تفسير سورة الصافات

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الصافات
مكية ولم يحكوا في ذلك خلافا وهي مائة واحدة وثمانون آية عند البصريين ومائة واثنتان وثمانون عند غيرهم وفيها تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكها في قوله تعالى في السورة المتقدمة ﴿ ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون إنهم إليهم لا يرجعون ﴾ وفيها من تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة ما هو كالإيضاح لما في تلك السورة من ذلك وذكر فيها شيء مما يتعلق بالكواكب لم يذكر فيما تقدم ولمجموع ما ذكر ذكرت بعدها وفي البحر مناسبة أول هذه السورة لآخر سورة يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته سبحانه على إحياء الموتى وأنه هو منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان ذكر عز وجل هنا وحدانيته سبحانه إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا بكون المريد واحدا كما يشير إليه قوله تعالى ﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾.

سورة الصّافّات
مكية ولم يحكوا في ذلك خلافا وهي مائة وإحدى وثمانون آية عند البصريين ومائة واثنتان وثمانون عند غيرهم، وفيها تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكها في قوله تعالى في السورة المتقدمة أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس: ٣١] وفيها من تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة ما هو كالإيضاح لما في تلك السورة من ذلك، وذكر فيها شيء مما يتعلق بالكواكب لم يذكر فيما تقدم، ولمجموع ما ذكر ذكرت بعدها. وفي البحر مناسبة أول هذه السورة لآخر سورة يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته سبحانه على إحياء الموتى وأنه هو منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان ذكر عز وجل هنا وحدانيته سبحانه إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا بكون المريد واحدا كما يشير إليه قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا إقسام من الله تعالى بالملائكة عليهم السلام كما روي عن ابن عباس وابن مسعود ومسروق ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي، وأبي أبو مسلم ذلك وقال: لا يجوز حمل هذا اللفظ وكذا ما بعد على الملائكة لأن اللفظ مشعر بالتأنيث والملائكة مبرؤون عن هذه الصفة، وفيه أن هذا في معنى جمع الجمع فهو جمع صافة أي طائفة أو جماعة صافة، ويجوز أن يكون تأنيث المفرد باعتبار أنه ذات ونفس والتأنيث المعنوي هو الذي لا يحسن أن يطلق عليهم وأما اللفظي فلا مانع منه كيف وهم المسمون بالملائكة، والوصف
63
المذكور منزل منزلة اللازم على أن المراد إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول أي الفاعلات للصفوف أو المفعول محذوف أي الصافات أنفسها أي الناظمات لها في سلك الصفوف بقيامها في مقاماتها المعلومة حسبما ينطق به قوله تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ١٦٤] وذلك باعتبار تقدم الرتبة والقرب من حظيرة القدس أو الصافات أنفسها القائمات صفوفا للعبادة، وقيل: الصافات أقدامها للصلاة، وقيل: الصافات أجنحتها في الهواء منتظرات أمر الله تعالى، وقيل: المراد بالصافات الطير من قوله تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور: ٤١] ولا يعول على ذلك، وصَفًّا مصدر مؤكد وكذا زَجْراً في قوله تعالى فَالزَّاجِراتِ زَجْراً وقيل: صفا مفعول به وهو مفرد أريد به الجمع أي الصافات صفوفها وليس بذاك، والمراد بالزاجرات الملائكة عليهم السلام أيضا عند الجمهور، والزجر في الأصل الدفع عن الشيء بتسلط وصياح وأنشدوا:
زجر أبي عروة السباع إذا... أشفق أن يختلطن بالغنم
ويستعمل بمعنى السوق والحث وبمعنى المنع، والنهي وإن لم يكن صياح والوصف منزل منزلة اللازم أو مفعوله محذوف أي الفاعلات للزجر أو الزاجرات ما نيط بها زجره من الأجرام العلوية والسفلية وغيرها على وجه يليق بالمزجور، ومن جملة ذلك زجر العباد عن المعاصي بإلهام الخير وزجر الشياطين عن الوسوسة والإغواء وعن استراق السمع كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى، وعن قتادة المراد بالزاجرات آيات القرآن لتضمنها النواهي الشرعية، وقيل كل ما زجر عن معاصي الله عز وجل، والمعول عليه ما تقدم، وكذا المراد كما روي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما في قوله تعالى: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً الملائكة عليهم السلام.
وذِكْراً نصب على أنه مفعول وتنوينه للتفخيم، وهو بمعنى المذكور المتلو وفسر بكتاب الله عز وجل.
قال أبو صالح: هم الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله عز وجل إلى الناس فالمراد بتلاوته تلاوته على الغير، وفسره بعضهم بالآيات والمعارف الإلهية والملائكة يتلونهما على الأنبياء والأولياء، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الاشارة ما يتعلق بتلاوة الملائكة ذلك على الأولياء قدس الله تعالى أسرارهم، وقال بعض: أي فالتاليات آيات الله تعالى وكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم السلام وغيرها من التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد، ولعل التلاوة على هذا أعم من التلاوة على الغير وغيرها، وقيل ذِكْراً نصب على أنه مصدر مؤكد على غير اللفظ لتكون المنصوبات على نسق واحد، وقال قتادة: التاليات ذكرا بنو آدم يتلون كتابه تعالى المنزل وتسبيحه وتكبيره، وجوز أن يكون الله تعالى أقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أنفسها في صفوف الجماعات أو أقدامها في الصلوات الزاجرات بالمواعظ والنصائح التاليات آيات الله تعالى الدارسات شرائعه وأحكامه أو بطوائف قواد الغزاة في سبيل الله تعالى التي تصف الصفوف في مواطن الحروب الزاجرات الخيل للجهاد سوقا أو العدو في المعارك طردا التاليات آيات الله سبحانه وذكره وتسبيحه في تضاعيف ذلك.
وجوز أيضا أن يكون أقسم سبحانه بطوائف الأجرام الفلكية المرتبة كالصفوف المرصوصة بعضها فوق بعض والنفوس المدبرة لتلك الأجرام بالتحريك ونحوه والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم الملائكة الكروبيون ونحوهم وهذا بعيد بمراحل عن مذهب السلف الصالح بل عن مذهب أهل السنة مطلقا كما لا يخفى، والفاء العاطفة للصفات قد تكون لترتيب معانيها الوصفية في الوجود الخارجي إذا كانت الذات المتصفة بها واحدة كما في قوله:
يا لهف زيابة للحادث الس... ابح فالغانم فالآيب
64
أي الذي صبح فغنم فآب ورجع أو لترتيب معانيها في الرتبة إذا كانت الذات واحدة أيضا كما في قولك: أتم العقل فيك إذا كنت شابا فكهلا أو لترتيب الموصوفات بها في الوجود كما في قولك: وقفت كذا على بني بطنا فبطنا أو في الرتبة نحو رحم الله تعالى المحلقين فالمقصرين، وكلاهما مع تعدد الموصوف والترتيب الرتبي إما باعتبار الترقي أو باعتبار التدلي، وهي إذا كانت الذات المتصفة بالصفات هنا واحدة وهم الملائكة عليهم السلام بأسرهم تحتمل أن تكون للترتيب الرتبي باعتبار الترقي فالصف في الرتبة الأولى لأنه عمل قاصر والزجر أعلى منه لما فيه من نفع الغير والتلاوة أعلى وأعلى لما فيها من نفع الخاصة الساري إلى نفع العامة بما فيه صلاح المعاش والمعاد أو للترتيب الخارجي من حيث وجود ذوات الصفات فالصف يوجد أولا لأنه كمال للملائكة في نفسها ثم يوجد بعده الزجر للغير لأنه تكميل للغير يستعد به الشخص ما لم يكمل في نفسه لا يتأهل لأن يكمل غيره ثم توجد التلاوة بناء على أنها إفاضة على الغير المستعد لها وذا لا يتحقق إلا بعد حصول الاستعداد الذي هو من آثار الزجر، وإذا كانت الذات المتصفة بها من الملائكة عليهم السلام متعددة بمعنى أن صنفا منهم كذا وصنفا آخر كذا فالظاهر أنها للترتيب الرتبي باعتبار الترقي كما في الشق الأول فالجماعات الصافات كاملون والزاجرات أكمل منها والتاليات أكمل وأكمل كما يعلم مما سبق، وقيل يجوز أن يكون بعكس ذلك بأن يراد بالصافات جماعات من الملائكة صافات من حول العرش قائمات في مقام العبودية وهم الكروبيون المقربون أو ملائكة آخرون يقال لهم كما ذكر الشيخ الأكبر قدس الله سره المهيمون مستغرقون بحبه تعالى لا يدري أحدهم أن الله عز وجل خلق غيره وذكر أنهم لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام لعدم شعورهم باستغراقهم به تعالى وأنهم المعنيون بالعالين في قوله تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ص: ٧٥] وبالزاجرات جماعات أخر أمرت بتسخير العلويات والسفليات وتدبيرها لما خلقت له وهي في الفضل على ما لها من النفع للعباد دون الصافات وبالتاليات ذكرا جماعات أخر أمرت بتلاوة المعارف على خواص الخلق وهي لخصوص نفعها دون الزاجرات أو المراد بالزاجرات الزاجرات الناس عن القبيح بإلهام جهة قبحه وما ينفر عن ارتكابه وبالتاليات ذكرا المهمات للخير والجهات المرغبة فيه، ولكون دفع الضر أولى من جلب الخير ودرأ المفاسد أهم من جلب المصالح ولذا قيل التخلية بالخاء مقدمة على التحلية كانت التاليات دون الزاجرات، وحال الفاء على سائر الأقوال السابقة في الصفات لا يخفى على من له أدنى تأمل ويجوز عندي والله تعالى أعلم أن يراد بالصافات المصطفون للعبادة من صلاة ومحاربة كفرة مثلا ملائكة كانوا أم أناسي أم غيرهما وبالزاجرات الزاجرون عن ارتكاب المعاصي بأقوالهم أو أفعالهم كائنين من كانوا وبالتاليات ذكرا التالون لآيات الله تعالى على الغير للتعليم أو نحوه كذلك، ولا عناد بين هذه الصفات فتجتمع في بعض الأشخاص، ولعل الترتيب على سبيل الترقي باعتبار نفس الصفات فالاصطفاف للعبادة كمال والزجر عن ارتكاب المعاصي أكمل والتلاوة لآيات الله تعالى للتعليم لتضمنه الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والتخلي عن الرذائل والتحلي بالمعارف إلى أمور أخر أكمل وأكمل وجعل الصفات المذكورة لموصوف واحد من الملائكة على ما مر بأن تكون جماعات منهم صافات بمعنى صافات أنفسها في سلك الصفوف بالقيام في مقاماتها المعلومة أو القائمات صفوفا للعبادة وتاليات ذكرا بمعنى تاليات الآيات بطريق الوحي على الأنبياء عليهم السلام لا يخلو عن بعد فيما أرى على أن تعدد الملائكة التالين للوحي سواء كان صنفا مستقلا أم لا مما يشكل عليه ما ذكره غير واحد أن الأمين على الوحي التالي للذكر على الأنبياء هو جبريل عليه السلام لا غير، نعم من الآيات ما ينزل مشيعا بجمع من الملائكة عليهم السلام ونطق الكتاب الكريم بالرصد عند إبلاغ الوحي وهذا أمر والتلاوة على الأنبياء عليهم السلام أمر آخر فتأمل جميع ذلك، وفي المراد بالصفات المتناسقة احتمالات غير ما ذكر فلا تغفل.
65
وأيا ما كان فالقسم بتلك الجماعات أنفسها ولا حجر على الله عز وجل فله سبحانه أن يقسم بما شاء فلا حاجة إلى القول بأن الكلام على حذف مضاف أي ورب الصافات مثلا، والآية ظاهرة الدلالة على مذهب سيبويه والخليل في
مثل وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: ١، ٢] من أن الواو الثانية وما بعدها للعطف خلافا لمذهب غيرهما من أنها للقسم لوقوع الفاء فيها موقع الواو إلا أنها تفيد الترتيب. وأدغم ابن مسعود ومسروق والأعمش وأبو عمرو وحمزة التاءات الثلاث فيما يليها للتقارب فإنها من طرف اللسان وأصول الثنايا.
إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ جواب للقسم وقد جرت عادتهم على تأكيد ما يهتم به بتقديم القسم ولذا قدم هاهنا فلا يقال: إنه كلام مع منكر مكذب فلا فائدة في القسم، وما قيل من أن وحدة الصانع قد ثبتت بالدليل النقلي بعد ثبوتها بالعقل ففائدته ظاهرة هنا غير تام لأن الكلام مع من لا يعترف بالتوحيد، وقد أشير إلى البرهان في قوله سبحانه رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ فإن وجودها على هذا النمط البديع أوضح دليل على وحدته عز وجل بل في كل ذرة من ذرات العالم دليل على ذلك:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، ورب خبر ثان لأن على مذهب من يجوز تعدد الأخبار أو خبر مبتدأ محذوف أو هو رب السماوات إلخ.
وجوز أبو البقاء وغيره كونه بدلا من «واحد» فهو المقصود بالنسبة أي خالق السماوات والأرض وما بينهما من الموجودات ويدخل في عموم الموصول أفعال العباد فتدل الآية على أنها مخلوقة له تعالى ولا ينافي ذلك كون قدرة العبد مؤثرة بإذنه عز وجل كما ذهب إليه معظم السلف حتى الأشعري نفسه في آخر الأمر على ما صرح به بعض الأجلة، وفسر بعضهم الرب هنا بالملك وبالمربي، ولعل الأول أظهر. وفي دلالة الآية على كون أفعال العباد مخلوقة له على ذلك بحث، والمراد بالمشارق عند جمع مشارق الشمس لأنها المعروفة الشائعة فيما بينهم وهي بعدد أيام السنة فإنها في كل يوم تشرق من مشرق وتغرب من مغرب فالمغارب متعددة تعدد المشارق، وكأن الاكتفاء بها لاستلزامها ذلك مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة. ولهذا استدل به إبراهيم عليه السلام عند محاجة النمروذ، وعن ابن عطية أن مشارق الشمس مائة وثمانون، ووفق بعضهم بين هذا وما يقتضيه ما تقدم من مضاعفة العدد بأن مشارقها من رأس السرطان وهو أول بروج الصيف إلى رأس الجدي وهو أول بروج الشتاء متحدة معها من رأس الجدي إلى رأس السرطان فإن اعتبر ما كانت عليه وما عادت إليه واحدا كانت مائة وثمانين وإن نظر إلى تغايرهما كانت ثلاثمائة وستين، وفي هذا إسقاط الكسر فإن السنة الشمسية تزيد على ذلك العدد بنحو ستة أيام على ما بين في موضعه، وفسرت المشارق أيضا بمشارق الكواكب، ورجح بأنه المناسب لقوله تعالى بعد إِنَّا زَيَّنَّا إلخ، وهي للسيارات منها متفاوتة في العدد، وأكثرها مشارق على ما هو المعروف عند المتقدمين زحل ومشارقة إلى أن يتم دورته أكثر من مشارق الشمس إلى أن تتم دورتها بألوف، ومشارق الثوابت إلى أن تتم الدورة أكثر وأكثر فلا تغفل وتبصر، وتثنية المشرق والمغرب في قوله تعالى رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: ١٧] على إرادة مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغربيهما، وإعادة رَبُّ هنا مع المشارق لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي أقرب السماوات من أهل الأرض فالدنيا هنا مؤنث أدنى بمعنى أقرب أفعل تفضيل بِزِينَةٍ عجيبة بديعة الْكَواكِبِ بالجر بدل من «زينة» بدل كل على أن المراد بها الاسم أي ما يزان به لا المصدر فإن الكواكب بأنفسها وأوضاع بعضها من بعض زينة وأي زينة:
66
فكأن أجرام النجوم لوامعا درر نثرن على بساط أزرق
وجوز أن تكون عطف بيان. وقرأ الأكثرون بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بالإضافة على أنها بيانية لما أن الزينة مبهمة صادقة على كل ما يزان به فتقع الكواكب بيانا لها، ويجوز أن تكون لامية على أن الزينة للكواكب أضواؤها أو أوضاعها، وتفسيرها بالأضواء منقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز أن يكون الزينة مصدرا كالنسبة وإضافتها من إضافة المصدر إلى مفعوله أي زينا السماء الدنيا بتزييننا الكواكب فيها أو من إضافة المصدر إلى فاعله أي زيناها بأن زينتها الكواكب. وقرأ ابن وثاب ومسروق بخلاف عنهما والأعمش وطلحة وأبو بكر «بزينة» منونا «الكواكب» نصبا فاحتمل أن يكون زينة مصدرا والكواكب مفعول به كقوله تعالى أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً وليس هذا من المصدر المحدود كالضربة حتى يقال لا يصح أعماله كما نص عليه ابن مالك لأنه وضع مع التاء كالكتابة والإصابة وليس كل تاء في المصدر للوحدة، وأيضا ليست هذه الصيغة صيغة الوحدة، واحتمل أن يكون الْكَواكِبِ بدلا من السَّماءَ بدل اشتمال واشتراط الضمير معه للمبدل منه إذا لم يظهر اتصال أحدهما بالآخر ما قرروه في قوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ [البروج: ٤].
وقيل: اللام بدل منه، وجوز كونه بدلا من محل الجار والمجرور أو المجرور وحده على القولين، وكونه منصوبا بتقدير أعني. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «بزينة» منونا «الكواكب» رفعا على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي الكواكب أو فاعل المصدر ورفعه الفاعل قد أجازه البصريون على قلة، وزعم الفراء أنه ليس بمسموع.
وظاهر الآية أن الكواكب في السماء الدنيا ولا مانع من ذلك وإن اختلفت حركاتها وتفاوتت سرعة وبطأ لجواز أن تكون في أفلاكها وأفلاكها في السماء الدنيا وهي ساكنة ولها من الثخن ما يمكن معه نضد تلك الأفلاك المتحركة بالحركات المتفاوتة وارتفاع بعضها فوق بعض. وحكى النيسابوري في تفسير سورة التكوير عن الكلبي أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور وتلك السلاسل بأيدي الملائكة عليهم السلام، وهو مما يكذبه الظاهر ولا أراه إلا حديث خرافة. وأما ما ذهب إليه جل الفلاسفة من أن القمر وحده في السماء الدنيا وعطارد في السماء الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة والثوابت في فلك فوق السابعة هو الكرسي بلسان الشرع فمما لا يقوم عليه برهان يفيد اليقين، وعلى فرض صحته لا يقدح في الآية لأنه يكفي لصحة كون السماء الدنيا مزينة بالكواكب كونها كذلك في رأي العين وَحِفْظاً نصب على أنه مفعول مطلق لفعل معطوف على زَيَّنَّا أي وحفظناها حفظا أو عطف على «زينة» باعتبار المعنى فإنه معنى مفعول له كأنه قيل: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا لها، والعطف على المعنى كثير وهو غير العطف على الموضوع وغير عطف التوهم وجوز كونه مفعولا له بزيادة الواو أو على تأخير العامل أي ولحفظها زيناها. وقوله تعالى:
مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ متعلق بحفظنا المحذوف أو بحفظا، والمارد كالمريد المتعري عن الخيرات من قولهم شجر أمرد إذا تعرى من الورق، ومنه قيل رملة مرداء إذا لم تنبت شيئا، ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر، وفسر هنا أيضا بالخارج عن الطاعة وهو في معنى التعري عنها، وقوله تعالى: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أي لا يتسمعون وهذا أصله فأدغمت التاء في السين، وضمير الجمع لكل شيطان لأنه بمعنى الشياطين.
وقرأ الجمهور «لا يسمعون» بالتخفيف، والملأ في الأصل جماعة يجتمعون على رأي فيملؤون العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء، ويطلق على مطلق الجماعة وعلى الأشراف مطلقا، والمراد بالملأ الأعلى الملائكة عليهم السلام كما روي عن السدي لأنهم في جهة العلو ويقابله الملأ الأسفل وهم الإنس والجن لأنهم في جهة السفل.
67
وقال ابن عباس: هم أشراف الملائكة عليهم السلام، وفي رواية أخرى عنه أنهم كتابهم، وفسر العلو على الروايتين بالعلو المعنوي.
وتعدية الفعل على قراءة الجمهور بإلى لتضمينه معنى الإصغاء أي لا يسمعون مصغين إلى الملأ الأعلى، والمراد نفي سماعهم مع كونهم مصغين، وفيه دلالة على مانع عظيم ودهشة تذهلهم عن الإدراك، وكذا على القراءة الأخرى وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه. وابن وثاب وعبد الله بن مسلم وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وحفص بناء على ما هو الظاهر من أن التفعل لا يخالف ثلاثيه في التعدية، واستعمال تسمع مع إلى لا يقتضي كونه غير مضمن، وقيل لا يحتاج إلى اعتبار التضمين عليها والتفعل مؤذن بالطلب فتسمع بمعنى طلب السماع، قيل: ويشعر ذلك بالإصغاء لأن طلب السماع يكون بالإصغاء فتتوافق القراءتان وإن لم يقل بالتضمين في قراءة التشديد، ولعل الأولى القول بالتضمين ونفي طلبهم السماع مع وقوعه منهم حتى قيل: إنه يركب بعضهم بعضا لذلك إما ادعائي للمبالغة في نفي سماعهم أو هو على ما قيل بعد وصولهم إلى محل الخطر لخوفهم من الرجم حتى يدهشوا عن طلب السماع، وقال أبو حيان: إن نفي التسمع لانتفاء ثمرته وهو السمع. وقال ابن كمال: عدي الفعل في القراءتين بإلى لتضمنه معنى الانتهاء أي لا ينتهون بالسمع أو التسمع إلى الملأ إلا على وليس بذاك كما لا يخفى على المتأمل الصادق، والجملة في المشهور مستأنفة استئنافا نحويا ولم يجوز كونها صفة لشيطان قالوا إذ لا معنى للحفظ من شياطين لا تسمع أو لا تسمع مع إيهامه لعدم الحفظ عمن عداها. وكذا لم يجوز كونها استئنافا بيانيا واقعا جواب سؤال مقدر إذ المتبادر أن يؤخذ السؤال من فحوى ما قبله فتقديره حينئذ لم تحفظ فيعود محذور الوصفية، وكذا كونها حالا مقدرة لأن الحال كذلك يقدرها صاحبها والشياطين لا يقدرون عدم السماع أو عدم التسمع ولا يريدونه، وجوز ابن المنير كونها صفة والمراد حفظ السماوات ممن لا يسمع أولا يسمع بسبب هذا الحفظ، وهو نظير ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا [المؤمنون:
٤٤]، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [إبراهيم: ٣٣، النحل: ١٢]، وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف:
٥٤] ومن هنا لم يجعل بعض الأجلة
قوله عليه الصلاة والسلام «من قتل قتيلا فله سلبه»
من مجاز الأول. وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر ولا يكاد يفهم من أضرب الرجل المضروب كونه مضروبا بهذا الضرب المأمور به لا بضرب آخر قبله، وكذا جوز صاحب الكشف كونها صفة وكونها مستأنفة استئنافا بيانيا أيضا ودفع المحذور وأبعد في ذلك المغزى كعادته في سائر تحقيقاته فقال: المعنى لا يمكنون من السماع مع الإصغاء أو لا يمكنون من التسمع مبالغة في نفي السماع كأنهم مع مبالغتهم في الطلب لا يمكنهم ذلك، ولا بد من ذلك جعلت الجملة وصفا أولا جمعا بين القراءتين وتوفية لحق الإصغاء المدلول عليه بإلى وحينئذ يكون الوصف شديد الطباق ورد الاستئناف البياني وارد على تقدير السؤال لم تحفظ؟ (١) وليس كذلك بل السؤال عما يكون عند الحفظ وعن كيفيته لأن قوله تعالى وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ مما يحرك الذهن له فقيل لا يَسَّمَّعُونَ جوابا عما يكون عنده ويُقْذَفُونَ لكيفية الحفظ، وهذا أولى من جعلها مبدأ اقتصاص مستطرد لئلا ينقطع ما ليس بمنقطع معنى انتهى.
واستدقه الخفاجي واستحسنه وذكر أن حاصله أنه ليس المنفي هنا السماع المطلق حتى يلزم ما ظنوه من فساد المعنى لأنه لما تعدى بإلى وتضمن معنى الإصغاء صار المعنى حفظناها من شياطين لا تنصت لما فيها إنصاتا تاما تضبط به ما تقوله الملائكة عليهم السلام، ومآله حفظناها من شياطين مسترقة للسمع، وقوله سبحانه: إِلَّا مَنْ
(١) هكذا الأصل فليحرر.
68
خَطِفَ إلخ ينادي على صحته، والمناقشة بحديث الأوصاف قبل العلم بها أخبار إن جاءت لا تتم فالحديث غير مطرد، وقيل: إن الأصل لأن لا يسمعوا على أن الجار متعلق بحفظا فحذفت اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذفت أن ورفع الفعل كما في قوله:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وفيه أن حذف اللام وحذف أن ورفع الفعل وإن كان كل منهما واقعا في الفصيح إلا أن اجتماع الحذفين منكر يصان كلام الله تعالى عنه. وأبو البقاء يجوز كون الجملة صفة وكونها استئنافا وكونها حالا فلا تغفل.
وَيُقْذَفُونَ أي يرمون ويرجمون مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها، وليس المراد أن كل واحد يرمى من كل جانب بل هو على التوزيع أي كل من صعد من جانب رمي منه.
وقرأ محبوب عن أبي عمرو «يقذفون» بالبناء للفاعل ولعل الفاعل الملائكة، وجوز أن يكون الكواكب، وأمر ضمير العقلاء سهل، وقوله تعالى دُحُوراً مفعول له وعلة للقذف أي للدحور وهو الطرد والإبعاد أو مفعول مطلق ليقذفون كقعدت جلوسا لتنزيل المتلازمين منزلة المتحدين فيقام دحورا مقام قذفا أو يُقْذَفُونَ مقام يدحرون، وعلى التقديرين هو مصدر مؤكد أو حال من ضمير يُقْذَفُونَ على أنه مصدر باسم المفعول على القراءة الشائعة وهو في معنى الجمع لشموله للكثير أي مدحورين، وجوز كونه جمع داحر بمعنى مدحور كقاعد وقعود، وكونه جمع داحر من غير تأويل بناء على القراءة الأخرى، وجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض وهو الباء على أنه جمع دحر كدهر ودهور وهو ما يدحر به أي يقذفون بدحور.
وقرأ السلمي وابن أبي عبلة والطبراني عن أبي جعفر «دحورا» بفتح الدال
فاحتمل كونه نصبا بنزع الخافض أيضا وهو على هذه القراءة أظهر لأن فعولا بالفتح بمعنى ما يفعل به كثير كطهور وغسول لما يتطهر ويغسل به، واحتمل أن يكون صفة كصبور لموصوف مقدر أي قذفا دحورا طاردا لهم، وأن يكون مصدرا كالقبول وفعول في المصادر نادر ولم يأت في كتب التصريف منه إلا خمسة أحرف الوضوء والطهور والولوع والوقود والقبول كما حكي عن سيبويه وزيد عليه الوزوع بالزاي المعجمة والهوى بفتح الهاء بمعنى السقوط والرسول بمعنى الرسالة. وَلَهُمْ أي في الآخرة عَذابٌ آخر غير ما في الدنيا من عذاب الرجم بالشهب واصِبٌ أي دائم كما قال قتادة وعكرمة وابن عباس وأنشدوا لأبي الأسود:
لا أشتري الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وفسره بعضهم بالشديد، قيل والأول حقيقة معناه وهذا تفسير له بلازمه. والآية على ما سمعت كقوله تعالى:
وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك: ٥] وجوز أبو حيان أن يكون هذا العذاب في الدنيا وهو رجمهم دائما وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء متصل من واو يَسَّمَّعُونَ ومَنْ بدل منه على ما ذكره الزمخشري ومتابعوه، وقال ابن مالك: إذا فصل بين المستثنى والمستثنى منه فالمختار النصب لأن الإبدال للتشاكل وقد فات بالتراخي، وذكره في البحر هنا وجها ثانيا، وقيل: هو منقطع على أن مَنْ شرطية جوابها الجملة المقرونة بالفاء بعد وليس بذاك، والخطف الاختلاس والأخذ بخفة وسرعة على غفلة المأخوذ منه، والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة كما يعرف عنه تعريف الخطفة بلام العهد لأن المراد بها أمر معين معهود فهي نصب على المصدرية، وجوز أن تكون مفعولا به على إرادة الكلمة. وقرأ الحسن وقتادة «خطّف» بكسر الخاء والطاء مشددة، قال أبو حاتم: ويقال هي لغة بكر بن وائل وتميم بن مر والأصل اختطف فسكنت التاء للإدغام وقبلها خاء ساكنة
69
فالتقى ساكنان فحركت الخاء بالكسر على الأصل وكسرت الطاء للاتباع وحذفت ألف الوصل للاستغناء عنها. وقرىء «خطّف» بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة ونسبها ابن خالويه إلى الحسن وقتادة وعيسى، واستشكلت بأن فتح الخاء سديد لإلقاء حركة التاء عليها، وأما كسر الطاء فلا وجه له، وقيل في توجيهها: إنهم نقلوا حركة الطاء إلى الخاء وحذفت ألف الوصل ثم قلبوا التاء وأدغموا وحركوا الطاء بالكسر على أصل التقاء الساكنين وهو كما ترى، وعن ابن عباس «خطف» بكسر الخاء والطاء مخففة أتبع على ما في البحر حركة الخاء لحركة الطاء كما قالوا نعم فَأَتْبَعَهُ أي تبعه ولحقه على أن أتبع من الأفعال بمعنى تبع الثلاثي فيتعدى لواحد شِهابٌ هو في الأصل الشعلة الساطعة من النار الموقدة، والمراد به العارض المعروف في الجو الذي يرى كأنه كوكب منقض من السماء ثاقِبٌ مضيء كما قال الحسن وقتادة كأنه ثقب الجو بضوئه، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يزيد الرقاشي أنه قال: يثقب الشيطان حتى يخرج من الجانب الآخر فذكر ذلك لأبي مجلز فقال: ليس ذاك ولكن ثقوبه ضوءه، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد «الثاقب» المتوقد وهو قريب مما تقدم.
وأخرج عن السدي «الثاقب» المحرق، وليست الشهب نفس الكواكب التي زينت بها السماء فإنها لا تنقض وإلا لا نتقصت زينة السماء بل لم تبق، على أن المنقض إن كان نفس الكواكب بمعنى أنه ينقلع عن مركزه ويرمي به الخاطف فيرى لسرعة الحركة كرمح من نار لزم أن يقع على الأرض وهو إن لم يكن أعظم منها فلا أقل من أن ما انقض من الكواكب من حين حدث الرمي إلى اليوم أعظم منها بكثير فيلزم أن تكون الأرض اليوم مغشية بإجرام الكواكب والمشاهدة تكذب ذلك بل لم نسمع بوقوع جرم كوكب أصلا.
وأصغر الكواكب عند الإسلاميين كالجبل العظيم، وعند الفلاسفة أعظم وأعظم بل صغار الثوابت عندهم أعظم من الأرض وإن التزم أنه يرمى به حتى إذا تم الغرض رجع إلى مكانه قيل عليه: إنه حينئذ يلزم أن يسمع لهويه صوت هائل فإن الشهب تصل إلى محل قريب من الأرض، وأيضا عدم مشاهدة جرم كوكب هابطا أو صاعدا يأبى احتمال انقلاع الكوكب والرمي به نفسه، وإن كان المنقض نوره فالنور لا أذى فيه فالأرض مملوءة من نور الشمس وحشوها الشياطين، على أنه إن كان المنقض جميع نوره يلزم انتقاص الزينة أو ذهابها بالكلية، وإن كان بعض نوره يلزم أن تتغير أضواء الكواكب ولم يشاهد في شيء منها ذلك، وأمر انقضاضه نفسه أو انفصال ضوئه على تقدير كون الكواكب الثوابت في الفلك الثامن المسمى بالكرسي عند بعض الإسلاميين وإنه لا شيء في السماء الدنيا سوى القمر أبعد وأبعد. والفلاسفة يزعمون استحالة ذلك لزعمهم عدم قبول الفلك الخرق والالتئام إلى أمور أخر، ويزعمون في الشهب أنها أجزاء بخارية دخانية لطيفة وصلت كرة النار فاشتعلت وانقلبت نارا ملتهبة فقد ترى ممتدة إلى طرف الدخان ثم ترى كأنها طفئت وقد تمكث زمانا كذوات الأذناب وربما تتعلق بها نفس على ما فصلوه، وهم مع هذا لا يقولون بكونها ترمى بها الشياطين بل هم ينكرون حديث الرمي مطلقا، وفي النصوص الإلهية رجوم لهم، ولعل أقرب الاحتمالات فى أمر الشهب أن الكوكب يقذف بشعاع من نوره فيصل أثره إلى هواء وتكيف بكيفية مخصوصة يقبل بها الاشتعال بما يقع عليه من شعاع الكوكب بالخاصية فيشتعل فيحصل ما يشاهد من الشهب، وإن شئت قلت: إن ذلك الهواء المتكيف بالكيفية المخصوصة إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو أثرت فيه أشعة الكواكب بما أودعه الله تعالى فيها من الخاصية فيشتعل فيحصل ما يحصل، وتأثير الأشعة الحرق في القابل له مما لا ينكر فإنا نرى شعاع الشمس إذا قوبل ببعض المناظر على كيفية مخصوصة أحرق قال الإحراق ولو توسط بين المنظرة وبين القابل إناء بلور مملوء ماء، ويقال: إن الله تعالى يصرف ذلك الحاصل إلى الشيطان المسترق للسمع وقد يحدث ذلك وليس هناك
70
مسترق، ويمكن أن يقال: إنه سبحانه يخلق الكيفية التي بها يقبل الهواء الإحراق في الهواء الذي في جهة الشيطان، ولعل قرب الشيطان من بعض أجزاء مخصوصة من الهواء معد بخاصية أحدثها الله تعالى فيه لخلقه عز وجل تلك الكيفية في ذلك الهواء القريب منه مع أنه عز وجل يخلق تلك الكيفية في بعض أجزاء الهواء الجوية حيث لا شيطان هناك أيضا.
وإن شئت قلت: إنه يخرج شؤبوب من شعاع الكوكب فيتأذى به المارد أو يحترق، والله عز وجل قادر على أن يحرق بالماء ويروى بالنار والمسببات عند الأسباب لا بها وكل الأشياء مسندة إليه تعالى ابتداء عند الأشاعرة، ولا يلزم على شيء مما ذكر انتقاص ضوء الكوكب، ولو سلم أنه يلزم انتقاص على بعض الاحتمالات قلنا: إنه عز وجل يخلق بلا فصل في الكوكب بدل ما نقص منه وأمره سبحانه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
ولا ينافي ما ذكرنا قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: ٥] لأن جعلها رجوما يجوز أن يكون لأنه بواسطة وقوع إشعاع على ما ذكرنا من الهواء تحدث الشهب فهي رجوم بذلك الاعتبار ولا يتوقف جعلها رجوما على أن تكون نفسها كذلك بأن تنقلع عن مراكزها ويرجم بها، وهذا كما تقول: جعل الله تعالى الشمس يحرق بها بعض الأجسام فإنه صادق فيما إذا أحرق بها بتوسيط بعض المناظر وانعكاس شعاعها على قابل الإحراق. وزعم بعض الناس أن الشهب شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة إلى كرة النار وهي الرجوم ولكونها بواسطة تسخين الكواكب للأرض قال سبحانه: وَجَعَلْناها رُجُوماً على التجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها، ولا يخفى أن كرة النار مما لم تثبت في كلام السلف ولا ورد فيها عن الصادق عليه الصلاة والسلام خبر، وقيل:
يجوز أن تكون المصابيح هي الشهب وهي غير الكواكب وزينة والسماء بالمصابيح لا يقتضي كونها فيها حقيقة إذ يكفي كونها في رأي العين ذلك، وقيل: يجوز أن يراد بالسماء جهة العلو وهي مزينة بالمصابيح والشهب كما هي مزينة بالكواكب. وتعقب هذا بأن وصف السماء بالدنيا يبعد إرادة الجهة منها. وتعقب ما قبله بأن المتبادر أن المصابيح هي الكواكب ولا يكاد يفهم من قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وقوله سبحانه:
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ إلا شيء واحد، وأن كون الشهب المعروفة زينة السماء مع سرعة تقضيها وزوالها وربما دهش من بعضها مما لا يسلم، والقول بأنه يجوز اطلاق الكوكب على الشهاب للمشابهة فيجوز أن يراد بالكواكب ما يشمل الشهب وزينة السماء على ما مر آنفا زيد فيه على ما تقدم ما لا يخفى ما فيه، نعم يجوز أن يقال:
إن الكوكب ينفصل منه نور إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو انقلب نارا ورؤى منقضا ولا يعجز الله عز وجل شيء، وقد يقال: إن في السماء كواكب صغارا جدا غير مرئية ولو بالأرصاد لغاية الصغر وهي التي يرمي بها أنفسها، وقوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ من باب عندي درهم ونصفه وإِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً الآية إن كان على معنى وحفظا بها فهو من ذلك الباب أيضا وإلا فالأمر أهون فتدبر. واختلف في أن المرجوم هل يهلك بالشهاب إذا أصابه أو يتأذى به من غير هلاك فعن ابن عباس أن الشياطين لا تقتل بالشهاب ولا تموت ولكنها تحرق وتخبل أي يفسد منها بعض أعضائها، وقيل تهلك وتموت ومتى أصاب الشهاب من اختطف منهم كلمة قال للذي يليه كان كذا وكذا قبل أن يهلك، ولا يأبى تأثير الشهاب فيهم كونهم مخلوقين من النار لأنهم ليسوا من النار الصرفة كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها، وأيا ما كان لا يقال: إن الشياطين ذوو فطنة فكيف يعقل منهم العود إلى استراق السمع مرة بعد مرة مع أن المسترق يهلك أو يتأذى الأذى الشديد واستمرار انقضاض الشهب دليل استمرار هذا الفعل
71
منهم لأنا نقول: لا نسلم استمرار هذا الفعل منهم واستمرار الانقضاض ليس دليلا عليه لأن الانقضاض ليس دليلا عليه لأن الانقضاض يكون للاستراق ويكون لغيره فقد أشرنا فيما سبق أن الهواء قد يتكيف بكيفية مخصوصة فيحترق بسبب أشعة الكواكب وإن لم يكن هناك مسترق، وقيل: يجوز أن ترى الشهب لتعارض في الأهوية واصطكاك يحصل منه ما ترى كما يحصل البرق باصطكاك السحاب على ما روي عن بعض السلف وحوادث الجو لا يعلمها إلا الله تعالى فيجوز أن يكونوا قد استرقوا أولا فشاهدوا ما شاهدوا فتركوا واستمرت الشهب تحدث لما ذكر لا لاستراق الشياطين، ويجوز أن يقع أحيانا ممن حدث منهم ولم يعلم بما جرى على رؤوس المسترقين قبله أو ممن لا يبالي بالأذى ولا بالموت حبا لأن يقال ما أجسره أو ما أشجعه مثلا كما يشاهد في كثير من الناس يقدمون في المعارك على ما يتيقنون هلاكهم به حبا لمثل ذلك، ولعل في وصف الشيطان بالمارد ما يستأنس به لهذا الاحتمال، وأما ما قيل: إن الشهاب قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسا فخلاف المأثور، فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا رمي بالشهاب لم يخطىء من رمي به، ثم إن ما ذكر من احتمال أنهم قد تركوا بعد أن صحت عندهم التجربة لا يتم إلا على ما روي عن الشعبي من أنه لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلّى الله عليه وسلم فلما قذف بها جعل الناس يسيبون أنعامهم ويعتقون رقيقهم يظنون أنه القيامة فأتوا عبد يا ليل الكاهن وقد عمي وأخبروه بذلك فقال: انظروا إن كانت النجوم المعروفة من السيارة والثوابت فهو قيام الساعة وإلا فهو أمر حادث فنظروا فإذا هي غير معروفة فلم يمض زمن حتى أتى خبر النبي صلّى الله عليه وسلم، ووافق على عدم حدوثه قبل ابن الجوزي في المنتظم لكنه قال: إنه حدث بعد عشرين يوما من مبعثه، والصحيح أن القذف كان قبل ميلاده عليه الصلاة والسلام، وهو كثير في أشعار الجاهلية إلا أنه يحتمل أنه لم يكن طاردا للشياطين وأن يكون طاردا لهم لكن لا بالكلية وأن يكون طاردا لهم بالكلية، وعلى هذا لا يتأتى الاحتمال السابق، وعلى الاحتمال الأول من هذه الاحتمالات يكون الحادث يوم الميلاد طردهم بذلك، وعلى الثاني طردهم بالكلية وتشديد الأمر عليهم لينحسم أمرهم وتخليطهم ويصح الوحي فتكون الحجة أقطع، والذي يترجح أنه كان قبل الميلاد طاردا لكن لا بالكلية فكان يوجد استراق على الندرة وشدد في بدء البعثة، وعليه يراد بخبر لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلّى الله عليه وسلم أنه لم يكثر القذف بها، وعلى هذا يخرج غيره إذا صح
كالخبر المنقول في السير أن إبليس كان يخترق السماوات قبل عيسى عليه السلام فلما بعث أو ولد حجب عن ثلاث سماوات ولما ولد النبي صلّى الله عليه وسلم حجب عنها كلها وقذفت الشياطين بالنجوم فقالت قريش: قامت الساعة فقال عتبة بن ربيعة: انظروا إلى العيوق فإن كان رمي به فقد آن قيام الساعة وإلا فلا
، وقال بعضهم: اتفق المحدثون على أنه كان قبل لكن كثر وشدد لما جاء الإسلام ولذا قال تعالى مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً [الجن: ٨] ولم يقل حرست، وبالجملة لا جزم عندنا بأن ما يقع من الشهب في هذه الأعصار ونحوها رجوم للشياطين والجزم بذلك رجم بالغيب هذا وقد استشكل أمر الاستراق بأمور، منها أن الملائكة في السماء مشغولون بأنواع العبادة أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد فماذا تسترق الشياطين منهم؟ وإذا قيل: إن منهم من يتكلم بالحوادث الكونية فهم على «محدبها» والشياطين تسترق تحت مقعرها وبينهما كما صح في الأخبار خمسمائة عام فكيف يتأتى السماع لا سيما والظاهر أنهم لا يرفعون أصواتهم إذا تكلموا بالحوادث إذ لا يظهر غرض برفعها، وعلى تقدير أن يكون هناك رفع صوت فالظاهر أنه ليس بحيث يسمع من مسيرة خمسمائة عام. وعلى تقدير أن يكون بهذه الحيثية فكرة الهواء تنقطع عند كرة النار ولا يسمع صوت بدون هواء.
72
وأجيب بأن الاستراق من ملائكة العنان وهم يتحدثون فيما بينهم بما أمروا به من السماء من الحوادث الكونية.
ولَمَسْنَا السَّماءَ [الجن: ٨] طلبنا خبرها أو من الملائكة النازلين من السماء بالأمر فإن ملائكة على أبواب السماء ومن حيث ينزلون يسألونهم بماذا تذهبون؟ فيخبرونهم، وليس الاستراق من الملائكة الذين على محدب السماء، وأمر كرة النار لا يصح، والهواء غير منقطع وهو كلما رق ولطف كأن أعون على السماع، على أن وجود الهواء مما لا يتوقف عليه السماع على أصول الأشاعرة ومثله عدم البعد المفرط، وظاهر خبر
أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة أن الاستراق من الملائكة في السماء قال: «إذا قضى الله تعالى أمرا تكلم تبارك وتعالى فتخر الملائكة كلهم سجدا فتحسب الجن أن أمرا يقضى فتسترق فإذا فزع عن قلوب الملائكة عليهم السلام ورفعوا رؤوسهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا جميعا: الحق وهو العلي الكبير»
وجاء في خبر أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن إبراهيم التيمي «إذا أراد ذو العرش أمرا سمعت الملائكة كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم فإذا قاموا قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال من شاء: الله الحق وهو العلي الكبير»
ولعله بعد هذا الجواب يذكر الأمر بخصوصه فيما بين الملائكة عليهم السلام، وظاهر ما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس من تفسير الملأ الأعلى بكتبة الملائكة عليهم السلام أيضا أن الاستراق من ملائكة في السماء إذ الظاهر أن الكتبة في السماء، ولعله يتلى عليهم من اللوح ما يتلى فيكتبونه لأمر ما فتطمع الشياطين باستراق شيء منه، وأمر البعد كأمر الهواء لا يضر في ذلك على الأصول الأشعرية، ويمكن أن يدعى أن جرم السماء لا يحجب الصوت وإن كثف، وكم خاصية أثبتها الفلاسفة للأفلاك ليس عدم الحجب أغرب منها. ومنها أنه يغني عن الحفظ من استراق الشياطين عدم تمكينهم من الصعود إلى حيث يسترق السمع، أو أمر الملائكة عليهم السلام بإخفاء كلامهم بحيث لا يسمعونه، أو جعل لغتهم مخالفة للغتهم بحيث لا يفهمون كلامهم.
وأجيب بأن وقوع الأمر على ما وقع من باب الابتلاء، وفيه أيضا من الحكم ما فيه، ولا يخفى أن مثل هذا الإشكال يجري في أشياء كثيرة إلا أن كون الصانع حكيما وأنه جل شأنه قد راعى الحكمة فيما خلق وأمر على أتم وجه حتى قيل: ليس في الإمكان أبدع مما كان يحل ذلك ولا يبقى معه سوى تطلب وجه الحكمة وهو مما يتفضل الله تعالى به على من يشاء من عباده، والكلام في هذا المقام قد مر شيء منه فارجع إليه، ومما هنا وما هناك يحصل ما يسر الناظرين ويرضي العلماء المحققين.
فَاسْتَفْتِهِمْ أي فاستخبرهم، وأصل الاستفتاء الاستخبار عن أمر حدث، ومنه الفتى لحداثة سنه، والضمير لمشركي مكة، قيل: والآية نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي وكني بذلك لشدة بطشه وقوته واسمه أسيد، والفاء فصيحة أي إذا كان لنا من المخلوقات ما سمعت أو إذا عرفت ما مر فاستخبر مشركي مكة واسألهم على سبيل التبكيت أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي أقوى خلقة وأمتن بنية أو أصعب خلقا وأشق إيجادا أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشياطين والشهب الثواقب. وتعريف الوصول عهدي أشير به إلى ما تقدم صراحة ودلالة وغلب العقلاء على غيرهم والاستفهام تقريري، وجوز أن يكون إنكاريا، وفي مصحف عبد الله «أم من عددنا» وهو مؤيد لدعوى العهد بل قاطع بها. وقرأ الأعمش «أمن» بتخفيف الميم دون أم جعله استفهاما ثانيا تقريريا فمن مبتدأ خبره محذوف أي أمن خلقنا أشد إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي ملتصق كما أخرج ذلك ابن جرير وجماعة عن ابن عباس، وفي رواية أرى بلفظ ملتزق وبه أجاب ابن الأزرق وأنشد له قول النابغة:
فلا تحسبون الخير لا شر بعده ولا تحسبون الشر ضربة لازب
قيل: والمراد ملتزق بعضه ببعض، وبذلك فسره ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم ويرجع إلى حسن العجن
73
جيد التخمير،
وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه يلزق باليد إذا مس بها
وقال الطبري: خلق آدم من تراب وماء وهواء ونار
وهذا كله إذا خلط صار طينا لازبا يلزم ما جاوره، واللازب عليه بمعنى اللازم وهو قريب مما تقدم، وقد قرىء «لازم» بالميم بدل الباء و «لاتب» بالتاء بدل الزاي والمعنى واحد. وحكي في البحر عن ابن عباس أنه عبر عن اللازب بالحر أي الكريم الجيد، وفي رواية أنه قال: اللازب الجيد.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنه قال: لازب أي لازم منتن، ولعل وصفه بمنتن مأخوذ من قوله تعالى مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: ٢٦، ٢٧، ٣٣] لكن أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: اللازب والحمأ والطين واحد كان أوله ترابا ثم صار حمأ منتنا ثم صار طينا لازبا فخلق الله تعالى منه آدم عليه السلام.
وأيا ما كان فخلقهم من طين لازب إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة أو احتجاج عليهم في أمر البعث بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه في ضمن خلق أبيهم آدم عليه السلام تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا منه مرة ثانية حيث قالوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون: ٨٢، الصافات: ١٦، الواقعة: ٤٧] ويعضد هذا على ما في الكشاف ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث.
وقوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ خطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم وجوز أن يكون لكل من يقبله. وبَلْ للإضراب إما عن مقدر يشعر به فَاسْتَفْتِهِمْ إلخ أي هم لا يقرون ولا يجيبون بما هو لحق بل مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل أو عن الأمر بالاستفتاء أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء ولا يتعجبون من تلك الدلائل بل مثلك ممن يتعجب منها وَيَسْخَرُونَ أي وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات، وجوز أن يكون المعنى بل عجبت من إنكارهم البعث مع هذه الآيات وهم يسخرون من أمر البعث، واختير أن يكون المعنى بل عجبت من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإنكارهم البعث وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث، وزعم بعضهم أن المراد بمن خلقنا الأمم الماضية وليس بشيء إذ لم يسبق لهذه الأمم ذكر وإنما سبق الذكر للملائكة عليهم السلام وللسماوات والأرض وما سمعت مع أن حرف التعقيب مما يدل على خلافه، ومن قال كصاحب الفرائد عليه جمهور المفسرين سوى الإمام ووجهه بأنه لما احتج عليهم بما هم مقرون به من كونه رب السماوات والأرض ورب المشارق وألزمهم بذلك وقابلوه بالعناد قيل لهم: فانتظروا الإهلاك كمن قبلكم لأنكم لستم أشد خلقا منهم فوضع موضعه فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً وقوله تعالى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ تعليل لأنهم ليسوا أشد خلقا أو دليل لاستكبارهم المنتج للعناد. وأيده بدلالة الاضراب واستبعاد البعث بعده لدلالته على أنه غير متعلق بما قبل الإضراب فقد ذهب عليه أن اللفظ خفي الدلالة على ما ذكر من العناد واستحقاق الإهلاك كسالف الأمم وتعليل نفي الأشدية بما علل ليس بشيء لوضوح أن السابقين أشد في ذلك، وكم من ذلك في الكتاب العزيز، وأما الإضراب فعن الاستفتاء إلى أن مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل ولذا عطف عليه وَيَسْخَرُونَ وجعل ما أنكروه من البعث من بعض مساخرهم قاله صاحب الكشف فلا تغفل. وقرأ حمزة والكسائي وابن سعدان وابن مقسم «عجبت» بتاء المتكلم ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود والنخعي وابن وثاب وطلحة وشقيق والأعمش.
وأنكر شريح القاضي هذه القراءة وقال: إن الله تعالى لا يعجب من شيء وإنما يعجب من لا يعلم، وإنكار هذا القاضي مما أفتي بعدم قبوله لأنه في مقابل بينة متواترة، وقد جاء أيضا في الخبر عجب ربكم من إلكم وقنوطكم.
وأولت القراءة بأن ذلك من باب الفرض أي لو كان العجب مما يجوز عليّ لعجبت من هذه الحال أو التخييل فيجعل تعالى كأنه لإنكاره لحالهم يعدها أمرا غريبا ثم يثبت له سبحانه العجب منها، فعلى الأول تكون الاستعارة
74
تخييلية تمثيلية كما في قولهم: قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني، وعلى الثاني تكون مكنية وتخييلية كما في نحو لسان الحال ناطق بكذا والمشهور في أمثاله الحمل على اللازم فيكون مجازا مرسلا فيحمل العجب على الاستعظام وهو رؤية الشيء عظيما أي بالغا في الحسن أو القبح، والمراد هنا رؤية ما هم عليه بالغا الغاية في القبح، وليس استعظام الشيء مسبوقا بانفعال يحصل في الروع عن مشاهدة أمر غريب كما توهم ليقال: إن التأويل المذكور لا يحسم مادة الاشكال.
وقال أبو حيان: يؤول على أن صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه فالمعنى بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن بها من شرعي وهداي متعجبا، وقال مكي وعلي بن سليمان: ضمير عَجِبْتَ للنبي عليه الصلاة والسلام والكلام بتقدير القول أي قل بل عجبت، وعندي لو قدر القول بعد بل كان أحسن أي بل قل عجبت، والذي يقتضيه كلام السلف إن العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل بالسبب ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب وهو في الله تعالى بمعنى يليق لذاته عز وجل هو سبحانه أعلم به فلا يعينون المراد والخلف يعينون.
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به أو أنهم إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم، واستفادة الاستمرار من مقام الذم، ولعل في إذا والعطف على الماضي ما يؤيده، وقرأ ابن حبيش «ذكروا» بتخفيف الكاف وَإِذا رَأَوْا آيَةً أي معجزة تدل على صدق من يعظهم ويدعوهم إلى ترك ما هم فيه إلى ما هو خير أو معجزة تدل على صدق القائل بالحشر يَسْتَسْخِرُونَ أي يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر أو يطلب بعضهم من بعض أن يسخر منها،
روي أن ركانة رجلا من المشركين من أهل مكة لقيه الرسول صلّى الله عليه وسلم في جبل خال يرعى غنما له وكان من أقوى الناس فقال له: يا ركانة أرأيت إن صرعتك أتؤمن بي؟
قال: نعم فصرعه ثلاثا ثم عرض له بعض الآيات دعا عليه الصلاة والسلام شجرة فأقبلت فلم يؤمن وجاء إلى مكة فقال:
يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت
فيه وفي أضرابه. وقرىء «يستسحرون» بالحاء المهملة أي يعدونها سحرا.
75
وَقالُوا إِنْ هذا ما يرونه من الآيات الباهرة إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته في نفسه. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أي كان بعض أجزائنا ترابا وبعضها عظاما، وتقديم التراب لأنه منقلب عن الأجزاء البادية، وإذا إما شرطية وجوابها محذوف دل عليه قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي نبعث وفي عاملها الكلام المشهور، وإما متمحضة للظرفية فلا جواب لها ومتعلقها محذوف يدل عليه ذلك أيضا لا هو لأن ما بعد إن واللام لا يعمل فيما قبله أي أنبعث إذا متنا، وإن شئت فقدره مؤخرا فتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية له غاية المنافاة، وكذا تكرير الهمزة للمبالغة والتشديد في ذلك وكذا تحلية الجملة بأن، واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة. وقرأ ابن عامر بطرح الهمزة الأولى. وقرأ نافع والكسائي ويعقوب بطرح الثانية أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر أن عليه أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون أيضا والجملة معطوفة على الجملة قبلها. وهذا أحد مذاهب في نحو هذا التركيب. وظاهر كلام أبي حيان في شرح التسهيل أن حذف الخبر واجب فقد قال: قال من نحا إلى هذا المذهب: الأصل في هذه المسألة عطف الجمل إلا أنهم لما حذفوا الخبر لدلالة ما قبل عليه أنابوا حرف العطف مكانه ولم يقدروا إذ ذاك الخبر المحذوف في اللفظ لئلا يكون جمعا بين العوض والمعوض عنه فأشبه عطف المفردات من جهة أن حرف العطف ليس بعده في اللفظ إلا مفرد. وثاني المذاهب أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في خبر إن إن كان مما يتحمل الضمير وكان الضمير مؤكدا أو كان بينه وبين المعطوف فاصل ما وإلا ضعف العطف. ونسب ابن هشام هذا المذهب والذي قبله إلى المحققين من البصريين. وفي تأتيه هنا من غير ضعف للفصل بالهمزة بحث فقد قال أبو حيان: إن همزة الاستفهام لا تدخل على المعطوف إلا إذا كان جملة لئلا يلزم عمل ما قبل الهمزة فيما بعدها وهو غير جائز لصدارتها. والجواب بأن الهمزة هنا مؤكدة للاستبعاد فهي في النية مقدمة داخلة على الجملة في الحقيقة لكن فصل بينهما بما فصل قد بحث فيه بأن الحرف لا يكرر للتوكيد بدون مدخوله والمذكور في النحو أن الاستفهام له الصدر من غير فرق بين مؤكد ومؤسس مع أن كون الهمزة في نية التقديم يضعف أمر الاعتداد بالفصل بها لا سيما وهي حرف واحد فلا يقاس الفصل بها على الفصل بلا في قوله تعالى: ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام: ١٤٨].
وثالثها أن يكون عطفا على محل إن مع ما عملت فيه، والظاهر أنه حينئذ من عطف الجمل في الحقيقة، ورابعها أن يكون عطفا على محل اسم إن لأنه كان قبل دخولها في موضع رفع، والظاهر أنه حينئذ من عطف المفردات.
76
واعترض بأن الرفع كان بالابتداء وهو عامل معنوي، وقد بطل بالعامل اللفظي. وأجيب بأن وجوده كلا وجود لشبهه بالزائد من حيث إنه لا يغير معنى الجملة وإنما يفيد التأكيد فقط. واعترض أيضا بأن الخبر المذكور كمبعوثون في الآية يكون حينئذ خبرا عنهما وخبر المبتدأ رافعه الابتداء أو المبتدأ أو هما وخبر إن رافعه إن فيتوارد عاملان على معمول واحد: وأجيب بأن العوامل النحوية ليست مؤثرات حقيقية بل هي بمنزلة العلامات فلا يضر تواردها على معمول واحد وهو كما ترى، وتمام الكلام في محله، وعلى كل حال الأولى ما تقدم من كونه مبتدأ حذف خبره وقد قال أبو حيان: إن أرباب الأقوال الثلاثة الأخيرة متفقون على جواز القول الأول وهو يؤيد القول بأولويته، وأيا ما كان فمراد الكفرة زيادة استبعاد بعث آبائهم بناء على أنهم أقدم فبعثهم أبعد على عقولهم القاصرة. وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن عامر ونافع في رواية. وقالوا «أو» بالسكون على أنها حرف عطف وفيه الاحتمالات الأربعة إلا أن العطف على الضمير على هذه القراءة ضعيف لعدم الفصل بشيء أصلا قُلْ نَعَمْ أي تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون والخطاب في قوله سبحانه:
وَأَنْتُمْ داخِرُونَ لهم ولآبائهم بطريق التغليب، والجملة في موضع الحال من فاعل ما دل عليه نَعَمْ أي تبعثون كلكم والحال إنك صاغرون أذلاء، وهذه الحال زيادة في الجواب نظير ما وقع في جوابه عليه الصلاة والسلام لأبي ابن خلف حين جاء بعظم قد رم وجعل يفته بيده ويقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم
فقال صلّى الله عليه وسلم له على ما في بعض الروايات «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم»
وقال غير واحد: إن ذلك من الأسلوب الحكيم. وتعقب بأن عد الزيادة منه لا توافق ما قرر في المعاني وإن كان ذلك اصطلاحا جديدا فلا مشاحة في الاصطلاح واكتفى في الجواب عن إنكارهم البعث على هذا المقدار ولم يقم دليل عليه اكتفاء بسبق ما يدل على جوازه في قوله سبحانه فَاسْتَفْتِهِمْ إلخ مع أن المخبر قد علم صدقه بمعجزاته الواقعة في الخارج التي دل عليها قوله سبحانه وَإِذا رَأَوْا آيَةً الآية. وهزؤهم وتسميتهم لها سحرا لا يضر طالب الحق، والقول بأن ذلك للاكتفاء بقيام الحجة عليهم في القيامة ليس بشيء. وقرأ ابن وثاب والكسائي «نعم» بكسر العين وهي لغة فيه. وقرىء «قال» أي الله تعالى أو رسوله صلّى الله عليه وسلم فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ الضمير راجع إلى البعثة المفهومة مما قبل، وقيل للبعث والتأنيث باعتبار الخبر.
والزجرة الصيحة من زجر الراعي غنمه صاح عليها. والمراد بها النفخة الثانية في الصور ولما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا. والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أو تعليلية لنهي مقدر أي إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة واحدة أو لا تستصعبوها فإنما هي زجرة. وجوز الزجاج أن تكون للتفسير والتفصيل وما بعدها مفسر للبعث وتعقب بأن تفسير البعث الذي في كلامهم لا وجه له والذي في الجواب غير مصرح به. وتفسير ما كني عنه بنعم مما لم يعهد.
والظاهر أنه تفسير لما كني عنه بنعم وهو بمنزلة المذكور لا سيما وقد ذكر ما يقوى إحضاره من الجملة الحالية. وعدم عهد التفسير في مثل ذلك مما لا جزم لي به.
وأبو حيان نازع في تقدير الشرط فقال: لا ضرورة تدعو إليه ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي وما ذكر معهما على قول بعضهم إما ابتداء فلا يجوز حذفه والجمهور على خلاف والحق معهم، وهذه الجملة إما من تتمة المقول وإما ابتداء كلام من قبله عز وجل.
فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون كما كانوا في الدنيا أو ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به وَقالُوا أي المبعوثون، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع يا وَيْلَنا أي يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك هذا يَوْمُ الدِّينِ استئناف منهم لتعليل دعائهم الويل.
والدين بمعنى الجزاء كما في كما تدين تدان أي هذا اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا، وإنما علموا ذلك لأنهم
77
كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجزون بأعمالهم فلما شاهدوا البعث أيقنوا بما بعده أيضا، وقوله تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ والتقريع، وقيل: هو من كلام بعضهم لبعض أيضا، ووقف أبو حاتم على يا وَيْلَنا وجعل ما بعده كلام الله تعالى أو كلام الملائكة عليهم السلام لهم كأنهم أجابوهم بأنه لا تنفع الولولة والتلهف، والفصل القضاء أو الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل عن الآخر بدون قضاء احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا خطاب من الله تعالى للملائكة أو من الملائكة بعضهم لبعض.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقول الملائكة للزبانية: احشروا إلخ، وهو أمر بحشر الظالمين من أماكنهم المختلفة إلى موقف الحساب وقيل من الموقف إلى الجحيم، والسباق والسياق يؤيدان الأول وَأَزْواجَهُمْ أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده والحاكم وصححه وجماعة من طريق النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: أزواجهم أمثالهم الذين هم مثلهم يحشر أصحاب الربا مع أصحاب الربا وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر. وأخرج جماعة عن ابن عباس في لفظ أشباههم وفي آخر نظراءهم. وروي تفسير الأزواج بذلك أيضا عن ابن جبير ومجاهد وعكرمة وأصل الزوج المقارن كزوجي النعل فأطلق على لازمه وهو المماثل. وجاء في رواية عن ابن عباس أنه قال: أي نساءهم الكافرات ورجحه الرماني. وقيل قرناءهم من الشياطين وروي هذا عن الضحاك والواو للعطف وجوز أن تكون للمعية. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي «وأزواجهم» بالرفع عطفا على ضمير ظَلَمُوا على ما في البحر أي وظلم أزواجهم.
وأنت تعلم ضعف العطف على الضمير المرفوع في مثله، والقراءة شاذة وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام ونحوها، وحشرهم معهم لزيادة التحسير والتخجيل، وما قيل عام في كل معبود حتى الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام لكن خص منه البعض بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: ١٠١] الآية.
وقيل ما كناية عن الأصنام والأوثان فهي لما لا يعقل فقط لأن الكلام في المشركين عبدة ذلك، وقيل ما على عمومها والأصنام ونحوها غير داخلة لأن جميع المشركين إنما عبدوا الشياطين التي حملتهم على عبادتها، ولا يناسب هذا تفسير أَزْواجَهُمْ بقرنائهم من الشياطين، ومع هذا التخصيص أقرب، وفي هذا العطف دلالة على أن الذين ظلموا المشركون وهم الأحقاء بهذا الوصف فإن الشرك لظلم عظيم فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ فعرفوهم طريقها وأروهم إياه، والمراد بالجحيم النار ويطلق على طبقة من طبقاتها وهو من الجحمة شدة تأجج النار، والتعبير بالصراط والهداية للتهكم بهم وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم في الموقف إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن عقائدهم وأعمالهم،
وفي الحديث «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله مما كسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به»
وعن ابن مسعود يسألون عن لا إله إلا الله، وعنه أيضا يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم.
وروى بعض الإمامية عن ابن جبير عن ابن عباس يسألون عن ولاية علي كرم الله تعالى وجهه
، ورووه أيضا عن أبي سعيد الخدري وأولى هذه الأقوال أن السؤال عن العقائد والأعمال، ورأس ذلك لا إله إلا الله، ومن أجله ولاية علي كرم الله تعالى وجهه وكذا ولاية إخوانه الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وظاهر الآية أن الحبس للسؤال بعد هدايتهم إلى صراط الجحيم بمعنى تعريفهم إياه ودلالتهم عليه لا بمعنى ادخالهم فيه وإيصالهم إليه، وجوز أن يكون صراط الجحيم طريقهم له من قبورهم إلى مقرهم وهو ممتد فيجوز كون الوقف في بعض منه مؤخرا عن بعض، وفيه من البعد ما فيه، وقيل: إن الوقف للسؤال قبل الأمر المذكور والواو لا تقتضي الترتيب، وقيل الوقف بعد الأمر عند مجيئهم النار والسؤال عما ينطق به قوله تعالى ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي
78
لا ينصر بعضكم بعضا، والخطاب لهم وآلهتهم أو لهم فقط أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تزعمون في الدنيا، فقد روي أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر، وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجيز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة وحالة انقطاع الرجاء والتقريع والتوبيخ حينئذ أشد وقعا وتأثيرا، وقيل: السؤال عن هذا في موقف المحاسبة بعد استيفاء حسابهم والأمر بهدايتهم إلى الجحيم كأن الملائكة عليهم السلام لما أمروا بهدايتهم إلى النار وتوجيههم إليها سارعوا إلى ما أمروا به فقيل لهم قفوهم أنهم مسؤولون، والذي يترجح عندي أن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم إنما هو بعد إقامة الحجة عليهم وقطع أعذارهم وذلك بعد محاسبتهم، وعطف (اهدوهم) على احْشُرُوا بالفاء إشارة إلى سرعة وقوع حسابهم، وسؤالهم ما لكم لا تناصرون الأليق أن يكون بعد تحقق ما يقتضي التناصر وليس ذلك إلا بعد الحساب والأمر بهم إلى النار فلعل الوقف لهذا السؤال في ابتداء توجههم إلى النار والله تعالى أعلم. وقرأ عيسى «أنهم» بفتح الهمزة بتقدير لأنهم، وقرأ البزي عن ابن كثير «لا تتناصرون» بتاءين بلا إدغام، وقرىء بإدغام إحداهما في الأخرى بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم، وأصل الاستسلام طلب السلامة والانقياد لازم لذلك عرفا فلذا استعمل فيه أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضا للهلاك ويخذله، وجوز في الاضراب أن يكون عن مضمون ما قبله أي لا ينازعون في الوقوف وغيره بل ينقادون أو يخذلون أو عن قوله سبحانه لا تَناصَرُونَ أي لا يقدر بعضهم على نصر بعض بل هم منقادون للعذاب أو مخذولون وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ هم الأتباع والرؤساء المضلون أو الكفرة من الإنس وقرناؤهم من الجن، وروي هذا عن مجاهد وقتادة وابن زيد يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع بطريق الخصومة والجدال قالُوا استئناف بياني كأنه قيل: كيف يتساءلون؟ فقيل: قالوا أي الأتباع للرؤساء أو الكفرة مطلقا للقرناء إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا في الدنيا عَنِ الْيَمِينِ أي من جهة الخير وناحيته فتنهونا عنه وتصدونا قاله قتادة، ولشرف اليمين جاهلية وإسلاما دنيا وأخرى استعيرت لجهة الخير استعارة تصريحية تحقيقية، وجعلت اليمين مجازا عن جهة الخير مع أنه مجاز في نفسه فيكون ذلك مجازا على المجاز لأن جهة الخير لشهرة استعماله التحق بالحقيقة فيجوز فيه المجاز على المجاز كما قالوا في المسافة فإنها موضع الشم في الأصل لأنه من ساف التراب إذا شمه فإن الدليل إذا اشتبه عليه الطريق أخذ ترابا فشمه ليعرف أنه مسلوك أولا ثم جعل عبارة عن البعد بين المكانين ثم استعير لفرق ما بين الكلامين ولا بعد هناك، واستظهر بعضهم حمل الكلام على الاستعارة التمثيلية واعتبار التجوز في مجموع تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ لمعنى تمنعوننا وتصدوننا عن الخير فيسلم الكلام من دعوى المجاز على المجاز وكأن المراد بالخير الإيمان بما يجب الإيمان به، وجوز أن يكون المراد به الخير الذي يزعمه المضلون خيرا وأن المعنى تأتوننا من جهة الخير وتزعمون ما أنتم عليه خيرا ودين حق فتخدعوننا وتضلوننا وحكي هذا عن الزجاج.
وقال الجبائي: المعنى كنتم تأتوننا من جهة النصيحة واليمن والبركة فترغبوننا بما أنتم عليه فتضلوننا وهو قريب مما قبله، وجوزوا أن تكون اليمين مجازا مرسلا عن القوة والقهر فإنها موصوفة بالقوة وبها يقع البطش فكأنه أطلق المحل على الحال أو السبب على المسبب، ويمكن أن يكون ذلك بطريق الاستعارة وتشبيه القوة بالجانب الأيمن في التقدم ونحوه، والمعنى إنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه وإليه ذهب الفراء، وأن يكون اليمين حقيقة بمعنى القسم ومعنى إتيانهم عنه أنهم يأتونهم مقسمين لهم على حقية ما هم عليه من الباطل، والجار والمجرور في موضع الحال، وعن بمعنى الباء كما في قوله تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣] أو هو ظرف لغو، وفيه بعد، وأبعد منه أن يفسر اليمين بالشهوة والهوى لأن جهة اليمين
79
موضع الكبد، وهو مخالف لما حكي عن بعض من أن من أتاه الشيطان من جهة اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق ومن أتاه من جهة الشمال أتاه من قبل الشهوات ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل التكذيب بالقيامة والثواب والعقاب ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة قالُوا استئناف على طرز السابق أي قال الرؤساء أو قال القرناء في جوابهم بطريق الاضراب عما قالوه لهم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وهو إنكار لإضلالهم إياهم أي أنتم أضللتم أنفسكم بالكفر ولم تكونوا مؤمنين في حد ذاتكم لا أنّا نحن أضللناكم، وقولهم: وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي من قهر وتسلط نسلبكم به اختياركم بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ مجاوزين الحد في العصيان مختارين له مصرين عليه جواب آخر تسليمي على فرض اضلالهم بأنهم لم يجبروهم عليه وإنما دعوهم له فأجابوا باختيارهم لموافقة ما دعوا له هواهم، وقيل: الكل جواب واحد محصله إنكم اتصفتم بالكفر من غير جبر عليه، وقولهم: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ تفريع على صريح ما تقدم من عدم إيمان أولئك المخاصمين لهم وكونهم قوما طاغين في حد ذاتهم وعلى ما اقتضاه وأشعر به خصامهم من كفر هؤلاء المجيبين لأولئك الطاغين وغوايتهم في أنفسهم، وضمائر الجمع للفريقين فكأنهم قالوا: ولأجل أنا جميعا في حد ذاتنا لم نكن مؤمنين وكنا قوما طاغين لزمنا قول ربنا وخالقنا العالم بما نحن عليه وبما يقتضيه استعدادنا وثبت علينا وعيده سبحانه بأنا ذائقون لا محالة لعذابه عز وجل، ومرادهم أن منشأ الخصام في الحقيقة الذي هو العذاب أمر مقضي لا محيص عنه وأنه قد ترتب على كل منا بسبب أمر هو عليه في نفسه وقد اقتضاه استعداده وفعله باختياره فلا يلومن بعضنا بعضا ولكن ليلم كل منا نفسه، ونظموا أنفسهم معهم في ذلك للمبالغة في سد باب اللوم والخصام من أولئك القوم، والفاء في قولهم: فَأَغْوَيْناكُمْ أي فدعونا كم إلى الغي لتفريع الدعاء المذكور على حقية الوعيد عليهم لا لمجرد التعقيب كما قيل، وعلية ذلك للدعاء باعتبار أن وجوده الخارجي متعلقا بهم كان متفرعا عن ذلك في نفس الأمر لا باعتبار أن إصداره وإيقاعه منهم على المخاطبين كان بملاحظة ذلك كما تلاحظ العلل الغائية في الأفعال الاختيارية لأن الظاهر أو رؤساء الكفر لم يكونوا عالمين في الدنيا حقية الوعيد عليهم، نعم لا يبعد أن يكون القرناء من الشياطين عالمين بذلك من أبيهم، وكذا تسمية دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه إغواء أي دعاء إلى الغي بناء على أن الكلام المذكور من الرؤساء باعتبار نفس الأمر التي ظهرت لهم في يوم القيامة، ومثل هذا يقال في قولهم: إِنَّا كُنَّا غاوِينَ بناء على أنهم إنما علموا ذلك يوم التساؤل والخصام، والجملة مستأنفة لتعليل ما قبلها، وكأن ما أشعر به التفريع باعتبار تعلق الإغواء بالمخاطبين وهذا باعتبار صدور الإغواء نفسه منهم، وهو تصريح بما يستفاد من التفريع السابق.
ويجوز أن يكون إشارة إلى وجه ترتب إغوائهم إياهم على حقية الوعيد عليهم وهو حب أن يتصف أولئك المخاطبون بنحو ما اتصفوا به من الغي ويكونوا مثلهم فيه. وملخص كلامهم أنه ليس منافي حقكم على الحقيقة سوى حب أن تكونوا مثلنا وهو غير ضار لكم وإنما الضار سوء اختياركم وقبح استعدادكم فذلك الذي ترتب عليه حقية الوعيد عليكم وثبوت هذا العذاب لكم، وجوز أن يقال: إنهم نفوا عنهم الإيمان والاعتقاد الحق وأثبتوا لهم الطغيان ومجاوزة الحد في العصيان حيث لم يلتفتوا إلى ما يجب الاعتقاد الصحيح مع كثرته وظهوره ورتبوا على ذلك مع ما يقتضيه البحث حقية الوعيد وفرعوا على مجموع الأمرين أنهم دعوهم إلى الغي مرادا به الكفر لاعتقاد أمر فاسد لا مجرد عدم الإيمان أي عدم التصديق بما يجب التصديق به بدون اعتقاد أمر آخر يكفر باعتقاده، وأشاروا إلى وجه ترتب ذلك على ما ذكر وهو محبة أن يكونوا مثلهم فكأنهم قالوا: كنتم تاركين الاعتقاد الحق غير ملتفتين إليه مع ظهور أدلته
80
وكثرتها وكنا جميعا قد حق علينا الوعيد فدعوناكم إلى ما نحن عليه من الاعتقاد الفاسد حبا لأن تكونوا أسوة أنفسنا وهذا كقولهم رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [القصص: ٦٣] قال الراغب: هو إعلام منهم أنا قد فعلنا بهم غاية ما كان في وسع الإنسان أن يفعل بصديقه ما يريد بنفسه أي أفدناهم ما كان لنا وجعلناهم أسوة أنفسنا وعلى هذا فأغويناكم إنا كنا غاوين انتهى، وجوز على هذا التقدير أن يكون فَأَغْوَيْناكُمْ مفرعا على شرح حال المخاطبين من انتفاء كونهم مؤمنين وثبوت كونهم طاغين وعن الآيات معرضين، وقولهم فَحَقَّ عَلَيْنا إلخ اعتراض لتعجيل بيان أن ما الفريقان فيه أمر مقضي لا ينفع فيه القيل والقال والخصام والجدال، ويجوز على هذا أن يراد بضمير الجمع في فَحَقَّ عَلَيْنا إلخ الرؤساء أو القرناء لا ما يعمهم والمخاطبين وأشاروا بذلك إلى أن ما هم فيه يكفي عن اللوم ويومىء إلى زيادة عذابهم، ولا يخفى أن تجويز الاعتراض لا يخلو عن اعتراض، وتجويز كون الضمير في عَلَيْنا إلخ للرؤساء أو القرناء يجري على غير هذا الاحتمال فتدبر.
وأيا ما كان فقولهم إِنَّا لَذائِقُونَ هو قول ربهم عز وجل ووعيده سبحانه إياهم، ولو حكي كما قيل لقيل إنكم لذائقون ولكنه عدل إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك من أنفسهم. ونحوه قول القائل:
لقد زعمت هوازن قل مالي وهل لي غير ما أنفقت مال
ولو حكى قولها لقال قل مالك ومنه قول المحلف للحالف احلف لأخرجن ولتخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف والتاء لإقبال المحلف على المحلف. وقال بعض الأجلة: قول الرب عز وجل هو قوله سبحانه وتعالى:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٥] والربط على ما تقدم أظهر فَإِنَّهُمْ أي الفريقين المتسائلين، والكلام تفريع على ما شرح من حالهم يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يتساءلون والمراد به يوم القيامة فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين في الغواية. واستظهر أن المغوين أشد عذابا وذلك في مقابلة أوزارهم وأوزار مثل أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل البديع الذي تقتضيه الحكمة التشريعية نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي بالمشركين لقوله سبحانه وتعالى: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ بطريق الدعوة والتلقين لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ عن القبول.
وفي إعراب هذه الكلمة الطيبة أقوال: الأول أن يكون الاسم الجليل مرفوعا على البدلية من اسم لا باعتبار المحل الأصلي وهو الرفع على الابتداء بدل بعض من كل وإلا مغنية عن الربط بالضمير. وإذا قلنا إن البدل في الاستثناء قسم على حدة مغاير لغيره من الإبدال اندفع عن هذا الوجه كثير من القيل والقال وهو الجاري على ألسنة المعربين والخبر عليه عند الأكثرين مقدر والمشهور تقديره موجود، والكلمة الطيبة في مقابلة المشركين وهم إنما يزعمون وجود آلهة متعددة ولا يقولون بمجرد الإمكان على أن نفي الوجود في هذا المقام يستلزم نفي الإمكان وكذا نفي الإمكان عمن عداه عز وجل يستلزم ثبوت الوجود بالفعل له تعالى.
وجوز تقديره مستحق للعبادة ونفي استحقاقها يستلزم نفي التعدد لكن لا يتم هذا التقدير على تفسير الإله بالمستحق بالعبادة كما لا يخفى.
واختار البازلي تقدير الخبر مؤخرا عن إلا الله بناء على أن تقديره مقدما يوهم كون الاسم مستثنى مفرغا من ضمير الخبر وهو لا يجوز عند المحققين وأجازه بعض وهو القول الثاني، والثالث ونسب إلى الكوفيين أن إلا عاطفة والاسم الجليل معطوف على الإله باعتبار المحل وهي عندهم بمنزلة لا العاطفة في أن ما بعدها يخالف ما قبلها إلا أن لا لنفي الإيجاب وإلا لإيجاب النفي، والرابع أن الاسم الكريم هو الخبر ولا عمل لها فيه على رأي سيبويه من أن الخبر
81
مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها فلا يلزم عملها في المعارف على رأيه وهو لازم على رأي غيره، وضعف هذا القول به وكذا بلزوم كون الخاص خبرا عن العام.
وكون الكلام مسوقا لنفي العموم والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام لا يجدي نفعا ضرورة أن لا هذه عند الجمهور من نواسخ المبتدأ والخبر، والخامس أن إلا بمعنى غير وهي مع اسمه عز اسمه صفة لاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى في الوجود، ولا خلل فيه صناعة وإنما التخلل فيه كما قيل معنى لأن المقصود نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وعلى الاستثناء يستفاد كل من المنطوق وعلى هذا لا يفيد المنطوق إلا نفي الألوهية من غيره تعالى دون إثباتها له عز وجل، واعتبار المفهوم غير مجمع عليه لا سيما مفهوم اللقب فإنه لم يقل به إلا الدقائق وبعض الحنابلة، والسادس ونسب إلى الزمخشري أن لا إله في موضع الخبر وإلا الله في موضع المبتدأ والأصل الله إله فلما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصور هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا قرن بإلا وجب تقديم الخبر عليه كما هو مقرر في موضعه، وفيه تمحل مع أنه يلزم عليه أن يكون الخبر مبنيا مع لا وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ وإنه لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد الأوجه وقد جوزه جماعة في هذا الترتيب وترك كلامهم لواحد إن التزمته لا تجد لك ثانيا فيه، والسابع أن الاسم المعظم مرفوع بإله كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا فإن إلها بمعنى مألوه من أله إذا عبد فيكون قائما مقام الفاعل وسادا مسد الخبر كما في ما مضروب العمران.
وتعقب بمنع أن يكون إله وصفا وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به. ثم إن هذه الكلمة الطيبة يندرج فيها معظم عقائد الإيمان لكن المقصود الأهم منها التوحيد ولذا كان المشركون إذا لقنوها أولا يستكبرون وينفرون وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون بذلك قاتلهم الله تعالى النبي صلّى الله عليه وسلم. وقد جمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. ووصفهم الشاعر بالمجنون قيل تخليط وهذيان لأن الشعر يقتضي عقلا تاما به تنظم المعاني الغريبة وتصاغ في قوالب الألفاظ البديعة. وفيه نظر وكم رأينا شعراء ناقصي العقول ومنهم من يزعم أنه لا يحسن شعره حتى يشرب المسكر فيسكر ثم يقول، نعم كل من الوصفين هذيان في حقه صلّى الله عليه وسلم بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ رد عليهم وتكذيب لهم ببيان أن ما جاء به عليه الصلاة والسلام من التوحيد هو الحق الثابت الذي قام عليه البرهان وأجمع عليه كافة المرسلين فأين الشعر والجنون من ساحته صلّى الله عليه وسلم الرفيعة الشأن.
وقرأ عبد الله «وصدق» بتخفيف الدال «المرسلون» بالواو رفعا أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم إِنَّكُمْ بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والاستكبار لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ والالتفات لإظهار كمال الغضب عليهم بمشافهتهم بهذا الوعيد وعدم الاكتراث بهم وهو اللائق بالمستكبرين. وقرأ أبو السمال وأبان رواية عن عاصم لَذائِقُوا الْعَذابِ بالنصب على أن حذف النون للتخفيف كما حذف التنوين لذلك في قول أبي الأسود:
فألفيته غير مستعتب... ولا ذاكر الله إلا قليلا
بجرّ ذاكر بلا تنوين ونصب الاسم الجليل. وهذا الحذف قليل في غير ما كان صلة لأل. أما فيما كان صلة لها فكثير الورود لاستطالة الصلة الداعية للتخفيف نحو قوله:
الحافظو عورة العشيرة لا... يأتيهم من ورائهم نطف
ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ «لذائق» بالإفراد والتنوين «العذاب» بالنصب، وخرج الإفراد على أن
82
التقدير لجمع ذائق، وقيل: على تقدير إن جمعكم لذائق. وقرىء «لذائقون» بالنون «العذاب» بالنصب على الأصل وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه من السيئات أو إلا بما كنتم تعملونه منها إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع من ضمير ذائقوا وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى تحقيق الحق ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلا فإلا مؤولة بلكن وما بعد كخبرها فيصير التقدير لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق وفواكه إلخ.
ويجوز أن يكون المعنى لكن عباد الله المخلصين ليسوا كذلك، وقيل استثناء منقطع من ضمير تُجْزَوْنَ على أن المعنى تجزون بمثل ما عملتم لكن عباد الله المخلصين يجزون أضعافا مضاعفة بالنسبة إلى ما عملوا. ولا يخفى بعده، وأبعد منه جعل الاستثناء من ذلك متصلا بتعميم الخطاب في «تجزون» لجميع المكلفين لما فيه مع احتياجه إلى التكلف الذي في سابقه من تفكيك الضمائر، والْمُخْلَصِينَ صفة مدح حيث كانت الإضافة للتشريف أُولئِكَ أي العباد المذكورون، وفيه إشارة إلى أنهم ممتازون بما اتصفوا به من الإخلاص في عبادته تعالى عمن عداهم امتيازا بالغا، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل.
وهو مبتدأ وقوله تعالى: لَهُمْ أما خبر له وقوله سبحانه: رِزْقٌ مرتفع على الفاعلية للظرف وإما خبر مقدم ورِزْقٌ مبتدأ مؤخر والجملة خبر المبتدأ والمجموع كالخبر للمستثنى المنقطع على ما أشرنا إليه أو استئناف لما أفاده الاستثناء إجمالا بيانا تفصيليا وقوله تعالى: مَعْلُومٌ أي معلوم الخصائص ككونه غير مقطوع ولا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة إلى غير ذلك من الصفات المرغوبة، فلا يقال: إن الرزق لا يكون معلوما إلا إذا كان مقدرا بمقدار وقد جاء في آية أخرى يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [غافر: ٤٠] وما لا يدخل تحت الحساب لا يحد ولا يقدر فلا يكون معلوما، وقيل المراد معلوم الوقت لقوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: ٦٢] وعن قتادة الرزق المعلوم الجنة، وتعقب بأنه فِي جَنَّاتِ بعد يأباه. واعترض بأنه إذا كان المعنى وهم مكرمون فيها لم يكن به بأس. أجيب بأن جعلها مقر المرزوقين لا يلائم جعلها رزقا وأما إذا كان قيدا للرزق فهو ظاهر الإباء، وكون المساكن رزقا للساكن فإذا اختلف العنوان لم يكن به بأس لا يدفع ما قرر كما لا يخفى على المنصف، وقوله تعالى:
فَواكِهُ بدل من رِزْقٌ بدل كل من كل، وفيه تنبيه على أنه مع تميزه بخواصه كله فواكه أو خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة أي ذلك الرزق فواكه والمراد بها ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات وجميع ما يأكله أهل الجنة كذلك حتى اللحم لكونهم مستغنين عن القوت لإحكام خلقتهم وعدم تحلل شيء من أبدانهم بالحرارة الغريزية ليحتاجوا إلى بدل يحصل من القوت، فالمراد بالفاكهة هنا غير ما أريد بها في قوله تعالى وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة: ٢٠، ٢١] وهي هناك بالمعنى المعروف فلا منافاة. وجوز أن يكون عطف بيان للرزق المعلوم فوجه الاختصاص ما علم به من بين الأرزاق أنه فواكه، وقيل هو بدل بعض من كل، وتخصيصها بالذكر لأنها من أتباع سائر الأطعمة فتدل على تحقق غيرها وَهُمْ مُكْرَمُونَ عند الله تعالى لا يلحقهم هوان وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولي الهمم، ولعل هذا إشارة إلى النعيم الروحاني بعد النعيم الجسماني الذي هو بواسطة الأكل.
وقيل مكرمون في نيل الرزق حيث يصل إليهم من غير كسب وكد وسؤال كما هو شأن أرزاق الدنيا.
وقرىء «مكرّمون» بالتشديد فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي في جنات ليس فيها إلا النعيم على أن الإضافة على معنى لام الاختصاص المفيدة للحصر. والظرف متعلق بمكرمون أو بمعلوم أو بمحذوف حال من المستكن في
83
مُكْرَمُونَ أو خبر ثان لأولئك أو لَهُمْ وقوله تعالى: عَلى سُرُرٍ يحتمل أن يكون حالا من المستكن في مُكْرَمُونَ أو في الظرف قبله وأن يكون خبرا فيكون قوله سبحانه مُتَقابِلِينَ حالا من المستكن فيه أو في مُكْرَمُونَ أو في الظرف أعني فِي جَنَّاتِ وأن يتعلق بمتقابلين فيكون حالا من المستكن في غيره.
وأشير بتقابلهم إلى استئناس بعضهم ببعض فبعضهم يقابل بعضا للاستئناس والمحادثة. وفي بعض الأحاديث أنه ترفع عنهم الستور أحيانا فينظر بعضهم إلى بعض، وقرأ أبو السمال «سرر» بفتح الراء وهي لغة بعض تميم وكلب يفتحون ما كان جمعا على فعل من المضعف إذا كان اسما، واختلف النحويون في الصفة فمنهم من قاسها على الاسم ففتح فيقول ذلل بفتح اللام على تلك اللغة. ومنهم من خص ذلك بالاسم وهو مورد السماع. وقوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ إما استئناف لبيان ما يكون لهم في مجالس أنسهم أو حال من الضمير في مُتَقابِلِينَ أو في أحد الجارين:
وجوز كونه صفة لمكرمون. وفاعل الطواف على ما قيل من مات من أولاد المشركين قبل التكليف. ففي الصحيح أنهم خدم أهل الجنة. وقد صرح به في موضع آخر وهو قوله تعالى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة: ١٧] وقوله سبحانه يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ [الطور: ٢٤] بِكَأْسٍ أي بخمر كما روي عن ابن عباس وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن الضحاك قال: كل كأس ذكره الله تعالى في القرآن إنما عنى به الخمر. ونقل ذلك أيضا عن الحبر والأخفش وهو مجاز مشهور بمنزلة الحقيقة. وعليه قول الأعشى:
وكأس شربت على لذة... وأخرى تداويت منها بها
ويدل على أنه أراد بها الخمر إطلاقا للمحل على الحال قوله شربت وتقدير شربت ما فيها تكلف، والقرينة هاهنا ما يأتي بعد. وجوز تفسيره بمعناه الحقيقي وهو إناء فيه خمر، وأكثر اللغويين على أن إناء الخمر لا يسمى كأسا حقيقة إلا وفيه خمر فإن خلا منه فهو قدح، والخمر ليس بمتعين، قال في البحر: الكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كأسا إلا وفيه ذلك، وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا يقال كأس خال ويقال شربت كأسا وكأس طيبة، ولعل كلامه أظهر في أن تسمية الخالي كأسا مجاز، وحكي عن بعضهم أنه قال: الكأس من الأواني كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض ولا يراعى كونه لخمر أو لغيره مِنْ مَعِينٍ في موضع الصفة لكأس أي كائنة من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون جار على وجه الأرض كما تجري الأنهار أو خارج من العيون والمنابع. وأصله معيون من عان الماء إذا ظهر أو نبع على أن ميمه زائدة أو هو من معن فهو فعيل على أن الميم أصلية.
ووصف به خمر الجنة تشبيها لها بالماء لكثرتها حتى تكون أنهارا جارية في الجنان. ويؤذن ذلك برقتها ولطافتها وأنها لم تدس بالأقدام كخمر الدنيا كما ينبىء عن دوسها بها قوله:
بنت كرم يتموها أمها... ثم هانوها بدوس بالقدم
ثم عادوا حكموها فيهم... ويلهم من جور مظلوم حكم
وقوله الآخر:
وشمولة من عهد عاد قد غدت... صرعى تداس بأرجل العصار
لانت لهم حتى انتشوا فتمكنت... منهم فصاحت فيهم بالثار
وهذا مبني على أنها خمر في الحقيقة، وجوز أن تكون ماء فيه لذة الخمر ونشأته فالوصف بذلك ظاهر، وتفيد
84
الآية وصف مائهم باللذة والنشأة، وما ذكر أولا هو الظاهر نعم قال غير واحد: لا اشتراك بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا بالأسماء فحقيقة خمر الجنة غير حقيقة خمر الدنيا وكذا سائر ما فيهما بَيْضاءَ وصف آخر للكأس يدل على أنها مؤنثة. وعن الحسن أن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. وأخرج ابن جرير عن السدي أن عبد الله قرأ «صفراء» وقد جاء وصف الخمر الدنيا بذلك كما في قول أبي نواس:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء
والمشهور أن هذا بعد المزج وإلا فهي قبله حمراء كما قال الشاعر:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده أتت في ثيابي نرجس وشقائق
حكت وجنة المحبوب صرفا فسلطوا عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وصفت بالمصدر للمبالغة بجعلها نفس اللذة، وجوز أن تكون لذة تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب بمعنى طبيب حاذق، وأنشدوا قوله:
ولذ كطعم الصرخدي تركته بأرض العدا من خشية الحدثان
يريد وعيش لذيذ كطعم الخمر المنسوب لصرخد بلد بالشام، وفسره الزمخشري بالنوم وأراد أنه بمعنى لذيذ غلب على النوم لا أنه اسم جامد، وقوله:
بحديثك اللذ الذي لو كلمك أسد الفلاة به أتين سراعا
وفي قوله تعالى لِلشَّارِبِينَ دون لهم إشارة إلى أنها يلتذ بها الشارب كائنا من كان لا فِيها غَوْلٌ أي غائلة كما في خمر الدنيا من غاله يغوله إذا أفسده، وقال الراغب: الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحس به يقال غاله يغوله غولا واغتاله اغتيالا، ومنه سمي السعلاة غولا، والمراد هنا نفي أن يكون فيها ضرر أصلا.
وروى البيهقي وجماعة عن ابن عباس أنه قال في ذلك ليس فيها صداع وفي رواية ابن أبي حاتم عنه لا تغول عقولهم من السكر، وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال: أخبرني عن قوله تعالى لا فِيها غَوْلٌ فقال: ليس فيها نتن ولا كراهية كخمر الدنيا قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول امرئ القيس:
رب كأس شربت لا غول فيها وسقيت النديم منها مزاجا
وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بوجع البطن، وروي ذلك عن مجاهد وابن زيد وابن جبير واختير التعميم وأن التنصيص على مخصوص من باب التمثيل، وتقديم الظرف على ما قيل للتخصيص، والمعنى ليس فيها ما في خمور الدنيا من الغول، وفيه كلام في كتب المعاني وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي لا يسكرون كما روي عن ابن عباس وغيره، وهو بيان لحاصل المعنى، وأصل النزف نزع الشيء وإذهابه بالتدريج يقال نزفت الماء من البئر إذا نزحته ونزعته كله منها شيئا بعد شيء، ونزف الهم دمعه نزعه كله، ويقال شارب نزيف أي نزفت الخمر عقله بالسكر وأذهبته كما ينزف الرجل البئر وينزع ماءها فكأن الشارب ظرف للعقل فنزع منه، فلا ينزفون مبنيا للمفعول كما قرأ الحرميان والعربيان معناه لا تنزع عقولهم أي لا تنزع الخمر عقولهم ولا تذهبها أو الفاعل هو الله تعالى وتعدية الفعل بعن قيل لتضمينه معنى يصدرون، وقيل عن للتعليل والسببية، وأفرد هذا الفساد بالنفي وعطف على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه، وله سميت الخمر أم الخبائث، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار. وقرأ حمزة والكسائي
85
«ينزفون» بضم الياء وكسر الزاي وتابعهما عاصم في الواقعة على أنه من أنزف الشارب إذا صار ذا نزف أي عقل أو شراب نافد ذاهب فالهمزة فيه للصيرورة، وقيل للدخول في الشيء ولذا صار لازما فهو مثل كبه فأكب، وهو أيضا بمعنى السكر لنفاد عقل السكران أو نفاد شرابه لكثرة شربه فيلزمه عليهما السكر ثم صار حقيقة فيه، قال الأبيرد اليربوعي:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
وفي البحر أن أنزف مشترك بين سكر ونفذ فيقال أنزف الرجل إذا سكر وأنزف إذا نفد شرابه، وتعدية الفعل للتضمين كما سبق، وجوز إرادة معنى النفاد من غير إرادة معنى السكر أي لا ينفد ولا يفنى شرابهم حتى ينغص عيشهم وليس بذاك. وقرأ ابن أبي إسحاق «ينزفون» بفتح الياء وكسر الزاي، وطلحة بفتح الياء وضم الزاي، والمراد في جميع ذلك نفي السكر على ما هو المأثور عن الجمهور. ومن الغريب ما أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال:
في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فنزه الله تعالى خمر الجنة عنها لا فيها غول لا تغول عقولهم من السكر ولا هم عنها ينزفون لا يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها، وهو أقرب لاستعمال النزف في الأمور الحسية كنزف البئر والركية وما أشبه القيء وإخراج الفضلات من الجوف بنزف البئر وإخراج مائها عند نزحها، ولولا أن الجمهور على ما سمعت أولا حتى ابن عباس في أكثر الروايات عنه لقلت: إن هذا التفسير هو الأولى وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد فمتعلق القصر محذوف للعلم به، والكلام إما على ظاهره أو كناية عن فرط محبتهن لأزواجهن وعدم ميلهن إلى سواهم، وقيل المراد لا يفتحن أعينهن دلالا وغنجا، والوصف على القولين متعد، وجوز كونه قاصرا على أن المعنى ذابلات الجفن مراضه، وما أحيل ذبول الأجفان في الغواني الحسان، ولذا كثر التغزل بذلك قديما وحديثا، ومنه قول ابن الأزدي:
مرضت سلوتي وصح غرامي من لحاظ هي المراض الصحاح
والطرف في كل ذلك طرفهن، وجوز أن يكون الوصف متعديا والطرف طرف غيرهن، والمعنى قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز إلى سواهن لغاية حسنهن فلا يتجاوزهن طرف الناظر إليهن كقول المتنبي:
وخصر تثبت الأبصار فيه كأن عليه من حدق نطاقا
وقد ذكر هذا المعنى أيضا ابن رشيق في قول امرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الأنف منها لأثرا
وهو لعمري رشيق بيد أني أقول: الظاهر هنا أن العندية في مجالس الشرب إتماما للذة فلعل الأوفق للغيرة وإن كانت الحظيرة حظيرة قدس المعنى الأول، والجمهور قد قصروا الطرف عليه ولا يظن بهم أنهم من القاصرين، والجملة قيل عطف على ما قبلها، وقيل: في موضع الحال أي يطاف عليهم بكأس والحال عندهم نساء قاصرات الطرف عِينٌ جمع عيناء وهي الواسعة العين في جمال، ومنه قيل للبقر الوحشي عين، وقيل: العيناء واسعة العين أي كثيرة محاسن عينها، والحق أن السعة اتساع الشق والتقييد بالجمال يدفع ما عسى أن يقال، وما ألطف وأظرف ذكر عين بعد قاصرات الطرف كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ البيض معروف وهو اسم جنس الواحدة بيضة ويجمع على بيوض كما في قوله:
86
والمراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الأيدي ولم يصبه الغبار في الصفاء وشوب البياض بقليل صفرة مع لمعان كما في الدر، والأكثرون على تخصيصه ببيض النعام في الأداحي لكونه أحسن منظرا من سائر البيض وأبعد عن مس الأيدي ووصول ما يغير لونه إليه، والعرب تشبه النساء بالبيض ويقولون لهن بيضات الخدور، ومنه قول امرئ القيس:
بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل
والبياض المشوب بقليل صفرة في النساء مرغوب فيه جدا قيل وكذا البياض المشوب بقليل حمرة في الرجال وأما البياض الصرف فغير محمود ولذا ورد في الحلية الشريفة أبيض ليس بالأمهق.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس وهو وغيره عن ابن جبير وابن أبي حاتم وابن حرير عن السدي أن البيض المكنون ما تحت القشر الصلب بينه وبين اللباب الأصفر والمراد تشبيههن بذلك بعد الطبخ في النعومة والطراوة فالبيضة إذا طبخت وقشرت ظهر ما تحت القشرة على أتم نعومة وأكمل طراوة، ومن هنا تسمع العامة يقولون في مدح المرأة: كأنها بيضة مقشرة، ورجح ذلك الطبري بأن الوصف بمكنون يقتضيه دون المشهور لأن خارج قشر البيضة ليس بمكنون، وفيه أن المتبادر من البيض مجموع القشر وما فيه وأكلت كذا بيضة الأكل فيه قرينة إرادة ما في القشر دون المجموع إذ لا يؤكل عادة وحينئذ لا يتم ما قاله الطبري فالأول هو المقبول، ومعنى المكنون فيه ظاهر على ما سمعت، وقد نقل الخفاجي هذا المعنى عن بعض المتأخرين وتعقبه بأنه ناشىء من عدم معرفة كلام العرب وكأنه لم يقف على روايته عن الحبر ومن معه وإلا لا يتسنى له ما قال، ولعل الرواية المذكورة غير ثابتة وكذا ما حكاه أبو حيان عن الحبر من أن البيض المكنون الجوهر المصون لنبو ظاهر اللفظ عن ذلك، وقالت فرقة: المراد تشبيههن بالبيض في تناسب الأجزاء والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء والتناسب ممدوح، ومن هنا قال بعض الأدباء متغزلا:
تناسب الأعضاء فيه فلا ترى بهن اختلافا بل أتين على قدر
وأنت تعلم بعد فرض تسليم أن تناسب الأجزاء في البيضة معروف بينهم أن الوصف بالمكنون مما لا يظهر له دخل في التشبيه، واستشكل التشبيه على ما تقدم بآية عروس القرآن كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: ٥٨] فإنها ظاهرة في أن في ألوانهن حمرة وأين هذا من التشبيه بالبيض المكنون على ما سمعت قبل فيتعين أن يراد التشبيه من حيث النعومة والطراوة كما روي ثانيا أو من حيث تناسب الأجزاء كما قيل أخيرا. وأجيب بأنه يجوز أن يكون المشبهات بالبيض المكنون غير المشبهات بالياقوت والمرجان، وكون البياض المشوب بالصفرة أحسن الألوان في النساء غير مسلم بل هو حسن ومثله في الحسن البياض المشوب بحمرة على أن الأحسنية تختلف باختلاف طباع الرائين، وللناس فيما يعشقون مذاهب. والجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
وقيل يجوز أن يكون تشبيههن بالبيض المكنون بالنظر إلى بياض أبدانهن المشوب بصفرة ما عدا وجوههن وتشبيههن بالياقوت والمرجان بالنظر إلى بياض وجوههن المشوب بحمرة، وقيل تشبيههن بهذا ليس من جهة أن بياضهن مشوب بحمرة بل تشبيههن بالياقوت من حيث الصفاء وبالمرجان من حيث الإملاس وجمال المنظر.
وإذا أريد بالمرجان الدرر الصغار كما ذهب إليه جمع دون الخرز الأحمر المعروف يجوز أن يكون التشبيه من حيث البياض المشوب بصفرة فلا إشكال أصلا فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ معطوف على يُطافُ وما بينهما معترض أو من متعلقات الأول أي يشربون فيتحادثون على الشرب كما هو عادة المجتمعين عليه قال محمد ابن فياض:
87
وما بقيت من اللذات إلا محادثة الكرام على الشراب
ولثمك وجنتي قمر منير يجول بوجهه ماء الشباب
وعبر بالماضي مع أن المعطوف عليه مضارع للإشعار بالاعتناء بهذا المعطوف بالنسبة إلى المعطوف عليه فكيف لا يقبلون على الحديث وهو أعظم لذاتهم التي يتعاطونها مع ما في ذلك من الإشارة إلى تحقق الوقوع حتما وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات عند رفاهية الحال وفراغ البال قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ في تضاعيف محاورتهم إِنِّي كانَ لِي في الدنيا قَرِينٌ مصاحب يَقُولُ لي على طريق التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث المفضي إلى ما أنا عليه اليوم إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي بالبعث كما ينبىء عنه قوله سبحانه أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي لمبعوثون ومجازون من الدين بمعنى الجزاء وقيل لمسوسون مربوبون من ذاته إذا ساسه ومنه
الحديث «العاقل من دان نفسه».
وقرىء «المصّدقين» بتشديد الصاد من التصدق واعترضت هذه القراءة بأن الكلام عليها لا يلائم قوله سبحانه أَإِذا مِتْنا إلخ، وتعقب بأن فيه غفلة عن سبب النزول، أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكان وكان لهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فعمد أكبرهما فاشترى بألف دينار أرضا فقال صاحبه: اللهم إن فلانا اشترى بألف دينار أرضا وإني أشتري منك بألف دينار أرضا في الجنة فتصدق بألف دينار ثم ابتنى صاحبه دار بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا قد ابتنى دار بألف دينار وإني أشتري منك في الجنة دارا بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال: اللهم إن فلانا تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار فقال: اللهم أن فلانا اشترى خدما ومتاعا بألف دينار وإني أشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم أصابته حاجة شديدة فقال لو أتيت صاحبي هذا لعله ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه وأهله فقام إليه فنظر الآخر فعرفه فقال:
فلان قال نعم فقال: ما شأنك؟ فقال: أصابتني بعدك حاجة فأتيتك لتصيبني بخير قال: فما فعلت بمالك؟ فقص عليه القصة فقال: أإنك لمن المصدقين بهذا اذهب فو الله لا أعطيك شيئا فرده فقضى لهما أن توفيا فكان مال المتصدق الجنة ومال الآخر النار وفيهما نزلت الآية، وقيل هما اخوان ورثا ثمانية آلاف دينار واقتسماها فكان من خبرهما ما كان، وكان الاثنان من بني إسرائيل وهذا السبب يدل على أن أحدهما كان مصدقا ومتصدقا أيضا والآخر وهو القرين أنكر عليه أنه أنفق ليجازي على إنفاقه بما هو أعظم وأبقى فقد ضيع بزعمه ماله فيما لا أصل له وهو الجزاء الأخروي ولا يكون هذا بدون البعث فلذا أنكره، وليت شعري كيف يتوهم عدم الملاءمة مع قوله تعالى أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ولعله أنسب بتلك القراءة، وحاصل المعنى أنت المتصدق طلبا للجزاء في الآخرة فهل نحن بعد ما نفنى نبعث ونجازى، وذكر العظام مع التراب مع أن ذكر التراب يكفي ويغني عن ذلك لتصوير حال ما يشاهده ذلك الشخص من الأجساد البالية من مصير اللحم وغيره ترابا عليه عظام نخرة ليذكره ويخطر بباله ما ينافي مدعاه، وكونه للتنزل في الإنكار أو للتأكيد لا يرجحه بل يجوزه قالَ أي ذلك القائل الذي كان قرين لجلسائه بعد ما حكي لهم مقالة قرينة له في الدنيا هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ على أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي ما حكيت لكم، والمراد من الاستفهام العرض أو الأمر على ما قيل، والغرض من ذلك إراءتهم سوء حال القرين ليؤنسهم نوع إيناس وقيل يريد بذلك بيان صدقه فيما حكاه، ولا يخفى أن ظن الكذب في غاية البعد واطلاع أهل الجنة على أهل النار ومعرفة من فيها مع ما بينهما من التباعد غير بعيد بأن يخلق الله تعالى فيهم حدة نظر ويعرفهم من أرادوا الاطلاع عليه، ولعلهم إذا أرادوا ذلك وقفوا على الأعراف
88
فاطلعوا على من أرادوا من أهل النار وقيل إن لهم طاقات في الجنة ينظرون منها من علو إلى أهل النار وعلم القائل بأن القرين من أهل النار لعلمه بأنه كان ينكر البعث ومنكره منهم قطعا والأصل بقاؤه على الكفر وقيل علم ذلك بأخبار الملائكة عليهم السلام إياه، وقيل قائل هَلْ أَنْتُمْ إلخ هو الله تعالى أو بعض الملائكة عليهم السلام يقول للمتحادثين من أهل الجنة هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم، وقيل القائل من كان له قرين والمخاطبون بأنتم الملائكة عليهم السلام وفي الكلام حذف كأنه قيل: فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة قرينك هذا يعذب في النار فقال للملائكة الذين أخبروه: هل أنتم مطلعون ولا يخفى ما فيه فَاطَّلَعَ أي على أهل النار فَرَآهُ أي فرأى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي في وسطها، ومنه قول عيسى بن عمر لأبي عبيدة كنت أكتب حتى ينقطع سوائي، وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب. وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي مُطَّلِعُونَ بإسكان الطاء وفتح النون «فأطلع» بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلا ماضيا مبنيا للمفعول، وهي قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج وقرىء «مطّلعون» مشددا «فاطلّع» مشددا أيضا مضارعا منصوبا على جواب الاستفهام.
وقرىء مطلعون بالتخفيف «فأطلع» مخففا فعلا ماضيا و «فأطلع» مخففا مضارعا منصوبا. وقرأ أبو البرهسم وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عنه «مطلعون» بتخفيف الطاء وكسر النون «فاطّلع» ماضيا مبنيا للمفعول ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم والوجه مطلعي كما قال عليه الصلاة والسلام «أو مخرجي هم» ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع فيقال عنده ضاربونه مثلا كما يقال يضربونه وعليه قوله:
هم الآمرون الخير والفاعلونه إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما
وأنشد الطبري قول الشاعر:
وما أدري وظني كل ظن أمسلمني إلى قومي شراحي (١)
ومثله قول الآخر:
فهل فتى من سراة الحي يحملني وليس حاملني إلا ابن حمال
وهذه النون عند جمع نون الوقاية ألحقت مع الوصف حملا له على الفعل وليست مثل النون في القراءة. وفي البيت وإن كان إلحاق كل للحمل. وقال بعضهم: إنها نون التنوين وحركت لالتقاء الساكنين، ورد بأنه سمع إلحاقها مع أل كقوله: وليس الموافيني ومع أفعل التفضيل كما وقع في الحديث غير الدجال أخوفني عليكم.
ويعلم من هذا عدم اختصاص إلحاقها بالشعر نعم هو في غيره قليل، وضعف بعضهم ما وجه به أبو الفتح وقال:
إن ذلك لا يقع إلا في الشعر وخرجت أيضا على أنها من وضع المتصل موضع المنفصل وأريد بذلك أن الأصل مطلعون إياي ثم جعل المنفصل متصلا فقيل مطلعوني ثم حذفت الياء واكتفى عنها بالكسرة كما في قوله تعالى فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [الحج: ٤٤، سبأ: ٤٥، فاطر: ٢٦، الملك: ١٨] ومثله يقال في الفاعلونه في البيت السابق، ورد ذلك أبو حيان بأن ما ذكر ليس من محال المنفصل حتى يدعي أن المتصل وقع موقعه وادعى أولوية تخريج أبي الفتح، والبيت قيل مصنوع لا يصح الاستشهاد به، وقيل: إن الهاء هاء السكت حركت للضرورة وهو فرار من ضرورة لأخرى إذ تحريكها وإثباتها في الوصل غير جائز، وللنحاة في مسألة إثبات النون مع إضافة الوصف إلى الضمير كلام
(١) قال الفراء يريد شراحيل اه منه. [.....]
89
طويل، حاصله أن نحو ضاربك وضارباك وضاربوك ذهب سيبويه إلى أن الضمير فيه في محل جر بالإضافة ولذا حذف التنوين ونون التثنية والجمع، وذهب الأخفش وهشام إلى أن الضمير في محل نصب وحذفها للتخفيف حتى وردتا ثابتين كما في الفاعلونه وأ مسلمني فالنون عندهما في الأخير ونحوه تنوين حرك لالتقاء الساكنين وقد سمعت ما فيه، وحديث الحمل على الفعل على العلات أحسن ما قيل في التوجيه، هذا وطلع وأطلع بالتشديد وأطلع بالتخفيف بمعنى واحد والكل لازم ويجيء الاطلاع متعديا يقال أطلعه على كذا فاطلع، و «مطلعون» في قراءة أبي عمرو بمعنى مطلعون بالتشديد ونائب فاعل أطلع ضمير القائل والفاعل هم المخاطبون واطلاعهم إياه باعتبار التسبب كأنه لما أراد الاطلاع وأحب أن لا يستبد به أدبا عرض عليهم أن يطلعوا فرغبوا وأطلعوا فكان ذلك وسيلة إلى اطلاعه فكأنهم هم الذين أطلعوه ففاء فَاطَّلَعَ فصيحة والعطف على مقدر، والمعنى على القراءة التي بعدها هل أنتم مطلعون حتى أطلع أنا أيضا فاطلعوا وأطلع هو بعد ذلك فرآه في سواء الجحيم ولا بد من تقدير اطلع بعد ذلك ليصلح ترتب فَرَآهُ على ما قبله وهَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ عليه بمعنى الأمر تأدبا ومبالغة وعلى القراءة الثانية وهي قراءة التخفيف في الكلمتين والثانية فعل ماض المعنى كما في قراءة الجمهور، وكذا على القراءة التي بعدها، وعن قراءة أبي البرهسم ومن معه هل أنتم مطلعي فأطلعوه فرآه إلخ، واطلاعهم إياه إذا كان الخطاب للجلساء بطريق التسبب كأنه طلب أن يطلعوا ليوافقهم فيطلع وهو إذا كان (١) الخطاب للملائكة عليهم السلام على ما يتبادر إلى الذهن، وعن صاحب اللوامح إن طلع وأطلع اطلاعا بمعنى أقبل وجاء والقائم مقام الفاعل على قراءة أطلع مبنيا للمفعول ضمير المصدر أو جار ومجرور محذوفان أي اطلع به لأن اطلع لازم كأقبل وقد علمت أن اطلع يجيء متعديا كأطلعت زيدا. ورد أبو حيان الاحتمال الثاني بأن نائب الفاعل لا يجوز حذفه كالفاعل فتأمل جميع ما ذكرنا ولا تغفل قالَ أي القائل لقرينه تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي لتهلكني، وفي قراءة عبد الله «لتغوين»، و «إن» مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة. وفي البحر أن القسم فيه التعجب من سلامته منه إذ كان قرينه قارب أن يرديه وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي على وهي التوفيق والعصمة لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للعذاب كما أحضرته أنت وأضرابك أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إلخ رجوع إلى محاورة جلسائه بعد إتمام الكلام مع قرينه تبجحا وابتهاجا بما أتاح الله تعالى له من الفضل العظيم والنعيم المقيم وتعريضا للقرين بالتوبيخ، وجوز أن يكون من كلام المتسائلين جميعا وأن يكون من تتمة كلام القائل يسمع قرينه على جهة التوبيخ له، واختير الأول، والهمزة للتقرير وفيها معنى التعجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه نظم الكلام على ما ذهب إليه الزمخشري ومتبعوه أي أنحن مخلدون فما نحن بميتين أي ممن شأنه الموت كما يؤذن به الصفة المشبهة.
وقرىء «بمائتين» إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي كانت في الدنيا وهي متناولة عند أهل السنة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال لعدم الاعتداد بالحياة فيه لكونها غير تامة ولا قارة وزمانها قليل جدا، والاستثناء مفرغ من مصدر مقدر كأنه قيل أفما نحن بميتين موتة إلا موتتنا الأولى، وجوز أن يكون منقطعا أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وعلمهم بأنهم لا يموتون ناشىء من إخبار أنبيائهم لهم في الدنيا وإعلامهم إياهم بأن أهل الجنة لا يموتون أو من قول الملائكة عليهم السلام لهم حين دخول الجنة طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: ٧٣] وقولهم ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر: ٤٦] وقيل إن أهل الجنة أول ما دخلوا لا يعلمون أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فنودي يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت فحينئذ يعلمونه فيقولون ذلك
(١) قوله وهو إذا كان الخطاب إلخ كذا في أصله وانظر اه.
90
تحدثا بنعمة الله تعالى واغتباطا بها، ولا يخفى أن كون هذا القول المحكي هنا عند علمهم بعدم الموت من ذبحه بعيد في هذا المقام والظاهر أن هذا بعد الاطلاع والكلام مع القرين وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ كأصحاب النار، والمراد استمرار النفي وتأكيده وكذا فيما تقدم واستمرار هذا النفي نعمة جليلة وهو متضمن نفي زوال نعيمهم المحكي في قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ٤١] الآيات فإن زوال النعيم نوع من العذاب بل هو من أعظم أنواعه بل تصور الزوال عذاب أيضا لا يلذ معه عيش، ولذا قيل:
إذا شئت أن تحيا حياة هنية فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا
وكذا يتضمن نفي الهرم واختلال القوى الذي يوهمه نفي الموت فإن ذلك نوع من العذاب أيضا، وأنه إنما اختير التعرض لاستمرار نفي العذاب دون إثبات استمرار النعيم لأن نفي العذاب أسرع خطورا ببال من لم يعذب عند مشاهدة من يعذب، وقيل إن ذاك لأن درء الضرر أهم من جلب المنفعة إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الظاهر أن الإشارة إلى ما أخبروا به من استمرار نفي الموت واستمرار نفي التعذيب عنهم، ويجوز أن تكون إشارة إلى ما هم فيه من النعيم مع استمرار النفيين فإذا كان الكلام من تتمة كلام القائل أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إلخ فهو متضمن إشارة ذلك القائل إلى ظهور النعيم ويكون ترك التعرض للتصريح به للاستغناء بذلك الظهور.
وجوز أن يكون هذا كلامه تعالى قاله سبحانه تقريرا لقول ذلك القائل وتصديقا له مخاطبا جل وعلا به حبيبه عليه الصلاة والسلام وأمته والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر. وقرىء «لهو الرزق العظيم» وهو ما رزقوه من السعادة العظمى لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي لنيل مثل هذا الأمر الجليل ينبغي أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية السريعة الانصرام المشوبة بفنون الآلام فتقديم الجار والمجرور للحصر وهذا إن كان إشارة إلى مشخص من حيث تشخصه فمثل غير مقحمة وإن كان إشارة إلى الجنس فهي مقحمة كما في- مثلك لا يبخل- والكلام يحتمل أن يكون من تتمة كلام القائل ولا يعكر عليه أن الآخرة ليست بدار عمل إذ ليس المراد الأمر بالعمل فيها ويحتمل أن يكون من كلامه عز وجل.
91
وأما قوله سبحانه أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فمن كلامه جل وعلا عند الأكثرين وهو متعلق بقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ والقصة بينهما ذكرت بطريق الاستطراد فالإشارة إلى الرزق المعلوم.
وزعم بعضهم جواز كونه من كلام القائل السابق وما هو من كلامه عز وجل قطعا هو ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وأصل النزل الفضل والريع في الطعام ويستعمل (١) في الحاصل من الشيء ومنه العسل ليس من إنزال الأرض أي مما يحصل منها، وقول الشافعي لا يجب في العسل العشر لأنه نزل طائر ويقال لما يعد للنازل من الرزق.
والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق مرّة كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم تكون في تهامة وفي البلاد المجدبة المجاورة للصحراء سميت بها الشجرة الموصوفة بما في الآية، وكلا المعنيين للنزل محتمل هنا بيد أنه يتعين على الأول انتصابه على التمييز أي أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير نزلا وحاصلا أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم، ومعنى التفاضل بين النزلين التوبيخ والتهكم وهو أسلوب كثير الورود في القرآن، والحمل على المشاركة جائز، وعلى الثاني الظاهر انتصابه على الحال، والمعنى أن الرزق المعلوم نزل أهل الجنة وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم فأيهما خير حال كونه نزلا، وفيه ما مر من التهكم.
والحمل على التمييز لا مانع منه لفظا كما في نحوهم أكفاهم ناصرا ولكن المعنى على الحال أسد لأن المعنى المفاضلة بين تلك الفواكه وهذا الطعام في هذه الحال لا التفاضل بينهما في الوصف وإن ذلك في النزلية أدخل من الآخرة فافهم.
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ محنة وعذابا لهم في الآخرة وابتلاء في الدنيا فإنهم سمعوا أنها في النار قالوا كيف يمكن ذلك والنار تحرق الشجر وكذا قال أبو جهل ثم قال استخفافا بأمرها لا إنكارا للمدلول اللغوي: والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذذ بها أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق فالنار لا تحرق إلا بإذنه أو أن الإحراق عندها لا بها.
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ منبتها في قعر النار وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. وقرىء نابتة في أصل الجحيم طَلْعُها أي حملها، وأصله طلع النخل وهو أول ما يبدو وقبل أن تخرج شماريخه أبيض غض مستطيل كاللوز سمي به حمل هذه الشجرة إما لأنه يشابهه في الشكل أو الطلوع ولعله الأولى لمكان التشبيه بعد فيكون استعارة تصريحية أو لاستعماله بمعنى ما يطلع مطلقا فيكون كالمرسل للأنف فهو مجاز مرسل.
كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ أي في تناهي الكراهة وقبح المنظر والعرب تشبه القبيح الصورة بالشيطان فيقولون
(١) وهو إما استعارة لفظية إذا رجعت فيها إلى التشبيه يأتيك عفوا نحو رأيت أسدا يرمي وإما استعارة معنوية إذا رجعت فيها إلى التشبيه لم يؤاتك تلك المؤاتاة نحو إذا أصبحت بيد الشمال زمامها كذا قال نور الدين الحكيم وتمامه في حواشي الطيبي اه منه.
92
كأنه وجه شيطان أو رأس شيطان وإن لم يروه لما أنه مستقبح جدا في طباعهم لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير فيرتسم في خيالهم بأقبح صورة، ومن ذلك قول امرئ القيس:
أتقتلني والمشرفي مضاجعي... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فشبه بأنياب الأغوال وهي نوع من الشياطين ولم يرها لما ارتسم في خياله، وعلى عكس هذا تشبيههم الصورة الحسنة بالملك وذلك أنهم اعتقدوا فيه أنه خير محض لا شر فيه فارتسم في خيالهم بأحسن صورة، وعليه قوله تعالى ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: ٣١] وبهذا يرد على بعض الملاحدة حيث طعن في هذا التشبيه بأنه تشبيه بما لا يعرف، وحاصله أنه لا يشترط أن يكون معروفا في الخارج بل يكفي كونه مركوزا في الذهن والخيال.
وحمل التشبيه في الآية على ما ذكر هو المروي عن ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما، وزعم الجبائي أن الشياطين حين يدخلون النار تشوه صورهم جدا وتستبشع أعضاؤهم فالمراد كأنه رؤوس الشياطين الذين في النار، وفيه أن التشبيه عليه أيضا غير معروف في الخارج عند النزول، وقيل: رؤوس الشياطين شجرة معروفة تكون بناحية اليمن منكرة الصورة يقال لها الأستن وإياها عنى النابغة بقوله:
تحيد عن استن سود أسافله... مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما
قال الأصمعي: ويقال لها الصوم وأنشد:
موكل بشدوف الصوم يرقبه... من المغارب مهضوم الحشا زرم (١)
وقيل: الشياطين جنس من الحيات ذوات أعراف، وأنشد الفراء:
عجيز تحلف حين أحلف... كمثل شيطان الحماط أعرف
أي له عرف، وأنشد المبرد:
وفي البقل إن لم يدفع الله شره... شياطين يعدو بعضهن على بعض
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها تفريع على جعلها فتنة أي محنة وعذابا للظالمين، وضمير المؤنث للشجرة، ومن ابتدائية أو تبعيضية وهناك مضاف مقدر أي من طلعها، وقيل: من تبعيضية والضمير للطلع وأنث لإضافته إلى المؤنث أو لتأويله بالثمرة أو للشجرة على التجوز، ولا يخلو كل عن بعد ما فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ لغلبة الجوع وإن كرهوها أو للقسر على أكلها ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي على الشجرة التي ملؤوا منها بطونهم لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أي لشرابا ممزوجا بماء شديد الحرارة وهذا الشراب هو الغساق أي ما يقطر من جراح أهل النار وجلودهم، وقيل: هذا هو الصديد وأما الغساق فعين في النار تسيل إليها سموم الحيات والعقارب أو دموع الكفرة فيها، وشربهم ذلك لغلبة عطشهم بما أكلوا من الشجرة فإذا شربوا تقطعت أمعاؤهم.
وقرىء «لشوبا» بضم الشين وهو اسم لما يشاب به، وعلى الأول هو مصدر سمي به، وكلمة ثم قيل للتراخي الزماني وذلك أنه بعد أن يملؤوا البطون من تلك الشجرة يعطشون ويؤخر سقيهم زمانا ليزداد عطشهم فيزداد عذابهم.
واعترض بأنه يأباه عطف الشرب بالفاء في قوله تعالى فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الواقعة: ٥٣، ٥٤] فلا بد من عدم توسط زمان. وأجيب بأنه يجوز أن يكون شرب الشراب الممزوج بالحميم متأخرا
(١) يصف وعلا يظن هذا الشجر قناصا فهو يرقبه والشدوف الشخوص واحدها شدف اه منه.
93
بزمان عن ملئهم البطون دون شرب الحميم وحده، وكذا يجوز أن يكون الحال مختلفا فتارة يتأخر الشرب مطلقا زمانا وأخرى لا يتأخر كذلك، وقال بعضهم: ملؤهم البطون أمر ممتد فباعتبار ابتدائه يعطف بثم وباعتبار انتهائه بالفاء.
وجوز كون ثم للتراخي الرتبي لأن شرابهم أشنع من مأكولهم بكثير، وعطف ملئهم البطون بالفاء لأنه يعقب ما قبله، ولا يحسن فيه اعتبار التفاوت الرتبي حسنه في شرب الشراب المشوب بالحميم مع الأكل ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أي مصيرهم، وقد قرىء كذلك، وقرىء أيضا «ثم أن منفذهم» لَإِلَى الْجَحِيمِ أي إلى مقرهم من النار فإن في جهنم مواضع أعد في كل موضع منها نوع من البلاء فالقوم يخرجون من محل قرارهم حيث تأجج النار ويساقون إلى موضع آخر مما دارت عليه جهنم فيه ذلك الشراب ليردوه ويسقوا منه ثم يردون إلى محلهم كما تخرج الدواب إلى مواضع الماء في البلد مثلا لترده ثم ترد إلى محلها، وإلى هذا المعنى أشار قتادة ثم تلا قوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: ٤٣، ٤٤] ويؤيده قراءة ابن مسعود «ثم إن منقلبهم» إذ الانقلاب أظهر في الرد أو المراد ثم إن مرجعهم إلى دركات الجحيم فهو يرددون في الجحيم من مكان إلى آخر أدنى منه، وقيل: إن الشراب يقدم إليهم قبل دخول النار فيشربون ويصيرون إلى الجحيم، وهذا يحتاج إلى توقيف وإلا فهو خلاف الظاهر، وكأن بين خروج القوم للشرب وعودهم إلى مساكنهم زمانا غير يسير يتجرعون فيه ذلك الشراب ولذا جيء بثم، وهذا الشراب في مقابلة ما لأهل الجنة من الشراب المدلول عليه بقوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات: ٤٥، ٤٦] إلخ كما أن الزقوم في مقابلة ما لهم من الفواكه.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم أخرجه ابن أبي شيبة فكيف بمن هو طعامه وشرابه الغساق والصديد مع الحميم، نسأل الله تعالى رضاه والجنة ونعوذ به عز وجل من غضبه والنار، وقوله سبحانه:
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ تعليل لاستحقاقهم ما ذكر من فنون العذاب بتقليد الآباء في أصول الدين من غير أن يكون لهم ولا لآبائهم شيء يتمسك به أصلا أي وجدوهم ضالين في نفس الأمر ليس لهم ما يصلح شبهة فضلا عن صلاحية كونه دليلا فهم (١) من غير أن يتدبروا أنهم على الحق أولا مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل، والإهراع الإسراع الشديد، وقيل: هو إسراع فيه شبه رعدة.
وفي بناء الفعل للمفعول إشارة إلى مزيد ورغبتهم في الإسراع على آثارهم كأنهم يزعجون ويحثون حثا عليه وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء الظالمين الذين جعلت شجرة الزقوم فتنة لهم قريش أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم السابقة، وهو جواب قسم محذوف، وكذا قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنبياء أنذروهم سوء عاقبة ما هم عليه من الباطل، وتكرير القسم لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمون كل من الجملتين فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ من الهول والفظاعة لما لم يلتفتوا إلى الإنذار ولم يرفعوا إليه رأسا.
والخطاب إما لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه مشاهدة آثارهم، وحيث كان المعنى أنهم أهلكوا إهلاكا فظيعا استثنى عنهم المخلصين بقوله عز وجل إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعمل بموجوب الإنذار. وقرىء الْمُخْلَصِينَ بكسر اللام أي الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه
(١) قوله: فهم من غير أن يتدبروا إلخ: كذا في أصله ولعله سقط من قلمه خبر قوله فهم نحو مقلدون لهم.
94
وتعالى، والاستثناء على القراءتين إما منقطع إن خصص المنذرين وإما متصل أن عمم.
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ نوع تفصيل لما أجمل فيما قبل ببيان أحوال بعض المرسلين وحسن عاقبتهم متضمن لبيان سوء عاقبة بعض المنذرين كقوم نوح عليه السلام ولبيان حسن عاقبة بعضهم الذين أخلصهم الله تعالى أو أخلصوا دينهم على القراءتين كقوم يونس عليه السلام، وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص غني عن البيان، ونداؤه عليه السلام يتضمن الدعاء على كفار قومه وسؤاله النجاة وطلب النصرة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، وكذا ما في قوله تعالى: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ والمخصوص بالمدح فيه محذوف والفاء فصيحة أي وتالله لقد دعانا نوح حين أيس من إيمان قومه بعد أن دعاهم أحقابا ودهورا فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا ونفورا فأجبناه أحسن الإجابة فو الله لنعم المجيبون نحن فحذف ما حذف ثقة بدلالة ما ذكر عليه، والجمع للعظمة والكبرياء وفيه من تعظيم أمر الإجابة ما فيه
وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صلى في بيتي فمر بهذه الآية وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ قال: صدقت ربنا أنت أقرب من دعى وأقرب من بغى فنعم المدعو ونعم المعطي ونعم المسئول ونعم المولى أنت ربنا ونعم النصير».
وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من الغرق على ما روي عن السدي، وقيل: أذى قومه ولا مانع من الجمع، والكرب على ما قال الراغب: الغم الشديد، وأصل ذلك من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ذلك، ويصح أن يكون من كربت الشمس إذا دنت للمغيب وقولهم إناء كربان نحو قربان أي قريب من الملء أو من الكرب وهو عقد غليظ في رشاء الدلو، وقد يوصف الغم بأنه عقدة على القلب.
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ فحسب حيث أهلكنا الكفرة بموجب دعائه رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦] وقد روي أنه مات كل من في السفينة ولم يعقبوا عقبا باقيا غير أبنائه الثلاث سام وحام ويافث وأزواجهم فإنهم بقوا متناسلين إلى يوم القيامة.
أخرج الترمذي وحسنة وابن سعد وأحمد وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن سمرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم» وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا نحوه
، نعم
أخرج البزار وابن أبي حاتم والخطيب في تالي التلخيص عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والسودان»
ولا أعرف حال الخبر، والأكثرون على أن الناس كلهم في مشارق الأرض ومغاربها من ذرية نوح عليه السلام ولذا قيل له آدم الثاني. وإن صح أن لكنعان المغرق ولدا في السفينة لا يبعد إدراجه في الذرية فلا يقتصر على الأولاد الثلاثة، وعلى كون الناس كلهم من ذريته عليه السلام استدل بعضهم بالآية. وقالت فرقة: أبقى الله تعالى ذرية نوح عليه السلام ومد في نسله وليس الناس منحصرين في نسله بل من الأمم من لا يرجع إليه حكاه في البحر، وكأن هذه الفرقة لا تقول بعموم الغرق، ونوح عليه السلام إنما دعا على الكفار وهو لم يرسل إلى أهل الأرض كافة فإن عموم البعثة ابتداء من خواص خاتم المرسلين صلّى الله عليه وسلم ووصول خبر دعوته وهو في جزيرة العرب إلى جميع الأقطار كقطر الصين وغيره غير معلوم.
والحصر في الآية بالنسبة إلى من في السفينة ممن عدا أولاده وأزواجهم فكأنه قيل: وجعلنا ذريته هم الباقين لا ذرية من معه في السفينة وهو لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه وكان في بعض الأقطار الشاسعة التي لم تصل إليها الدعوة ولم يستوجب أهلها الغرق كأهل الصين فيما يزعمون، ويجوز أن تكون قائلة بالعموم وتجعل الحصر
95
بالنسبة إلى المغرقين وتلتزم القول بأنه لم يبق عقب لأحد من أهل السفينة هو من ذرية أحد من المغرقين أي وجعلنا ذريته هم الباقين لا ذرية أحد غيره من المغرقين، وولد كنعان إن صح وصح بقاء نسله دخل في ذريته والله تعالى أعلم وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ في الباقين غابر الدهر سَلامٌ عَلى نُوحٍ مبتدأ وخبر وجاز الابتداء بالنكرة لما فيه من معنى الدعاء، والكلام وارد على الحكاية كقولك: قرأت سُورَةٌ أَنْزَلْناها [النور: ١] وهو على ما قال الفراء وغيره من الكوفيين محكي- بترك- في موضع نصب بها أي تركنا عليه هذا الكلام بعينه.
وقال آخرون: هو محكي بقول مقدر أي تركنا عليه في الآخرين قولهم سلام على نوح، والمراد أبقينا له دعاء الناس وتسليمهم عليه أمة بعد أمة، وقيل: هذا سلام منه عز وجل لا من الآخرين، ومفعول تَرَكْنا محذوف أي تركنا عليه الثناء الحسن وأبقيناه له فيمن بعده إلى آخر الدهر، ونسب هذا إلى ابن عباس ومجاهد قتادة والسدي وجملة سَلامٌ عَلى نُوحٍ معمول لقول مقدر على ما ذكر الخفاجي أي وقلنا سلام إلخ، وقال أبو حيان: مستأنفة سلم الله تعالى عليه السلام ليقتدي بذلك البشر فلا يذكره أحد بسوء، وقرأ عبد الله «سلاما» بالنصب على أنه مفعول تَرَكْنا وقوله تعالى: فِي الْعالَمِينَ متعلق بالظرف لنيابته عن عامله أو بما تعلق الظرف به. جوز كونه حالا من الضمير المستتر فيه، وأيا ما كان فهو من تتمة الجملة السابقة وجيء به للدلالة على الاعتناء التام بشأن السلام من حيث أنه أفاد الكلام عليه ثبوته في العالمين من الملائكة والثقلين أو أنه حال كونه في العالمين على نوح. وهذا كما تقول سلام على زيد في جميع الأمكنة وفي جميع الأزمنة. وزعم بعضهم جواز جعله بدلا من قوله تعالى فِي الْآخِرِينَ ويوشك أن يكون غلطا كما لا يخفى.
وقوله تعالى إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تعليل لما فعل به مما قصه الله عز وجل بكونه عليه السلام من زمرة المعروفين بالإحسان الراسخين فيه فيكون ما وقع من قبيل مجازاة الإحسان بالإحسان، وإحسانه مجاهدته أعداء الله تعالى بالدعوة إلى دينه والصبر الطويل على أذاهم ونحو ما ذكر وذلك إشارة إلى ما ذكر من الكرامات السنية التي وقعت جزاء له عليه السلام، وما في من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الفضل والشرف، والكاف متعلقة بما بعدها أي مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الكاملين في الإحسان لاجزاء أدنى منه، وقوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ تعليل لكونه عليه السلام محسنا المفهوم من الكلام بخلوص عبوديته وكمال إيمانه، وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما ما لا يخفى وإلا فمنصب الرسالة منصب عظيم والرسول لا ينفك عن الخلوص بالعبودية وكمال الإيمان فالمقصود بالصفة مدحها نفسها لا مدح موصوفها ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي المغايرين لنوح عليه السلام وأهله وهم كفار قومه أجمعين، وثم للتراخي الذكرى إذ بقاؤه عليه السلام ومن معه متأخر عن الإغراق وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن شايع نوحا وتابعه في أصول الدين لَإِبْراهِيمَ وإن اختلفت فروع شريعتيهما أو ممن شايعه في التصلب في دين الله تعالى ومصابرة المكذبين ونقل هذا عن ابن عباس، وجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق كلي أو أكثري وللأكثر حكم الكل، ورأيت في بعض الكتب ولا أدري الآن أي كتاب هو أن نوحا عليه السلام لم يرسل إلا بالتوحيد ونحوه من أصول العقائد ولم يرسل بفروع، قيل: وكان بين إبراهيم وبينه عليهما السلام نبيان هود وصالح لا غير، ولعله أريد بالنبي الرسول لا ما هو أعم منه، وهذا بناء على أن ساما كان نبيا وكان بينهما على ما في جامع الأصول ألف سنة ومائة واثنتان وأربعون سنة، وقيل ألفان وستمائة وأربعون سنة.
وذهب الفراء إلى أن ضمير شِيعَتِهِ لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، والظاهر ما أشرنا إليه وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وقلما يقال للمتقدم هو شيعة للمتأخر، ومنه قول الكميت الأصغر بن زيد:
96
وما لي إلا آل أحمد شيعة وما لي إلا مشعب الحق مشعب
وذكر قصة إبراهيم عليه السلام بعد قصة نوح لأنه كآدم الثالث بالنسبة إلى الأنبياء والمرسلين بعده لأنهم من ذريته إلا لوطا وهو بمنزلة ولده عليهما السلام، ويزيد حسن الإرداف أن نوحا نجاه الله تعالى من الغرق وإبراهيم نجاه الله تعالى من الحرق إِذْ جاءَ رَبَّهُ منصوب بأذكر كما هو المعهود في نظائره، وجوز تعلقه بفعل مقدر يدل عليه قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ كأنه قيل: متى شايعه؟ فقيل: شايعه إذ جاء ربه، وقيل: هو متعلق بشيعة لما فيه من معنى المشايعة. ورد بأنه يلزم عمل ما قبل لام الابتداء فيما بعدها وهم لا يجوزون ذلك للصدارة فلا يقال: إن ضاربا لقادم علينا زيدا، وكذا يلزم الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو لا يجوز.
وأجيب بأنه لا مانع من كل إذا كان المعمول ظرفا لتوسعهم فيه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي سالم من جميع الآفات كفساد العقائد والنيات السيئة والصفات القبيحة كالحسد والغل وغير ذلك، وعن قتادة تخصيص السلامة بالسلامة من الشرك، والتعميم الذي ذكرناه أولى أو سالم من العلائق الدنيوية بمعنى أنه ليس فيه شيء من محبتها والركون إليها وإلى أهلها، وقيل سليم أي حزين وهو مجاز من السليم بمعنى اللديغ من حية أو عقرب فإن العرب تسميه سليما تفاؤلا بسلامته وصار حقيقة فيه، وما تقدم أنسب بالمقام، والباء قيل للتعدية. والمراد بمجيئه ربه بقلبه إخلاصه قلبه له تعالى على سبيل الاستعارة التبعية التصريحية، ومبناها تشبيه إخلاصه قلبه له عز وجل بمجيئه إليه تعالى بتحفة في أنه سبب للفوز بالرضا، ويكتفي بامتناع الحقيقة مع كون المقام مقام المدح قرينة، فحاصل معنى التركيب إذ أخلص عليه السلام لله تعالى قلبه السليم من الآفات أو المنقطع عن العلائق أو الحزين المنكسر. وتعقب بأن سلامة القلب عن الآفات لا تكون بدون الإخلاص وكذا الانقطاع عن العلائق لا يكون بدونه. وأجيب بأنهما قد يكونان بدون ذلك كما في القلوب البله. وفي المطلع معنى مجيئه ربه بقلبه أنه أخلص قلبه لله تعالى وعلم سبحانه ذلك منه كما يعلم الغائب وأحواله بمجيئه وحضوره فضرب المجيء مثلا لذلك اه، وجعل في الكلام عليه استعارة تمثيلية بأن تشبه الهيئة المنتزعة من اخلاص إبراهيم عليه السلام قلبه لربه تعالى وعلمه سبحانه ذلك الإخلاص منه موجودا بالهيئة المنتزعة من المجيء بالغائب بمحضر شخص ومعرفته إياه وعلمه بأحواله ثم يستعار ما يستعار، ولتأدية هذا المعنى عدل عن جاء ربه سليم القلب إلى ما في النظم الجليل، وقيل الباء للملابسة ولعله المتبادر، والمراد بمجيئه ربه حلوله في مقام الامتثال ونحوه، وذكر أن نكتة العدول عما سمعت إلى ما في النظم سلامته من توهم أن الحال منتقلة لما أن الانتقال أغلب حاليها مع أنه أظهر في أن سلامة القلب كانت له عليه السلام قبل المجيء أيضا فليتدبر.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ بدل من إذ الأولى أو ظرف لجاء أو لسليم أي أي شيء تعبدون؟.
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي أتريدون آلهة من دون الله تعالى إفكا أي للإفك فقدم المفعول به على الفعل للعناية لأن إنكاره أو التقرير به هو المقصود وفيه رعاية الفاصلة أيضا ثم المفعول لأجله لأن الأهم مكافحتهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم.
ويجوز أن يكون إِفْكاً مفعولا به بمعنى أتريدون إِفْكاً وتكون آلهة بدلا منه بدل كل من كل، وجعلها عين الإفك على المبالغة أو الكلام على تقدير مضاف أي عبادة آلهة وهي صرف للعبادة عن وجهها. وجوز كونه حالا من ضمير تريدون أي أفاكين أو مفعوله أي مأفوكة. وتعقب بأن جعل المصدر حالا لا يطرد إلا مع أما نحو أما علما فعالم فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي أيّ شيء ظنكم بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربا للعالمين أشككتم فيه حتى تركتم عبادته سبحانه بالكلية أو أعلمتم أي شيء هو حتى جعلتم الأصنام شركاءه سبحانه وتعالى أو أي شيء ظنكم
97
بعقابه عز وجل حتى اجترأتم على الإفك عليه تعالى ولم تخافوا، وكان قومه عليه السلام يعظمون الكواكب المعروفة ويعتقدون السعود والنحوس والخير والشر في العالم منها ويتخذون لكل كوكب منها هيكلا ويجعلون فيها أصناما تناسب ذلك الكوكب بزعمهم ويجعلون عبادتها وتعظيمها ذريعة إلى عبادة تلك الكواكب واستنزال روحانياتها وكانوا يستدلون بأوضاعها على الحوادث الكونية عامة أو خاصة فاتفق أنّ دنا يوم عيد لهم يخرجون فيه فأرسل ملكهم إلى إبراهيم عليه السلام أن غدا عيدنا فاحضر معنا فاستشعر حصول الفرصة لحصول ما عسى أن يكون سببا لتوحيدهم فأراد أن يعتذر عن الحضور على وجه لا ينكرونه عليه فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ أي فتأمل نوعا من التأمل في أحوالها وهو في نفس الأمر على طرز تأمل الكاملين في خلق السماوات والأرض وتفكرهم في ذلك إذ هو اللائق به عليه السلام لكنه أوهمهم أنه تفكر في أحوالها من الاتصال والتقابل ونحوهما من الأوضاع التي تدل بزعمهم على الحوادث ليرتب عليه ما يتوصل به الى غرضه الذي يكون وسيلة الى إنقاذهم مما هم فيه، والظاهر بعد اعتبار الإيهام أنه إيهام التفكر في احكام طالع ولادته عليه السلام وما يدل عليه بزعمهم ما تجدد له من الأوضاع في ذلك الوقت، وهذا من معاريض الأفعال نظير ما وقع في قصة يوسف عليه السلام من تفتيش أوعية اخوته بني علاته قبل وعاء شقيقه فإن المفتش بدأ بأوعيتهم مع علمه أن الصاع ليس فيها وأخر تفتيش وعاء أخيه مع علمه بأنه فيها تعريضا بأنه لا يعرف في أي وعاء هو ونفيا للتهمة عنه لو بدأ بوعاء الأخ فَقالَ أي لهم إِنِّي سَقِيمٌ أراد أنه سيسقم ولقد صدق عليه السلام فإن كل إنسان لا بد أن يسقم وكفى باعتلال المزاج أول سريان الموت في البدن سقاما، وقيل أراد مستعد للسقم الآن أو خارج المزاج عن الاعتدال خروجا قل من يخلو عنه أو سقيم القلب لكفر كم والقوم توهموا أنه أراد قرب اتصافه بسقم لا يستطيع معه الخروج معهم إلى معيدهم، وهو على ما روي عن سفيان وابن جبير سقم الطاعون فإنهما فسرا سَقِيمٌ بمطعون وكان كما قيل أغلب الأسقام عليهم وكانوا شديدي الخوف منه لاعتقادهم العدوى فيه، وهذا وكذا قوله عليه السلام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: ٦٣] وقوله في زوجته سارة هي أختي من معاريض الأقوال
كقول نبينا صلّى الله عليه وسلم لمن قال له في طريق الهجرة: ممن الرجل؟ من ماء
حيث أراد عليه الصلاة والسلام ذكر مبدأ خلقه ففهم السائل أنه بيان قبيلته وكقول صاحبه الصديق وقد سئل عنه عليه الصلاة والسلام في ذاك أيضا: هو هاد يهديني حيث أراد شيئا وفهم السائل آخر ولا يعد ذلك كذبا في الحقيقة.
وتسميته به في بعض الأحاديث الصحيحة بالنظر لما فهم الغير منه لا بالنسبة إلى ما قصده المتكلم وجعله ذنبا في حديث الشفاعة قيل لأنه ينكشف لإبراهيم عليه السلام أنه كان منه خلاف الأولى لا أن كل تعريض هو كذلك فإنه قد يجب والإمام لضيق محرابه ومجاله ينكر الحديث الوارد في ذلك وهو في الصحيحين ويقول: إسناد الكذب إلى راويه أهون من إسناده إلى الخليل عليه السلام، وقد مر الكلام في ذلك، وقيل: كانت له عليه السلام حمى لها نوبة معينة في بعض ساعات الليل فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فإذا هي قد حضرت فقال لهم أبي سقيم، وليس بشيء من ذلك من المعاريض، ونحوه ما أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: أرسل إليه عليه السلام ملكهم فقال: إن غدا عيدنا فاخرج معنا فنظر إلى نجم فقال: إن ذا النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي.
وأنت تعلم أن النظر المعدى بفي بمعنى التأمل والتفكر والنظر المشار إليه لا يحتاج إلى تفكر، وعن أبي مسلم أن المعنى نظر وتفكر في النجوم ليستدل بأحوالها على حدوثها وأنها لا تصلح أن تكون آلهة فقال: إني سقيم أي سقيم النظر حيث لم يحصل له كمال اليقين انتهى، وهذا لعمري يسلب فيما أرى عن أبي مسلم الإسلام وفيه من الجهل بمقام الأنبياء لا سيما الخليل عليه وعليهم السلام ما يدل على سقم نظره نعوذ بالله تعالى من خذلانه ومكره.
98
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن نظر نَظْرَةً فِي النُّجُومِ كلمة من كلام العرب تقول إذا تفكر الشخص:
نظر في النجوم وعليه فليس هو من المعاريض بل قوله إِنِّي سَقِيمٌ فقط منها وهذا إن أيده نقل من أهل اللغة حسن جدا، وقيل: المعنى نظر في أحوال النجوم أو في علمها أو في كتبها وأحكامها ليستدل على ما يحدث له والنظر فيها للاستدلال على بعض الأمور ليس بممنوع شرعا إذا كان باعتقاد إن الله تعالى جعلها علامة عليه والممنوع الاستدلال باعتقاد أنها مؤثرة بنفسها والجزم بكلية أحكامها، وقد ذكر الكرماني في مناسكه على ما
قال الخفاجي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل أراد السفر في آخر الشهر أتريد أن تخسر صفقتك ويخيب سعيك اصبر حتى يهل الهلال
انتهى.
وهذا البحث من أهم المباحث فإنه لم يزل معترك العلماء والفلاسفة الحكماء، وقد وعدنا بتحقيق الحق فيه وبيان كدره وصافيه فنقول وبالله تعالى التوفيق إلى سلوك أقوم طريق:
اعلم أن بعض الناس أنكروا أن يكون للكواكب تأثير في هذا العالم غير وجود الضياء في المواضع التي تطلع عليها الشمس والقمر وعدمه فيما غابا عنه وما جرى هذا المجرى، وهذا خروج عن الإنصاف وسلوك في مسالك الجور والاعتساف، وبعضهم قالوا: إن لها تأثيرا ما يجري على الأمر الطبيعي مثل أن يكون البلد القليل العرض ذا مزاج مائل عن الاعتدال إلى الحر واليبس وكذا مزاج أهله وتكون أجسامهم ضعيفة وألوانهم سود وصفر كالنوبة والحبشة، وأن يكون البلد الكثير العرض ذا مزاج مائل عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة وكذا مزاج أهله وتكون أجسامهم عبلة وألوانهم بيض وشعورهم شقر مثل الترك والصقالبة، ومثل نمو النبات واشتداده ونضج ثمره بالشمس والقمر ونحو ذلك مما يدرك بالحس، ولا بأس في نسبته إلى الكوكب على معنى أن الله تعالى أودع فيه قوة مؤثرة فأثر بإذن الله تعالى كما ينسب الإحراق إلى النار والري إلى الماء مثلا على معنى ذلك وهو مذهب السلف على ما قال الشيخ إبراهيم الكوراني في جميع الأسباب والمسببات وصرح به بعض الماتريدية، أو على معنى أن الله تعالى خلق ذلك عنده وليس فيه قوة مؤثرة مطلقا على ما يقوله الأشاعرة في كل سبب ومسبب فلا فرق بين الماء والنار مثلا عندهم في أنه ليس في كل قوة يترتب عليها ما يترتب وإنما الفرق في أنه جرت عادة الله تعالى بأن يخلق الإحراق دون الري عند النار دون الماء ويخلق الري دون الإحراق عند الماء دون النار وليس للنار والماء مدخل في الأثر من الإحراق والري سوى أن كلا مقارن لخلق الله تعالى الأثر بلا واسطة.
وظواهر الأدلة مع الأولين ولا ينافي مذهبهم توحيد الأفعال وأن عز وجل خالق كل شيء كما حقق في موضعه.
وبعضهم زعم أن لها تأثيرا يعرفه المنجم غير ذلك كالسعادة والنحوسة وطول العمر وقصره وسعة العيش وضيقه إلى غير ذلك مما لا يخفى على من راجع كتب أحكام طوالع المواليد وطوالع السنين والكسوف والخسوف والأعمال ونحوها، وهو مما لا ينبغي أن يعول عليه أو يلتفت إليه فليس له دليل عقلي أو نقلي بل الأدلة قائمة على بطلانه متكفلة بهدم أركانه، والقائلون به بعد اتفاقهم على أن الخير والشر والإعطاء والمنع وما أشبه ذلك يكون في العالم بالكواكب على حسب السعود والنحوس وكونها في البروج المنافرة لها أو الموافقة وحسب نظر بعضها إلى بعض بالتسديس والتربيع والتثليث والمقابلة وحسب كونها في شرفها وهبوطها ووبالها ورجعتها واستقامتها وإقامتها اختلفوا في كثير من الأصول وتكلموا بكلام يضحك منه أرباب العقول، وذلك أنهم اختلفوا في أنه على أي وجه يكون ذلك؟ فزعم قوم منهم أن فعلها بطبائعها، وزعم آخرون أن ذلك ليس فعلا لها لكنها تدل عليه بطبائعها، وزعم آخرون أنها تفعل في البعض بالعرض وفي البعض بالذات، وزعم آخرون أنها تفعل بالاختيار لا بالطبع إلا أن السعد منها لا يختار إلا الخير والنحس لا يختار إلا الشر وهذا مع قولهم إنها قد تتفق على الخير وقد تتفق على الشر مما يتعجب منه، وزعم آخرون أنها لا تفعل بالاختيار بل تدل به وهو كلام لا يعقل معناه.
99
واختلفوا أيضا فقالت فرقة: من الكواكب ما هو سعد ومنها ما هو نحس وهي تسعد غيرها وتنحسه. وقالت أخرى: هي في أنفسها طبيعة واحدة وإنما تختلف دلالتها على السعود والنحوس، وهذا قول من يقول منهم إن للفلك طبيعة مخالفة لطبيعة الأسطقسات الكائنة الفاسدة وأنها لا حارة ولا باردة ولا يابسة ولا رطبة ولا سعد ولا نحس فيها وإنما يدل بعض أجرامها وبعض أجزائها على الخير والبعض على الشر وارتباط الخير والشر والسعد والنحس بها ارتباط المدلولات بأدلتها لا ارتباط المعلولات بعللها وهو أعقل من أصحاب القول بالاقتضاء الطبيعي والعلية وإن كان قوله أيضا عند بعض الأجلة ليس بشيء لأن الدلالة الحسية لا تختلف ولا تتناقض.
واختلفوا أيضا فقالت فرقة تفعل في الأبدان والأنفس جميعا وهو قول بطليموس وأتباعه، وقال الأكثرون: تفعل في الأنفس دون الأبدان، ولعل الخلاف لفظي، واختلف رؤساؤهم بطليموس ودوروسوس وأنطيقوس وريمس وغيرهم من علماء الروم والهند وبابل في الحدود وغيرها وتضادوا في المواضع التي يأخذون منها دليلهم، ومن ذلك اختلافهم في أمر سهم السعادة فزعم بطليموس أنه يعلم بأن يؤخذ أبدا العدد الذي يحصل من موضع الشمس إلى موضع القمر ويبتدىء من الطالع فيرصد منه مثل ذلك العدد على التوالي فمنتهى العدد موضع السهم، وزعم بعضهم أنه يبتدىء من الطالع فيعد مثل ذلك على خلاف التوالي، وزعم بعض الفرس أن سهم السعادة يؤخذ بالليل من القمر إلى الشمس وبالنهار من الشمس إلى القمر، وزعم أهل مصر في الحدود أنها تؤخذ من أرباب البيوت وزعم الكلدانيون أنها تؤخذ من مدبري المثلثات، واختلفوا أيضا فرتبت طائفة البروج المذكرة والمؤنثة من الطالع فعدوا واحدا مذكرا وآخر مؤنثا وصبروا الابتداء بالمذكر، وقسمت طائفة أخرى البروج أربعة أجزاء وجعلوا المذكرة هي التي من الطالع إلى وسط السماء والتي تقابلها من الغارب إلى وتد الأرض وجعلوا الربعين الباقيين مؤنثين، ومما يضحك العقلاء أنهم جعلوا البروج قسمين حار المزاج وباردة وجعلوا الحار منها ذكرا والبارد أنثى وابتدؤوا بالحمل فقالوا: هو ذكر حار والذي بعده مؤنث بارد وهكذا إلى آخرها فصارت ستة ذكورا وستة إناثا.
وقال بعضهم: الأول ذكر والثلاثة بعده إناث والخامس ذكر والثلاثة بعده إناث والتاسع ذكر وما بعده إناث فالذكور ثلاثة وبعد كل ذكر إناث ثلاث مخالفة له في الطبيعة، ثم إن هذه القسمة للمذكر والمؤنث ذاتية للبروج ولها قسمة ثانية بالعرض وهي أنهم يبدؤون من الطالع إلى الثاني عشر فيأخذون واحدا ذكرا وآخر أنثى.
وبعضهم يقول هي أربعة أقسام فمن وتد المشرق إلى وتد العاشر ذكر شرقي مجفف سريع، ومن وتد العاشر إلى وتد الغارب مؤنث جنوبي محرق وسط، ومن وتد الغارب إلى وتد الرابع ذكر معتل رطب غربي بطيء، ومن وتد الرابع إلى الطالع مؤنث ذليل مبرد شمالي وسط، وبعض الأوائل منهم لم يقتصر على ذلك بل ابتدأ بالدرجة الأولى من الحمل فقال هي ذكر والدرجة الثانية أنثى وهكذا إلى آخر الحوت، ولبطليموس هذيان آخر فإنه ابتدأ بأول درجة كل برج ذكر فنسب منها إلى تمام اثنتي عشرة درجة ونصف إلى الذكورية ومنه إلى تمام خمس وعشرين درجة إلى الأنوثية ثم قسم باقي البروج إلى قسمين فنسب النصف الأول إلى الذكر والآخر إلى الأنثى وفعل مثل ذلك في كل برج أنثى، ولدوروسوس هذيان آخر أيضا فإنه يقسم البروج كل برج ثمانية وخمسين دقيقة ومائة وخمسين دقيقة ثم ينظر إلى الطالع فإن كان برجا ذكرا أعطى القسمة الأولى للذكر ثم الثانية للأنثى إلى أن يأتي على البروج كلها وإن كان أنثى أعطى القسمة الأولى للأنثى ثم الثانية للذكر إلى أن يأتي على آخرها، وما لهم في شيء من ذلك دليل مع أن قولهم ببساطة الفلك يأبى اختلاف أجزائه بالحرارة والبرودة والذكورة والأنوثة، ومثل هذيانهم في قسمة الأجزاء الفلكية إلى ما ذكر قسمتهم الكواكب إلى ذلك فزعموا أن القمر والزهرة مؤنثان وأن الشمس وزحل والمشتري والمريخ مذكرة وإن
100
عطارد ذكر أنثى وأن سائر الكواكب تذكر وتؤنث بسبب الأشكال التي تكون لها بالقياس إلى الشمس وذلك أنها إذا كانت مشرقة متقدمة على الشمس فهي مذكرة وإن كانت مغربة تابعة كانت مؤنثة وإن ذلك يكون لها بالقياس إلى أشكالها من الأفق، وذلك أنها إذا كانت في الأشكال التي من المشرق إلى وسط السماء مما تحت الأرض فهي مذكرة وإذا كانت في الربعين الباقيين فهي مؤنثة، ويلزم عليه انقلاب المذكر مؤنثا والمؤنث مذكرا.
وأجاب بعضهم عن هذا الهذيان أنه لا مانع من اتصاف شيء بأمر بالقياس إلى شيء وبضده بالقياس إلى آخر وهو في نفسه غير متصف بشيء منهما كالأدكن فإنه يقال فيه أبيض بالقياس إلى الأسود وأسود بالقياس إلى الأبيض وهو في نفسه لا أسود ولا أبيض فكذا الكواكب يقال إنها ذكران وإناث بالقياس إلى الأشكال أعني الجهات والجهات إلى الرياح كالصبا والدبور والرياح إلى الكيفيات لا أنها ذكران وإناث في أنفسها، وهو تلبيس فإن الأدكن فيه شائبة بياض وسواد فمقتضى التشبيه يلزم أن يكون في الكوكب شائبة ذكورة وأنوثة، وأيضا الظاهر أن الانقسام المذكور بحسب الطبيعة والتأثير والتأثر ولا يكاد بعرف انقلاب الحقيقة والطبيعة بحسب الموضع والقرب والبعد، ومنه يعلم فساد ما قالوا: إن القمر من أول ما يهل إلى وقت انتصافه الأول في الضوء يكون فاعلا للرطوبة خاصة ومن ذلك إلى وقت الامتلاء يكون فاعلا للحرارة ومنه إلى وقت الانتصاف الثاني في الضوء يكون فاعلا لليبس ومن ذلك إلى وقت خفائه يكون فاعلا للبرودة وقاسوا ذلك على تأثيرات الشمس في الفصول والفرق مثل الشمس ظاهر، ويلزم عليه كون الشهر الواحد ذا فصول والحس يدفعه، وأيضا كلامهم هذا يخالف ما قالوه من أن قوة القمر الترطيب لقرب فلكه من الأرض وقبوله للبخارات الرطبة التي ترتفع منها إليه، ثم إن هذا القول باطل في نفسه لما أنه يلزم عليه ازدياد رطوبة القمر في كل يوم لو سلم تصاعد البخارات الرطبة إليه وتأثره منها، كذا القول بأن قوة زحل أن يبرد ويجفف تجفيفا يسيرا لبعده عن حرارة الشمس والبخارات الرطبة، وإن قوة المريخ مجففة محرقة لمشاكلة لونه لون النار ولقربه من الشمس، وكوكب الدب الأكبر كالمريخ، وإن عطاردا معتدل في التجفيف والترطيب لأنه لا يبعد عن الشمس بعدا كثيرا ولا وضعه فوق كرة القمر. ومن العجائب استدلال فضلائهم على اختلاف طبائع الكواكب باختلاف ألوانها حيث قالوا: لما كان لون زحل الغبرة والكمودة حكمنا بأنه على طبع السوداء وهو البرد واليبس فإن لها من الألوان الغبرة، ولما كان لون المريخ كلون النار قلنا طبعه حار يابس والحرارة واليبس في الشمس ظاهرتان، ولما كان لون الزهرة كالمركب من البياض والصفرة والبياض أظهر فيها قلنا طبعها البرودة والرطوبة كالبلغم، ولما كان صفرة المشتري أكثر مما في الزهرة كانت سخونته أكثر من سخونة الزهرة وكان في غاية الاعتدال، وأما القمر فهو أبيض وفيه كمودة فيدل بياضه على البرودة.
وأما عطارد فتختلف ألوانه فربما رأيناه أخضر وربما رأيناه أغبر وربما رأيناه على خلاف هذين اللونين وذلك في أوقات مختلفة مع كونه من الأفق على ارتفاع واحد فلا جرم يكون له طبائع مختلفة إلا أنا لما وجدناه في الأغلب أغبر كالأرض قلنا هو مثلها في الطبع، ويرد عليه أن المشاركة في بعض الصفات لا تقتضي المشاركة في الطبيعة ولا في صفة أخرى، وأن دلالة مجرد اللون على الطبيعة ضعيفة جدا لاشتراك الكثير في لون مع اختلاف الطبائع، وأيضا الزرقة أظهر في الزهرة واختلاف ألوان عطارد لأنّا نراه قريب الأفق فيكون بيننا وبينه بخارات مختلفة، وقال أبو معشر: إن القمر لا ينسب لونه إلى البياض إلا من عدم قوة الحس البصري وفيه بعد ما فيه ولو سلم جميع ما قالوه من اختلاف طبائع البروج والكواكب بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فقصارى ما يترتب على ذلك ما نجده من اختلاف الأقاليم حرارة وبرودة مثلا واختلاف أشجارها وأثمارها واختلاف أجسام أهلها وألوانهم واختلاف حيواناتها إلى غير
101
ذلك من الاختلافات، ومع هذا نقول: إن الكواكب جزء السبب في ذلك لكن من أين لهم القول بأن جميع الحوادث في هذا العالم خيرها وشرها وصلاحها وفسادها وجميع أشخاصه وأنواعه وصوره وقواه ومدد بقاء أشخاصه وجميع أحوالها العارضة لها وتكوّن الجنين ومدة لبثه في بطن أمه وخروجه إلى الدنيا وعمره ورزقه وشقاوته وحسنه وقبحه وأخلاقه وحذقه وبلادته وجهله وعلمه إلى ما لا يحصى من أحواله وانقسام الحيوان إلى الطير وأصنافه وإلى الحيوان البحري وأنواعه والبري وأقسامه واختلاف صور الحيوانات وأفعالها وأخلاقها وثبوت العداوة بين أفراد نوع وأفراد نوع آخر منها كالذئاب والغنم وثبوت الصداقة كذلك وكذا ثبوت العداوة أو الصداقة بين أفراد النوع الواحد إلى غير ذلك مما يكون في العالم لا يكون إلا بتأثير الكواكب وهو مما لا يكاد يصح لأن طريق صحته إما الخبر الصادق أو الحس الذي يشترك فيه الناس أو ضرورة العقل أو نظره وشيء من هذا كله غير موجود، ولا يمكن الأحكاميين أن يدعوا واحدا من الثلاثة الأول وغايتهم أن يدعوا أن التجربة قادتهم إلى ذلك، ولا شك أن أقل ما لا بد منه فيها أن يحصل ذلك الشيء على حالة واحدة مرتين والوضع المعين لمجموع الكواكب لا يتكرر أصلا أو يتكرر بعد ألوف ألوف من السنين وعمر الإنسان الواحد بل عمر البشر لا تفي به. وزعم بعضهم لذلك أن مجموع الاتصالات ونسب الكواكب بعضها إلى بعض غير شرط في التأثير لتتوقف التجربة على تكراره بل يكفي بعض الاتصالات وقد يكفي واحد منها وذلك يتكرر في أزمنة قليلة فتتأتى التجربة، مثلا رداءة السفر وقد نزل القمر برج العقرب يستند إلى هذا النزول بالتجربة فإنا وجدنا تكرر ذلك وترتب الرداءة عليه كل مرة وهذا هو التجربة وكذا يقال في نظائره، وأنت تعلم أن التجارب التي دلت على كذب ما يقولون بوقوع خلافه أضعاف التجارب التي دلت على صدقه، فقد أجمع حذّاقهم سنة سبع وثلاثين عام خروج علي كرم الله تعالى وجهه إلى صفين على أنه يقتل ويقهر جيشه فانتصر على أهل الشام ولم يقدروا على التخلص إلا بالحيلة، وإن لم يسلم هذا الإجماع فإجماعهم على مثل في خروجه كرم الله تعالى وجهه لحرب الخوارج حيث كان القمر في العقرب وقوله رضي الله تعالى عنه: نخرج ثقة بالله تعالى وتوكلا عليه سبحانه وتكذيبا لقول المنجم، ونصرته الخارجة عن القياس مما شاع وذاع ولو قيل بتواتره لم يبعد، وأجمعوا سنة ست وستين على غلبة عبيد الله بن زياد وقد سار بنحو من ثمانين ألف مقاتل على المختار بن أبي عبيد فلقيه إبراهيم بن الأشتر صاحب المختار بأرض نصيبين فيما دون سبعة آلاف مقاتل فقتل من عسكره نحوا من ثلاثة وسبعين ألفا وضربه وهو لا يعرفه فقتله ولم يقتل من أصحابه أكثر من مائة.
وأجمعوا يوم أسست بغداد سنة ست وأربعين ومائة على أن طالعها يقضي بأنه لا يموت فيها خليفة وشاع ذلك حتى قال بعض شعراء المنصور مهنئا له:
يهنيك منها بلدة تقضى لنا ان الممات بها عليك حرام
لما قضت أحكام طالع وقتها أن لا يرى فيها يموت إمام
فأول ما ظهر كذب ذلك بقتل الأمين بشارع باب الأنبار فقال بعض الشعراء:
كذب المنجم في مقالته التي كان ادعاها في بنا بغدان
قتل الأمين بها لعمري يقتضي تكذيبهم في سائر الحسبان
ثم مات فيها جماعة من الخلفاء كالواثق والمتوكل والمعتضد والناصر وغيرهم إلى أمور أخر لا تكاد تحصى أجمعوا فيها على حكم وتبين كذبهم فيه، على أنه قد يقال لهم: المؤثر في السعود والنحوس ونحوهما هل هو الكوكب وحده أو البرج وحده أو الكوكب بشرط حصوله في البرج؟ فإن قالوا بأحد الأمرين الأولين لزمهم دوام الأثر
102
لدوام المؤثر، وإن قالوا بالثالث لزمهم القول باختلاف البروج في الطبيعة وإلا لا تحدت آثار الكوكب فيها وكلهم مجموعون على أن الفلك بسيط لا تركيب فيه، والتزام التركيب من طبائع مختلفة ينافي قولهم بامتناع الانحلال.
وزعم بعضهم أنها تفعل ما تفعل بالاختيار يستدعي إلغاء أمر الاتصال والانفصال والمقارنة والهبوط ونحو ذلك وكون ما ذكر شرطا للاختيار لا يخفى حاله، والقول بأنها تستدعي من حيث طبيعة أشعتها التسخين والتبريد وهما يوجبان اختلاف أمزجة الأبدان واختلافها يوجب اختلاف أفعال النفس يرد عليه أنا نرى التسخين مثلا يقتضي حرارة وحدة في المزاج يفعل بها شخص غاية الخير والأفعال الحميدة وآخر غاية الشر والأفعال الخبيثة فلا بد لهذا الاختلاف من موجب غير التسخين، وأيضا هم يقولون: جميع الحوادث الكونية مستند إلى الكواكب وحديث التسخين والتبريد واستلزامهما اختلاف أفعال النفس لا يتم به هذا الغرض، وذكر الإمام الرازي عليه الرحمة أن المثبتين لعلم الأحكام والتأثيرات أي من الإسلاميين احتجوا من كتاب الله تعالى بآيات وهي أنواع، الأول الآيات الدالة على تعظيم الكواكب فمنها قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير: ١٥، ١٦] وأكثر المفسرين على أن المراد هو الكواكب التي تصير راجعة تارة ومستقيمة أخرى، ومنها قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة: ٧٥، ٧٦] وقد صرح سبحانه بتعظيم هذا القسم وذلك يدل على غاية جلالة مواقع النجوم ونهاية شرفها، ومنها قوله تعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطارق: ١، ٣] قال ابن عباس:
الثاقب هو زحل لأنه يثقب بنوره سمك السماوات السبع، ومنها قوله تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: ٥٤] فقد بيّن سبحانه إلهيته بكون هذه الكواكب تحت تدبيره وتسخيره، النوع الثاني ما يدل على وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كقوله سبحانه فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت: ١٦] النوع الثالث الآيات الدالة على أن لها تأثيرا في هذا العالم كقوله تعالى فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: ٥] وقوله تعالى فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذاريات: ٤] قال بعضهم المراد هذه الكواكب.
الرابع الآيات الدالة على أنه تعالى جعل حركات هذه الأجرام وخلقها على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم كقوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يونس: ٥] وقوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان: ٦١].
النوع الخامس أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تمسك بعلم النجوم فقال سبحانه فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [يونس: ٥] السادس أنه تعالى قال لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر: ٥٧] ولا يكون المراد كبر الجثة لأن كل أحد يعلمه فوجب أن يكون المراد كبر القدر والشرف، وقال سبحانه وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران: ١٩١] ولا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها ليستدل بتركيبها وتأليفها على وجود الصانع لأن هذا القدر حاصل في تركيب البعوضة ودلالة حصول الحياة في بنية الحيوانات على وجود الصانع أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلكية عليه لأن الحياة لا يقدر عليها غيره تعالى وجنس التركيب يقدر عليه الغير فلما خصها سبحانه وتعالى بهذا التشريف المستفاد من قوله تعالى رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا علمنا أن في تخليقها أسرارا عالية وحكما بالغة تتقاصر عقول البشر عن إدراكها، ويقرب من هذه الآية قوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ
103
ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: ٢٧] ولا يمكن أن يكون المراد أنه تعالى خلقها على وجه يمكن الاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم لأن كونها دالة على الافتقار إلى الصانع أمر ثابت لها لذاتها لأن كل متحيز محدث وكل محدث مفتقر إلى الفاعل فثبت أن دلالة المتحيزات على وجود الفاعل أمر ثابت لها لذواتها وأعيانها وما كان كذلك لم يكن سبب الفعل والجعل فلم يمكن حمل الآية على هذا الوجه فوجب حملها على الوجه الذي ذكر.
النوع السابع روي أن عمر بن الخيام كان يقرأ كتاب المجسطي على أستاذه فدخل عليهم واحد من المتفقهة فقال: ما تقومون؟ فقال عمر: نحن في تفسير آية من كتاب الله تعالى أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: ٦] فنحن ننظر كيف خلق السماء وكيف بناها وكيف صانها عن الفروج.
الثامن أن إبراهيم عليه السلام لما استدل على إثبات الصانع بقوله تعالى رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:
٢٥٨] قال له نمرود أتدعي أنه يحيي ويميت بواسطة الطبائع والعناصر أو لا بواسطتها فإن ادعيت الأول فذلك مما لا تجده البتة لأن كل ما يحدث في هذا العالم فهو بواسطة العناصر والحركات الفلكية وإن ادعيت الثاني فمثل هذا الإحياء والإماتة حاصل مني ومن كل أحد وهو المراد بقوله أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: ٢٥٨] ثم إن إبراهيم عليه السلام لم ينازع في كون هذه الحوادث السفلية مرتبطة بالحركات الفلكية بل أجاب بأن الله تعالى هو المبدأ لتلك الحركات فيكون الفعل منه سبحانه حقيقة والواحد منا لا يقدر على تحريك الأفلاك على خلاف التحريك الإلهي وهذا هو المراد بقوله فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة: ٢٥٨] وإذا عرفت نهج الكلام في هذا الباب عرفت أن القرآن العظيم مملوء من تعظيم الأجرام الفلكية وتشريف الكرات الكوكبية، وأما الأخبار فكثيرة منها ما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن استقبال الشمس والقمر واستدبارهما عند قضاء الحاجة، ومنها أنه
لما مات ولده صلّى الله عليه وسلم إبراهيم انكسفت الشمس فقال الناس: إنما انكسفت لموت إبراهيم فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة»
ومنها ما
روى ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا»
ومن الناس من يروي أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تسافروا والقمر في العقرب»
ومنهم من يرويه عن علي كرم الله تعالى وجهه وإن كان المحدثون لا يقبلونه، وأما الآثار فكثيرة أيضا
فعن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا أتاه آخر الشهر فقال: أريد الخروج في تجارة فقال: تريد أن يمحق الله تعالى تجارتك استقبل هلال الشهر بالخروج.
وعن عكرمة أن يهوديا منجما قال له ابن عباس: ويحك تخبر الناس بما لا تدري فقال: إن لك ابنا في المكتب يحم غدا ويموت في اليوم العاشر فقال ابن عباس: ومتى تموت أنت؟ قال: على رأس السنة ثم قال له: ولا تموت أنت حتى تعمى فكان كل ذلك. وعن الشعبي قال: «قال أبو الدرداء لقد فارق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتركنا ولا طائر يطير بجناحيه إلا ونحن ندعي فيه علما» وليست الكواكب موكلة بالفساد والصلاح ولكن فيها دليل بعض الحوادث عرف ذلك بالتجربة، وجاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم عليه السلام وذلك أنه عاش حتى أدرك من ذريته أربعين ألف أهل بيت وتفرقوا عنه في الأرض وكان يغتم لخفاء خبرهم فأكرمه الله تعالى بهذا العلم فكان إذا أراد أن يعرف حال أحدهم نظر في النجوم فعرفه.
وعن ميمون بن مهران أنه قال: إياكم والتكذيب بالنجوم فإنه من علم النبوة، وروي عن الشافعي أنه كان عالما بالنجوم، وجاء لبعض جيرانه ولد فحكم له بأن هذا الولد ينبغي أن يكون على عضوه الفلاني خال صفته كذا وكذا فوجد الأمر كما قال، وروى ابن إسحاق أن المنجمين أخبروا فرعون أنه سيجيء ولد من بني إسرائيل يكون هلاكه على
104
يده. وكذا كان كما قص الله تعالى يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ [القصص: ٤] وأما المعقول فهو أن هذا العلم ما خلت عنه ملة من الملل ولا أمه من الأمم ولم يزالوا مشتغلين به معولين عليه في معرفة المصالح، ولو كان فاسدا بالكلية لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه، والتجارب في هذا الباب أكثر من أن تحصى اه كلامه.
ولعمري لقد نثر الكنانة ونفض الجعبة واستفرغ الوسع وبذل الجهد وروج وبهرج وقعقع وفرقع ومن غير طحن جعجع وجمع بين ما يعلم بالضرورة أنه كذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وما يعلم بالضرورة أنه خطأ في تأويل كلام الله تعالى ومعرفة مراده سبحانه، ولا يروج ما ذكره إلا على مفرط في الجهل أو مقلد لأهل الباطل من المنجمين وإن أردت الإيضاح وأحببت الاتضاح فاسمع لما نقول: ما ذكره من الاستدلالات أو هي من بيوت العناكب وأشبه شيء بناء الحباحب فأما الاستدلال بقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير: ١٥، ١٦] ففيه إنا لا نسلم إن هناك قسما بالنجوم فقد روي عن ابن مسعود أن المراد بالخنس بقر الوحش وهي رواية عن ابن عباس واختاره ابن جبير، وحكى الماوردي أنها الملائكة، وإذا سلم ذلك بناء على أنه الذي ذهب إليه الجمهور فأي دلالة فيه على التأثير وقد أقسم سبحانه بالليل والنهار والضحى ومكة والوالد وما ولد والفجر وليال عشر والشفع والوتر والسماء والأرض واليوم الموعود وشاهد ومشهود والمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والنازعات والناشطات والسابحات والسابقات والتين والزيتون وطور سينين إلى غير ذلك فلو كان الإقسام بشيء دليلا على تأثيره لزم أن يكون جميع ما أقسم به تعالى مؤثرا وهم لا يقولون به وإن لم يكن دليلا فالاستدلال به باطل، ومثله في ذلك الاستدلال بقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: ٧٢] وقد فسر غير واحد مواقع النجوم بمنازل القرآن ونجومه التي نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلم في مدة ثلاث وعشرين سنة، وكذا الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ [الطارق: ١].
وأما قوله تعالى فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: ٥] فلم يقل أحد من الصحابة والتابعين وعلماء التفسير أنه إقسام بالنجوم فهذا ابن عباس وعطاء وعبد الرحمن بن سابط وابن قتيبة وغيرهم قالوا: إن المراد بالمدبرات أمرا الملائكة حتى قال ابن عطية: لا أحفظ خلافا في ذلك، وكذلك فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذاريات: ٤] فتفسيرهما بالنجوم تفسير المنجمين ومن سلك سبيلهم وهو تفسير بالرأي والعياذ بالله تعالى، وأما وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كما في الآية التي ذكرها فليس ذلك لتأثير الكواكب ونحوستها بحسب ما يزعم المنجم بل لأن الله تعالى عذب أعداءه فيها فهي أيام مشاتيم على الأعداء فوصف تلك الأيام بنحسات كوصف يوم القيامة بأنه عسير على الكافرين.
وكذا يقال في قوله تعالى فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر: ١٩] وليس مُسْتَمِرٍّ فيه صفة يَوْمِ بل هو صفة نَحْسٍ أي نحس دائم لا يقلع عنهم كما تقلع مصائب الدنيا عن أهلها، والقول بأنه صفة يَوْمِ وإن المراد به يوم أربعاء آخر الشهر وإنه نحس أبدا غلط ولا يكاد المنجم يزعم نحوسة يوم أربعاء آخر الشهر ولو شهر صفر أبدا بل كثيرا ما يحكم بغاية سعده حسبما تقتضيه الأوضاع الفلكية فيه بزعمه.
وأما استدلاله بالآيات الدالة على أنه سبحانه وضع حركات هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم فمن الطرائف إذ الأليق لو صح زعم المنجم أن يذكر في الآية ما يقتضيه النجوم من السعد والنحس وتعطيه من السعادة والشقاوة وتهبه من الأعمار والأرزاق والعلوم والمعارف وسائر ما في العالم من الخير والشر فإن العبرة بذلك
105
أعظم من العبرة بمجرد الضياء والنور ومعرفة عدد السنين والحساب، وأما ما ذكر عن إبراهيم عليه السلام من أنه تمسك بعلم النجوم حين قال إِنِّي سَقِيمٌ فسقيم جدا وقد سمعت ما قيل في الآية، ولا ينبغي أن يظن بإمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وخليل رب الأرض والسماء أنه كان يتعاطى علم النجوم ويأخذ منه أحكام الحوادث ولو فتح هذا الباب على الأنبياء عليهم السلام لاحتمل أن يكون جميع أخبارهم عن المستقبلات من أوضاع النجوم لا من الوحي وهو كما ترى، وأما الاستدلال بقوله تعالى لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: ٥٧] وإن المراد به كبر القدر والشرف لأكبر الجثة ففي غاية الفساد فإن المراد من الخلق هاهنا الفعل لا المفعول، والآية للدلالة على المعاد.
أي إن الذي خلق السماوات والأرض وخلقهما أكبر من خلقكم كيف يعجزه أن يعيدكم بعد الموت، ونظيرها قوله تعالى أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: ٨١] وأين هذا من بحث أحكام النجوم وتأثيراتها، ومثل هذا الاستدلال بقوله تعالى وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران: ١٩١] فإن خلق السماوات والأرض من أعظم الأدلة على وجود فاطرهما وكمال قدرته وحكمته وعلمه وانفراده بالربوبية ومن سوى بينهما وبين البقة فقد كابر، ولذا ترى الأشياء الضعيفة كالبعوضة والذباب والعنكبوت إنما تذكر في سياق ضرب الأمثال مبالغة في الاحتقار والضعف ولا تذكر في سياق الاستدلال على عظمة ذي الجلال جل شأنه، على أن الآية لو دلت على أن للكواكب تأثيرا لدلت على أن للأرض تأثيرا أيضا كالكواكب وهم لم يقولوا به، وما ذكره بعد من أن دلالة حصول الحياة في أبدان الحيوانات أقوى من دلالة السماوات والأرض إلى آخر ما قال في حيز المنع، ونظير ذلك الاستدلال بقوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: ٢٧] فإنه لا يدل أيضا على أن للكواكب تأثيرا، وغاية ما تدل عليه هذه الآية ونظائرها أن تلك المخلوقات فيها حكم ومصالح وليست باطلة أي خالية عن ذلك، ونحن نقول بما تدل عليه ولكن لا نقول بأن تلك الحكم هي الإسعاد والإشقاء وهبة الأعمار والأرزاق إلى غير ذلك مما يزعمه المنجمون بل هي الآثار الظاهرة في عالم الطبيعة على ما سمعت ونحوها كالدلالة على وجود الصانع وكثير من صفاته جل شأنه التي ينكرها الكفرة ولا مانع من أن يقال خلق الله تعالى كذا لتظهر دلالته على كذا، ولا تتعين العبارة التي ذكرها على أنه لا بأس بها عند تدقيق النظر، ولعل ما قاله من فروع كون الماهيات غير مجعولة والكلام فيه شهير، وأما ما ذكره عن عمر بن الخيام فهو على طرف التمام، وأما ما ذكره في محاجة إبراهيم عليه السلام وتقرير المناظرة على ما قرره فلم يقل به أحد من المفسرين سلفهم وخلفهم بل قد يقطع بأنه لم يخطر بقلب المشرك الناظر وما هو إلا تفسير بالرأي والتشهي نعوذ بالله تعالى من ذلك، وأما استدلاله بما روي من نهيه عليه الصلاة والسلام عن استقبال الشمس والقمر عند قضاء الحاجة فبعيد عن حاجته بل لا دلالة للنهي المذكور على تأثير الكواكب الذي يزعمونه وإلا لدل النهي عن استقبال الكعبة عند قضاء الحاجة على أن لها تأثيرا، على أن بعض الأجلّة (١) قد ذكر أن ذلك النهي لم ينقل فيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلمة واحدة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا متصل ولا مرسل وإنما قال بعض الفقهاء في آداب التخلي ولا يستقبل الشمس والقمر فقيل لأن ذلك أبلغ في التستر، وقيل: لأن نورهما من نوره تعالى، وقيل: لأن اسم الله تعالى مكتوب عليهما.
وأما ما ذكر من حديث كسوف الشمس يوم موت إبراهيم وقوله عليه الصلاة والسلام ما قال فصحيح لكن لا يدل على ما يزعمه المنجمون، وصدر الحديث يدل على أن الشمس والقمر آيتان وليسا بربين ولا إلهين ففيه إشارة إلى
(١) هو ابن القيم اه منه.
106
نفي التصرف عنهما، وفي قوله عليه الصلاة والسلام لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته قولان، أحدهما أن موت أحد وحياته لا يكونان سببا لانكسافهما، وثانيهما أنه لا يحصل عن انكسافهما موت ولا حياة وإنما ذلك تخويف من الله تعالى لعباده أجرى العادة بحصوله في أوقات معلومة بالحساب لطلوع الهلال وإبداره وسراره، فأما سبب كسوف الشمس فتوسط القمر بين جرم الشمس وأبصارنا كسحابة تمر تحتها فإن لم يكن للقمر عرض ستر عنا كل الشمس وإن كان له عرض فبقدر ما يوجبه عرضه، وأما سبب خسوف القمر فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير ممنوعا من اكتساب النور من الشمس ويبقى ظلام ظل الأرض المخروط في ممره فقد يقع كله في المخروط وقد يقع بعضه فيه ويبقى بعضه الآخر خارجا إلى آخر ما قرر في موضعه وليس في الشرع ما يأباه والوقوف على وقت الكسوف والخسوف ومقدارهما أمر سهل ولا يلزم من صدق المنجم في ذلك صدقه فيما يزعم من التأثيرات وما الإخبار بهما إلا كالإخبار بوقت طلوع الشمس في يوم كذا في ساعة كذا وكالإخبار بوقت الهلال والإبدار والسرار، ثم إنّا لا ننكر أن الله تعالى يحدث عند الكسوفين من أقضيته وأقداره ما يكون بلاء لقوم ومصيبة لهم ويجعل الكسوف سببا لذلك ولهذا أمر صلّى الله عليه وسلم عند الكسوف بالفزع إلى ذكر الله تعالى والصلاة والعتاقة والصدقة لأن هذه الأشياء تكون سببا لدفع موجب الكسف الذي جعله الله تعالى سببا لما جعله فلولا انعقاد سبب التخويف لما أمر عليه الصلاة والسلام بدفع موجبه بهذه العبادات، ولله تعالى في أيام دهره أوقات يحدث فيها ما يشاء من البلاء والنعماء ويقضي من الأسباب بما يدفع موجب تلك الأسباب لمن قامت به أو يقلله أو يخففه فمن فزع إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفع عنه الشر الذي جعل الله تعالى الكسوف سببا له أو بعضه، ولهذا قل ما يسلم أطراف الأرض حيث يخفي الإيمان وما جاءت به الرسل فيها من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف ويسلم منه الأماكن التي يظهر فيها نور النبوة والقيام بما جاءت به الرسل أو يقل فيها جدا.
وقد جاء أنه صلّى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس في عهده قام فزعا مسرعا يجر رداءه ونادى في الناس الصلاة جامعة وخطبهم بتلك الخطبة البليغة
وأخبر أنه لم ير كيومه ذلك في الخير والشر وأمرهم عند حصول مثل تلك الحالة بالعتاقة والصدقة والصلاة والتوبة وما ذلك إلا لكونه عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بالله تعالى وبأمره وشأنه وتصريفه أمور مخلوقاته وتدبيره وأنصحهم للأمة وأشفقهم على العباد ولم يبين لهم عليه الصلاة والسلام أسباب الكسوفين وحسابهما لأن الجهل بذلك لا يضر والعلم به لا ينفع نفع العلم بما جاءت به الرسل عليهم السلام.
وقد يقال: الأمور بالصلاة عندهما كالأمر بالصلاة عند طلوع الفجر والغروب والزوال مع تضمن ذلك رفع موجبهما الذي جعلهما الله تعالى سببا له، ومن الناس من أنكر أن يكون الكسوفان سببين لشيء من البلاء أصلا وأن سبب حصولهما ليس ما أطال الكلام فيه المنجمون ومر بعضه بل السبب هو تجلي الله تعالى عليهما لما
أخرجه ابن ماجة في سننه. والإمام أحمد والنسائي من حديث النعمان بن بشير قال: انكسفت الشمس على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم فخرج فزعا يجر ثوبه حتى أتى المسجد فلم يزل يصلي حتى انجلت ثم قال: إن ناسا يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له
وأن الأمر بالصلاة لظهور آثار تجلي الجلال في هذين الجرمين العظيمين أو هو كالأمر بالصلاة عند غروب الشمس وطلوع الفجر مثلا وحكمته كحكمته والقائلون بهذا مكابرون للفلاسفة في أشياء لا ينبغي المكابرة فيها ولعلها تضر بالدين وتصير سببا لطعن الملحدين فيكابرون في كون الأفلاك مستديرة والأرض كرية وأن نور القمر مستفاد من ضياء الشمس وأن الكسوف القمري عبارة عن انمحاء نور القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث
107
إن نوره مقتبس منها وأن الكسوف الشمسي عبارة عن وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة وقولهم بتأثير الأسباب المحسوسة في مسبباتها وإثبات القوى والطبائع والأفعال والانفعالات إلى غير ذلك مما تقوم عليه الأدلة اليقينية ولا تعارضه النصوص الشرعية القطعية، وما ذكروه من الحديث تعقبه حجة الإسلام الغزالي فقال: إن زيادة فإن الله إلخ لم يصح نقلا فيجب تكذيب قائلها ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية فكم من ظواهر أوّلت بالأدلة العقلية التي لم تبلغ في الوضوح إلى هذا الحد وأعظم ما يفرح به الملحدة أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خلاف الشرع فيسهل عليه إبطال الشرع إن كان شرطه أمثال ذلك اه وليس الأمر في هذه كما قال من عدم الصحة فإن إسنادها لا مطعن فيه، فابن ماجة يروي الحديث بهذه الزيادة عن محمد بن المثنى وأحمد بن ثابت وحميد بن الحسن وهم يروونه عن عبد الوهاب عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير وكل هؤلاء ثقات حفاظ نعم الحديث الخالي عنها رواه بضعة عشر صحابيا منهم علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعائشة وأسماء أختها وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وسمرة بن جندب وقبيصة الهلالي وعبد الله بن عمرو ومن هنا خاف بعض الأجلة أن تكون مدرجة في الحديث لكنه خلاف الظاهر وحينئذ يقال: إن كسوف الشمس والقمر يوجب لهما ضعف سلطاتهما وبهائهما وذلك يوجب لهما من الخشوع والخضوع لرب العالمين وعظمته وجلاله سبحانه ما يكون سببا لتجليه عز وجل لهما، ولا يستنكر أن يكون تجلي الله سبحانه لهما في وقت معين كما يدنو سبحانه من أهل الموقف عشية عرفة وكما ينزل تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا عند مضي نصف الليل فيحدث لهما ذلك التجلي خشوعا آخر ليس هو الكسوف فإنه إنما حدث بالسبب الذي عرفت ولم يقل النبي صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى إذا تجلى لهما انكسفا بل قال فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له.
وفي رواية الإمام أحمد «إذا بدا الله لشيء من خلقه خشع له»
فهاهنا خشوعان خشوع أوجبه كسوفهما الحادث من وضعهما الخاص وخشوع أوجبه تجليه تعالى لهما لذلك الخشوع الذي أوجبه الكسوف. وهذا توجيه لطيف المنزع يقبله العقل المستقيم والفطرة السليمة إن شاء الله تعالى. وأما استدلاله بحديث ابن مسعود ففيه على ما قيل أن الحديث لو ثبت لكان حجة عليه لا له إذ لو كان علم النجوم حقا لم يأمر صلّى الله عليه وسلم بالإمساك عند ذكر النجوم فالظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك إلا لأن الخوض في ذلك خوض فيما لا علم للخائض به فتأمل.
وأما حديث النهي عن السفر والقمر في العقرب فصحيح من كلام المنجمين دون رسول رب العالمين صلّى الله عليه وسلم، وروايته عن علي كرم الله تعالى وجهه كذب أيضا والمشهور عنه خلاف ذلك كما سمعت في قصة خروجه لقتال الخوارج، وأما ما احتج به من الأثر عن علي كرم تعالى وجهه أن رجلا أتاه إلخ فلا يعلم ثبوته عنه رضي الله تعالى عنه، والكذابون كثيرا ما ينفقون سلعهم الباطلة بنسبتها إليه أو إلى أهل بيته، ثم لو صح عنه فليس فيه تعرض لثبوت أحكام النجوم بوجه،
وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «اللهم بارك لأمتي في بكورها»
ونسبة أول الشهر إليه كنسبة أول النهار إليه، وكان صخر راوي الحديث إذا بعث تجارة له بعثها في أول النهار فأثرى وكثر ماله ولا يبعد أن يكون أول السنة كأول النهار أيضا فللأوائل مزية القوة كما هو مشاهد في الشباب والشيخوخة، ولله تعالى تجليات في الأزمنة والأمكنة والأشخاص وليس ذلك من تأثير الكواكب في شيء، ومثل هذا يقال فيما ذكره الكرماني وقد مر، ما ذكره عن اليهودي الذي أخبر ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلا نسلم صحته، وإن سلم ذلك فهو من جنس إخبار الكهان بشيء من المغيبات،
وقد أخبر ابن الصياد النبي صلّى الله عليه وسلم بما أخبر فقال عليه الصلاة والسلام له «إنما أنت من إخوان الكهان»
وعلم مقدمة المعرفة لا يختص بما ذكره المنجمون بل له عدة أسباب يصدق الحكم معها ويكذب منها
108
الكهانة ومنها المنامات ومنها الفأل والزجر وضرب الحصى والخط والكتف والكشف المستند إلى الرياضة وهو كشف جزئي عن بعض الحوادث ويشترك فيه المؤمن والكافر ومنها غير ذلك، وللعمال في البحر والسعاة ونحوهم في البر علامات يعرفون بها أوقات المطر والصحو والبرد والريح وغيرها وقلما يخطئون في أخبارهم بل صوابهم في ذلك أكثر من صواب المنجم.
وأما ما ذكره من حديث أبي الدرداء فالمحفوظ فيه «توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتركنا وما طائر يقلب جناحيه إلا وقد ذكر لنا منه علما» وفيه روايات أخر صحيحة أيضا وكلها ليس فيها وليست الكواكب إلخ فهو من أعظم الأدلة على بطلان دعوى المنجمين إذ لم يذكر عليه الصلاة والسلام من أحكام النجوم شيئا البتة وقد علمهم علم كل شيء حتى الخرأة، وأما قوله إنه جاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم عليه السلام إلخ فكذب وافتراء على آدم عليه السلام، وقد عمل هذا الكاذب المفتري بالمثل السائر إذا كذبت فأبعد شاهدك، ونحوه ما روي عن ميمون بن مهران.
وأما ما نسب إلى الشافعي فهو بعض من حكاية ذكرها أبو عبد الله الحاكم فيما ألفه في مناقبه والحكايات التي ذكرت عنه في أحكام النجوم ثلاث. إحداها قال الحاكم: قرىء على أبي يعلى حمزة بن محمد العلوي وأكثر ظني أني حضرته ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن العباس الأزدي في آخرين قالوا ثنا محمد بن أبي يعقوب الجوال الدينوري ثنا عبد الله بن محمد البلوي حدثني خالي عمارة بن زيد قال: كنت صديقا لمحمد بن الحسن فدخلت معه يوما على هارون الرشيد فسأله ثم إني سمعت محمد بن الحسن وهو يقول: إن محمد بن إدريس يزعم أنه للخلافة أهل قال فاستشاط هارون من قوله غضبا ثم قال: علي به فلما مثل بين يديه أطرق ساعة ثم رفع رأسه إليه فقال: أيها قال الشافعي: ما أيها أمير المؤمنين أنت الداعي وأنا المدعو وأنت السائل وأنا المجيب فذكر حكاية طويلة سأله فيها عن العلوم ومعرفته بها إلى أن قال: كيف علمك بالنجوم؟ قال: أعرف الفلك الدائر والنجم السائر والقطب الثابت والمائي والناري وما كانت العرب تسميه الأنواء ومنازل النيرين والاستقامة والرجوع والنحوس والسعود وهيئاتها وطبائعها وما أستدل به في بري وبحري وأستدل في أوقات صلاتي وأعرف ما مضى من الأوقات في إمسائي وإصباحي وظعني في أسفاري ثم ساق العلوم على هذا النحو، ومن له علم بالمنقولات يعلم أن هذه الحكاية كذب مختلق وإفك مفترى على الشافعي والبلاء فيها من عند محمد بن عبد الله البلوي فإنه كذاب وضاع وهو الذي وضع رحلة الشافعي وذكر فيها مناظرته لأبي يوسف بحضرة الرشيد ولم ير الشافعي أبا يوسف ولا اجتمع به قط وإنما دخل بغداد بعد موته ويشهد بكذبها أنها تدل على أن محمدا وشى بالشافعي إلى الرشيد وأراد قتله ومحمد أجلّ من أن ينسب إليه ذلك وتعظيمه للشافعي ومحبته إياه هو المعروف كتعظيم الشافعي له وثنائه عليه، وفيها شواهد أخر على الكذب يعرفها العالم بالمنقول إذا اطلع عليها كلها، وثانيتها وهي التي أخذت منها ما ذكرها الإمام، قال الحاكم: أخبرنا أبو الوليد الفقيه قال حدثت عن الحسن بن سفيان عن حرملة: قال: كان الشافعي يديم النظر في كتب النجوم وكان له صديق وعنده جارية قد حبلت فقال: إنها تلد إليّ سبعة وعشرين يوما ويكون في فخذ الولد الأيسر خال أسود ويعيش أربعة وعشرين يوما ثم يموت فكان الأمر كما قال فأحرق بعد ذلك تلك الكتب وما عاود النظر في شيء منها، وهذا الإسناد رجاله ثقات لكن الشأن فيمن حدث أبا الوليد عن الحسن بن سفيان أو فيمن حدث الحسن عن حرملة، ويدل على كذب الحكاية أنها لو صحت لوجب أن تثنى الخناصر على هذا العلم وتشد به الأيدي لا أن تحرق كتبه ولا يعاود النظر في شيء منها، وأن الطالع عند المنجمين طالعان: طالع مسقط النطفة وهو الطالع الأصلي الذي يزعمون دلالته على وقت الولادة والحكاية لم تتضمن أن الشافعي نظر فيه ولو كان لتضمنته وطالع الولادة وأخبار الشافعي قبلها ضرورة أنه قال:
109
إنها تلد إلى سبعة وعشرين يوما، وثالثتها قال الحاكم: أنبأني عبد الرحمن بن الحسن القاضي أن زكريا بن يحيى الساجي حدثهم قال أخبرني أحمد بن محمد ابن بنت الشافعي قال سمعت أبي يقول: كان الشافعي وهو حدث ينظر في النجوم وما نظر في شيء إلا فاق فيه فجلس يوما وامرأة تلد فحسب فقال: تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود وتموت إلى كذا وكذا فولدت فكان كما قال فجعل على نفسه أن لا ينظر فيه أبدا، وأمر هذه الحكاية كالتي قبلها فإن ابن بنت الشافعي لم يلق الشافعي ولا رآه والشأن فيمن حدث بها عنه، وأيضا طالع مسقط النطفة لم يؤخذ والخبر قبل تحقق طالع الولادة، ثم إن تحقق هذه الحكاية إن كان قبل تحقق الحكاية التي قبلها لم تكد تحقق وإن كان تحقق تلك قبل لم تكد هذه تحقق كما لا يخفى على المنصف، والذي صح عن الشافعي في أمر النجوم أنه كان يعرف ما كانت العرب تعرفه من علم المنازل والاهتداء بالنجوم في الطرقات وأما غير ذلك من الأحكام التي يزعمها المنجمون فلا، وكان رضي الله تعالى عنه شديد الإنكار
على المتكلمين مزريا بهم حكمه فيهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل فما تراه يرى في المنجمين الذين شاع هذيانهم وقبح عند ذوي العقول السليمة شأنهم، نعم كانت له رضي الله تعالى عنه اليد الطولى في علم الفراسة وقد خرج إلى اليمن لجمع كتبه فجمع منها ما جمع وله فيها حكايات يقضى منها العجب، ولعل إخباره بأمر المولود لو صح من ذلك العلم والناقل لجهله أو لأمر آخر أسنده للنظر في أحكام النجوم وقال ما قال. وأما ما ذكر عن ابن إسحاق من أن فرعون كان يقتل أبناء بني إسرائيل لإخبار المنجمين إياه بأنه سيولد لهم مولود يكون هلاكه على يده فهو كما قال بعض الأجلة من أخبار أهل الكتاب ومخالف لروايات أكثر المفسرين فإنهم أحالوا ذلك على أخبار الكهان. وروى بعضهم أن قومه أخبروه بأن بني إسرائيل يزعمون أنه يولد منهم مولود يكون هلاكك على يديه وفي أخبار الكهان ما هو أعجب من ذلك. ومنها خبرهم بظهور خاتم الرسل صلّى الله عليه وسلم وانتشار أمره، ونحن لا ننكر علم تقدمة المعرفة بأسباب مفضية إلى مثل ذلك يختلف قوى الناس في إدراكها وتحصيلها وإنما كلامنا مع المنجمين في أصول علم الأحكام وبيان فسادها وكذب أكثر الأحكام التي يسندونها إليها، وأما ما ذكره في الاستدلال بالمعقول من أنه ما خلت عن هذا العلم ملة من الملل ولا أمة من الأمم وأنهم لم يزالوا مشتغلين به معولين في معرفة المصالح عليه إلى آخر ما قال ففرية من غير مرية، ويا عجبا من دعواه إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه وهم يقولون إنما أسست أصوله وأوضاعه في زمن هرمس الهرامسة يعنون به إدريس عليه السلام وهو بعد بناء العالم بكثير، وأيضا قد رده كثير من الفلاسفة وجمع غفير من أساطين الإسلام حتى أنه قد ألف ما يزيده على مائة مصنف في رده وإبطاله، وقد قال أبو نصر الفارابي: اعلم أنك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت الحار باردا والبارد حارا والسعد نحسا والنحس سعدا والذكر أنثى والأنثى ذكرا ثم حكمت لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تارة وتخطىء تارات، وقد زيف أمرهم ابن سينا في كتابيه الشفاء والنجاة، وكذا أبو البركات البغدادي في كتاب التعبير له، هذا ما اختاره بعض المحققين في الرد على المنجمين وأعود فأقول: الذي أراه في هذا المقام ويترجح عندي من كلام العلماء الأعلام أن الله عز وجل لم يخلق شيئا باطلا خاليا عن حكمة ومنفعة بل خلق الأشياء علويها وسفليها جليلها ودنيها مشتملة على حكم لا تحصى ومنافع لا تستقصى وإن تفاوتت في أفرادها قلة وكثرة وخص كلا منها بخاصة لا توجد في غيرها مع اشتراك الكل في الدلالة على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وقدرته:
ولله في كل تحريكة... وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
110
فالأجرام العلوية مشتركة في هذه الدلالة مختص كل منها بخاصة وشأن الكواكب في خواصها وتأثيراتها كشأن النباتات والمعدنيات والحيوانيات في خواصها وتأثيراتها، فمنها ما خاصته في نفسه غير متوقفة على ضم شيء آخر إليه، ومنها ما خاصته متوقفة على ضم شيء آخر، ومنها ما إذا ضم إليه شيء أسقط خاصته، وأبطل منفعته ومنها ما يعقل وجه تأثيره ومنها ما لا يعقل، ومنها ما يؤثر في مكان دون مكان وزمان دون مكان، ومنها ما يؤثر في جميع الأزمنة والأمكنة إلى غير ذلك من الأحوال، وكونها زينة للسماء لا يستدعي نفي أن يكون فيها منفعة أخرى على حد ما في الأرض فقد قال سبحانه: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها [الكهف: ٧] مع اشتمال الأزهار وغيرها على ما تعلم وما لا تعلم من المنافع، وكذلك كونها علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر وكونها رجوما للشياطين. ولا أقول ببساطة الأفلاك ولا ببساطة الكواكب ولا بانحصارها فيما يشاهد ببصر أو رصد ولا بذكورة بعض وأنوثة آخر إلى كثير مما يزعمه المنجمون، وأقول: إن الله تعالى أودع في بعضها تأثيرا حسبما أودع في أزهار الأرض ونحوها وإنها لا تؤثر إلا بإذنه عز وجل كما هو مذهب السلف في سائر الأسباب العادية وإن شئت فقل كما قال الأشاعرة فيها، وأنه لا يبعد أن يكون بعضها علامات لإحداثه تعالى أمورا لا بواسطتها في أحد العالمين العلوي والسفلي يعرفها من يوقفه الله تعالى عليها من ملائكته وخواص عباده، وارتباط كثير من السفليات بالعلويات، مما قال به الأكابر ولا ينكره إلا مكابر، ولا أنسب أثرا من الآثار إلى كوكب بخصوصه على القطع لاحتمال شركة كوكب أو أمر آخر، نعم الظاهر يقتضي كثرة مدخلية بعض الكواكب في بعض الآثار كالقمر في مد البحار وجزرها فإن منها ما يأخذ في الازدياد حين يفارق القمر الشمس إلى وقت الامتلاء ثم إنه يأخذ في الانتقاص ولا يزال نقصانه يستمر بحسب نقصان القمر إلى المحاق ومنها ما يحصل فيه المد في كل يوم وليلة مع طلوع القمر وغروبه كبحر فارس وبحر الهند وبحر الصين، وكيفيته أنه إذا بلغ القمر مشرقا من مشارق البحر ابتدأ البحر بالمد ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وسط سماء ذلك الموضع فإذا زال عن مغرب ذلك الموضع ابتدأ المد من تحت الأرض ولا يزال زائدا إلى أن يصل القمر إلى وتد الأرض فحينئذ ينتهي المد منتهاه ثم يبتدىء الجزر ثانيا ويرجع الماء كما كان، ومثل المد والجزر بحرانات الأمراض فإنها بحسب زيادة القمر ونقصانه على معنى كثرة مدخلية ذلك ظاهرا فيها إلى أمور كثيرة، ولا أقول: إن لكوكب تأثيرا في السعادة والشقاوة ونحوهما، ولا يبعد أن يكون كوكب أو كواكب باعتبار بعض الأحوال علامة لنحو ذلك يعرفها بعض الخواص، ولا وثوق بما قاله الأحكاميون وكل ما يقولونه ظن وتخمين لا دليل لهم عليه وهم فيما أسسوا عليه أحكامهم متناقضون وفي المذاهب مختلفون فللبابليين مذهب وللفرس مذهب ولأهل الهند مذهب ولأهل الصين مذهب وقد رد بعضهم على بعض وشهد بعض على بعض بفساد أصولهم ومبنى أحكامهم فقد كان أوائلهم من الأقدمين وكبار رصادهم من عهد بطليموس وطيموحارس ومانالارس قد حكموا حكما في الكواكب واتفقوا على صحته وأقام الناس على تقليدهم وبناء الأمر على ما قالوه أكثر من سبعمائة سنة فجاء من بعدهم خالد بن عبد الملك المروزي. وحسن صاحب الزيج المأموني ومحمد بن الجهم ويحيى بن أبي منصور فامتحنوا ما قالوا فوجودهم غالطين وأجمعوا على غلطهم وسموا رصدهم الرصد الممتحن. ثم حدثت بعدهم بنحو ستين سنة طائفة أخرى زعيمهم أبو معشر محمد بن جعفر فرد عليهم وبين خطاهم كما ذكره أبو سعيد شاذان المنجم في كتاب أسرار النجوم له وفيه قلت لأبي معشر الذنب بارد يابس فلم قلتم إنه يدل على التأنيث؟ فقال: هكذا قالوا قلت: فقد قالوا إنه ليس بصادق اليبس لكنه بارد عفن ملتوى كل الأعراض الغائية توهم لا يكون شيء منها يقينيا وإنما يكون توهم أقوى من توهم.
ومن تأمل أحوال القوم علم أن ما معهم تفرس يصيبون معه ويخطئون، ثم حدثت بعدهم طائفة أخرى بنحو
111
سبعين سنة منهم أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر المعروف بالصوفي فرد على من قبله وغلطه وألف كتابا بين فيه من الأغلاط ما بين وحمله إلى عضد الدولة ابن بويه فاستحسنه وأجزل ثوابه، ثم جاءت بعد نحو ثلاثين سنة طائفة أخرى منهم كوشيار الديلمي فألف المجمل في الأحكام وجهل فيه من يحتج للأحكام من الأحكاميين، وقال عن صناعة التنجيم: هي صناعة غير مبرهنة وللخواطر والظنون فيها مجال إلى أن قال: ومن المنفردين بعلم الأحكام من يأتي على جزئياته بحجج على سبيل النظر والجدل فيظن أنها براهين لجهله بطريق البرهان وطبيعته، ثم حدثت طائفة أخرى منهم منجم الحاكم بالديار المصرية المعروف بالفكري فوضع هو وأصحابه رصدا آخر سموه الرصد الحاكمي فخالفوا فيه أصحاب الرصد الممتحن وبنوا أمر الأحكام عليه.
ثم حدثت طائفة أخرى منهم أبو الريحان البيروني مؤلف كتاب التفهيم إلى صناعة التنجيم وكان بعد كوشيار بنحو أربعين سنة فخالف من تقدمه وأتى من مناقضاتهم والرد عليهم بما هو دال على فساد صناعتهم وختم كتابه بقوله في الخبء والضمير ما أكثر افتضاح المنجمين فيه وما أكثر إصابة الزاجرين بما يستعمل من الكلام وقت السؤال ويرونه باديا من الآثار والأفعال على السائل إلى آخر ما قال، ثم حدثت طائفة أخرى منهم أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي وكان بعد البيروتي بنحو ثمانين عاما وكان رأسا في الصناعة ومع هذا اعترف بأن قول المنجمين هذيان، ثم حدثت طائفة أخرى بالمغرب منهم أبو إسحاق الزرقال وأصحابه وكان بعد أبي الصلت بنحو مائة سنة فخالف الأوائل والأواخر في الصناعتين الرصدية والأحكامية.
وآخر ما نعلم حدوثه زيج لالنت والقسيني وفيه من المخالفة لما قبله من الأزياج ما فيه. وقد ذكر فيه تقويم هرشل ومقدار حركته وهو كوكب سيار ظفر به هرشل أحد فلاسفة الإفرنج وسماه باسمه ولم يظفر به أحد قبله، وهذا الزيج أضبط الأزياج فيما يزعم المنجمون اليوم، والإفرنج على مهارة كثير منهم بعلم الرصد لا يقولون بشيء مما يقول به الأحكاميون الأوائل والأواخر ويسخرون منهم، وقد ذكر من يوثق به وجوها تدل على فساد ما بأيديهم من العلم وأنه لا يوثق به، الأول أن معرفة جميع المؤثرات الفلكية مما لا تتأتى، أما أولا فلأنه لا سبيل إلى معرفة الكواكب إلا بواسطة القوى الباصرة وإذا كان المرئي صغيرا أو في غاية البعد يتعذر رؤيته فإن أصغر الكواكب التي في فلك الثوابت وهو الذي به قوة البصر مثل كرة الأرض بضعة عشر مرة وكرة الأرض أعظم من كرة عطارد كذا مرة فلو قدرنا أنه حصل في الفلك الأعظم كواكب كثيرة كل منها كعطارد حجما فكيف ترى، ونفي هذا الاحتمال لا بدله من دليل ومع قيامه لا يحصل الجزم بمعرفة جميع المؤثرات، وإن قالوا: جاز ذلك إن أن آثار هذا الكوكب لصغره ضعيفة فلا تصل إلى هذا العالم. قلنا: صغر الجرم لا يوجب ضعف الأثر فقد أثبتم لعطارد آثارا قوية مع صغره بالنسبة إلى سائر السيارات بل أثبتم للرأس والذنب وسهم السعادة وسهم الغيب آثارا قوية وهي أمور وهمية، وأما ثانيا فالمرصود من الكواكب المرئية أقل قليل بالنسبة إلى غير المرصود فمن أين لهم الوقوف على طبيعة غير المرصود؟ وأما ثالثا فلأنه لم يحصل الوقوف على طبائع جميع المرصود أيضا وقلما تكلموا في معرفة غير الثوابت التي من القدر الأول والثاني، وأما رابعا فآلات الرصد لا تفي بضبط الثواني والثوالث فما فوق ولا شك أن الثانية الواحدة مثل الأرض كذا ألف مرة أو أقل أو أكثر، ومع هذا التفاوت العظيم كيف الوصول إلى الغرض وقد قيل إن الإنسان الشديد الجري بين رفعه رجله ووضعه الأخرى يتحرك جرم الفلك الأقصى ثلاثة آلاف ميل فإذا كان كذلك فكيف ضبط هذه المؤثرات؟ وأما خامسا فبتقدير أنهم عرفوا طبائع هذه الكواكب حال بساطتها فهل وقفوا على طبائعها حال امتزاج بعضها ببعض والامتزاجات الحاصلة من طبائع ألف كوكب أو أكثر بحسب الأجزاء الفلكية تبلغ في الكثرة إلى حيث لا يقدر العقل على ضبطها. وأما
112
سادسا فيقال: هب أنا عرفنا تلك الامتزاجات الحاصلة في ذلك فلا ريب أنّه لا يمكننا معرفة الامتزاجات التي كانت حاصلة قبله مع أنا نعلم قطعا أن الأشكال السالفة ربما كانت عائقة ومانعة عن مقتضيات الأشكال الحاصلة في الحال، ولا ريب أنّا نشاهد أشخاصا كثيرة من النبات والحيوان والإنسان تحدث مقارنة لطالع واحد مع أن كل واحد منها مخالف للآخر في أكثر الأمور، وذلك أن الأحوال السابقة في حق كل واحد تكون مخالفة للأحوال السابقة في حق الآخر وذلك يدل على أنه لا اعتماد على مقتضى طالع الوقت بل لا بد من الإحاطة بالطوالع السالفة وذلك مما لا وقوف عليه فإنه ربما كانت تلك الطوالع دافعة مقتضيات هذا الطالع الحاضر، وعلى هذا الوجه عول ابن سينا في كتابيه الشفاء والنجاة في إبطال هذا العلم، الثاني أن تأثير الكواكب يختلف باختلاف أقدارها فما كان من القدر الأول أثر بوقوعه على الدرجة وإن لم تضبط الدقيقة، وما كان من القدر الأخير لم يؤثر إلا بضبط الدقيقة، ولا ريب بجهالة مقادير جميع الكواكب فكيف تضبط الآثار، الثالث فساد أصولهم وتناقض آرائهم واختلافهم اختلافا عظيما من غير دليل ومتى تعارضت الأقوال وتعذر الترجيح فيما بينها لا يعول على شيء منها.
الرابع أن أرصادهم لا تنفك عن نوع خلل وهي مبنى أحكامهم، وقد صنف أبو علي بن الهيثم رسالة بليغة في أقسام الخلل الواقع في آلات الرصد وبين أن ذلك ليس في وسع الإنسان دفعه وإزالته وإصابتهم في أوقات الخسوف والكسوف مع ذلك الخلل لا تستدعي إصابتهم في غيرها معه، الخامس أنا نشاهد عالما كثيرا يقتلون في ساعة واحدة في حرب وخلقا كثيرا يغرقون في ساعة واحدة مع اختلاف طوالعهم واقتضائها أحوالا مختلفة عندكم وهذا يدل على عدم اعتبار ما اعتبرتموه أولا، فإن قلتم: إن الطوالع قد يكون بعضها أقوى من بعض فلعل طالع الوقت أقوى من طالع الأصل فكان الحكم، قلنا: هذا بعينه يبطل عليكم اعتبار طالع المولود فإن الطوالع بعده مختلفة كثيرة ولعل بعضها أقوى منه فلا يفيد اعتباره شيئا، السادس أن العقل لا مساغ له في اقتضاء كوكب معين أو وضع معين تأثيرا خاصا والتجربة على قصورها معارضة بتجربة اقتضت خلافها إلى غير ذلك من من الوجوه، وأبو البركات البغدادي وإن زيف ما هم عليه إلا أنه يقر بقبول بعض الأحكام فإنه قال بعد ذكر شيء من أقوالهم التي لا دليل لهم عليها: وهذه أقوال قالها قائل فقبلها قابل ونقلها ناقل فحسن بها ظن السامع واغتر بها من لا خبرة له ولا قدرة له على النظر ثم حكم بحسبها الحاكمون بجيد ورديء وسلب وإيجاب وسعد ونحوس فصادف بعضه موافقة الوجود فصدق فاغتر به المغترون ولم يلتفتوا إلى كذب فيه بل عذروه وقالوا: هو منجم ما هو نبي حتى يصدق في كل ما يقول واعتذروا له بأن العلم أوسع من أن يحيط به ولو أحاط به لصدق في كل شيء، ولعمر الله تعالى إنه لو أحاط به علما صادقا لصدق والشأن أن يحيط به على الحقيقة لا على أن يفرض فرضا ويتوهم وهما فينقله إلى الوجود ويثبته في الموجود وينسب إليه ويقيس عليه، وبالذي يصح منه ويلتفت إليه العقلاء هي أشياء غير هذه الخرافات التي لا أصل لها مما حصل بتوقيف أو تجربة حقيقية كالقرانات والانتقالات والمقابلة وممر كوكب من المتحيرة تحت كوكب من الثابتة وما يعرض للمتحيرة من رجوع واستقامة ورجوع في شمال وانخفاض في جنوب وغير ذلك، وكأني أريد أن أختصر الكلام هاهنا وأوافق إشارتك وأعمل بحساب اختيارك رسالة في ذلك أذكر ما قيل فيها من علم أحكام النجوم من أصول حقيقية أو مجازية أو وهمية أو غلطية وفروع نتائج أنتجت عن تلك الأصول وأذكر الجائز من ذلك والممتنع والقريب والبعيد فلا أرد علم الأحكام من كل وجه كما رده من جهله ولا أقبل فيه كل قول كما قبله من لم يعقله بل أوضح موضع القبول والرد وموضع التوقيف والتجويز والذي من المنجم والذي من التنجيم والذي منهما وأوضح لك أنه لو أمكن الإنسان أن يحيط بشكل كل ما في الفلك علما لأحاط بكل ما يحويه الفلك لأن منه مبادئ الأسباب لكنه لا يمكن ويبعد عن
113
الإمكان بعدا عظيما والبعض الممكن منه لا يهدي إلى بعض الحكم لأن البعض الآخر المجهول قد يناقض المعلوم في حكمه ويبطل ما يوجبه فنسبة المعلوم إلى المجهول من الأحكام كنسبة المعلوم إلى المجهول من الأسباب وكفى بذلك بعدا انتهى، وفيه من التأييد لبعض ما تقدم من الأوجه ما فيه.
وأنا أقول: إن الإحاطة بالأسرار المودعة في الأجرام لا يبعد أن تحصل لبعض الخواص ذوي النفوس القدسية لكن بطريق الكشف أو نحوه دون الاستدلال الفكري والأعمال الرصدية مثلا وهو الذي يقتضيه كلام الشيخ الأكبر قدس سره قال في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات: ومن الأولياء النقباء وهم اثنا عشر نقيبا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد البروج الاثني عشر كل نقيب عالم بخاصية كل برج وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات وما يعطى للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت ثم قال: ومنهم النجباء وهم ثمانية في كل زمان إلى أن قال: ولهم القدم الراسخة في علم تسيير الكواكب من جهة الكشف والاطلاع لا من جهة الطريقة المعلومة عند العلماء بهذا الشأن، والنقباء هم الذين حازوا علم الفلك التاسع والنجباء حازوا علم الثمانية الأفلاك التي دونه وهي كل فلك في كوكب، ويفهم من هذا القول بالتأثيرات وأنها مفاضة من البرج على النازل فيه من الكواكب.
وقد تكررت الاشارة منه إلى ذلك ففي الفصل الثالث من الباب الحادي والسبعين والثلاثمائة من الفتوحات أن الله تعالى خلق في جوف الكرسي جسما شفافا مستديرا يعني الفلك الأطلس قسمه اثني عشر قسما هي البروج وأسكن كل برج منها ملكا إلى أن قال: وجعل لكل نائب من هؤلاء الأملاك الاثني عشر في كل برج ملكه إياه ثلاثين خزانة تحتوي كل خزانة منها على علوم شتى يهبون منها لمن نزل بهم ما تعطيه مرتبته وهي الخزائن التي قال الله تعالى فيها وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: ٢١] وهذه الخزائن تسمى عند أهل التعاليم درجات الفلك والنازلون بها هم الجواري والنازل وعيوقاتها من الثوابت والعلوم الحاصلة من هذه الخزائن الإلهية هي ما يظهر في عالم الأركان من التأثيرات بل ما يظهر في مقعر فلك الثوابت إلى الأرض، وجعل لهؤلاء الاثني عشر نظرا في الجنان وأهلها وما فيها مخلصا من غير حجاب فما في الجنان من حكم فهو عن تولي هؤلاء بنفوسهم تشريفا لأهل الجنة وأما أهل الدنيا وأهل النار فما يباشرون ما لهم من الحكم إلا بالنواب وهم النازلون عليهم الذين ذكرناهم، وقال قدس سره في الفصل الرابع: إن الله تعالى جعل لكل كوكب من هذه الكواكب قطعا في الفلك الأطلس ليحصل من تلك الخزائن التي في بروجه وبأيدي ملائكته الاثني عشر من علوم التأثير ما تعطيه حقيقة كل كوكب وجعلها على حقائق مختلفة. انتهى المراد منه.
وله قدس سره كلام غير هذا أيضا وقد سرح بنحو ما صرح به المنجمون من اختلاف طبائع البروج وأن كل ثلاثة منها على مرتبة واحدة في المزاج وأنا لا أزيد على القول بأن للأجرام العلوية كواكبها وأفلاكها أسرارا وحكما وتأثيرات غير ذاتية بل مفاضة عليها من جانب الحق والفياض المطلق جل شأنه وعظم سلطانه ومنها ما هو علامة لما شاء الله تعالى ولا يتم دليل على نفي ما ذكر ولا يعلم كمية ذلك ولا كيفيته ولا أن تأثير كذا من كوكب كذا أو كوكب كذا علامة لكذا في نفس الأمر إلا الله تعالى العليم البصير أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: ١٤] إلا أنه سبحانه قد يطلع بعض خواص عباده من البشر والملك على شيء من ذلك، ولا يبعد أن يطلع سبحانه البعض على الكل ووقوع ذلك لنبينا صلّى الله عليه وسلم مما لا أكاد أشك فيه.
وقد نص بعض ساداتنا الصوفية قدست أسرارهم وأشرقت علينا أنوارهم على أن علومه عليه الصلاة والسلام التي وهبت له ثلاثة أنواع نوع أوجب عليه إظهاره وتبليغه وهو علم الشريعة والتكاليف الإلهية وقوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ
114
بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ
[المائدة: ٦٧] ناظر إلى ذلك دون العموم المطلق أو خصوص خلافة علي كرم الله تعالى وجهه كما يقوله الشيعة، ونوع أوجب عليه كتمانه وهو علم الأسرار الإلهية التي لا تتحملها قوة غير قوته القدسية عليه الصلاة والسلام فكما أن لله تعالى علما استأثر به دون أحد من خلقه كذلك لحبيبه الأعظم صلّى الله عليه وسلم علم استأثر به بعد ربه سبحانه لكنه مفاض منه تعالى عليه ولعله أشير إليه في قوله تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم: ١٠] وقد يكون بين المحب والمحبوب من الأسرار ما يضن به على الأغيار، ومن هنا قيل:
ومستخبر عن سر ليلى تركته بعمياء من ليلى بغير يقين
يقولون خبرنا فأنت أمينها وما أنا إن خبرتهم بأمين
ونوع خيره الله تعالى فيه بين الأمرين، وهذا منه ما أظهره لمن رآه أهلا له ومنه ما لم يظهره لأمر ما فلعل ما وهب له عليه الصلاة والسلام من العلم بدقائق أسرار الأجرام العلوية وحكمها وما أراد الله تعالى بها مما لم يظهره للناس كعلم الشريعة لأنه مما لا يضبط بقاعدة وتفصيل الأمر فيه لا يكاد يتيسر والبعض مرتبط بالبعض ومع هذا لا يستطيع العالم به أن يحمل الإقامة سفرا ولا الهزيمة ظفرا ولا العقد فلا ولا الإبرام نقضا ولا اليأس رجاء ولا العدو صديقا ولا البعيد قريبا ولا ولا ويوشك لو انتشر أمره وظهر حلوه ومره أن يضعف توكل كثير من العوام على الله تعالى والانقطاع إليه والرغبة فيما عنده وأن يلهوا به عن غيره وينبذوا ما سواه من العلوم النافعة لأجله فكل يتمنى أن يعلم الغيب ويطلع عليه ويدرك ما يكون في غد أو يجد سبيلا إليه بل ربما يكون ذلك سببا لبعض الأشخاص مفضيا إلى الاعتقاد القبيح والشرك الصريح، وقد كان في العرب شيء من ذلك فلو فتح هذا الباب لا تسع الخرق وعظم الشر، وقد ترك صلّى الله عليه وسلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم عليه السلام لنحو هذه الملاحظة،
فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: «لولا قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وأسستها على قواعد إبراهيم»
ولا يبعد أيضا أن يكون في علم الله تعالى إظهار ذلك وعلم الناس به سببا لتعطل المصالح الدنيوية ومنافيا للحكمة الإلهية فأوجب على رسوله صلّى الله عليه وسلم كتمه وترك تعليمه كما علم الشرائع.
ويمكن أن يكون قد علم صلّى الله عليه وسلم أن العلم بذلك من العلوم الوهبية التي يمن الله تعالى بها على من يشاء من عباده وأن من وهب سبحانه له من أمته قوة قدسية يهب سبحانه له ما يتحمله قوته منه، وقد سمعت ما سمعت في النقباء والنجباء، ويمكن أن يكون قد علم عليه الصلاة والسلام ذلك أمثالهم ومن هو أعلى قدرا منهم كالأمير علي كرم الله تعالى وجهه وهو باب مدينة العلم بطريق من طرق التعليم ومنها الإفاضة التي يذكرها بعض أهل الطرائق من الصوفية، ويجوز أن يقال: إن سر البعثة إنما هو إرشاد الخلق إلى ما يقربهم إليه سبحانه زلفى، وليس في معرفة التأثيرات الفلكية والحوادث الكونية قرب إلى الله تعالى والنبي صلّى الله عليه وسلم لم يأل جهدا في دعوة الخلق وإرشادهم إلى ما يقربهم لديه سبحانه وينفعهم يوم قدومهم عليه جل شأنه وما يتوقف عليه من أمر النجوم أمور دياناتهم كمعرفة القبلة وأوقات العبادات قد أرشد إليه من أرشد منهم وترك ما يحتاجون إليه من ذلك في أمور دنياهم كالزراعة إلى عاداتهم وما جربه كل قوم في أماكنهم وأشار إشارة إجمالية إلى بعض الحوادث الكونية لبعض الكواكب في بعض أحوالها كما في حديث الكسوف والخسوف السابق وأرشدهم إلى ما ينفعهم إذا ظهر مثل ذلك ويتضمن الاشارة الإجمالية أيضا أمره تعالى بالاستعاذة من شر القمر في بعض حالاته وذلك في قوله تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ [الفلق: ١- ٣] على ما جاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ويقرب في بعض الوجوه من شأنه صلّى الله عليه وسلم شأنه عليه
115
الصلاة والسلام في أمر النباتات ونحوها فبين لهم ما يحل ويحرم من ذلك وأشار إلى منفعة بعض الأشياء من نبات وغيره ولم يفصل القول في الخواص وترك الناس فيما يأكلون ويشربون مما هو حلال على عاداتهم إلا أنه قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: ٣١] نعم نهى صلّى الله عليه وسلم عن الخوض في علم النجوم لطلب معرفة الحوادث المستقبلة بواسطة الأوضاع المتوقف بزعم المنجمين على معرفة الطبائع سدا لباب الشر والوقوع في الباطل لأن معرفة ذلك على التحقيق ليست كسبية كمعرفة خواص النباتات ونحوها والمعرفة الكسبية التي يزعمها المنجمون ليست بمعرفة وإنما هي ظنون لا دليل لهم عليها كما تقدم وصرح به ارسطاليس أيضا فإنه قال في أول كتابه السماع الطبيعي: إنه لا سبيل إلى اليقين بمعرفة تأثير الكواكب وحكي نحوه عن بطليموس، وكون المنهي عنه ذلك هو الذي صرح به بعض الأجلة وعليه حمل
خبر أبي داود وابن ماجة «من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر»
وأما الخوض في علم النجوم لتحصيل ما يعرف به أوقات الصلوات وجهة القبلة وكم مضى من الليل أو النهار وكم بقي وأوائل الشهور الشمسية ونحو ذلك ومنه فيما أرى ما يعرف به وقت الكسوف والخسوف فغير منهي عنه بل العلم المؤدي لبعض ما ذكر من فروض الكفاية بل إن كان علم النجوم عبارة عن العلم الباحث عن النجوم باعتبار ما يعرض لها من المقارنة والمقابلة والتثليث والتسديس وكيفية سيرها ومقدار حركاتها ونحو ذلك مما يبحث عنه في الزيج أو كان عبارة عما يعم ذلك والعلم الذي يتوصل به إلى معرفة ارتفاع الكوكب وانخفاضه ومعرفة الماضي من الليل والنهار ومعرفة الأطوال والأعراض ونحو ذلك مما تضمنه علم الأسطرلاب والربع المجيب ونحوهما فهو مما لا أرى بأسا في تعلمه مطلقا وإن كان عبارة عن العلم الباحث عن أحكامها وتأثيراتها التي تقتضيها باعتبار أوضاعها وطبائعها على ما يزعمه الأحكاميون.
فهذا الذي اختلف في أمره فقال بعضهم بحرمة تعلمه لحديث أبي داود وابن ماجة السابق والقائل بهذا قائل بحرمة تعلم السحر وهو أحد أقوال في المسألة فيها الإفراط والتفريط، ثانيها أنه مكروه، ثالثها أنه مباح، رابعها أنه فرض كفاية، خامسها أنه كفر والجمهور على الأول ولأن فيه ترويج الباطل وتعريض الجهلة لاعتقاد أن أحكام النجوم المعروفة بين أهلها حق والكواكب مؤثرة بنفسها، وقيل: يحرم تعلمه لأنه منسوخ فقد قال الكرماني في عجائبه: كان علم النجوم علما نبويا فنسخ. وتعقب هذا بأنه لا معنى لنسخ العلم نفسه وإن حمل الكلام على معنى كان تعلمه مباحا فنسخ ذلك إلى التحريم كان في الاستدلال مصادرة وقال بعضهم: لا حرمة في تعلمه إنما الحرمة في اعتقاد صحة الأحكام وتأثيرات الكواكب على الوجه الذي يقوله جهلة الأحكاميين لا مطلقا، وأجيب عن الخبر السابق بأنه محمول على تعلم شيء من علم النجوم على وجه الاعتناء بشأنه كما يرمز إليه- اقتبس- وذلك لا يتم بدون اعتقاد صحة حكمة وأن الكواكب مؤثرات، وتعلمه على هذا الوجه حرام وبدونه مباح وفيه بحث.
وقيل في الجواب: إن خبر فيمن ادعى علما بحكم من الأحكام آخذا له من النجوم قائلا الأمر كذا ولا بد لأن النجم يقتضيه البتة وهو لا شك في إثمه وحرمة دعواه التي قامت الأدلة على كذبها وهو كما ترى، كلام بعض أجلة العلماء صريح في إباحة تعلمه متى اعتقد أن الله تعالى أجرى العادة بوقوع كذا عند حلول الكوكب الفلاني منزلة كذا مثلا مع جواز التخلف، واستظهر بعض حرمة التعلم مطلقا متى كان فيه إغراء الجهلة بذلك العلم وإيقاعهم في محذور اعتقاد التأثير أو كان فيه غير ذلك من المفاسد وكراهته إن سلم من ذلك لما فيه من تضييع الأوقات فيما لا فائدة فيه ومبناه ظنون وأوهام وتخيلات، ولا يبعد القول بأنه يباح للعالم الراسخ النظر في كتبه للإطلاع على ما قالوا والوقوف على مناقضاتهم واختلافاتهم التي سمعت بعضا منها لينفر عنها الناس ويرد العاكفين عليها كما يباح له النظر في كتب
116
سائر أهل الباطل كاليهود والنصارى لذلك بل لو قيل بسنيته لهذا الغرض لم يبعد لكن أنت تعلم أن السلف الصالح لم يحوموا حول شيء منه بسوى ذمه وذم أهله ولم يتطلبوا كتابا من كتبه لينظروا فيه على أي وجه كان النظر ونسبة خلاف ذلك إلى أحد منهم لا تصح فالحزم اتباعهم في ذلك وسلوك مسلكهم فهو لعمري أقوم المسالك، وهذا واعترض القول باطلاعه صلّى الله عليه وسلم على ما ذكر من شأن الأجرام العلوية بأن فيه فتح باب الشبهة في كون اخباره صلّى الله عليه وسلم بالغيوب من الوحي لجواز أن تكون من أحكام النجوم على ذلك القول. وأجيب بأن الشبهة إنما تتأتى لو ثبت أنه عليه الصلاة والسلام رصد ولو مرة كوكبا من الكواكب وحقق منزلته وأخبر بغيب إذ مجرد العلم بأن لكوكب كذا حكم كذا إذا حل بمنزلة كذا لا يقيد بدون معرفة أنه حل في تلك المنزلة فحيث لم يثبت أنه صلّى الله عليه وسلم فعل ذلك لا يفتح باب الشبهة وفيه بحث ظاهر، وبأن علمه صلّى الله عليه وسلم بما تدل عليه الأوضاع عند القائلين به ليس إلا عن وحي فغاية ما يلزم على تلك الشبهة أن يكون خبره بالغيب بواسطة علم أحكام النجوم الذي علمه بالوحي وأي خلل يحصل من هذا في نبوته عليه الصلاة والسلام بل هذه الشبهة تستدعي كونه نبيا كما أن عدمها كذلك.
وتعقب بأنه متى سلم أن للأوضاع الفلكية دلالة على أمور الغيبية وأنه صلّى الله عليه وسلم يعلم ما تدل عليه يقع الاشتباه بينه وبين غيره من علماء ذلك العلم المخبرين بالغيب إذا وقع كما أخبروا والتفرقة بأنه عليه الصلاة والسلام قد أوحى إليه بذلك دون الغير فرع كونه نبيا وهو أول المسألة، واختير في الجواب أن يقال: إن إخباره صلّى الله عليه وسلم بالغيب إن كان بعد ثبوت نبوته بمعجز غير ذلك لا تتأتى الشبهة إن أفهم أن خبره بواسطة الوحي ولا تضر إن لم يفهم إذ غاية ما في الباب أنه نبي لظهور المعجز على يده قبل أن أخبر بغيب بواسطة وضع فلكي وشاركه غيره في ذلك، وإن كان قبل ثبوت نبوته بمعجز غيره بأن كان التحدي بذلك الخبر ووقوع ما أخبر به فالذي يدفع الشبهة حينئذ عدم القدرة على المعارضة فلا يستطيع منجم أن يخبر صادقا بمثل ذلك بمقتضى علمه بالأوضاع ومقتضياتها فتدبر، ثم الظاهر على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في النقباء والنجباء أن لكل من الأنبياء عليهم السلام اطلاعا على ذلك إذ رتبة النبي فوق رتبة الولي وعلمه فوق علمه إذ هو الركن الأعظم في الفضل.
ولا حجة في قصة موسى والخضر عليهما السلام على خلافه، أما على القول بنبوة الخضر عليه السلام فظاهر وكذا على القول بولايته وأنه فعل ما فعل عن أمر الله تعالى بواسطة نبي، وأما على القول بولايته وأنه فعل ذلك لعلم أوتيه بلا واسطة نبي فلأنه لا يدل إلا على فقدان موسى عليه السلام العلم بتلك الأمور الثلاثة وعلم الخضر بها ولا يلزم من ذلك أن يكون الخضر أعلم منه مطلقا وهو ظاهر، وعلى هذا جوز إبقاء الآية على ظاهرها فيكون إبراهيم عليه السلام قد نظر في النجوم حسبما علمه الله تعالى من أحوال الملكوت الأعلى واستدل على أنه سيسقم بما استدل، ولعل نظره كان في طالع الوقت أو نحوه أو طالع ولادته أو طالع سقوط النطفة التي خلق منها والعلم به بالوحي أو بواسطة العلم بطالع الولادة والاعتراض على ذلك بأنه يلزم عليه تقويته عليه السلام ما هم عليه من الباطل في أمر النجوم وارد أيضا على حمل ما في الآية على التعريض والجواب هو الجواب، هذا وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرت لك في هذا المقام فأحسن التأمل فيما تضمنه من النقض والإبرام وقد جمعت لك ما لم أعلم أنه جمع في تفسير ولا أبرىء نفسي عن الخطأ والسهو والتقصير والله سبحانه ولي التوفيق وبيده عز وجل أزمة التحقيق، وقوله تعالى فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ تفريع على قوله عليه السلام إِنِّي سَقِيمٌ أي أعرضوا وتركوا قربه، والمراد أنهم ذهبوا إلى معيدهم وتركوه، ومُدْبِرِينَ إما حال مؤكدة أو حال مقيدة بناء على أن المراد بسقيم مطعون أو أنهم توهموا مرضا له عدوى مرض الطاعون أو غيره فإن المرض الذي له عدوى بزعم الأطباء لا يختص بمرض الطاعون فكأنه قيل: فأعرضوا
117
عنه هاربين مخافة العدوى فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فذهب بخفية إلى أصنامهم التي يعبدونها، وأصل الروغان ميل الشخص في جانب ليخدع من خلفه فتجوز به عما ذكر لأنه المناسب هنا فَقالَ للأصنام استهزاء أَلا تَأْكُلُونَ من الطعام الذي عندكم، وكان المشركون يضعون في أيام أعيادهم طعاما لدى الأصنام لتبرك عليه، وأتى بضمير العقلاء لمعاملته عليه السلام إياهم معاملتهم ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ بجوابي فَراغَ عَلَيْهِمْ فمال مستعليا عليهم وقوله تعالى ضَرْباً مصدر لراغ عليهم باعتبار المعنى فإن المراد منه ضربهم أو لفعل مضمر هو مع فاعله حال من فاعله أي فراغ عليهم يضربهم ضربا أو هو حال منه على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي ضاربا أو مفعول له أي لأجل ضرب. وقرأ الحسن «سفقا» و «صفقا» أيضا بِالْيَمِينِ أي باليد اليمين كما روي عن ابن عباس، وتقييد الضرب باليمين للدلالة على شدته وقوته لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما في الغالب وقوة الآلة تقتضي شدة الفعل وقوته أو بالقوة على أن اليمين مجاز عنها.
روي أنه عليه السلام كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس فيضربها بكمال قوته، وقيل المراد باليمين الحلف، وسمي الحلف يمينا إما لأن العادة كانت إذا حلف شخص لآخر جعل يمينه بيمينه فحلف أو لأن الحلف يقوي الكلام ويؤكده، وأريد باليمين قوله عليه السلام تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: ٥٧] والباء عليه للسببية أي ضربا بسبب اليمين الذي حلفه قبل وهي على ما تقدم للاستعانة أو للملابسة فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ أي إلى إبراهيم عليه السلام بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر وقولهم فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ [الأنبياء: ٦١] يَزِفُّونَ حال من واو أقبلوا أي يسرعون من زف النعام أسرع لخلطه الطيران بالمشي ومصدره الزف والزفيف، وقيل يَزِفُّونَ أي يمشون على تؤدة ومهل من زفاف العروس إذ كانوا في طمأنينة من أن ينال أصنامهم بشيء لعزتها، وليس بشيء.
وقرأ حمزة ومجاهد وابن وثاب والأعمش «يزفّون» بضم الياء من أزف دخل في الزفيف فالهمزة ليست للتعدية أو حمل غيره على الزفيف فهي لها قاله الأصمعي وقرأ مجاهد أيضا وعبد الله بن يزيد والضحاك ويحيى بن عبد الرحمن المقري وابن أبي عبلة «يزفون» مضارع وزف بمعنى أسرع، قال الكسائي، والفراء: لا نعرف وزف بمعنى زف وقد أثبته الثقات فلا يضر عدم معرفتهما. وقرىء «يزفون» بالبناء للمفعول، وقرىء «يزفون» بسكون الزاي من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه قالَ بعد أن أتوا به عليه السلام وجرى ما جرى من المحاورة على سبيل التوبيخ والإنكار عليهم أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أي الذي تنحتونه من الأصنام فما موصولة حذف عائدها وهو الظاهر المتبادر، وجوز كونها مصدرية أي أتعبدون نحتكم، وتوبيخهم على عبادة النحت مع أنهم يعبدون الأصنام وهي ليست نفس النحت للإشارة إلى أنهم في الحقيقة إنما عبدوا النحت لأن الأصنام قبله حجارة ولم يكونوا يعبدونها وإنما عبدوها بعد أن نحتوها ففي الحقيقة ما عبدوا إلا نحتهم، وفيه ما فيه وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ في موضع الحال من ضمير تَعْبُدُونَ لتأكيد الإنكار والتوبيخ والاحتجاج على أنه لا ينبغي تلك العبادة، وما موصولة حذف عائدها أيضا أي خلقكم وخلق الذي تعملونه أي من الأصنام كما هو الظاهر، وهي عبارة عن مواد وهي الجواهر الحجرية وصور حصلت لها بالنحت وكون المواد مخلوقة له عز وجل ظاهر، وكون الصور والأشكال كذلك مع أنها بفعلهم باعتبار أن الأقدار على الفعل وخلق ما يتوقف عليه من الدواعي والأسباب منه تعالى، وكون الأصنام وهي ما سمعت معمولة لهم باعتبار جزئها الصوري فهو مع كونه معمولا لهم مخلوق لله تعالى بذلك الاعتبار فلا إشكال.
وفي المتمة للمسألة المهمة تأليف الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة صريح الكلام دال على أن الله تعالى
118
خالق للأصنام بجميع أجزائها التي منها الأشكال، ومعلوم أن الأشكال إنما حصلت بتشكيلهم فتكون الأشكال مخلوقة لله تعالى معمولة لهم لكون نحتهم وتشكيلهم عين خلق الله تعالى الأشكال بهم.
ولا استحالة في ذلك لأن العبد لا قوة له إلا بالله تعالى بالنص ومن لا قوة له إلا بغيره فالقوة لذلك الغير لا له فلا قوة حقيقة إلا لله تعالى، ومن المعلوم أنه لا فعل للعبد إلا بقوة فلا فعل له إلا بالله تعالى فلا فعل حقيقة إلا لله تعالى، وكل ما كان كذلك كان النحت والتشكيل عين خلق الله سبحانه الأشكال بهم وفيهم بالذات وغيره بالاعتبار فيكون المعمول عين المخلوق بالذات وغيره بالاعتبار فإن إيجاد الله عز وجل يتعلق بذات الفعل من حيث هو وفعل العبد بالمعنى المصدري يتعلق بالفعل بمعنى الحاصل بالمصدر من حيث كونه طاعة أو معصية أو مباحا لكونه مكلفا والله تعالى له الإطلاق ولا حاكم عليه سبحانه انتهى فافهم.
والزمخشري جعل أيضا ما موصولة إلا أنه جعل المخلوق له تعالى هو الجواهر ومعمولهم هو الشكل والصورة إما على أن الكلام على حذف مضاف أي وما تعملون شكله وصورته، وإما على أن الشائع في الاستعمال ذلك فإنهم يقولون عمل النجار الباب والصائغ الخلخال والبناء البناء ولا يعنون إلا عمل الشكل بدون تقدير شكل في النظم كأن تعلق العمل بالشيء هو هذا التعلق لا تعلق التكوين، وهو مبني على اعتقاده الفاسد من أن أفعال العباد مخلوقة لهم، والاحتجاج في الآية على الأول بأن يقال: إنه تعالى خلق العابد والمعبود مادة وصورة فكيف يعبد المخلوق المخلوق؟ وعلى الثاني بأنه تعالى خلق العابد ومادة المعبود فكيف يعبد المخلوق المخلوق على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود، والأول أظهر، وعدل عن ضمير ما تَنْحِتُونَ أو الإتيان به دون ما تعملون للإيذان بأن مخلوقية الأصنام لله عز وجل ليس من حيث نحتهم لها فقط بل من حيث سائر أعمالهم أيضا من التصوير والتحلية والتزيين. وفي الكشف فائدة العدول الدلالة على أن تأثيرهم فيها ليس النحت ثم العمل يقع على النحت والأثر الحاصل منه ولا يقع النحت على الثاني فلا بد من العدول لهذه النكتة وبه يتم الاحتجاج أي الذي قيل على اعتبار الزمخشري. وجوز أن يكون الموصول عاما للأصنام وغيرها وتدخل أوليا ولا يتأتى عليه حديث العدول، وقيل ما مصدرية والمصدر مؤول باسم المفعول ليطابق ما تَنْحِتُونَ على ما هو الظاهر فيه ويتحد المعنى مع ما تقدم على احتمال الموصولية، وجوز بقاء المصدر على مصدريته والمراد به الحاصل بالمصدر أعني الأثر وكثيرا ما يراد به ذلك حتى قيل: إنه مشترك بينه وبين التأثير والإيقاع أي خلقكم وخلق عملكم، واحتج بالآية على المعتزلة وتعقب بأنه لا يصح لأن الاستدلال بذلك على أن العابد والمعبود جميعا خلق الله تعالى فكيف يعبد المخلوق مخلوقا ولو قيل: إن العابد وعمله من خلق الله تعالى لفات الملاءمة والاحتجاج، ولأن ما في الأول موصولة فهي في الثاني كذلك لئلا ينفك النظم، وما قاله القاضي البيضاوي من أنه لا يفوت الاحتجاج بل إنه أبلغ فيه لأن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك، وأيد بأن الأسلوب يصير من باب الكناية وهو أبلغ من التصريح ولا فائدة في العدول عن الظاهر إلا هذا فيجب صونا لكلام الله تعالى عن العبث تعقبه في الكشف بأنه لا يتم لأن الملازمة ممنوعة عند القوم ألا ترى أنهم معترفون بأن العبد وقدرته وإرادته من خلق الله تعالى ثم المتوقف عليهما وهو الفعل يجعلونه خلق العبد، والتحقيق أنه يفيد التوقف عليه تعالى وهم لا ينكرونه إنما الكلام في الإيجاد والأحداث ثم قال: وأظهر منه أن يقال: لأن المعمول من حيث المادة كانوا لا ينكرون أنه من خلق الله تعالى فقيل هو من حيث الصورة أيضا خلقه فهو مخلوق من جميع الوجوه مثلكم من غير فرق فلم تسوونه بالخالق وما ازداد بفعلكم إلا بعد استحقاق عن العبادة ولما كان هذا المعنى في تقرير الزمخشري على أبلغ وجه كان هذا البناء متداعيا كيفما قرر، على
119
أن فائدة العدول قد اتضحت حق الوضوح فبطل الحصر أيضا، وقد قيل عليه: إن المراد بالفعل الحاصل بالمصدر لأنه بالمعنى الآخر أعني الإيقاع من النسب التي ليست بموجودة عندهم، وتوقف الحاصل بالإيقاع على قدرة العبد وإرادته توقف بعيد بخلاف توقفه على الإيقاع الذي لا وجود له فيكون ما ذكره في معرض السند مجتمعا مع المقدمة الممنوعة فلا يصلح للسندية، والمراد بمفعولهم أشكال الأصنام المتوقف على ذلك المعنى القائم بهم. إذا كان ذاك بخلقه تعالى فلأن يكون الذي لا يقوم بهم بل بما يباينهم بخلقه تعالى أولى.
ولا مجال للخصم أن يمنع هذه الملازمة إذ قد أثبت خلق المتولدات مطلقا للعباد بواسطة خلقهم لما يقوم بهم، وانتفاء الأول ملزوم لانتفاء الثاني فتأمل، وقال في التقريب انتصارا لمن قال بالمصدرية: إن الجواهر مخلوقة له تعالى وفاقا والأعمال مخلوقة أيضا لعموم الآية فكيف يعبد ما لا مدخل له في الخلق فدعوى فوات الاحتجاج باطلة وكذلك فك النظم والتبتير، وتعقبه في الكشف أيضا فقال فيه: إن المقدمة الوفاقية إذا لم يكن بد منها ولم تكن معلومة من هذا السياق يلزم فوات الاحتجاج، وأما الحمل على التغليب في الخطاب فتوجيه لا ترجيح والكلام في الثاني.
ثم قال: وأما أن المصدرية أولى لئلا يلزم حذف الضمير فمعارض بأن الموصولة أكثر استعمالا وهي أنسب بالسياق السابق على أنه لا بد من تقدير عملهم في المنحوت فيزداد الحذف.
واعترض بأنا لا نسلم الأكثرية وكذا لا نسلم أنها أنسب بالسياق لما سمعت من أن الأسلوب على ذلك من باب الكناية وهو أبلغ من التصريح والتقدير المذكور ليس بلازم لجواز إبقاء الكلام على عمومه الشامل للمنحوت بالطريق الأولى أو يقدر بمصدر مضاف إضافة عهدية، وبعضهم جعلها موصولة كناية عن العمل لئلا ينفك النظم ويظهر احتجاج الأصحاب على خلق أفعال العباد. وتعقبه أيضا بأنه أفسد من الأول لما فيه من التعقيد وفوات الاحتجاج، وكون الموصول في الأول عبارة عن الأعيان وفي الثاني كناية عن المعاني وانفكاك النظم ليس لخصوص الموصولية والمصدرية بل لتباين المعنيين وهو باق. وصاحب الانتصاف قال بتعين حملها على المصدرية لأنهم لم يعبدوا الأصنام من حيث كونها حجارة وإنما عبدوها من حيث أشكالها فهم في الحقيقة إنما عبدوا عملهم وبذلك تبتلج الحجة عليهم بأنهم وعملهم مخلوقان لله تعالى فكيف يعبد المخلوق مخلوقا مثله مع أن المعبود كسب العابد وعمله، وأجاب عن حديث لزوم انفكاك النظم بأن لنا أن نحمل الأولى على المصدرية أيضا فإنهم في الحقيقة إنما عبدوا نحتوا، وفي دعوى التعين بحث، وجوز كون ما الثانية استفهامية للإنكار والتحقير أي وأي شيء تعملون في عبادتكم أصناما نحتموها أي لا عمل لكم يعتبر، وكونها نافية أي وما أنتم تعملون شيئا في وقت خلقكم ولا تقدرون على شيء، ولا يخفى أن كلا الاحتمالين خلاف الظاهر بل لا ينبغي أن يحمل عليه التنزيل، وأظهر الوجوه كونها موصولة وتوجيه ذلك على ما يقوله الأصحاب ثم كونها مصدرية، والاستدلال بالآية عليه ظاهر، وقول صاحب الكشف: والإنصاف أن استدلال الأصحاب بهذه الآية لا يتم أن أراد به ترجيح احتجاج المعتزلة خارج عن دائرة الانصاف، ثم إنها على تقدير أن لا تكون دليلا لهم لا تكون دليلا للمعتزلة أيضا كما لا يخفى على المنصف، هذا ولما غلبهم إبراهيم عليه السلام بالحجة مالوا إلى الغلبة بقوة الشوكة قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً حائطا توقدون فيه النار، وقيل: منجنيقا.
فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ في النار الشديدة من الجحمة وهي شدة التأجج والانقاد، واللام بدل عن المضاف إليه أو للعهد، والمراد جحيم ذلك البنيان التي هي فيه أو عنده فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً سوءا باحتيال فإنه عليه السلام لما قهرهم بالحجة قصدوا تعذيبه بذلك لئلا يظهر للعامة عجزهم فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهانا ظاهرا ظهور نار القرى ليلا على علم على علو شأنه عليه السلام حيث جعل سبحانه النار عليه بردا وسلاما،
120
وقيل: أي الهالكين، وقيل: أي المعذبين في الدرك الأسفل من النار والأول أنسب.
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني أو حيث أتجرد فيه لعبادته عز وجل جعل الذهاب إلى المكان الذي أمره ربه تعالى بالذهاب إليه ذهابا إليه وكذا الذهاب إلى مكان يعبده تعالى فيه لا أن الكلام بتقدير مضاف، والمراد بذلك المكان الشام، وقيل مصر وكأن المراد إظهار اليأس من إيمانهم وكراهة البقاء معهم أي إني مفارقكم ومهاجر منكم إلى ربي سَيَهْدِينِ إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي.
والسين لتأكيد الوقوع في المستقبل لأنها في مقابلة لن المؤكد للنفي كما ذكره سيبويه، وبت عليه السلام القول لسبق وعده تعالى إياه بالهداية لما أمره سبحانه بالذهاب أو لفرط توكله عليه السلام أو للبناء على عادته تعالى معه وإنما لم يقل موسى عليه السلام مثل ذلك بل قال: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ [القصص: ٢٢] بصيغة التوقع قيل: لعدم سبق وعد وعدم تقدم عادة واقتضاء مقامه رعاية الأدب معه تعالى بأن لا يقطع عليه سبحانه بأمر قبل وقوعه، وتقديمه على رعاية فرط التوكل ومقامات الأنبياء متفاوتة وكلها عالية، وقيل لأن موسى عليه السلام قال ما قال قبل البعثة وإبراهيم عليه السلام قال ذلك بعدها، وقيل لأن إبراهيم كان بصدد أمر ديني فناسبه الجزم وموسى كان بصدد أمر دنيوي فناسبه عدم الجزم، ومن الغريب ما قيل ونحا إليه قتادة أنه لم يكن مراد إبراهيم عليه السلام بقوله إِنِّي إلخ الهجرة وإنما أراد بذلك لقاء الله تعالى بعد الإحراق ظانا أنه يموت في النار إذا ألقي فيها وأراد بقوله سَيَهْدِينِ الهداية إلى الجنة، ويدفع هذا القول دعاؤه بالوالد حيث قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة، والتقدير ولدا من الصالحين وحذف لدلالة الهبة عليه فإنها
121
في القرآن وكلام العرب غالب استعمالها مع العقلاء في الأولاد، وقوله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم: ٥٣] من غير الغالب أو المراد فيه هبة نبوته لا هبة ذاته وهو شيء آخر، ولقوله تعالى فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فإنه ظاهر في أن ما بشر به عين ما استوهبه مع أن مثله إنما يقال عرفا في حق الأولاد، ولقد جمع بهذا القول بشارات أنه ذكر لاختصاص الغلام به وأنه يبلغ أو أن البلوغ بالسن المعروف فإنه لازم لوصفه بالحليم لأنه لازم لذلك السن بحسب العادة إذ قلما يوجد في الصبيان سعة صدر وحسن صبر وذلك إغضاء في كل أمر، وجوز أن يكون ذلك مفهوما من قوله تعالى (غلام) فإنه قد يختص بما بعد البلوغ وإن كان ورد عاما وعليه العرف كما ذكره الفقهاء وأنه يكون حليما وأي حلم مثل حلمه عرض عليه أبوه وهو مراهق الذبح فقال سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فما ظنك به بعد بلوغه، وقيل مانعت الله تعالى نبيا بالحلم لعزة وجود غير إبراهيم وابنه عليهما السلام، وحالهما المذكورة فيما بعد تدل على ما ذكر فيهما.
والفاء في قوله تعالى فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فصيحة تعرب عن مقدر قد حذف تعويلا على شهادة الحال وإيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح به لاستحالة التخلف أي فوهبناه له ونشأ فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه، و «مع» ظرف للسعي وهي تدل على معنى الصحبة واستحداثها، وتعلقها بمحذوف دل عليه المذكور لأن صلة المصدر لا تتقدمه لأنه عند العمل مؤول بأن المصدرية والفعل ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول لأنه كتقدم جزء الشيء المرتب الأجزاء عليه أو لضعفه عن العمل فيه بحث، أما أولا فلأن التأويل المذكور على المشهور في المصدر المنكر دون المعرف، وأما ثانيا فلأنه إذا سلم العموم فليس كل ما أول بشيء حكمه حكم ما أول به، وأما ثالثا فلأن المقدم هنا ظرف وقد اشتهر أنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره.
وصرحوا بأنه يكفيه رائحة الفعل وبهذا يضعف حديث المنع لضعف العامل عن العمل فالحق أنه لا حاجة في مثل ذلك إلى التقدير معرفا كان المصدر أو منكرا كقوله تعالى وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ [النور: ٢] وهو الذي ارتضاه الرضى وقال به العلامة الثاني، واختار صاحب الفرائد كونها متعلقة بمحذوف وقع حالا من السَّعْيَ أي فلما بلغ السعي حال كون ذلك السعي كائنا معه، وفيه أن السعي معه معناه اتفاقهما فيه فالصحبة بين الشخصين فيه، وما قدره يقتضي الصحبة بين السعي وإبراهيم عليه السلام ولا يطابق المقام، وجوز تعلقه ببلغ، ورد بأنه يقتضي بلوغهما معا حد السعي لما سمعت من معنى مع وهو غير صحيح، وأجيب بأن مع على ذلك لمجرد الصحبة على أن تكون مرادفة عند نحو فلان يتغنى مع السلطان أي عنده ويكون حاصل المعنى بلغ عند أبيه وفي صحبته متخلقا بأخلاقه متطبعا بطباعه ويستدعي ذلك كمال محبة الأب إياه، ويجوز على هذا أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل بَلَغَ ومن مجيء مع لمجرد الصحبة قوله تعالى حكاية عن بلقيس سْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
[النمل: ٤٤] فلتكن فيما نحن فيه مثلها في تلك الآية وتعقب بأن ذاك معنى مجازي والحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه فليحمل على الحقيقة على أنه لا يتعين هنالك أن تكون لمعية الفاعل لجواز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلا، تقديم (مع) إشعارا منها بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها مسلمة لله تعالى فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتد به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد، قال صاحب الكشف: وهذا معنى صحيح جمل الآية عليه أولى وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بد من محذوف مع بلوغ دعوته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المقيد ومطلق الجمع معلوم بالضرورة، وزعم بعض أنه لا مانع من إرادة الحقيقة واستحداث إسلامهما معا على معنى أنه عليه السلام وافقها أو لقنها وليس بشيء كما لا يخفى.
122
وقيل يراد بالسعي على تقدير تعلق مع ببلغ المسعى وهو الجبل المقصود إليه بالمشي وهو تكلف لا يصار إليه.
وبالجملة الأولى تعلقها بالسعي، والتخصيص لأن الأب أكمل في الرفق وبالاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه أو لأنه عليه السلام استوهبه لذلك، وفيه على الأول بيان أوانه وأنه في غضاضة عوده كان فيه ما فيه من رصانة العقل ورزانة الحلم حتى أجاب بما أجاب، وعلى الثاني بيان استجابة دعائه عليه السلام وكان للغلام يومئذ ثلاث عشرة سنة والولد أحب ما يكون عند أبيه في سن يقدر فيه على إعانة الأب وقضاء حاجة ولا يقدر فيه على العصيان قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل أنه عليه السلام رأى في منامه أنه فعل ذبحه فحمله على ما هو الأغلب في رؤيا الأنبياء عليهم السلام من وقوعها بعينها، ويحتمل أنه رأى ما تأويله ذلك لكن لم يذكره وذكر التأويل كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة، وقيل إنه رأى معالجة الذبح ولم ير أنهار الدم فأني أذبحك أني أعالج ذبحك، ويشعر صنيع بعضهم اختيار أنه عليه السلام أتى في المنام فقيل له اذبح ابنك ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة، وفي رواية أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك فلما أصبح روأ في ذلك وفكر من الصباح إلى الرواح أمن الله تعالى هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فمن ثم سمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر، وقيل إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله فلما ولد وبلغ حد السعي معه قيل له أوف بنذرك، ولعل هذا القول كان في المنام وإلا فما يصنع قوله إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ وفي كلام التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما يرمز إلى أن الأمر بالذبح كان ليلا فإنه بعد أن ذكر قول الله تعالى له عليه السلام خذ ابنك وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قربانا على أحد الجبال الذي أعرفك به قيل فأدلج إبراهيم بالغداة إلخ فالأمر إما مناما وإما يقظة لكن وقع تأكيدا لما في المنام إذ لا محيص عن الإيمان بما قصه الله تعالى علينا فيما أعجز به الثقلين من القرآن والحزم الجزم بكونه في المنام لا غير إذ لا يعول على ما في أيدي اليهود وليس في الأخبار الصحيحة ما يدل على وقوعه يقظة أيضا.
ولعل السر في كونه مناما لا يقظة أن تكون المبادرة إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص.
وقيل: كان ذلك في المنام دون اليقظة ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناما سواء في الصدق، والأول أولى، والتأكيد لما في تحقق المخبر به من الاستبعاد، وصيغة المضارع في الموضعين قيل لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة، وقيل: في الأول لتكرر الرؤيا وفي الثاني للاستحضار المذكور أو لتكرر الذبح حسب تكرر الرؤيا أو للمشاكلة ومن نظر بعد ظهر له غير ذلك.
فَانْظُرْ ماذا تَرى من الرأي وإنما شاوره في ذلك وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله عز وجل فيثبت قدمه إن جزع ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون عليه ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى قبل نزوله وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك، وقرأ حمزة والكسائي «ماذا تري» بضم التاء وكسر الراء خالصة أي ما الذي تريني إياه من الصبر وغيره أو أي شيء تريني على أن ما مبتدأ وذا موصول خبره ومفعولي ترى محذوفان أو ماذا كالشيء الواحد مفعول ثان لترى والمفعول الأول محذوف، وقرىء «ماذا ترى» بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول أي ماذا تريك نفسك من الرأي، و (انظر) في جميع القراءات معلقة عن العمل وفي ماذا الاحتمالان فلا تغفل.
قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي الذي تؤمر به فحذف الجار والمجرور دفعة أو حذف الجار أولا فعدي الفعل
123
بنفسه نحو أمرتك الخير ثم حذف المجرور بعد أن صار منصوبا ثانيا، والحذف الأول شائع مع الأمر حتى كاد يعد متعديا بنفسه فكأنه لم يجتمع حذفان أو افعل أمرك على أن ما مصدرية والمراد بالمصدر الحاصل بالمصدر أي المأمور به، ولا فرق في جواز إرادة ذلك من المصدر بين أن يكون صريحا وأن يكون مسبوكا.
وإضافته إلى ضمير إبراهيم إضافة إلى المفعول ولا يخفى بعد هذا الوجه، وهذا الكلام يقتضي تقدم الأمر وهو غير مذكور فإما أن يكون فهم من كلامه عليه السلام أنه رأى أنه يذبحه مأمورا أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، وصيغة المضارع للإيذان بغرابة ذلك مثلها في كلام إبراهيم على وجه وفيه إشارة إلى أن ما قاله لم يكن إلا عن حلم غير مشوب بجهل بحال المأمور به، وقيل: للدلالة على أن الأمر متعلق به متوجه إليه مستمر إلى حين الامتثال به، وقيل: لتكرر الرؤيا، وقيل: جيء بها لأنه لم يكن بعد أمر وإنما كانت رؤيا الذبح فأخبره بها فعلم لعلمه بمقام أبيه وإنه ممن لا يجد الشيطان سبيلا بإلقاء الخيالات الباطلة إليه في المنام أنه سيكون ذلك ولا يكون إلا بأمر إلهي فقال له افعل ما تؤمر بعد من الذبح الذي رأيته في منامك، ولما كان خطاب الأب يا بُنَيَّ على سبيل الترحم قال هو يا أَبَتِ على سبيل التوقير والتعظيم ومع ذلك أتى بجواب حكيم لأنه فوض الأمر حيث استشاره فأجاب بأنه ليس مجازها وإنما الواجب إمضاء الأمر.
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على قضاء الله تعالى ذبحا كان أو غيره، وقيل: على الذبح والأول أولى لعموم ويدخل الذبح دخولا أوليا، وفي قوله مِنَ الصَّابِرِينَ دون صابرا وإن كانت رؤوس الآي تقتضي ذلك من التواضع ما فيه، وقيل ولعله وفق للصبر ببركته مع بركة الاستثناء وموسى عليه السلام لما لم يسلك هذا المسلك من التواضع في قوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً [الكهف: ٦٩] حيث لم ينظم نفسه الكريمة في سلك الصابرين بل أخرج الكلام على وجه لا يشعر بوجود صابر سواه لم يتيسر له الصبر مع أنه لم يهمل أمر الاستثناء. وفيه أيضا إغراء لأبيه عليه السلام على الصبر لما يعلم من شفقته عليه مع عظم البلاء حيث أشار إلى أن لله تعالى عبادا صابرين وهي زهرة ربيع لا تتحمل الفرك فَلَمَّا أَسْلَما أي استسلما وانقادا لأمر الله تعالى فالفعل لازم أو سلم الذبيح نفسه وإبراهيم ابنه على أنه متعد والمفعول محذوف.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعبد الله ومجاهد والضحاك وجعفر بن محمد والأعمش والثوري «سلما» وخرجت على ما سمعت ويجوز أن يكون المعنى فوضا إليه تعالى في قضائه وقدره، وقرىء «استسلما» وأصل لأفعال الثلاثة سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض، وأصل التل الرمي على التل وهو التراب المجتمع ثم عمم في كل صرع، والجبين أحد جانبي الجبهة وشذ جمعه على أجبن وقياسه في القلة أجبنة ككثيب وأكثبة وفي الكشرة جبنان وجبن ككثبان وكثب، واللام لبيان ماخر عليه كما في قوله تعالى يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الإسراء: ١٠٧، ١٠٩] وقوله:
وخر صريعا لليدين وللفم وليست للتعدية، وقيل المراد كبه على وجهه وكان ذلك بإشارة منه. أخرج غير واحد عن مجاهد أنه قال لأبيه:
لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني فلا تجهز علي اربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي للأرض ففعل فكان ما كان، ولا يخفى أن ارادة ذلك من الآية بعيد، نعم لا يبعد أن يكون الذبيح قال هذا.
وفي الآثار حكاية أقوال غير ذلك أيضا، منها ما
في خبر للسدي أنه قال لأبيه عليهما السلام: يا أبت اشدد رباطي حتى لا اضطرب واكفف عن ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء فتراه أمي فتحزن واسرع مر السكين
124
على حلقي فيكون أهون للموت علي فإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني فأقبل عليه إبراهيم يقبله. وكل منهما يبكي
، ومنها ما
في حديث أخرجه أحمد وجماعة عن ابن عباس أنه قال لأبيه وكان عليه قميص أبيض يا أبت ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه فكان ما قص الله عز وجل.
وكان ذلك عند الصخرة التي بمنى، وعن الحسن في الموضع المشرف على مسجد مني، وعن الضحاك في المنحر الذي ينحر فيه اليوم، وقيل كان ببيت المقدس وحكي ذلك عن كعب، وحكى الإمام مع هذا القول أنه كان بالشام.
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا قيل ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى بذلك، وأَنْ مفسرة بمعنى أي (١) وقرأ زيد بن علي قد صدقت بحذفها، وقرىء «صدقت» بالتخفيف، وقرأ فياض «الريا» بكسر الراء والإدغام، وتصديقه عليه السلام الرؤيا توفيته حقها من العمل وبذل وسعه في إيقاعها وذلك بالعزم والإتيان بالمقدمات ولا يلزم فيه وقوع ما رآه بعينه، وقيل هو إيقاع تأويلها وتأويلها ما وقع، ويفهم من كلام الإمام أنه الاعتراف بوجوب العمل بها، ولا يدل على الإتيان بكل ما رآه في المنام، وهل أمر عليه السلام الشفرة على حلقه أم لا قولان ذهب إلى الثاني منهما كثير من الأجلة، وقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أنه عليه السلام لما أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه نودي من خلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، وأخرج هو وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أنه عالج قميصه ليخلعه فنودي بذلك.
وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه أيضا فلما أدخل يده ليذبحه فلم يحمل المدية حتى نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده
وأخرج عبد بن حميد وغيره من مجاهد فلما أدخل يده ليذبحه نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده ورفع رأسه فرأى الكبش ينحط إليه حتى وقع عليه فذبحه
، وفي رواية أخرى عنه أخرجها عبد بن حميد أيضا وابن المنذر أنه أمرّ السكين فانقلبت، وإلى عدم الإمرار ذهبت اليهود أيضا لما في توراتهم مد إبراهيم يده فأخذ السكين فقال له ملاك الله من السماء قائلا: يا إبراهيم يا إبراهيم قال: لبيك قال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تصنع به شيئا، وذهب إلى الأول طائفة فمنهم من قال: إنه أمرها ولم تقطع مع عدم المانع لأن القطع بخلق الله تعالى فيها أو عندها عادة وقد لا يخلق سبحانه، ومنهم من قال: أنه أمرها ولم تقطع لمانع،
فقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء بن يسار أنه عليه السلام قام إليه بالشفرة فبرك عليه فجعل الله تعالى ما بين لبته إلى منحره نحاسا لا تؤثر فيه الشفرة
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه عليه السلام جر السكين على حلقه فلم ينحر وضرب الله تعالى على حلقه صفيحة من نحاس
وأخرج الخطيب في تالي التلخيص عن فضيل بن عياض قال: أضجعه ووضع الشفرة فقلبها جبريل عليه السلام
وأخرج الحاكم بسند فيه الواقدي عن عطاء أنه نحر في حلقه فإذا هو قد نحر في نحاس فشحذ الشفرة مرتين أو ثلاثا بالحجر
، وضعف جميع ذلك. وقيل إنه عليه السلام ذبح لكن كان كلما قطع موضعا من الحلق أوصله الله تعالى، وزعموا ورود ذلك في بعض الأخبار ولا يكاد يصح، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المقام من الكلام، وجواب لما محذوف مقدر بعد صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به المقال من استبشارهما وشكرهما الله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله وإظهار فضلهما مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك، وهو أولى من تقدير فإذا ونحوه، وقدره بعض البصريين بعد وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي أجزلنا أجرهما، وعن الخليل وسيبويه تقديره قبل
(١) قوله وقرأ زيد بن علي قد صدقت بحذفها كذا في الأصل ولعل قد صدقت من زيادة القلم وحرر القراءة اه.
125
وَتَلَّهُ قال في البحر: والتقدير فلما أسلما أسلما وتله، وقال ابن عطية: وهو عندهم كقول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى أي أجزنا وانتحى، وهو كما ترى، وقال الكوفيون: الجواب مثبت وهو وَنادَيْناهُ على زيادة الواو، وقالت فرقة: هو وتَلَّهُ على زيادتها أيضا، ولعل الأولى ما تقدم.
وقوله تعالى: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ابتداء كلام غير داخل في النداء وهو تعليل لإفراج تلك الشدة المفهوم من الجواب المقدر أو من الجواب المذكور أعني نادينا إلخ على القول بأنه الجواب أو منه وإن لم يكن الجواب والعلة في المعنى إحسانهما، وكونه تعليلا لما انطوى عليه الجواب من الشكر ليس بشيء.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي الابتلاء والاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره أو المحنة البينة وهي المحنة الظاهرة صعوبتها وما وقع لا شيء أصعب منه ولا تكاد تخفى صعوبته على أحد ولله عز وجل أن يبتلي من شاء بما شاء وهو سبحانه الحكيم الفعال لما يريد. ولعل هذه الجملة لبيان كونهما من المحسنين، وقيل لبيان حكمة ما نالهما، وعلى التقديرين هي مستأنفة استئنافا بيانيا فليتدبر.
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ بحيوان يذبح بدله عَظِيمٍ قيل أي عظيم الجثة سمين وهو كبش أبيض أقرن أعين وفي رواية: أملح بدل أبيض، وعن الحسن أنه وعل اهبط عن ثبير، والجمهور على الأول ووافقهم الحسن في رواية رواها عنه ابن أبي حاتم وفيها أن اسمه حرير، واليهود على أنه كبش أيضا. وفسر المعظم العظيم بعظيم القدر وذلك على ما روي عن ابن عباس لأنه الكبش الذي قربه هابيل فتقبل منه وبقي يرعى في الجنة إلى يوم هذا الفداء، وفي رواية عنه وعن ابن جبير أنهما قالا: عظمه كونه من كباش الجنة رعى فيها أربعين خريفا.
وقال مجاهد وصف بالعظم لأنه متقبل يقينا، وقال الحسن بن الفضل: لأنه كان من عند الله عز وجل، وقال أبو بكر الوراق: لأنه لم يكن عن نسل بل عن التكوين، وقال عمرو بن عبيد: لأنه جرت السنة به وصار دينا باقيا آخر الدهر، وقيل لأنه فدى به نبي وابن نبي، وهبوطه من ثبير كما قال الحسن في الوعل وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس.
وفي رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه وجده عليه السلام قد ربط بسمرة في أصل ثبير
وعن عطاء بن السائب أنه قال: كنت قاعدا بالمنحر فحدثني قرشي عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: إن الكبش نزل على إبراهيم في هذا المكان.
وفي رواية عن ابن عباس أنه خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفا فأرسل إبراهيم عليه السلام ابنه واتبعه فرماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الأولى فافلت ورماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الوسطى فأفلت ورماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الكبرى فأتى به المنحر من منى فذبح قيل وهذا أصل سنية رمي الجمار، والمشهور أن أصل السنية رمي الشيطان هناك
ففي خبر عن قتادة أن الشيطان أراد أن يصيب حاجته من إبراهيم وابنه يوم أمر يذبحه فتمثل بصديق له فأراد أن يصده عن ذلك فلم يتمكن فتعرض لابنه فلم يتمكن فأتى الجمرة فانتفخ حتى سد الوادي ومع إبراهيم ملك فقال له: ارم يا إبراهيم فرمى بسبع حصيات يكبر في أثر كل حصاة فأفرج له عن الطريق ثم انطلق حتى أتى الجمرة الثانية فسد الوادي أيضا فقال الملك: ارم يا إبراهيم فرمى كما في الأولى وهكذا في الثالثة،
وظاهر الآية أن الفداء كان بحيوان واحد وهو المعروف. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس أنه فدى بكبشين أملحين أقرنين أعينين ولا أعرف له صحة، ويراد بالذبح عليه لو صح الجنس، والفادي على الحقيقة إبراهيم عليه السلام، وقال سبحانه: فَدَيْناهُ على التجوز في الفداء أي أمرنا أو أعطينا أو في اسناده إليه تعالى، وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية أيضا، وفائدة العدول عن الأصل التعظيم.
126
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ سبق ما يعلم منه بيانه عند تفسير نظيره في آخر قصة نوح، ولعل ذكر في العالمين هناك وعدم ذكره هنا لما أن لنوح عليه السلام من الشهرة لكونه كآدم ثان للبشر ونجاة من نجا من أهل الطوفان ببركته ما ليس لإبراهيم عليه السلام.
كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ذلك إشارة إلى إبقاء ذكره الجميل فيما بين الأمم لا إلى ما يشير إليه فيما سبق فلا تكرار وطرح هنا إِنَّا قيل مبالغة في دفع توهم اتحاده مع ما سبق كيف وقد سبق الأول تعليلا لجزاء إبراهيم وابنه عليهما السلام بما أشير إليه قبل وسيق هذا تعليلا لجزاء إبراهيم وحده بما تضمنه قوله تعالى وَتَرَكْنا عَلَيْهِ إلخ وما ألطف الحذف هنا اقتصارا حيث كان فيما قبله ما يشبه ذلك من عدم ذكر الابن والاقتصار على إبراهيم.
وقيل لعل ذلك اكتفاء بذكر إِنَّا مرة في هذه القصة، وقال بعض الأجلة: إنه للإشارة إلى أن قصة إبراهيم عليه السلام لم تتم فإن ما بعد من قوله تعالى وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ إلخ من تكملة ما يتعلق به عليه السلام بخلاف سائر القصص التي جعل إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ مقطعا لها فإن ما بعد ليس مما يتعلق بما قبل ومع هذا لم تخل القصة من مثل تلك الجملة بجميع كلماتها وسلك فيها هذا المسلك اعتناء بها فتأمل، وقوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الكلام فيه كما تقدم وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا حال من إسحاق، وكذا قوله تعالى مِنَ الصَّالِحِينَ وفي ذلك تعظيم شأن الصلاح، وفي تأخيره إيماء إلى أنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل والمقصود منهما الإتيان بالأفعال الحسنة السديدة وهو في الاستعمال يختص بها.
وجوز كون مِنَ الصَّالِحِينَ حالا وكون نَبِيًّا حالا من الضمير المستتر فيه، وقدم في اللفظ للاهتمام ولئلا تختل رؤوس الآي وفيه من البعد ما فيه، على أن في جواز تقديم الحال مطلقا أو اطراده في مثل هذا التركيب كلاما لا يخفى على من راجع الألفية وشروحها وفيه ما فيه بعد، وجوز أيضا كونه في موضع الصفة لنبيا والكلام على الأول وهو الذي عليه الجمهور أمدح كما لا يخفى، والمراد كونه نبيا وكونه من الصالحين في قضاء الله تعالى وتقديره أي مقتضيا كون نبيا مقتضيا كونه من الصالحين وإن شئت فقل مقدرا ولا يكونان بذلك من الحال المقدرة التي تذكر في مقابلة المقارنة بل هما بهذا الاعتبار حالان مقارنان للعامل وهو فعل البشارة أو شيء آخر محذوف أي بشرناه بوجود إسحاق نبيا إلخ، وأوجب غير واحد تقدير ذلك معللا بأن البشارة لا تتعلق بالأعيان بل بالمعاني. وتعقب بأنه إن أريد أنها لا تستعمل إلا متعلقة بالأعيان فالواقع خلافه كبشر أحدهم بالأنثى، فإن قيل إنما يصح بتقدير ولادة ونحوه من المعاني فهو محل النزاع فلا وجه له، والذي يميل إليه القلب أن المعنى على إرادة ذلك، وربما يدعي أن معنى البشارة تستدعي تقدير معنى من المعاني، وقيل هما حالان مقدران كقوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: ٧٣] أي على إبراهيم عليه السلام وَعَلى إِسْحاقَ أي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا بأن كثرنا نسلهما وجعلنا منهم أنبياء ورسلا.
وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر والمعاصي ويدخل فيها ظلم الغير مُبِينٌ ظاهر ظلمه، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في الأعقاب لا يعود على الأصول بنقيصة وعيب، هذا وفي الآيات بعد أبحاث الأول أنهم اختلفوا في الذبيح فقال- على ما ذكره الجلال السيوطي في رسالته القول الفصيح في تعيين الذبيح- علي وابن عمر، وأبو هريرة وأبو الطفيل وسعيد جبير ومجاهد والشعبي ويوسف بن مهران والحسن البصري، ومحمد ابن كعب القرظي وسعيد بن المسيب وأبو جعفر الباقر وأبو صالح والربيع بن أنس، والكلبي. وأبو عمرو بن العلاء.
وأحمد بن حنبل وغيرهم أنه إسماعيل عليه السلام لا إسحاق عليه السلام وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ورجحه
127
جماعة خصوصا غالب المحدثين وقال أبو حاتم: هو الصحيح، وفي الهدى أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وسئل أبو سعيد الضرير عن ذلك فأنشد:
إن الذبيح هديت إسماعيل نص الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خص الإله نبينا وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت أمته فلا تنكر له شرفا به قد خصه التفضيل
وفي دعواه النص نظر وهو المشهور عند العرب قبل البعثة أيضا كما يشعر به أبيات نقلها الثعالبي في تفسير عن أمية بن الصلت واستدل له بأنه الذي وهب لإبراهيم عليه السلام أثر الهجرة وبأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام، والظاهر التغاير فيتعين كونه إسماعيل وبأنه بشر بأن يوجد وينبأ فلا يجوز ابتلاء إبراهيم عليه السلام بذبحه لأنه علم أن شرط وقوعه منتف، والجواب بأن الأول بشارة بالوجود وهذا بشارة بالنبوة ولكن بعد الذبح- قال صاحب الكشف- ضعيف لأن نظم الآية لا يدل على أن البشارة بنبوته بل على أن البشارة بأمر مقيد بالنبوة فإما أن يقدر بوجود إسحاق بعد الذبح ولا دلالة في اللفظ عليه وإما أن يقدر الوجود مطلقا وهو المطلوب، فإن قلت: يكفي في الدلالة تقدم البشارة بالوجود أو لا قلت: ذاك عليك لا لك ومن يسلم أن المتقدم بشارة بإسحاق حتى يستتب لك المرام وبأن البشارة به وقعت مقرونة بولادة يعقوب منه على ما هو الظاهر في قوله تعالى في هود فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: ٧١] ومتى بشر بالولد وولد الولد دفعة كيف يتصور الأمر بذبح الولد مراهقا قبل ولادة ولده، ومنع كونه إذ ذاك مراهقا لجواز أن يكون بالغا كما ذهب إليه اليهود قد ولد له يعقوب وغيره مكابرة لا يلتفت إليها وبأنه تعالى وصف إسماعيل عليه السلام بالصبر في قوله سبحانه وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء: ٨٥] وبأنه عز وجل وصفه بصدق الوعد في قوله تعالى إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: ٥٤] ولم يصف سبحانه إسحاق بشيء منهما فهو الأنسب دونه بأن يقول القائل يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [مريم: ٥٤] المصدق في قوله بفعله وبأن ما وقع كان بمكة وإسماعيل هو الذي كان فيها وبأن قرني الكبش كانا معلقين في الكعبة حتى احترقا معها أيام حصار الحجاج بن الزبير رضي الله تعالى عنه وكانا قد توارثهما قريش خلفا عن سلف، والظاهر أن ذاك لم يكن منهم إلا للفخر ولا يتم لهم إذا كان الكبش فدى لإسحاق دون أبيهم إسماعيل، وبأنه
روى الحاكم في المستدرك وابن جرير في تفسيره. والأموي في مغازيه والخلعي في فوائده من طريق إسماعيل بن أبي كريمة عن عمر بن أبي محمد الخطابي عن العتبي عن أبيه عن عبد الله بن سعيد الصنابحي قال: حضرنا مجلس معاوية فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق أيهما الذبيح؟ فقال بعض القوم: إسماعيل وقال بعضهم: بل إسحاق فقال معاوية: على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي فقال: يا رسول الله خلفت الكلأ يابسا والماء عابسا هلك العيال وضاع المال فعد علي مما أفاء الله تعالى عليك يا ابن الذبيحين فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه فقال القوم: من الذبيحان يا أمير المؤمنين؟ قال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله تعالى إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فأراد أن ينحره فمنعه أخواله بنو مخزوم وقالوا: ارض ربك وافد ابنك ففداه بمائة ناقة قال معاوية: هذا واحد والآخر إسماعيل وبأنه ذكر في التوراة إن الله تعالى امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم فقال: لبيك قال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قربانا على أحد الجبال الذي أعرفك
به فإن معنى وحيدك الذي ليس لك وغيره ولا يصدق ذلك على إسحاق حين الأمر بالذبح لأن إسماعيل كان موجودا إذ ذاك لأنه ولد لإبراهيم على ما في التوراة وهو ابن ست وثمانين سنة وولد
128
إسحاق على ما فيها أيضا وهو ابن مائة سنة، وأيضا قوله تعالى الذي تحبه أليق بإسماعيل لأن أول ولد له من المحبة في الأغلب ما ليس لمن بعده من الأولاد ويعلم مما ذكر أن ما في التوراة الموجودة بأيدي اليهود اليوم من ذكر هو إسحاق بعد الذي تحبه من زياداتهم وأباطيلهم التي أدرجوها في كلام الله تعالى إذ لا يكاد يلتئم مع ما قبله، وأجاب بعض اليهود عن ذلك بأن إطلاق الوحيد على إسحاق لأن إسماعيل كان إذ ذاك بمكة وهو تحريف وتأويل باطل لأنه لا يقال الوحيد وصفا للابن إلا إذا كان واحدا في النبوة ولم يكن له شريك فيها، وقال لي بعض منهم: إن إطلاق ذلك عليه لأنه كان واحدا لأمه ولم يكن لها ابن غيره فقلت: يبعد ذلك كل التبعيد إضافته إلى ضمير إبراهيم عليه السلام، ويؤيد ما قلنا ما قاله ابن إسحاق ذكر محمد بن كعب أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى رجل كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه وكان من علمائهم فسأله أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال إسماعيل: والله يا أمير المؤمنين وأن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، وذكر ابن كثير أن في بعض نسخ التوراة بكرك بدل وحيدك وهو أظهر في المطلوب، وقيل: هو إسحاق ونسبه القرطبي للأكثرين وعزاه البغوي. وغيره إلى عمر وعلي وابن مسعود والعباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعبيد بن عمير وأبي ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم بن يزيد ومكحول وكعب وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبي الهذيل وابن سابط ومسروق وعطاء ومقاتل وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري وجزم به القاضي عياض في الشفاء.
والسهيلي في التعريف والأعلام واستدل له بأنه لم يذكر الله تعالى أنه بشر بإسماعيل قبل كونه فهو إسحاق لثبوته بالنص ولأنه لم تكن تحته هاجر أم إسماعيل فالمدعو ولد من سارة، وأجيب بأنه كفى هذه الآية دليلا على أنه مبشر به أيضا لأن قوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ بعد استيفاء هذه القصة وتذييلها بما ذيل ظاهر الدلالة على أن هنالك بشارتين متغايرتين ثم عدم الذكر لا يدل على عدم الوجود ولا يلزم أن يكون طلب ولد من سارة ولا علم أنه عليه السلام دعا بذلك قبل أن وهبت هاجر منه لأنها أهديت إليه في حران قبل الوصول إلى الشام على أن البشارة بإسحاق كانت في الشام نصا فظاهر هذه الآية أنها قبل الوصول إليها لأن البشارة عقيب الدعاء وكان قبل الوصول إلى الشام قاله في الكشف.
وبما رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الذبيح إسحاق».
وتعقب بأن الحسن بن دينار متروك وشيخه منكر الحديث، وبما
أخرج الديلمي في مسند الفردوس من طريق عبد الله بن ناجية عن محمد بن حرب النسائي عن عبد المؤمن بن عباد عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن داود سأل ربه مسألة فقال اجعلني مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فأوحى الله تعالى إليه إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر وابتليت إسحاق بالذبح فصبر وابتليت يعقوب فصبر»
وبما
أخرجه الدارقطني والديلمي في مسند الفردوس من طريقه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم الكاتب عن الحسين بن فهم عن خلف بن سالم عن بهز بن أسد عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذبيح إسحاق»
وبما
أخرجه الطبراني في الأوسط وابن أبي حاتم في تفسيره من طريق الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لعجلت دعوتي إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له: يا إسحاق سل تعطه قال: أما والله لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان اللهم من مات
129
لا يشرك بك شيئا قد أحسن فاغفر له»
وتعقب هذا بأن عبد الرحمن ضعيف، وقال ابن كثير الحديث غريب منكر وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة وهي قوله: إن الله تعالى لما فرج إلخ وإن كان محفوظا فالأشبه أن السياق عن إسماعيل وحرفوه بإسحاق إلى غير ذلك من الأخبار وفيها من الموقوف والضعيف والموضوع كثير، ومتى صح حديث مرفوع في أنه إسحاق قبلناه ووضعناه على العين والرأس.
والذاهبون إلى هذا القول يدعون صحة شيء منها في ذلك. وأجيب عن بعض ما استدل به للأول بأن وقوع القصة بمكة غير مسلم بل كان ذلك بالشام وتعليق القرنين في الكعبة لا يدل على وقوعها بمكة لجواز أنهما نقلا من بلاد الشام إلى مكة فعلقا فيها، وعلى تسليم الوقوع بمكة لا مانع من أن يكون إبراهيم قد سار به من الشام إليها بل قد روي القول به، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن سعيد بن جبير قال: لما رأى إبراهيم في المنام ذبح إسحاق سار به من منزله إلى المنحر بمنى مسيرة شهر في غداة واحدة فلما صرف عنه الذبح وأمر بذبح الكبش ذبحه ثم راح به رواحا إلى منزله في عشية واحدة مسيرة شهر طويت له الأودية والجبال، وأمر الفخر لو سلم ليس بالاستدلال به كثير فخر، والخبر الذي فيه يا ابن الذبيحين غريب وفي إسناده من لا يعرف حاله وفيه ما هو ظاهر الدلالة على عدم صحته من قوله فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فإن عبد الله بإجماع أهل الأخبار لم يكن مولودا عند حفر زمزم، وقصة نذر عبد المطلب ذبح أحد أولاده تروى بوجه آخر وهو أنه نذر الذبح إذا بلغ أولاده عشرا فلما بلغوها بولادة عبد الله كان ما كان.
وما شاع من خبر أنا ابن الذبيحين قال العراقي لم أقف عليه، والخبر السابق بعد ما عرف حاله لا يكفي لثبوته حديثا فلا حاجة إلى تأويله بأنه أريد بالذبيحين فيه إسحاق وعبد الله بناء على أن الأب قد يطلق على العم أو أريد بهما الذابحان وهما إبراهيم وعبد المطلب بحمل فعيل على معنى فاعل لا مفعول، وحمل هؤلاء وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا على البشارة بنبوته وما تقدم على البشارة بأن يوجد قبل ولما كان التبشير هناك قبل الولادة والتسمية إنما تكون بعدها في الأغلب لم يسم هناك وسماه هنا لأنه بعد الولادة واستأنس للاتحاد بوصفه بكونه من الصالحين لأن مطلوبه كان ذلك فكأنه قيل له هذا الغلام الذي بشرت به أولا هو ما طلبته بقولك رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:
١٠٠] وأنت تعلم أن حمل على البشارة بالنبوة خلاف الظاهر إذ كان الظاهر أن يقال لو أريد ذلك بشرناه بنبوته ونحوه. وتقدير أن يوجد نبيا لا يدفعه كما لا يخفى وكذا وصفه بالصلاح الذي طلبه فتأمل.
ومن العلماء من رأى قوة الأدلة من الطرفين ولم يترجح شيء منها عنده فتوقف في التعيين كالجلال السيوطي عليه الرحمة فإنه قال في آخر رسالته السابقة: كنت ملت إلى القول بأن الذبيح إسحاق في التفسير وأنا الآن متوقف عن ذلك، وقال بعضهم كما نقله الخفاجي: إن في الدلالة على كونه إسحاق أدلة كثيرة وعليه جملة أهل الكتاب ولم ينقل في الحديث ما يعارضه فلعله وقع مرتين مرة بالشام لإسحاق ومرة بمكة لإسماعيل عليهما السلام، والتوقف عندي خير من هذا القول، والذي أميل أنا إليه أنه إسماعيل عليه السلام بناء على ظاهر الآية يقتضيه وأنه المروي عن كثير من أئمة أهل البيت ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضي خلاف ذلك، وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوي الألباب.
البحث الثاني أنه استدل بما في القصة على جواز النسخ قبل الفعل وهو مذهب كثير من الأصوليين وخالف فيه المعتزلة والصيرفي، ووجه الاستدلال على ما قرره بعض الأجلة أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ولده بدليل قوله
130
افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ولأنه عليه السلام أقدم على الذبح وترويع الولد ولو لم يكن مأمورا به لكان ذلك ممتنعا شرعا وعادة ونسخ عنه قبل الفعل لأنه لم يفعل ولو كان ترك الفعل مع حضور الوقت لكان عاصيا.
واعترض عليه بأنا لا نسلم أنه لو لم يفعل وقد حضر الوقت لكان عاصيا لجواز أن يكون الوقت موسعا فيحصل التمكن فلا يعصى بالتأخير ثم ينسخ. وأجيب أما أولا فبأنه لو كان موسعا لكان الوجوب متعلقا بالمستقبل لأن الأمر باق عليه قطعا فإذا نسخ فقد نسخ تعلق الوجوب بالمستقبل وهو المانع من النسخ عندهم فإنهم يقولون: إذا تعلق الوجوب بالمستقبل مع بقاء الأمر عليه امتنع رفع ذلك التعلق بالنهي عنه وإلا لزم توارد الأمر والنهي على شيء واحد وهو محال، فإذا جوزوا النسخ في الواجب الموسع في وقته قبل فعله مع أن الوجوب فيه تعلق بالمستقبل والأمر باق عليه فقد اعترفوا بجواز ما منعوه وهو المطلوب، وأما ثانيا فبأنه لو كان موسعا لأخر الفعل ولم يقدم على الذبح وترويع الولد عادة إما رجاء أن ينسخ عنه وإما رجاء أن يموت فيسقط عنه لعظم الأمر ومثله مما يؤخر عادة. وتعقب هذا بأن عادة الأنبياء عليهم السلام المبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى على خلاف عادة أكثر الناس ولا تستبعد منهم خوارق العادات وإبراهيم من أجلّهم قدرا سلمنا أن العادة ولو بالنسبة إلى الأنبياء تقتضي التأخير لكن من أين علم أنه عليه السلام لم يؤخر إلى آخر الوقت اتباعا للعادة فالمعول عليه الجواب الأول وبه يتم الاستدلال، وربما دفعوه بوجوه أخر، منها أنه لم يؤمر بشيء وإنما توهم ذلك توهما بإراءة الرؤيا ولو سلم فلم يؤمر بالذبح إنما أمر بمقدماته من إخراج الولد وأخذه المدية وتله للجبين، وتعقب هذا بأنه ليس بشيء لما مر من قوله افْعَلْ ما تُؤْمَرُ واقدامه على الذبح والترويع المحرم لولا الأمر كيف ويدل على خلافه قوله تعالى إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وقوله سبحانه وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ولولا الأمر لما كان بلاء مبينا ولما احتاج إلى الفداء، وكون الفداء عن ظنه أنه مأمور بالذبح لا يخفى حاله، وعلى أصل المعتزلة هو توريط لإبراهيم عليه السلام في الجهل بما يظهر أنه أمر وليس بأمر وذلك غير جائز، ومن لا يجوز الظن الفاسد على الأنبياء عليهم السلام فهذا عنده أدنى من لا شيء، ومنها أنا لا نسلم أنه لم يذبح بل روي أنه ذبح وكان كلما قطع شيئا يلتحم عقيب القطع وأنه خلق صفيحة نحاس أو حديد تمنع الذبح، وتعقب بأن هذا لا يسمع، أما أولا فلأنه خلاف العادة والظاهر ولم ينقل نقلا معتبرا. وأجيب بأن الرواية سند للمنع والضعف لا ينافيه والاحتمال كاف في المقام ولا ريب في جوازه كإرسال الكبش من الجنة، وأما ثانيا فلأنه لو ذبح لما احتيج إلى الفداء، وكونه لأن الإزهاق لم يحصل ليس بشيء، ولو منع الذبح بالصفيحة مع الأمر به لكان تكليفا بالمحال وهم لا يجوزونه ثم قد نسخ عنه وإلا لأثم بتركه فيكون نسخا قبل التمكن فهو لنا لا علينا. ومن السادة الحنفية من قال: ما نحن فيه ليس من النسخ لأنه رفع الحكم لا إلى بدل وهنا له بدل قائم مقامه كالفدية للصوم في حق الشيخ الفاني فعلم أنه لم يرفع حكم المأمور به. وفي التلويح فإن قيل: هب أن الخلف قام مقام الأصل لكنه استلزم حرمة الأصل أي ذبحه وتحريم الشيء بعد وجوبه نسخ لا محالة لرفع حكمه، قيل: لا نسلم كونه نسخا وإنما يلزم لو كان حكما شرعيا وهو ممنوع فإن حرمة ذبح الولد ثابتة في الأصل فزالت بالوجوب ثم عادت بقيام الشاة مقام الولد فلا تكون حكما شرعيا حتى يكون ثبوتها نسخا للوجوب انتهى، وتعقب بأن هذا بناء على ما تقرر من أن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخا أما على أنه نسخ كما التزمه بعض الحنفية إذ لا إباحة ولا تحريم إلا بشرع كما قرروه يكون رفع الحرمة الأصلية نسخا وإذا كان رفعها نسخا أيضا يبقى الإيراد المذكور من غير جواب على ما قرر في شرح التحرير، هذا وتمام الكلام في حجة الفريقين مفصل في أصول الفقه وهذا المقدار كاف لغرض المفسر.
البحث الثالث أنه استدل أبو حنيفة بالقصة على أن لو نذر أن يذبح ولده فعليه شاة، ووافقه في ذلك محمد،
131
ونقله الإمام القرطبي عن مالك. وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار نذر أن يذبح ولده فعليه شاة لقصة الخليل عليه السلام وألغاه الثاني والشافعي كنذره قتله (١) ونقل الجصاص أن نذر القتل كنذر الذبح، واعترض على الإمام بأنه نذر معصية وجاء لا نذر في معصية الله تعالى، وقال هو: إن ذلك في شرع إبراهيم عليه السلام عبارة عن ذبح شاة ولم يثبت نسخه فليس معصية، وقال بعض الشافعية: ليس في النظم الجليل ما يدل على أنه كان نذرا من إبراهيم عليه السلام حتى يستدل به. وأجيب بأنه ورد في التفسير المأثور أنه نذر ذلك وهو في حكم النص ولذا قيل له لما بلغ معه السعي: أوف بنذرك، وبأنه إذا قامت الشاة مقام ما أوجبه الله تعالى عليه علم قيامها مقام ما يوجبه على نفسه بالطريق الأولى فيكون ثابتا بدلالة النص، والإنصاف أن مدرك الشافعي وأبي يوسف عليهما الرحمة أظهر وأقوى من مدرك الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة فتأمل وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ هذا وما بعده من قبيل عطف الخاص على العام، والكرب العظيم تغلب فرعون ومن معه من القبط، وقيل الغرق وليس بذاك وَنَصَرْناهُمْ الضمير لهما مع القوم وقيل لهما فقط وجيء به ضمير جمع لتعظيمهما فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ بسبب ذلك على فرعون وقومه وهُمُ يجوز أن يكون فصلا أو توكيدا أو بدلا، والتنجية وإن كانت بحسب الوجود مقارنة لما ذكر من النصر لكنها لما كانت بحسب المفهوم عبارة عن التخليص عن المكروه بدأ بها ثم بالنصر الذي يتحقق مدلوله بمحض تنجية المنصور من عدوه من غير تغلب عليه ثم بالغلبة لتوفية مقام الامتنان حقه بإظهار أن كل مرتبة من هذه المراتب الثلاث نعمة جليلة على حيالها وَآتَيْناهُمَا بعد ذلك الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ أي البليغ في البيان والتفصيل كما يشعر به زيادة البنية وهو التوراة وَهَدَيْناهُمَا بذلك الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الموصل إلى الحق والصواب بما فيه من تفاصيل الشرائع وتفاريع الأحكام وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الكلام فيه نظير ما سبق في نظيره وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ قال الطبري: هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى عليهما السلام فهو إسرائيلي من سبط هارون، وحكى القتيبي أنه من سبط يوشع، وحكى الطبرسي أنه ابن عم اليسع وأنه بعث بعد حزقيل، وفي العجائب للكرماني أنه ذو الكفل، وعن وهب أنه عمر كما عمر الخضر ويبقى إلى فناء الدنيا.
وأخرج ابن عساكر عن الحسن أنه موكل بالفيافي والخضر بالبحار والجزائر وإنهما يجتمعان بالموسم في كل عام، وحديث اجتماعه مع النبي صلّى الله عليه وسلم في بعض الأسفار وأكله معه من مائدة نزلت عليهما عليهما الصلاة والسلام من السماء هي خبز وحوت وكرفس وصلاتهما العصر معا رواه الحاكم عن أنس وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وكل ذلك من التعمير وما بعده لا يعول عليه. وحديث الحاكم ضعفه البيهقي، وقال الذهبي. موضوع قبح الله تعالى من وضعه ثم قال: وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحح هذا، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر: عن ابن مسعود أن إلياس هو إدريس ونقل عنه أنه قرأ «وإن إدريس لمن المرسلين» والمستفيض عنه أنه قرأ كالجمهور نعم قرأ ابن وثاب والأعمش والمنهال بن عمرو والحكم بن عتيبة الكوفي كذلك.
وقرىء «إدراس» وهو لغة في إدريس كإبراهام في إبراهيم، وإذا فسر إلياس بإدريس على أن أحد اللفظين اسم
(١) قوله «كنذره قتله» قال الخفاجي عليه كفارة يمين عند الثاني نذر الذبح أو القتل اه منه.
132
والآخر لقب فإن كان المراد بهما من سمعت نسبه فلا بأس به وإن كان المراد بهما إدريس المشهور الذي رفعه الله تعالى مكانا عليا وهو على ما قيل أخنوخ بن يزد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم وكان على ما ذكره المؤرخون قبل نوح، وفي المستدرك عن ابن عباس أن بينه وبين نوح ألف سنة، وعن وهب أنه جد نوح أشكل الأمر في قوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ [الأنعام: ٨٣- ٨٦] لأن ضمير ذُرِّيَّتِهِ إما أن يكون لإبراهيم لأن الكلام فيه وإما أن يكون لنوح لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم، وعلى التقديرين لا يتسنى نظم إلياس المراد به إدريس الذي هو قبل نوح على ما سمعت في عداد الذرية، ويرد على القول بالاتحاد مطلقا أنه خلاف الظاهر فلا تغفل.
وقرأ عكرمة. والحسن بخلاف عنهما والأعرج وأبو رجاء وابن عامر وابن محيصن «وإن الياس» بوصل الهمزة فاحتمل أن يكون قد وصل همزة القطع واحتمل أن يكون اسمه يأسا ودخلت عليه أل كما قيل في اليسع، وفي حرف أبي ومصحفه و «أن إبليس» بهمزة مكسورة بعدها ياء أيضا ساكنة آخر الحروف بعدها لام مكسورة بعدها ياء أيضا ساكنة وسين مهملة مفتوحة.
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وهم على المشهور في إلياس سبط من بني إسرائيل أسكنهم يوشع لما فتح الشام المدينة المعروفة اليوم ببعلبك وزعم بعضهم أنها كانت تسمى بكة وقيل بك بلاها. ثم سميت بما عرف على طريق التركيب المزجي، وإِذْ عند جمع مفعول اذكر محذوفا أي اذكر وقت قوله لقومه أَلا تَتَّقُونَ عذاب الله تعالى ونقمته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه أَتَدْعُونَ بَعْلًا أي أتعبدونه أو تطلبون حاجكم منه، وهو اسم صنم لهم كما قال الضحاك والحسن وابن زيد وفي بعض نسخ القاموس أنه لقوم يونس، ولا مانع من أن يكون لهما أو ذلك تحريف. قيل وكان من ذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه فكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وقيل هو اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها واستؤنس له بقراءة بعضهم، بعلاء بالمد على وزن حمراء، وظاهر صرفه أنه عربي على القولين فلا تغفل.
وقال عكرمة وقتادة، البعل الرب بلغة اليمن: وفي رواية أخرى عن قتادة بلغة أزد شنوءة وأستام بن عباس ناقة رجل من حمير فقال له: أنت صاحبها؟ قال: بعلها فقال ابن عباس أتدعون بعلا: أتدعون ربا ممن أنت؟ قال: من حمير، والمراد عليه أتدعون بعض البعول أي الأرباب والمراد بها الأصنام أو المعبودات الباطلة فالتنكير للتبعيض فيرجع لما قيل قبله وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ أي وتتركون عبادته تعالى أو طلب جميع حاجكم منه عز وجل على أن الكلام على حذف مضاف وقيل إن المراد بتركهم إياه سبحانه تركهم عبادته عز وجل والمراد بالخالق من يطلق عليه ذلك، وله بهذا الاعتبار إفراد وإن اختلفت جهة الإطلاق فيها فلا إشكال في إضافة أفعل إلى ما بعده، وهاهنا سؤال مشهور وهو ما وجه العدول عن تدعون بفتح التاء والدال مضارع ودع بمعنى ترك إلى تَذَرُونَ مع مناسبته ومجانسته لتدعون قبله دون تذرون وأجيب عن ذلك بأجوبة الأول أن في ذلك نوع تكلف والجناس المتكلف غير ممدوح عند البلغاء ولا يمدح عندهم ما لم يجىء عفوا بطريق الاقتضاء ولذا ذموا متكلفة فقيل فيه:
طبع المجنس فيه نوع قيادة أو ما ترى تأليفه للأحرف
قاله الخفاجي، وفي كون هذا البيت في خصوص المتكلف نظر وبعد فيه ما فيه، الثاني أن في تدعون إلباسا
133
على من يقرأ من المصحف دون حفظ من العوام بأن يقرأه كتدعون الأول ويظن أن المراد إنكار بين دعاء بعل ودعاء أحسن الخالقين، وليس بالوجه إذ ليس من سنة الكتاب ترك ما يلبس على العوام كما لا يخفى على الخواص.
والصحابة أيضا لم يراعوهم وإلا لما كتبوا المصحف غير منقوط ولا ذا شكل كما هو المعروف اليوم، وفي بقاء الرسم العثماني معتبرا إلى انقضاء الصحابة ما يؤيد ما قلنا، الثالث أن التجنيس تحسين وإنما يستعمل في مقام الرضا والإحسان لا في مقام الغضب والتهويل، وفيه بأنه وقع فيما نفاه قال تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم: ٥٥] وقال سبحانه يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [النور: ٤٣، ٤٤] وفيهما الجناس التام ولا يخفى حال المقام، الرابع ما نقل عن الإمام فإنه سئل عن سبب ترك تدعون إلى تَذَرُونَ فقال: ترك لأنهم اتخذوا الأصنام آلهة وتركوا الله تعالى بعد ما علموا أن الله سبحانه ربهم ورب آبائهم الأولين استكبارا واستنكارا فلذلك قيل وَتَذَرُونَ ولم يقل وتدعون، وفيه القول بأن دع أمر بالترك قبل العلم وذر أمر بالترك بعده ولا تساعده اللغة والاشتقاق، الخامس أن لإنكار كل من فعلي دعاء بعل وترك أحسن الخالقين علة غير علة إنكار الآخر فترك التجنيس رمزا إلى شدة المغايرة بين الفعلين، السادس أنه لما لم يكن مجانسة بين المفعولين بوجه من الوجوه ترك التجنيس في الفعلين المتعلقين بهما وإن كانت المجانسة المنفية بين المفعولين شيئا والمجانسة التي نحن بصددها بين الفعلين شيئا آخر، وكلا الجوابين كما ترى، السابع أن يدع إنما استعملته العرب في الترك الذي لا يذم مرتكبه لأنه من الدعة بمعنى الراحة ويذر بخلافه لأنه يتضمن إهانة وعدم اعتداد لأنه من الوذر قطعة اللحم الحقيرة التي لا يعتد بها. واعترض بأن المتبادر من قوله بخلافه أن يذر إنما استعملته العرب في الترك الذي يذم مرتكبه فيرد عليه قوله تعالى فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ [الأنعام: ١١٢، ١٣٧] وقوله سبحانه وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: ٢٧٨] إلى غير ذلك وفيه تأمل. الثامن أن يدع أخص من يذر لأنه بمعنى ترك الشيء مع اعتناء به بشهادة الاشتقاق نحو الإيداع فإنه ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها ولهذا يختار لها من هو مؤتمن ونحوه موادعة الأحباب وأما يذر فمعناه الترك مطلقا أو مع الاعراض والرفض الكلي، قال الراغب يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به ومنه الوذر وهو ما سمعت آنفا، ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول إذ المراد تبشيع حالهم في الإعراض عن ربهم وهو قريب من سابقه لكنه سالم عن بعض ما فيه، التاسع أن في تدعون بفتح التاء والدال ثقلا ما لا يخفى على ذي الذوق السليم والطبع المستقيم وَتَذَرُونَ سالم عنه فلذا اختير عليه فتأمل والله تعالى أعلم، وقد أشار سبحانه وتعالى بقوله أَحْسَنَ الْخالِقِينَ إلى المقتضي للانكار المعنى بالهمز وصرح به للاعتناء بشأنه في قوله تعالى:
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بالنصب على البدلية من أحسن الخالقين، قال أبو حيان: ويجوز كون ذاك عطف بيان إن قلنا إن إضافة أفعل التفضيل محضة، وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع على أن الاسم الجليل مبتدأ ورَبَّكُمْ خبره أو هو خبر مبتدأ محذوف وربكم عطف بيان أو بدل منه، وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب وإذا وقف رفع، والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم الأولين لتأكيد إنكار تركهم إياه تعالى والإشعار ببطلان آراء آبائهم أيضا فَكَذَّبُوهُ فيما تضمنه كلامه من إيجاب الله تعالى التوحيد وتحريمه سبحانه الإشراك وتعذيبه تعالى عليه، وجوز أن يكون تكذيبهم راجعا إلى ما تضمنه قوله الله ربكم فَإِنَّهُمْ بسبب ذلك لَمُحْضَرُونَ أي في العذاب وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة أو لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر في العرف العام أو حيث استعمل في القرآن لإشعاره بالجبر إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء متصل من الواو في كذبوه فيدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه، ومنع
134
كونه استثناء متصلا من ضمير (محضرون) لأنه للمكذبين فإذا استثني منه اقتضى أنهم كذبوه ولم يحضروا وفساده ظاهر، وقيل: لأنه إذا لم يستثن من ضمير كذبوا كانوا كلهم مكذبين فليس فيهم مخلص فضلا عن مخلصين ومآله ما ذكر، لكن اعترضه ابن كمال بأنه لا فساد فيه لأن استثناءهم من القوم المحضرين لعدم تكذيبهم على ما دل عليه التوصيف بالمخلصين لا من المكذبين فمآل المعنى واحد.
ورد بأن ضمير محضرين للقوم كضمير كذبوا. وقال الخفاجي: لا يخفى أن اختصاص الإحضار بالعذاب كما صرح به غير واحد يعين كون ضمير محضرين للمكذبين لا لمطلق القوم فإن لم يسلمه فهو أمر آخر، وفي البحر ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعا إذ يصير المعنى لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون في العذاب وفيه بحث.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الكلام فيه كما في نظيره بيد أنه يقال هاهنا إن آل ياسين لغة في إلياس وكثيرا ما يتصرفون في الأسماء الغير العربية. وفي الكشاف لعل لزيادة الياء والنون معنى في اللغة السريانية، ومن هذا الباب سيناء وسينين، واختار هذه اللغة هنا رعاية للفواصل، وقيل: هو جمع إلياس على طريق التغليب بإطلاقه على قومه وأتباعه كالمهلبين للمهلب وقومه.
وضعف بما ذكره النحاة من أن العلم إذا جمع أو ثني وجب تعريفه باللام جبرا لما فاته من العلمية، ولا فرق فيه بين ما فيه تغليب وبين غيره كما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل، لكن هذا غير متفق عليه، قال ابن يعيش في شرح المفصل (١) يجوز استعماله نكرة بعد التثنية والجمع نحو زيدان كريمان وزيدون كريمون وهو مختار الشيخ عبد القاهر وقد أشبعوا الكلام على ذلك في مفصلات كتب النحو، ثم إن هذا البحث إنما يتأتى مع من لم يجعل لام إلياس للتعريف أما من جعلها له فلا يتأتى البحث معه، وقيل: هو جمع إلياسي بياء النسبة فخفف لاجتماع الياءات في الجر والنصب كما قيل أعجمين في أعجميين وأشعرين في أشعريين، والمراد بالياسين قوم إلياس المخلصون فإنهم الاحقاء بأن ينسبوا إليه، وضعف بقلة ذلك وإلباسه بإلياس إذا جمع وإن قيل: حذف لام إلياس مزيل للإلباس، وأيضا هو غير مناسب للسياق والسباق إذ لم يذكر آل أحد من الأنبياء.
وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب وزيد بن علي «آل ياسين» بالإضافة، وكتب في المصحف العثماني منفصلا ففيه نوع تأييد لهذه القراءة، وخرجت عن أن ياسين اسم أبي إلياس ويحمل الآل على إلياس وفي الكناية عنه تفخيم له كما في آل إبراهيم عن نبينا صلّى الله عليه وسلم، وجوز أن يكون الآل مقحما على أن ياسين هو إلياس نفسه.
وقيل: ياسين فيها اسم لمحمد صلّى الله عليه وسلم فآل ياسين آله عليه الصلاة والسلام،
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في «سلام على آل ياسين» نحن آل محمد آل ياسين
، وهو ظاهر في جعل ياسين اسما له صلّى الله عليه وسلم، وقيل: هو اسم للسورة المعروفة، وقيل: اسم للقرآن فآل ياسين هذه الأمة المحمدية أو خواصها.
وقيل: اسم لغير القرآن من الكتب، ولا يخفى عليك أن السياق والسباق يأبيان أكثر هذه الأقوال.
وقرأ أبو رجاء والحسن «على الياسين» بوصل الهمزة وتخريجها يعلم مما مر. وقرأ ابن مسعود ومن قرأ معه فيما سبق إدريس «سلام على ادراسين» وعن قتادة «وأن إدريس» وقرأ «على إدريسين» وقرأ أبي «على إيليس» كما قرأ «وإنّ إيليس لمن المرسلين».
(١) وهو في عشرة أجزاء من أنفس كتب النحو وقد طبعناه والحمد لله.
135
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ سبق بيانه في الشعراء وَإِنَّكُمْ
يا أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سذوم (٢) في طريقه مُصْبِحِينَ
داخلين في الصباح وَبِاللَّيْلِ
قيل أي ومساء بأن يراد بالليل أوله لأنه زمان السير ولوقوعه مقابل الصباح، وقيل: أي نهارا وليلا وهو تأويل قبل الحاجة ولذا اختير الأول، ووجه التخصيص عليه بأنه لعل سدوم وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحا والقاصد مساء، وقال بعض الأجلة: لو أبقى على ظاهره لأن ديار العرب لحرها يسافر فيها في الليل إلى الصباح خلا عن التكلف في توجيه المقابلة أَفَلا تَعْقِلُونَ
أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فإن منشأ ذلك مخالفتهم رسولهم ومخالفة الرسول قدر مشترك بينكم.
(١) قال الضحاك مسخت حجرا وكانت تسمى هيشفع انتهى منه.
(٢) سذوم بالدال المهملة والذال المعجمة بلد قوم لوط عليه السلام.
136
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
يروى على ما في البحر أنه عليه السلام نبىء وهو ابن ثمان وعشرين سنة، وحكي في البحر أنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وهو ابن متى بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور، وهل هذا اسم أمه أو أبيه فيه خلاف فقيل اسم أمه وهو المذكور في تفسير عبد الرزاق، وقيل: اسم أبيه وهذا- كما قال ابن حجر- أصح، وبعض أهل الكتاب يسميه يونان بن مائي، وبعضهم يسميه يونه بن امتياي ولم نقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وفي اسمه عند العرب ست لغات تثليث النون مع الواو والياء والهمزة، والقراءة المشهورة بضم النون مع الواو. وقرأ أبو طلحة بن مصرف بكسر النون قيل أراد أن يجعله عربيا مشتقا من أنس وهو كما ترى إِذْ أَبَقَ
هرب، وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه كما هو الأنسب بحال الأنبياء عليهم السلام حسن إطلاقه عليه فهو إما استعارة أو مجاز مرسل من استعمال المقيد في المطلق، والأول أبلغ، وقال بعض الكمل: الإباق الفرار من السيد بحيث لا يهتدي إليه طالب أي بهذا القصد، وكان عليه السلام هرب من قومه بغير إذن ربه سبحانه إلى حيث طلبوه فلم يجدوه فاستعير الإباق لهربه باعتبار هذا القيد لا باعتبار القيد الأول، وفيه بعد تسليم اعتبار هذا القيد على ما ذكره بعض أهل اللغة أنه لا مانع من اعتبار ذلك القيد فلا اعتبار بنفي اعتباره إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
المملوء فَساهَمَ
فقارع عليه السلام من في الفلك، واستدل به من قال بمشروعية القرعة.
فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
فصار من المغلوبين بالقرعة، وأصله المزلق اسم مفعول عن مقام الظفر.
يروى أنه وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام فلما كان اليوم الثالث خرج يونس قبل أن يأذن الله تعالى له ففقده قومه فخرجوا بالكبير والصغير والدواب وفرقوا بين كل والدة وولدها فشارف نزول العذاب بهم فعجوا إلى الله تعالى وأنابوا واستقالوا فأقالهم الله تعالى وصرف عنهم العذاب فلما لم ير يونس نزول العذاب استحى أن يرجع إليهم وقال: لا أرجع إليهم كذابا أبدا ومضى على وجهه فأتى سفينة فركبها فلما وصلت اللجة وقفت فلم تسر فقال صاحبها: ما يمنعها أن تسير إلا أن فيكم رجلا مشؤوما فاقترعوا ليلقوا من وقعت عليه القرعة في الماء فوقعت على يونس ثم أعادوا فوقعت عليه ثم أعادوا فوقعت عليه فلما رأى ذلك رمى بنفسه في الماء.
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعه من اللقمة،
وفي خبر أخرجه أحمد وغيره عن ابن مسعود أنه أتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه فلما دخلها ركدت والسفن تسير يمينا وشمالا فقال: ما بال سفينتكم؟ قالوا: ما ندري قال: ولكني أدري إن فيها عبدا آبق من ربه وإنها والله لا تسير حتى تلقوه قالوا: أما أنت والله يا نبي الله فلا نلقيك فقال لهم: اقترعوا فمن قرع فليلق فاقترعوا ثلاث مرات وفي كل مرة تقع القرعة عليه فرمى بنفسه فكان ما قص الله تعالى
. وكيفية اقتراعهم على ما
في البحر عن ابن مسعود أنهم أخذوا لكل سهما على أن من طفا سهمه فهو ومن غرق سهمه فليس إياه فطفا سهم يونس.
وروي أنه لما وقف على شفير السفينة ليرمي بنفسه رأى حوتا- واسمه على ما أخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن قتادة نجم- قد رفع رأسه من الماء قدر ثلاثة أذرع يرقبه ويترصده فذهب إلى ركن آخر فاستقبله الحوت فانتقل إلى آخر فوجده
وهكذا حتى استدار بالسفينة فلما رأى ذلك عرف أنه أمر من الله تعالى فطرح نفسه فأخذه قبل أن يصل إلى الماء وَهُوَ مُلِيمٌ أي داخل في الملامة على أن بناء افعل للدخول في الشيء نحو أحرم إذا دخل الحرم أو آت بما يلام عليه على أن الهمزة فيه للصيرورة نحو أغد البعير أي صار ذا غدة فهو هنا لما أتى بما يستحق اللوم عليه صار ذا لوم أو مليم نفسه على أن الهمزة فيه للتعدية نحو أقدمته والمفعول محذوف، وما روي عن ابن عباس ومجاهد من تفسيره بالمسيء والمذنب فبيان لحاصل المعنى وحسنات الأبرار سيئات المقربين. وقرىء «مليم» بفتح أوله اسم مفعول وقياسه ملوم لأنه واوي يقال لمته ألومه لوما لكنه جيء به على ليم كما قالوا مشيب
137
ومدعي في مشوب ومدعو بناء على شيب ودعي وذلك أنه لما قلبت الواو ياء في المجهول جعل كالأصل فحمل الوصف عليه.
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي من الذاكرين الله تعالى كثيرا بالتسبيح كما قيل، وفي كلام قتادة ما يشعر باعتبار الكثرة، واستفادتها على ما قال الخفاجي من جعله من المسبحين دون أن يقال مسبحا فإنه يشعر بأنه عريق فيهم منسوب إليهم معدود في عدادهم ومثله يستلزم الكثرة، وقيل: من التفعيل. ورد بأن معنى سبح لم يعتبر فيه ذلك إذ هو قال سبحان الله، وقد يقال: هي من إرادة الثبوت من الْمُسَبِّحِينَ فإنه يشعر بأن التسبيح ديدن لهم، والمراد بالتسبيح هاهنا حقيقته وهو القول المذكور أو ما في معناه وروي ذلك عن ابن جبير.
وهذا الكون عند بعض قبل التقام الحوت أيام الرخاء، واستظهر أبو حيان أنه في بطن الحوت وأن التسبيح ما ذكره الله تعالى في قوله سبحانه: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:
٨٧] وحمله بعضهم على الذكر مطلقا، وبعض آخر على العبادة كذلك، وجماعة منهم ابن عباس على الصلاة بل روي عنه أنه قال: كل ما في القرآن من التسبيح فهو بمعنى الصلاة، وأنت تعلم أن كان اللفظ فيما ذكر حقيقة شرعية ولم يكن للتسبيح حقيقة أخرى شرعية أيضا لم يحتج إلى قرينة، وإن كان مجازا أو كان للتسبيح حقيقة شرعية أخرى احتيج إلى قرينة فإن وجدت فذاك وإلا فالأمر غير خفي عليك، وكما اختلف في زمان التسبيح بالمعنى السابق اختلف في زمانه بالمعاني الأخر، أخرج أحمد في الزهد. وغيره عن ابن جبير في قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قال: من المصلين قبل أن يدخل بطن الحوت، وأخرج أحمد وغيره أيضا عن الحسن في الآية قال: ما كان إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت فذكر ذلك لقتادة فقال: لا إنما كان يعمل في الرخاء، وروي عن الحسن غير ما ذكر،
فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان والحاكم أنه قال في الآية: كان يكثر الصلاة في الرخاء فلما حصل في بطن الحوت ظن أنه الموت فحرك رجليه فإذا هي تتحرك فسجد وقال: يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يسجد فيه أحد.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك بن قيس قال: اذكروا الله تعالى في الرخاء يذكر كم في الشدة فإن يونس عليه السلام كان عبدا صالحا ذاكر الله تعالى فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
[يونس: ٩٠] إلخ وإن فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا لذكر الله تعالى فلما أدركه الغرق قال آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: ٩٠]. فقيل له: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يونس: ٩١] والأولى حمل زمان كونه من المسبحين على ما يعم زمان الرخاء وزمان كونه في بطن الحوت فإن لاتصافه بذلك في كلا الزمانين مدخلا في خروجه من بطن الحوت المفهوم من قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ كما يشعر به ما
في حديث أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس مرفوعا من أنه عليه السلام لما التقمه الحوت وهوى به حتى انتهى إلى ما انتهى من الأرض سمع تسبيح الأرض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فأقبلت الدعوة نحو العرش فقالت الملائكة: يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا من بلاد غربة قال سبحانه: وما تدرون ما ذاكم؟ قالوا: لا يا ربنا قال: ذاك عبدي يونس قالوا: الذي كنا لا نزال نرفع له عملا متقبلا ودعوة مجابة؟ قال: نعم قالوا: يا ربنا ألا ترحم ما كان يصنع في الرخاء وتنجيه عند البلاء؟ قال: بلى فأمر عز وجل الحوت فلفظه.
واستظهر أبو حيان أن المراد بقوله سبحانه لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلخ لبقي في بطنه حيا إلى يوم البعث وبه أقول.
138
وتعقب بأنه ينافيه ما ورد من أنه لا يبقى عند النفخة الأولى ذو روح من البشر والحيوان في البر والبحر. وأجيب بعد تسليم ورود ذلك أو ما يدل عليه بأنه مبالغة في طول المدة مع أنه في حيز لو فلا يرد رأسا (١) أو المراد بوقت البعث ما يشمل زمان النفخة لأنه من مقدماته فكأنه منه، وعن قتادة لكان بطن الحوت قبرا له، وظاهره أنه أريد للبث ميتا في بطنه إلى يوم البعث، ولا مانع من بقاء بنية الحوت كبنيته من غير تسلط البلاء إلى ذلك اليوم، وضمير يُبْعَثُونَ لغير مذكور وهو ظاهر فَنَبَذْناهُ بأن حملنا الحوت على لفظه فالإسناد مجازي، والنبذ على ما في القاموس طرحك الشيء أماما أو وراء أو هو عام.
وقال الراغب: النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، والمراد به هنا الطرح والرمي والقيد الذي ذكره الراغب لا أرغب فيه فإنه عليه السلام وإن أبق وخرج من غير إذن مولاه واعتراه من تأديبه تعالى ما اعتراه فالرب عز وجل بأنبيائه رحيم وله سبحانه في كل شأن اعتداد بهم عظيم فهو عليه السلام معتد به في حال الإلقاء وإن كان ذلك بِالْعَراءِ أي بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت، يروى أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس ويونس يسبح حتى انتهوا إلى البر فلفظه. ورد بأنه يأباه قوله تعالى فَنادى فِي الظُّلُماتِ وأجيب بأنه بمجرد رفع رأسه للتنفس لا يخرج منها، ثم إنّ هذا لئلا يختنق يونس أو تنحصر نفسه بحكم العادة لا ليمتنع دخول الماء جوف الحوت حتى يقال السمك لا يحتاج لذلك، ومع هذا نحن لا نجزم بصحة الخبر فقد روي أيضا أنه طاف به البحار كلها ثم نبذه على شط دجلة قريب نينوى بكسر النون الأولى وضم الثانية كما في الكشف من أرض الموصل، والالتقام كان في دجلة أيضا على ما صرح به البعض وخالف فيه أهل الكتاب، وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل كلامهم لك في هذه القصة لتقف على ما فيه.
والظاهر أن الحوت من حيتان دجلة أيضا وقد شاهدنا فيها حيتانا عظيمة جدا، وقيل كان من حيتان النيل. أخرج ابن شيبة عن وهب أنه جلس هو وطاوس ونحوهما من أهل ذلك الزمان فذكروا أي أمر الله تعالى أسرع؟ فقال بعضهم:
قول الله تعالى كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل: ٧٧، القمر: ٥٠] وقال بعضهم: السرير حين أتى به سليمان، وقال وهب:
أسرع أمر الله تعالى أن يونس على حافة السفينة إذ أوحى الله سبحانه إلى نون في نيل مصر فما خر من حافتها إلا في جوفه، ولا شبهة في أن قدرة الله عز وجل أعظم من ذلك لكن الشبهة في صحة الخبر.
وكأني بك تقول: لا شبهة في عدم صحته. واختلف في مدة لبثه فأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وغيره عن الشعبي قال: التقمه الحوت ضحى ولفظه عشية وكأنه أراد حين أظلم الليل، وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال: إنه لبث في جوفه ثلاثا، وفي كتب أهل الكتاب ثلاثة أيام وثلاث ليال، وعن عطاء وابن جبير سبعة أيام، وعن الضحاك عشرين يوما، وعن ابن عباس وابن جريج وأبي مالك والسدي ومقاتل بن سليمان والكلبي وعكرمة أربعين يوما، وفي البحر ما يدل على أنه لم يصح خبر في مدة لبثه عليه السلام في بطن الحوت وَهُوَ سَقِيمٌ مما ناله، قال ابن عباس والسدي: إنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد، وعن ابن جبير أنه عليه السلام ألقي ولا شعر له ولا جلد ولا ظفر. ولعل ذلك يستدعي بحكم العادة أن لمدة لبثه في بطن الحوت طولا ما.
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أي أنبتناها مطلة عليه مظلة له كالخيمة فعليه حال من شَجَرَةً قدمت
(١) أو أنه يبقى حيا إلى وقت النفخة ثم يموت مع من يموت ويبقى إلى يوم البعث في بطن الحوت فلا إشكال اه عبد الله نجل المصنف.
139
عليها لأنها نكرة، واليقطين يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به، وزاد الطبرسي إقامة زائل لا إقامة راسخ، والمراد به على ما جاء عن الحسن والسبط. وابن عباس في رواية وابن مسعود وأبي هريرة وعمرو بن ميمون وقتادة وعكرمة وابن جبير ومجاهد في إحدى الروايتين عنهما الدباء وهو القرع المعروف، وكان النبي ﷺ يحبه، وأنبتها الله تعالى مطلة عليه لأنها تجمع خصالا برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقع عليها على ما قيل، وكان عليه السلام لرقة جلده بمكثه في بطن الحوت يؤذيه الذباب ومماسة ما فيه خشونة ويؤلمه حر الشمس ويستطيب بارد الظل فلطف الله تعالى به بذلك، وذكر أن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده واشتهر أن الشجر ما كان على ساق من عود فيشكل تفسير الشجرة هنا بالدباء.
وأجاب أبو حيان بأنه يحتمل أن الله تعالى أنبتها على ساق لتظله خرقا للعادة، وقال الكرماني: العامة تخصص الشجر بما له ساق، وعند العرب كل شيء له أرومة تبقى فهو شجر وغيره نجم، ويشهد له قول أفصح الفصحاء ﷺ شجرة الثوم انتهى.
وقال بعض الأجلة: لك أن تقول أصل معناه ما له أرومة لكنه غلب في عرف أهل اللغة على ما له ساق وأغصان فإذا أطلق يتبادر منه المعنى الثاني وإذا قيد كما هنا. وفي الحديث يرد على أصله وهو الظاهر، ثم ذكر أن ما قاله أبو حيان تمحل في محل لا مجال للرأي فيه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن جبير أنه قال: كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين والذي يكون على وجه الأرض من البطيخ والقثاء، وفي رواية أخرى عنه أنه سئل عن اليقطين أهو القرع؟ قال: لا ولكنها شجرة سماها الله تعالى اليقطين أظلته.
وفي رواية عن ابن عباس أنه كل شيء ينبت ثم يموت من عامه، وفي أخرى كل شيء يذهب على وجه الأرض.
وقيل شجرة اليقطين هي شجرة الموز تغطي بورقها واستظل بأغصانها وأفطر على ثمارها، وقيل شجرة التين والأصح ما تقدم.
وروي عن قتادة أنه عليه السلام كان يأكل من ذلك القرع، وجاء في رواية عن أبي هريرة أنه قال: طرح بالعراء فأنبت الله تعالى عليه يقطينة فقيل له: ما اليقطينة؟ قال: شجرة الدباء هيأ الله تعالى له أروية وحشية تأكل من حشاش الأرض فتفسح عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبتت، وقيل: إنه كان يستظل بالشجرة وتختلف إليه الأروية فيشرب من لبنها، وفي بعض الآثار أنها نبتت وأظلته في يومها.
أخرج أحمد في الزهد وغيره عن وهب أنه لما خرج من البحر نام نومة فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين وهي الدباء فأظلته وبلغت في يومها فرآها قد أظلته ورأى خضرتها فأعجبته ثم نام نومة فاستيقظ فإذا هي قد يبست فجعل يحزن عليها فقيل له: أنت الذي لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن عليها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون ثم رحمتهم فشق عليك وهؤلاء هم أهل نينوى المعنيون بقوله تعالى:
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ والإرسال على ما أخرج غير واحد عن مجاهد والحسن وقتادة هو الإرسال الأول الذي كان قبل أن يلتقمه الحوت فالعطف على قوله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ
إلخ على سبيل البيان لدلالته على ابتداء الحال وانتهائه وعلى ما هو المقصود من الإرسال من الإيمان، واعترض بينهما بقصته اعتناء بها لغرابتها. وأورد عليه أنه يأبى عن حمله على الإرسال الأول الفاء في قوله تعالى: فَآمَنُوا فإن أولئك لم يؤمنوا عقيب إرساله الأول بل بعد ما فارقهم. وأجيب بأنه تعقيب عرفي نحو تزوج فولد له.
140
وقيل: الأقرب أن الفاء للتفصيل أو السببية، وقيل هو إرسال ثان إليهم بعد أن أصابه ما أصابه فالعطف على ما عنده.
وأورد عليه أن المروي أنهم بعد مفارقته لهم رأوا العذاب أو خافوه فآمنوا فقوله تعالى فَآمَنُوا في النظم الجليل هنا يأبى عن حمله على إرسال ثان. وأجيب بأنه يجوز أن يكون الإيمان المقرون بحرف التعقيب إيمانا مخصوصا أو أن آمنوا بتأويل أخلصوا الإيمان وجددوه لأن الأول كان إيمان بأس، وقيل هو إرسال إلى غيرهم، وقيل: إن الأولين بعد أن آمنوا سألوه أن يرجع إليهم فأبى لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم وقال لهم: إن الله تعالى باعث إليكم نبيا.
وفي خبر طويل أخرجه أحمد في الزهد وجماعة عن ابن مسعود أنه عليه السلام بعد أن نبذ بالعراء وأنبت الله تعالى عليه الشجرة وحسن حاله خرج فإذا هو بغلام يرعى غنما فقال: ممن أنت يا غلام؟ قال: من قوم يونس قال: فإذا رجعت إليهم فأقرئهم السلام وأخبرهم أنك لقيت يونس فقال له الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قتل فمن يشهد لي؟ قال: تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة فقال الغلام ليونس: مرهما فقال لهما يونس: إذا جاء كما هذا الغلام فاشهدا له قالتا: نعم فرجع الغلام إلى قومه وكان له اخوة فكان في منعة فأتى الملك فقال: إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام فأمر به الملك أن يقتل فقال: إن لي بينة فأرسل معه فانتهوا إلى الشجرة والبقعة فقال لهما الغلام نشدتكما بالله هل أشهد كما يونس قالتا: نعم فرجع القوم مذعورين يقولون: تشهد لك الشجرة والأرض فأتوا الملك فحدثوه بما رأوا فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في مجلسه وقال: أنت أحق بهذا المكان مني وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة
، وهذا دال بظاهره أنه عليه السلام لم يرجع بعد أن أصابه ما أصابه إليهم فإن صح يراد بالإرسال هنا إما الإرسال الأول الذي تضمنه قوله تعالى وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
وإما إرسال آخر إلى غير أولئك القوم، والمعروف عند أهل الكتاب أنه عليه السلام لم يرسل إلا إلى أهل نينوى، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تفصيل قصته عندهم وأَوْ على ما نقل عن ابن عباس بمعنى بل، وقيل:
بمعنى الواو وبها قرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما
، وقيل: للإبهام على المخاطب، وقال المبرد وكثير من البصريين: للشك نظرا إلى الناظر من البشر على معنى من رآهم شك في عددهم وقال مائة ألف أو يزيدون والمقصود بيان كثرتهم أو أن الزيادة ليست كثيرة كثرة مفرطة كما يقال هم ألف وزيادة، وقال ابن كمال: المراد يزيدون باعتبار آخر وذلك أن المكلفين بالفعل منهم كانوا مائة ألف وإذا ضم إليهم المراهقون الذين بصدد التكليف كانوا أكثر ومن هاهنا ظهر وجه التعبير بصيغة التجدد دون الثبات. وتعقب بأنه مع أن المناسب له الواو تكلف ركيك، وأقرب منه أن الزيادة بحسب الإرسال الثاني ويناسبه صيغة التجدد وإن كانت للفاصلة، وهو معطوف على جملة أَرْسَلْناهُ بتقديرهم يزيدون لا على مِائَةِ بتقدير أشخاص يزيدون أو تجريده للمصدرية فإنه ضعيف، والزيادة على ما روي عن ابن عباس ثلاثون ألفا، وفي أخرى عنه بضعة وثلاثون ألفا، وفي أخرى بضعة وأربعون ألفا، وعن نوف وابن جبير سبعون ألفا،
وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله ﷺ عن قول الله تعالى وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال: يزيدون عشرين ألفا
، وإذا صح هذا الخبر بطل ما سواه.
فَمَتَّعْناهُمْ بالحياة إِلى حِينٍ إلى آجالهم المسماة في الأزل قاله قتادة والسدي، وزعم بعضهم أن تمتيعهم بالحياة إلى زمان المهدي وهم إذا ظهر من أنصاره فهم اليوم أحياء في الجبال والقفار لا يراهم كل أحد كالمهدي عند الإمامية والخضر عند بعض العلماء والصوفية، وربما يكشف لبعض الناس فيرى أحدا منهم، وهو كذب مفترى، ولعل عدم ختم هذه القصة والقصة التي قبلها بنحو ما ختم به سائر القصص من قوله تعالى وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ [الصافات: ١٣٠] إلخ تفرقة بين شأن لوط ويونس عليهما السلام وشأن أصحاب الشرائع الكبر
141
وأولي العزم من المرسلين مع الاكتفاء فيهما بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور في آخر السورة ولتأخرهما في الذكر قربا منه والله تعالى أعلم. والمذكور في شأن يونس عليه السلام في كتب أهل الكتاب أن الله عز وجل أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى وكانت إذ ذاك عظيمة جدا لا تقطع إلا في نحو ثلاثة أيام وكانوا قد عظم شرهم وكثر فسادهم فاستعظم الأمر وهرب إلى ترسيس فجاء يافا فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر وأعطى الأجرة وركب السفينة فهاجت ريح عظيمة وكثرت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق ففزع الملاحون ورموا في البحر بعض الأمتعة لتخف السفينة وعند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة ونام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائما؟ قم وادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا، وقال بعضهم لبعض: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له: أخبرنا ماذا عملت ومن أين أتيت وإلى أين تمضي ومن أي كورة أنت ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبد الرب إله السماء خالق البر والبحر وأخبرهم خبره فخافوا خوفا عظيما. وقالوا له: لم صنعت ما صنعت يلومونه على ذلك ثم قالوا له: ما نصنع الآن بك ليسكن البحر عنا؟ فقال:
ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوها إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر وأمر الله تعالى حوتا عظيما فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال وصلى في بطنه إلى ربه واستغاث به، فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال عز وجل له: قم وامض إلى نينوى وناد في أهلها كما أمرتك من قبل فمضى عليه السلام ونادى وقال: تخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله تعالى ونادوا بالصيام ولبسوا المسوح جميعا ووصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيه ونزع حلته ولبس مسحا وجلس على الرماد ونودي أن لا يذق أحد من الناس والبهائم طعاما ولا شرابا وجأروا إلى الله تعالى ورجعوا عن الشر والظلم فرحمهم الله تعالى فلم ينزل بهم العذاب فحزن يونس وقال: إلهي من هذا هربت فإني علمت أنك الرحيم الرؤوف الصبور التواب يا رب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال: يا يونس حزنت من هذا جدا؟
فقال: نعم يا رب وخرج يونس وجلس مقابل المدينة وصنع له هناك مظلة وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة فأمر الله تعالى يقطينا فصعد على رأسه ليكون ظلاله من كربه ففرح باليقطين فرحا عظيما وأمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح سموم وأشرقت الشمس على رأس يونس عليه السلام فعظم الأمر عليه واستطيب الموت فقال له الرب: يا يونس أحزنت جدا على اليقطين؟ فقال: نعم يا رب حزنت جدا فقال سبحانه: حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربه بل صار من ليلته وهلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها سكان أكثر من اثني عشر ربوة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم ولا شمالهم وبهائمهم كثيرة انتهى، وفيه من المخالفة للحق ما فيه ولتطلع على حاله نقلته لك وكم لأهل الكتاب من باطل:
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم في صدر السورة الكريمة بتبكيت قريش وإبطال مذهبهم في إنكار البعث بطريق الاستفتاء وساق البراهين الناطقة بتحققه لا محالة وبين وقوعه وما يلقونه عند ذلك من فنون العذاب واستثنى منهم عباده المخلصين وفصل سبحانه ما لهم من النعيم المقيم، ثم ذكر سبحانه أنه قد ضل من قبلهم أكثر الأولين وأنه تعالى أرسل إليهم منذرين على وجه الإجمال، ثم أورد قصص بعض الأنبياء عليهم السلام بنوع تفصيل متضمنا كل منها ما يدل على فضلهم وعبوديتهم له عز وجل، ثم أمره صلّى الله عليه وسلم هاهنا بتبكيتهم بطريق الاستفتاء عن وجه ما تنكره العقول بالكلية وهي القسمة الباطلة اللازمة لما كانوا عليه من الاعتقاد الزائغ حيث كانوا يقولون كبعض أجناس العرب جهينة وسليم وخزاعة وبني مليح: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، ثم بتبكيتهم بما يتضمنه كفرهم المذكور من الاستهانة بالملائكة عليهم السلام بجعلهم إناثا، ثم أبطل سبحانه
142
أصل كفرهم المنطوي على هذين الكفرين وهو نسبة الولد إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولم ينظمه سبحانه في سلك التبكيت لمشاركتهم اليهود القائلين عزير ابن الله والنصارى المعتقدين عيسى ابن الله تعالى الله عن ذلك، والفاء قيل لترتيب الأمر على ما يعلم مما سبق من كون أولئك الرسل أعلام الخلق عليهم السلام عباده تعالى فإن ذلك مما يؤكد التبكيت ويظهر بطلان مذهبهم الفاسد فكأنه قيل: إذا كان رسل ربك من علمت حالهم فاستخبر هؤلاء الكفرة عن وجه كون البنات وهن أوضع الجنسين له تعالى بزعمهم والبنين الذين هم أرفعهما لهم فإنهم لا يستطيعون أن يثبتوا له وجها لأنه في غاية البطلان لا يقوله من له أدنى شيء من العقل، وقال بعض الأجلة: الكلام متصل بقوله تعالى في أول السورة فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [الصافات: ١١] على أن الفاء هنا للعطف على ذاك، والتعقيب لأنه أمر بهما من غير تراخ، وهي هناك جزائية في جواب شرط مقدر، وبهذا القول أقول. وأورد عليه أبو حيان أن فيه الفصل الطويل وقد استقبح النحاة الفصل بجملة نحو أكلت لحما وأضرب زيدا وخبزا فما ظنك بالفصل بجمل بل بما يقرب من سورة. وأجيب بأن ما ذكر في عطف المفردات وأما الجمل فلاستقلالها يغتفر فيها ذلك، والكلام هنا لما تعانقت معانيه وارتبطت مبانيه وأخذ بعضها بحجز بعض حتى كأن الجميع كلمة واحدة لم يعد البعد بعدا كما قيل:
وليس يضير البعد بين جسومنا إذا كان ما بين القلوب قريبا
ووجه ترتب المعطوف على ما قبل كوجه ترتب المعطوف عليه فإن كونه تعالى رب السماوات والأرض وتلك الخلائق العظيمة كما دل على وحدته تعالى وقدرته عز وجل دال على تنزهه سبحانه عن الولد، ألا ترى إلى قوله جل شأنه بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [الأنعام: ١٠١] والمناسبة بين الرد على منكري البعث والرد على مثبتي الولد ظاهرة، وقد اتحد في الجملتين السائل والمسئول والأمر وجوز بعضهم كون ضمير (استفتهم) للمذكورين من الرسل عليهم السلام والبواقي لقريش، والمراد الاستفتاء ممن يعلم أخبارهم ممن يوثق بهم ومن كتبهم وصحفهم أي ما منهم أحد ألا وينزه الله تعالى عن أمثال ذلك حتى يونس عليه السلام في بطن الحوت، ولعمري إن الرجل قد بلغ الغاية من التكلف من غير احتياج إليه، ولعله لو استغنى عن ارتكاب التجوز بالتزام كون الاستفتاء من المرسلين المذكورين حيث يجتمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم اجتماعا روحانيا كما يدعيه لنفسه الشيخ محيي الدين قدس سره مع غير واحد من الأنبياء عليهم السلام ويدعي أن الأمر بالسؤال المستدعي للاجتماع أيضا في قوله تعالى وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: ٤٥] على هذا النمط لكان الأمر أهون وإن كان ذلك منزعا صوفيا.
وأضيف الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام دون ضميرهم تشريفا لنبيه صلّى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنهم في قولهم بالبنات له عز وجل كالنافين لربوبيته سبحانه لهم، وقوله سبحانه: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً إضراب وانتقال من التبكيت بالاستفتاء السابق إلى التبكيت بهذا أي بل أخلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق وأقواهم وأعظمهم تقدسا عن النقائص الطبيعية إناثا والأنوثة من أخس صفات الحيوان.
وقوله تعالى: وَهُمْ شاهِدُونَ استهزاء بهم وتجهيل لهم كقوله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: ١٩] فإن أمثال هذه الأمور لا تعلم إلا بالمشاهدة إذ لا سبيل إلى معرفتها بطريق العقل وانتفاء النقل مما لا ريب فيه فلا بد أن يكون القائل بأنوثتهم شاهدا عند خلقهم، والجملة أما حال من فاعل خَلَقْنَا أي بل أخلقناهم إناثا والحال أنهم حاضرون حينئذ أو عطف على خَلَقْنَا أي بل أهم شاهدون.
وقول تعالى أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت الاستفتاء
143
مسوق لإبطال أصل مذهبهم الفاسد ببيان أن مبناه ليس إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير أن يكون لهم دليل أو شبهة وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يتدينون به مطلقا أو في هذا القول، وفيه تأكيد لقوله تعالى: مِنْ إِفْكِهِمْ وقرىء «ولد الله» بالإضافة ورفع ولد على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ليقولون الملائكة ولد الله والولد فعل بمعنى مفعول يقع على المذكر والمؤنث والواحد والجمع ولذا وقع هنا خبرا عن الملائكة المقدر أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ بهمزة مفتوحة هي حرف استفهام حذفت بعدها همزة الوصل والاستفهام للإنكار والمراد اثبات إفكهم وتقرير كذبهم، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء لنفسه.
وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة «اصطفى» بكسر الهمزة وهي همزة الوصل وتكسر إذا ابتدئ بها وخرجت على حذف أداة الاستفهام لدلالة أم بعد وإن كانت منقطعة غير معادلة لها لكثرة استعمالها معها، وجوز إبقاء الكلام على الأخبار إما على إضمار القول أي لكاذبون في قولهم اصطفى إلخ أو يقولون اصطفى إلخ على ما قيل: أو على الإبدال من قولهم ولد الله أو الملائكة ولد الله وليس دخيلا بين نسيبين، والأولى التخريج على حذف الأداة وحسم البحث فتأمل.
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بهذا الحكم الذي نقضي ببطلانه بداهة العقول والالتفات لزيادة التوبيخ أَفَلا تَذَكَّرُونَ بحذف أحد التاءين من تتذكرون. وقرأ طلحة بن مصرف تذكرون بسكون الذال وضم الكاف من ذكر.
والفاء للعطف على مقدر أي تلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه فإنه مركوز في عقل كل ذكي وغبي أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ إضراب وانتقال من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر بتكليفهم ما لا يدخل تحت الوجود أصلا أي بل ألكم حجة واضحة نزلت من السماء بأن الملائكة بناته تعالى ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الناطق بصحة دعواكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
فيها، والأمر للتعجيز، وإضافة الكتاب إليهم للتهكم، وفي الآيات من الأنباء عن السخط العظيم والإنكار الفظيع لأقاويلهم والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وأفهامهم مع استهزاء بهم وتعجيب من جهلهم ما لا يخفى على من تأمل فيها، وقوله تعالى وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً التفات إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم وتحكى لآخرين جناياتهم، واستظهر أن المراد بالجنة الشياطين وأريد بالنسب المجعول المصاهرة.
أخرج آدم بن أبي أياس وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عن مجاهد قال: قال كفار قريش الملائكة بنات الله تعالى فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي على سبيل التبكيت: فمن أمهاتهم؟ فقالوا: بنات سروات الجن وروي هذا ابن أبي حاتم عن عطية، أو أريد جعلوا بينه سبحانه وبينهم مناسبة حيث أشركوهم به تعالى في استحقاق العبادة وروي هذا عن الحسن، وقيل إن قوما من الزنادقة يقولون الله عز وجل وإبليس عليه اللعنة أخوان فالله تعالى هو الخير الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم وهو المراد بقوله سبحانه: وَجَعَلُوا إلخ وحكى هذا الطبرسي عن الكلبي، وقال الإمام الرازي: وهذا القول عندي أقرب الأقاويل وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن ويعبرون عنهما بالنور والظلمة، ويبعد هذا القول عندي أن الظاهر أن ضمير جَعَلُوا كالضمائر السابقة لقريش ولم يشتهر ذلك عنهم بل ولا عن قبيلة من قبائل العرب وليس المقام للرد على الكفرة مطلقا.
وأخرج غير واحد عن مجاهد وعبد بن حميد عن عكرمة وابن أبي شيبة عن أبي صالح أن المراد بالجنة الملائكة، وحكاه في مجمع البيان عن قتادة واختاره الجبائي، والمراد بالجعل المذكور ما تضمنه قولهم: الملائكة
144
بنات الله، وأعيد تمهيدا لما يعقبه، وهو مبني على أن الجن والملك جنس واحد مخلوقون من عنصر واحد وهو النار لكن من كان من كثيفها الدخاني فهو شيطان وهو شرذ وتمرد ومن كان من صافي نورها فهو ملك وهو خير كله، ووجه التسمية بالجن الاستتار عن عيوننا فالجن والجنة بمعنى مفعول من جنه إذا ستره، ويكون على هذا تخصيص الجن بأحد نوعيه تخصيصا طارئا كتخصيص الدابة، وعلى الأصل جاء ما هنا، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نوعا من الملائكة عليهم السلام يسمى الجن ومنهم إبليس وعبر عن الملائكة بالجنة حطالهم مع عظم شأنهم في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم في قولهم ذلك، وقد يقال: إن الاستتار كالداعي لهم إلى ذلك الزعم الباطل بناء على توهمهم بأنه إنما يليق بالإناث فقالوا: لو لم يكونوا بناته سبحانه وتعالى لما سترهم عن العيون فلذا عبر عنهم بالجنة وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي والله لقد علمت الشياطين أي جنسهم أن الله تعالى يحضرهم ولا بد النار ويعذبهم بها ولو كانوا مناسبين له تعالى أو شركاء في استحقاق العبادة أو التصرف لما عذبهم سبحانه فضمير إِنَّهُمْ للجنة على ما عدا الوجه الأخير من الأوجه السابقة وأما عليه فهو للكفرة أي والله لقد علمت الملائكة الذين جعلوا بينه تعالى وبينهم نسبا وقالوا هم بناته أن الكفرة لمحضرون النار معذبون بها لكذبهم وافترائهم في قولهم ذلك، والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان أن الذين يدعى لهم هؤلاء تلك النسبة ويعلمون أنهم علم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكما مؤكدا، ويجوز على الأوجه الأول عود الضمير على الكفرة أيضا والمعنى على نحو ما ذكر، وعلم الملائكة أن الكفرة معذبون ظاهر، وعلم الشياطين بأنهم أنفسهم وكذا سائر الكفرة معذبون لما أن الله عز وجل توعد إبليس عليه اللعنة بما يدل على ذلك.
وقوله سبحانه سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ على جميع الأوجه السابقة تنزيه من جهته تعالى لنفسه عن الوصف الذي لا يليق به، وقوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع من المحضرين وما بينهما اعتراض أي ولكن المخلصون ناجون، وجوز كونه استثناء متصلا منه ويفسر ضمير إِنَّهُمْ بما يعم وهو خلاف الظاهر.
وجوز كونه استثناء منقطعا من ضمير يَصِفُونَ وكونه استثناء متصلا منه وهو خلاف الظاهر أيضا.
وجوز كونه استثناء من ضمير جَعَلُوا على الانقطاع لا غير وما في البين اعتراض، واختار الواحدي الوجه الأول. قال الطيبي: ويحسن كل الحسن إذا فسر الجنة بالشياطين أي وضمير إِنَّهُمْ بالكفرة ليرجع معناه إلى قوله تعالى حكاية عن اللعين لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: ٣٩، ٤٠، ص: ٨٢، ٨٣] أي إنهم لمحضرون النار ومعذبون حيث أطاعونا في اغوائنا إياهم لكن الذين أخلصوا الطاعة لله تعالى وطهروا قلوبهم من أرجاس الشرك وأنجاس الكفر والرذائل ما عمل فيهم كيدنا فلا يحضرون ويكون ذلك مدحا للمخلصين وتعريضا بالمشركين وإرغاما لأنوفهم ومزيدا لغيظهم أي إنهم بخلاف ما هم عليه من سفه الأحلام وجهل النفوس وركاكة العقول اه. وفي بيان المعنى نوع قصور، وقوله تعالى:
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ عود إلى خطابهم، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم هذا أو إذا كان المخلصون ناجين فَإِنَّكُمْ إلخ، والواو للعطف وَما تَعْبُدُونَ معطوف على الضمير في فَإِنَّكُمْ وضمير عَلَيْهِ لله عز وجل والجار متعلق بفاتنين وعدي بعلى لتضمنه معنى الاستيلاء وهو استعارة من قولهم فتن غلامه أو امرأته عليه إذا أفسده والباء زائدة وهو خبر ما، والجملة خبر إن والاستثناء مفرغ من مفعول فاتنين المقدر وأَنْتُمْ خطاب للكفرة ومعبوديهم على سبيل التغليب نحو أنت وزيد تخرجان أي ما أنتم
145
ومعبود وكم مفسدين أحدا على الله عز وجل بإغوائكم إلا من سبق في علم الله تعالى أنه من أهل النار يصلاها ويدخلها لا محالة.
وجوز كون الواو هنا مثلها في قولهم كل رجل وضيعته فجملة ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ إلخ مستقلة ليست خبرا لأن وضمير عَلَيْهِ لما بتقدير مضاف وهو متعلق بفاتنين أيضا بتضمينه معنى البعث أو الحمل ولا تغليب في الخطاب كأنه قيل: إنك وآلهتكم قرناء لا تبرحون تعبدونها ثم قيل ما أنتم على عبادة ما تعبدون بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال أحدا إلا من سبق في علمه تعالى أنه من أهل النار، وظاهر صنيع بعضهم أن أمر التغليب في أَنْتُمْ على هذا على حاله، وأنت تعلم أن الظاهر الاتصال، وجوز أن يراد معنى المعية وخبر إن جملة ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ إلخ ويكون الكلام على أسلوب قول الوليد بن عقبة بن أبي معيط عامله الله تعالى بما هو أهله يحض معاوية على حرب الأمير علي كرم الله تعالى وجهه:
فإنك والكتاب إلى على كدابغة وقد حلم الأديم
قال في الكشف: ومعنى الآية أي عليه أنكم يا كفرة مع معبوديكم لا يتسهل لكم إلا أن تفتنوا من هو ضال مثلكم، وهو بيان لخلاصة المعنى، واستظهر أبو حيان العطف وكون الضمير للعبادة وتضمين فاتنين معنى الحمل وتغليب المخاطب على الغائب في أَنْتُمْ وكون الجملة المنفية خبر إن. وحكي عن بعضهم القول بأن على بمعنى الباء والضمير المجرور به لما تعبدون فتأمل. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة «صالوا الجحيم» بالواو على ما فيه كتاب الكامل للهذلي، وفي كتاب ابن خالويه عنهما «صال» بالضم ولا واو. وفي اللوامح والكشاف عن الحسن «صالوا الجحيم» بضم اللام فعلى إثبات الواو هو جمع سلامة سقطت النون للإضافة. وفي الكلام مراعاة لفظ من أولا ومعناها ثانيا كما هو قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: ٨] وعلى عدم إثباتها فيه ثلاثة أوجه، الأول أن يكون جمعا حذفت النون منه للإضافة ثم واو الجمع لالتقاء الساكنين وأتبع الخط اللفظ.
الثاني أن يكون مفردا حذفت لامه وهي الياء تخفيفا جعلت كالمنسى وجرى الإعراب على عينه كما جرى على عين يد ودم وعلى ذلك قوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ [الرحمن: ٥٤] وقوله سبحانه وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ [الرحمن: ٢٤] بضم نون دان وراء الجوار وقولهم ما باليت به بالة فإن أصل بالة بالية بوزن عافية حدفت لامه فأجري الإعراب على عينه ولما لحقته الهاء انتقل إليها، الثالث أن يكون مفردا أيضا ويكون أصله صائل على القلب المكاني بتقديم اللام على العين ثم حذفت اللام المقدمة وهي الياء فبقي صال بوزن فاع وصار معربا كباب ونظيره شاك الجاري إعرابه على الكاف في لغة، وقوله تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على من يزعم فيهم خلافها فهو من كلامه تعالى لكنه حكي بلفظهم وأصله وما منهم إلا إلخ أي وما منا إلا له مقام معلوم في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى في تدبير العالم مقصور عليه لا يتجاوزه ولا يستطيع أن يزل عنه خضوعا لعظمته تعالى وخشوعا لهيبته سبحانه وتواضعا لجلاله جل شأنه كما
روي «فمنهم راكع لا يقيم صلبه وساجد لا يرفع رأسه»
وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن ماجة وابن مردويه عن أبي ذر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون إن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضعا جبهته ساجدا لله».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم وذلك قول الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم
146
وإنا لنحن الصافون»
وعن السدي إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ في القرب والمشاهدة، وجعل بعضهم ذلك من كلام الجنة بمعنى الملائكة متصلا بما قبله من كلامهم وهو من قوله تعالى سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إلى الْمُسَبِّحُونَ فقال بعد أن فسر الجنة بالملائكة: إن سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ حكاية لتنزيه الملائكة إياه تعالى عما وصفه المشركون به بعد تكذيبهم لهم في ذلك بتقدير قول معطوف على عَلِمَتِ وإِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ شهادة منهم ببراءة المخلصين من أن يصفوه تعالى بذلك متضمنة لتبرئتهم منه بحكم اندراجهم في زمرة المخلصين على أبلغ وجه وأكده على أنه استثناء منقطع من واو يَصِفُونَ كأنه قيل: ولقد علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عما يصفون لكن عباد الله الذين نحن من جملتهم برآء من ذلك الوصف، وفَإِنَّكُمْ إلخ تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين عما ذكر ببيان عجزهم عن إغوائهم وإضلالهم، والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام وما تعبدون الشياطين الذين أغووهم وفيه إيذان بتبريهم عنهم وعن عبادتهم كقوله بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: ٤١] وقولهم وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ إلخ تبين لجلية أمرهم وتعيين لحيزهم في موقف العبودية بعد ما ذكر من تكذيب الكفرة فيما قالوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك وتبرئة المخلصين عنه وإظهار لقصور شأنهم وجعل تفسير الجنة بالملائكة هو الوجه لاقتضاء ربط الآيات وتوجيهها بما ذكر إياه وفي التعليل شيء، نعم إن هذه الآية تقوي قول من يقول: المراد بالجنة فيما سبق الملائكة عليهم السلام تقوية ظاهرة جدا وإن الربط الذي ذكر في غاية الحسن، وقيل: هو من قول الرسول عليه الصلاة والسلام أي وما من المسلمين إلا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة وهو متصل بقوله فَاسْتَفْتِهِمْ كأنه قيل فاستفتهم وقل وما منا إلخ على معنى بكتهم بذلك وانع عليهم كفرانهم وعدد ما أنت وأصحابك متصف به من أضدادها، وإن شئت لم تقدر قل بعد علمك بأن المعنى ينساق إليه وهو بعيد فافهم والله تعالى أعلم.
ومِنَّا خبر مقدم والمبتدأ محذوف للاكتفاء بصفته وهي جملة له مقام أي ما مِنَّا أحد إلا له مقام معلوم. وحذف الموصوف بجملة أو شبهها إذا كان بعض ما قبله من مجرور بمن أو في مطرد وهذا اختيار الزمخشري.
وقال أبو حيان مِنَّا صفة لمبتدأ محذوف والجملة المذكورة هي الخبر أي وما أحد كائن منا إلا له مقام معلوم.
وتعقب ما مر بأنه لا ينعقد كلام من ما منا أحد، وقوله سبحانه إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ هو محط الفائدة فيكون هو الخبر وإن تخيل أن إلا بمعنى غير وهي صفة لا يصح لأنه لا يجوز حذف موصوفها وفارقت غير إذا كانت صفة في ذلك لتمكن غير في الوصف وقلة تمكن إلا فيه، وقال غيره: إن فيه أيضا التفريغ في الصفات وهم منعوا ذلك، ودفع بأنه ينعقد منه كلام مفيد مناسب للمقام إذ معناه ما منا أحد متصف بشيء من الصفات إلا بصفة أن يكون له مقام معلوم لا يتجاوزه والمقصود بالحصر المبالغة أو يقال إنه صفة بدل محذوف أي ما منا أحد إلا أحد له مقام معلوم كما قاله ابن مالك في نظيره، وفيه أن فيه اعترافا بأن المقصود بالإفادة تلك الجملة وهو يستلزم أولوية كونها خبرا وما ذكر من احتمال كونه صفة لبدل محذوف فليس بشيء لأن فيه حذف المبدل والمبدل منه ولا نظير له، وبالجملة ما ذكره أبو حيان أسلم من القيل والقال، نعم قيل يجوز أن يقال: القصد هنا ليس إفادة مضمون الخبر بل الرد على الكفرة ولذا جعل الظرف خبرا وقدم فالمعنى ليس منا أحد يتجاوز مقام العبودية لغيرها بخلافكم أنتم فقد صدر منكم ما أخرجكم عن رتبة الطاعة، وفيه نظر.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أنفسنا أو أقدامنا في الصلاة، وقال ناصر الدين: أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة، وقيل:
147
الصافون حول العرش ننتظر الأمر الإلهي، وفي البحر داعين للمؤمنين، وقيل: صافون أجنحتنا في الهواء منتظرين ما يؤمر.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن مغيث قال: كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ
وأخرج مسلم عن حذيفة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت لنا تربتها طهورا إذا لم نجد الماء»
وأخرج هو أيضا وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم»
وهذه الأخبار ونحوها ترجح التفسير الأول. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به سبحانه ويدخل فيه ما نسبه إليه تعالى الكفرة، وقيل: أي القائلون سبحان الله.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة أنه قال: المسبحون أي المصلون ويقتضيه ما روي عن ابن عباس أن كل تسبيح في القرآن بمعنى الصلاة، والظاهر ما تقدم، ولعل الأول إشارة إلى مزيد أدبهم الظاهر مع ربهم عز وجل والثاني إشارة إلى كمال عرفانهم به سبحانه، وقال ناصر الدين: لعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف، وما في أن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائما من غير فترة وخواص البشر لا تخلو من الاشتغال بالمعاش، ولعل الكلام لا يخلو عن تعريض بالكفرة، والظاهر أن الآيات الثلاث أعني قوله تعالى وَما مِنَّا إلى هنا نزلت كما نزلت أخواتها.
وعن هبة الله المفسر أنها نزلت لا في الأرض ولا في السماء وعد معها آيتين من آخر سورة البقرة وآية من الزخرف وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف: ٤٥] الآية قال ابن العربي: ولعله أراد في الفضاء بين السماء والأرض.
وقال الجلال السيوطي: لم أقف على مستند لما ذكره إلا آخر البقرة فيمكن أن يستدل له بما أخرجه مسلم عن ابن مسعود لما أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى الحديث وفيه فأعطى الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك من أمته بالله شيئا المقحمات انتهى فلا تغفل وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ إن هي المخففة واللام هي الفارقة والضمير لكفار قريش كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي كتابا من جنس الكتب التي نزلت عليهم ومثلها في كونه من عند الله تعالى: لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لأخلصنا العبادة له تعالى ولكنا أهدى منهم، والفاء في قوله تعالى: فَكَفَرُوا بِهِ فصيحة مثلها في قوله تعالى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: ٦٣] أي فجاءهم ذكر وأي ذكر سيد الأذكار وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأخبار فكفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الانتقام، وقيل أريد بالذكر العلم أي لو أن عندنا علما من الذين تقدمونا وما فعل الله تعالى بهم بعد أن ماتوا هل أثابهم أم عذبهم لأخلصنا العبادة له تعالى فجاءهم ذلك في القرآن العظيم فكفروا به، ولا يخفى بعده. وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ استئناف مقرر للوعيد وتصديره بالقسم لغاية الاعتناء بتحقيق مضمونه أي وبالله لقد سبق وعدنا لهم بالنصرة والغلبة وهو قوله تعالى:
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فيكون تفسيرا أو بدلا من كَلِمَتُنا وجوز أن يكون مستأنفا والوعد ما في محل آخر من قوله تعالى لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: ٢١] والأول أظهر، والمراد بالجند اتباع المرسلين وأضافهم إليه تعالى تشريفا لهم وتنويها بهم، وقال بعض الأجلة: هو تعميم بعد تخصيص وفيه من التأكيد ما فيه، والمراد عند السدي بالنصرة والغلبة ما كان بالحجة، وقال الحسن: المراد النصرة والغلبة في الحرب فإنه لم يقتل نبي من الأنبياء في الحرب وإنما قتل من قتل منهم غيلة أو على وجه آخر في غير الحرب وإن مات نبي قبل
148
النصرة أو قتل فقد أجرى الله تعالى أن ينصر قومه من بعده فيكون في نصرة قومه نصرة له، وقريب منه ما قيل إن القصرين باعتبار عاقبة الحال وملاحظة المآل، وقال ناصر الدين: هما باعتبار الغالب والمقضي بالذات لأن الخير هو مراده تعالى بالذات وغيره مقضي بالتبع لحكمة وغرض آخر أو للاستحقاق بما صدر من العباد، ولذا قيل بيده الخير ولم يذكر الشر مع أن الكل من عنده عز وجل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة، وظاهر السياق يقتضي أن ذلك في الدنيا وأنه بطريق القهر والاستيلاء والنيل من الأعداء إما بقتلهم أو تشريدهم أو إجلائهم عن أوطانهم أو استئسارهم أو نحو ذلك، والجملتان دالتان على الثبات والاستمرار فلا بد من أن يقال: إن استمرار ذلك عرفي، وقيل: هو على ظاهره واستمرار الغلبة للجند مشروط بما تشعر به الإضافة فلا يغلب اتباع المرسلين في حرب إلا لإخلالهم بما تشعر به بميل ما إلى الدنيا أو ضعف التوكل عليه تعالى أو نحو ذلك، ويكفي في نصرة المرسلين إعلاء كلمتهم وتعجيز الخلق عن معارضتهم وحفظهم من القتل في الحروب ومن الفرار فيها ولو عظمت هنالك الكروب فافهم، ولا يخفى وجه التعبير بمنصورون مع المرسلين وبالغالبون مع الجند فلا تغفل، وسمى الله عز وجل وعده بذلك كلمة وهي كلمات لأنها لما اجتمعت وتضامت وارتبطت غاية الارتباط صارت في حكم شيء واحد فيكون ذلك من باب الاستعارة، والمشهور أن إطلاق الكلمة على الكلام مجاز مرسل من اطلاق الجزء على الكل، وقال بعض العلماء: إنه حقيقة لغوية واختصاص الكلمة بالمفرد اصطلاح لأهل العربية فعليه لا يحتاج إلى التأويل، وقرأ الضحاك «كلماتنا» بالجمع، ويجوز أن يراد عليها وعودنا فتفطن، وفي قراءة ابن مسعود «على عبادنا» على تضمين «سبقت» معنى حقت فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عنهم واصبر حَتَّى حِينٍ إلى وقت انتهاء مدة الكف عن القتال، وعن السدي إلى يوم بدر ورجحه الطبري وقيل: إلى يوم الفتح وكان قبله مهادنة الحديبية، وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال: إلى يوم موتهم وحكاه الطبرسي عن ابن عباس أيضا، وقال ابن زيد: إلى يوم القيامة، وهو والذي قبله ظاهر أن في عدم اختصاص النصرة بما كان في الدنيا وَأَبْصِرْهُمْ وهم حينئذ على أسوأ حال وأفظع نكال قد حل بهم ما حل من الأسر والقتل أو أبصر بلاءهم على أن الكلام على حذف مضاف، والأمر بمشاهدة ذلك وهو غير واقع للدلالة على أنه لشدة قربه كأنه حاضر قدامه وبين يديه مشاهد خصوصا إذا قيل إن الأمر للحال أو الفور.
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما يكون لك من التأييد والنصر، وقيل: المعنى أبصر ما يكون عليهم يوم القيامة من العذاب فسوف يبصرون ما يكون لك من مزيد الثواب، وسوف للوعيد لا للتسويف والتبعيد الذي هو حقيقتها وقرب ما حل بهم مستلزم لقرب ما يكون له عليه الصلاة والسلام فهو قرينة على عدم ارادة التبعيد منه.
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ استفهام توبيخ أخرج جويبر عن ابن عباس قال قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجلنه لنا فنزلت، وروي أنه لما نزل فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا متى هذا؟ فنزلت فَإِذا نَزَلَ أي العذاب الموعود بِساحَتِهِمْ (١) وهي العرصة الواسعة عند الدور والمكان الواسع مطلقا وتجمع على سوح قال الشاعر:
فكان سيان أن لا يسرحوا نعما أو يسرحوه بها واغبرت السوح
وفي الضمير استعارة مكنية شبه العذاب بجيش يهجم على قوم وهم في ديارهم بغتة فيحل بها والنزول تخييل.
وقرأ ابن مسعود «نزل» بالتخفيف والبناء للمجهول وهو لازم فالجار والمجرور نائب الفاعل، وقرىء نزل بالتشديد والبناء للمجهول أيضا وهو متعد فنائب الفاعل ضمير العذاب فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي فبئس صباح
(١) قال الفراء: العرب تقول نزل بساحتهم، ويريدون نزل بهم، فلا تغفل اه منه.
149
المنذرين صباحهم على أن ساء بمعنى بئس وبها قرأ عبد الله والمخصوص بالذم محذوف واللام في المنذرين للجنس لا للعهد لاشتراطهم الشيوع فيما بعد فعلى الذم والمدح ليكون التفسير بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال ولو كان ساء بمعنى قبح على أصله جاز اعتبار العهد من غير تقدير، والصباح مستعار لوقت نزول العذاب أي وقت كان من صباح الجيش المبيت للعدو وهو السائر إليه ليلا ليهجم عليه وهو في غفلته صباحا، وكثيرا ما يسمون الغارة صباحا لما أنها في الأعم الأغلب تقع فيه، وهو مجاز مرسل أطلق فيه الزمان وأريد ما وقع فيه كما يقال أيام العرب لوقائعهم.
وجوز حمل الصباح هنا على ذلك، وفي الكشاف مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قوما بعض نصّاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة وقطع دابرهم، وكانت عادة مغاويرهم إصباحا فسميت الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي يحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل انتهى، وظاهره أن الكلام على الاستعارة التمثيلية وفضلها على غيرها أشهر من أن يذكر وأجل من أن ينكر، وقيل: ضمير نزل للنبي صلّى الله عليه وسلم ويراد حينئذ نزوله يوم الفتح لا يوم بدر لأنه ليس بساحتهم الأعلى تأويل ولا بخيبر لقوله صلّى الله عليه وسلم حين صبحها الله أكبر خربت خيبر أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين لأن تلاوته عليه الصلاة والسلام تمت لاستشهاده بها والكلام هنا مع المشركين، ولا يخفى بعد رجوع الضمير إليه عليه الصلاة والسلام.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إثر تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما في اطلاق الفعلين عن المفعول من الإيذان ظاهرا بأن ما يبصره عليه الصلاة والسلام حينئذ من فنون المسار وما يبصرونه من فنون المضار لا يحيط به الوصف والبيان، وجوز أن يراد بما تقدم عذاب الدنيا وبهذا عذاب الآخرة سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ تنزيه لله تعالى شأنه عن كل ما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه وجبروته مما حكي عنهم في السورة الكريمة وما لم يحك من الأمور التي من جملتها ترك إنجاز الموعود على موجب كلمته تعالى السابقة لا سيما في حق الرسول ﷺ كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية المعربة عن التربية والتكميل والمالكية الكلية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أولا وإلى العزة ثانيا كأنه قيل:
سبحان من هو مربيك ومكملك ومالك العزة والغلبة على الإطلاق عما يصفه المشركون به من الأشياء التي منها ترك نصرتك عليهم كما يدل عليه استعجالهم بالعذاب، ومعنى ملكه تعالى العزة على الإطلاق أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو عز وجل مالكها، وقال الزمخشري: أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه تعالى بها كأنه قيل ذو العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق، ثم ذكر جواز إرادة المعنى الذي ذكرناه، والفرق أن الإضافة على ما ذكرنا على أنه سبحانه المعز وعلى الآخر على أنه عز وجل العزيز بنفسه. ولكل وجه من المبالغة خلا عنه الآخر، وقوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ تشريف للرسل كلهم بعد تنزيهه تعالى عما ذكر وتنويه بشأنهم وإيذان بأنهم سالمون عن كل المكاره فائزون بكل المآرب، وقوله سبحانه: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إشارة إلى وصفه تعالى بصفاته الكريمة الثبوتية بعد التنبيه على اتصافه عز وجل بجميع صفاته السلبية وإيذان باستتباعها للأفعال الحميدة التي من جملتها إفاضته تعالى على المرسلين من فنون الكرامات السنية والكمالات الدينية والدنيوية وإسباغه جل وعلا عليهم وعلى من تبعهم من صنوف النعماء الظاهرة والباطنة الموجبة لحمده تعالى وإشعار بأن ما وعده عليه السلام من النصرة والغلبة قد تحقق، والمراد تنبيه المؤمنين على كيفية تسبيحه سبحانه وتحميده والتسليم على رسله عليهم السلام الذين هم وسائط بينه تعالى وبينهم في فيضان الكمالات مطلقا عليهم.
150
وهو ظاهر في عدم كراهة إفراد السلام عليهم، ولعل توسيط التسليم على المرسلين بين تسبيحه تعالى وتحميده لختم السورة الكريمة بحمده تعالى مع ما فيه من الاشعار بأن توفيقه تعالى للتسليم من جملة نعمه تعالى الموجبة للحمد كذا في إرشاد العقل السليم. وقد يقال: تقديم التنزيه لأهميته ذاتا ومقاما، ولما كان التنزيه عما يصف المشركون وقد ذكر عز وجل إرشاد الرسل إياهم وتحذيرهم لهم من أن يصفوه سبحانه بما لا يليق به تعالى وضمن ذلك الإشارة إلى سوء حالهم وفظاعة منقلبهم أردف جلّ وعلا ذلك بالإشارة إلى حسن حال المرسلين الداعين إلى تنزيهه تعالى عما يصفه به المشركون، وفيه من الاهتمام بأمر التنزيه ما فيه، وأتى عز وجل بالحمد للإشارة إلى أنه سبحانه متصف بالصفات الثبوتية كما أنه سبحانه متصف بالصفات السلبية وهذا وإن استدعى إيقاع الحمد بعد التسبيح بلا فصل كما في قولهم سبحان الله والحمد لله وهو المذكور في الأخبار والمشهور في الأذكار إلا أن الفصل بينهما هنا بالسلام على المرسلين مما اقتضاه مقام ذكرهم فيما مر وجدد الالتفات إليهم تقديم التنزيه عما يصفه به من يرسلون إليه، ولعل من يدقق النظر يرى أن السلام هنا أهم من الحمد نظرا للمقام وإن كان هو أهم منه ذاتا والأهمية بالنظر للمقام أولى بالاعتبار عندهم ولذا تراهم يقدمون المفضول على الفاضل إذا اقتضى المقام الاعتناء به، ولعله من تتمة جملة التسبيح وبهذا ينحل ما يقال من أن حمده تعالى أجل من السلام على الرسل عليهم السلام فكان ينبغي تقديمه عليه على ما هو المنهج المعروف في الكتب والخطب، ولا يحتاج إلى ما قيل: إن المراد بالحمد هنا الشكر على النعم وهي الباعثة عليه ومن أجلها إرسال الرسل الذي هو وسيلة لخيري الدارين فقدم عليه لأن الباعث على الشيء يتقدم عليه في الوجود وإن كان هو متقدما على الباعث في الرتبة فتدبر.
وهذه الآية من الجوامع والكوامل ووقوعها في موقعها هذا ينادي بلسان ذلق أنه كلام من له الكبرياء ومنه العزة جل جلاله وعم نواله.
وقد أخرج الخطيب عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول بعد أن يسلم: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من قال دبر كل صلاة «سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم سبحان ربك رب العزة»
إلى آخر السورة، وأخرجه البغوي من وجه آخر متصل عن علي كرم الله تعالى وجهه موقوفا
، وجاء في ختم المجلس بالتسبيح غير هذا ولعله أصح منه،
فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفرّ بهن عنه ولا يقولهن في مجلس خير وذكر إلا ختم له بهن عليه كما يختم بخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك»
لكن المشهور اليوم بين الناس أنهم يقرؤون عند ختم مجلس القراءة أو الذكر أو نحوهما الآية المذكورة سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ومن باب الاشارة في الآيات ما قالوا وَالصَّافَّاتِ صَفًّا هي الأرواح الكاملة المكملة من الصف الأول وهو صف الأنبياء عليهم السلام والصف الثاني وهو صف الأصفياء فَالزَّاجِراتِ زَجْراً عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح والهمم القدسية فَالتَّالِياتِ ذِكْراً آيات الله تعالى وشرائعه عز وجل، وقيل الصافات جماعة الملائكة
151
المهيمين والزاجرات جماعة الملائكة الزاجرين للأجرام العلوية والأجسام السفلية بالتدبير والتاليات جماعة الملائكة التالية آيات الله تعالى وجلا يا قدسه على أنبيائه وأوليائه، وتنزل الملائكة على الأولياء مما قال به الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وقد نطق بأصل التنزل عليهم قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وقد يطلقون على بعض الأولياء أنبياء الأولياء.
قال الشعراوي في رسالة الفتح في تأويل ما صدر عن الكمل من الشطح: أنبياء الأولياء هم كل ولي أقامه الحق تعالى في تجل من مظهر تجلياته وأقام له محمد صلّى الله عليه وسلم ومظهر جبريل عليه السلام فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد صلّى الله عليه وسلم حتى إذا فرغ من خطابه وفزع عن قلب هذا الولي عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي فيرد إلى حسه وقد وعى ما خاطب الروح به مظهر محمد صلّى الله عليه وسلم وعلم صحته علم يقين بل عين يقين فمثل هذا يعمل بما شاء من الأحاديث لا التفات له إلى تصحيح غيره أو تضعيفه فقد يكون ما قال بعض المحدثين بأنه صحيح لم يقله النبي عليه الصلاة والسلام وقد يكون ما قالوا فيه إنه ضعيف سمعه هذا الولي من الروح الأمين يلقيه على حقيقة محمد صلّى الله عليه وسلم كما سمع بعض الصحابة حديث جبريل في بيان الإسلام والإيمان والإحسان فهؤلاء هم أنبياء الأولياء ولا ينفردون قط بشريعة ولا يكون لهم خطاب بها إلا بتعريف أن هذا هو شرع محمد عليه الصلاة والسلام أو يشاهدن المنزل على رسوله صلّى الله عليه وسلم في حضرة التمثل الخارج عن ذاتهم والداخل المعبر عنه بالمبشرات في حق النائم غير أن الولي يشترك مع النبي في إدراك ما تدركه العامة في النوم في حال اليقظة فهؤلاء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل على مرتبة تعبد هارون بشريعة موسى مع كونه نبيا وهم الذين يحفظون الشريعة الصحيحة التي لا شك فيها على أنفسهم وعلى هذه الأمة فهم أعلم الناس بالشرع غير أن غالب علماء الشريعة لا يسلمون لهم ذلك وهم لا يلزمهم إقامة الدليل على صدقهم لأنهم ليسوا مشرعين فهم حفاظ الحال النبوي والعلم اللدني والسر الإلهي وغيرهم حفاظ الأحكام الظاهرة، وقد بسطنا الكلام على ذلك في الميزان اه. وقال بعيد هذا في رسالته المذكورة: اعلم أن بعض العلماء أنكروا نزول الملك على قلب غير النبي صلّى الله عليه وسلم لعدم ذوقه له، والحق أنه ينزل ولكن بشريعة نبيه صلّى الله عليه وسلم فالخلاف إنما ينبغي أن يكون فيما ينزل به الملك لا في نزول الملك وإذا نزل على غير نبي لا يظهر له حال الكلام أبدا إنما يسمع كلامه ولا يرى شخصه أن يرى شخصه من غير كلام فلا يجمع بين الكلام والرؤية إلا نبي والسلام اه. وقد تقدم لك طرف من الكلام في رؤية الملك فتذكر. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ أخبار بذلك ليعلموه ولا يتخذوا من دونه تعالى آلهة من الدنيا والهوى والشيطان، ومعنى كونه عز وجل واحدا تفرده في الذات والصفات والأفعال وعدم شركة أحد معه سبحانه في شيء من الأشياء، وطبقوا أكثر الآيات بعد على ما في الأنفس، وقيل في قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ فيه إشارة إلى أن للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام فإن خرج عن عهدة جوابه أذن له بالعبور وإلا بقي موقوفا رهينا بأحواله إلى أن يؤدي حقوقه، وكذا طبقوا ما جاء من قصص المرسلين بعد على ما في الأنفس، وقيل في قوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ يشير إلى أن الملك لا يتعدى مقامه إلى ما فوقه ولا يهبط عنه إلى ما دونه وهذا بخلاف نوع الإنسان فإن من أفراده من سار إلى مقام قاب قوسين بل طار إلى منزل أو أدنى وجر هناك مطارف فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
ومنها من هوى إلى أسفل سافلين وانحط إلى قعر سجين وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وقد ذكروا أن الإنسان قد يترقى حتى يصل إلى مقام الملك فيعبره إلى مقام قرب النوافل ومقام قرب
152
الفرائض وقد يهبط إلى درك البهيمية فما دونها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ نسأل الله تعالى أن يرقينا إلى مقام يرضاه ويرزقنا رضاه يوم لقاه وأن يجعلنا من جنده الغالبين وعباده المخلصين بحرمة سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
153
Icon