ﰡ
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً﴾ قيل معناه بالسريانية الساكن ﴿إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ﴾ خوّف أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل ومحله عند الخليل جر وعند غيره نصب أو أن مفسرة بمعنى أي لأن في الإرسال معنى القول ﴿قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أليم﴾ عذاب الآخرة أو الطوفان
﴿قال يا قوم﴾ أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة ﴿إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ﴾ مخوف ﴿مُّبِينٌ﴾ أبين لكم رسالة الله بلغة
تعرفونها
﴿أن اعبدوا الله﴾ وحدوه وان هذه نحو أَنْ أَنذِرِ في الوجهين ﴿واتقوه﴾ واحذروا عصيانه ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ فيما آمركم به وأنهاكم عنه وإنما اضافه إلى نفسه لأن الطاعة قد تكون لغير الله تعالى بخلاف العبادة
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ جواب الأمر ﴿مّن ذُنُوبِكُمْ﴾ للبيان كقوله فاجتنبوا الرجس من الاوثان أو للتبعيض لأن ما يكون بينه وبين الخلق يؤاخذ به بعد الإسلام كالقصاص وغيره كذا في شرح التأويلات {وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ
﴿قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ دائبا بلا فتور
﴿فلم يزدهم دعائي إِلاَّ فِرَاراً﴾ عن طاعتك ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده وإن لم يكن الدعاء سبباً للفرار في الحقيقة وهو كقوله وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رجسهم والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس وكان الرجل يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام فقول احذر هذا فلا يغرنك فإن أبي قد وصاني به
﴿وإني كلما دعوتهم﴾ إلى الايمان مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي ﴿واستغشوا ثِيَابَهُمْ﴾ وتغطوا بثيابهم لئلا يبصروني كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله ﴿وَأَصَرُّواْ﴾ وأقاموا على كفرهم ﴿واستكبروا استكبارا﴾ وتعظموا عن اجباتي وذكر المصدر دليل على فرط استكبارهم
﴿ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا﴾ مصدر في موضع الحال أي مجاهرا أو مصدر دعوتهم كقعد القرفصاء لأن الجهار أحد نوعي الدعاء يعني أظهرت لهم الدعوة في المحافل
﴿ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً﴾ أي خلطت دعاءهم بالعلانية بدعاء السر فالحاصل أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر ثم دعاهم جهاراً ثم دعاهم في السر والعلن وهكذا يفعل الآمر بالمعروف يبتدئ بالأهون ثم بالأشد فالأشد فافتتح بالمناصحة في السر فلما لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة فلما تؤثر
ثلت الجمع بين الاسرار والاعلان وثم تدل على تباعد الأحوال لأن الجهار أغلظ من الإسرار والجمع بين الأمرين أغلظ من افراد احدهما
﴿فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ﴾ من الشرك لأن الاستغفار طلب المغفرة فإن كان المستغفر كافراً فهو من الكفرة وإن كان عاصياً مؤمناً فهو من الذنوب ﴿إنه كان غفارا﴾ لم يزل غفارا الذنوب من ينيب إليه
﴿يرسل السماء﴾ المطر ﴿عليكم مدرارا﴾ كثيرة لدرور مفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث
﴿وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ﴾ يزدكم أموالاً وبنين ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات﴾ بساتين ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً﴾ جارية لمزارعكم وبساتينكم وكانوا يحبون الأموال والأولاد فحرّكوا بهذا على الإيمان وقيل لما كذبوه بعد طول تكريره الدعوة حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة أو سبعين فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخصب ورفع عنهم ما كانوا فيه وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له ما رأيناك استسقيت فقال لقد استقيت بمجاديح السماء التي يستنزل به المطر شبه عمر الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ وقرأ الآيات وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال استغفر الله وشكا إليه آخر الفقر آخر قلة النسل وآخر قلة ربع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له الربيع بن صبيح
﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ لا تخافون لله عظمة عن الأخفش قال والرجاء هنا الخوف لأن مع الرجاء طرفاً من الخوف ومن اليأس والوقار العظمة أو لا تأملون له توقيراً أي تعظيماً والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب
﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ في موضع الحال أي مالكم لا تؤمنون بالله والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به لأنه خلقكم أطواراً أي تارات وكرّاتٍ خلقكم أولاً نطفاً ثم خلقكم علقا ثم خلقك مضغاً ثم خلقكم عظاماً ولحماً نبههم أولاً على النظر في أنفسهم لأنها أقرب ثم على الظر في العالم وما سوّى فيه من العجائب الدالة على الصانع بقوله
﴿أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً﴾ بعضاً على بعض
﴿وجعل القمر فيهن نورا﴾ أي في السموات وهو في السماء الدنيا لأن بين السموات ملابسة من حيث أنها طباق فجاز أن يقال فيهن كذا وإن لم يكن في جميعهن كما يقال في المدينة وكذا وهو في بعض نواحيها وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السموات وظهورهما مما يلي الأرض فيكن نور القمر محيطا بجميع السموات لأنها لطيفة لا تحجيب نوره ﴿وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً﴾ مصباحاً يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت
في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره وضوء الشمس أقوى من نور القمر وأجمعوا على أن الشمس في السماء الرابعة
﴿والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض﴾ أنشأكم استعير الإنبات للإنشاء ﴿نَبَاتاً﴾ فنبتم نباتاً
﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا﴾ بعد الموت ﴿وَيُخْرِجُكُمْ﴾ يوم القيامة ﴿إِخْرَاجاً﴾ أكده بالمصدر أي أيّ إخراج
﴿والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً﴾ مبسوطة
﴿لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا﴾ لتتقلبوا عليها كما يتقلب الرجل على بساطه ﴿سُبُلاً﴾ طرقاً ﴿فِجَاجاً﴾ واسعة أو مختلفة
﴿قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى﴾ فيما أمرتهم به من الإيمان والاستغفار ﴿واتبعوا﴾ أي السفلة والفقراء ﴿مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ﴾ أي الرؤساء وأصحاب الأموال والأولاد وَوُلْده مكي وعراقي غير عاصم وهو جمع ولد كأسد وأسد ﴿إَلاَّ خَسَارًا﴾ في الآخرة
﴿وَمَكَرُواْ﴾ معطوف على لَّمْ يَزِدْهُ وجمع الضمير وهو راجع إلى من لأنه في معنى الجمع والماكرون هم الرؤساء ومكرهم احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح وتحريش الناس على أذاه وصدهم عن الميل إليه ﴿مَكْراً كُبَّاراً﴾ عظيماً وهو أكبر من الكبار وقرئ به وهو أكبر من الكبير
﴿وقالوا﴾ أي الرؤساء لسفلتهم ﴿لا تذرن آلهتكم﴾ على العموم أي عبادتها ﴿وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً﴾ بفتح الواو وضمها وهو قراءة نافع لغتان صنم على صورة رجل ﴿وَلاَ سُوَاعاً﴾ هو على صورة امرأة ﴿وَلاَ يَغُوثَ﴾ هو على صورة أسد ﴿وَيَعُوقَ﴾ هو على صورة فرس وهما لا ينصرفان للعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين وللتعريف والعجمة انا كان أعجمين ﴿وَنَسْراً﴾ هو على صورة نسر أي هذه الأصنام الخمسة على الخصوص وكأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فخصوها بعد العموم وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب فكان ود لكلب وسواع لهمدان ويغوث لمذحج ويعوق لمراد ونسر لحمير وقيل هي أسماء رجال صالحين كان الناس يقتدون بهم بين آدم ونوح فلما ماتوا صوروهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى العبادة فلما طال الزمان قال لهم إبليس إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم
﴿وَقَدْ أَضَلُّواْ﴾ أي الأصنام كقوله إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ ﴿كَثِيراً﴾ من الناس
﴿مّمَّا خطيئاتهم﴾ خطاياهم أبو عمرو أي ذنوبهم ﴿أغرقوا﴾ بالطوفان
﴿فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ عظيمة وتقديم مّمَّا خطيئاتهم لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان وإدخالهم في النيران إلا من أجل خطيئاتهم وأكد هذا المعنى بزيادة ما وكفى بها مزجة لمرتكب الخطايا فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم وان كانت كبراهين والفاؤ في فادخلوا للايذان بأنهم عذبوا بالاحراق غقيب الإغراق فيكون دليلاً على إثبات عذاب القبر ﴿فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً﴾ ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله
﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ أي أحداً يدور في الأرض وهو فيعال من الدور وهو من الأسماء المستعملة في النفي العام
﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ﴾ ولا تهلكهم ﴿يُضِلُّواْ عِبَادَكَ﴾ يدعوهم إلى الضلال ﴿وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً﴾ إلا من إذا بلغ فجر وكفر وإنما قال ذلك لأن الله تعالى أخبره بقوله: لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قد آمن
﴿رَّبّ اغفر لِى ولوالدى﴾
وكانا مسلمين واسم أبيه لمك واسم أمه شمخاء وقيل هما آدم وحواء وقرئ ولوالدي يريد ساماً وحاماً ﴿وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ﴾ منزلي أو مسجدي أو سفينتي ﴿مُؤْمِناً﴾ لأنه علم أن من دخل بيته مؤمناً لا يعود إلى الكفر ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات﴾ إلى يوم القيامة خص
بسم الله الرحمن الرحيم