).
(٤) (المؤمنين): ساقطة من (ج).
(٥) (هم): ساقطة من (ج).
(٦) قوله، في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٠ ب، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٤١. وورد في "بحر العلوم"، عنه: (إن المنافقين أعلنوا الإسلام، وأسروا الكفر، وصلوا وجاهدوا مع المؤمنين، فأحب أن يُمَيِّز بين الفريقين، وأن يَدُلَّ رسول الله على سرائر المنافقين، فقال: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾. يعني: المنافق من المؤمن) ١/ ٣١٩.
ورد في: "زاد المسير" ١/ ٥١٠ عن الضحاك، أن المخاطب في هذه الآية: الكفار والمنافقون.
(٧) لم أقف على مصدر قوله وفق سياق المؤلف. والذي ورد عن ابن عباس -من =
209
وقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾، لا يتعلق بأوَّلِ الآية في المعنى -على هذا التفسير-، ولكن معناه: إنه أَخْبَرَ ابتداءً، أنه لا يُطلِعُ أحدًا على عِلْمِ الغيب؛ لأنه لا يعلمه أحدٌ غيرُه، ولكن يجتبي مِن رُسُلِهِ مَنْ يَشاء، فَيُطْلَعَ على بعض عِلْمِ الغَيْب.
وقيل في سبب نزول قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾: إنّ المشركين أنكروا نُبُوَّةَ محمد - ﷺ -، وقالوا: ما بالنا نحن لا نكون أنبياء، فإنَّا أكثرُ أموالًا وأولادًا؟ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾؛ أي: لم يكن ليوحي إليكم فيجعلكم بمنزلة الرُّسُل، بظنِّكُم عند أنفسكم أنكم مستحقون ذاك (١)، بل يُنَبِّئ (٢) مَنْ يَراهُ أهلًا للخصوصية والتشريف.
وهذا معنى قولِ أبي إسحاق (٣)، وابن الأنباري (٤). قال ابن
= رواية علي بن أبي طلحة-، قال: (يقول للكفار: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ من الكفر، ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ فيميز أهل السعادة من أهل الشقاوة). "تفسير ابن أبي حاتم": ٣/ ٨٢٤ - ٨٢٥.
وكون الخطاب في الآية للكفار والمنافقين -وفق المعنى الذي ذكرته عن ابن عباس سابقًا-، قال عنه الثعلبي: (هو قول: ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبي، وأكثر المفسرين). "تفسيره" ٣/ ١٦٠ أ.
(١) في (ج): (ذلك).
(٢) في (ج): (ينبأ).
(٣) في: "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٢. ولكن هذا القول، ليس مما تبناه الزجاج، وإنما أورده بصيغة (قيل). فقد ذكر أولا قول الكلبي -الذي ذكره المؤلف-، وصدره بقوله: (يروى في التفسير)، ثم ذكر هذا القول، قائلًا: (وقد قيل في التفسير..) وذَكَره.
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
210
الأنباري: وأوَّلُ الآية يدل على هذا، ويمكن حمله على هذا التفسير؛ وهو: أنهم أنكروا نُبُوَّةَ محمد، وما يدعوا إليه مِنْ تَرْكِ دينِ الآباءِ والأجداد. فأعلم الله -تعالى- أنه لم يكن لِيَدَعَ المؤمنين على ما عليه الكفارُ مِنَ العَمَى والحَيْرة، حتى يَنْتاشَهم (١) ويستنقذهم من المهالك، بإرساله محمدًا - ﷺ -، وإعطائه (٢) إيَّاه مِنَ الدَّلائِلِ ما يكَون عَلَما لِصِدْقِهِ، وسببًا لانقياد (٣)، [الناس] (٤) إلى متابعته.
فهذه أربعة أوجُهٍ مِنَ التفسير، في هذه الآية.
فقوله: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ﴾، هذه اللام يُسمِّيها بعضُ أهل النحو، لامَ الجَحْد؛ كما تقول: (ما كنت لأفعل ذلك) (٥). وهي في تأويل (كي)؛ ولذلك نَصَبَتْ ما بعدها.
وذكرنا الكلام في (يَذَر) عند قوله: ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ (٦).
(١) ينتاشهم؛ أي: يستخرجهم. وأصلها من: (النَتْش)، وهو: نتف اللحم، وجذبه قرصًا، واستخراج الشوكة ونحوها. ويقال للمنتاش: استخرجه.
انظر (نتش) في: "اللسان" ٧/ ٤٣٣٦، و"القاموس" (٦٠٦).
(٢) في (أ)، (ب)، (ج): وأعطاه. والمُثبَت هو ما استصوبته.
(٣) في (ب): (للانقياد).
(٤) ما بين المعقوقين زيادة من (ج).
(٥) انظر: "اللامات"، للزجاجي ٦٨، و"المحلى" لابن شقير ٢٢٨. وهي عند الكوفيين حرف زائد، يدخل لتقوية النفي، ويرى النحاس أن الصواب تسميتها (لام النفي)؛ لأن الجحد في اللغة إنكار ما تعرفه، لا مطلق الإنكار. انظر: "المغني" لابن هشام ٢٧٨.
(٦) سورة البقرة: من الآية: ٢٣٤ ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، والآية: ٢٤٠ ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾
211
قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَمِيزَ﴾.
فيه (١) قراءتان: التشديد والتخفيف (٢). وهما لغتان. يقال: (مِزْتُ الشيءَ بَعْضَهُ عن بَعْض)، فأنا (أمِيزُهُ مَيْزًا)، و (مَيّزْتُهُ تمييزًا) (٣). ومنه الحديث: "مَن مَازَ أذًى عن طريق، فهو له صدقة" (٤).
(١) (فيه): ساقطة من (ج).
(٢) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر: ﴿يَمِيزَ﴾ بفتح الياء الأولى، وكسر الميم مع التخفيف.
وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: ﴿يُمَيز﴾ -بضم الياء الأولى، وفتح الميم مع التشديد.
انظر: "السبعة" ٢٢٠، و"الحجة"، للفارسي ٣/ ١١٠، و"المبسوط" لابن مهران ١٤٩ - ١٥٠.
(٣) أي: عزلته، وفرزته، وخلصته
انظر: "علل القراءات" للأزهري ١/ ١٣٣، و"المجموع المغيث" ٣/ ٢٤٨، و"اللسان" ٧/ ٤٣٠٧ (ميز).
(٤) الحديث من رواية أبي عبيدة بن الجراح، أخرجه: أحمد في "المسند" ١/ ١٥٩ -
١٩٦، والخطابي في "غريب الحديث" ٣/ ١٢٧.
وأورده ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" ٤/ ٣٨٠، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٢/ ٣٠٠، وزاد نسبة إخراجه لأبي يعلى، والبزار، وقال: (وفيه يسار بن أبي سيف، ولم أر من وَثَّقه، ولا من جرحه، وبقية رجاله ثقات).
قال البنا في: "الفتح الرباني" ١٩/ ١٩٧ - معلقًا على كلام الهيثمي-: (الظاهر أن النسخة التي وقعت للحافظ الهيثمي فيها يسار -بالياء التحتية، والسين المهملة-، وهو خطأ؛ ولذلك لم يجد له ترجمة، والصواب بشار بالباء الموحدة، والشين المعجمة-، كما جاء في نسختنا. وفي "تقريب التهذيب": بشار بن أبي سيف الجَرمي -بفتح الجيم- الشامي، نزل البصرة، مقبول).
ولفظه -عند أحمد-: (مَن أنفق نَفَقَة فاضلة في سبيل الله، فبسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضًا، أو مَازَ أذًى، فالحسنة بعشر أمثالها، الصوم =
212
وقال الشاعر:
تنفِي رُضَاضَ الحَصَا مَنَاسِمُها كَمَا يَمِيزَ الزُّيُوفَ مُنْتَقِدُ (١)
و (التمييز) (٢) ليس بمنقول بالتشديد عن (المَيْز)؛ كـ (التَّغْرِيم) مِنَ (الغرْم)؛ لأنه لو كان منقولًا لَتَعدَّى إلى مفعولين؛ كـ (التغريم)؛ فإنه [يقال] (٣): غَرَّمْتُ زيدًا مالًا. و (التمييز) لا يتعدّى إلى مفعولين إلّا بحرف جرٍّ؛ نحو قولك: (مَيَّزت مَتَاعَكَ بعضَه من بعض).
ومثل (٤) (مَيَّز) -في أنّ التضعيف فيه ليس للنقل والتعدّي- قولُهم: (عَوَّض)، فهو بمعنى (عاض). ولو كان التضعيف فيه للنقل؛ لَتَعدّى إلى ثلاثة مَفْعولِينَ (٥)؛ لأن (عاض) يَتَعدَّى إلى مَفْعولَيْنِ، فـ (عَوّضَ) و (عاض) لُغَتَان.
وحجّة مَن قَرَأ بالتخفيف: أنَّه يَصْلُح للقليل والكثير؛ لأن (المَيْز) كـ (التميِيز)، سَوَاء، وهو -مع ذلك- خفيف في اللفظ. وإذا اجتمعت خِفَّةُ اللفظ مع استيعاب المعنى، كان المصير إليه أَوْلى.
= جُنَّة ما لم يَخرْقها، ومَن ابتلاه ببلاءٍ في جَسَدِهِ فَهو له حِطَّة).
ومعنى (مَازَ): نحَّى وأزال.
(١) لم أهتد إلى قائله.
رُضَاض الحصا: فُتَاتُه. انظر: "اللسان" ٣/ ١٦٥٩ (رضض).
المناسم: جمع (مَنْسِم)، وهو: طرف الخُفِّ من: البعير والنعامة والفيل والحافر. انظر: "اللسان" ٧/ ٤٤١٥ (نسم).
والمُنْتَقِد: الصيرفي الحاذق، الذي يميز الدراهم الصحيحة من الزائفة.
(٢) من قوله: (والتمييز..) إلى (.. فعوض وعاض لغتان): نقله -بمعناه- عن "الحجة" للفارسي ٣/ ١١١ - ١١٣.
(٣) ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). وساقط من (ب). والمثبت من (ج).
(٤) في (ج): (ومثلى).
(٥) في (ب): (مفاعيل).
213
وحكى أبو زيد، عن أبي عمرٍو، أنه كان يقول (١):
التشديد للكثرة، فأما واحدٌ مِن واحدٍ فـ (يَمِيز) -بالتخفيف-. والله -تعالى- يقول: ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾، فَذَكَر شيئين. و-هذا- كما قال بعضهم (٢) في (الفَرْق) و (التَّفرِيق) (٣).
وحجّة من قرأ بالتشديد: أن التشديد للتكثير والمبالغة، ويِكثر المؤمنون والمنافقون. فالتمييز -ههنا- أَوْلى، والله -تعالى- ذَكَرَ الجِنْسَيْنِ بلفظ ﴿الْخَبِيثَ﴾ و ﴿الطَّيِّبِ﴾ وهما للجِنْس؛ فالمراد بهما: جميع المؤمنين والمنافقين، لا اثنان منهما. وقد قال الله -تعالى-: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [الملك: ٨]. وهذا مُطَاوع [(التَّميِيِز). والذي يدل على (٤) أن التخفيف أولى، قولُه: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ﴾ [يس: ٥٩]، وهو مُطاوع] (٥) (المَيْز).
وقوله تعالى: ﴿لِيُطْلِعَكُمْ﴾.
الإطْلاعُ: أن تُطلِعَ إنسانًا على أمرٍ، لم يكن عَلِمَ (٦) به. فيقال (٧):
(١) لم أقف على مصدر قوله. وقد ذكره -بمعناه- ابنُ زنجلة في: "حجة القراءات" ١٨٢.
(٢) ذكر الثعلبي والقرطبي هذا القائل، وهو: أبو معاذ، الفضل بن خالد المروزي، أحد كبار علماء النحو، قال السيوطي: (وذكره ابن حبان في الثقات، وصنف كتابًا في القرآن). توفي سنة (٢١١ هـ). انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٠ أ - ب، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٨٩، و"بغية الوعاة"، للسيوطي ٢/ ٢٤٥.
(٣) في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٠ أ، (ومثله، إذا جَعلتَ الواحدَ شيئين، قلت: (فَرَقْتُ بينهما)، ومنه: (فَرْقُ الشَّعْرِ). فإن جعلته أشياء، قلت: (فَرَّقتْه تفريقًا). وانظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ٢٨٩.
(٤) وردت العبارة في (ج): (والذي يدل من التميين على..). ولم أر لها وجهًا. والعبارة ساقطة من: (أ)، (ب). وما أثبتُّه هو ما استصوبته.
(٥) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج).
(٦) في (ج): (يعلم).
(٧) في (ج): (فيقال).
214
(أطلعته على كذا)؛ أي: أعلمته. ويقال: (أطْلِعْنِى طِلْعَ أمْرِكَ)؛ أي: أعلمني بما خَفِيَ منه عَلَيَّ (١).
ويقال: (طَلَعْتُ على كذا)، و (اطَّلَعتُ)، و (أطْلَعْتُ عليه) (٢)، و (أطْلَعْتُ غيري) (٣). فـ (الاطلاع)، واقعٌ ومُطاوع (٤).
١٨٠ - قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ الآية.
قُرِئ: ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ بالياء والتاء (٥).
فمن قَرَأ بالياء؛ فـ ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾: فاعل ﴿يَحْسَبَنَّ﴾]، (٦)، والمفعول الأول محذوفٌ؛ لدلالة اللفظ عليه؛ معناه: لا يَحسَبَنَّ الذين يبخلون بما آتاهم الله مِنْ فَضْلِهِ، البُخْلَ خيرًا لهم. فدلّ ﴿يَبْخَلُونَ﴾ على البخل، فَحُذِفَ؛ كقولهم: (مَنْ كَذَبَ كان شَرًّا له)؛ أي: الكذب (٧). ومثلُه:
إذا نهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إليه (٨)
(١) في (ج): (خفي علي منه).
(٢) (وأطلعت عليه): ساقطة من (ج).
(٣) انظر (طلع) في: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٠٦، و"اللسان" ٥/ ٢٦٨٩.
(٤) سبق بيان أن الفعل الواقع، هو: المتعدِّي إلى مفعول به أو أكثر. وسُمِّي بذلك؛ لأنه يقع على المفعول به.
أما الفعل المُطَاوع، فيعني به -هنا- الفعل اللازم؛ لأن المطاوعة سبب من أسباب لزوم الفعل المتعدي لواحد.
انظر: "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" د. أحمد اللبدي ١٤١.
(٥) قرأ حمزةُ ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ بالتاء. وقرأ الباقون بالياء.
انظر: "حجة القراءات"، لابن زنجلة: ١٨٣، و"التبصرة" لمكي ٤٦٨.
(٦) ما يبن المعقوفين: زيادة من (ج).
(٧) انظر: "الأصول في النحو" لابن السراج ١/ ٧٩، ٢/ ١٦٧.
(٨) صدر بيت، وعجزه:
وخَالَفَ والسَّفِيهُ إلى خلِافِ
215
أي: إلى السَّفَةِ. وأنشد الفَرّاء (١):
هُمُ المُلوكُ وأبناءُ المُلوكِ هُمُ والآخِذُونَ بِهِ والسَّاسَةُ الأُوَل (٢)
قوله: (به)؛ يريد: بالمُلْكِ. فاكتَفَى منه بِذِكْرِ (المُلُوك).
وقوله تعالى: ﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾.
﴿هُوَ﴾ -ههنا- فَصْلٌ (٣)، وهو الذي يُسَمِّيه الكوفيون:
= وقد نُسب في "إعراب القرآن"، المنسوب للزجاج ٣/ ٩٠٢ إلى أبي قير الأسلت الأنصاري. وورد غير منسوب في: "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٠٤، ٤٢٩، و"تأويل مشكل القرآن" ٢٢٧، و"مجالس ثعلب" ١/ ٦٠، و"تفسير الطبري" ٧/ ٤٣١، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٤٨، ٤٢٢، و"الخصائص" ٣/ ٤٩، و"المحتسب" ١/ ٧٠، ٢/ ٣٧٠، و"شرح الحماسة"، للمرزوقي ٢٤٤، و"أمالي المرتضى" ١/ ٢٠٣، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦١ أ، و"العمدة" لابن رشيق ٢/ ١٠٣٤، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ١٠٣، ١٦٩، ٢/ ٣٦، ٣٨٥، ٥٠٧، و"البيان" للأنباري ١/ ١٢٩، ٢٨٥، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي ٥/ ١٧٩، و"خزانة الأدب" ٤/ ٣٦٤، ٥/ ٢٢٦.
وروايته في "شرح الحماسة": (.. إذا زُجِرَ السفيهُ..).
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ١٠٤.
(٢) البيت للقطامي. وقد ورد في "ديوانه" ٣٠.
وورد منسوبًا له في: "جمهرة أشعار العرب" ٨١١، و"أمالي المرتضى" ١/ ٢٠٣، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ١٠٣، ٢/ ٣٦، ٣/ ١٠٣، و"خزانة الأدب" ٥/ ٢٢٧، ٢٢٨، ٦/ ٤٨٣، ٤٨٥.
وقد ورد في المصادر السابقة -عدا ديوانه-: (.. وأبناء الملوك لهم..). ويعني بها. وأبناء الملوك منهم.
البيت من قصيدة قالها في مدح عبد الواحد بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، وقيل: هو عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وكان يكنى أبا عثمان. وقد ورد اسمُ عبد الواحد وكنيتُه في القصيدة.
(٣) في (ج): (فضل). وضمير الفَصْل، تَسْمِيَةٌ بَصْرِيَّةٌ، (لأنه فَصَل بين المبتدإ والخبر. وقيل: لأنه فصل بين الخبر والنعت. وقيل: لأنه فصل بين الخبر والتابع؛ لآن الفصل به يوضح كون الثاني خبرًا تابعًا). "همع الهوامع" ١/ ٢٣٦. وانظر: "دراسة في النحو الكوفي" ٢٣٩.
216
عماداً (١)؛ وذلك أنّ تَقَدمَ ﴿يَبْخَلُونَ﴾ بمنزلة تقدم (البُخْل)؛ فَكَأنَّه قيل: ولا يَحْسَبَنَّ الذين يَبخَلُونَ البُخْلَ -هو- خَيْرًا لهم.
ومَن قَرَأ بالتَّاء فَقَال الزّجَّاجُ (٢). معناه: ولا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الذين يبخلون، فَحذف المُضَاف؛ كأنه قيل: ولا تَحسَبَنَّ بُخْلَ الباخلين [هو] (٣) خيرًا.
وأمَّا التفسير فقال ابنُ عباس -في رواية عطاء- (٤)، وأكثر أهل التفسير -ابن مسعود (٥)، والشعبي (٦)، والسُّدِّي (٧)، وغيرهم (٨) -: نزلت
(١) لأنه يعتمد عليه في الفائدة. وبعض الكوفيين يسميه: دِعَامة؛ لأنه يُدعَم به الكلام؛ أي: يُقوى به ويؤكد. وبعضهم سماه: صفة. انظر: المراجع السابقة، و"شرح المفصل" ٣/ ١١٠، و"الإنصاف" للأنباري ص ٥٦٧.
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٣. نقله عنه بمعناه.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٤) قوله، في: "بحر العلوم" ١/ ٣١٩، و"تفسير الثعلبي": ٣/ ١٦١ ب. إلا أنهما أطلقا العزو إليه، ولم يقيداه برواية عطاء.
وفي "زاد المسير" ١/ ٥١٢ أنه من رواية أبي صالح.
وورد عنه قول آخر -من رواية عطية العوفي-: إن المراد بالآية: أهل "الكتاب"، بخلوا أن يبينوه للناس. وهو قول مجاهد.
انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٩٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٢٦.
(٥) ورد قوله هذا في أثر يرفعه النبي - ﷺ -، في: "سنن الترمذي" رقم (٣٠١٢). كتاب التفسير. ومن سورة آل عمران. وقال: (حسن صحيح)، وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" ٤/ ١٢ رقم (٢٢٥٦)، والنسائي في "تفسيره" ١/ ٣٤٧ رقم (١٠٤)، والطبري في "تفسيره" ٤/ ١٩٢، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٨٢٦.
(٦) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦١ ب.
(٧) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٩٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٢٦، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦١ ب، و"النكت والعيون" ١/ ٤٤٠.
(٨) انظر: المصادر السابقة.
217
الآية في الباخلين بالزكاة الواجبة (١) عليهم.
وقوله تعالى: ﴿بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ قال ابن عباس (٢): يريدون: الذهبَ والفِضَّةَ والحيوان والثِّمَارَ. فَفَسَّرَهُ (٣) بالأشياء التي تَجِبُ فيها الزكاة
وقوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾ قال الحَسَن (٤): لأنهم نالوا بهِ عذَابَ الله.
وقوله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أكثرُ المفسِّرينَ على أنَّ معناه: يُجْعَلُ ما بَخِلَ به مِنَ المَالِ حَيَّةً، يُطَوَّقها يومَ القيامة (٥) في عُنُقِهِ، تَنْهَسُهُ (٦) مِنْ قَرْنِهِ (٧) إلى قَدَمِهِ (٨).
يَدُلُّ على هذا ما روى ابن مسعود عن النبي - ﷺ -، [قال] (٩): "ما مِن
(١) انظر: (الموجبة).
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) في (ج): (يفسره).
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
(٥) (يوم القيامة): ساقط من (ج).
(٦) في (ب)، (ج): (تنهشه). (تَنْهَسُهُ، وتَنْهَشُه)، بمعنى واحد. ولكن (النَّهْسَ): أن يأخذه بمقدم الأسنان، و (النَّهْش): أن يأخذه بأضراسه. انظر: "القاموس المحيط" ٥٧٩ (نهس)، ٦٠٨ (نهش).
(٧) (القَرْنُ) من الإنسان: الجانب الأعلى منه. انظر (قرن) في: "القاموس" ١٢٢٣، و"المعجم الوسيط" ٢/ ٧٣٧.
(٨) من قال ذلك: أبو مالك العبدي، وابن مسعود، وأبو وائل، والسُّدِّي، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٣١٨، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٩١ - ١٩٣.
(٩) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج).
218
رَجُلِ لا يُؤدِّي زكاةَ مالِهِ إلاّ جُعِلَ (١) له شُجاعٌ (٢) في عنقِه يومَ القيامة"، ثُمَّ قَرَأ علينا رسول الله - ﷺ -، مِصْدَاقَهُ مِنْ كتاب الله ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (٣) وقال إبراهيم النَّخَعِي: معناه: يُجعَل يوم القيامة في أعناقهم، طَوْقٌ مِن نارٍ.
أخبرنا إسماعِيل بن أبي القَاسِم الصوفي (٤)، أَبَنَا (٥) أبو عبد الرحمن، عبد الله بن عمر بن علَّك الجَوْهري (٦)، بِمَرْو (٧)، ثنا عبد الله بن محمود
(١) في (ج): (جعل الله).
(٢) الشجاع -بضم الشين وكسرها-: الحَيَّةُ الذَّكَر. وقيل: الحيةُ مطلقًا. انظر: "الفائق في غريب الحديث" ٢/ ٢٢٢، و"النهاية في غريب الحديث"٢/ ٤٤٧.
(٣) الحديث أورده المؤلف بالمعنى، وقد أخرجه: الترمذي في "سننه" رقم (٣٠١٢). وقال: (حسن صحيح). والنسائي في "سننه" ٥/ ١١ رقم (٢٤٤١). وأخرجه في "تفسيره" ١/ ٣٤٦ - ٣٤٧. وابن ماجه في "سننه" رقم (١٧٨٤)، وأحمد في "المسند" (شرح شاكر): رقم (٣٥٧٧) وقال شاكر: (إسناده صحيح). والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٢٩٨، ٢٩٩ كتاب التفسير. باب: سورة آل عمران. وابن خزيمة ٢/ ١٢ رقم (٢٢٥٦)، والطبراني في "المعجم الكبير" ٩/ ٢٦٢ رقم (٩١٢٣ - ٩١٢٦). والطبري في "تفسيره" ٤/ ١٩٢، وابن أبي حاتم ٣/ ٢٧٨.
(٤) تقدمت ترجمته.
(٥) (أبنا): اختصار لـ (أخبرنا). وفي "تدريب الراوي": (ويكتبون من (أخبرنا): (أنا)؛ أي: الهمزة والضمير. ولا تحسن زيادة الباء قبل النون، وإن فعله البيهقيُّ وغيره؛ لأنها تلتبس برمز (حدثنا)) ٢/ ٨٧.
(٦) ويقال المروزي. أحد الحفاظ المتفق على جلالتهم، ويعد من نقاد أئمة الحديث بـ (مرو). توفي سنة (٣٦٠ هـ).
انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٦/ ١٦٨، و"تذكرة الحفاظ" ٣/ ٩٢٩، و"شذرات الذهب" ٣/ ٣٧.
(٧) مَرْوُ، وتسمى: (مرو الشاهِجَان). وهي أشهر مدن خراسان، وقصبتها. والنسبة =
219
السَّعْدِي (١)، ثنا موسى بن بحر (٢)، ثنا عَبِيدة بن (٣) حُمَيْد (٤)، حدّثَنِي منصور (٥)، عن إبراهيم (٦) -في قوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ -، قال: (يُطَوَّقون بِطَوْقٍ (٧) منْ نار) (٨).
= إليها: (مرْوَزي) على غير قياس. ويقال عن الثوب (مَرْوِي) على القياس. وهناك مدينة أخرى تسمى (مرو الرُّوذ). والنسب إليها: (مرْوَرُوذي) و (مرُّوذي). وهي أصغر من (مرو الشاهِجان). انظر: "معجم البلدان" ٥/ ١١٢.
(١) هو: أبو عبد الرحمن، السعدي المروزي. الشيخ العالم الحافظ الثقة المأمون. توفي سنة (٣١١ هـ).
انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٤/ ٤٩٩، و"تذكرة الحفاظ" ٢/ ٧١٨، و"شذرات الذهب" ٢/ ٢٦٢.
(٢) أبو عِمْران، المروذي، أصله عراقي، مقبول، عده ابن حجر من الطبقة العاشرة، ممن لم يَلْقَوا التابعين، وإنما رَوَوْا عن أتباع التابعين، مات سنة (٢٣٠ هـ). انظر: الثقات، لابن حبان: ٩/ ١٦٢، و"الجرح والتعديل" ٨/ ١٣٧، و"تقريب التهذيب" ص ٥٥٠ (٦٩٥٠).
(٣) في (ج): (عن) بدلًا من (بن).
(٤) هو: عَبِيدة بن حُمَيد التيمي، وقيل: الليثي، وقيل: الضبِّي، أبو عبد الرحمن الحذَّاء. قال ابن المديني: ما رأيت أصح حديثًا منه، وأحسن الإمام أحمد الثناء عليه جِدًا، ورفع أمره. وكان صاحب نحو وعربية وقراءة للقرآن. مات سنة: ١٩٠ هـ انظر: "الجرح والتعديل": ٦/ ٩٢، و"تاريخ بغداد" ١١/ ١٢٠، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ٤٢٢، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٤٣.
(٥) تقدمت ترجمته.
(٦) هو النخعي.
(٧) في (ج): (يطوق).
(٨) أخرج الأثر عنه -كذلك-: سفيان الثوري في "تفسيره" ٨٢، وعبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ١٤١، والطبري في "تفسيره" ٤/ ١٩٢ - ١٩٣، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٨٢٨، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٨٥ وزاد نسبة إخراجه لسعيد ابن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
220
وعلى هذا التَّفْسِير، يجعَل ما بَخِلُوا به مِنْ المال، طَوْقًا مِنْ نارٍ، كما جُعِلَ في التفسير الأوَّلِ حَيَّة.
وقال المُؤَرج (١): معناه (٢): يُلزَمُون أعمالَهم، مِثْل ما يَلْزم الطوقُ العنقَ. والعربُ تكني بالتطويق (٣) عن الإلْزام؛ ومنه قراءة مَن قرأ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ [البقرة: ١٨٤]، (٤)؛ أي: يَتَكَلَّفُونَه، وُيلْزَمُونَه. يُقال: (طُوِّقَ فلانٌ عَمَلَهُ، مثلَ طَوْقِ الحَمَامَةِ).
قال ابنُ الأنباري (٥): معناه -على هذا التفسير-: سَيُطَوّقُونَ جَزَاءَ ما بخلُوا به. وذِكْرُ التَّطْوِيق -ههنا- على جهة المَثَلِ، كِنَايَةً عن الإلزام، لا على أنَّ ثَمَّ أطواقًا.
وقال ابن عباس -في رواية العَوْفي- (٦): نزلت هذه الآية في اليهود الذين كتموا صِفَةَ محمد - ﷺ -، وأراد بـ (البخل): كِتْمان العِلْم الذي آتاهم الله.
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) (معناه): ساقط من (ج).
(٣) في (ج): (بالطريق).
(٤) القراءة التي ذكرها المؤلف: ﴿يُطَوَّقونه﴾، هي قراءة: عائشة، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وطاوس، وعطاء.
انظر: "صحيح البخاري" (٤٥٠٥) كتاب التفسير. باب: ٢٥ فقد رواها عن ابن عباس. و"مصنف عبد الرزاق" ٤/ ٢٢٠، ٢٢١، ٢٢٣ رقم (٧٥٧٣ - ٧٥٧٥)، (٧٥٧٧) رواها عن ابن عباس، ورقم (٧٥٧٦) عن عائشة، ورقم (٧٥٨٣) رواها عن ابن جبير. و" الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد بن سلام ٤٦، ٤٧، و"تفسير الطبري" ٢/ ١٣٢، و"الدر المنثور" ١/ ٣٢٦، فقد أخرجوها عمن سبق.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) هذه الرواية في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٩٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٢٦، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٢ - ب، و"أسباب النزول" للمؤلف ١٣٦ - ١٣٧.
221
يَدُلُّ على هذا التفسير: قولُه -تعالى-: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٣٧].
وعلى هذا، معنى قوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ﴾ أي: يُحَمَّلُون وِزْرَهُ وإثْمَهُ. وهذا القول اختيار: ابنِ كَيْسان (١)، وأبي إسحاق (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
قال المفسرون كلُّهم (٣): يعني أنه يَفْنى أهلُها، وتبقى الأملاكُ والأموالُ، ولا مالكَ لها إلا اللهُ. فجرى هذا مجْرى الوِراثَةِ؛ إذْ كانَ الخلْقُ قبل ذلك يَدّعُونَ المُلْكَ، فَلَمَّا ماتُوا عنها، ولم يُخَلِّفُوا أحدًا، كانَ هو الوارث لها -جل وعَزَّ-.
قال أبو إسحاق (٤): خُوطِبَ القومُ بِمَا يَعْقِلُون؛ لأنهم يَجْعَلُون ما رَجَعَ إلى الإنسانِ ميراثًا، [إذا كان ملكًا له.
وتأويله: بُطلانُ مُلْكِ جميع المَالِكين، إلّا مُلْك الله -جَلَّ وعَزَّ-] (٥)، فيصير كالميراث.
قال ابن الأنباري (٦): والعرب تقول: (وَرِثَ فلانٌ عِلْمَ فلانٍ): إذا
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) هو الزجاج، في "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٤٩، و"معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٩٣، و"تفسير الطبري" ٧/ ٤٤٠، و"بحر العلوم" ١/ ٣١٩، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٤٣، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٩٣.
(٤) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٣. نقله عنه بنصه.
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٦) لم أقف على مصدر قوله. وقد أورده الفخرُ الرازي في "تفسيره" ٩/ ١١٩ والنيسابوري في: "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" ٤/ ١٣٧.
222
تَفَرَّد به (١) بعد أن كان مشاركًا فيه (٢).
وقد قال الله -تعالى- (٣): ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: ١٦]، [فَذَهَبَ إلى وِراثَتِهِ عِلْمَهُ، بعد أنْ كانَ داودُ] (٤) مشاركًا فيه (٥)، أو (٦) غالبًا عليه.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
مَنْ قَرَأَ بالياءِ (٧)، فلأنَّ ما قَبْلَهُ على الغَيْبَةِ، وذلك قوله: ﴿سَيطَوَّقُونَهُ﴾ (٨)، ﴿والله بِمَا يَعملون (٩) خبير﴾ مِنْ مَنْعِهِم الحقوقَ، فَيُجَازِيهم عليه.
ومَن قرأ بالتاء؛ فَلأنَّ قبل هذه الآية خِطابًا، وهو قوله: ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٧٩]، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، فَيُجازِيكم عليه.
(١) في (ب): (انفرد). وكذا وردت في "تفسير الفخر الرازي".
(٢) في "غرائب القرآن": (مشاركًا له فيه).
(٣) في "غرائب القرآن": (ومثله). بدلًا من (وقد قال الله تعالى).
(٤) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج). والعبارة في "تفسير الفخر الرازي": (وكان المعنى: انفراده بذلك الأمر، بعد أن كان داود..).
(٥) في "غرائب القرآن": (مشاركًا له فيه).
(٦) في (ج) و"تفسير الفخر الرازي": (و) بدلًا من (أو).
(٧) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: بالياء في ﴿يَعْمَلُونَ﴾. وقرأ الباقون: بالتاء ﴿تَعْمَلُونَ﴾. انظر: "السبعة" ٣٢٠، و"القراءات" للأزهري ١/ ١٣٣، و"الحجة"، للفارسي ٣/ ١١٣.
ومن قوله: (من قرأ..) إلى (.. أقرب إلى الصواب): نقله -بتصرف- عن: "الحجة" للفارسي ٣/ ١١٣.
(٨) هكذا في (أ)، (ب)، (ج). وفي "الحجة": (سيطوقون).
(٩) في (ج): (تعملون).
223
والغَيْبَةُ أقرب إليه مِنَ الخطاب.
١٨١ - وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا﴾ الآية.
قال ابن عباس (١) والمفسرون (٢): نزلت هذه الآية في اليهود، حين قالوا -لَمَّا نَزَلَ قولُه: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ (٣) -: إنَّ اللهَ فقيرٌ يَسْتَقرِضُنا، ونحن أغنياء.
وُيروى أن قائل هذا رجلٌ من اليهود، يقال له فِنْحاص، قال: لو كان الله غنيَّا ما استَقْرَضَنَا أموالَنَا (٤)، وأنه (٥) يَنهَى عن الرِّبَا، ويعطينا، ولو كان غنيًا ما أعطانا الرِّبا. وقيل: إن قائِلَه: حُييُّ بن أخْطَب (٦).
وقوله تعالى: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ أي: نأمر (٧) الحَفَظَةَ بإثبات قولهم
(١) قوله، في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٩٤، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٢٨.
وأورده السيوطي في: "الدر" ٢/ ١٨٦ وزاد نسبة إخراجه إلى ابن إسحاق، وابن المنذر. وذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ٨/ ٢٣١، والسيوطي في "لباب النقول" ٦١، ٦٢ وحسَّنا إسناده.
(٢) منهم: السُّدِّي، ومجاهد، وابن جريج، والحسن، وقتادة، وعكرمة، وابن إسحاق. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٩٤ - ١٩٥، و"أسباب النزول"، للواحدي ص ١٣٧ - ١٣٨.
(٣) في (أ): (ذي). والمثبت من رسم المصحف، وبقية النسخ.
(٤) انظر: المصادر السابقة.
(٥) في (ج): (فإنه).
(٦) قال بذلك: قتادة انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٩٥، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٨٧وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر. ونُسِب القولُ بهذا للحَسَن. انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٣ أ، و"زاد المسير" ١/ ٥١٥. ويرى ابنُ عطيَّة أنَّ هذا القول (صدر أولا عن فنحاص، وحُيَي، وأشباههما من الأحبار، ثم تقاولها اليهود..)، ويستدل ابن عطية بقوله تعالى: ﴿قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا﴾، حيث إنهم جماعة. انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٤٤١.
(٧) في (ب): (نأمن).
في صحائف أعمالهم؛ وذلك أظهر في الحجَّة عليهم. وهذا كقوله: ﴿وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ [آل عمران: ١٨١]
وقرأ (١) حمزة (٢): ﴿سيُكتَبُ ما قالوا﴾ اعتبارًا بقراءة عبد الله (٣): (وَيُقالُ ذُوقوا عذابَ الحَرِيق) (٤)؛ ولأنَّه مِنَ التَّصَرُّف في وجوه الكلام.
وقراءة العامَّة أحسنُ؛ لِجَرْيِ الكلامِ فيها على تَشَاكل (٥).
و ﴿الْحَرِيقِ﴾: اسمٌ للنار الملتهبة، وهو بمعنى المُحْرِق (٦).
١٨٢ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾.
أي: ذلك (٧) العذاب بما سلف من الإجرام، وأضيف التقديم إلى أيديهم -وهو لهم في الحقيقة-؛ لِيَكون أدَلّ على تَوَلِّي الفِعْلِ؛ لأنه قد يُضافُ الفِعْلُ إلى الإنسان على أنه أَمَرَ به، وَدَعَا إليه؛ نحو قوله: ﴿يُذَبِّحُ
(١) في (ج): (وقال). وانظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٤٩ فقد ورد فيه معنى ما ذكره المؤلف.
(٢) وقد قرأ حمزة: {سيُكتَبُ﴾ -بالياء-، و ﴿قَتْلُهُم﴾ -بضم اللام-، و ﴿يَقُولُ﴾ -بالياء-. وقرأ الباقون: ﴿سَنَكتُبُ﴾ -بالنون-، و ﴿قَتْلُهُم﴾ -بفتح اللام-، و ﴿نَقُولُ﴾ -بالنون-.
انظر: "القراءات" للأزهري ١/ ١٣٤، و"الحجة" للفارسي ٣/ ١١٥، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ١٨٣.
(٣) هو ابن مسعود - رضي الله عنه -.
(٤) انظر: قراءته، في "المصاحف" لابن أبي داود ٦٠، وهي فيه: (ويقال لهم ذوقوا)، و"معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٤٩، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٩٦، و"زاد المسير" ١/ ٥١٥، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٩٥.
(٥) في (ب): (مشاكل).
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٩٤.
(٧) (ذلك): ساقطة من (ج).
أَبْنَاءَهُمْ} [القصص: ٤]، فإذا ذُكِرَت اليد، دَلَّ على تَوَلِّي الفعل؛ نحو قوله -تعالى-: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ [يس: ٧١].
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ ابتداءٌ. وخَبَرُهُ: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اَللهَ﴾. أي: وبأن الله ﴿لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ وموضع (أنَّ) (١): جَرٌّ (٢).
١٨٣ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ الآية.
قال أبو إسحاق (٣): هذا مِن نَعْتِ (العبيد) (٤).
ويجوز أن يكون رفعًا بالابتداء؛ على معنى: هم الذين قالوا. ويجوز أن يكون بدلًا مِنَ ﴿الَّذِينَ﴾ الأوَّل (٥).
قال السدِّي (٦): إن الله أمَرَ بني إسرائيلَ في التوراة: مَن جاءَكم (٧) يَزْعُمُ أنه رسول الله، فلا تُصَدِّقوه حتى يأتيكم بِقُرْبانٍ تأكله النار، حتى يأتيكم المسيحُ ومحمد، فإذا أتَيَاكم، فآمنوا بهما، فإنهما يأتيان بغير قُرْبان.
وقوله تعالى: ﴿بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾.
(١) في (ج): (أجر) بدلًا من: (أن).
(٢) لأنها معطوفة على (ما) المجرورة بالياء، من قوله: ﴿مِّمَّا عَمِلَتْ﴾.
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٤. نقله عنه بنصه.
(٤) قال ابن عطية عن هذا الإعراب: (وهذا مفسد للمعنى والرصف). "المحرر الوجيز" ٣/ ٤٤٣.
(٥) ويجوز أن يكون صفة لـ ﴿الَّذِينَ﴾ في قوله: ﴿قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا﴾. ويجوز فيها النصب بإضمار فعل، مثل: (أذُمُّ)، أي: أذم الذين. انظر: "الدر المصون" ٣/ ٥١٦.
(٦) قوله -بنصه- في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٤ ب.
(٧) في المصدر السابق: (من جاءكم من أحد يزعم).
226
القُرْبان: البِرُّ الذي تتقرب به إلى الله (١). وأصلُهُ المَصْدَر، من قولك: قَرُبَ قُرْبانًا (٢). كالكُفْران والرُّجْحان، والخُسْران، ثم يُسَمَّى (٣) به نفْسُ المُتَقَرَّب به. ومنه قوله - ﷺ -، لكَعْبِ بن عُجْرَة (٤): "يا كعبُ: الصوم جُنَّة، والصلاة قُرْبان" (٥)؛ أي: بها يُتَقَرَّبُ إلى الله، ويُسْتشفَعُ في الحاجة
(١) انظر: "جمهرة اللغة" ١/ ٣٢٥، و"الكُليات" ٧٠٢، ٧٣٣، و"التوقيف على مُهِمَّات التعاريف" ٥٧٨.
(٢) قُرْبانًا، وقِرْبانا، وقُرْبًا. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٠٦٦ (قرب).
(٣) في (ج): (سمي).
(٤) كعب بن عجرة القُضاعي، حليف الأنصار، صحابي، مدني، شهد عمرة الحديبية، وسكن الكوفة، مات بالمدينة سنة (٥١ أو ٥٢، أو ٥٣هـ).
انظر: "الاستيعاب" ٣/ ٣٧٩، و"الإصابة" ٣/ ٢٩٧.
(٥) مقطع من حديث طويل، أخرجه: عبد الرزاق في مصنفه ١١/ ٣٤٥ رقم (٢٠٧١٩). وابن حبان في صحيحه (انظر: الإحسان: ٥/ ٩ رقم (١٧٢٣)، و١٠/ ٣٧٢ رقم (٤٥١٤). والحاكم في "المستدرك" ٤/ ٤٢٢. وقال: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. والبزار (انظر: "كشف الأستار" ٢/ ٢٤١ رقم ١٦٠٩، وفيه: ".. الصلاة برهان، والصوم جنة").
وورد من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن كعب، أخرجه: ابن حبان في صحيحه (انظر: الإحسان: ١٢/ ٣٧٨ رقم ٥٥٦٧).
والطبراني في "المعجم الكبير" ١٩/ ١٦٢ رقم (٣٦١)، ولفظه عنده: (الصلاة برهان، والصوم جنة)، وأخرجه من طرق أخرى عن كعب، في: ١٩/ ١٠٥ رقم (٢١٢)، ١٣٥ رقم (٢٩٨)، و١٤١ رقم (٣٠٩)، و١٤٥رقم (٣١٨)، ولفظ بعضها: (الصلاة نور)، وبعضها: (الصلاة برهان).
وأخرجه الإمام أحمد في: المسند، عن جابر: ٣/ ٣١٢، انظر: "الفتح الرباني" ٢٣/ ٢٦ - ٢٧)، واقتصر على بعفر ألفاظه، وليس فيه هذا المقطع، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" عن جابر ٥/ ٢٤٧، وقال: (رواه أحمد والبزار، =
227
لَديْهِ" (١)
قال عَطَاءَ (٢): كانت بنو إسرائيل يَذْبَحون لله، فيأخذون الثُّرُوبَ (٣) وأطايِبَ اللَّحْم، يضعونها في وسْطِ بَيْتٍ، والسَّقْفُ مكشوفٌ، فيقومَ النبيُّ في البيت، ويُناجي رَبَّهُ، وبنو إسرائيل خارجون حول البيت، فتنزل نارٌ (٤) بيضاء لها دَويٌّ وحَفِيفٌ، ولا دُخانَ لها، فتأكل ذلك القربان، فقال الله -تعالى- إقامةً للحُجَّةِ عليهم:
﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ﴾، إلى آخرها.
وخُوطِب [بهذا] (٥) اليهودُ الذين كانوا في عهد النبي - ﷺ - لأنهم يجرون مجرَى أسلافهم؛ لِرِضاهم بمذاهبهم، وكونهم على طريقتهم.
وقد مضى مثل هذا في أوائل سورة البقرة (٦).
١٨٤ - قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ الآية.
= ورجالهما رجال الصحيح..)، وفي: ١٠/ ٢٣٠ وقال: (رواه أبو يَعلى، ورجاله رجال الصحيح، غير أبي إسحاق بن أبي إسرائيل، وهو ثقة مأمون).
وأورده المتقي الهندي في: "كنز العمال": ٦/ ٧١ - ٧٢ رقم (١٤٨٩٣)، وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد، والدارمي، وابن زنجويه، وسعيد بن منصور، والطبري، والطبراني، وأبي نعيم في: الحلية، والبيهقي في: الشعب.
(١) في (ج): (إليه).
(٢) قوله، في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٥ أ، و"زاد المسير" ١/ ٥١٦.
(٣) الثُّرُوب، جمع: ثَرْب، وهو: شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء. انظر: "القاموس" ٨٠ (ثرب).
(٤) في (ج)، و"تفسير الثعلبي": (نارا).
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٦) انظر: تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾. من الآية: ٦١ من سورة البقرة، في "تفسير البسيط".
228
قال ابن عباس (١)، والحسن (٢)، والضحّاك (٣)، وابن جريج (٤): هذه
الآية تعزِيَةٌ للنبي - ﷺ -، في تكذيب اليهود إيَّاه، وجوابٌ لقائلٍ يقول: لو كان
ما جاء به حقًّا لَصَدّق به مَن أتاه من العقلاء، وبيان أنهم إن كَذَّبوهُ،
فالتكذيب عادة للأمم، وسائر الرُّسُل قد كُذّبوا كما كُذِّب.
وقوله تعالى: ﴿وَالزُّبُرِ﴾.
معناه: الكُتُب. وهو جَمْعُ (زَبُور). والزَّبُور: الكتاب؛ بمعنى: المَزْبُور؛ أي: المكتوب. يقال: (زَبَرْتُ الكِتَابَ)؛ أي: كتبته. وكُلُّ كِتَابٍ زَبُورٌ (٥).
قال امرؤ القيس:
لِمَنْ طَلَلٌ أبْصَرْتُهُ فَشَجانِي كَخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبِ يَمَانِ (٦)
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) لم أقف على مصدر قوله.
(٣) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ١٩٨.
(٤) قوله في المصدر السابق.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٠٦ (زبر)، و"تفسير الطبري" ٤/ ١٩٨.
(٦) قوله: (عسيب) في (أ)، (ب)، (ج) لم تضبط بالشكل. البيت في "ديوانه" ص ١٦٥. وورد منسوبًا له في: "تفسير الطبري" ٤/ ١٩٨، و"اللامات" ٦٣، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٤ب، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٩٦، و"المحرر الوجيز" ٣/ ٤٤٥، و"اللسان" ٤/ ٢٤٣٤ (صرع).
الطَّلَل: ما بقي من آثار الدار. وجمعها: (أطلال)، و (طُلُول).
وقوله: (فشجاني) -هنا-: أحزنني، وترد بمعنى: أطربني؛ لأنها من الأضداد.
والعَسيب: جريدة من النخل مستقيمة دقيقة، يُكْشَطُ خوصُها.
ويريد الشاعر: أنه نظر إلى هذا الطَّلَل، فأحْزَنَه، حيث خفيت آثارُه واندَرَست، فأصبحت في خفائِها كخط كتابِ في عَسِيب النخلة. =
229
وقال الزّجاج (١): الزَّبُور: كلُّ كِتَابٍ ذي (٢) حِكْمَةٍ. وعلى هذا، يُشْبِهُ أنْ يكونَ معنى الزَّبُورِ، مِنَ: (الزَّبْرِ)، الذي هو: الزَّجْر. يقال: (زَبَرْتُ الرجلَ، أزْبُرُهُ زَبْرًا): إذا زَجَرْتُه مِنَ (٣) الباطل (٤). وسمّي الكتاب: (زَبُورًا)؛ لما فيه من الزَّبْر عن خلاف الحق. وبه سُمِّي زَبُورُ داود؛ لِكثرة ما فيه من المَزَاجِرِ، والمواعظ.
وقرأ (٥) ابنُ عامر (٦):
﴿وَبِاَلزُّبُرِ﴾ (٧)، ووجهه أنه أعاد الباءَ، وإنْ كانَ مُسْتَغْنًى عنه؛ لِضَرْبٍ
= قال شارح ديوانه عن البيت: (وقوله في (عسيب يَمَان): كان أهل اليمن يكتبون في عسيب النخلة، عهودهم وصِكاكَهِم).
وقيل أيضًا (في عسيبِ يَمان): فهي بمعنى: في عسيب رجلٍ يَمَانِ. انظر: "المجمل" لابن فارس ٥٢٢ (شجو)، و"اللسان" ٥/ ٢٩٣٥ (عسب).
(١) في: "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٥.
(٢) في "معاني القرآن": ذو.
(٣) في (ج): (عن).
(٤) انظر: (زبر) في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٠٦، و"اللسان" ٣/ ١٨٠٤.
وقال الأزهري -ناقلًا عن أبي الهيثم-: (وأصل (الزَّبْر): طيُّ البئر؛ إذا طُوِيت تماسكت واستحكمت. والزَّبْرُ: الزجر؛ لأن من زبرته عن الغَيِّ، فقد أحكمته؛ كَزَبْرِ البِئْرِ بالطِّين).
(٥) من قوله: (وقرأ..) إلى (.. حَسَن عربي): نقله -بمعناه- عن "الحجة" للفارسي ٣/ ١١٤.
(٦) هو: أبو عمران، عبد الله بن عامر بن تميم اليَحْصَبي. إمام أهل الشام في القراءة، أحد القراء السبعة، توفي سنة (١١٨ هـ).
انظر: "الفهرست" ص ٤٩، و"معرفة القراء الكبار" ١/ ٨٢، و"النشر" ١/ ١٤٤.
(٧) انظر قراءة ابن عامر في: "إعراب القراءت السبع" لابن خالويه ١/ ١٢٥، و"الحجة" للفارسي ٣/ ١١٣.
230
من التأكيد. ومما جاء على قياس هذه القراءة، قولُ رُؤبَة:
يا دارَ عَفْراءَ وَدارَ البَخْدَنِ (١)
فَكَرَّرَ الدارَ، والدار واحدةٌ لهما (٢). يدلك (٣) على ذلك: قوله:
فيكِ المَهَا مِنْ مُطْفِلٍ ومُشْدِنِ (٤)
(١) في (أ): (النجدو). وفي (ب): (النجدر). والمثبت من (ج)، ومصادر البيت. وهذا شطر بيت من الرجز، وقد ورد في: ديوانه (ضمن مجموعة أشعار العرب: ١٦١).
تصحيح: وليم بن الورد. ط ليبسغ سنة: ١٩٠٣م). وقد ورد منسوبًا له، في: "كتاب سيبويه" ٢/ ١٨٨، و"شرح أبيات سيبويه" للنحاس (تح: زهير غازي) ١٣١، و"المخصص" ٣/ ٢٩، و"إعراب القرآن" المنسوب للزجاج ٤٥٣.
وورد غير منسوب، في "اللسان" ١/ ٢٢٠ (بخدن). وقال في "اللسان": (وبَخْدَن، وبِخْدِن، كل ذلك اسم امراة)، ثم ذكر البيت، وضَبَطَها فيه: (البِخْدِنِ).
(٢) (لهما): ساقطة من (ج).
(٣) في (ج): (يدل).
(٤) في (ج): (ومشدّن) بتشديد الدال. وهي خطأ. والبيت تكملة للبيت السابق. انظر: ديوانه (ضمن مجموعة أشعار العرب: ١٦٠)، و"شرح أبيات سيبويه" للنحاس ١٣١.
المَها: بقر الوحش. وتجمع على (مَهَوَات)، و (مَهَيَات)، ومفردها: مَهَاة. انظر: "القاموس المحيط" ص ١٣٣٦ (مهو).
و (المَهَا المُطْفِل): التي لها أولادٌ صِغار. و (المها المُشْدِن): التي شَدَن ولدها، أي: قوي جسمُه وترَعْرَعَ، وطَلَع قرناه، واستغنى عن أمِّه. يقال: (شَدَنَ، يَشْدُن، شُدُونًا)، فـ (هو شَادِن). انظر: "اللسان" ٤/ ٢٢١٧ (شدن)، و"القاموس" ص ١٣٣٦ (مهو)، ص١٠٢٥ (طفل).
ولم يورد الفارسي، في "الحجة" هذا المقطع من البيت، وإنما أورد بدلًا منه بيتًا آخر من نفس القصيدة، وهو:
231
ولم يقل: فيكما. فكذلك كرَّرَ ابنُ عامر الباءَ، وكلا (١) الوجهين -مِن تكرير الباءِ وحَذْفِهِ- حَسَنٌ عربيٌّ.
ومعنى (٢) قوله: ﴿جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ إلى آخرها؛ أي: بالمعجزات، وكتب المَزَاجِرِ، و ﴿الْكِتَابِ﴾ الهادي إلى الحق.
و ﴿الْمُنِيرِ﴾؛ مِنْ قولك: (أَنَرْتُ الشيءَ، أُنِيرُه، إنَارَةً)؛ أي: بَيَّنتُه، وأوضحته، وفي الحديث: (فَرَض عمرُ بن الخطاب لِلجَدِّ، ثم أنارهما زيدُ ابن ثابت) (٣)؛ أي: أوضحها. ويقال (٤): (نارَ الشيءُ وأنَارَ، ونَوَّرَ، واستنار) بمعنى واحد. كما (٥) يقال: (أبَانَ الشيءُ (٦)، وبَيَّنَ، وتَبَيَّنَ، واستَبَان) بمعنى واحدٍ. وعلى ما ذكرنا؛ (أنَارَ) يكون واقعًا ومُطاوعًا (٧).
(١) في (أ)، (ب)، (ج): (وكلي). والمثبت من: "الحجة"، للفارسي، وهو الصواب.
(٢) (معنى): ساقط من (ج).
(٣) ورد الأثر بهذا النص في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٧٩ (نور)، و"غريب الحديث"، لابن الجوزي ٢/ ٤٤٠، و"النهاية" لابن الأثير ٢/ ١٢٥، و"اللسان" ٨/ ٤٥٧١ (نور). وأخرج نحوه عبد الرزاق، عن الزهري، قال: (إنما هذه فرائض عمر، ولكن زيد أثارها بعده، وفشت في الناس). "المصنف" ١٠/ ٢٦٦، رقم (١٩٠٦٠)، وانظر رقم (١٩٠٦١). وهكذا جاءت في "المصنف" (أثارها)، وأشار محققُه إلى ورودها في نسخة أخرى (أنارها).
(٤) من قوله: (ويقال..) إلى (.. واستبان بمعى واحد): نقله -بنصه- عن "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٨٢ (نور). وانظر: "اللسان" ٨/ ٤٥٧١ (نور).
(٥) من قوله: (كما..) إلى (بمعنى واحد): ساقط من (ج).
(٦) في "التهذيب" و"اللسان": (بان الشيء، وأبان..).
(٧) يعني بـ (الواقع): الفعل المتعدي، و (المطاوع): الفعل اللازم. انظر تفسير قوله تعالى: ﴿لِيُطْلِعَكُمْ﴾ من الآية: ١٧٩ من هذه السورة.
232
١٨٥ - قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ الآية.
﴿ذَائِقَةُ﴾: فاعِلَة، مِنَ: (الذَّوْقِ). واسم الفاعِلِ إذا أضيف إلى اسمٍ، وأُريِدَ (١) بِهِ المُضِيّ، لم يَجُزْ إلّا الجَرُّ، نحو:
(زيْدٌ ضارِبُ عمروٍ أمسِ)، فإنْ أردت به الحالَ والاستقبالَ، جازَ الجَرُّ والنَصْبُ؛ تقول: (هو ضاربُ زيدٍ غدًا)، و (ضاربٌ زيدًا (٢) غدًا). قال الله -تعالى-: ﴿هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ [الزمر: ٣٨]. و ﴿كاشفات ضُرَّه﴾ (٣)، قُرِئ بالوجهين (٤)، لأنه الاستقبال.
وروي عن الحسن أنه قرأ: (ذائقةٌ الموتَ) (٥) -بالتنوين، ونصب الموت-، واستقصاء الكلام في هذه المسألة يأتي عند قوله: ﴿ظَالِمِي أِنْفُسِهِمْ﴾ في سورة النساء.
(١) في (ج): (أريد) بدون واو.
(٢) في (أ)، (ب): (زيد). والمثبت من (ج)، وهو الصواب.
(٣) ﴿كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾: ليس في: (ج).
(٤) ﴿كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ -بالتنوين، ونصب الراء المشددة من ﴿ضُرِّهِ﴾ - هي قراءة أبي عمرو، ورواية الكسائي عن أبي بكر عن عاصم. وقرأ الباقون: ﴿كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ على الإضافة.
انظر: "السبعة" ٥٦٢، و"التبصرة" لمكي ٦٦٠، و"الكشف" له ٢/ ٢٣٩، وكتاب "الإقناع" ٢/ ٧٥٠.
(٥) لم أقف على مصدر قراءة الحسن. وقد قرأ بها: الأعمشُ، واليَزِيدي، وأبو حَيْوَة، ويحيى، وأبي إسحاق.
انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٥أ، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٢٩٧، و"البحر المحيط" ٣/ ١٣٣.
وذكر الزمخشريُّ، عن الأعمش، أنه قرأ: ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ -بدون التنوين، مع النصب- أنظر: "الكشاف" ١/ ٤٨٥.
وقوله تعالى: ﴿فَقَدْ فَازَ﴾. الفَوْزُ؛ معناه: الظَّفَرُ بالخير، والنجاةُ من الشَّرِّ (١). ألا ترى أن الله -تعالى- حَكَمَ بالفوز لِمَن أُبْعِدَ مِنَ النار، فَنَجَا مِنْ شَرِّها، وأدْخِلَ الجَنَّةَ، فَظَفِرَ بنعيمها؟.
قال الزّجاج (٢): يقال لِكُلِّ مَنْ نَجَا من هَلَكَةٍ، ولَقِيَ ما يَغْتَبِطُ به (٣): (فازَ). فتأويل (٤) ﴿فَازَ﴾: تَبَاعَدَ مِنَ المكروه، ولَقِيَ ما يُحِب.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ يريد: العيش في هذه الدار الفانية، تَغُرُّ الإنسان بما تُمَنِّيهِ مِنْ طولِ البقاء، وسينقطع عن قريب. فَوُصِفت بأنها متاعُ الغرُوُر؛ لأنها بمنزلة مَنْ يَغُرّ ببذل المحبوب، والتخييل [إليك] (٥) أنه يَدُوم.
و ﴿المَتَاع﴾ قد ذكرنا أنه كل ما يُنْتَفَع به، وُيسْتَمتَعُ (٦). وأضافَهُ إلى ﴿الْغُرُورِ﴾ لأنه يَغُرّ.
١٨٦ - قوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ الآية.
اللَّام، لام القَسَمِ. والنونُ دخلت مُؤَّكِدَةً. وضُمَّت الواوُ لِسُكُونها وسكون النون. ولم تكسر لالتقاء الساكنين؛ لأنها واو جمع، فحركت بما
(١) ورد هذا التعريف بنصه عن الليث بن المظفر، في "تهذيب اللغة" ١٣/ ٢٦٤ (فوز).
(٢) في: "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٥. نقله عنه بتصرف.
(٣) الغِبْطَة: حسن الحال، والنعمة والسرور؛ يقال: (فلانٌ مُغْتَبِطٌ)؛ أي: في غِبْطَةٍ. وجائز أن تقول: (مُغتَبَط) -بفتح الباء-، و (قد اغْتَبَطَ، فهو مُغْتَبِط)، و (اغْتُبط، فهو مغتَبَطٌ). انظر: "اللسان" ٦/ ٣٢٠٨ (غبط).
(٤) في (ج): (وتأويل)، وفي "معاني القرآن": فتأويله.
(٥) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٦) انظر: "تفسير البسيط" تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [البقرة: ٣٦].
234
كان يَجِبُ لِمَا قبلها مِنَ الضَمِّ. ومثله: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ﴾ [البقرة: ١٦]. وقد مَرّ مستقصًى فيه.
ومعنى ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾: لَتُخْتَبَرُنَّ. ولا يجوز في وصف الله تعالى الاختبار؛ لأنه طلب المعرفة، لِيُعْرَفَ الجَيِّدُ مِنَ الرَّديء، ولكنَّ معناه -في وصف الله-: أنه يُعامِلُ العبدَ مُعامَلَةَ المُخْتَبِرِ.
واختلفوا في معنى هذا الابتلاء:
فقال ابن عباس -في رواية عطاء- (١): الخطاب للمهاجرين؛ أَخَذَ المشركون أموالَهم، وباعوا رِبَاعَهم، وعَذَّبوهم.
وقال الحَسَنُ (٢): يعنى: بالفرائض التي أوْجَبَها في الأموال، وعلى الأنفس؛ كالصوم والصلاةِ والزكاةِ والحجِّ والجهاد (٣).
وقال مقاتل (٤):
يعنى: بالحوائِجِ (٥)، والخسران في الأموال، والأمراض في الأنفس.
قال (٦): ونزلت الآية في النبي - ﷺ -، وأبي بكر رضي الله عنه.
(١) أورد هذا القولَ الثعلبيُّ، في: "تفسيره" ٣/ ١٦٧ ب، قائلًا: (قال عطاء..).
(٢) قوله، في: "تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٣٣، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٧ - ب.
(٣) ولفظه عند ابن أبي حاتم: (قال نُبْتلى -والله- في أموالنا وأنفسنا).
(٤) لم أقف على مصدر قوله، وليس هو في تفسيره. وقد أورد هذا القول -مع اختلاف يسير- الثعلبي، في "تفسيره" ٣/ ١٦٧ ب، ولم يعزه لقائل.
(٥) هكذا في (أ)، (ب). وفي (ج): (بالحوائح) بدون إعجام. وفي "تفسير الثعلبي": (بالجوائح). وهي أولى بسياق الكلام والمعنى المراد؛ لأن الجوائح، هي: الشدائد التي تجتاح المال. ومفردها: جائحة. انظر: "القاموس المحيط" ٢٧٦ (جوح).
(٦) في: "تفسيره" ١/ ٣٢٠.
235
وقوله تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾.
قال عكرمة (١)، ومقاتل (٢)، والكلبي (٣)، وابن جريجِ (٤): بعث رسولُ اللهِ أبا بكرٍ الصدِّيقَ إلى فِنْحاص، يَسْتَمِدُّه. فقالَ فِنْحاصُ: قد احتاجَ رَبُّكُم إلى أن نُمِدَّه؟ فَهَمَّ أبو بكر أنْ يضرِبَهُ بالسيف، وقد كان رسول الله قال له -حين بَعَثَهُ-: لا تَفْتَاتَنَّ (٥) عليّ بشيء حتى ترجع. فتذكر أبو بكرٍ ذلك، فَكَفَّ عن الضرب، ونزلت هذه الآية (٦).
(١) من قوله: (قال عكرمة..) إلى (.. ونزلت هذه الآية): نقله -باختصار وتصرف- عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٥ ب. وقول عكرمة في "تفسير الطبري" ٤/ ٢٠٠، و"النكت والعيون" ١/ ٤٤١.
(٢) في "تفسيره" ١/ ٣١٩.
(٣) لم أقف على مصدرٍ آخر لقوله، سوى "تفسير الثعلبي".
(٤) لم أقف على مصدر قوله.
وقد ورد عنه في الآية قولُه: (يعني اليهود والنصارى، ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾، فكان المسلمون يسمعون مِنَ اليهود قولَهم. ﴿عُزَيْرُ ابْنُ الله﴾، ومِنَ النصارَى قولَهم: ﴿المَسِيحُ ابْنُ الله﴾، فكان المسلمون ينصبون لهم الحربَ إذْ يَسْمَعُون إشراكَهم..). أخرجه: الطبريُّ في: "تفسيره": ٤/ ٢٠٠ - ٢٠١، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٨٣٥، وأورده الماوردي في "النكت والعيون" ١/ ٤٤١، والسيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ١٨٩ وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر.
(٥) يقال: (افْتَاتَ عليكَ فِيهِ، وفَاتَكَ بِهِ)؛ أي: أحدث شيئا دون أمرك. والمصدر: (الافتِيَات)، وهو من: (الفَوْت)، وهو: السبق إلى الشيء دون ائتمار مَنْ يُؤْتَمَر. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٤٨١ (فوت).
(٦) انظر تفسير الآية: ١٨١ والتعليق على قول ابن عباس في الهامش. وقد ورد في سبب نزولها، ما رواه الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه: (أن كعب بن الأشرف اليهودي، كان شاعرًا، وكان يهجو النبي - ﷺ -، =
236
.......................
= وُيحرِّض كفارَ قريش في شعره، وكان النبي - ﷺ -، قدم المدينة، وأهلها أخلاطٌ: منهم المسلمون، ومنهم المشركون، ومنهم اليهود، فأراد النبي - ﷺ -، أن يستصلحهم كلَّهم، وكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى، فأمر اللهُ النبى - ﷺ -، بالصبر على ذلك، وفيهم أنزل الله: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ الآية.). "أسباب النزول"، للمؤلف: ص ١٣٨ - ١٣٩.
وقد أخرجه: أبو داود في "السنن" رقم (٣٠٠٠) كتاب الخراج، باب: كيف كان إخراج اليهود من المدينة، وعبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ١٤٢، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" ٢/ ٣٣، والطبري في "تفسيره" ٤/ ٢٠١ عن الزهري مرسلا، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٨٣٤ أخرجه متصلًا.
وأورده الثعلبيُّ في "تفسيره" ٣/ ١٦٦ أ، والسيوطي في "لباب النقول" ٦٢. وانظر: الصحيح المسند من "أسباب النزول" ص ٦٥.
وورد -كذلك- في سبب نزولها: أن رسول الله - ﷺ -، مرَّ -وهو على حمار- على مجلس فيه عبد الله بن أبَيّ -وذلك قبل إسلامه- وفي المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عَجَاجة الدابَّةِ، خَمَّرَ ابن أبَيّ أنفَهُ بردائه، ثم قال: لا تُغَبِّروا علينا. فسلم رسول الله ثم وقف، فنزل، ودعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال ابن أبَيّ: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقًا فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. فقال ابن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك. واستب المسلمون والمشركون واليهود، حتى كادوا يتساورون، فلم يزل - ﷺ -، يخفضهم حتى سكتوا. ففي فِعْل ابن أبَيّ نَزَلَ قولُه تعالى ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾. انظر: السبب بالتفصيل في: "أسباب النزول" للمؤلف: ص ١٣٩ - ١٤٠. وقد أخرج هذه القصة: البخاريُ في "صحيحه" (٤٥٦٦) كتاب التفسير، باب: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، ولكن ليس فيه النص على أن هذه القصة سبب لنزول الآية. وإنما ذكر البخاريُّ القصةَ، ثم ذكر عقبها: (قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ﴾، وقال: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا﴾ [البقرة: ١٠٩]. =
237
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ أي: على الأذى الذي ينالكم (١) منهم، كترك المفارضة. وكان هذا قبل نزول آية السَّيْفِ (٢).
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
قال ابن عباس (٣): مِنْ حقيقة الإيمان. ومعنى العَزم: تَوْطِينُ النفس على الأمر. ومعنى ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾؛ أي: ذلك مِمَّا يُعْزَم عليه مِنَ الأمْرِ (٤)؛
= ومسلمٌ في "صحيحه" رقم (١٧٩٨). كتاب الجهاد باب في دعاء النبي - ﷺ -، وصبره على أذى المنافقين. وليس فيه ذكر الآية، وأن القصة سبب لنزولها.
(١) في (ج): (الذين أنا لكم) بدلا من: (الأذى الذي ينالكم).
(٢) آية السيف، هي-في أصح الأقوال-: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)﴾ [التوبة: ٥].
ودعوى النسخ على هذه الآية، لا يسلم؛ حيث إننا مأمورون بالصبر على أذى أعداء الله على كل حال، قبل القتال وأثناءه وبعده، بل إن الصَّبرَ أثناء القتال أحوج ما نكون إليه، فكيف ينسخه الأمر بالقتال؟
كما أن الآية ذكرت البلاء في الأموال والأنفس، قبل ذكر أذى أعداء الله للمسلمين، فنحن مأمورون بالصبر على جميع أنواع البلاء، فلا يعقل أن يُنسَخ فعل الصبر، ويبقى فعله محكما غير منسوخ.
كما أن الآية أمرت بالتقوى مع الصبر، فقالت: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾، وجُعِل الأمران فعلين للشرط، وأشارت الآية إليهما في جواب الشرط باسم الإشارة، فقالت: ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ فلا يعقل أن ينسخ فعل الشرط، ويَبقَى الآخرمحكما غير منسوخ.
انظر: "النسخ في القرآن" د. مصطفى زيد ٢/ ٥١٦.
(٣) أورده هذا القول، الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٦٧ ب، وعزاه لعطاء. ويبدو أنه من رواية عطاء عن ابن عباس.
(٤) في (ج): (الأمور).
238
لظُهُورِ رُشدِهِ، وموضع الحظِّ (١) فيه، فيجب التَّمَسُّكُ به (٢).
ومعنى قول ابن عباس: (مِنْ حقيقة الإيمان)؛ أي: مِمَّا عَزَمْتم عليه مِنَ الأمر، وهو الإيمانُ والتصديق لِوَعْدِ الله بالنُّصْرِةِ.
١٨٧ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الآية.
قال ابن عباس (٣)، والسدّي (٤)، والكلبي (٥)، والمفسِّرون (٦): نَزَلت في يهود المدينة، أخَذَ اللهُ ميثاقهم في التوراة، لَيُبَيِّنُنَّ شأن محمد - ﷺ -، ونَعْتِهِ، وَمَبْعَثِهِ، ولا يُخْفُونَه، فَنَبَذوا الميثاقَ، ولم يَعْمَلُوا به (٧).
(١) في (ج): (الخط).
(٢) العَزْمُ -في اللغة-: الجِدُّ، وما عَقَد عليه قلْبُك مِنْ أنك فاعله. و (عَزَمَ الأمْرُ): جَدَّ الأمر. و (عزائم الأمور، وعَوازِمُها): فرائضها التي عَزَمَ اللهُ علينا بفعلها، أو التي يُؤَكَد الرأي أو النية والعزم عليها. و (عزائم الله): فرائضه التي أوجبها علينا.
انظر (عزم) في: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٢٥، و"اللسان" ٥/ ٢٩٣٢، و"الكُلِّيَّات" لأبي البقاء ٦٥٠، و"المصباح المنير" ١٥٥.
(٣) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٠٢، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٣٥، و"النكت والعيون" ١/ ٤٤١، و"زاد المسير" ١/ ٥٢١، و"الدر المنثور" ٢/ ١٨٩.
(٤) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٠٢، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٣٦، و"النكت والعيون" ١/ ٤٤١، و"زاد المسير" ١/ ٥٢١.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) منهم: سعيد بن جبير، وابن جريج، ومقاتل.
انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٣٢٠، و"تفسير الطبري" ٤/ ٢٠٢، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٣٥ - ٨٣٦، و"زاد المسير" ١/ ٥٢١، و"الدر المنثور" ٢/ ١٩٠.
(٧) وذهب قتادة إلى أن الآية مَعنِيٌّ بها كل من أوتي علمًا بأمر الدين. انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٤٦١، و"ابن أبي حاتم" ٩٤٨، و"الثعلبي" ٣/ ١٦٨أ، و"الدر المنثور" ٢/ ٤٠٢، وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. وهو قول محمد بن كعب، والحسن. انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٨ أ، و"تفسير =
239
قوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ (١) يُقرأ بالياء والتاء (٢). فَمَن قرأ بالياء؛ فلأنهم غَيْبٌ. ومن قرأ بالتاء؛ حَكَى المخاطبةَ التي كانت في وقت أخذ الميثاق.
ومثل (٣) هذه الآية: قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ٨٣]، بالياء والتاء (٤). وقد تقدم القول في ذلك.
= القرطبي" ٤/ ٣٠٤.
ولا تعارض بين القولين؛ لأن الآية وإن كانت خاصة في اليهود، إلا أنَّ العِبْرَة بعموم لفظها، فيدخل فيها هم وغيرُهم مِنْ أصحابِ العِلْمِ، ولذا قال ابن عَطِيَّة: (الآية توبيخ لِمُعاصِرِي النبي - ﷺ -، ثم هو مع ذلك خبر عامٌّ لهم ولغيرهم)، ثم تابع قائلاً: (وقال جمهورٌ من العلماء: الآية عامَّةٌ في كلِّ مَنْ عَلَّمه اللَهُ عِلْما، وعلماءُ الأمَّةِ داخلون في هذا الميثاق).
"المحرر الوجيز" ٣/ ٤٤٩ - ٤٥٠، وانظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ٣٠٤، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٧٢.
(١) (أ)، (ب)، (ج): ﴿ولا يكتمونه﴾. والمثبت وفق رسم المصحف الشريف.
(٢) قرأ بالياء فيهما -على الغيبة-: ﴿لَيُبَيِّنُنَّهُ﴾، ﴿ولا يَكتُمُونَه﴾: ابنُ كثير، وأبو عمرو، وعاصم -في رواية أبي بكر عنه-.
وقرأ الباقون -نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية حفص- بالتاء فيهما -على الخطاب-.
انظر: "السبعة" ٢٢١، و"القراءات"، للأزهري ١/ ١٣٤، و"إعراب القراءات السبع" لابن خالويه ١/ ١٢٥، و"الحجة" للفارسي ٣/ ١٠٦، و"الإقناع" ٢/ ٦٢٥.
(٣) في (ج): (وميث) بدلًا من: (ومثل).
(٤) قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: ﴿لا يَعبدون﴾ -بالياء-. وقرأ أبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عامر: ﴿لَا تَعْبُدُونَ﴾ -بالتاء-.
انظر: "الحجة" للفارسي ٢/ ١٢١، و"الكشف" لمكي ١/ ٢٤٩.
240
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ (١) ولم (٢) يقل: ولا تكتُمُنَّهُ (٣)؛ كما قال: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ (٤)؛ لأنه في معنى الحال (٥)، لا في معنى الاستقبال المعطوفِ على ما قبله.
كأن المعنى: لَتُبَيِّنُنَّه للناس غيرَ كاتِمِينَ (٦). و (الهاء) في ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾، يعود (٧) على محمد - ﷺ -، في قول أكثر المفسرين (٨). فهو عائدٌ على معلوم، ليس بمذكور.
وفي قول الحسن، وقَتَادة (٩): يعود على الكتاب، في قوله: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، [ويدخُلُ فيه بَيانُ أمرِ النبي - ﷺ -؛ لأنه في الكتاب] (١٠).
(١) في (أ)، (ب)، (ج): ﴿ولا يكتمونه﴾. والمثبت وفق رسم المصحف الشريف.
(٢) في (ج): (فلم).
(٣) في (ج): (ولاي كتمنه).
(٤) في (أ): (ليبيننه)، والمثبت من (ب)، ورسم المصحف الشريف. ومن قوله: (لتبيننه..) إلى (.. كأن المعنى): ساقط من (ج).
(٥) أي: أن الواوَ واوُ الحال. والفعل بعدها منصوب على الحال.
(٦) واستحسن أبو حيان أن تكون الواو للعطف، وأن الفعل بعدها من جملة المقسم عليه، ولكنه لم يُؤَكَّد؛ لأنه منفيٌّ؛ كما تقول: (والله لا يقوم زيد). وقال: (وهذا الوجه -عندي- أعْرَب وأفصح). "البحر المحيط" ٣/ ١٣٦.
(٧) في (ج): (تعود).
(٨) منهم: السدي، وسعيد بن جبير، ومقاتل. وإليه ذهب الطبري. وقال ابن الجوزي: (وهذا قول من قال: هم اليهود)، أي: المَعْنِيِّينَ بالآية.
انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٣٢٠، و"تفسير الطبري" ٤/ ٢٠٢، و"زاد المسير" لابن الجوزي ١/ ٥٢١، و"الدر المنثور" ٢/ ١٩٠.
(٩) انظر قولهما في: "النكت والعيون" ١/ ٤٤٢، و"زاد المسير" ١/ ٥٣١، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٣٠٤.
(١٠) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
241
قال الحسن (١): هذا ميثاق الله على علماء أهل الكتاب، أن يُبَيِّنوا للناس ما في كتابهم، وفيه ذكر رسول الله - ﷺ -، والإسلام، فَنَبَذُوه وَرَاءَ ظُهورهم.
وقال قتادة (٢)، والقُرَظِيُّ (٣): كلّ مَنْ أوتي عِلْمَ شيءٍ مِنْ كُتُبِ (٤) الله -جل وعز- (٥)، فقد أخذَ ميثاقُهُ: أنْ يُبَيِّنَه للناس ولا يكتُمَه.
وقوله تعالى: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾.
قال (٦) ابن عباس (٧): يريد: ألقوا ذلك الميثاقَ خَلْفَ ظهورهم.
وقال أهل المعاني (٨): تركوا العَمَلَ (٩) به (١٠)، وقد كانوا
= قال ابن الجوزي عن هذا الرأي: (وهو أصح؛ لأن الكتاب أقرب المذكورين، ولأن مِنْ ضرورة تَبْيِينِهم ما فيه، إظهار صفة محمد - ﷺ -). "زاد المسير" ١/ ٥٢١.
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٠٣، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٣٦، و"معاني القرآن"، للنحاس ١/ ٥٢٠، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٨ أ، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ١٩٠ وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(٣) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٦٨ أ، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٣٠٤.
(٤) في (ب): (كتاب).
(٥) (جل وعز): ليس في (ج).
(٦) من قوله: (قل..) إلى (.. خلف ظهورهم): ساقط من (ج).
(٧) لم أقف على مصدر قوله.
(٨) ممن قال بذلك: الشعبي. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٠٤، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٣٧. وقال به أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ١١١، وأبو الليث في "بحر العلوم" ١/ ٣٢٢.
(٩) في (ج): (العلم).
(١٠) (به): ساقطة من (ج).
242
يقرأونَهُ (١)، فصاروا بترك العمل به، كأنهم قد ألقوه وراء ظهورهم.
قال الزجّاج (٢): يقال للذي يطرح الشيء، لا (٣) يَعْبَأ به: قد جعلت هذا الأمر بِظَهْرٍ (٤).
وأنشد للفرزدق (٥): تميم بن قيس:
أمَا جَزَاءُ العارف المُسْتَيْقِنِ عندكِ إلّا حاجة التَّفَكُّنِ
لا يكونن حاجتي بظهر فلا يعبأ على جوابها
أي لا يتركنها تعبأ بها.
وقوله تعالى ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ يعني ما كان يأخذونه من سفلتهم من المآكل التي كانوا يصيبونها منهم برياستهم في العلم.
وقوله تعالى: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ قال ابنُ عبَّاس (٦): يريد: قَبُحَ شراؤُهم وخَسِروا.
١٨٨ - قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ الآية.
قال أبو سعيد الخُدْرِي (٧): نزلت في رجالٍ من المنافقين، كانوا
(١) في (أ)، (ب)، (ج): (يقرونه). وأثبَتُّها وفق الرسم الإملائي الحديث.
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٧. نقله عنه بنصه.
(٣) في (المعاني): (ولا).
(٤) في (ج): (يظهر).
(٥) في (ج): (الفرزدق).
(٦) لم أقف على مصدر قوله.
(٧) أخرج قوله -في هذا المعنى-: البخاري في "الصحيِح" (٤٥٦٧) كتاب: تفسير القرآن. سورة آل عمران. باب: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾.
ومسلم في "الصحيح" ٤/ ٢٠٥ رقم (٢٧٧٧) كتاب: صفات المنافقين.
والطبري في "تفسيره" ٤/ ٢٠٥، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٨٣٩، والمؤلف في "أسباب النزول" ١٤٠.
وأورده الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٦٨ ب، والسيوطي في: "الدر المنثور" ٢/ ١٩١ وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر، والبيهقي في "الشعب".
243
يتخلفون عن رسول الله في الغَزْوِ، ويفرحون بقعودهم عنه. فإذا قدم اعتذروا إليه، فيقبل عذْرَهم (١)، وأحَبُّوا أنْ يُحْمَدوا بما ليسوا عليه مِنَ الإيمان.
وقال عكرمة (٢): هم اليهود، فرحوا بإضلال الناس، وبنسبة الناس إيَّاهم إلى العِلْمِ؛ وليسوا كذلك.
وقال بعضُهم: نزلت في الذين ذَمَّهم الله -تعالى-: بِكِتْمان الحَقِّ، كتموه وفَرِحوا بذلك، وأحَبُّوا أنْ يُحْمدوا بالتمسك بالحق، وقالوا: نحن أصحاب التوراة، وأولوا العِلْمِ القديم، وكلُّ ما (٣) قلناه واجبٌ على الناس قَبُولُهُ، واتِّباعنا فيه. وهذا يُروَى عن ابن عباس (٤).
(١) (فيقبل عذرهم): ساقطة من (ج).
(٢) قوله في "تفسير الطبري" ٤/ ٢٠٥ - ٢٠٦، وقد ورد فيه: (عن مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير)، وذكره بمعناه، وأخرجه من طريق آخر، وفيه: (عن مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أنه حدثه عن ابن عباس بنحو ذلك..). وأخرجه -منسوبًا إليه-: ابنُ أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٨٣٨
(٣) في (ج): (كلما) بدلًا من: (كل ما).
(٤) أخرج قوله -بهذا المعنى-: البخاري في "صحيحه" (٤٥٦٨) كتاب التفسير. تفسير سورة آل عمران. باب: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾.
ومسلم في "صحيحه" رقم (٢٧٧٨) كتاب صفات المنافقين. والترمذي في "سننه" رقم (٣٠١٤) كتاب تفسير القرآن. باب: من سورة آل عمران. وقال: (حسن صحيح غريب).
والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٢٩٩ وصححه، ووافقه الذهبي.
والنسائي في "تفسيره" ١/ ٣٥٢، والطبراني في "المعجم الكبير" ١٠/ ٣٦٤ رقم (١٠٧٣٠)، وعبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ١٤١، والطبري في "تفسيره" ٤/ ٢٠٦، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٨٣٨، والبغوى في "تفسيره" ٢/ ١٥٠، والمؤلف في "أسباب النزول" ١٤١.
وأورده السيوطى فى "الدر المنثور" ٢/ ١٩١ وزاد نسبه اخراجه إلى عبد بن حميد =
244
واختلف القرّاء في هذه الآية:
فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو -كلاهما-: بالياء وضمِّ الباء، مِنْ ﴿يَحْسِبُنَّهم﴾ (١).
ووجه (٢) هذه القراءة: أنهما لم يُعَدِّيا (حَسِبْتُ) إلى مفعوليه اللذين (٣) يقتضيهما؛ لأنهما جعلا قولَهُ -تعالى- (٤): ﴿فَلا يَحْسِبُنَّهُم﴾ (٥) بدلًا مِنَ
= وابن المنذر، والبيهقي في "الشعب".
وقد ورد حول سبب النزول أقوال أخرى. انظرها في: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٠٥ - ٢٠٨، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٥٠، و"أسباب النزول" للمؤلف ١٤٠ - ١٤٢، و"الدر المنثور" ٢/ ١٩١ - ١٩٣.
قال ابن حجر عن الأثر الوارد عن أبي سعيد وابن عباس والآخرين: (ويمكن الجمع بأن تكون الآية نزلت في الفريقين معًا، وبهذا أجاب القرطبيًّ وغيره). وقال -عن هذين الأثرين، وعن بقية الآثار الواردة في سبب نزولها-: (ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك، أو نزلت في أشياء خاصة، وعمومها يتناول كل من أتى بحسنة ففرح بها فرح إعجاب، أحب أن يحمده الناس، ويثنوا عليه بما ليس فيه. والله أعلم).
"فتح الباري" ٨/ ٢٣٣، وانظر: "تفسير القرطبي" ٤/ ٣٠٦ - ٣٠٧، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٧٣.
(١) أي: قرآ: ﴿وَلَا يَحْسِبَنَّ﴾، و ﴿فلا يَحْسِبُنَّهم﴾ بكسر السين فيهما. انظر: "السبعة" ٢١٩، و"الحجة " للفارسي ٣/ ١٠٠ - ١٠١، و"حجة القراءات" ١٨٦ - ١٨٧. وضبطت الكلمتان بفتح السين في: "إعراب القراءات السبع" لابن خالويه ١/ ١٢٥.
(٢) من قوله: (ووجه..) إلى (.. فيستقيم فيه تقدير العطف): نقله -بتصرف- عن "الحجة" للفارسي ٣/ ١٠٤ - ١٠٥.
(٣) في (ج): (الذين).
(٤) (تعالى): ليست في: (ج).
(٥) (أ)، (ب): (تحسِبنَهم) -بالتاء وكسر السين-. ولم ترد قراءة بهذه الصورة. وفي (ب): (تَحسَبَنَهم). وفي (ج): مهملة من النقط والشكل. ولكنَّ المؤلف -هنا- يتحدث عن توجيه قراءة ابن كثير وأبي عمرو، فالصواب ما أثبَتُه، والله أعلم.
245
الأوَّلِ. ولَمَّا جعلاه بَدَلًا، وعُدِّي إلى مفعوليه، استُغنِيَ عن تَعْدِيَة الأولى إليهما، كما استغنى في قوله:
بِأيِّ كتابٍ أم بِأيِّة سُنَّةٍ تَرىَ حُبَّهُمْ عارًا عليَّ وتَحْسَبُ (١)
بتعدية أحد الفعلين إلى مفعوليه، عن تعدية الآخر إليهما.
فإن قيل: لا (٢) يستقيم تقدير البَدَلِ في قوله: ﴿لا يَحْسِبَن (٣) الذيِن يَفْرَحُون بِمَا أتَوْا فَلا يَحْسِبُنَّهم (٤) بِمَفَازَةٍ﴾، وقد دخلت الفاءُ بينهما، ولا يدخل بين البدل والمُبْدَلِ منه، الفاءُ (٥).
قيل: إن الفاء زائدة (٦)؛ يَدُلُّك (٧) على ذلك: أنها لا يجوز أن تكون
(١) البيت للكُمَيت. وقد ورد منسوبًا له في: "شرح هاشميات الكميت" ٤٩، و"المحتسب" ١/ ١٨٣، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ٦٩٢، و"المقاصد النحوية" ٢/ ٤١٣، ٣/ ١١٢، و"منهج السالك" ٢/ ٣٥، و"التصريح"، للأزهري ١/ ٢٥٩، و"خزانة الأدب" ٤/ ٣١٤، ٩/ ١٣٧.
وورد غير منسوب في: "إعراب القرآن"، المنسوب للزجاج ٢/ ٤٣٢، و"أوضح المسالك" ص ٧٧، و"شرح ابن عقيل" ٢/ ٥٥.
والشاهد فيه: أنه لم يذكر مفعوليْ (تحسبُ)، اكتفاءً بدلالة الفعل السابق عليهما، وهو: (ترى).
(٢) في (ج)، و"الحجة": (كيف) بدلًا من (لأن).
(٣) (يحسبن) في (أ)، (ج): الياء غير منقوطة، والكلمة غير مشكولة. وفي (ب): (تحسبن)، والمثبت من: "الحجة" للفارسى، لأن المؤلف -هنا- يتحدث عن توجيه قراءة ابن كثير وأبي عمرو.
(٤) في (أ)، (ب): (تَحْسِبُنَّهم). ولم ترد قراءة بهذه الصورة وفي (ج): مهملة من النقط والشكل. والمثبت من "الحجة" للفارسي.
(٥) (الفاء): ساقطة من (ج).
(٦) انظر: "معاني القرآن"، للأخفش: ١/ ٢٢٢.
(٧) في (ج): (بذلك).
246
عاطفة؛ لأن المعنى: لا يَحْسِبَنَّ الذين يفرحون بما أتوا، أَنْفُسَهم بمفازةٍ مِنَ العَذَابِ.
وإذا كان كذلك، لَمْ يَجُزْ تقديرُ العطف؛ لأن الكلام لم يستقل بعدُ، فيستقيم فيه تقديرُ العَطْفِ. ولا يجوز (١) -أيضًا- أن تكون للجزاء، كالتي في قوله: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ (٢)، ونحوها؛ لأن هذا ليس من مواضع الجزاء. وإذا لم يجز أن تكون للعطف [و] (٣) لا لِلْجَزَاء، ثَبَتَ أنها زائدة؛ كقوله:
وإذا هَلَكْتُ (٤) فَعِنْدَ ذلك فاجْزَعِي (٥)
(١) من قوله: (ولا يجوز..) إلى نهاية بيت الشعر (.. فاجزعي): نقله -بتصرف واختصار- عن: "الحجة"، للفارسي ٣/ ١٠٨ - ١٠٩.
(٢) سورة النحل: ٥٣ وبقيتها: ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، و"الحجة".
(٤) في (ب): (جزعت).
(٥) عجز بيت للنَّمِر بن تَوْلَب. وصدره:
لا تَجْزعي إنْ مُنْفِسا أهلكته
وهو في "شعره" ٧٢. وورد منسوبا له في: "كتاب سيبويه" ١/ ١٣٤، و"الكامل"، للمبرد ٣/ ٣٠٠، و"شرح الأبيات المشكلة" ٩٠، ٣٦١، و"سمط اللآلئ" ٤٦٨، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ٤٨، ٣/ ١٢٩، و"اللسان" ٨/ ٤٥٠٣ (نفس)، ٢/ ١٢٤٨ (خلل)، و"المقاصد النحوية" ٢/ ٥٣٥، و"شرح شواهد المغني" ١/ ٤٧٢، ٢/ ٨٢٩، و"خزانة الأدب" ١/ ٣١٤، ٣٢١، ٣/ ٣٢، ٩/ ٤١، ٤٣، ٤٤، ١١/ ٣٦. وورد غير منسوب في: "المقتضب" ٢/ ٧٦، و"الحجة" للفارسي ١/ ٤٤، ٣/ ١٠٩، و"شرح المفصل" ٢/ ٣٨، و"شرح ابن عقيل" ٢/ ١٣٣، و"الأزهية" ٢٤٨، و"منهج السالك" ٢/ ٧٥، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي ٢/ ١٨١. ويروى: (لا تجزعي إنْ منفسٌ..). انظر توجيه هذه الراوية في "خزانة الأدب" ١/ ٣١٤.
البيت ضمن أبيات يخاطب فيها الشاعرُ زوجَه التي لامته على إسرافه وتبذيره في =
247
وكما أنشد (١) قُطْرُب (٢):
وحِينَ تَركتُ العائداتِ يَعدْنَهُ يَقُلْن فلا تَبْعَدْ وقلتُ لَه ابْعَدِ (٣)
وذكرنا وجْهَ زيادة الفاء في الكلام، فيما تقدم.
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ قد (٤) تَعَدّى فيه فعلُ الفاعل إلى ضميرِهِ. وفِعْلُ الفاعل في هذا الباب، يَتَعدَّى إلى ضمير نفسه؛ نحوَ (ظَنَنْتُنىِ أخاه)، و (حَسِبْتُني ذاهبًا).
= إكرامه لأضيافه.
الجَزَع: نقيض الصبر. و (المُنْفِسُ): المال النفيس الذي له قدر. ومعنى (أهلكتُه): أفنَيتُه، وأذهبتُه. انظر: "اللسان" ١/ ٦١٦ (جزع)، ٨/ ٤٥٠٣ (نفس).
والشاهد في البيت: زيادة الفاء. قال الفارسي: (ألا ترى أن إحدى الفاءين لا تكون إلا زائدة؛ لأن (إذا) إنما يقتضي جوابًا واحدًا).
وانظر حول زيادة إحدى الفاءين -هنا-: "الخزانة" ١/ ٣١٥.
(١) في (ج): (أنشده).
(٢) انظر: "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٦٨ - ٢٦٩
(٣) البيت لحاتم الطائي. وهو في "ديوانه" ٣٠.
وقد ورد منسوبًا له، في: "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٦٩، و"الأزهية" ٢٤٧. وورد في المصادر السابقة: (حتى تركت..). وفي الديوان: (وحتى.. * ينادين لا تبعد). يتحدث عن شخص طعنه الشاعرُ طعنةً، تركه بين الحياة والموت. و (العائدات): اللاتي يَزُرْن المريض. انظر: "القاموس" ٣٠٣ (عود).
و (لا تَبْعَد): لا تهلك؛ من: (البُعْد)، وهو: الهلاك والموت؛ يقال: (بَعِدَ، بَعَدًا)، و (بَعُدَ): هلك. ومن العرب من يقول: (بَعُدَ) -في المكان-، و (بَعِد) -في الهلاك-. وقيل: (بَعِد)، و (بَعُد) فيكون مضارعها: (يَبْعَدُ) -بفتح العين-، وهكذا ضَبطتُها في البيت. انظر: "المزهر" ١/ ٢٠٨ - ٢٠٩. والشاهد فيه: زيادة الفاء في (فلا..).
(٤) من قوله: (قد..) على (.. لا يحسبن زيدًا ذاهبًا): نقله -بتصرف واختصار- عن: "الحجة" للفارسي ٣/ ١٠٥ - ١٠٦.
248
يدل على ذلك: قُبْحُ دخولِ النَفْسِ عليها. ولو قلت: (حَسِبتُ نفسي تفعل كذا). لم يَحْسُنْ، كما يَحْسنُ: (حَسِبْتُنِي)، و (أَحْسِبُنِي) (١).
وحُذِفَتْ واوُ الضميرِ في ﴿يَحْسِبُنَّهم﴾ (٢)؛ لِدُخول النون الثقيلة، واجتماع الساكنين (٣). و-كذلك- يُحذف عند دخول النونِ الخفيفة؛ كما تقول: (لا يَحْسِبُنْ زيدًا ذاهبًا).
وقوله تعالى: ﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾.
في موضع المفعول الثاني. وقرأ حمزة، وعاصم والكسائي -كلاهما- (٤): بالتَّاء، وفتحوا الباءَ من ﴿تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ (٥).
ووجه هذه القراءة: أنه حذف (٦) المفعولَ الثاني الذي يقتضيه ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ الأول؛ لأن ما يجيء بَعدُ من قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾، يدل عليه.
(١) يجوز في مضارع (حَسِبَ) كسر السين وفتحها. انظر: "المزهر" ١/ ٢٠٩.
(٢) في (أ): (تَحْسُبُنهم) بالتاء وضم السين. وهي خطأ واضح. وفي (ب): (تحسبنهم)، وفي (ج): مهملة من النقط والشكل. والمثبت هو ما استصوبته؛ لاتساقه مع ما سبق.
(٣) أي: سكون الواو، وأول النون المشددة.
(٤) هكذا جاءت في: (أ)، (ب)، (ج): (كلاهما) -على الرفع للمثنى-، والأصل فيها أن تكون: (كلهم)، وتعود على القراء الثلاثة. أو (كليهما) -بالنصب بالياء-، وتعود على القراءتين القرآنيتين ﴿تَحْسَبَنَّ﴾، و ﴿تَحسَبَنَّهُم﴾، وقد ترجع (كلاهما) على عاصم والكسائي.
(٥) أي: ﴿تَحسَبَنَّهُم﴾ -بالتاء وفتح الباء والسين-. إلا أن الكسائي كَسَر السين. انظر: "السبعة" ٢٢٠، و"الحجة" للفارسي ٣/ ١٠١، و"حجة القراءات" ١٨٦، و"إتحاف فضلاء البشر" ص ١٨٣.
(٦) من قوله: (حذف..) إلى (.. لاتفاق الفعلين): نقله -بتصرف- عن: "الحجة" للفارسي ٣/ ١٠٨.
249
ويجوز أن تجعل (١) ﴿تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ بدلًا من ﴿تَحْسَبَنَّ﴾، كما جاز أن تجعل (يَحسِبُنَّهم (٢)) بدلًا من (يَحْسِبَنَّ (٣)) في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، لاتِّفاق (٤) الفعلين.
قال أبو إسحاق (٥): ووقعت (فَلا (٦) تَحسَبَنَّهم) مُكَرَّرةً؛ لِطُول القصَّة.
والعربُ تُعيد إذا طالت القصّة (حَسبت) وما أشبهها؛ إعلامًا أن الذي جرى متصل بالأوَّل، وتوكيد (٧) له، فتقول: (لا تظنَنَّ زيدًا إذا جاءك وَكلَّمَكَ في كذا وكذا، فَلاَ تظُننَّه صادقًا)، فتكرره إيضاحًا للقصة.
وهذا -الذي ذكره أبو إسحاق- سائغٌ في القراءتين: قراءةِ أبي عمرو، وقراءةِ حمزة.
وقرأ نافعٌ وابنُ عامر: الأوَّل بالياء، والثاني بالتاء وفتح الباء (٨).
ووجه هذه القراءة: أن المفعولَيْن (٩) اللَّذَيْن يقتضيهما الحِسْبانُ في
(١) في (ب): (يجعل).
(٢) (أ)، (ب): (تحسبنهم)، وفي (ج): غير معجمة. والمثبت من "الحجة" للفارسي.
(٣) (أ)، (ب): (تحسبن)، وفي (ج): غير معجمة. والمثبت من "الحجة".
(٤) (أ)، (ب): (ولاتفاق)، ولا وجه للواو -هنا-. والمثبت من (ج)، و"الحجة"، للفارسي.
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٩٨. نقله عنه بتصرف واختصار يسيرين.
(٦) في (أ)، (ب)، (ج): (لا). والمثبت وفق رسم المصحف الشريف. وكذا جاءت في "معاني القرآن".
(٧) في (ج): (وتأكيد)، وفي المعاني؛ وتوكيدًا.
(٨) أي: ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ و ﴿تَحْسَبَنَّهُمْ﴾، وكسرَ نافعٌ السينَ وفتحها ابنُ عامر. انظر: "السبعة" ٢١٩ - ٢٢٠، و"علل القراءات" ١/ ١٣١، و"الحجة" للفارسي ٣/ ١٠١
(٩) من قوله: (المفعولين..) إلى (.. من بعد عليهما): نقله -بتصرف- عن "الحجة" للفارسي ٣/ ١٠٧.
250
قوله: ﴿لَا يَحْسَبَنَّ الذين يفرحون﴾ محذوفان (١)؛ لِدَلالَةِ ما ذكِرَ من بَعْدُ عليهما (٢). فَلمَّا كان قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ متَّصلًا بمفعولَيْن ظاهِرَيْنِ، جُعِلا مفعولَي قولِهِ (٣): ﴿لا يَحْسَبَنَّ (٤) الذين يَفْرَحُون﴾، بتقدير: لا يَحْسَبَنَّ (٥) الذين يفرحون أنْفُسَهُمْ، بمفازةٍ من العذاب، ولا تَحْسَبَنَّهم أنت -أيضًا- كذلك.
وقوله تعالى: ﴿بِمَا أَتَوْا﴾ قال الفرّاء (٦): يريد: [ما] (٧) فعلوه؛ كما قال ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ [مريم: ٢٧] أي: فَعَلْتِ. وكقوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ [النساء: ١٦].
وقوله تعالى: ﴿بِمَفَازَةٍ﴾ أي (٨): بِمَنْجَاةٍ؛ مِنْ قولهم: (فَازَ فلانٌ): إذا (٩) نَجَا. وقال الفرّاء (١٠): أي: بِبُعْدٍ (١١) من العذاب؛ لأن الفَوْزَ معناه:
(١) في (ج): (محذوفًا).
(٢) في (ج): (عليها).
(٣) في (ج): (لقوله).
(٤) (أ)، (ب): ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ -بالتاء-. وفي (ج): غير معجمة. والمُثبَت يتناسب مع السياق؛ لأن المؤلف يوجِّهُ قراءةَ نافع وابن عامر وهي بالياء.
(٥) في (أ)، (ب): ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ -بالتاء-. وفي (ج): غير معجمة والمثبت يتناسب مع السياق.
(٦) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٥٠. نقله عنه بتصرف.
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من (ج). وفي "معاني القرآن": بما فعلوا.
(٨) من قوله: (أي..) إلى (.. نجا): نقله -بنصه- عن "تفسير غريب القرآن"، لابن قتيبة ١/ ١٠٩.
(٩) في "تفسير الغريب" أي.
(١٠) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٥٠.
(١١) في (أ): (يبعد)، وفي (ب)، (ج): رسمت كالتي في (أ)، إلا أنَّ النقط غير =
251
التباعد من المكروه (١).
وذكرنا ذلك في قوله: (﴿فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: ١٨٥].
١٨٩ - قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: بِمُلْكِ تدْبيرِهما (٢)، وتصريفهما (٣) على ما يشاء. وهذا تكذيبٌ لِلَّذِين قالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ (٤).
١٩١ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ الآية.
رُوي عن علي، وابن عباس، وقتادة (٥): أنهم قالوا: يعني (٦) [أنهم] (٧) يُصَلُّون على هذه الأحوال: قِيَامًا، فإن لم يستطيعوا فقُعُودا، فإن لم يستطيعوا فَعَلَى جُنُوبِهم.
وهذا اختيار الزجاج، قال (٨): يصلون في (٩) جميع هذه الأحوال،
= واضحة. والمثبت هو ما استظهرت صوابه. وهي أقرب إلى رسمها في "معاني القرآن" (ببعيد)، وكذا وردت في: "إعراب القراءات السبع" لابن خالويه ١/ ١٢٥ (ببعد من النار).
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٩٥.
(٢) في (ج): (سرها).
(٣) في (ج): (وتصريفها).
(٤) سورة آل عمران: ١٨١. وانظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٠٩.
(٥) ذكر قولهم الثعلبي في "تفسير" ٣/ ١٧٠ ب، وابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٥٢٧.
(٦) في (ج): (معنى).
(٧) ما بين المعقوفين زيادة من (ج).
(٨) في "معاني القرآن"، له: ١/ ٤٩٩. نقله عنه بنصه. ولكن ليس هذا اختيار الزجاج، وإنما أورده وعزاه لبعض المفسرين، فقال: (وقال بعضهم..) ثم ذكره، وأعقبه بقوله: (وحقيقته عندي -والله أعلم-: أنهم موحدون الله على كل حال). وقال قبلها: (.. وإنهم يذكرون الله في جميع أحوالهم) ١/ ٤٩٨. وهذا هو اختياره.
(٩) في "معاني القرآن": على.
252
على قَدْرِ إمْكانِهِم، في صحتهم وسَقَمِهم.
وقال آخرون (١): يريد: أنهم يذكرون الله على كل حال.
وجاز (٢) أن يعطف بـ (على) على ﴿قِيَامًا﴾ و ﴿وَقُعُودًا﴾، لأن معناه يُنْبِئ عن حالٍ مِنْ أحوال تَصَرُّفِ الإنسان؛ كما تقول: (أنا أصِيرُ إلى زيدٍ ماشِيًا، وعلى الخيل). المعنى: ماشِيًا ورَاكِبًا (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
ليَكُون (٤) ذلك أزيد في بَصِيرتهم؛ لأن فكرهم يُرِيهم عِظَمَ شأنهما، فيكون تعظيمُهم للهِ عز وجل على حسب ما يقفون عليه من آثار حكمته.
وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾.
أي: و (٥) يقولون: رَبَّنا ما خلقت هذا (٦). الإشارة بـ ﴿هَذَا﴾ راجعةٌ إلى
(١) ممن قال به: قتادة، وابن جريج، ومجاهد. انظر. "تفسير الطبري" ٤/ ٢١٠، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٤٢
(٢) من قوله: (وجاز..) على (.. وراكبًا): نقله -بتصرف- عن: "معاني القرآن"، للزجاج: ١/ ٤٩٨.
(٣) أي أنَّ ﴿وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ في معنى الاسم؛ أي: (ونيَامًا)، أو (مُضْطجِعين على جنوبهم). فحسن حينها عطفها على ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا﴾، كما قال في موضع آخر: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾ [سورة يونس: ١٢] فقوله: ﴿لِجَنْبِهِ﴾، أي: (مضطجعا)، فعطف على الأسماء بعدها.
انظر: "معاني القرآن"، للفراء ١/ ٢٥٠، و"تفسير الطبري" ٤/ ٢١٠.
(٤) من قوله: (ليكون..) إلى (.. آثار حكمته): نقله -بتصرف- عن "معاني القرآن"، للزجاج: ١/ ٤٩٩.
(٥) (الواو): زيادة من (ج).
(٦) في (ج): (هذه).
253
الخَلْقِ. و ﴿خَلَقْتَ﴾ يدل على الخَلْقِ (١).
وقوله تعالى: ﴿بَاطِلًا﴾.
أي: خلقته دليلًا على حكمتك، وكَمَالِ قُدرتِك.
ومعنى الباطل: الزائِل الذاهب، الذي لا يَثْبُتُ (٢). ولَمَّا كان خَلْقُ السَّموات والأرض خَلْقًا مُتْقَنًا، وصُنْعًا مُحْكمًا دالًا على قدرة الصانع، لم يكن باطلًا.
وكثير من المفسرين يذهبون إلى أن المعنى: (ما خلقتهما لغَيرِ شيءٍ) (٣)؛ لأنه خلقهما لِيَبْلُوَ العِبَادَ بينهما بالأمر والنهي، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي (٤)، وانتصب قولُه ﴿بَاطِلًا﴾ على أنه نَعْتُ مصدرٍ محذوفٍ؛ أي: خَلْقًا باطلًا (٥).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢١٠. وقال مُعلِّلًا ذلك: (يدل على ذلك قوله: ﴿سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ورغبتهم إلى ربِّهم أنْ يُقِيهم عذابَ الجحيم. ولو كان المعنِيَّ بقوله: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، معنًى مفهومٌ؛ لأن السمواتِ والأرضَ أدلةٌ على بارئها، لا على الثواب والعقاب، وإنما الدليل على الثواب والعقاب الأمر والنهي).
(٢) قال ابن فارس (الباء والطاء واللام، أصلٌ واحدٌ، وهو: ذهاب الشيء، وقِلَّةُ مُكْثِهِ ولُبْثِه؛ يقال: (بَطَلَ الشيءُ، يَبْطُلُ بُطْلًا وبُطُولًا". "مقاييس اللغة" ١/ ٢٥٨ (بطل).
(٣) وممن قال بهذا المعنى: مقاتل، والطبري، وأبو الليث السمرقندي، والثعلبي، والعز بن عبد السلام.
انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٣٢١، و"تفسير الطبري" ٤/ ٢١٠، و"بحر العلوم" ١/ ٣٢٤، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧١ أ، و"فوائد في مشكل القرآن" لابن عبد السلام ١٠٩.
(٤) قال تعالى: ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الجاثية: ٢٢].
(٥) وهذا وجه واحد من وجوه نصبه، وفيه وجوه أخرى، ذكرها أبو حيان في "البحر =
254
وقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَكَ﴾.
أي: تنزيهًا لك، ببراءتك عما لا يجوز في وصفك (١).
﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
أي: قد اعترفنا بوحدانيَّتِك، وصدَّقنا أنَّ لك جَنّةً ونارًا، فقِنا عذابَ النار.
١٩٢ - قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾.
الإخزاء -في اللغة- يَرِدُ على معانٍ، يَقْرُبُ بعضُها مِنْ بَعْضٍ.
قال الزجاج (٢): (أخزى اللهُ العَدُوَّ)؛ أي: أبْعَدَهُ. وقال غيرُه (٣): الخِزْي: الهَوَانُ، و (أخزاهُ الله)؛ أي: أهانه.
وقال شَمِر (٤): أخزيته: فضحته. وفي القرآن: ﴿وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾ [هود: ٧٨].
= المحيط" ٣/ ١٤٠، والسمين الحلبي في "الدر المصون" ٣/ ٥٣٢ - ٥٣٣ واستحسنا كونها حالًا من ﴿هَذَا﴾.
(١) التسبيح: تنزيه الله -تعالى- من كلِّ سُوء والتنزيه: التبعيد. فقولهم: (سبحانك)؛ أي: تنزيهًا لك يا ربنا.. أي: نَزَّهناك.
انظر: "الزاهر" ١/ ١٤٤، و"مقاييس اللغة" ٣/ ١٢٥ (سبح)، و"اللسان" ٤/ ١٩١٤ (سبح).
(٢) لم أقف على مصدر قوله. وورد عنه في: "معاني القرآن" -عند هذه الآية-: (والمَخْزِيُّ -في اللغة-: المُذَلُّ المَحقور بأمرٍ قد لَزمَهُ بِحُجَّة، وكذلك (أخزيته)؛ أي: ألزمته حجة أذْلَلْتهُ معها).
(٣) أورد هذا القول الأزهري في: "التهذيب" ١/ ١٠٢٧ (خزى) ولم ينسبه لقائل؛ حيث أورد قولَ الليث بن المظفر أولًا، ثم قال: (وقال غيره..) وذكر القول.
(٤) قوله في: "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٢٧ (خزى). ونصه في "التهذيب": (قال شمر: قال بعضهم..) ثم ذكره.
255
وقال (١) المُفَضَّلُ (٢) -في قوله: ﴿أَخْزَيْتَهُ﴾ -: أي: أهْلَكته.
وقال ابن الأنباري (٣): معنى الخِزْي -في اللغة-: الهلاك بتَلفٍ أو انقطاع حُجّةٍ، أو بوقوعٍ في بلاء (٤). قال جرير:
تَمَّتْ تَمِيمٌ يا أُخَيْطِلُ فانْجَحِرْ خَزِيَ الأُخَيْطِلُ حين قُلتُ وقالا (٥)
أي: هَلَكَ بانقطاع حُجّتِهِ. ويحتمل: استحيا بانقطاعه. يقال (٦): (خَزِيَ، يَخْزَى، خِزْيًا): إذا هلك. و (خَزِي، يَخْزى (٧)، خَزَايةً): إذا استحيا (٨).
وتعلقت الوَعِيدِيَّةُ بهذه الآية، وقالوا: قد أخبر الله -تعالى-: أنه لا يُخزي النبيَّ والذين آمنوا معه، فوجب أن كلّ مَنْ يدخل النارَ لا يكون مؤمنًا؛ لِقَولِه: ﴿أَخْزَيْتَهُ﴾. والجواب عن هذا، من وجوه:
(١) في (ج): (قال) بدون واو.
(٢) قوله في "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٢ أ.
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) تعرض ابن الأنباري لهذه الكلمة في "الزاهر" ١/ ٣٧٤ فقال عن قولهم (أخزى الله فلانًا): (معناه: أذله الله وكسَره وأهلكه. قال أبو العباس: الأصل فيه: أن يفعل الرجل فَعْلَةً، يستحي منها وينكسر لها، ويذل من أجلها..).
(٥) البيت في: ديوانه: ٣٦٢. وهو من قصيدة يهجو فيها الأخطل، الشاعر النصراني.
وروايته في الديوان: (تمت تميمي يا أخيطل فاحتجز..).
ومعنى (فانْجَحِرْ): ادخل جُحرك. من: (جَحَرَ الضبُّ): دخل جُحره و (جَحَرَ فلانٌ الضَبَّ): أدخله في جحره. انظر: "القاموس" ص ٣٦٢ (جحر).
(٦) من قوله: (يقال..) إلى (.. إذا استحيا): موجود في: "الزاهر" لابن الأنباري ١/ ٣٧٤.
(٧) قوله: (خزيًا: إذا هلك وخزي يخزى) ساقط من (ج).
(٨) ونصه عند ابن الأنباري: (يقال: (خَزِي يخزَى خزايَةً): إذا استحيا. و (خزِي يخزَى خِزْيا): إذا انكسر وهلك وذل).
256
أحدها: ما رَوَى قتادة، عن أنسٍ (١) -في قوله: ﴿إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ -، قال: إنك مَنْ تُخَلِّدْ في النار.
وقال الثَوْريُّ: بَلَغَنِي عن سعيد بن المسيب (٢)، أنه قال في هذه الآية: هي خاصَّةٌ في قومٍ لا يخرُجونَ مِنَ النَّارِ بعد دُخُولِهم إيَّاها.
ورُوي هذا المعنى -أيضًا- عن قتادة (٣) نفسِهِ. فمذهب هؤلاء الثلاثة: أنَّ الآية خاصَّةٌ فيمن يدخلها للخلود فيها. يدل عليه آخرُ الآية، وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ يريد: الكفار.
والثاني: أن المُدخَل في النار مَخْزِيٌّ في حال دُخُولِهِ، وإن كانت عاقبتُهُ أن يخرج منها، فإن الدخول لا يقع إلّا بخزيٍ في ذلك الوقت. وهذا مذهب جابر بن عبد الله، واختيار ابن الأنباري.
يَدُلُّ عليه ما روي عن عَمْرُو بن دينار، أنه قال: قَدِم علينا جابر -في عُمْرةٍ -، فسألته عن هذه الآية، فقال: وما أخزاهُ (٤) حين أحرقه بالنار! إنّ دون ذا (٥) لَخِزْيًا (٦).
(١) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٢١١، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٤٢، و"معاني القرآن" للنحاس ١/ ٥٢٦، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٢ أ.
(٢) قوله في "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٤٢، و"تفسير الطبري" ٤/ ٢١١، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٢ أ، وفيها: (أخبرنا الثوري، عن رجل، عن ابن المسيب..). وأورده ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٩٦٤ بدون إسناد.
(٣) قوله في "تفسير ابن أبي حاتم" ٤/ ٨٤٢، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٢ أ. وهو قول: سعيد بن جبير، وابن جريج، ومقاتل. انظر: "زاد المسير" ١/ ٥٢٨.
(٤) (أ)، (ب): (اخزاؤه). ولا وجه لها -هنا-. والمثبت من (ج)، ومصادر الخبر التالية.
وقوله: (وما أخزاه) أي: ما أشد وأكثر خزيه! أو: يا لخزيه!.
(٥) في (ب): (ذلك) وكذا وردت في مصادر الخبر.
(٦) أخرج الخبر: الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٠٠، والطبرى في "تفسيره" ٤/ ٢١١،=
257
قال ابن الأنباري (١): وحَمْل الآية على العموم أولى من نقلها إلى خصوصٍ لا دليل عليه.
والجواب الثالث: ما قال أهلُ المعاني، وهو: أنّ الإخزاءَ يحتمل معنيين: أحدهما: الإهانة والإهلاك والإبعاد، كما ذكرنا. وهذا للكفّار والثاني: الإخجال؛ يقال: (خَزِيَ خَزَايَةً): إذا استحيا، و (أخزاه غَيْرُهْ): إذا عَمِلَ بِهِ عَمَلًا يُخْجِلُه، ويستحيي منه.
ومنه حديث يزيد بن شَجَرَة (٢): (ولا تُخزُوا الحورَ العِين) (٣)؛ كأنهن
= وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٩٦.
وقد رجح الطبريُّ هذا القول. انظر: "تفسيره" ٤/ ٢١١.
(١) لم أقف على مصدر قوله.
(٢) هو: يزيد بن شَجَرة بن أبي شجرة الرُّهاوي. شامي من مذحج، مُخْتَلَفٌ في صُحبته، وكان معاوية (يستعمله على الجيوش، وكان أميرًا حازمًا، قتل في إحدى الغزوات سنة (٥٥ هـ)، وقيل: (٥٨ هـ).
انظر: "الاستيعاب" ٤/ ١٣٨، و"الكامل" ٣/ ١٩٠، ٢٢٧، و"أسد الغابة" ٥/ ٤٩٥، و"الإصابة" ٣/ ٦٥٨.
(٣) الأثر، مِنْ خُطبة ليَزيد بن شجرة، أخرجه ابن المبارك في "الزهد" ٤٣ رقم (١٣٣)، موقوفًا على يزيد، قال: (أخبرنا زائدة عن منصور عن مجاهد، قال: كان يزيد بن شجرة مما يُذَاكرنا فيبكي..) وذكره.
وأخرجه أبو عبيد بن سلام في "غريب الحديث" ٤/ ٣٥٨ - ٣٥٩، موقوفًا.
وأورده الأزهريُّ في "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٢٧ نقلًا عن أبي عبيد، وأورده الزمخشري في "الفائق" ١/ ٣١٧، وابن الجوزي في "غريب الحديث" ١/ ٢٧٧.
وقد أورده -كذلك-: ابنُ الأثير في "أسد الغابة" ٥/ ٤٩٥، بنحوه، مرفوعًا عن يزيد، وكذا أورده ابن حجر في "الإصابة": ٣/ ٦٥٨، مرفوعًا عن يزيد. وعزاه، ابن حجر للخرائطي في: مكارم الأخلاق، وابن أبي شيبة، وعزاه للبغوي من طريق خالد الواسطي، ولأبي نعيم من طريق مسعود بن سعد، عن يزيد، ونسب ابن =
258
يَتَطلَّعنَ مَن يَصيرُ إليهن بالشهادة؛ يقول: فلا تُخْجِلُوهُنَّ بِفِرَارِكُم.
فعلى هذا، خِزْيُ المؤمنين: الحياءُ مِنْ سائِرِ أهلِ الإيمان، بدخول النار إلى أن يخرجوا منها، وخِزْيُ الكافرين: الهلاكُ بالخلود (١) فيها.
١٩٣ قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾ الآية.
المنادي: محمد - ﷺ -، في قول ابن عباس (٢)، وابن مسعود (٣)، وابن جريج (٤)، وابن زيد (٥)، والأكثرين (٦).
وقيل: عين (٧) المُنادِي: القرآنُ؛ حِكايَةً عن مؤمني الإنس، كما حكى عن مؤمني الجنَّ: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجن: ١] الآية.
وهذا قول القُرَظِيِّ (٨)، قال: لأنه ليس كلُّ أحدٍ لَقِيَ النبي - ﷺ -. والذين
= حجر إخراجه لآخرين غيرهم من طرق مختلفة، ونقل عن البغوي أنه موقوف، وقال ابن حجر: (وهو الصواب).
(١) في (ب): (في الخلود).
(٢) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٢ ب، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٥٣، و"زاد المسير" ١/ ٥٢٨.
(٣) قوله في: المصادر السابقة، ما عدا "زاد المسير".
(٤) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٢١٢، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٤٣، و"النكت والعيون" ١/ ٤٤٣، و"زاد المسير" ١/ ٥٢٨، و"الدر المنثور" ٢/ ١٩٦ وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر.
(٥) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٢١٢، و"النكت والعيون" ١/ ٤٤٣، و"زاد المسير" ١/ ٥٢٨.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١/ ٣٢١، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٣١٧، وقال: (وهذا صحيح معنى)، و"تفسير ابن جزي" ١٠٤، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٧٦.
(٧) هكذا في: (أ)، (ب). وفي (ج): (عنى).
(٨) قوله في: "تفسير سفيان الثوري" ٨٣، و"تفسير الطبري" ٤/ ٢١٢، و"ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٤٣، و"معانى القرآن" للنحاس ١/ ٥٢٧، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٢ ب، =
259
قالوا: إنه النبي؛ قالوا: إن من سَمِع القرآنَ، فكأنه رأى النبي وأدركه وسمع منه؛ لأن القرآن معجزته، لم يأت به غيره، فهو دليل عليه، وكل مَن بَلَغه القرآنُ، فقد أنذره رسول (١) الله - ﷺ -.
وقال تعالى: ﴿يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ قال أبو عبيدة (٢): هذا على التقديم والتأخير، أي: سمعنا مناديًا للإيمان ينادي. وقيل (٣): اللام؛ بمعنى: (إلى)؛ كقوله: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [المجادلة: ٨]، ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ [المجادلة: ٣] ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة: ٥]، و ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: ٤٣]، ومثله كثير. وهذا قول أكثر النحويين (٤).
وقيل: هي (٥) لام (أَجْل) (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ معنى (التكفير) في اللغة: التغطية. و (رجلٌ مُكَفَّرٌ بالسلاح)؛ أي: مُغَطَّى (٧).
= و"النكت والعيون" ١/ ٤٤٢، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٥٣، و"زاد المسير" ٢/ ١٩٦، و"الدر المنثور" ٢/ ٤١١ وزاد نسبة إخراجه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والخطيب في "المتفق والمفترق".
وهو قول قتادة انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢١٢، ورجحه الطبري، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٤٢.
(١) في (ب): (النبي)
(٢) في "مجاز القرآن" له ١/ ١١. نقله عنه بمعناه.
(٣) قال بذلك: الفرّاءُ في "معاني القرآن" ١/ ٢٥٠، والطبري في "تفسيره" ٤/ ٢١٣.
(٤) انظر -إضافةً على ما سبق-: "تأويل مشكل القرآن" ٥٧٢، و"اللامات" ١٤٣، و"النكت والعيون" ١/ ٤٤٣.
(٥) في (ج): (هو).
(٦) ذكره الثعلبي بلفظ (قيل:..) ولم ينسبه لقائل.
(٧) (كَفَر) و (كَفَّر) بِمَعنى، وأصله يدل على التغطية والستر. ويقال: (فارسٌ مُكَفَّرٌ) و (مُتَكَفِّرٌ بالسلاح).
260
والكُفْر، منه (١) -أيضًا-، وقد (٢) ذكرناه.
ومعنى ﴿كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾، أي: غَطِّها عَنّا (٣)، حتَّى لا نراها (٤)؛ كما تقول: (اغفر لي خطيئتي).
و (الغَفْرُ) -في اللغة-: السَّتْر (٥). وجَمَعَ بين غُفْران الذنوب، وتكفير السَّيئات؛ لأن غفرانَ الذنوبِ، تَفَضُّلُه ورحمتُه؛ وتكفيرَ السيئات بالطاعات؛ كما تقول في الأشياء الموجبة للكفَّارة، فإنها إذا كُفِّرت، صارت مُكفَّرةً بتلك الطاعةِ التي هي كفَّارةٌ لها، كالصوم في الظِّهار، وإعتاق الرَّقبة في القتل الخطأ، والإطعام في الحِنْث (٦). فالمغفرة بفضله من غير سبب، والتكفير، بسبب (٧) طاعة.
والسَّيَئات جَمْعُ: سَيِّئَة. قال الليث (٨): يقال: (ساءَ الشَيءُ، يَسُوءُ)، فهو (سَيِّئٌ): إذا قَبُحَ.
= انظر: (كفر) في: "إصلاح المنطق" ١٢٦، ١٢٧، ٢٤٠، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٦١، و"المقاييس" ٥/ ١٩١، و"بصائر ذوي التمييز" ٤/ ٣٦١.
(١) منه: ساقط من (ج).
(٢) في (ج): (قد) بدون واو.
(٣) (عنا): ساقطة من (ج).
(٤) في (ج): (نريها).
(٥) انظر: (غفر) في: "جمهرة اللغة" ١/ ٧٧٨، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٧٩، و"الزاهر" ١/ ١٩٢، و"معجم المقاييس" ٤/ ٣٨٥، و"بصائر ذوي التمييز" ٤/ ١٣٦.
(٦) الحِنْثُ -هنا-: الخُلْف في اليمين.
(٧) في (ج): (سبب).
(٨) قوله في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٨٣ (سوأ)، وقد دمج المؤلف -هنا- بين قول أبي زيد، وقول الليث. فمن قوله: (السيء..) إلى (.. للأنثى): هو نص قول الليث. ومن قوله: (سوأت..) إلى (.. بما صنع): من قول أبي زيد، تصرف فيه المؤلف.
261
وقال أبو زيد: (السَّيِّىُء)، و (السَّيِّئة)، عملان قبيحان. يصير (السيِّىءُ) (١) نعتًا للذَّكَرِ مِنَ الأفعال (٢)، و (السَّيِّئَةُ) للأنثى؛ ومِنْ هذا يقال: (سَوَّأتُ على فلان فعلَه)، أي: قَبَّحْتُهُ عليه، وعِبْتُهُ بما صَنَع.
وقوله تعالى: ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾.
قال ابن عباس (٣): يريد: مع (٤) الأنبياء؛ والمعنى: تَوَفَّنا في جُمْلَتِهم. وكلُّ مَنْ أُخِذَ في جُمْلَةِ قومٍ صار معهم؛ فلذلك قال: ﴿مَعَ الْأَبْرَارِ﴾.
١٩٤ - قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ الآية.
قالوا: معناه: على ألسُنِ رُسُلِك. فهو من باب حذف المضاف (٥).
وقال الكَلْبيُّ -عن ابن عباس- (٦): يقولون: على لِسان رُسُلِك.
ومعنى الدعاء -ههنا- مع العِلْم أنه مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لا محالة-: التَّعَبُدُ؛ لمَا في ذلك من الخُضُوع لله، وإظهار الحاجة إليه؛ وذلك أن (الدعاء مُخُّ العِبَادةِ) (٧).
(١) في (ج): (الشيء).
(٢) في "التهذيب": الأعمال.
(٣) لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "زاد المسير" ١/ ٥٢٩.
(٤) (مع): ساقطة من (ج).
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢١٣، و"بحر العلوم" ١/ ٣٢٤، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٣ أ، و"زاد المسير" ١/ ٥٢٩.
(٦) لم أقف على مصدر قوله.
(٧) هذا نص حديث، أخرجه بهذا اللفظ: الترمذي في "السنن" ٥/ ٤٥٦ رقم (٣٣٧١). كتاب: الدعاء. باب: (من فضل الدعاء)، عن أنس بن مالك، من طريق ابن لهيعة، وقال الترمذي: (حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة).
وورد بلفظ: (الدعاء هو العبادة)، أخرجه: الترمذي في "السنن" رقم (٢٩٦٩) =
262
ومثلُهُ -مِمَّا لا يجوز غيرُه، وقد تعبدنا بالدعاء به-: قولُهُ (١) -تعالى- (٢): ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الأنبياء: ١١٢]، وقوله: ﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ [غافر: ٧] (٣) الآية
وقيل (٤): معناه: اجعلنا مِمَّن وَعَدته بالثواب، دون الخِزْي والعِقَاب.
فمعنى (آتِنَا ذلك): اجعلنا مِنْ أهلِهِ. وقيل (٥): معناه: و (٦) آتِنا ما
= كتاب: "التفسير": باب (من سورة البقرة). وقال: (حسن صحيح)، رقم (٣٢٤٧) كتاب: التفسير. باب (ومن سورة المؤمن)، رقم (٣٣٧٢) كتاب: الدعاء. باب: (ما جاء في فضل الدعاء).
وأحمد في "المسند" ٤/ ٢٧١، والحاكم في "المستدرك" ١/ ٤٩١. وقال: (صحيح الإسناد)، ووافقه الذهبي.
وابن ماجه في "السنن" رقم (٣٨٢٨) كتاب: الدعاء باب (فضل الدعاء).
وأبو داود في "السنن" رقم (١٤٧٩) كتاب: الصلاة باب (الدعاء).
وابن حبان في صحيحه - انظر: "الإحسان" ٣/ ١٧٢ رقم: (٨٩٠).
وابن أبي شيبة في "مصنفه" ٦/ ٢١ - ٢٢ رقم (٢٩١٥٨).
والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (٧١٤)، والطيالسي في "مسنده" ٢/ ١٤٦ (٨٣٨)، والبغوي في "شرح السنة" ٥/ ١٨٤ رقم (١٣٨٤).
(١) في (ج): (وقوله).
(٢) (تعالى): ليست في (ج).
(٣) وانظر: "روح المعاني" ٤/ ١٦٧.
(٤) ذكر معنى هذا القول: الطبري في "تفسيره" ٤/ ٢١٤، والثعلبيُّ في "تفسيره" ٣/ ١٧٣ أ، ولم ينسباه لقائل.
(٥) ممن قال به: ابن جريج. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢١٣، ٢١٤، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٤٣.
واختاره الطبري في: "تفسيره" ٤/ ٢١٤. وقال الآلوسي: (وكلام أبي القاسم البلخي يشير إلى هذا أيضًا) "روح المعاني" ٤/ ١٦٧.
(٦) (الواو): زيادة من (ج).
263
وعدتنا مِنَ النصْرِ لنا، والخِذْلان لِعَدُونَّا، عاجِلًا. فهم سألوا تعجيل ما وُعِدوا.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُخْزِنَا﴾ قد ذكرنا معاني (الإخزاء)، عند قوله: ﴿مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ [آل عمران: ١٩٢].
١٩٥ - قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي﴾ أي: بِأنِّي.
وقوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أي: في الدِّينِ والنُصْرَةِ، والمُوَالاة. معناه: بعضكم يوالي بعضًا؛ كما ذكرنا في قوله: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: ٣٤]. هذا قولُ الكَلبِيِّ (١) وغيرِه (٢).
وقيل (٣): معناه: حُكْمُ جَمِيعِكم حُكْمُ واحِدٍ منكم؛ فيما أفْعَلُ بكم؛ مِنْ مُجازاتِكم على أعمالكم، وتَرْكِ تضييعها لكم. يستوي في ذلك ذُكْرانُكم وإناثكم.
وقوله تعالى: ﴿وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾. أحسنُ (٤) وجوهِ القِراءَةِ: تقديمُ ﴿قَاتَلُوا﴾ على ﴿قُتِلُوا﴾ (٥)، لأن القتال قبل القتل. وقرأ ابنُ عامر، وابنُ
(١) قوله، في: تفسير "بحر العلوم" ١/ ٣٢٤، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٤أ.
(٢) وهو قول: ابن عباس، والحسن، وقتادة، واختيار الطبري. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢١٦، و"النكت والعيون" ١/ ٤٤٣، و"زاد المسير" ١/ ٣٧٥.
(٣) هذا القول، أورده الطبري في تفسيره؛ مِن تتمة القول الأول، ولم يفصل بينهما. انظر: "تفسيره" ٤/ ٢١٦. وأورده الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٧٤ أ، وصَدّره بـ (قيل) ولم ينسبه لقائل.
(٤) من قوله: (أحسن..) إلى (.. للقتل الذي وقع بهم): نقله -بالمعنى- من "الحجة" للفارسي ٣/ ١١٧.
(٥) هي قراءة نافع، وعاصم، وأبي عمرو.
انظر: "السبعة" ٢٢١، و"القراءات" للأزهري ١/ ١٣٥، و"الحجة" للفارسي ٣/ ١١٧، و"الكشف" لمكي ١/ ٣٧٣، و"التيسير" للداني ٩٣.
264
كَثير: ﴿وَقُتِّلُواْ﴾ -مُشَدَّدَة- (١)؛ لِتَكَرُّرِ القتلِ فيهم، فهو مثل: ﴿مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾ [ص: ٥٠]، ومَنْ خَفَّفَ؛ فإن التخفيف يقع على القليل والكثير.
وقرأ حمزة، والكسائيُّ (٢): ﴿وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾، ولها وجهان:
أحدهما: أن المعطوف بالواو، هو الأوَّلُ في المعنى، وإنْ كان مُؤَخَّرًا في اللفظ؛ لأن (٣) الواوَ لا يُوجِبُ (٤) ترتيبًا.
والثاني: أن المُرادَ بقوله: ﴿وَقتُلُواْ﴾، أي: قُتِلَ بعضُهم، ثم قاتل مَنْ بَقِيَ منهم، ولم يَهِنُوا، ولم يَضْعُفوا، لِلْقَتْلِ الذي وَقَعَ بهم (٥).
وقوله تعالى: ﴿ثَوَابًا مِّن عِندِ اَللَّهِ﴾ قال الزجاجُ (٦): هو مصدرٌ مؤكِّدٌ لِمَا قبله (٧)، لأن معنى ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ﴾: لأُثِيبَنَّهُمْ.
قال: ومثله: ﴿كِتَابَ اللهِ﴾ (٨)، و ﴿صُنْعَ اللهِ﴾ (٩)؛ لأن ما قبله
(١) انظر: المصادر السابقة.
(٢) انظر: المصادر السابقة، و"النشر" ٢/ ٢٤٦.
(٣) في (ج): (فإن).
(٤) في (ج): (لا توجب).
(٥) استشهد الفارسي في هذا الموضع بقوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الآية: ١٤٦. سورة آل عمران].
(٦) في "معاني القرآن" له ١/ ٥٠٠. نقله عنه بتصرف واختصار.
(٧) المصدر المؤكِّد، هو المفعول المطلق. وفي نصبه وجوه أخرى؛ منها: أنه منصوب على التمييز، الذي يسميه الفراء (التفسير). وقيل: منصوب على القطع؛ أي: الحال. وقيل غير ذلك.
انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٥١، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٨٧، و"مشكل إعراب القرآن" ١/ ١٨٥، و"الدر المصون" ٣/ ٥٤٣ - ٥٤٤.
(٨) سورة النساء: ٢٤. ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾، لأن قبلها جاء قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ إلى آخر الآية ٢٣ من سورة النساء.
(٩) سورة النمل: ٨٨. ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾.
265
بمنزلة: (كَتَبَ اللهُ)، و (صَنَعَ اللهُ) (١).
١٩٦ - قوله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾
قال المفسرون: نزلت (٢) في مشركي مَكَّة، وذلك أنهم كانوا يَتَجَبَّرُون (٣) وَيتَنَعَّمُون. فقال بعض المؤمنين: إن (٤) أعداء الله فيما نرى من الخير، وقد هَلَكْنَا من الجُوعِ والجَهْدِ، فنزلت هذه الآية.
وقال الفراء (٥): كانت اليهود تضرب في الأرض فَتُصِيبُ الأموالَ، فأنزل (٦) الله: ﴿لَا يَغُرَّنَكَ﴾ (٧).
(١) انظر: "كتاب سيبويه" ١/ ٣٨١، و"المسائل الحلبيات" ٣٠٣، وانظر: تفسير قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُّؤَجَّلاً﴾ [الآية: ١٤٥].
(٢) من قوله: (نزلت..) إلى (.. فأنزل الله ﴿لَا يَغُرَّنَّك﴾): نقله -بتصرف يسير- عن "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٥أ.
وممن قال بذلك: مقاتل في "تفسيره" ١/ ٣٢٣، وذكره أبو الليث في "بحر العلوم" ١/ ٣٢٥ على أنه معنى الآية، ولم ينص على كونه سببًا في نزولها.
وذكره المؤلف في "أسباب النزول" ١٤٣، والبغوي في "تفسيره" ٢/ ١٥٤، ولم ينسباه لقائل. وذكره الآلوسي، واستظهره. انظر: "روح المعاني" ٤/ ١٧٢.
(٣) في (ج)، و"تفسير الثعلبي": (يتَّجرون)، وكذا هي في: "روح المعاني"، حيث نقل الآلوسيُّ نَصَّ هذه العبارة عن الواحدي، وفيها (يتجرون). وهي أصوب وأليق بالمعنى المراد. والمثبت من (أ)، (ب)، وله وجه كذلك.
(٤) (إن): ساقطة من (ج).
(٥) في "معاني القرآن " له ١/ ٢٥١.
(٦) في "معاني القرآن": (فقال الله عز وجل).
(٧) ذكر هذا السببَ ابنُ الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٥٣١، ونسبه لابن عباس.
وذكر ابن الجوزي عن أبي سليمان الدمشقي، أن النبي - ﷺ -، أراد أن يستلف من بعض اليهود شعيرًا، فأبى إلا على رَهْنٍ، فقال النبي - ﷺ -: "لو أعطاني لأوفيته، إني لأمينٌ في السماء، أمينٌ في الأرض" فنزلت هذه الآية.
266
قال الزجاج (١): خطاب النبي - ﷺ -، خطاب الخَلْقِ في هذا الموضع؛ المعنى: لا يَغُرَّنَّكم أيها المؤمنون. وهذا قول قتادة (٢). قال: والله ما غَرُّوا نَبِيَّ اللهِ، حتى قبضه الله. والخطاب له، والمراد غيره (٣).
وقال بعض النَحْوِيِّين (٤): هذا خطابٌ لكل من سمعه من المكلفين؛ كأنه قيل: لا يَغُرَّنك أيُّها السامِعُ.
وُيبْنى المضارعُ مع النون الشديدة؛ لأن النون لحقت حرفَ الإعراب، على جهة التأكيد، فصار بمنزلة ضمِّ الاسم إلى الاسم في (خَمْسَةَ عَشَرَ)، ونحوه.
وقوله تعالى: ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾.
يعني: تَصَرُّفهم للتجارات (٥).
أعلَمَ (٦) اللهُ أن ذلك مما لا ينبغي أن يُغْبَطوا به؛ لأن مصيرهم -بكفرهم- إلى النار، ولا خير (٧) في نَعِيمٍ (٨) بعده النار.
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٥٠٠. نقله عنه بنصه.
(٢) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٢١٧، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٤٥.
(٣) (الخطاب له والمراد غيره): العبارة للثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٧٥ أ.
(٤) لم أقف عليهم.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٥١، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ١١٧، و"معاني القرآن" للزجاج ١/ ٥٠٠، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٥ أ، و"زاد المسير" ١/ ٥٣٢.
(٦) من قوله: (أعلم..) إلى (.. نعيم بعده النار): نقله -بتصرف يسير- عن: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٥٠٠ - ٥٠١.
(٧) في (ج): (وأخبر).
(٨) في "معاني القرآن": (بخير) بدلًا من (في نعيم).
267
١٩٧ - فقال: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ أي: تَقَلُّبُهُم مَتَاعٌ قَلِيلٌ. وقال الفراء (١): ذلك متاعٌ قليل.
وقال الزجاج (٢): ذلك الكَسْبُ والرِّبْحُ الذي يربحونه، مَتَاعٌ قليل. وإنما وصفه (٣) بالقِلَّةِ؛ لأنه فانٍ مُنْقَطِعٌ؛ ولأنَّهُ (٤) -بالإضافة إلى نعيم الآخرة- قليلٌ.
١٩٨ - قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ الآية. قد ذكرنا التخفيفَ والتشديد في ﴿لَكِنِ﴾ (٥) عند قوله: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ (٦)، ومعناه (٧) -ههنا-: الاستدراك بها، خلاف المعنى المتقدم؛ وذلك أن (٨) قوله: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ تَضَمَّنَ: ما لَهُم كثيرُ انتفاع؛ فجاء على ذلك: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ لَهُمْ (٩) الخلود في النعيم المقيم.
(١) قد يُفْهم قولُ الفراء هذا، من عباراته التي يقول فيها: (كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال، فقال الله عز وجل: لا يغرنك ذلك. وقوله: ﴿مَتَعٌ قَلِيلٌ﴾ في الدنيا). "معاني القرآن" ١/ ٢٥١. معنى قوله: (ذلك)، أي: ضَرْبُ اليهود في الأرض، متاع قليل.
(٢) في "معاني القرآن" له ١/ ٥٠١. نقله عنه بنصه.
(٣) في (ب): (وصف).
(٤) في (ج): (وإنه).
(٥) قرأ أبو جعفر بتشديد النون المفتوحة. وقرأ الباقون بالتخفيف. انظر: "المبسوط" لابن مهران ١٥١، و "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٥ب، و"زاد المسير" ١/ ٥٣٢، و"النشر" ٢/ ٢٤٧.
(٦) سورة البقرة: ١٠٢. وانظر: "الحجة" للفارسى ٢/ ١٦٩ - ١٨٠.
(٧) في (ج): (معناه) بدون واو.
(٨) (أن): ساقطة من (ج).
(٩) (لهم): زيادة من (ب).
268
وقوله تعالى: ﴿مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾. المعنى: مِنْ تحتِ أشجارِهَا وقصورها وأبْنِيَتِها.
وقوله تعالى: ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ النُّزُلُ (١): ما يُهيّأ لضيف أو لقوم إذا نزلوا موضعًا.
ويقال: (أقمت لهم نُزُلَهم)، أي: أقمت لهم غذاءَهم (٢)، وما يصلح معه أن ينزلوا (٣) عليه. هذا معناه في اللغة (٤).
وقال الكَلْبيُّ في تفسيره (٥): جزاءً وثوابًا (٦). وانتصابه على المصدر (٧)، في قول الزجاج، قال (٨): هو مصدرٌ مُؤَكِّدٌ (٩)؛ لأن خلودهم فيها: إنزالهم فيها أو نزولهم (١٠).
(١) النُّزُل، والنُّزْل -بضم الزاي وتسكينها. انظر: "القاموس المحيط" (١٠٦٢) (نزل).
(٢) في (ج): (عداوهم).
(٣) من قوله: (أقمت..) إلى (.. ينزلوا عليه): هو نص قول الزجاج في: "معاني القرآن" له ٤/ ٣٠٦ عند تفسير الآية ٦٢ من سورة الصافات ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا﴾.
(٤) انظر هذا المعنى، وبقية المعاني و (نزل) في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٥٥، و"المقاييس" ٥/ ٤١٧، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٨٠٠، و"اللسان" ٧/ ٤٤٠٠.
(٥) في (أ)، (ب): (تفسير)، والمثبت من (ج). وقد أورد قوله هذا: الثعلبي في: "تفسيره": ٣/ ١٧٥ ب وورد في: "زاد المسير" ١/ ٥٣٢، ونسبه إلى ابن عباس. ويبدو أنه من رواية الكلبي عنه.
(٦) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٣٢٥، و"تفسير البغوي" ٢/ ١٥٤.
(٧) أي: المفعول المطلق.
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٥٠١. نقله عنه بنصه.
(٩) مؤكد: ليس في "معاني القرآن".
(١٠) (أو نزولهم): ليس في "معاني القرآن".
269
وقال الفرّاء (١): هو نصبٌ على التفسير (٢)، كما تقول: (هو لك: هِبَةً وبَيْعًا وَصَدَقَة).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ أي: مما يَتَقَلَّبُ (٣) فيه الكفّار في دار الدنيا. و (الأبرار) (٤) يجوز أن يكون واحده (بارٌّ)، مثل: صاحِبٌ وأصحاب. ويجوز أن يكون واحده (بَرٌّ)، وأصلُهُ: (بَرَرٌ) (٥)، فأدْغِمَ (٦) للتضعيف (٧).
١٩٩ - وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ الآية.
(١) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٥١. نقله عنه بتصرف.
(٢) (التفسير) من مصطلحات الكوفيين. وهو (التمييز) عند البصريين، ويقال له كذلك: التبيين. وقد يُطلِقُ الفراءُ (التفسير) على المفعول لأجله، أو على بدل المطابقة. ولكنهما ليسا مرادان في هذا الموضع.
انظر: "همع الهوامع" ٣/ ٦٢. و"دراسة في النحو الكوفي" ٢٦٦ - ٢٢٨، و"النحو وكتب التفسير" ١/ ١٨٩، ١٩٠.
(٣) في (أ): (ينقلب). وفي (ج): غير معجمة. والمثبت من (ب)؛ لأنها أولى وأليق بالمعنى. وكذا وردت في: "الكشاف" ١/ ٤٩١، و"تفسير القرطبي" ٤/ ٣٢٢، و"تفسير البيضاوي" ١/ ٨٣
(٤) من قوله: (والأبرار..) إلى (للتضعيف) نقله عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٥٠١.
(٥) (وأصله برر): ساقط من (ج).
(٦) في (ج): (وأدغم).
(٧) في "الصحاح"، و"اللسان"، و"المصباح المنير"، و"التاج": أن (الأبرار) جمع (بَرٍّ). و (بَرَرَة) جمع (بارٍّ). انظر: (بر) في: "الصحاح" ٢/ ٥٨٨، و"اللسان" ١/ ٢٥٣، و"المصباح" ١٧، و"التاج" ٦/ ٧٠١.
وعند الراغب: أن (أبرار) جمع (بار). و (بَرَرَة) جمع (بَرٍّ). انظر: "مفردات ألفاظ القرآن": ١١٥. وتبعه الفيروزآبادى في "بصائر ذوي التمييز" ٢/ ٢١٣. وانظر: "البرهان" للزركشي ٤/ ١٨، و"عمدة الحفاظ" ٤٥.
270
اختلفوا في نزولها؛ فقال ابن عباس (١)، وجابر (٢)، وقتادة (٣): نزلت في النَّجَاشيِّ (٤) حينَ مات، وصلّى عليه النبيُّ - ﷺ - بالمدينة. فقال المنافقون: إنه يُصَلِّي على نصرانِيٍّ لم يَرَهُ قَطُّ (٥).
(١) قوله في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١١٧٦، و"أسباب النزول" للمؤلف ١٤٣.
(٢) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٢١٨، و"تفسير الثعلبي" ١٧٦ أ، و"أسباب النزول" للمؤلف ١٤٣، ١٤٤.
(٣) قوله، في: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٤٤، و"تفسير الطبري" ٤/ ٢١٨ - ٢١٩، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٦ أ، و"أسباب النزول" للمؤلف ١٤٣، ١٤٤.
(٤) هو: أصحمة بن أبحر، والنجاشي، لقبه. قال ابن عيينة عن (أصحمة)، (هو بالعربية: عطية). وهو ملك الحبشة، وقد أكرم المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده من مكة المكرمة، وأحسن استقبالهم، وأسلم ولم يهاجر. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ١/ ١٤٤، و"الإصابة" ١/ ١٠٩.
(٥) وبه قال ابن جريج في رواية عنه أخرجها الطبري في "تفسيره" ٤/ ٢١٩١. وقال به أنس بن مالك، أخرجه عنه النسائي في "تفسيره" ٣٥٦ رقم (١٠٨)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٣/ ٨٤٦، والمؤلف في: "أسباب النزول" ١٤٤، والبزار
(انظر: "كشف الأستار عن زوائد البزار" ١/ ٣٩٢ رقم: ٨٣٢).
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٣/ ٣٨وزاد نسبة إخراجه للطبراني في "الأوسط"، وقال: (ورجال الطبراني ثقات)، وذكره ابن حجر في "الإصابة" ١/ ١٠٩، وزاد نسبة إخراجه لابن شاهين والدارقطني في: الأفراد.
وانظر: "تفسير ابن كثير" ١/ ٤٨١، و"الدر المنثور" ٢/ ٢٠٠.
وبه قال الحسن البصري. ذكر ذلك ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٤٨١، ونسب إخراج الأثر عنه إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم.
وصلاة الرسول على النجاشي، أخرجها الشيخان، ولكن ليس فيها اعتراض المنافقين، ولا أنه سبب نزول الآية.
انظر: "صحيح البخاري" (٣٨٧٧) كتاب: مناقب الأنصار. باب: موت النجاشي، و"صحيح مسلم" رقم (٩٥١ - ٩٥٣) كتاب الجنائز. باب: في التكبير على الجنارة. وانظر: "جمع الزوائد" ٣/ ٣٨ - ٣٩.
271
وقال ابن جُرَيْج (١)، وابن زيد (٢): نزلت في عبد الله بن سَلامٍ وأصحابه.
وقال مجاهد (٣): نزلت في مؤمِنِي أهلِ الكتابِ، كلِّهم.
و (٤) قال الزجاج (٥): لَمَّا ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب في قوله: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آل عمران: ١٨٧] ذكر حال مَنْ آمَنَ مِنْ أهلِ الكتاب، وأخبر أنهم صَدَقُوا في حال خُشُوعٍ.
وقوله تعالى: ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: عَرَضًا مِنَ الدُّنياَ، كفعل اليهود الذين غَيَّروا التوراة بِثَمَن.
ومعنى: ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ -ههنا-: أنه لا يُؤخِّرُ الجزاءَ عَمَّن استحقه؛ لِطُول الحِسَابِ والاشتغال به؛ كما يتأخر (٦) لذلك الحقوقُ في الدنيا. ومضى الكلام في معنى سرعة حساب الله (٧).
(١) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٢١٩، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٦ ب، و"أسباب النزول" للمؤلف ١٤٤.
(٢) قوله في: المصادر السابقة وبه قال مقاتل في "تفسيره" ١/ ٣٢٣.
(٣) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٢١٩، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٤٦، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٦ب، و"أسباب النزول" للمؤلف١٧٣، وهو قول ابن عباس من رواية أبي صالح عنه. انظر:"زاد المسير" ١/ ٥٣٣. وإلى هذا القول، ذهب الطبري في تفسيره، في الموضع السابق.
(٤) (الواو): زيادة من (ج).
(٥) في "معاني القرآن" له ١/ ٥٠١. نقله عنه بالمعنى.
(٦) في (أ)، (ب)، (ج): (يتأخر). والأصل أن يقول: تتأخر. إلا أن المُثبَتَ على معنى: يتأخر قضاء الحقوق.
(٧) انظر: تفسير الآية: ٢٠٢ من سورة البقرة.
272
٢٠٠ - وقوله (١) تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾
قال الحسن (٢): اصبروا على دينكم فلا تَدَعُوه لِشِدّةٍ. وهذا اختيار الزجّاج (٣).
وقال زيد بن أسلم (٤): أي: على الجهاد. وهو اختيار ابن الأنباري (٥).
وقال الفرّاء (٦): ﴿اصْبِرُوا﴾ مع نَبِيِّكم (٧)، ﴿وَصَابِرُوا﴾ عدُوَّكم، فلا
(١) في (ج): (قوله) بدون واو.
(٢) قوله في: "تفسيرالطبري" ٤/ ٢٢١، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٤٩، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٦ ب، و"زاد المسير" ١/ ٥٣٤.
(٣) في "معانى القرآن" له ١/ ٥٠١.
وهو قول محمد بن كعب القرظي. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٢١، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٤٧.
وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٤/ ٢٢٢ وعلله بقوله: (وذلك أن الله لم يخصص من معاني الصبر على الدين والطاعة شيئًا، فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل، فلذلك قلنا: إنه عنى بقوله: ﴿اصْبِرُوا﴾: الأمر بالصبر على جميع معاني طاعة الله، فيما أمر ونهى، صعبها وشديدها، وسهلها وخفيفها).
(٤) قوله في: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٢٢، و"تفسير ابن أبي حاتم" ٣/ ٨٤٨، وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ٢٠١، ٢٠٢. وزاد نسبة إخراجه لعبد بن حميد، والبيهقي في "الشعب".
وأخرجه الحاكم بنفس سند الطبري وابن أبي حاتم، إلا أنه زاد فقال: (.. عن زيد ابن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) وفيه أن عمر بلغه أن أبا عبيدة حضر بالشام، وتألب عليه الأعداء، فكتب إليه يُصبِّره، وأنهى كتابه لهذه الآية. انظر: "المستدرك" ٢/ ٣٠٠. وصححه، ووافقه الذهبي.
(٥) لم أقف على مصدر قوله.
(٦) في "معاني القرآن" له ١/ ٢٥١. نقله عنه بنصه.
(٧) في المعاني: (مع نبيكم على الجهاد).
273
يكونن (١) أصْبَرَ منكم.
﴿وَرَابِطُوا﴾، أي: أقيموا على جهاد عدوكم بالحرب والحُجَّةِ. قاله الزجّاج (٢). وأصلُهُ -عند أهل اللغة-: مِن (مُرابَطَةِ الخَيْل)، وهو ارتباطها بإيزاء العَدُوِّ في بعض الثُّغُور (٣).
قال ابن قتيبة (٤): أصل (المُرَابَطَةِ) و (الرِّباط): أن يَرْبِطَ هؤلاء خيولَهم في الثَّغْرِ، وَيربط الكفارُ خيولَهم، كلٌّ يُعِدُّ لِصَاحبه، ثم سُمِّيَ المُقامُ بالثغور (رِباطًا)؛ لوجود هذا المعنى (٥).
وكلام ابن عباس -في رواية عطاء- يَدُلُّ على هذه الجملة، فإنه قال في قوله: ﴿وَرَابِطُوا﴾ يريد: عَدُوِّي وعدوَّكم. حتى يرجع عن دينه إلى دينكم (٦).
وهذا اللفظ يتضمن معنى (٧) ملازمة الجهاد. وهذا قول أكثر أهل
(١) في (ج): (فلا يكون).
(٢) في: "معاني القرآن"، له: ١/ ٥٠١ - ٥٠٢. نقله عنه بنصه.
(٣) هذا نص قول الأزهري في: "تهذيب اللغة": ٢/ ١٣٤٦ (ربط).
(٤) في: "تفسير غريب القرآن"، له: ١/ ١٠٩. نقله عنه بتصرف.
(٥) قال ابن فارس عن الرباط: هو (ملازمة ثَغْرِ العدو، كأنهم رُبطوا هناك، فثبتوا به، ولازموه). "المقاييس" ٢/ ٤٧٨ (ربط). وانظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٢٢، و"معاني القرآن" للنحاس ١/ ٥٣٠، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٣٣٨ - ٣٣٩ (ربط)، و"أساس البلاغة" (٣١٦) (ربط).
(٦) ورد معنى قول ابن عباس في: "زاد المسير" ١/ ٥٣٤، وأورد الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٧٧ أقول عطاء، دون أن يرفعه لابن عباس، وفيه: (﴿وَرَابِطُوا﴾: يعني. المشركين).
(٧) (معنى): ساقط من (ج).
274
التفسير (١).
وقال أبو سَلَمَة بن عبد الرحمن (٢): معنى ﴿وَرَابِطُوا﴾: انتظروا الصلاة بعد الصلاة. واحتج (٣) بقوله - ﷺ - في حديث أبي هريرة، حيث ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة- قال: (فَذلِكُمُ الرِّبَاط)، ثلاث مرّات (٤).
وأصل هذا من الرَّبْط، وهو: الشَّدُّ (٥). ويقال لِكُلِّ مَنْ صَبَرَ على أمْرٍ: (رَبَطَ قَلْبَه عليه)، و (ربط نفسه) (٦).
قال لَبِيد:
(١) هو قول: قتادة، وابن جريج، والضحاك، ومحمد بن كعب القُرَظي، ومقاتل. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٢١، ٢٢٢، و"تفسير مقاتل" ١/ ٣٢٤.
وهو الذي رجحه الطبري في "تفسيره" ٤/ ٢٢٣؛ مُعَلِّلًا بأنه: (هو المعنى المعروف من معاني (الرباط)، وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه، دون الخفي، حتى يأتي بخلاف ذلك -مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه- حُجةٌ يجب التسليم لها، مِن كتاب، أو خبر من الرسول - ﷺ -، أو إجماع من أهل التأويل) ٤/ ٢٢٣.
(٢) قوله في: "المستدرك" للحاكم ٢/ ٣٠١، و"تفسير الطبري" ٤/ ٢٢٢، وانظر: "تفسير ابن كثير" ١/ ٤٨١.
(٣) من قوله: (واحتج..) إلى (.. الصلاة بعد الصلاة): ساقط من (ج).
(٤) الحديث من رواية أبي هريرة. أخرجه مسلم في "الصحيح" رقم (٢٥١). كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء، والترمذي رقم (٥١، ٥٢) أبواب الطهارة. باب ما جاء في إسباغ الوضوء، وقال: (حسن صحيح)، ومالك في "الموطأ" ص ١١٨ (٥٨) كتاب قصر الصلاة في السفر، باب انتظار الصلاة والمشي إليها.
(٥) في (ج): (الشدة).
(٦) انظر: (ربط): "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٤٦، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٧٨، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٧ أ.
275
رابطُ الجَأْشِ على كُلِّ وَجَلْ (١)
أي: صابرٌ ثابت. فقيل للصبر على الصلاة وربط النفس عليها: (رِبَاط).
وقال أبو عبيدة (٢)، وابنُ الأنباري (٣): معنى ﴿وَرَابِطُوا﴾؛ أي: اثْبُتُوا، وداوموا (٤).
وأنشد ابنُ الأنباري قولَ الأخْطَل (٥):
(١) في (ب): (رجل).
وهذا عجز بيت، وصدره:
يُسْئِدُ السَّيْرَ عليها راكبٌ
البيت في: "ديوانه" ١٧٦. وورد منسوبًا له في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٩١ (سأد)، و"الصحاح" ٢/ ٤٨٢ (سأد)، و"تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٧ أ، و"اللسان" ٣/ ١٩٠٥.
ومعنى (يُسْئِد): يُغذُّ ويسرع السَّيْرَ. يقال: (أسْأدَ الرجلُ السَّيْرَ): أدْأبَهُ. و (الإسآد): الإسراع والإغذاذُ في السير، وأكثر ما يستعمل ذلك في سير الليل. وعن أبي عمرو: الإسآد: أن تسير الإبلُ الليل مع النهار. و (الوَجَلُ): الخوف.
انظر (سأد) في: "الصحاح" ٢/ ٤٨٢، و"اللسان" ٣/ ١٩٠٥، و"القاموس" (١٠٦٧) (وجل).
(٢) في: "مجاز القرآن" ١/ ١١٢.
(٣) لم أقف على مصدر قوله.
(٤) في "مجاز القرآن": ودوموا. وورد قول أبي عبيدة في: "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٧٧ أ، وفيه: (داوموا)، كما هي عند المؤلف.
(٥) هو: غياث بن غوث بن الصلت، أبو مالك التغلبي. شاعر نَصْراني، ومات على نَصْرانِيَّتِه، كان مُقَدَّمًا عند خلفاء بني أمية، لكثرة مدحه لهم وانقطاعه إليهم. توفي سنة (٩٠ هـ).
انظر. "شرح شواهد المغني" ١/ ١٢٣، "الأعلام" ٥/ ١٢٣.
276
ما زال فينا رِباطُ الخيْل معْلِمَةً وفي كُلَيْبٍ رِباطُ اللُّؤْمِ والعَارِ (١)
قال: إنما (٢) أراد بـ (الرِّبَاط): اللزوم والثبات. وهذا المعنى راجع إلى ما ذكرنا من الصبر ورَبْطِ النفس.
ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على جهاد العدو، ويجوز أن يكون على الصلاة (٣).
(١) البيت في "شعره" ٦٣٥. وورد منسوبًا له في: "الصحاح" ٥/ ١٩٩٠ (علم)،
و"اللسان" ٥/ ٣٠٨٤ (علم).
وورد غير منسوب في: "أساس البلاغة" ١/ ٣١٦.
قوله: (مُعْلِمة) -بكسر اللام، وهكذا ضبطت في شعره، والصحاح، و"اللسان"-: هي من قولهم: (أعْلَمَ الفارِسُ): جعل لنفسه علامة الشجعان. فهو مُعْلِم. والخيل المُعلِمة: المشهورة التي لها علامة في الحرب.
وفي "مجاز القرآن": (مُعْلَمَة) -بفتح اللام-: وهي للبناء للمجهول، من قولهم: (أعْلَمَ الفَرَسَ): عَلَّق عليه صوفًا أحمر أو أبيض في العرب. انظر: "اللسان" ٥/ ٣٠٨٤ (علم).
وكُلَيب: هم رهط جرير، الذي يهجوه الأخطلُ في هذا البيت.
(٢) (إنما): ساقط من (ج).
(٣) والراجح أن (الرباط) -المذكور في الآية- معنيٌّ به المرابطة في الجهاد. وهو ما رجحه ابن جرير، وأكثر المفسرين. وقول رسول الله - ﷺ -: (فذلكم الرباط..) إنما هو تشبيه المحافظة على الصلاة؛ بملازمتها والدوام عليها، والرباط في سبيل الله؛ بجامع ما في الأمرين من دوام ولزوم وانتظار. انظر: "المحرر الوجيز" ٣/ ٤٧٧.
277
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة النساء من أول السورة إلى آية (٨٣)
تحقيق
د. محمد بن حمد بن عبد الله المحيميد
279
Icon