تفسير سورة الأحزاب

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ﴾ لم يخاطبه الله كما خاطب غيره من الأنبياء، حيث قال: يا موسى، يا عيسى، يا داود، لكونه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق على الإطلاق، فخاطبه بما يشعر بالتعظيم والإجلال حيث قال: يا أيها النبي، يا أيها الرسول، وإن ذكر اسمه صريحاً، أردفه بما يشعر بالتعظيم حيث قال:﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ﴾[الفتح: ٢٩]﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ ﴾[آل عمران: ١٤٤] إلى غير ذلك. قوله: (أي دم على تقواه) دفع بذلك ما يقال: إن في الآية تحصيل الحاصل، وسبب نزول هذه الآية، أن أبا سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور عمرو بن سفيان السلمي، قدموا المدينة، فنزلوا على عبد الله بن أبي رأس المنافقين بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة، وقل إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لنا في قتلهم، فقال: إني أعطيتهم الأمان، فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي عمر أن يخرجهم من المدينة. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ تعليل للأمر والنهي. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ الواو ضمير الكفرة والمنافقين على قراءة التحتانية، وضمير النبي وأمته على قراءة الفوقانية، وهما قراءتان سبعيتان.
قوله: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ﴾ أي اعتمد عليه وفوض أمورك إليه. قوله: ﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً ﴾ الباء زائدة في فاعل كفى و ﴿ وَكِيلاً ﴾ حال. قوله: (تبع له في ذلك) أي فيما ذكر من قوله: ﴿ ٱتَّقِ ٱللَّهَ ﴾ إلى هنا.
قوله: ﴿ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾ أي لأن القلب عليه مدار قوى الجسد فيمتنع تعدده، لأنه يؤدي للتناقض، وهو أن يكون كل منهما أصلاً لكل قوى الجسد وغير أصل له. قوله: (رداً على من قال) إلخ، أي وهو أبو معمر، جميل بن معمر الفهري، كان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع، فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء، إلا من أجل أن له قلبين، وكان يقول: لي قلبان أعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد. فلما هزم الله المشركين يوم بدر، انهزم أبو معمر، لقيه أبو سفيان وإحدى نعليه بيده والأخرى برجله، فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال: انهزموا، فقال: ما بال إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك، فقال أبو معمر: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان، لما نسي نعله في يده. قوله: (بهمزة وياء بلا ياء) أي فهما قراءتان سبعيتان وهو جمع التي، قال ابن مالك: باللات واللاء التي قد جمعا. قوله: (بلا ألف قبل الهاء) أي فأصله تتظهرون بتاءين، سكنت الثانية وقلبت ظاء وأدغمت في الظاء. قوله: (وبها والتاء الثانية في الأصل مدغمة في الظاء) أي فهما قراءتان سبعيتان، وبقي قراءتان سبعيتان أيضاً، وهما فتح التاء والهاء مع تخفيف الظاء وأصلها بتاءين، حذفت احداهما وضم التاء وكسر الهاء وتخفيف الظاء أيضاً مضارع ظاهر، وهذه القراءات واردة قد سمع أيضاً، غير فتح التاء والهاء وتخفيف الظاء، لأن المضارع هناك مبدوء بالياء فلا تتأتى فيه، وفي الماضي ثلاث لغات: تظهر كتكلم، وتظاهر كتقاتل، وظاهر كقاتل. قوله: (بقول الواحد مثلاً لزوجته) إلخ، أي وضابطه أن يشبه زوجته كلاً أو بعضاً، بظهر مؤيدة التحريم. قوله: ﴿ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ مفعول ثان لجعل. قوله: (بشرطه) أي وهو العزم على العود، فإن لم يعزم على العود، فلا تجب عليه الكفارة ما لم يمسها، وإلا تحتمت عليه، ولو طلقها بعد ذلك. قوله: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ ﴾ نزلت في حق زيد بن حارثة، وهو كما روي كان من سبايا الشام، فاشتراه حكيم بن حزام بن خويلد، فوهبه لعمته خديجة بن خويلد، فوهبته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، فأقام عنده مدة، ثم جاء عنده أبوه وعمه في فدائه، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: خيراه، فاختار الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حريته وقومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: يا معشر قريش، اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه، وكان يطوف على خلق قريش يشهدهم على ذلك، فرضي ذلك عمه وأبوه وانصرفا، فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، فمكثت معه مدة، ثم أخبر الله نبيه أنه زوجه زينب، فلما طلقها زيد، تزوجها رسول الله، فتكلم المنافقون وقالوا: تزوج محمد حليلة ابنه وهو يحرمها، فنزلت هذه الآية رداً عليهم، وستأتي هذه القصة في أثناء السورة. قوله: (جمع دعيّ) أي بمعنى مدعو وأصله دعيو، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء. قوله: (أي اليهود) تفسير للكاف في أفواهكم. قوله: ﴿ ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ ﴾ روي عن عمر بن الخطاب قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة، إلا زيد ابن محمد، حتى نزلت ﴿ ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ ﴾.
قوله: ﴿ هُوَ أَقْسَطُ ﴾ أي دعاؤهم لآبائهم أبلغ في العدل والصدق. قوله: ﴿ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ ﴾ أي فادعوهم بمادة الاخوة، بأن تقولوا له يا أخي مثلاً. قوله: (بنو عمكم) تفسير للموالي، فإنه يطلق على معان من جملتها ابن العم، والمعنى إذا لم تعرفوا نسب شخص، وأردتم خطابه، فقولوا له: يا ابن عمي مثلاً. قوله: ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾ أي إثم قوله: ﴿ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ ﴾ أي ولكن الجناح فيما تعمدته قلوبكم.
قوله: ﴿ ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ أي أنه صلى الله عليه وسلم أحق بكل مؤمن من نفسه كان في زمنه أولاً، فطاعة النبي مقدمة على طاعة النفس، في كل شيء من أمور الدين والدنيا، لأنها طاعة لله، قال تعالى:﴿ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ ﴾[النساء: ٨٠] وإذا كان أولى بهم من أنفسهم، فهو أولى بمالهم وأولادهم وأزواجهم من أنفسهم بالأولى، فحقه صلى الله عليه وسلم على أمته أعظم من حق السيد على عبده، وهذه الآية أعظم دليل على أنه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة العظمى في كل نعمة وصلت للخلق. قوله: (فيما دعاهم إليه) أي من أمور الدين أو الدنيا أو الآخرة، فإذا طلب النبي شيئاً من أمر الدنيا أو الدين، وطلبت النفس خلافه، فالحق في الطاعة للنبي، وحينئذ فلا يتأتى من الغصب ولا السرقة، ولكن من كمال أخلاقه، أنه كان يتداين مع اليهود، ويشتري الشيء بالثمن، وإنما جعله الله أولى بالمؤمنين، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئاً عن هوى نفسه، بل عن وحي، فجميع أفعاله وأقواله عن ربه. قوله: ﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ أي من عقد عليهن، سواء دخل بهن أو لا، مات عنهن أو طلقهن، وسراريه اللاتي تمتع بهن كذلك. قوله: (في حرمة نكاحهن عليهم) أي والتعظيم والاحتراك والبر، لا في غير ذلك من النظر والخلوة، فإنهم في ذلك كالأجانب. قوله: ﴿ وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ ﴾ مبتدأ، و ﴿ بَعْضُهُمْ ﴾ بدل أو مبتدأ ثان.
﴿ أَوْلَىٰ ﴾ خبر. قوله: (في الإرث) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير الأقارب، أولى بإرث بعضهم، من أن يرثهم المؤمنون والمهاجرون الأجانب. قوله: (أي من الإرث بالإيمان والهجرة) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ متعلق بأولى. يعني أن الأقارب أولى بإرث بعضهم، من الإرث بسبب الإيمان والهجرة الذي كان في صدر الإسلام، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثة الآخر دون عصبته، حتى نزلت ﴿ وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ ﴾.
قوله: ﴿ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ ﴾ استثناء منقطع، ولذا فسره بلكن. قوله: ﴿ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ ﴾ أي من توالونه من الأجانب. قوله: (بوصية) أي فلما نسخ الإرث بالإيمان والهجرة، توصل إلى نفع الأجانب بالوصية، وهي خارجة من ثلث المال. قوله: ﴿ مَسْطُوراً ﴾ أي مكتوباً. قوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا ﴾ ظرف لمحذوف قدره بقوله: (اذكر). قوله: (وهي أصغر النمل) أي فكل أربعين منها أصغر من جناح بعوضة. قوله: (بأن يعبدوا الله) أي يوحدوه، وهو تفسير للميثاق. قوله: (ويدعوا إلى عبادته) أي يبلغوا شرائعه للخلق، فعهد الأنبياء ليس كعهد مطلق الخلق. قوله: (من عطف الخاص على العام) أي والنكتة كونهم أولي العزم ومشاهير الرسل، وقدمه صلى الله عليه وسلم لمزيد شرفة وتعظيمه قوله: (بما حملوه) أي وهو عبادة الله والدعاء إليها. قوله: (وهو اليمين) أي الحلف بالله على أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادته، فالميثاق الثاني غير الأول، لأن الأول إيصاء على التوحيد، والدعوى إليه من غير يمين، والثاني مغلط باليمين، والشيء مع غيره غيره في نفسه.
قوله: ﴿ لِّيَسْأَلَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾ متعلق بأخذنا، وفي الكلام التفات من التكلم للغيبة، كما أشار له المفسر بقوله: (ثم أخذ الميثاق) والمراد بالصادقين الرسل. قوله: (تبكيتاً للكافرين) أي تقبيحاً عليهم، أي فالحكمة في سؤال الرسل عن صدقهم، وهو تبليغهم ما أمروا به، مع علمه تعالى أنهم صادقون التقبيح على الكفار يوم القيامة. قوله: (وهو عطف على أخذنا) ويصح أن يكون في الكرم احتباك، وهو الحذف من الثاني، نظير ما أثبت الأول، والتقدير ليسأل الصادقين عن صدقهم، فأعد لهم نعيماً مقيماً، ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم، وأعد لهم عذاباً أليماً.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ هذا شروع في ذكر قصة غزوة الأحزاب، وكانت في سؤال سنة أربع وقيل خمس،" وسببها أنه لما وقع إجلاء بني النضير من أماكنهم، سار منهم جمع أكابرهم، منهم حيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وأبو عمار الواثلي، في نفر من بني النضير، إلى أن قدموا مكة على قريش، فحرضوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقال أبو سفيان: مرحباً وأهلاً، وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد، ثم قالت قريش لأولئك اليهود: يا معشر اليهود، إنكم أهل الكتاب الأول، فأخبرونا أنحن على الحق أم محمد؟ فقالوا: بل أنتم على الحق، فأنزل الله ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ﴾ فلما قالوا ذلك لقريش، سرهم ونشطوا لحرب محمد، ثم خرج أولئك اليهود، حتى جاءوا غطفان وقيس غيلان فاجتمعوا على ذلك، وخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن، ولما تهيأ الكل للخروج، أتى ركب من خزاعة في أربع ليال، حتى أخبروا محمداً بما اجتمعوا عليه، فشرع في حفر الخندق، بإشارة سلمان، الفارسي فقال له: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حاصرونا خندقنا علينا، فعمل فيه النبي والمسلمون حتى احكموه، وكان النبي يقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، ومكثوا في حفره ستة أيام، وقيل خمسة عشر، وقيل أربعة وعشرين، وقيل شهراً. قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً، فحفرنا وإذا ببطن الخندق صخرة كسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبر هذه الصخرة، فأتى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خرجت لنا صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق صخرة كسرت حديدنا وشقت علينا، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نجاوز خطتك، فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان إلى الخندق، وأخذ المعول مع سلمان، وضربها به ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، يعني المدينة، حتى كأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون معه، ثم ضربها الثانية، فبرق منها مثل الأول، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون معه، ثم ضربها الثالثة فكسرها، فبرق منها برق مثل الأول، وأخذ بيد سليمان ورقي، فقال: يأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئاً ما رأيت مثله قط، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم وقال: " أرأيتم ما يقول سلمان "؟ قالوا: نعم، قال: ضربت ضربتي الأولى، فبرق البرق الذي رأيتم، فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثانية، فبرق لي الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور قيصر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا، فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحصر، فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يمينكم ويعدكم الباطل، ويخبر أنه ينظر من يثرب، قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفزون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا؟ فنزل قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ وقوله تعالى: ﴿ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ ﴾ الآية فلما فرغوا من حفره، أقبلت قريش والقبائل وجملتهم اثنا عشر ألفاً، فنزلوا حول المدينة، والخندق بينهم وبين المسلمين، فلما رأته قريش قالوا: هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره والخندق بينهم وبين القوم، وخرج عدو الله حيي بن أخطب رئيس بني النضير، حتى أتى كعب بن أسد القرظي سيد بن قريظة، فلما سمع كعب حيياً، أغلق دونه حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له وقال له: ويحك يا حيي إنك امرؤ ميشوم، إني عاهدت محمداً فلست بناقض، فإني لم أر منه إلا وفاء وصدقاً، فما زال حيي به ويقول له: جئتك بعز الدهر، حتى فتح له ونقض عهد رسول الله، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله، بعث لهم سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وعبد الله بن رواحة، فوجدوهم نفضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشاتموهم وقالوا لهم: لا عهد بيننا وبينكم، ورجعوا وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين، فشرعوا يترامون مع المسلمين بالنبل، ومكثوا في ذلك الحصار خمسة عشر يوماً فاشتد على المسلمين الخوف، ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي من غطفان، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إني أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " أخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة "، فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة، وكان نديماً لهم في الجاهلية، فقال لهم: قد عرفتم ودي إياكمن وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان جاءوا لحرب محمد، وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتهم، البلد بلدكم، به أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره، وإن رأوا نهزة وغنيمة أصابوا، وإن كان غير ذلك، لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين هذا الرجل، ولا طاقة لكم عليه إن خلا بكم، فلا تقاتلوه مع القوم حتى تأخذوا رهناً من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً، حتى لا يتأخروا، قالوا: لقد أشرت برأي ونصح، ثم خرج حتى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه: قد عرفتم ودي وإياكم وفراقي محمداً، فقد بلغني أمر، رأيت حقاً علي أن أبلغكم نصحاً لكم فاكتموا علي، قالوا: نفعل، قال: تعلمون أن معشر يهود، قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك منا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم، فنعطيكم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم، فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعث إليكم يهود يلتمسون رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً، ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت، قال: فاكتموا علي، قالوا: نفعل، فقال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم مثل ما حذرهم، فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً، ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبتـ ولا هو يوم نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً، فأصابهم ما لم يخف عليكم، ولسنا من الذين نقاتل معكم، حتى تعطونا رهناً من رجالكم، يكون بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز معكم محمداً، فإنا نخشى إن ضرمتكم الحرب، واشتد عليكم القتال، أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: تعلمون والله أن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انتهزوا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان، إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم، وخذل الله عز وجل بينهم، وبعث الله عليهم ريحاً عاصفاً، وهي ريح الصبا، في ليلة شديدة البرد والظلمة، فقلعت بيوتهم، وقطعت أطنابهم، وكفأت قدورهم، وصارت تلقي الرجل على الأرض، وأسل الله الملائكة فزلزلهم ولم تقاتل، بل نفثت في قلوبهم الرعب، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم "، أدخله الله الجنة، فما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إلينا فقال مثله، فسكت القوم، وما قام منا أحد من شدة الخوف والجوع والبرد، ثم قال: يا حذيفة، فقلت: لبيك يا رسول الله وقمت حتى أتيته، فأخذ بيدي ومسح رأسي ووجهي ثم قال: ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم، ولا تحدثن شيئاً حتى ترجع إلي، ثم قال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته، فأخذت سهمي ثم انطلقت أمشي نحوهم، كأنما أمشي في حمام، فذهبت فدخلت في القوم، وقد أرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً لله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء، وأبو سفيان قاعد يصلي، فأخذت سهماً فوضعته في كبد قوسي، فأردت أن أرميهن ولو رميته لأصبته، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحدثن حدثاً حتى ترجع، فرددت سهمي في كنانتي، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء، فقال يا معشر قريش، ليأخذ كل منكم بيد فلان رجل من هوازن، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، فقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه فوثب على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو الله صلى الله عليه وسلم كأني أمشي في حمام، فأتيته وهو قائم يصلي، فلما سلم أخبرته، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل، فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفأ، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فأنامني عند رجليه، وألقى علي طرف ثوبه، وألصق صدري ببطن قدميه، فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: قم يا نومان. "قوله: ﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ ﴾ بدل من ﴿ نِعْمَةَ ﴾ والعامل ﴿ ٱذْكُرُواْ ﴾.
قوله: (متحزبون) أي مجتمعون، وتقدم أنهم كانوا اثني عشر ألفاً، وكان المسلمون إذ ذاك ثلاثة آلاف، والمنافقون من جملتهم. قوله: ﴿ رِيحاً ﴾ أي من الصبا التي تهب من المشرق ولم تتجاوزوهم. قوله: (ملائكة) أي وكانوا ألفاً ولم يقاتلوا، وإنما ألقوا الرعب في قلوبهم. قوله: (وبالياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ إِذْ جَآءُوكُمْ ﴾ بدل من إذا جاءتكم. قوله: (من أعلى الوادي) أي وهم أسد وغطفان. قوله: (وأسفله) أي وهم قريش وكنانة. قوله: (من المشرق والمغرب) لف ونشر مرتب. قوله: (من كل جانب) أي المحيط من كل جانب. قوله: (وهي منتهى الحلقوم) أي من أسفله. قوله: ﴿ ٱلظُّنُونَاْ ﴾ بألف بعد النون وصلاً ووقفاً، وبدونها في الحالين، وبإثباتها وقفاً، وحذفها وصلاً، ثلاث قراءات سبعيات، وتجري في قوله أيضا ﴿ ٱلسَّبِيلاْ ﴾ و ﴿ ٱلرَّسُولاَ ﴾ في آخر السورة. قوله: (بالنصر) أي من المؤمنين، وقوله: (واليأس) أي من المنافقين وبعض الضعفاء. قوله: ﴿ هُنَالِكَ ﴾ ظرف مكان أي في ذلك المكان وهو الخندق. قوله: ﴿ زِلْزَالاً ﴾ بكسر الزاي في قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بفتح الزاي، وهما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على فعلان، كصلصال وقلقال. قوله: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾ إلخ، القائل معتب بن بشير، وقال أيضاً: يعدنا محمد بفتح فارس والروم، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً وخوفاً، ما هذا إلا وعد غرور. قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ﴾ القائل وهو أوس بن قيظي، بكسر الظاء المعجمة من رؤساء المنافقين. قوله: (هي أرض المدينة) أي فسميت باسم رجل من العمالقة كان نزلها قديماً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تسميتها بذلك، وسماها طيبة وطابة وقبة الإسلام ودار الهجرة. قوله: (ووزن الفعل) أي فهي على وزن يضرب. قوله: (بضم الميم وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (ولا مكانة) أي تمكنا فهو بمعنى الإقامة. قوله: (جبل خارج المدينة) أي بينهما وبين الخندق، فجعل المسلمون ظهورهم إليه ووجوهم للعدو. قوله: ﴿ وَيَسْتَئْذِنُ ﴾ عطف على ﴿ قَالَت طَّآئِفَةٌ ﴾ وعبر بالمضارع استحضاراً للصورة. قوله: (يخشى عليها) أي من السراق لكونها قصيرة البناء. قوله: (قال تعالى) أي تكذيباً لهم.
قوله: ﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي دخلها الأحزاب. قوله: (الشرك) أي ومقاتلة المسلمين. قوله: (بالمد والقصر) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أي أعطوها وفعلوها) لف ونشر مرتب. قوله: ﴿ وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً ﴾ أي أقاموا بالمدينة بعد نقض العهد وإظهار الكفر وقتال المسلمين إلا زمناً قليلاً ويهلكون، فالعزة لله ورسوله والمسلمين، فالمعنى لو دخل الكفار المدينة، وارتد هؤلاء المنافقون، وقاتلوكم مع الكفار، لأخذ الله بأيديكم سريعاً بقطع دابرهم، فلا تخشوا منهم داخل المدينة أو خارجها. قوله: ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي قبل غزوة الخندق. قوله: ﴿ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ ﴾ أي بل يثبتون على القتال حتى يموتوا شهداء. قوله: ﴿ مَسْئُولاً ﴾ (عن الوفاء به) أي مسؤولاً صاحبه هل وفى به أم لا. قوله: ﴿ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ ﴾ أي لأنه مصيبكم لا محالة. قوله: ﴿ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي وإن نفعكم الفرار وتمتعتم بالتأخير، لم يكن ذلك التمتع إلا زمناً قليلاً. قوله: ﴿ أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ﴾ قدر له المفسر عاملاً يناسبه وهو قوله: ﴿ أَوْ ﴾ (يصيبكم بسوء) لأنه لا يصلح لتساقط العامل السابق وهو ﴿ يَعْصِمُكُمْ ﴾ على حد: علفتها تبناً وماء بارداً. قوله: (المثبطين) أي المكسلين غيرهم من القتال في سبيل الله وهم المنافقون. قوله: ﴿ وَٱلْقَآئِلِينَ ﴾ عطف على ﴿ ٱلْمُعَوِّقِينَ ﴾ وقوله: ﴿ لإِخْوَانِهِمْ ﴾ أي في الكفر والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بالقائلين اليهود من بني قريظة. قوله: ﴿ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾ اسم فعل، ويلزم صيغة واحدة للواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، وهذه لغة أهل الحجاز، وعند تميم هو فعل أمر، تلحقه العلامات الدالة على التثنية والجمع والتأنيث، ومقتضى عبارة المفسر أنه لازم حيث فسره بتعالوا، ويصح جعله متعدياً بمعنى قربوا، ومفعوله محذوف، والتقدير أنفسكم إلينا. قوله: (رياء وسمعة) أي لأن شأن من يكسل غيره عن الحرب لا يفعله إلا قليلاً لغرض خبيث.
قوله: ﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ﴾ أي مانعين للخير عنكم. قوله: (جمع شحيح) هذا هو المسموع فيه وقياسه أفعلاء، كخليل وأخلاء، والشح البخل. قوله: ﴿ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ ﴾ إلخ، هذا وصف لهم بالجبن، لأن شأن الجبان الخائف ينظر يميناً وشمالاً، شاخصاً ببصره. قوله: (كنظر أو كدوران) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ ﴾ نعت لمصدر محذوف من ﴿ يَنظُرُونَ ﴾ أو من ﴿ تَدُورُ ﴾.
قوله: ﴿ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ ﴾ أي لأنه يشخص ببصره ويذهب عقله. قوله: ﴿ سَلَقُوكُمْ ﴾ السلق بسط العضو ومدة للقهر، كان يداً أو لساناً، ففي الآية استعارة بالكناية، حيث شبه اللسان بالسيف، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو السلق بمعنى الضرب، فإثباته تخييل والحداد ترشيح. قوله: ﴿ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ ﴾ أي مانعين له، فلا نفع في أنفسهم ولا في مالهم. قوله: ﴿ لَمْ يُؤْمِنُواْ ﴾ (حقيقة) أي بقلوبهم وإن أسلموا ظاهراً. قوله: ﴿ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي أظهر بطلانها. قوله: ﴿ يَحْسَبُونَ ﴾ أي المنافقون لشدة جبنهم. قوله: ﴿ ٱلأَحْزَابَ ﴾ أي قريشاً وغطفان واليهود. قوله: ﴿ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ ﴾ أي ساكنون في البادية خارج المدينة، ليكونوا في بعد عن الأحزاب. قوله: ﴿ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ ﴾ يصح أن يكون حالاً من الواو في ﴿ بَادُونَ ﴾ أو جملة مستأنفة، والمعنى يسألون كل قادم من جانب المدينة، عما جرى بينكم وبين الكفار، وقائلين فيما بينهم: إن غلب المسلمون قاسمناهم في الغنيمة، وإن غلب الكفار فنحن معهم. قوله: ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ هذه الآية وما بعدها إلى قوله:﴿ وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾[الأحزاب: ٢٦] من تمام قصة الأحزاب، وفيها عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين والمنافقين. قوله: (بكسر الهمزة وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (اقتداء) أشار بذلك إلى أن الأسوة اسم بمعنى المصدر وهو الائتساء، يقال ائتسى فلان بفلان أي اقتدى به. قوله: (في القتال) لا مفهوم له، بل الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واجب في الأقوال والأفعال والأحوال، لأنه لا ينطق ولا يفعل عن هوى، بل جميع أفعاله وأقواله وأحواله عن ربه، ولذا قال العارف: وخصك بالهدى في كل أمر   فلست تشاء إلا ما يشاءوإنما خص القتال بالذكر لأنه معرض السبب. قوله: ﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ ﴾ لأي فالمنصف بهذه الأوصاف، ثبتت له الأسوة الحسنة في رسول الله، وأما من لم يكن متصفاً بتلك الأوصاف، فليس كذلك. قوله: ﴿ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً ﴾ أي بلسانه أو جنانه أو ما هو أعم.
قوله: ﴿ وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ ﴾ أي أبصروهم محدقين حول المدينة. قوله: ﴿ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ ﴾ أي بقوله:﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ ﴾[البقرة: ٢١٤] ﴿ وَرَسُولُهُ ﴾.
أي بقوله: إن الأحزاب سائرون عليكم بعد تسع ليال أو عشر، والعاقبة لكم عليهم. قوله: ﴿ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ أي ظهر صدق خبر الله ورسوله في الوعد بالنصر، فاستبشروا بالنصر قبل حصوله، وأظهر في محل الإضمار، وزيادة في تعظيم اسم الله، ولأنه لو أضمر الجمع بين اسم الله واسم رسوله في ضمير واحد، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم عاب على من قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصمهما فقد غوى، فقال له: بئس خطيب القوم أنت، قل: ﴿ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [الأحزاب: ٣٦].
قوله: ﴿ وَمَا زَادَهُمْ ﴾ (ذلك) أي والوعد أو الصدق. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ ﴾ إلخ، هم جماعة من الصحابة نذروا أنهم إذا أدركوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا. قوله: أي وفي نذره بموته في القتال، يقال: نحب ينحب، من باب قتل نذر، ومن باب ضرب بكى، قوله: ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ ﴾ (ذلك) أي قضاء النحب بالموت في سبيل الله. قوله: (بخلاف حال المنافقين) أي فقد بدلوا وغيروا، فكان الواحد منهم إذا أراد القتال، إنما يقال خوفاً على نفسه وماله، لا طمعاً في رضا الله. قوله: ﴿ لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ ﴾ الخ. قوله: (بأت يميتهم على نفاقهم) أشار بذلك إلى أن مفعول ﴿ شَآءَ ﴾ محذوف، ودفع بذلك ما يقال: إن عذابهم متحتم، فكيف علق على المشيئة؟ فالتعليق بحسب علمنا، وأما في علم الله فالأمر محتم، إما بالسعادة أو الشقاوة، وسيظهر ذلك للعباد.
قوله: ﴿ بِغَيْظِهِمْ ﴾ الجملة حالية أي ملتبسين بالغيظ. قوله: ﴿ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً ﴾ حال ثانية. قوله: ﴿ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ ﴾ أي لم يحصل بينهم اختلاط في الحرب، وإنما كان بينهم ضرب بالسهام والخندق بينهم. قوله: (بالريح) أي فكفأت قدورهم وقطعت خيامهم. قوله: (والملائكة) أي بإلقاء الرعب في قلوبهم، وتقدم بسط ذلك في القصة.
قوله: ﴿ وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ إلخ، شروع في ذكر قصة بني قريظة، وذكرت عقب الأحزان، لكونه بني قريظة كانوا من جملة الذين تحزبوا على رسول الله وأصحابه ونقضوا عهده وحاربوه، قال العلماء بالسير:" لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليلة التي انصرف فيها الأحزاب راجعين إلى بلادهم، انصرف هو والمؤمنون إلى المدينة ووضعوا السلاح؟ قال: نعم، قال جبريل: عفا الله عنك، وما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، فقال: إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فانهض إليهم، فإني قد قطعت أوتارهم، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال، وألقيت الرعب في قلوبهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي: إن من كان مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم المسلمون خمساً وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتنزلون على حكمي؟ فأبوا فقال: أتنزلون على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس؟ فرضوا به، فحكمه فيهم، فقال سعد: إني أحكم فيهم، أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري -النساء- فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات)، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحرث، من نساء بني النجار، ثم خرج إلى سوق المدينة الذي هو سوقها اليوم، فخندق فيه خندقاً، ثم بعث إليهم، فأتى بهم إليه وفيهم حيي بن أخطب رئيس بني النضير، وكعب بن أسد رئيس بني قريظة، وكانوا ستمائة أو سبعمائة، فأمر علياً والزبير بضرب أعناقهم، وطرحهم في ذلك الخندق، فلما فرغ من قتلهم وانقضى في شأنهم، توفي سعد المذكور بالجرح الذي أصابه في وقعة الأحزاب، وحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، قالت عائشة: فوالذي نفس محمد بيده. إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي، قالت: وكانوا كما قال الله تعالى ﴿ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾ "قوله: (وهو ما يتحصن به) أي سواء كان من الحصون أو لا، حتى الشوكة والقرن وباب الدار ونحو ذلك، تسمى صيصية. قوله: ﴿ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴾ بيان لما فعل بهم. قوله: (وهم المقاتلة) أي وكانوا ستمائة وقيل سبعمائة. قوله: (أي الذراري) أي وكانوا سبعمائة وقيل خمسين. قوله: (بعد) أي الآن وعبر بالماضي لتحقق الحصول. قوله: (وهي خيبر) أي وغيرها من كل أرض ظهر عليها المسلمون بعد ذلك إلى يوم القيامة. قوله: (أخذت بعد قريظة) أي بسنتين أو ثلاث، على الخلاف المتقدم في قريظة، هل هي في الرابعة أو الخامسة، وخيبر كانت في السابعة في أول محرم، وهي مدينة كبيرة ذات حصون ثمانية، وذات مزارع ونخل كثيرة، بينها وبين المدينة الشريفة أربع مراحل، فأقبل عليها صبيحة النهار، وفي تلك الليلة لم يصح لهم ديك ولم يتحركوا، وكان فيها عشرة آلاف مقاتل، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وحاصرها، وبنى هناك مسجداً صلى به طول مقامه عندها، وقطع من نخلها أربعمائة نخلة، وسبى أهلها، وأصاب من سبيها صفية بنت حيي بن أخطب رئيس بن النضير، وكانت وقعت في سهم دحية الكلبي، فتنازع بعض الصحابة في شأن ذلك، فأخذها رسول الله وأرضاه، وكانت من سبط هارون أخي موسى، فأسلمت ثم أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ﴾ اختلف المفسرون في هذا التخيير، هل كان تفويضاً في الطلاق إليهن، فيقع بنفس الاختيار؟ أم لا؟ فذهل الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم، إلى أنه لم يكن تفويضاً في الطلاق، وإنما خيرهن على أنهن إن اخترن الدنيا فارقهن، لقوله تعالى: ﴿ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ ﴾ وذهب قوم إلى أنه كان تفويضاً، وأنهن لو اخترن الدنيا لكان طلاقاً، فلا يحتاج لإنشاء صيغة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (وهن تسع) أي وهن اللاتي مات عنهن، وقد جمعهن بعض العلماء بقوله: نوفي رسول الله عن تسع نسوة   إليهن تعزى المكرمات وتنسبفعائشة ميمونة وصفية   وحفصة تتلوهن هند وزينبجويرية مع رملة ثم سودة   ثلاث وست نظمهن مهذبفعائشة هي بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وميمونة بنت الحرث الهلالية، وصفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير، وهند هي أم سلمة بنت أمية، وزينت بنت جحش، وجويرية بنت الحرث الخزاعية المصطلقية، ورملة هي أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرث، وسودة هي بنت زمعة. قوله: ﴿ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي التنعم فيها. قوله: ﴿ وَزِينَتَهَا ﴾ أي زخارفها، روي أن أبا بكر جاء ليستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأُذن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له فدخل فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً واجماً ساكتاً وحوله نساؤه، قال عمر: فقلت: والله لأقولن شيئاً أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت " يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله ما ليس عنده، فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ما ليس عنده، ثم اعتزلهن شهراً، ثم نزلت هذه الآية ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ﴾ حتى بلغ ﴿ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ﴾ قال: فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً، أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وكلهن قلن كما قالت عائشة: فشكر لهن ذلك، فأنزل الله﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ ﴾[الأحزاب: ٥٢] ثم رفع ذلك الحرج بقوله تعالى:﴿ مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ ﴾[الأحزاب: ٣٨] وبقوله:﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ ﴾[الأحزاب: ٥١].
قوله: ﴿ فَتَعَالَيْنَ ﴾ فعل أمر مبني على السكون، ونون النسوة فاعل. قوله: ﴿ أُمَتِّعْكُنَّ ﴾ جواب الشرط وما بينهما اعتراض، ويصح أن يكون مجزوماً في جواب الأمر، والجواب ﴿ فَتَعَالَيْنَ ﴾ قوله: (أطلقن من غير ضرار) أي من غير تعب ومشقة. قوله: (فاخترن الآخرة على الدنيا) أي ودمن على ذلك، فكن زاهدات في الدنيا، حتى ورد أن عائشة دخل عليها ثمانون ألف درهم من بيت المال، فأمرت جاريتها بتفرقتها ففرقتها في مجلس واحد، فلما فرغت طلبت عائشة منها شيئاً تفطر به وكانت صائمة، فلم تجد منها شيئاً.
قوله: ﴿ يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ ﴾ إلخ، هذه الآيات خطاب من الله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم إظهاراً لفضلهن وعظم قدرهن عند الله تعالى، لأن العتاب والتشديد في الخطاب، مشعر برفعة رتبتهن لشدة قربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهن ضجيعاته في الجنة، فبقدر القرب من رسول الله يكون القرب من الله، خلافاً لمن شذ وزعم أن حب النبي والقرب منه والتعلق به شرك. قوله: ﴿ بِفَاحِشَةٍ ﴾ قيل المراد بها الزنا، والمعنى لو وقع من واحدة منكن هذا الفعل، لحدت حدين، لعظم قدرها، كالحر بالنسبة للأمة، وعلى هذا القول فلا خصوصية لنساء النبي، بل جميع نساء الأنبياء مصونات من الزنا، ولذا قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإنما خانت امرأة نوح ولوط في الإيمان والطاعة، وقيل المراد بها النشوز وسوء الخلق، وقيل الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنا واللواط، وإن وردت منكرة فهي سائر المعاصي، وإن وردت منعوتة كما هنا، فهي عقوق الزوج وسوء عشرته، وقيل المراد بها جميع المعاصي وهو الأظهر، وهذا على سبيل الفرض والتقدير على حد: لئن أشركت ليحبطن عملك، وإلا فنساء النبي مطهرات مصونات من الفواحش. قوله: (بفتح الباء وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أي بينت) إلخ، لف ونشر مرتب. قوله: (وفي قراءة يضعف) أي والثلاث سبعيات. قوله: (العذاب) أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. قوله: (أي مثليه) أي فضعف الشيء مثله، وضعفاء مثلاه، وأضعافه أمثاله. قوله: ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً ﴾ أي سهلاً، فلا يبالي الله بأحد وإن عظمت رتبته، فليس أمر الله كأمر الخلق بترك تعذيب العزة حيث أذنبوا، لكثرة أوليائهم وأعوانهم، بل المكرم عند الله هو التقي. قوله: ﴿ وَتَعْمَلْ صَالِحاً ﴾ أي تدم عليه، وفيه مراعاة معنى من على قراءة التاء، ومراعاة لفظها على قراءة الياء. قوله: ﴿ مَرَّتَيْنِ ﴾ أي مرة على الطاعة والتقوى، ومرة أخرى على خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخدمة الباطنية التي لا تتيسر من غيرهن.
قوله: ﴿ يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾ تقدم أن حكمة التشديد عليهن، شدة قربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على رفعة قدرهن وعظم رتبتهن، فلا يليق منهن التوغل في الشهوات وتطلب زينة الدنيا، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لست من الدنيا وليست الدنيا مني "والمقربون منه كذلك، والمعنى ليست الواحدة منكن كالواحدة من آحاد النساء، فالتفاضل في الأفراد. قوله: ﴿ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ ﴾ شرط حذف جوابه للدلالة ما قبله عليه، كما يشير له المفسر بقوله: (فإنكن أعظم) والمعنى أن اتقيتن الله، فلا يقاس بالواحدة منكن واحدة من سائر النساء. قوله: كلام مستأنف مفرع على التقوى. قوله: ﴿ ٱلْقَوْلِ ﴾ أي بأن تتكلمن بكلام رقيق يميل قلوب الرجال إليكن، إذ لا يليق منكن ذلك، لكونكن أعظم النساء. قوله: ﴿ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ في ذلك احتراس عما يقال: إنهن أمهات المؤمنين، والإنسان لا يطمع في أمه، فأجاب: بأن الذي يقع منه الطمع إنما هو النفاق، لأن شهوته حاصلة معه، وهو منزوع الخشية والخوف من الله، ولمن نهين عموماً سداً للذريعة. قوله: ﴿ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ أي حسناً، فيه تعظيم الكبير ورحمة الصغير لا ريبة فيه. قوله: (بكسر القاف وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (من القرار) أي الثبات بيان لمعنى القراءتين. قوله: (وأصله اقررن بكسر الراء) أي من باب ضرب، وقوله: (وفتحها) أي من باب علم، فماضي الأول مفتوح، والأمر مكسور، والثاني بالعكس. قوله: (نقلت حركة الراء) أي الأولى، وحركتها إما كسرة على الأول، أو فتحة على الثاني. قوله: (مع همزة الوصل) أي الاستغناء عنها بتحريك القاف، والمعنى أثبتن في بيوتكن ولا تخرجن إلا لضرورة.
قوله: ﴿ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ ﴾ اختلف في زمنها، فقيل هي ما قبل بعثة إبراهيم، وقيل ما بين آدم ونوح، وقيل ما بين نوح وإدريس، وقيل ما بين نوح وإبراهيم، وقيل ما بين موسى وعيسى، وقيل ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل هي ما قبل الإسلام مطلقاً، وعليه اقتصر المفسر، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كن عليه، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى. قوله: (من إظهار محاسنهن للرجال) أي فكانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها، فينفرد خلها بما فوق الإزار، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل. قوله: (والإظهار بعد الإسلام) إلخ، جواب عما يقال: إن إظهار الزينة واقع من فسقة النساء بعد الإسلام، فلا حاجة لذكر الجاهلية الأولى، فأجاب: بأنه تقدم النهي عنه في قوله:﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ﴾[النور: ٣١].
قوله: ﴿ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ ﴾ أي بشروطها وآدابها. قوله: ﴿ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ ﴾ أي لمستحقيها. قوله: ﴿ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ أي في جميع الأوامر والنواهي، فلا تليق منكن المخالفة فيما أمر الله ورسوله به. قوله: ﴿ ٱلرِّجْسَ ﴾ أي الذنب المدنس لعرضكن. قوله: ﴿ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ ﴾ منصوب على أنه منادى، وحرف النداء محذوف قدره المفسر. قوله: (أي نساء النبي) قصره عليهن لمراعاة السياق، وإلا فقد قيل: الآية عامة في أهل بيت سكنه وهن أزواجه، وأهل بيت نسبه وهن ذريته. قوله: ﴿ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً ﴾ أكده إشارة إلى الزيادة في التطهير بسبب التكاليف، فالعبادة والتقوى سبب للطهارة، وهي الخلوص من دنس المعاصي، فمن ادعى الطهارة مع ارتكابه المعاصي، فهو ضال كذاب. قوله: ﴿ وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ ﴾ أي لتذكرن به أنفسكن أو غيركن، وفيه تذكير لهن بهذه النعمة العظيمة، حيث جعلهن من أهل بيت النبوة، وشاهدن نزول الوحي، وكل ذلك موجب للزوم التقوى. قوله: ﴿ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ بيان لما. قوله: ﴿ لَطِيفاً ﴾ أي عالماً بخفيات الأمور. قوله: ﴿ خَبِيراً ﴾ أي مطلعاً على كل شيء. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ ﴾ إلخ، سبب نزولها: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم جلسن يتذاكرن فيما بينهن ويقلن: إن الله ذكر الرجال في القرآن، ولم يذكر النساء بخير، فما فينا خير نذكر به، إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة، فسألت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت كثيرة السؤال له فقالت: يا رسول الله، ما بال ربنا يذكر الرجال في كتابه ولا يذكر النساء؟ فنخشى أن لا يكون فيهن خير، فنزلت جبراً لخاطرهن. قوله: ﴿ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾ إنما عطف وصفهم بالإيمان على وصفهم بالإسلام، وإن كانا متحدين شرعاً، نظراً إلى أنهما مختلفان مفهوماً، إذ الإسلام التلفظ بالشهادتين، بشرط تصديق القلب بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان الإذعان القلبي بشرط النطق باللسان، ويكفي في العطف أدنى تغاير. قوله: ﴿ وَٱلْحَافِـظَاتِ ﴾ حذف المفعول لدلالة ما قبله عليه والتقدير والحافظات فروجهن. قوله: ﴿ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً ﴾ أي بأي ذكر كان، من تسبيح أو تهليل أو تحميد أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والكثرة مختلفة باختلاف الأشخاص، فالكثرة في حق العامة أقلها ثلاثمائة، وفي حق المريدين اثنا عشر ألفاً، وفي حق العارفين عدم خطور الغير على قلوبهم، ومنه قول العارف ابن الفارض: ولو خطرت لي في سواك إرادة   على خاطري يوماً حكمت بردتي
قوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ ﴾ أي لا ينبغي ولا يصلح ولا يليق، وهذا اللفظ يستعمل تارة في الحظر والمنع كما هنا، وتارة في الامتناع عقلاً كما في قوله تعالى:﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ﴾[النمل: ٦٠] وتارة في الامتناع شرعاً كقوله تعالى:﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً ﴾[الشورى: ٥١].
قوله: ﴿ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً ﴾ ذكر اسم الله للتعظيم، وإشارة إلى أن قضاء رسول الله هو قضاء الله، لكونه لا ينطق عن الهوى، وإذا يصح أن تكون ظرفاً معمولاً لما تعلق به خبر كان، والتقدير وما كان مستقراً لمؤمن ولا مؤمنة وقت قضاء الله ورسوله أمراً كون الخيرة لهم، ويصح أن تكون شرطية، وجوابها محذوف دل عليه ما قبله. قوله: ﴿ أَن يَكُونَ ﴾ اسم كان مؤخر، والجار والمجرور خبر مقدم. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان، فالتاء ظاهرة والياء نظراً إلى الخيرة مجازي التأنيث، أو للفصل بين العامل والمعمول. قوله: ﴿ ٱلْخِيَرَةُ ﴾ بفتح الياء وقرئ شذوذاً بإسكانها، ومعناهما واحد وهو الاختيار. قوله: (أي الاختيار) أشار بذلك إلى أن الخيرة مصدر. قوله: ﴿ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ حال من الخيرة. قوله: (وأخته زينب) أي بنت جحش، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (خطبها النبي وعنى لزيد) أي بعد أن كان زوجه أولاً أم أيمن بركة الحبشية بنت ثعلبة بن حصن، كان لعبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقها، وقيل أعتقها النبي صلى الله عليه وسلم، وعاشت بعده صلى الله عليه وسلم خمسة أشهر وقيل سنة، وولدت لزيد أسامة، وكانت ولادته بعد البعثة بثلاث سنين وقيل بخمس. قوله: (فكرها ذلك) أي كون الخطبة لزيد، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا بنت عمتك، فلا أرضاه لنفسي، وكانت بيضاء جميلة، وزيد أسود. قوله: (ثم رضيا للآية) أي حين نزلت الآية توبيخاً لهما. قوله: ﴿ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ إلخ، هذا من تمام ما نزل في شأنهما، فكان المناسب للمفسر تأخير ذكر سبب النزول عن هذه الآية. قوله: ﴿ فَقَدْ ضَلَّ ﴾ أي أخطأ طريق الصواب. قوله: (فزوجها النبي لزيد) أي وأعطاها رسول الله عشرة دنانير وستين درهماً وخماراً ودرعاً وملحفة وخمسين مداً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر. قوله: (ثم وقع بصره عليها) هذا بناء على أن معنى قوله تعالى: ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ هو حبها الذي درج عليه المفسر تبعاً لغيره، وهذا التفسير غير لائق بمنصب النبوة لا سيما بجنابه الشريف، وأيضاً يبعد أن النبي يخفى عليه حالها، مع كونها بنت عمته وفي حجره. قوله: (فقال: ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ أي لا تفارقها. قوله: (منصوب باذكر) أي فهو معمول لمحذوف. قوله: (اشتراه رسول الله) فيه تسمح، بل الذي في السير، أن خديجة اشترته بأربعمائة درهم، ثم وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الشراء صوري، وإلا فهو كان حراً، لأنه لم يكن الرق بالسبي مشروعاً، لكونهم أهل فترة، وهم ناجون ليس فيهم حربي، والعلماء عرفوا الرق بأنه عجز حكمي سببه الكفر، روي أن عمه لقيه يوماً بمكة، فعرفه وضمه إلى صدره وقال له: لمن أنت؟ قال: لمحمد بن عبد الله، فأتوه وقالوا: هذا ابننا فرده علينا، فقال اعرضوا عليه، فإن اختاركم فخذوه، فبعث إلى زيد وخيره فقال: يا رسول الله ما أختار عليك أحداً، فجذبه عمه وقال: يا زيد اخترت العبودية على أبيك وعمك؟ قال: نعم هي أحب تقدم أنه تنزه عنه رسول الله، والصواب أن يقول: إن الذي أخفاه في نفسه، هو ما أخبره الله به، من أنها ستصير إحدى زوجاته بعد طلاق زيد لها، لما روي عن علي بن الحسين رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيداً يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلما شكى للنبي خلق زينب وأنها لا تطيعه، وأعلمه بأنها تريد طلاقها، قال له رسول الله على جهة الأدب والوصية: اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، وخشي رسول أن يلحقه قول الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو متبنيه، فعاتبه الله على الكتم لأجل هذا العذر، والحكمة في تزوج رسول الله بزينب، إبطال حكم التبني، والتفرقة بين ولد الصلب وولد التبني، من حيث إن ولد الصلب يحرم التزوج بزوجته، وولد التبني لا يحرم. قوله: (وتزوجها) هكذا في بعض النسخ بصيغة الأمر، وفي نسخة ويزوجكها فعل مضارع. قوله: ﴿ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً ﴾ أي بأن لم يبق له فيها إرب وطلقها وانقضت عدتها، وفي ذكر اسمع صريحاً دون غيره من الصحابة جبر وتأنيس له، وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان اسمه قرآناً يتلى في الدنيا والآخرة على ألسنة البشر والملائكة، وزاد في الآية أن قال: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ أي بالإيمان، فدل على أنه من أهل الجنة، فعلم ذلك قبل موته، فهذ فضيلة أخرى. قوله: (فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم بغير إذن) أي ولا عقد ولا صداق، وهذا من خصوصياته التي لم يشاركه فيها أحد بالإجماع، وكان تزوجه بها سنة خمس من الهجرة، وقيل سنة ثلاث، وهي أول من مات بعده من زوجاته، ماتت بعده بعشر سنين، ولها من العمر ثلاث وخمسون سنة، وكانت تفتخر على أزواج النبي وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات، وكانت تقول للنبي: جدي وجدك واحد، وليس من نسائك من هي كذلك غيري، وقد أنكحنيك الله، والسفير في ذلك جبريل. قوله: (وأشبع المسلمين خبزاً ولحماً) أي فذبح شاة وأطعم الناس خبزاً ولحماً حتى تركوه، ولم يولم النبي على أحد من نسائه، كما أولم على زينب. قوله: ﴿ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ ﴾ إلخ، أي فهو دليل على أن هذا الأمر ليس مخصوصاً صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً ﴾ أي موجوداً لا محالة. قوله: ﴿ مِنْ حَرَجٍ ﴾ أي إثم. قوله: (فنصب بنزع الخافض) ويصح نصبه على المصدرية، وفي هذه الآية رد على اليهود حيث عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم كثرة النساء. قوله: (توسعة لهم في النكاح) أي فقد كان لداود مائة امرأة، ولسليمان ولده سبعمائة امرأة وثلاثين سرية. قوله: ﴿ قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾ هو من التأكيد كظل ظليل وليل أليل. قوله: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾ أي أبوة حقيقية، فلا ينافي أن أبوهم من حيث إنه شفيق عليهم وناصح لهم، يجب عليهم تعظيمه وتوقيره. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ ﴾ العامة على تخفيف لكن، ونصب رسول على أنه خبر لكان المحذوفة، وقرئ شذوذاً بتشديد ﴿ لَـٰكِن ﴾، و ﴿ رَّسُولَ ﴾ اسمها، وخبرها محذوف تقديره أب من غير وراثة، إذا لم يعش له ولد ذكر، وقرئ أيضاً بتخفيفها، ورفع رسول على الابتداء، والخبر مقدر أي هو أو بالعكس، ووجه الاستدراك رفع ما يتوهم من نفي الأبوة عنه، أن حقه ليس أكيداً، فأفاد أن حقه آكد من حق الأب الحقيقي بوصف الرسالة. قوله: (فلا يكون له ابن رجل بعده يكون نبياً) النفي في الحقيقة متوجه للوصف، أي كون ابنه رجلاً، وكونه نبياً بعده، وإلا فقد كان به من الذكر أولاد، ثلاث، إبراهيم والقاسم والطيب، ولكنهم ماتوا قبل البلوغ، لم يبلغوا مبلغ الرجال، فكونه خاتم النبيين، يلزم منه عدم وجود ولد بالغ له، وأورد عليه بمنع الملازمة، إذ كثير من الأنبياء، وجد لهم أولاد بالغون وليسوا بأنبياء، وأجيب: بأن الملازمة، ليست عقلية، بل على مقتضى الحكمة الإلهية، وهي أن الله أكرم بعض الرسل بجعل أولادهم أنبياء كالخليل، ونبينا أكرمهم وأفضلهم، فلو عاش أولاده، اقتضى تشريف الله له جعلهم أنبياء، لجمعهم المزايا المتفرقة في غيره فتدبر. قوله: (وإذا نزل السيد عيسى) إلخ، جواب عما يقال: كيف قال تعالى: ﴿ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ ﴾ وعيسى ينزل بعده وهو نبي؟ ولا يرد على هذا، وضع الجزية، وعدم قبول غير الإسلام، ونحو ذلك مما جاء في الأحاديث مما يخالف شرعنا، لأن ذلك شرع نبينا عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾ في هذا إشارة إلى تشريف المؤمنين عموماً، حيث ناداهم وأمرهم بذكره وتسبيحه، وصلى عليهم هو وملائكته، وأفاض عليهم الأنوار وحياهم، والمقصود من ذكر العباد ربهم كون الله يذكرهم، قال تعالى:﴿ فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ ﴾[البقرة: ١٥٢] وليس المقصود منه انتفاعه تعالى بذلك، تنزه الله على أن يصل له من عباده نفع أو ضر، قال تعالى:﴿ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ﴾[الزمر: ٧] فذكرنا لأنفسنا، لأنه لا غنى لنا عن ربنا طرفة عين، وإذا كان كذلك، فلا تليق الغفلة عنه أبداً، بل المطلوب ذكره دائماً وأبداً، واعلم أن الله تعالى لم يفرض فريضة على عباده، وإلا جعل لها حداً معلوماً، وعذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فلم يجعل له حداً، ولم يعذر أحداً في تركه، إلا من كان مغلوباً على عقله، ولذا أمرهم به في جميع الأحوال، قال تعالى:﴿ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ﴾[النساء: ١٠٣] ففيه إشارة إلى أن الذكر أمره عظيم وفضله جسيم.
قوله: ﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ خص التسبيح بالذكر وإن كان داخلاً فيه، لكونه أعلى مراتبه، وحكمة تخصيص التسبيح بهذين الوقتين، لكونهما أشرف الأوقات، بسبب تنزل الملائكة فيهما. قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ﴾ استئناف في معنى التعليل للأمر بالذكر والتسبيح. قوله: ﴿ وَمَلاَئِكَتُهُ ﴾ عطف على الضمير المستتر في ﴿ يُصَلِّي ﴾ والفاصل موجود. قوله: (أي يستغفرون لكم) أي يطلبون لكم من الله المغفرة، قال تعالى:﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ﴾[غافر: ٧] الآيات. قوله: (ليديم إخراجه إياكم) جواب عما يقال: إن إخراجه إيانا من الظلمات حاصل بمجرد الإيمان، وإيضاح الجواب: أن المراد دوام هذا الإخراج، لأن الغفلة عن الخالق إذا دامت، ربما أخرجت العبد من النور والعياذ بالله. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ ﴾ جمع الأول لتعداد أنواع الكفر، وأفرد الثاني لأن الإيمان شيء واحد لا تعدد فيه، فمن ادعى الإيمان، وأثبت التعدد والمخالفة، فهو ضال مضل، خارج عن السنة والجماعة. قوله: ﴿ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ﴾ أي يقبل القليل من أعمالهم، ويعفو عن الكثير من ذنوبهم، حيث أخلصوا في إيمانهم.
قوله: ﴿ تَحِيَّتُهُمْ ﴾ (منه تعالى) أي التحية الصادرة منه تعالى، زيادة في الاعتناء بهم، وتعظيماً لقدرهم. قوله: ﴿ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ ﴾ اختلف في وقت اللقى، فقيل: عند الموت، وقيل: عند الخروج من القبور، وقيل: عند دخول الجنة. قوله: (بلسان الملائكة) أي لما ورد: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن يقول له: ربك يقرئك السلام، وفي الحقيقة هم يسمعون السلام من الله ومن الملائكة ومن الخلق غيرهم، قال تعالى:﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾[يس: ٥٨] وقال تعالى:﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾[الرعد: ٢٣-٢٤].
وقال تعالى:﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً ﴾[الواقعة: ٢٥-٢٦] قوله: (هو الجنة) أي وما فيها من النعيم المقيم. قوله: (على من أرسلت إليهم) أي لتترقب أحوالهم، وتكون مشاهداً لما صدر منهم من الأعمال الحسنة والقبيحة، فالأعمال تعرض عليه حياً وميتاً، ويصح أن يكون المراد شاهداً يوم القيامة للمؤمنين وعلى الكافرين، فهو مقبول الدعوى، لا يحتاج في دعواه إلى شهادة أحد، فيشهد للأنبياء بالتبليغ، وعلى الأمم إما بالتصديق أو بالتكذيب. قوله: (بأمره) دفع بذلك ما يقال: الأذن حاصل بقوله: ﴿ أَرْسَلْنَٰكَ ﴾ فأجاب: بأن المراد بالإذن الأمر والحكة في الاذن تسهيل الأمر وتيسيره، لأن الدخول في الشيء من غير إذن متعذر، فإذا حصل الإذن سهل وتيسر، ومن هنا أخذ الأشياخ استعمال الإجازة للمريدين، فمن أجاز أشياخه بشيء من العلم والإرشاد، فقد سهلت له الطريق وتيسرت، ومن لم تحصل له الإجازة وتصدر بنفسه، فقد عطل نفسه وغيره، وانسدت عليه الطرق. قوله: ﴿ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ﴾ يحتمل أن المراد بالسراج الشمس وهو ظاهر، ويحتمل أن المراد به المصباح، وحينئذ فيقال إنما شبه بالسراج، ولم يشبه بالشمس مع أن نورها أتم، لأن السراج يسهل اقتباس الأنوار منه، وهو صلى الله عليه وسلم تقتبس منه الأنوار الحسية والمعنوية. قوله: ﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي حيث كنت متصفاً بالصفات الخمسة فبشر المؤمنين. قوله: ﴿ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي لا تدار الكفار، ولا تلن لهم جانبك في أمر الدين، بل أثبت على ما أوحي إليك وبلغه، ولا تكتم منه شيئاً. قوله: ﴿ وَدَعْ أَذَاهُمْ ﴾ إما من إضافة المصدر لفاعله أي أذيتهم إياك، فلا تقاتلهم جزاء على ما صدر منهم، أو لمفعوله أي اترك اذيتك لهم في نظير كفرهم، واصفح عنهم واصبر، ولا تعاجلهم بالعقوبة، وهذا منسوخ بآية القتال. قوله: ﴿ وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ ﴾ أي ثق به في أمورك واعتمد عليه، يكفك أمور الدين والدنيا. قوله: ﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً ﴾ الباء زائدة في الفاعل، أي إن الله تعالى كاف من توكل عليه أمور الدنيا والآخرة، وفي الآية إشارة إلى أن التوكل أمره عظيم، فإذا عجز الإنسان عن أمر، فعليه بالتوكل على الله والتفويض إليه، فإن الله يكفيه ما أهمه من أمور الدنيا والآخرة. قوله: ﴿ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾ المراد بالنكاح العقد بدليل قوله: ﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾ وذكر المؤمنات خرج مخرج الغالب، إذ الكتابيات كذلك، وإنما خص المؤمنات بالذكر، إشارة إلى أن الأولى للمؤمن أن ينكح المؤمنات، وأما نكاح الكتابيات فمكروه، أو خلاف الأولى. قوله: ﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾ أي ولو طال زمن العقد. قوله: (وفي قراءة) أي وهما سبعيتان. قوله: (أي تجامعوهن) تفسير لكل من القراءتين. قوله: ﴿ تَعْتَدُّونَهَا ﴾ إما من العدد أو من الاعتداد أي تحسبونها أو تستوفون عددها من قولهم: عدا الدراهم فاعتدها أي استوفى عددها. قوله: (وعليه الشافعي) أي ومالك، فالمطلقة قبل الدخول إن سمي لها صداق، فلا متعة لها ولا عدة عليها، وإن لم يسم لها صداق بأن نكحت تفويضاً، فلا عدة عليها ولها المتعة، إما وجوباً كما هو عند الشافعي، أو ندباً كما هو عند مالك. قوله: (خلوا سبيلهن) أي اتركوهن. قوله: (من غير ضرار) أي بأن تمسكوهن تعنتاً حتى يفتدين منكم، أو تؤذوهن وتتكلموا في أعراضهن.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ ﴾ إلخ، اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية فقيل: المعنى أن الله أحل له أن يتزوج بكل امرأة دفع مهرها إلخ، فعلى هذا تكون الآية ناسخة للتحريم الكائن بعد التخيير المدلول عليه بقوله: (لا تحل لك النساء من بعد) فهذه الآية وإن كانت متقدمة في التلاوة، فهي متأخرة في النزول عن الآية المنسوخة بها، كآية الوفاة في البقرة، وقيل المراد ﴿ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ﴾ الكائنات عندك، لأنهن اخترنك على الدنيا، ويؤيده قول ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج من اي النساء شاء، وكان يشق على نسائه، فلما نزلت هذه الآية، وحرم عليه بها النساء إلا من سمى، سر نساؤه بذلك، والقول الأول أصح. قوله: ﴿ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ بيان لما يفعله من مكارم الأخلاق، وإلا فالله أحل له أن يتزوج بلا مهر. قوله: ﴿ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ﴾ بيان لما ملكت يمينك، وهذا القيد خرج مخرج الغالب، بل الملك بالشراء كذلك. قوله: (كصفية) هي بنت حيي بن أخطب من نسل هارون أخي موسى، وتقدم أنها كانت من سبي خيبر، أذن النبي صلى الله عليه وسلم لدحية الكلبي في أخذ جارية فأخذها، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم أعطيته سيدة بني قريظة والنضير، وهي لا تصلح إلا لك، فخشي عليها الفتنة، فأعطاه غيرها ثم أعتقها وتزوجها وبنى بها وهو راجع إلى المدينة، وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: هل لك فيَّ؟ قالت: نعم يا رسول الله، إني كنت أتمنى ذلك في الشرك، وكان بعينها خضرة، فسألها عنها فقالت: إنها كانت نائمة، ورأس زوجها ملكهم في حجرها، فرأت قمراً وقع في حجرها، فلما استيقظ أخبرته فلطمها وقال: تتمنين ملك يثرب، ماتت في رمضان سنة خمسين ودفنت في البقيع. قوله: (وجويرية) أي وهي بنت الحرث الخزاعية، وكانت وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، فكاتبها فجاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم وعرفته بنفسها فقال: هل لك إلى ما هو خير من ذلك، أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك؟ فقالت: نعم، فسمع الناس بذلك، فأعتقوا ما بأيديهم من قومها وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: فما رأينا امرأة كانت أعظم في قومها بركة منها، أعتق بسببها مائة أهل بيت من بني المصطلق، وقسم لها النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت بنت عشرين سنة، وتوفيت سنة خمسين. قوله: ﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ ﴾ أي نساء قريش المنسوبات لأبيك، وقوله: ﴿ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ﴾ أي نساء بني زهرة المنسوبات لأمك، وحكمة إفراد العم والخال دون العمة والخالة، أن العم والخال يعمان إذا أضيفا، لكونهما مفردين خاليين من تاء واحدة، والعمة والخالة لا يعمان لوجود التاء. قوله: (بخلاف من لم يهاجرن) أي فلا يحللن له، وهذا الحكم كان قبل الفتح، حين كانت الهجرة شرطاً في الإسلام، فلما نسخ حكم الهجرة، نسخ هذا الحكم. قوله: ﴿ وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً ﴾ معطوف على مفعول ﴿ أَحْلَلْنَا ﴾ أي وأما غير المؤمنة فلا تحل له، وظاهر الآية أن النكاح ينعقد في حقه صلى الله عليه وسلم بالهبة، وحينئذ فيكون من خصوصياته، والنساء اللاتي وهبن أنفسهن أربع: ميمونة بنت الحرث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأن شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم. واعلم أنه يحرم على النبي تزوج الحرة الكتابية لما في الحديث:" سألت ربي أن لا أزوج إلا من كان معي في الجنة فأعطاني "ولقوله تعالى:﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾[الأحزاب: ٦] ولا يليق أن تكون المشركة أم المؤمنين، ويحرم عليه أيضاً نكاح الأمة ولو مسلمة، لأن نكاحها مشروط بأمرين: خوف العنت، وعدم وجود مهر الحرة، وكلا الأمرين مفقود منه صلى الله عليه وسلم، وأما تسرية بالأمة الكتابية ففيه خلاف. قوله: ﴿ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ أظهر في محل الإضمار، تشريفاً لهذا الوصف، وإظهاراً لعظمة قدره عليه. قوله: ﴿ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا ﴾ هذا الشرط في الشرط الأول، فإن هبتها نفسها لا توجب حلها، إلا إذا أراد نكاحها، بأن يحصل منه القبول بعد الهبة، أو يسألها في ذلك قبل الهبة فتدبر. قوله: ﴿ خَالِصَةً ﴾ مصدر معمول لمحذوف، أي خلصت لك خالصة، ومجيء المصدر على هذا الوزن كثير، كالعاقبة والعافية والكاذبة. قوله: (من غير صداق) أي ومن غير ولي وشهود. قوله: (وغيره) أي كهبة. قوله: (بخلاف المجوسية) إلخ، فلا تحل لمالكها إلا إذا استسلمها، وذلك كجواري السودان والحبشة والمغرب، لأنهن يجبرن على الإسلام، ولذا لا يجوز للكفار شراؤهن كما هو مقرر في الفقه. قوله: (وأن تستبرأ قبل الوطء) أي كتابية كانت أو مجوسية. قوله: (متعلق بما قبل ذلك) أي وهو قوله: ﴿ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ ﴾ والمعنى: أحللنا لك أزواجك، وما ملكت يمينك، والموهوبة لك، لئلا يكون عليك ضيق. قوله: (لما يعسر التحرز عنه) أي لقولهم إذا ضاق الأمر اتسع.
قوله: ﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ ﴾ إلخ، اتفق المفسرون على أن المقصود من هذه الآية، التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاشرته لنسائه، واختلفوا في تأويله، وأصح ما قيل فيها: التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك القسم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أغار على النبي صلى الله عليه وسلم على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول: أو تهب المرأة نفسها لرجل، فلما أنزل الله عز وجل ﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ﴾ قالت: قلت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك، وقيل: إن ذلك في الواهبات أنفسهن، وحينئذ فيكون المعنى تأخذ من شئت منهن، وتترك من شئت، وقيل: إن ذلك في الطلاق فالمعنى لك طلاق من شئت منهن، وإمساك من شئت، وعلى كل حال، فالآية معناها التوسعة عليه في أمر النساء. قوله: (والياء بدله) أي بدل الهمزة، وحينئذ فهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء، منع من ظهورها الثقل. قوله: (عن نوبتها) أي من القسم. قوله: ﴿ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ ﴾ إلخ أي التي طلبت ردها إلى فراشك، بعد أن عزلتها وأسقطتها من القسمة، فلا جناح عليك. قوله: (بعد أن كان القسم واجباً عليه) هذا أحد قولين، وقيل: كان مخيراً من أول الأمر، ولم يكن واجباً عليه ابتداء. قوله: ﴿ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ﴾ هذا إشارة إلى حكمة تخييره في القسم وعدم وجوبه عليه، والمعنى لم يجب عليه القسم بين نسائه مع أنه عدل، لأن التخيير، أقرب إلى سكون أعينهم وعدم حزنهن، وأقرب إلى رضاهن بما حصل لهن، لأنهن إذا علمن أن الله لم يوجب على النبي شيئاً من القسم، وحصل منه القسم سررن بذلك وقنعن به. قوله: (تأكيد للفاعل) أي فهو بالرفع، وهذه قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بالنصب توكيد للمفعول. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ ﴾ خطاب للنبي على جهة التعظيم، ويحتمل أن يراد العموم. قوله: (والميل إلى بعضهن) أي بالطبع، فكان يميل إلى بعضهن أكثر، وكان يقول: اللهم إن هذا حظي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك، واتفق العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل بينهن في القسمة حتى مات، غير سوده رضي الله عنها، فإنها وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنها. قوله: ﴿ حَلِيماً ﴾ (على عقابهم) أي يعلم العيب ويستره، فينبغي للإنسان أن لا يفرط في حقوقه، لأن انتقام الحليم وغضبه أمر عظيم لما في الحديث:" اتقوا غيظ الحليم "ففي الآية ترغيب وترهيب. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (بعد التسع) أي بعد اجتماعهن في عصمتك، فهي بمنزلة الأربع لآحاد الأمة، فقد قصر الله نبيه عليهن، جزاء لهن على اختيارهن الله ورسوله، وهن التسع اللاتي توفي عنهن وهن: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، وصفية بنت حيي، وميمونة بنت الحرث الهلالية، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحرث المصطلقية، وقيل المراد بعد التخيير.
قوله: ﴿ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ﴾ البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل تنزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك، والمراد هنا نهيه عن المفارقة والإبدال بأي وجه. قوله: ﴿ مِنْ أَزْوَاجٍ ﴾ ﴿ مِنْ ﴾ زائدة في المفعول. قوله: ﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ﴾ حال من فاعل ﴿ تَبَدَّلَ ﴾.
قوله: ﴿ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ استثناء متصل من النساء، لأنه يتناول الأزواج والإماء، وقيل منقطع لإخراجه من الأزواج. قوله: (وقد ملك بعدهن مارية) أي القبطية، أهداها له المقوقس ملك القبط، وهم أصل مصر والاسكندرية، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث له حاطب بن أبي بلتعة بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام صورته: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإنما عليك إثم القبط، و﴿ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾[آل عمران: ٦٤]، الآية. فلما جاء حاطب بالكتاب إلى المقوقس، وجده في الإسكندرية، فدفعه إليه فقرأه، ثم جعله في حق من عاد وختم عليه ودفعه إلى جارية، ثم كتاب جوابه في كتاب صورته: بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وعلمت أن نبياً قد بقي، وما كنت أظن إلا أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، أي فإنه قد دفع له مائة دينار وخمسة أثواب، وبعثت لك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، أي وهما مارية وسيرين، وعشرين ثوباً منق قباطي مصر، وطيباً وعوداً ونداً ومسكاً، مع ألف مثقال من الذهب، ومع قدح من قوارير، وبغلة للركوب، وأهدى إليه جارية أخرى زيادة على الجاريتين، وخصياً يقال له مابور، والبغلة هي دلدل وكانت شهباء، وفرساً وهو اللزاز، فإنه سأل حاطباً: ما الذي يحب صاحبك من الخيل؟ فقال له: الأشقر، وقد تركت عنده فرساً يقال لها المرتجز، فانتخب له فرساً من خيل مصر الموصوفة، فأسرج وألجم، وهو فرسه الميمون، وأهدى إليه عسلاً من عسل بنها، قرية من قرى مصر، فأعجب به صلى الله عليه وسلم وقال: إن كان هذا عسلكم، فهذا أحلى، ثم دعا فيه بالبركة. قوله: (وولدت له إبراهيم) أي في ذي الحجة سنة ثمان، وعاش سبعين يوماً، وقيل: سنة وعشرة أشهر، وقوله: (ومات في حياته) أي ولم يصلّ عليه بنفسه، بل أمرهم فصلوا عليه.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ ﴾ إلخ، هذه الآية نزلت في شأن وليمة زينب بنت جحش، حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أنس بن مالك قال: كنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أول ما أنزل في بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، حين أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروساً، فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج، وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومشيت، حتى جاء عتبة حجرة عائشة، ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، حتى إذا دخل على زينب، فإذا هم جلوس لم يقوموا، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ورجعت، حتى إذا بلغ حجرة عائشة، وظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه الستر، وأنزل الحجاب. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ أي إلا بسبب الإذن لكم. ﴿ إِلَىٰ طَعَامٍ ﴾ متعلق بيؤذن لتضمينه معنى يدعى كما قدره المفسر. قوله: (فتدخلوا) ﴿ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ﴾ هذا التقدير غير مناسب، لأنه يقتضي أن الدخول مع الإذن، لا يجوز معه انتظار نضج الطعام، مع أنه يجوز، فالمناسب حذف هذا التقدير، إذ هذه الآية نزلت في قوم كانوا يدخلون من غير إذن، وينتظرون نضج الطعام، فنهاهم الله عن كل من الأمرين. والحاصل: أن أسباب النزول في هذه الآيات تعددت، منها: أن قوماً كانوا يدخلون بيوت النبي بغير دعوى وينتظرون نضج الطعام، ومنها: أن قوماً كانوا يدخلون بإذن ويتخلفون بعدها طعموا مستأنسين لحديث، ومنها: مؤاكلة الأجانب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضور زوجاته، فنزلت آية الحجاب، ونهى عن ذلك كله، وهذه آيات الحجاب الخصوص أمهات المؤمنين، وأما لعموم الأمة، فقد تقدم في سورة النور تأمل. قوله: (مصدر أنى يأنى) أي من باب رمى، وقياس مصدر أنى، لكن لم يسمع، وإنما المسموع إنى بالكسر والقصر. قوله: ﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ ﴾ أي أكلتم الطعام. قوله: ﴿ فَٱنْتَشِرُواْ ﴾ أي اذهبوا حيث شئتم في الحال، ولا تمكثوا بعد الأكل والشرب. قوله: ﴿ وَلاَ ﴾ (تمكثوا) ﴿ مُسْتَأْنِسِينَ ﴾ أشار بذلك إلى أن ﴿ مُسْتَأْنِسِينَ ﴾ حال من محذوف، وذلك المحذوف معطوف على انتشروا. قوله: ﴿ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ ﴾ أي لتضييقه عليه. قوله: ﴿ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ﴾ أي من إخراجكم. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ ﴾ المراد بالحق إخراجكم من منزله، وأطلق الاستحياء في حق الله، وأريد لزمه وهو ترك البيان. قوله: (بياء واحدة) أي قراءة شاذة في الثاني. قوله: ﴿ فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾ روي أن عمر قال: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم عائشة، وهي تأكل معهم، فكره النبي ذلك، فنزلت هذه الآية. قوله: ﴿ ذٰلِكُمْ ﴾ أي ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث، وسؤال المتاع من وراء الحجاب. قوله: (من الخواطر المريبة) أي أنفى وأبعد لدفع الريبة والتهمة، وهو يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة، مع من لا تحل له، فإنه مجانبة ذلك أحسن لحاله وأحصن لنفسه. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ ﴾ أي ما صح وما استقام لكم، وقوله: ﴿ أَن تؤْذُواْ ﴾ وهو اسم ﴿ كَانَ ﴾، و ﴿ لَكُمْ ﴾ خبرها، و ﴿ أَن تَنكِحُوۤاْ ﴾ عطف على اسم ﴿ كَانَ ﴾ نزلت هذه الآية في رجل من الصحابة يقال له طلحة بن عبيد الله، قال في سره: إذا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نكحت عائشة، ثم ندم هذا الرجل، ومشى على رجليه، وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقبة، فكفر الله عنه. قوله: ﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي بعد وفاته أو فراقه، ولو قبل الدخول بها، لأم كل من عقد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأبد تحريمها على أمته، وأما إماؤه فلا يحرمن على غيره إلا بمسه لهن. قوله: ﴿ إِنَّ ذٰلِكُمْ ﴾ أي ما ذكر من إيذائه ونكاح أزواجه من بعده. قوله: ﴿ إِن تُبْدُواْ شَيْئاً ﴾ أي تظهروه على السنتكم، وقوله: ﴿ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ أي في صدوركم، وقوله: (فيجازيكم عليه) جواب الشرط، وقوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ تعليل للجواب وهو بمعنى قوله تعالى:﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ﴾[البقرة: ٢٨٤].
قوله: ﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِيۤ آبَآئِهِنَّ ﴾ إلخ، هذا في المعنى مستثنى من قوله: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً ﴾ الآية، روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال آباؤهن وآبناؤهن: يا رسول الله أو نكلمهن أيضاً من وراء حجاب، فنزلت هذه الآية. وقوله: ﴿ فِيۤ آبَآئِهِنَّ ﴾ أي أصولهن وإن علوا، وقوله: ﴿ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ ﴾ المراد فروعهن وإن سفلوا. قوله: ﴿ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ ﴾.
الإضافة من حيث المشاركة في الوصف وهو الإسلام، فقول المفسر (أي المؤمنات) تفسير للمضاف، ومفهومه أن النساء الكافرات، لا يجوز لهن النظر لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذلك، ولا مفهوم لأزواج النبي، بل جميع النساء المسلمات كذلك، فلا يحل للمسلمة أن تبدي شيئاً منها للكافرة، لئلا تصفها لزوجها الكافر. قوله: ﴿ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ ﴾ عطف على محذوف، والتقدير امتثلن ما أمرتن به، واتقين الله، وحكمة تخصيص الحجاب هنا بأمهات المؤمنين، وإن تقدم في سورة النور عموماً دفع توهم أن أزواج النبي كالأمهات من كل وجه، فأفاد هنا أنهن كالأمهات في التعظيم والتوقير، لا في الخلوة والنظر، فإنهن كالأجانب بل هن أشد، فذكر لهن حجاباً مخصوصاً، فلا يقال إنه مكرر مع ما تقدم في النور. قوله: (لا يخفى عليه شيء) أي من الطاعات والمعاصي الظاهرة والخفية. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ ﴾ إلخ، هذه الآية فيها أعظم دليل على أنه صلى الله عليه وسلم مهبط الرحمات، وأفضل الخلق على الإطلاق، إذ الصلاة من الله على نبيه، ورحمته المقرونة بالتعظيم، ومن الله على غير النبي مطلق الرحمة، لقوله تعالى:﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ ﴾[الأحزاب: ٤٣] فانظر الفرق بين الصلاتين، والفضل بين المقامين. قوله: ﴿ وَمَلاَئِكَـتَهُ ﴾ بالنصب معطوف على اسم ﴿ إِنَّ ﴾، وقوله: ﴿ يُصَلُّونَ ﴾ خبر عن الملائكة، وخبر لفظ الجلالة محذوف تقديره: إن الله يصلي وملائكته يصلون، وهذا هو الأتم لتغاير الصلاتين، والمراد بالملائكة جميعهم، والصلاة من الملائكة الدعاء للنبي بما يليق به، وهو الرحمة المقرونة بالتعظيم، وحينئذ فقد وسعت رحمة النبي كل شيء، تبعاً لرحمة الله، فصار بذلك مهبط الرحمات، ومنبع التجليات. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ﴾ أي ادعوا له بما يليق به، وحكمة صلاة الملائكة والمؤمنين على النبي تشريفهم بذلك، حيث اقتدوا بالله في مطلق الصلاة، وإظهار تعظيمه صلى الله عليه وسلم، ومكافأة لبعض حقوقه على الخلق، لأنه الواسطة العظمى في كل نعمة وصلت لهم، وحق على من وصل له نعمة من شخص أن يكافئه، فصلاة جميع الخلق عليه، مكافأة لبعض ما يجب عليهم من حقوقه. إن قلت: إن صلاتهم طلب من الله أن يصلي عليه، وهو مصل عليه مطلقاً طلبوا أو لا؟ أجيب: بأن الخلق لما كانوا عاجزين عن مكافأته صلى الله عليه وسلم؛ طلبوا من القادر المالك أن يكافئه، ولا شك أن الصلاة الواصلة للنبي صلى الله عليه وسلم من الله لا تقف عند حد، فكلما طلبت من الله، زادت على نبيه، فهي دائمة بدوام الله. قوله: ﴿ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ إن قلت: خص السلام بالمؤمنين، دون الله والملائكة. أجيب بأن هذه الآية لما ذكرت عقب ذكر ما يؤذي النبي، والأذية إنما هي من البشر، فناسب للتخصيص بهم، لأن في السلام سلامة من الآفات، وأكد السلام دون الصلاة، لأنها لما أسندت لله وملائكته، كانت غبية عن التأكيد. واعلم أن العلماء اتفقوا على وجوب الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلفوا في تعيين الواجب، فعند مالك تجب الصلاة والسلام في العمر مرة، وعند الشافعي تجب في التشهد الأخير من كل فرض، وعند غيرهما تجب في كل مجلس مرة، وقيل: تجب عند ذكره، وقيل: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد، وبالجملة فالصلاة على الني أمرها عظيم، وفضلها جسيم، وهي من أفضل الطاعات، وأجل القربات، حتى قال بعض العارفين: إنها توصل إلى الله تعالى من غير شيخ، لأن الشيخ والسمد فيها صاحبها، لأن تعرض عليه، ويصلى على المصلي بخلاف غيرها من الأذكار، فلا بد فيها من الشيخ العارف، وإلا دخلها الشيطان، ولم ينتفع صاحبها بها. قوله: (أي قولوا اللهم صلِّ على محمد وسلم) أي اجمعوا بين الصلاة والسلام، وصيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة لا تحصى وأفضلها ما ذكره فيه لفظ الآل والصحب، فمن تمسك بأي صيغة منها، حصل له الخير العظيم.
قوله: إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } الإيذاء في حق الله معناه تعدي حدوده، وفي حق الرسول ظاهر. قوله: (وهم الكفار) أي اليهود والنصارى والمشركون. قوله: ﴿ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾ أي حجبهم عن الطاعة والتوحيد. قوله: ﴿ وَٱلآخِرَةِ ﴾ أي بتخليدهم في العذاب الدائم. قوله: (أبعدهم) أي عن رحمته. قوله: (ذا إهانة) أي هوان واستخفاف.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ إلخ، قيل: نزلت في علي بن أبي طالب، كانوا يؤذونه ويسمعونه، وقيل: نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها، وقيل: نزلت في شأن المنافقين الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يطلبون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فإن سكتت المرأة اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، وفي هذه الآية زجر لمن يسيء الظن بالمؤمنين والمؤمنات، ويتكلم فيهم من غير علم، وهي بمعنى قوله تعالى:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ ﴾[الحجرات: ١٢].
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ﴾ إلخ، سبب نزولها: أن المنافقين كانوا يتعرضون للنساء بالأذية، يريدون منهن الزنا، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء، ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة، لأن زي الكل واحد، تخرج الحرة والأمة في درع مخمار، فتكون ذلك لأزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. قوله: ﴿ يُدْنِينَ ﴾ أي يرخين ويغطين. قوله: (التي تشمل بها) أي تتغطى وتتستر بها المرأة من فوق الدرع والخمار. قوله: (فلا يغطين وجوههن) أي فكن لا يغطين وجوههن، وهذا فيما مضى، وأما الآن فالواجب على الحرة والأمة الستر بثياب غير مزينة خوف الفتنة. قوله: (لما سلف منهن من ترك الستر) وورد أن عمر بن الخطاب مر بجارية متقنعة، فعلاها بالدرة وقال لها أتتشبهين بالحائر يا لكاع، ألقي القناع. قوله: ﴿ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾ أي كعبد الله بن أبي وأصحابه. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾ أي فجور وهم الزناة، وهم من جملة المنافقين. قوله: ﴿ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ ﴾ أي بالكذب، وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سراياه صلى الله عليه وسلم يوقعون في الناس أنهم قد قتلوا وهزموا ويقولون: قد أتاكم العدو. قوله: (لنسلطنك عليهم) أي فتخرجهم من مجلسك وتقتلهم، وقد فعل بهم صلى الله عليه وسلم ذلك، فإنه لما نزلت في سورة براءة، جمعهم وصعد على المنبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا فلان قم فاخرج فإنك منافق، ويا فلان قم، فقام إخوانهم من المسلمين، وتولوا إخراجهم من المسجد. قوله: ﴿ مَّلْعُونِينَ ﴾ حال من محذوف قدره المفسر بقوله: (ثم يخرجون). قوله: (أي الحكم فيهم هذا) أي الأخذ والقتل. قوله: (على جهة الأمر به) أي أن الآية خبر بمعنى الأمر. (أي سن الله ذلك) أشار بذلك إلى أن سنة مصدر مؤكد، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي فلا تحزن على وجود المنافقين في قومك، فإنه سنة قديمة، كما كان في قوم موسى، منهم موسى السامري وأتباعه، وقارون وأتباعه. قوله: ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ أي تغييراً ونسخاً، لكونها بنيت على أساس متين، فليست مثل الأحكام التي تتبدل وتنسخ.
قوله: ﴿ يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ ﴾ أي على سبيل الاستهزاء والسخرية، لأنهم ينكرونها. واعلم أن السائل للنبي عن الساعة أهل مكة واليهود، فسؤال أهل مكة استهزاء، وسؤال اليهود امتحان، لأن الله أخفى علمها في التوراة، فإن أجابهم بالتعيين ثبت عندهم كذبه، وإن أجابهم بقوله: علمها عند ربي مثلاً، ثبتت نبوته وصدقه، فقول المفسر (أي أهل مكة) أي واليهود. قوله: ﴿ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ﴾ أي عن أصل ثبوتها، وعن وقت قيامها. قوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ ﴾ أي لم يطلع عليها أحد، وهذا إنما هو وقت السؤال، وإلا فلم يخرج نبينا صلى الله عليه وسلم من الدنيا، حتى أطلعه الله على جميع المغيبات ومن جملتها الساعة، لكن أمر بكتم ذلك. قوله: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ ﴾ ﴿ مَا ﴾ استفهامية مبتدأ، وجملة ﴿ يُدْرِيكَ ﴾ خبره، والاستفهام إنكاري. قوله: ﴿ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ﴾ ﴿ لَعَلَّ ﴾ حرف ترج ونصب، و ﴿ ٱلسَّاعَةَ ﴾ اسمها، وجملة ﴿ تَكُونُ ﴾ خبرها، و ﴿ قَرِيباً ﴾ حال وتكون تامة، ولذا فسرها بتوجد، والمعنى قل أترجى وجود الساعة عن قريب، فكل منهما جملة مستقلة لما ورد: أن الدنيا سبعة آلاف سنة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الألف السابع، فلم يبق من الدنيا إلا القليل. قوله: ﴿ خَالِدِينَ ﴾ حال مقدرة. قوله: ﴿ فِيهَآ ﴾ أي من السعير. وأنثه مراعاة لمعناه. قوله: ﴿ أَبَداً ﴾ تأكيد لما استفيد من قوله: ﴿ خَالِدِينَ ﴾.
قوله: ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ ﴾ إما ظرف لخالدين، أو ليقولون مقدم عليه، والمعنى تصرف من جهة إلى جهة، كاللحم يشوي بالنار. قوله: ﴿ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ ﴾ كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ماذا صنعوا عند ذلك؟ فقيل: يقولون متحسرين على ما فاتهم ﴿ يٰلَيْتَنَآ ﴾ إلخ. قوله: ﴿ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ ﴾ بألف بعد اللام، وبدونها هنا، وفي قوله: ﴿ ٱلسَّبِيلاْ ﴾ قراءتان سبعيتان، وتقدم التنبيه على ذلك. قوله: ﴿ سَادَتَنَا ﴾ جمع إما لسيد أول لسائد على غير قياس. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (جمع الجمع) أي جمع تصحيح بالألف والتاء لسادة، الذي مفرده إما سيد أو سائد. قوله: (أي مثلي عذابنا) أي لأنهم ضلوا وأضلوا. قوله: (وفي قراءة بالموحدة) أي وهما سبعيتان. قوله: (ما يمنعه أن يغتسل معنا) إلخ، أي لما روي أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا، إلا أنه آدر، فذهب يوماً يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فجعل موسى عليه السلام يعدو إثره يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر حتى نظروا إليه، فأخذ ثوبه فاستتر به، وطفق بالحجر ضرباً، قال أبو هريرة: والله إن به ندباً، أي أثراً، ستة أو سبعة من ضرب موسى.
قوله: ﴿ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ ﴾ أي أظهر له براءته لهم. قوله: (وهي نفخة في الخصية) أي بسبب انصباب مادة أو ريح غليظ فيها. قوله: ﴿ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً ﴾ المراد عندية مكانه وقدر لا مكان. قوله: (فغضب النبي من ذلك) أي وقال كما في رواية: " إن لم أعدل من يعدل، خسرت وندمت إن لم أعدل ". قوله: ﴿ قَوْلاً سَدِيداً ﴾ المراد قولاً فيه رضا الله، بأن يكون ما يعني الإنسان، فدخل في ذلك جميع الطاعات القولية، وهذا التفسير أتم من غيره. قوله: (يتقبلها) أي يثبكم عليها. قوله: ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ أي يمحها في من المصحف، أو يسترها عن الملائكة.
قوله: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ ﴾ اختلف في المراد بالأمانة، فأحسن ما قيل فيها: إنها التكاليف الشرعية، وقيل: إنها قواعد الدين الخمس، وقيل: هي الودائع، وقيل: الفرج، وقيل: غير ذلك، روي أن الله تعالى قال للسماوات والأرض والجبال: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جوزيتن، وإن عصيتن عوقبتن، قلن: لا يا رب نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثواباً ولا عقاباً، وقلن ذلك خوفاً وخشية وتعظيماً لدين الله لئلا يقمن بها، لا معصية ولا مخالفة لأمره، وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً، ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها. قوله: (من الثواب) بيان لما، أي عرضناها مع الثواب والعقاب على السماوات إلخ. قوله: (بأن خلق فيها فهماً) أي حتى عقلت الخطاب، وقوله: (ونطقاً) أي حتى ردت الجواب. قوله: ﴿ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ﴾ أي استصغاراً أو خوفاً من عدم الوفاء بها، فليس إباؤهن كإباء إبليس من السجود لآدم، لأن السجود كان فرضاً، والأمانة كانت عرضاً، وإباؤه استكباراً، وإباؤهن استصغاراً. قوله: ﴿ وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ أي خفن من عدم القيام بها وعدم أدائها. قوله: ﴿ وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ ﴾ عطف على محذوف تقديره فعرضناها على الإنسان فحملها. قوله: (بعد عرضها عليه) روي أن الله عز وجل قال لآدم: إن عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم تطقها. فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جوزيت، وإن أسأت عوقبت، فحملها آدم فقط: بين أذنب وعاتقي، قال الله تعالى: أما إذا تحملت فسأعينك، وأجعل لبصرك حجاباً، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل، فأرخ عليه حجابه، وأجعل للسانك لحيين وغلاقاً، فإذا خشيت فأغلق عليه، واجعل لفرجك لباساً، فلا تكشفه على ما حرمت عليك، قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها، وبين أن أخرج من الجنة، إلا مقدار ما بين الظهر إلى العصر. قوله: ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ (لنفسه) أي حيث حملها ما لا تطيقه، وقوله: ﴿ جَهُولاً ﴾ (به) أي بما حمله، وقيل مجهولاً بقدر ربه، لأنه لا يعلم قدر غيره، وهذا يناسب تفسير الإنسان بآدم، وعود الضمير عليه، وإن أريد بالضمير ما يشمله وأولاده، فيكون في الكلام استخدام، فيقال في الأنبياء والصالحين منهم كذلك، وفي غيرهم الظلم والجهل، من حيث خيانته في الأمانة ومجاوزته حد الشرع. قوله: ﴿ لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ اللام للعاقبة والصيرورة على حد﴿ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾[الذاريات: ٥٦].
قوله: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً ﴾ (للمؤمنين) أي حيث عفا عما سلف منهم. قوله: ﴿ رَّحِيماً ﴾ (بهم) أي حيث أثابهم وأكرمهم بأنواع الكرامات، وحكمة اخبار الأمة بما حصل من تحمل آدم الأمانة ليكونوا على أهبة، ويعرفوا أنهم متحملون أمراً عظيماً لم تقدر على حمله الأرض والسماوات والجبال، وقيل في حق المعصوم: إنه كان ظلوماً جهولاً.
Icon