تفسير سورة المدّثر

اللباب
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة المدثر
مكية، وهي ست وخمسون آية، ومائتان وخمس وخمسون كلمة، وألف وعشرة أحرف.

مكية، وهي ست وخمسون آية، ومائتان وخمس وخمسون كلمة، وألف وعشرة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿يا أيها المدثر﴾ ؛ يا أيها الذي قد دثر ثيابه، أي: تغشى بها ونام.
وقرأ العامة: بتشديد الدال وكسر الثاء، اسم فاعل من «تدثَّر» وأصله: المتدثر فأدغم ك «المزمّل». وفي حرف أبي: «المتدثر» على الأصل المشار إليه.
وقرأ عكرمة: بتخفيف الدال، اسم فاعل من «دثّر» - بالتشديد - ويكون المفعول محذوفاً أي: المدثر نفسه، كما تقدم.
وعنه أيضاً: فتح الثاء.
ومعنى «تَدثَّر» لبس الدِّثَار، وهو الثوب الذي فوق الشِّعار، «والشِّعَار» : ما يلي الحسد، وفي الحديث: «الأنْصَارُ شِعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ».
و «سيف دَاثِر» : بعيد العَهْد الصِّقال.
ومنه قيل للمنزل الدارس: داثر لذهاب أعلامه وفلان داثرُ المال، أي: حسن القيام به.
قوله: «قُمْ» إما أن يكون من القيام المعهود، فيكون المعنى: قم من مضجعك، وإما من «قام» بمعنى الأخذ في القيام، كقوله: [الطويل]
٤٩٤٤ - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسيْفِهِ........................
490
وقوله: [الوافر]
٤٩٤٥ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمُ..........................
في أحد القولين، فيكون المعنى: قيام عزم وتصميم، والقول الآخر: أن «قام» مزيدة، وفي جعلها بمعنى الأخذ في القيام نظر؛ لأنه حينئذ يصير من أخوات «عَسَى» فلا بد له من خبر يكون فعلاً مضارعاً مجرداً.
قوله: ﴿فَأَنذِرْ﴾، مفعوله محذوف، أي: أنذر قومك عذاب الله، والأحسن أن لا يقدر له، أي: أوقع الإنذار.

فصل في معنى الآية


المعنى: يا أيها الذي قد دُثِّر ثيابه، أي: تغشى بها ونام.
وقيل: ليس المراد التدثر بالثوب، فإن قلنا التدثر، ففيه وجوه:
أحدها: أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن.
روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «كُنْتُ عَلى جَبلِ حِراءَ، فنُودِيتُ يا مُحَمَّدُ، إنَّكَ لرَسُولٌ، فنَظرْتُ عَنْ يَمِينِي، ويسَارِي، فَلمْ أرَ أحَداً فنَظرْتُ فَوْقِي فَرأيتُ المَلكَ الذي جَاءَنِي بحِراءَ جَالِساً عَلى كُرسِي بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَخِفْتُ فَرجَعْتُ إلى خَدِيْجَةَ، فقلتُ: دَثِّرُوني، وصبُّوا عليَّ ماءاً بارداً»، فأنزلَ اللَّهُ تعالى: ﴿يا أيها المدثر﴾.
وثانيها: أن أبا جهل، وأبا لهب، وأبا سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأميَّة بن خلف، والعاص بن وائل والمطعم بن عدي، اجتمعوا وقالوا: إنَّ وفود العرب مجتمعون في أيام الحج، وهم يسألون عن أمر محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد اختلفتم في الإخبار عنه، فمن قائل هو مجنون. وقائل: كاهن. وقائل: ساحر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فيستدلون باختلاف الأجوبة على أنها أجوبة باطلة، فسمُّوا محمداً باسم واحد يجتمعون عليه، وتسميه العرب به فقدم رجل منهم فقال: إنه شاعر، فقال الوليد: سمعت كلام عبيدة بن الأبرص [وكلام أمية بن أبي الصلت، وكلامه ما يشبه كلامهما، فقالوا: كاهن: فقال:] الكاهن يصدق ويكذب، وما كذب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
491
قط، فقال آخر: إنه مجنون، فقال الوليد: الجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط، ثم قام الوليد فانصرف إلى بيته، فقال الناس: صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل فقال: ما لك يا أبا عبد شمس، هذه قريش تجمع لك شيئاً يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت، فقال الوليد: ما لي إليه حاجة، ولكني فكرت في محمد، فقلت: إنه ساحر لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فشاع ذلك في الناس، فصاحوا يقولون: محمد ساحر والناس مجتمعون، فوقعت الصيحةُ في الناس فلما سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته محزوناً، فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى: ﴿يا أيها المدثر﴾.
وثالثها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان نائماً، متدثراً بثيابه، فجاءه جبريل - عليه السلام - وأيقظه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وقال: ﴿يا أيها المدثر قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ كأنه قال: اترك التدثر بالثياب، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله تعالى له.
وإن قلنا: ليس المراد منه التدثر بالثياب ففيه وجوه:
الأول: قال عكرمة: يا أيها المدثر بالنبوة، والرسالة انْقُلْها، من قولهم: ألبسه اللَّهُ لباس التقوى وزيَّنَهُ برداء العلم.
قال ابن العربي: «وهذا مجاز بعيد، لأنه لم يكن تنبأ بعد، وإن قلنا: إنها أول القرآن لم يكن نبياً بعد إلا إن قلنا: إنها ثاني ما نزل».
الثاني: أن المدثر بالثوب يكون كالمتخفي فيه، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان في جبل حراء كالمتخفي من النَّاس، فكأنه قال: يا أيها المدثِّر بدثار الاختفاء قم بهذا الأبر واخرج من زاوية الخمول، واشتغل بإنذار الخلق، والدعوة إلى معرفة الحقِّ.
الثالث: أنه تعالى جعله رحمة للعالمين، فكأنه قيل له: يا أيها المدثِّر بأثواب العلم العظيم، والخلق الكريم، والرحمة الكاملة: «قُمْ فأنْذِرْ» عذاب ربّك.

فصل في لطف الخطاب في الآية


قوله تعالى: ﴿يا أيها المدثر﴾ ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته، ولم يقل: يا محمدُ، كما تقدم في المزمل.

فصل في معنى «فأنذر»


ومعنى قوله تعالى: ﴿فَأَنذِرْ﴾، أي: خوِّف أهل مكة، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا.
492
وقيل: الإنذار هنا: إعلامهم بنوته - عليه السلام - لأنها مقدمة الرسالة.
وقيل: هو دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود.
وقال الفراء: قم فصلِّ ومر بالصلاة.
قوله: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾، قدم المفعول، وكذا ما بعد، إيذاناً بالاختصاص عند من يرى ذلك، أو للاهتمام به.
قال الزمخشري: «واختص ربَّك بالتكبير».
ثم قال: «ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: ومهما تكن فلا تدع تكبيره» وقد تقدم الكلام في مثل هذه الفاء في البقرة عند قوله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠].
قال أبو حيان: «وهو قريب مما قدره النحاة في قولك:» زيداً فاضرب «، قالوا: تقديره:» تنبَّهْ فاضرب زيداً «فالفاء هي جواب الأمر، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط، وإما الشرط محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة».
قال أبو الفتح الموصلي: يقال: «زيداً اضرب، وعمراً اشكر» وعنده أن الفاء زائدة.
وقال الزجاج: ودخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية، والمعنى: قم فكبِّر ربَّك، وكذلك ما بعده.

فصل في معنى الآية


معنى قوله: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾، أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظمه، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة، أو ولد، وفي الحديث: أنهم قالوا: بم تفتتح الصلاة؟ فنزلت: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾. أي: صفه بأنه أكبر.
قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة فإنه مراد به تكبيره بالتقديس، والتنزيه بخلع الأنداد، والأصنام دونه، ولا تتخذ ولياً غيره، ولا تعبد سواه، وروي «أن أبا سفيان قال يوم أحد:» أعْلُ هُبَل «، فقال: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» قُولُواْ اللَّهُ أعْلَى وأجَلُّ «، وقد صار هذا القول بعرف الشرع في تكثير العبادات كلها أذاناً، وصلاة بقوله» اللَّهُ أكبرُ «وحمل عليه لفظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الوارد على الإطلاق في موارد منها قوله:» تَحْريمُهَا التَّكبيرُ، وتحْلِيلُهَا التَّسلِيمُ «، والشَّرعُ يقتضي معرفة ما يقتضي بعمومه، ومن موارده
493
أوقات الإهلال بالذبائح تخليصاً له من الشرك، وإعلاناً باسمه بالنسك، وإفراداً لما شرع من أمره بالسفك.
والمنقول عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التكبير في الصلاة هو لفظ» اللَّهُ أكبَرُ «.
وقال المفسرون: لما نزل قوله تعالى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: اللَّهُ أكبر، فكبرت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - وعلمت أنه وحي من الله تعالى ذكره القشيري.
وقال الكلبيُّ: فعظم ربَّك عما يقوله عبدة الأوثان.
قال مقاتل: هو أن يقال: الله أكبر.
وقيل: المرادُ منه التكبير في الصلاة.
فإن قيل: هذه السورة نزلت في أول البعث، ولم تكن الصلاة واجبة.
فالجواب: لا يبعد أنه كانت له - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - صلوات تطوع فأمر أن يُكبِّر ربَّه فيها قال ابن الخطيب: وعندي أنه لما قيل له: ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ قيل بعد ذلك ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ عن اللغو والرفث.
قوله: ﴿وَثَيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾.
قيل: المراد الثياب الملبوسة، فعلى الأول يكون المعنى: وعملك فأصلح، قاله مجاهد وابن زيد والسديُّ، وروى منصور عن أبي رزين، قال: يقول: وعملك فأصلح.
وإذا كان الرجل خبيث العمل، قالوا: إن فلاناً خبيث الثيابِ، وإذ كان الرجل حسن العمل، قالوا: إنَّ فلاناً طاهر الثياب، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَحْشرُ المَرءُ فِي ثَوبَيْهِ الَّذي مَاتَ فِيْهِمَا»
، يعني: عمله الصالح والطالح، ذكره الماوردي.
ومن قال المراد به القلب، قلبك فطهر، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما؛ ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]
٤٩٤٦ -...................... فَسُلِّي ثِيَابِي مِن ثِيابكِ تَنْسُلِ
أي: قلبي من قلبك.
494
قال الماورديُّ: ولهم في تأويل الآية وجهان:
أحدهما: المعنى: وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي قاله ابن عباس وقتادة.
الثاني: وقلبك فطهر من القذر، أي: لا تقذر فتكون دنس الثياب وهو ما يروى عن ابن عباس أيضاً، واستشهدوا بقوله غيلان بن سلمة الثقفي: [الطويل]
٤٩٤٧ - فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لا ثَوْبَ غَادِرٍ لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرةٍ أتقنَّعُ
ومن قال: المراد به النفس، قال: معناه ونفسك فطهر، أي: من الذنوب، والعرب تكني عن النفس بالثياب. قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ ومنه قول عنترة: [الكامل]
٤٩٤٨ - فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الطَّويلِ ثِيابَهُ لَيْسَ الكرِيمُ على القَنَا بِمُحَرَّمِ
وقول امرىء القيس المتقدم. ومن قال: بأنه الجسم قال: المعنى وجسمك فطهر من المعاصي الظاهرة، ومنه قول ليلى تصف إبلاً: [الطويل]
٤٩٤٩ - رَموْهَا بأثْوابٍ خِفافٍ فلا تَرَى لَهَا شَبَهاً إلاَّ النَّعامَ المُنفَّرَا
أي: ركبوها فرموها بأنفسهم.
ومن قال: المراد به الأهل، قال: معناه: وأهلك طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب، والعرب تسمي الأهل ثوباً وإزاراً ولباساً، قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧].
قال الماورديُّ: ولهم في تأويل الآية وجهان:
الأول: معناه: ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف.
الثاني: الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر في الطهر إلا في الحيض حكاه ابن بحر.
495
قال ابن الخطيب: «وحمل الآية على هذا التأويل يعسر لأنه على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها».
ومن قال المراد به الخلق قال معناه: وخلقك فحسِّنْ قاله الحسن والقرظي؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه؛ قال الشاعر: [الطويل]
٤٩٥٠ - فَلاَ أبَ وابْناً مِثْلَ مَرْوانَ وابْنِهِ إذَا هُوَ بالمَجْدِ ارتَدَى وتَأزَّرَا
والسبب في حسن هذه الكناية وجهان:
الأول: أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان فلهذا جعلوا الأثواب كناية عن الإنسان، فيقال: المجد في ثوبه والعفة في إزاره.
الثاني: أنه من طهر باطنه غالباً طهر ظاهره، ومن قال: المراد به الدين فمعناه: ودينك فطهر.
جاء في الصحيح: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ورأيتُ النَّاس وعَلَيْهِمْ ثِيابٌ مِنْهَا ما يَبلغُ الثُّدِيَّ، ومِنْهَا دونَ ذلِكَ، ورَأيْتُ عُمر بن الخطَّاب، وعليْهِ إزارٌ يُجُرُّهُ، قالوا: يا رسُولَ اللَّهِ فَمَا أوَّلتَ ذلِكَ؟ قال: الدِّينُ».
وروي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في قوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ قال: معناه لا تلبس ثيابك على عذرة؛ قال ابن أبي كبشة: [الطويل]
496
يعني بطهارة ثيابهم: سلامتهم عن الدناءات ويعني بعزة وجوههم: تنزيههم عن المحرمات، أو جمالهم في الخلقة، أو كليهما. قاله ابن العربي.
وقال سفيانُ بن عيينة: لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم، قاله عكرمة.
ومن قال: إن المراد به الثياب الملبوسة، فلهم أربعة أوجهٍ:
الأول: وثيابك فأنق.
الثاني: وثيابك فشمِّر، أي قصِّر، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة فإذا جُرَّت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها نجاسة، قاله الزجاج وطاووس.
الثالث: وثيابك فطهر من النجاسة بالماء، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء.
الرابع: لا تلبس ثيابك إلا من كسبِ الحلال ليكون مطهرة من الحرام.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - لا يكون ثيابك التي تلبس من ملبس غير طاهر.
قال ابن العربي: وليس بممتنع أن تحمل الآية على عمومها، من أن المراد بها الحقيقة، والمجاز، وإذا حملناها على الثياب الطاهرةِ المعلومة، فهي تتناول معنيين:
أحدهما: تقصير الأذيال، فإنها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لغلام من الأنصار، وقد رأى ذيله مسترخياً: ارفع إزارك، فإنه أتْقَى، وأبْقَى، وأنقى.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إزْرَةُ المُؤمِن إلى أنْصَافِ سَاقيْهِ، لا جُناحَ عليْهِ فِيْمَا بَينهُ وبيْنَ الكعْبَيْنِ ومَا كَانَ أسْفل مِنْ ذلِكَ ففِي النَّارِ» فقد جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الغاية في لباس الإزار الكعب، وتوعد ما تحته بالنار، فما بال رجال يرسلون أيذالهم، ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» لا يَنْظرُ اللَّهُ تعالى إلى مَنْ جَرَّ ثَوبَهُ خَيلاء «، وفي رواية:» منْ جرَّ إزارهُ خُيَلاء لَمْ ينْظُرِ اللَّهُ إليْهِ يَوْمَ القِيامةِ «قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ
497
عَنْه -: يا رسول الله إني أجد شِقّ إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لَسْتَ ممَّنْ يَصْنعهُ خيلاء «».
والمعنى الثاني: غسلها بالماء من النجاسة، وهو الظاهر.
قال المهدوي: واستدل به بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب، وليس ذلك يفرض عند مالك وأهل المدينة، وكذلك طهارة البدن، للإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار غير غسل.
قال ابن الخطيب: إذا حملنا لفظ التطهير على حقيقته، فنقول: المراد منه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار، وعلى هذا التقدير ففي الآية ثلاثة احتمالاتٍ:
الأول: قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: المقصود من الآية الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس.
وثانيها: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات.
وثالثها: روي أنهم ألقوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سَلَى شاةٍ، فشق عليه فرجع إلى بيته حَزيناً وتدثر في ثيابه، فقال: ﴿يا أيها المدثر قُمْ فَأَنذِرْ﴾ ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ على أن لا ينتقم منهم ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ عن تلك النجاسات والقاذورات.
قوله: ﴿والرجز﴾. قرأ حفص ومجاهد وعكرمة وابن محيصن: بضم الراء، والباقون: بكسرها.
فقيل: لغتان بمعنى، وعن أبي عبيدة: الضم أقيس اللغتين، وأكثرهما.
وقال مجاهدٌ: هو بالضم اسم صنم، ويعزى للحسن البصري أيضاً، وبالكسر ويذكر: اسم للعذاب، وعلى تقدير كونه العذاب، فلا بد من حذف مضاف، أي: اهجر أسباب العذاب المؤدية إليه، أقام السبب مقام المسبب، وهو مجاز شائع بليغ.
وقال السديُّ: «الرَّجْز»، بنصب الراء: الوعيد.
وقال مجاهد وعكرمة: المراد بالرجز: الأوثان، لقوله تعالى: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ١٠]، وقال ابن عباس أيضاً: والمأثم فاهجر، أي
498
فاترك، وكذلك روى مغيرة عن إبراهيم النخعي، قال: الرجز: الإثم.
وقال قتادة: الرجز إساف، ونائلة.
وأصل «الرُّجْز» : العذابُ، قال تعالى: ﴿لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ﴾ [الأعراف: ١٣٤].
وقال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء﴾ [الأعراف: ١٦٣].
قوله: ﴿وَلاَ تَمْنُن﴾، العامة: على فك الإدغام والحسن وأبو السمال والأشهب العقيلي: بالإدغام.
وقد تقدم أن المجزوم، والموقوف من هذا النوع يجوز فيهما الوجهان، وتقدم تحقيقه في «المائدة»، عند قوله تعالى: ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾ [المائدة: ٥٤].
والمشهور أنه من المنّ، وهو الاعتداد على المعطى بما أعطاه، وقيل: معناه «ولا تضعف» من قولهم: حبل متين، أي: ضعيف.
قوله: ﴿تَسْتَكْثِرُ﴾، العامة على رفعه، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه في موضع الحال، أي: لا تمنن مستكثراً ما أعطيت.
وقيل: معناه لا تأخذ أكثر مما أعطيت.
الثاني: على حذف «أن» يعني أن الأصل ولا تمنن أن تستكثر، فلما حذفت «أن» ارتفع الفعل، كقوله: [الطويل]
٤٩٥٢ - ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِري أحْضُرُ الوغَى..........................
في إحدى الروايتين. قاله الزمخشريُّ.
ولم يبين ما محل «أن» وما في خبرها. وفيه وجهان:
أظهرهما - وهو الذي يريده - هو أنها إما في محل نصب، أو جر على الخلاف فيها؛ حذف حرف الجر وهو هنا لام العلة، تقديره: ولا تمنن لأن تستكثر.
والثاني: أنها في محل نصب فقط مفعولاً بها، أي: لا تضعف أن تستكثر من الخير، قاله مكي.
وقد تقدم أن «تَمْنُنْ» بمعنى تضعف، وهو قول مجاهد.
إلا إنَّ أبا حيان قال - بعد كلام الزمخشريِّ -: «وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر، ولنا مندوحة عنه مع صحته معنى».
499
والكوفيون يجيزون ذلك، وأيضاً: فقد قرأ الحسن والأعمش: «تَسْتكثِرَ» أيضاً على إضمار «أن»، كقولهم: «مُرْهُ يحفرها».
وأبلغ من ذلك التصريح بأن في قراء عبد الله: «ولا تمنن أن تستكثر».
وقرأ الحسن - أيضاً - وابن أبي عبلة تستكثرْ جزماً، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون بدلاً من الفعل قبله. كقوله: ﴿يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ﴾ [الفرقان: ٦٨ - ٦٩] ف «يُضَاعَفُ» بدلاً من «يَلْقَ» ؛ وكقوله: [الطويل]
٤٩٥١ - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهارَى نَقيَّةٌ وأوْجُهُهمْ عِنْدَ المُشاهدِ غُرَّانُ
٤٩٥٣ - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنَا في دِيَارنَا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَأجَّجَا
ويكون من المنِّ الذي في قوله تعالى: ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى﴾ [البقرة: ٢٦٤].
الثاني: أن يشبه «ثرو» بعضد فيسكن تخفيفاً. قاله الزمخشري.
يعني: أنه يأخذ من مجموع «تستكثر» [ومن الكلمة التي بعده وهو الواو ما يكون فيه شبهاً بعضد، ألا ترى أنه قال: أن يشبه ثرو، فأخذ بعض «تستكثر» ] وهو الثاء، والراء وحرف العطف من قوله: ﴿وَلِرَبِّكَ فاصبر﴾ ؛ وهذا كما قالوا في قول امرىء القيس: [السريع]
٤٩٥٤ - فالْيَوْمَ أشْرَبْ غَيْرَ مُسْتحقِبٍ إثْماً من اللَّهِ ولا واغِلِ
بتسكين «أشْرَبْ» - أنهم أخذوا من الكلمتين رَبْغَ ك «عضد» ثم سكن.
وقد تقدم في سورة «يوسف» في قراءة قُنبل: «من يَتّقي»، بثبوت الياء، أن «مَنْ» موصولة، فاعترض بجزم «يَصْبِر» ؟.
فأجيب بأنه شبه ب «رف»، أخذوا الباء والراء من «يَصْبِر» والفاء من «فإنَّه»، وهذه نظير تيك سواء.
الوجه الثالث: أن يعتبر حال الوقف، ويجرى الوصل مجراه، قاله الزمخشري، أيضاً.
يعني أنه مرفوع، وإنما سكن تخفيفاً، أو أجري الوصل مُجْرَى الوقفِ.
قال أبو حيان: «وهذان لا يجوز أن يحمل عليهما مع وجود أرجح منهما، وهو البدل معنى وصناعة».
500

فصل في تعلق الآية بما قبلها


في اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى أمره قبل هذه الآية بأربعة أشياء: إنذار القوم، وتكبير الرب، وتطهير الثياب، وهجر الرجز، ثم قال - جلَّ ذكره -: ﴿وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾، أي: لا تمن على ربِّك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعله بل اصبر على ذلك كله لوجه ربِّك متقرباً بذلك إليه غير ممتن به عليه.
قال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بحسناتك، فتستكثرها.
وقال ابن عباس وقتادة وعكرمةُ: ولا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها.
وقيل: لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي مستكثراً بذلك الإنعام، فإنَّما فعلت ذلك بأمر الله تبارك وتعالى، فلا منة لك عليهم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلِرَبِّكَ فاصبر﴾.
وقيل: لا تمنن عليهم بنبوتك، أي: لتستكثر، أي: لتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به مالك.
وقال مجاهدٌ: لا تضعف أن تستكثر من الخير، من قولك: حبل منين، إذا كان ضعيفاً، ودليله قراءة ابن مسعود: ولا تمنن تستكثر من الخير وعن مجاهد أيضاً، والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير فإنه مما أنعم الله عليك.
وقال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منه من الله عليك، إذ جعل الله لك سبيلاً إلى عبادته.
وقال زيد بن أسلم إذا أعطيت عطية فأعطها لربِّك، لا تقل: دعوت فلم يستجب لي.
وقيل: لا تفعل الخير لترائي به الناس.
فإن قيل هذا النهي مختص بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو يتناول الأمة؟.
فالجوابُ: أن ظاهر اللفظ قرينة الحال لا تفيد العموم؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما نهي عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة، وهذا المعنى غير موجود في الأمة.
501
وقيل: المعنى في حقِّ الأمة هو الرياءُ، واللَّهُ تعالى منع الكل من ذلك.
فإن قيل: هل هذا نهي تحريم أو تنزيه؟
فالجواب: أن ظاهر النهي التحريم.

فصل في المقصود من الآية


قال القفال: يحتمل أن يكون المقصود من الآية أن يحرم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يعطي أحداً شيئاً لطلب عوض سواء كان العوض زائداً أو ناقصاً، أو مساوياً، ويكون معنى قوله تعالى ﴿تَسْتَكْثِرُ﴾، أي: طالباً للكثرة كارهاً أن ينتقص المال بسبب العطاءِ، فيكون الاستكثار - هاهنا - عبارة عن طلب العوض كيف كان، وإنما حسنت هذه العبارةُ، لأن الغالب أن الثواب زائد على العطاء، فسمى طلب الثواب استكثاراً، حملاً للشيء على أغلب أحواله، كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج، ولها ولد للحاجة إلى من يربي أغلب أن المرأة إنما تتزوج، ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها، فسمي الولد ربيباً، ثم اتسع الأمر، وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً، ومن ذهب إلى هذا القول قال: السبب فيه أن يصير عطاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خالياً عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه فيكون ذلك خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى.
قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أظهر الأقوال قول ابن عباس» لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال «يقال: مننت فلاناً كذا، أي: أعطيته، ويقال للعطية: المنة فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما كان يجمع للدنيا، ولهذا قال:
«مَا لي ممَّا أفَاء اللَّهُ عليَّ إلا الخُمْسَ، والخمس مَردُودٌ عَليْكُمْ»
وكان ما يفضل عن نفقة عياله مصروفاً إلى مصالح المسلمين، ولهذا لم يورث «.
قوله: ﴿وَلِرَبِّكَ فاصبر﴾ التقديم على ما تقدم. وحسنه كونه رأس فاصلة موافياً لما تقدم.
﴿وَلِرَبِّكَ﴾ يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون لام العلة، أي: لوجه ربِّك فاصبر، أي: على أذى الكفار وعلى عبادة ربك، وعلى كل شيء مما لا يليق فترك المصبور عليه، والمصبور عنه للعلم بهما.
والأحسن أن لا يقدر شيء خاص بل شيء عام.
والثاني: ان يضمن»
صبر «معنى:» أذعن «، أي: أذعن لربِّك، وسلم له أمرك صابراً، لقوله تعالى: ﴿فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ [القلم: ٤٨].
502
قوله :«قُمْ » إما أن يكون من القيام المعهود، فيكون المعنى : قم من مضجعك، وإما من «قام » بمعنى الأخذ في القيام، كقوله :[ الطويل ]
٤٩٤٤ - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسيْفِهِ ***. . . ١
وقوله :[ الوافر ]
٤٩٤٥ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمُ ***. . . ٢
في أحد القولين، فيكون المعنى : قيام عزم وتصميم، والقول الآخر : أن «قام » مزيدة، وفي جعلها بمعنى الأخذ في القيام نظر ؛ لأنه حينئذ يصير من أخوات «عَسَى » فلا بد له من خبر يكون فعلاً مضارعاً مجرداً.
قوله :﴿ فَأَنذِرْ ﴾، مفعوله محذوف، أي : أنذر قومك عذاب الله، والأحسن أن لا يقدر له، أي : أوقع الإنذار.

فصل في معنى الآية


المعنى : يا أيها الذي قد دُثِّر ثيابه، أي : تغشى بها ونام.
وقيل : ليس المراد التدثر بالثوب، فإن قلنا التدثر، ففيه وجوه :
أحدها : أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن.
روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كُنْتُ عَلى جَبلِ حِراءَ، فنُودِيتُ يا مُحَمَّدُ، إنَّكَ لرَسُولٌ، فنَظرْتُ عَنْ يَمِينِي، ويسَارِي، فَلمْ أرَ أحَداً فنَظرْتُ فَوْقِي فَرأيتُ المَلكَ الذي جَاءَنِي بحِراءَ جَالِساً عَلى كُرسِي بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَخِفْتُ فَرجَعْتُ إلى خَدِيْجَةَ، فقلتُ : دَثِّرُوني، وصبُّوا عليَّ ماءاً بارداً »، فأنزلَ اللَّهُ تعالى :﴿ يا أيها المدثر ﴾٣.
وثانيها : أن أبا جهل، وأبا لهب، وأبا سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأميَّة بن خلف، والعاص بن وائل والمطعم بن عدي، اجتمعوا وقالوا : إنَّ وفود العرب مجتمعون في أيام الحج، وهم يسألون عن أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم وقد اختلفتم في الإخبار عنه، فمن قائل هو مجنون. وقائل : كاهن. وقائل : ساحر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فيستدلون باختلاف الأجوبة على أنها أجوبة باطلة، فسمُّوا محمداً باسم واحد يجتمعون عليه، وتسميه العرب به فقدم رجل منهم فقال : إنه شاعر، فقال الوليد : سمعت كلام عبيدة بن الأبرص [ وكلام أمية بن أبي الصلت، وكلامه ما يشبه كلامهما، فقالوا : كاهن : فقال :] الكاهن يصدق ويكذب، وما كذب محمد صلى الله عليه وسلم قط، فقال آخر : إنه مجنون، فقال الوليد : الجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط، ثم قام الوليد فانصرف إلى بيته، فقال الناس : صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل فقال : ما لك يا أبا عبد شمس، هذه قريش تجمع لك شيئاً يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت، فقال الوليد : ما لي إليه حاجة، ولكني فكرت في محمد، فقلت : إنه ساحر لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فشاع ذلك في الناس، فصاحوا يقولون : محمد ساحر والناس مجتمعون، فوقعت الصيحةُ في الناس فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته محزوناً، فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها المدثر ﴾.
وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً، متدثراً بثيابه، فجاءه جبريل - عليه السلام - وأيقظه - عليه الصلاة والسلام -، وقال :﴿ يا أيها المدثر قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ كأنه قال : اترك التدثر بالثياب، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله تعالى له.
وإن قلنا : ليس المراد منه التدثر بالثياب ففيه وجوه :
الأول : قال عكرمة : يا أيها المدثر بالنبوة، والرسالة٤ انْقُلْها، من قولهم : ألبسه اللَّهُ لباس التقوى وزيَّنَهُ برداء العلم.
قال ابن العربي :«وهذا مجاز بعيد، لأنه لم يكن تنبأ بعد، وإن قلنا : إنها أول القرآن لم يكن نبياً بعد إلا إن قلنا : إنها ثاني ما نزل ».
الثاني : أن المدثر بالثوب يكون كالمتخفي فيه، فإنه صلى الله عليه وسلم كان في جبل حراء كالمتخفي من النَّاس، فكأنه قال : يا أيها المدثِّر بدثار الاختفاء قم بهذا الأبر واخرج من زاوية الخمول، واشتغل بإنذار الخلق، والدعوة إلى معرفة الحقِّ.
الثالث : أنه تعالى جعله رحمة للعالمين، فكأنه قيل له : يا أيها المدثِّر بأثواب العلم العظيم، والخلق الكريم، والرحمة الكاملة :«قُمْ فأنْذِرْ » عذاب ربّك.

فصل في لطف الخطاب في الآية


قوله تعالى :﴿ يا أيها المدثر ﴾ ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته، ولم يقل : يا محمدُ، كما تقدم في المزمل.

فصل في معنى «فأنذر »


ومعنى قوله تعالى :﴿ فَأَنذِرْ ﴾، أي : خوِّف أهل مكة، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا.
وقيل : الإنذار هنا : إعلامهم بنوته - عليه الصلاة والسلام - لأنها مقدمة الرسالة.
وقيل : هو دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود.
وقال الفراء : قم فصلِّ ومر بالصلاة.
١ تقدم..
٢ تقدم..
٣ أخرجه البخاري (١/٢٥-٢٦) كتاب: بدء الوحي رقم (٢) ومسلم (٤/١٨١٦-١٨١٧) كتاب الفضائل: باب عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد (٨٧-٢٣٣٣) والطبري في "تفسيره" (١٢/٢٩٦) والترمذي (٥/٣٩٩) رقم (٣٣٢٥). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥٠) وزاد نسبته إلى الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن الضريس وابن المنذر وابن مردويه..

٤ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٣٥) والقرطبي (١٩/٤١)..
قوله :﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾، قدم المفعول، وكذا ما بعد، إيذاناً بالاختصاص عند من يرى ذلك، أو للاهتمام به.
قال الزمخشري :«واختص ربَّك بالتكبير ».
ثم قال :«ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : ومهما تكن فلا تدع تكبيره » وقد تقدم الكلام في مثل هذه الفاء في البقرة عند قوله تعالى :﴿ وَإِيَّايَ فارهبون ﴾[ البقرة : ٤٠ ].
قال أبو حيان :«وهو قريب مما قدره النحاة في قولك :" زيداً فاضرب "، قالوا : تقديره :" تنبَّهْ فاضرب زيداً " فالفاء هي جواب الأمر، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط، وإما الشرط محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة ».
قال أبو الفتح الموصلي : يقال :«زيداً اضرب، وعمراً اشكر » وعنده أن الفاء زائدة.
وقال الزجاج : ودخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية، والمعنى : قم فكبِّر ربَّك، وكذلك ما بعده.

فصل في معنى الآية


معنى قوله :﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾، أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظمه، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة، أو ولد، وفي الحديث : أنهم قالوا : بم تفتتح الصلاة ؟ فنزلت :﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾١. أي : صفه بأنه أكبر.
قال ابن العربي : وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة فإنه مراد به تكبيره بالتقديس، والتنزيه بخلع الأنداد، والأصنام دونه، ولا تتخذ ولياً غيره، ولا تعبد سواه، وروي «أن أبا سفيان قال يوم أحد :" أعْلُ هُبَل "، فقال : صلى الله عليه وسلم " قُولُواْ اللَّهُ أعْلَى وأجَلُّ " ٢، وقد صار هذا القول بعرف الشرع في تكثير العبادات كلها أذاناً، وصلاة بقوله " اللَّهُ أكبرُ " وحمل عليه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد منها قوله :" تَحْريمُهَا التَّكبيرُ، وتحْلِيلُهَا التَّسلِيمُ " ٣، والشَّرعُ يقتضي معرفة ما يقتضي بعمومه، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح تخليصاً له من الشرك، وإعلاناً باسمه بالنسك، وإفراداً لما شرع من أمره بالسفك.
والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير في الصلاة هو لفظ " اللَّهُ أكبَرُ ".
وقال المفسرون : لما نزل قوله تعالى :﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال : اللَّهُ أكبر، فكبرت خديجة - رضي الله عنها - وعلمت أنه وحي من الله تعالى ذكره القشيري.
وقال الكلبيُّ : فعظم ربَّك عما يقوله عبدة الأوثان٤.
قال مقاتل : هو أن يقال : الله أكبر٥.
وقيل : المرادُ منه التكبير في الصلاة.
فإن قيل : هذه السورة نزلت في أول البعث، ولم تكن الصلاة واجبة.
فالجواب : لا يبعد أنه كانت له - عليه الصلاة والسلام - صلوات تطوع فأمر أن يُكبِّر ربَّه فيها قال ابن الخطيب٦ : وعندي أنه لما قيل له :﴿ قُمْ فَأَنذِرْ ﴾ قيل بعد ذلك ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ عن اللغو والرفث.
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥١) وعزاه إلى ابن مردويه عن أبي هريرة..
٢ تقدم..
٣ أخرجه أبو داود (١/٤٩) كتاب الطهارة: باب فرض الطهارة حديث (٦١) والترمذي (١/٨-٩) كتاب الطهارة: باب مفتاح الصلاة الطهور وابن ماجه (١/١٠١) كتاب الطهارة: باب مفتاح الصلاة الطهور حديث (٢٧٥) والشافعي في الأم (١/١٠٠) كتاب الصلاة: باب ما يدخل به في الصلاة من التكبير، وأحمد (١/١٢٣، ١٢٩) والدارمي (١/١٧٥) كتاب الوضوء: باب مفتاح الصلاة الطهور..
٤ ذكره الرازي في "تفسيره" (٣٠/١٦٨)..
٥ ينظر المصدر السابق..
٦ ينظر الفخر الرازي ٣٠/١٦٨..
قوله :﴿ وَثَيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾.
قيل : المراد الثياب الملبوسة، فعلى الأول يكون المعنى : وعملك فأصلح، قاله مجاهد وابن زيد والسديُّ، وروى منصور عن أبي رزين، قال : يقول : وعملك فأصلح، وإذا كان الرجل خبيث العمل، قالوا : إن فلاناً خبيث الثيابِ، وإذ كان الرجل حسن العمل، قالوا : إنَّ فلاناً طاهر الثياب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم :«يَحْشرُ المَرءُ فِي ثَوبَيْهِ الَّذي مَاتَ فِيْهِمَا »١، يعني : عمله الصالح والطالح، ذكره الماوردي.
ومن قال المراد به القلب، قلبك فطهر، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير رضي الله عنهما ؛ ومنه قول امرئ القيس :[ الطويل ]
٤٩٤٦ -. . . *** فَسُلِّي ثِيَابِي مِن ثِيابكِ تَنْسُلِ٢
أي : قلبي من قلبك.
قال الماورديُّ : ولهم في تأويل الآية وجهان :
أحدهما : المعنى : وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي قاله ابن عباس وقتادة٣.
الثاني : وقلبك فطهر من القذر، أي : لا تقذر فتكون دنس الثياب وهو ما يروى عن ابن عباس أيضاً٤، واستشهدوا بقوله غيلان بن سلمة الثقفي :[ الطويل ]
٤٩٤٧ - فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لا ثَوْبَ غَادِرٍ*** لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرةٍ أتقنَّعُ٥
ومن قال : المراد به النفس، قال : معناه ونفسك فطهر، أي : من الذنوب، والعرب تكني عن النفس بالثياب. قاله ابن عباس - رضي الله عنه - ؛ ومنه قول عنترة :[ الكامل ]
٤٩٤٨ - فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الطَّويلِ ثِيابَهُ*** لَيْسَ الكرِيمُ على القَنَا بِمُحَرَّمِ٦
وقول امرئ القيس المتقدم. ومن قال : بأنه الجسم قال : المعنى وجسمك فطهر من المعاصي الظاهرة، ومنه قول ليلى تصف إبلاً :[ الطويل ]
٤٩٤٩ - رَموْهَا بأثْوابٍ خِفافٍ فلا تَرَى*** لَهَا شَبَهاً إلاَّ النَّعامَ المُنفَّرَا٧
أي : ركبوها فرموها بأنفسهم.
ومن قال : المراد به الأهل، قال : معناه : وأهلك طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب، والعرب تسمي الأهل ثوباً وإزاراً ولباساً، قال تعالى :﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾[ البقرة : ١٨٧ ].
قال الماورديُّ : ولهم في تأويل الآية وجهان :
الأول : معناه : ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف.
الثاني : الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر في الطهر إلا في الحيض حكاه ابن بحر.
قال ابن الخطيب٨ :«وحمل الآية على هذا التأويل يعسر لأنه على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها ».
ومن قال المراد به الخلق قال معناه : وخلقك فحسِّنْ قاله الحسن والقرظي ؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
٤٩٥٠ - فَلاَ أبَ وابْناً مِثْلَ مَرْوانَ وابْنِهِ*** إذَا هُوَ بالمَجْدِ ارتَدَى وتَأزَّرَا٩
والسبب في حسن هذه الكناية وجهان :
الأول : أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان فلهذا جعلوا الأثواب كناية عن الإنسان، فيقال : المجد في ثوبه والعفة في إزاره.
الثاني : أنه من طهر باطنه غالباً طهر ظاهره، ومن قال : المراد به الدين فمعناه : ودينك فطهر.
جاء في الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم قال :«ورأيتُ النَّاس وعَلَيْهِمْ ثِيابٌ مِنْهَا ما يَبلغُ الثُّدِيَّ، ومِنْهَا دونَ ذلِكَ، ورَأيْتُ عُمر بن الخطَّاب، وعليْهِ إزارٌ يُجُرُّهُ، قالوا : يا رسُولَ اللَّهِ فَمَا أوَّلتَ ذلِكَ ؟ قال : الدِّينُ »١٠.
وروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في قوله تعالى :﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ قال : معناه لا تلبس ثيابك على عذرة١١ ؛ قال ابن أبي كبشة :[ الطويل ]
٤٩٥١ - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهارَى نَقيَّةٌ*** وأوْجُهُهمْ عِنْدَ المُشاهدِ غُرَّانُ١٢
يعني بطهارة ثيابهم : سلامتهم عن الدناءات ويعني بعزة وجوههم : تنزيههم عن المحرمات، أو جمالهم في الخلقة، أو كليهما. قاله ابن العربي.
وقال سفيانُ بن عيينة : لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم، قاله عكرمة.
ومن قال : إن المراد به الثياب الملبوسة، فلهم أربعة أوجهٍ :
الأول : وثيابك فأنق.
الثاني : وثيابك فشمِّر، أي قصِّر، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة فإذا جُرَّت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها نجاسة، قاله الزجاج وطاووس.
الثالث : وثيابك فطهر من النجاسة بالماء، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء.
الرابع : لا تلبس ثيابك إلا من كسبِ الحلال ليكون مطهرة من الحرام.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - لا يكون ثيابك التي تلبس من ملبس غير طاهر.
قال ابن العربي : وليس بممتنع أن تحمل الآية على عمومها، من أن المراد بها الحقيقة، والمجاز، وإذا حملناها على الثياب الطاهرةِ المعلومة، فهي تتناول معنيين :
أحدهما : تقصير الأذيال، فإنها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لغلام من الأنصار، وقد رأى ذيله مسترخياً : ارفع إزارك، فإنه أتْقَى، وأبْقَى، وأنقى.
وقال صلى الله عليه وسلم :«إزْرَةُ المُؤمِن إلى أنْصَافِ سَاقيْهِ، لا جُناحَ عليْهِ فِيْمَا بَينهُ وبيْنَ الكعْبَيْنِ ومَا كَانَ أسْفل مِنْ ذلِكَ ففِي النَّارِ »١٣ فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب، وتوعد ما تحته بالنار، فما بال رجال يرسلون أيذالهم، ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر، وقال صلى الله عليه وسلم :" لا يَنْظرُ اللَّهُ تعالى إلى مَنْ جَرَّ ثَوبَهُ خَيلاء "، وفي رواية :" منْ جرَّ إزارهُ خُيَلاء لَمْ ينْظُرِ اللَّهُ إليْهِ يَوْمَ القِيامةِ " ١٤ قال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا رسول الله إني أجد شِقّ إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَسْتَ ممَّنْ يَصْنعهُ خيلاء ".
والمعنى الثاني : غسلها بالماء من النجاسة، وهو الظاهر.
قال المهدوي : واستدل به بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب، وليس ذلك بفرض عند مالك وأهل المدينة، وكذلك طهارة البدن، للإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار غير غسل.
قال ابن الخطيب١٥ : إذا حملنا لفظ التطهير على حقيقته، فنقول : المراد منه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار، وعلى هذا التقدير ففي الآية ثلاثة احتمالاتٍ :
الأول : قال الشافعي - رضي الله عنه - : المقصود من الآية الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس.
وثانيها : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات.
وثالثها : روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَلَى شاةٍ، فشق عليه فرجع إلى بيته حَزيناً وتدثر في ثيابه، فقال :﴿ يا أيها المدثر قُمْ فَأَنذِرْ ﴾ ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ على أن لا ينتقم منهم ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ عن تلك النجاسات والقاذورات.
١ ذكره بهذا اللفظ الماوردي في "تفسيره" (٦/١٣٦) ولم أجده لكن له شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أبو داود (٣١١٤) وعبد الرزاق (٦٢٣) والحاكم (١/٣٤٠) وصححه والبيهقي (٣/٣٨٤)..
٢ عجز بيت وصدره:
فإن يك قد ساءتك مني خليقة ***...
ينظر ديوانه ص ١٣، وزاد المسير ٨/٤٠، والقرطبي ١٩/٤٢..

٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٩٨-٢٩٩) عن ابن عباس وقتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥١) عن مجاهد وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٩٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥١) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في "الوقف والابتداء" وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس..
٥ يروى لا ثوب فاجر مكان لا ثوب غادر. ويروى ولا من خزية أتقنع، مكان ولا من غدرة أتقنع.
ينظر: اللسان (ثوب)، ومجمع البيان ١٠/٥٨٠، وزاد المسير ٨/٤٠٠، والقرطبي ١٩/٤٢..

٦ ويروى بالرمح الأصم مكان بالرمح الطويل.
ينظر ديوانه ص ٢٦، وشرح المعلقات السبع للزوزني ص ١٤٨، والقرطبي ١٩/٤٢..

٧ ينظر: زاد المسير ٨/٤٠٠، والقرطبي ١٩/٤٣، والفائق ١/٢٨، والمعاني الكبير ١/٤٨٦، واللسان (ثوب)..
٨ ينظر الفخر الرازي ٣٠/١٧٠..
٩ نسب البيت إلى الربيع بن ضبع الفزاري، وإلى الفرزدق، وإلى رجل من عبد مناة ينظر الكتاب ٢/٢٨٥، وشرح التصريح ١/٢٤٣، وشرح شواهد الإيضاح ص٢٠٧، والمقاصد النحوية ٢/٦٥٥، وخزانة الأدب ٤/٦٧، ٦٨ وأمالي ابن الحاجب ١/٤١٩،/ ٢/٥٩٣، ٨٤٧، والدرر ٦/١٧٢، وأوضح المسالك ٢/٢٢، وجواهر الأدب ص ٢٤١، وشرح الأشموني ١/١٥٣، وشرح قطر الندى ص ١٦٨، وشرح المفصل ٢/١٠١، ١١٠، واللامات ص ١٠٥، واللمع ص ١٣٠، والمقتضب ٤/٣٧٢..
١٠ أخرجه البخاري (١/٩٣) كتاب الإيمان: باب تفاضل أهل الإيمان (٢٣) ومسلم (٤/١٨٩٥) كتاب الفضائل: باب فضل عمر حديث (١٥/٢٣٩٠) والترمذي (٤/٤٦٧) كتاب الرؤيا: باب في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم رقم (٢٢٨٥) والنسائي (٨/١١٣-١١٤) كتاب الإيمان وشرائعه، باب: زيادة الإيمان رقم (٥٠١١) من حديث أبي سعيد الخدري..
١١ تقدم..
١٢ البيت ليس لابن أبي كبشة، وإنما هو لامرئ القيس من قصيدة يمدح بها عويمر بن شجنة بن عطارد من بني تميم. ينظر ديوانه (٨٣)، ورواية الديوان "غمان" مكان "غران". ويروى الشطر الثاني في غير الديوان: وأوجههم بيض المسافر غران.
ينظر القرطبي ١٩/٤٣، والبحر المحيط ٨/٣٦٣..

١٣ أخرجه مالك في الموطأ ٢/٩١٤-٩١٥، في كتاب اللباس: باب ما جاء في إسبال الرجل ثوبه، وأحمد في المسند ٣/٩٧، وأبو داود ٤/٣٥٣ في اللباس: باب في قدر موضع الإزار ٤٠٩٣، وذكره المنذري في مختصر سنن أبي داود ٦/٥٥-٥٦، (٣٩٣٥)، وعزاه للنسائي وأخرجه ابن ماجه ٢/١١٨٣، في اللباس: باب طول القميص (٣٥٧٦)..
١٤ أخرجه البخاري ١٠/٢٦٦ في اللباس: باب من جر إزاره من غير خيلاء (٥٧٨٤)، وفيه من الفقه أنه لا حرج على من انجر إزاره بغير قصده مطلقا؛ وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يكره جر الإزار على كل حال. فقال ابن بطال: هو من تشديداته وإلا فقد روى هو حديث الباب فلم يخف عليه الحكم قال الحافظ: بل كراهة ابن عمر محمولة على من قصد ذلك سواء كان عن مخيلة أم لا وهو المطابق لروايته، ولا يظن بابن عمر رضي الله عنه أنه يؤاخذ من لم يقصد شيئا وإنما يريد بالكراهة من انجر إزاره بغير اختياره ثم تمادى على ذلك ولم يتداركه وهذا متفق عليه وإن اختلفوا هل الكراهة فيه للتحريم أو للتنزيه وفي الحديث أيضا: اعتبار أحوال الأشخاص في الأحكام باختلافها، وهو أصل مطرد غالبا. الفتح ١٠/٢٦٧..
١٥ ينظر الفخر الرازي ٣٠/١٦٩..
قوله :﴿ والرجز ﴾. قرأ حفص ومجاهد وعكرمة وابن محيصن : بضم الراء، والباقون١ : بكسرها.
فقيل : لغتان بمعنى، وعن أبي عبيدة : الضم أقيس اللغتين، وأكثرهما.
وقال مجاهدٌ : هو بالضم اسم صنم، ويعزى للحسن البصري أيضاً، وبالكسر ويذكر : اسم للعذاب، وعلى تقدير كونه العذاب، فلا بد من حذف مضاف، أي : اهجر أسباب العذاب المؤدية إليه، أقام السبب مقام المسبب، وهو مجاز شائع بليغ.
وقال السديُّ :«الرَّجْز »، بنصب الراء : الوعيد.
وقال مجاهد وعكرمة : المراد بالرجز : الأوثان، لقوله تعالى :﴿ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان ﴾٢ [ الحج : ١٠ ]، وقال ابن عباس أيضاً : والمأثم فاهجر، أي فاترك، وكذلك روى مغيرة عن إبراهيم النخعي، قال : الرجز : الإثم.
وقال قتادة : الرجز إساف، ونائلة٣.
وأصل «الرُّجْز » : العذابُ، قال تعالى :﴿ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٤ ].
وقال تعالى :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السماء ﴾ [ الأعراف : ١٦٣ ].
١ ينظر: السبعة ٦٥٩، والحجة ٦/٣٣٨، وإعراب القراءات ٢/٤١٠، وحجة القراءات ٧٣٣..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٠٠) عن مجاهد وعكرمة والزهري وقد ورد مرفوعا من حديث جابر. أخرجه الحاكم (٢/٢٥٧) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥٢) وزاد نسبته إلى ابن مردويه..

٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٤٤) عند قتادة..
قوله :﴿ وَلاَ تَمْنُن ﴾، العامة : على فك الإدغام والحسن وأبو السمال١ والأشهب العقيلي : بالإدغام.
وقد تقدم أن المجزوم، والموقوف من هذا النوع يجوز فيهما الوجهان، وتقدم تحقيقه في «المائدة »، عند قوله تعالى :﴿ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ﴾ [ المائدة : ٥٤ ].
والمشهور أنه من المنّ، وهو الاعتداد على المعطى بما أعطاه، وقيل : معناه «ولا تضعف » من قولهم : حبل متين، أي : ضعيف.
قوله :﴿ تَسْتَكْثِرُ ﴾، العامة على رفعه، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه في موضع الحال، أي : لا تمنن مستكثراً ما أعطيت.
وقيل : معناه لا تأخذ أكثر مما أعطيت.
الثاني : على حذف «أن » يعني أن الأصل ولا تمنن أن تستكثر، فلما حذفت «أن » ارتفع الفعل، كقوله :[ الطويل ]
٤٩٥٢ - ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِري أحْضُرُ الوغَى ***. . . ٢
في إحدى الروايتين. قاله الزمخشريُّ.
ولم يبين ما محل «أن » وما في خبرها. وفيه وجهان :
أظهرهما - وهو الذي يريده - هو أنها إما في محل نصب، أو جر على الخلاف فيها ؛ حذف حرف الجر وهو هنا لام العلة، تقديره : ولا تمنن لأن تستكثر.
والثاني : أنها في محل نصب فقط مفعولاً بها، أي : لا تضعف أن تستكثر من الخير، قاله مكي.
وقد تقدم أن «تَمْنُنْ » بمعنى تضعف، وهو قول مجاهد.
إلا إنَّ أبا حيان قال٣ - بعد كلام الزمخشريِّ - :«وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر، ولنا مندوحة عنه مع صحته معنى ».
والكوفيون يجيزون ذلك، وأيضاً : فقد قرأ الحسن والأعمش٤ :«تَسْتكثِرَ » أيضاً على إضمار «أن »، كقولهم :«مُرْهُ يحفرها ».
وأبلغ من ذلك التصريح بأن في قراء عبد الله٥ :«ولا تمنن أن تستكثر ».
وقرأ الحسن٦ - أيضاً - وابن أبي عبلة تستكثرْ جزماً، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من الفعل قبله. كقوله :﴿ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ ﴾ ف «يُضَاعَفُ » بدلاً من «يَلْقَ » ؛ وكقوله :[ الطويل ]
٤٩٥٣ - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنَا في دِيَارنَا*** تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَأجَّجَا٧
ويكون من المنِّ الذي في قوله تعالى :﴿ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ].
الثاني : أن يشبه «ثرو » بعضد فيسكن تخفيفاً. قاله الزمخشري.
يعني : أنه يأخذ من مجموع «تستكثر » [ ومن الكلمة التي بعده وهو الواو ما يكون فيه شبهاً بعضد، ألا ترى أنه قال : أن يشبه ثرو، فأخذ بعض «تستكثر » ] وهو الثاء، والراء وحرف العطف من قوله :﴿ وَلِرَبِّكَ فاصبر ﴾ ؛ وهذا كما قالوا في قول امرئ القيس :[ السريع ]
٤٩٥٤ - فالْيَوْمَ أشْرَبْ غَيْرَ مُسْتحقِبٍ*** إثْماً من اللَّهِ ولا واغِلِ٨
بتسكين «أشْرَبْ » - أنهم أخذوا من الكلمتين رَبْغَ ك «عضد » ثم سكن.
وقد تقدم في سورة «يوسف » في قراءة قُنبل :«من يَتّقي »، بثبوت الياء، أن «مَنْ » موصولة، فاعترض بجزم «يَصْبِر » ؟.
فأجيب بأنه شبه ب «رف »، أخذوا الباء والراء من «يَصْبِر » والفاء من «فإنَّه »، وهذه نظير تيك سواء.
الوجه الثالث : أن يعتبر حال الوقف، ويجرى الوصل مجراه، قاله الزمخشري، أيضاً.
يعني أنه مرفوع، وإنما سكن تخفيفاً، أو أجري الوصل مُجْرَى الوقفِ.
قال أبو حيان٩ :«وهذان لا يجوز أن يحمل عليهما مع وجود أرجح منهما، وهو البدل معنى وصناعة ».

فصل في تعلق الآية بما قبلها


في اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى أمره قبل هذه الآية بأربعة أشياء : إنذار القوم، وتكبير الرب، وتطهير الثياب، وهجر الرجز، ثم قال - جلَّ ذكره - :﴿ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴾، أي : لا تمن على ربِّك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعله بل اصبر على ذلك كله لوجه ربِّك متقرباً بذلك إليه غير ممتن به عليه.
قال الحسن - رحمه الله - : بحسناتك، فتستكثرها١٠.
وقال ابن عباس وقتادة وعكرمةُ : ولا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها١١.
وقيل : لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي مستكثراً بذلك الإنعام، فإنَّما فعلت ذلك بأمر الله تبارك وتعالى، فلا منة لك عليهم، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلِرَبِّكَ فاصبر ﴾.
وقيل : لا تمنن عليهم بنبوتك، أي : لتستكثر، أي : لتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به مالك.
وقال مجاهدٌ : لا تضعف أن تستكثر من الخير١٢، من قولك : حبل منين، إذا كان ضعيفاً، ودليله قراءة ابن مسعود : ولا تمنن تستكثر من الخير وعن مجاهد أيضاً، والربيع : لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير فإنه مما أنعم الله عليك١٣.
وقال ابن كيسان : لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك، إذ جعل الله لك سبيلاً إلى عبادته.
وقال زيد بن أسلم إذا أعطيت عطية فأعطها لربِّك، لا تقل : دعوت فلم يستجب لي.
وقيل : لا تفعل الخير لترائي به الناس.
فإن قيل هذا النهي مختص بالرسول صلى الله عليه وسلم أو يتناول الأمة ؟.
فالجوابُ : أن ظاهر اللفظ قرينة الحال لا تفيد العموم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما نهي عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة، وهذا المعنى غير موجود في الأمة.
وقيل : المعنى في حقِّ الأمة هو الرياءُ، واللَّهُ تعالى منع الكل من ذلك.
فإن قيل : هل هذا نهي تحريم أو تنزيه ؟
فالجواب : أن ظاهر النهي التحريم.

فصل في المقصود من الآية


قال القفال١٤ : يحتمل أن يكون المقصود من الآية أن يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي أحداً شيئاً لطلب عوض سواء كان العوض زائداً أو ناقصاً، أو مساوياً، ويكون معنى قوله تعالى ﴿ تَسْتَكْثِرُ ﴾، أي : طالباً للكثرة كارهاً أن ينتقص المال بسبب العطاءِ، فيكون الاستكثار - هاهنا - عبارة عن طلب العوض كيف كان، وإنما حسنت هذه العبارةُ، لأن الغالب أن الثواب زائد على العطاء، فسمى طلب الثواب استكثاراً، حملاً للشيء على أغلب أحواله، كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج، ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها، فسمي الولد ربيباً، ثم اتسع الأمر، وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً، ومن ذهب إلى هذا القول قال : السبب فيه أن يصير عطاء النبي صلى الله عليه وسلم خالياً عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه فيكون ذلك خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى.
قال القرطبي - رحمه الله١٥ - :«أظهر الأقوال قول ابن عباس " لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال " يقال : مننت فلاناً كذا، أي : أعطيته، ويقال للعطية : المنة فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها، لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يجمع للدنيا، ولهذا قال :«مَا لي ممَّا أفَاء اللَّهُ عليَّ إلا الخُمْسَ، والخمس مَردُودٌ عَليْكُمْ » وكان ما يفضل عن نفقة عياله مصروفاً إلى مصالح المسلمين، ولهذا لم يورث ".
١ ينظر: الكشاف (٤/٦٤٦)، والمحرر الوجيز ٥/٣٩٣، والبحر المحيط ٨/٣٦٤، والدر المصون ٦/٤١٢..
٢ تقدم..
٣ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٧٢..
٤ ينظر: الكشاف ٤/٦٤٦، والمحرر الوجيز ٥/٣٩٣، والبحر المحيط ٨/٣٦٤، والدر المصون ٦/٤١٢..
٥ ينظر: السابق..
٦ ينظر السابق..
٧ تقدم..
٨ تقدم..
٩ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٧٢..
١٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٠٢)..
١١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٠١) عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم.
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/١٣٤) وقال رواه الطبراني وفيه عطية العوفي وهو ضعيف.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥٢) عن عكرمة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..

١٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٠٣) عن مجاهد..
١٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٠٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥٢) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
١٤ ينظر الفخر الرازي ٣٠/١٧٢..
١٥ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/٤٥..
قوله :﴿ وَلِرَبِّكَ فاصبر ﴾ التقديم على ما تقدم. وحسنه كونه رأس فاصلة موافياً لما تقدم.
﴿ وَلِرَبِّكَ ﴾ يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون لام العلة، أي : لوجه ربِّك فاصبر، أي : على أذى الكفار وعلى عبادة ربك، وعلى كل شيء مما لا يليق فترك المصبور عليه، والمصبور عنه للعلم بهما.
والأحسن أن لا يقدر شيء خاص بل شيء عام.
والثاني : أن يضمن " صبر " معنى :" أذعن "، أي : أذعن لربِّك، وسلم له أمرك صابراً، لقوله تعالى :﴿ فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾[ القلم : ٤٨ ].
قوله: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور﴾.
502
قال الزمخشري: «الفاء» في قوله: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور﴾ لتسبيب، كأنه قال: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه. والفاء في «فإذا» متعلقة ب «أنذر»، أي: فأنذرهم إذا نقر في الناقور. قاله الحوفيُّ.
وفيه نظر من حيث أن الفاء تمنع من ذلك، ولو أراد تفسير المعنى لكان سهلاً، لكنه في معرض تفسير الإعراب لا تفسير المعنى.
الثاني: أن ينتصب بما دل عليه قوله تعالى: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾.
قال الزمخشري: فإن قلت: بم انتصب «إذا»، وكيف صح أن يقع «يومئذ» ظرفاً ل «يوم عسير» ؟.
قلت: انتصب «إذا بما دل عليه الجزاء؛ لأن المعنى: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين والذي أجاز وقوع» يومئذ «ظرفاً ل ﴿يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾، إذ المعنى فذلك يوم النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يقع، ويأتي حين يُنقر في النَّاقُور، انتهى.
ولا يجوز أن يعمل فيه نفس»
عسير «؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل موصوفها عند البصريين، ولذلك رد على الزمخشري قوله: أن» في أنفسهم «متعلق ب» بَلِيغاً «في سورة» النساء «في قوله تعالى ﴿وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾ [النساء: ٦٣] والكوفيون يجوزون ذلك وتقدم تحريره.
الثالث: أن ينتصب بما دل عليه»
فذلك «؛ لأنه إشارة إلى النقر، قاله أبو البقاء، ثم قال:» و «يومئذ» بدل من «إذا»، و «ذلك» مبتدأ، والخبر ﴿يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾، أي: نقر يوم «.
الرابع: أن يكون»
إذا «مبتدأ، و» فذلك «خبره، والفاء مزيدة فيه، وهو رأي الأخفش.
وأما»
يَومَئذٍ «ففيه أوجه:
أحدها: أن يكون بدلاً من»
إذا «، وقد تقدم ذلك في الوجه الثالث.
الثاني: أن يكون ظرفاً ل ﴿يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ كما تقدم في الوجه الثاني.
الثالث: أن يكون ظرفاً ل»
ذلك «، لأنه أشار به إلى النقر.
الرابع: أنه بدل من»
فذلك «ولكنه مبنيّ لإضافته إلى غير متمكن.
الخامس: أن يكون»
فذلك «مبتدأ، و ﴿يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ خبره، والجملة خبر» فَذلِكَ «.
قوله:»
نُقِرَ «، أي: صوت، يقال: نقرت الرجل إذا صوت له بلسانك، وذلك بأن تلصق لسانك بنقرة حنكك، ونقرتُ الرجل: إذا خصصته بالدعوة كأنك نقرت له بلسانك مشيراً إليه، وتلك الدعوة يقال لها: النقرى، وهي ضد الدعوة الجفلى؛ قال الشاعر: [الرمل]
503
٤٩٥٥ - نَحْنُ فِي المشْتَاةِ نَدْعُو الجَفلَى لا تَرَى الآدِبَ فِينَا يَنْتَقِرْ
وقال امرؤ القيس: [الرجز]
٤٩٥٦ - أنَا ابْنُ مَاويَّةَ إذْ جَدَّ النَّقُرْ... يريد: النقر، أي الصوت، والنقر في كلام العرب: الصوت؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٤٩٥٧ - أخَفِّضُهُ بالنَّقْر لمَّا عَلوْتهُ ويَرْفعُ طَرْفاً غَيْرَ جَافٍ غَضِيضِ
والناقور: «فاعول» منه كالجاسوس من التجسس، وهو الشيء المصوّت فيه.
قال مجاهد وغيره: وهو كهيئة البوق، وهو الصور الذي ينفخ فيه الملك.
والنقير: فرع الشيء الصلب، والمنقار: الحديدة التي ينقر بها، ونقرت عينه: بحثت على أخباره استعارة من ذلك، ونقرته: أعبته.
ومنه قول امرأة لزوجها: مر بي على بني نظر، ولا تمر بي على بنات نقر، أرادت: ببني نظر الرجال لأنهم ينظرون إليها، وبينات نقر: النساء، لأنهن يعبنها وينقرن عن أحوالها.
قوله: ﴿عَلَى الكافرين﴾. فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «عسير».
الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه نعت ل «عَسِيرٌ».
الثالث: أنه في موضع نصب على الحال من الضمير المستكنّ في «عَسِيرٌ».
الرابع: أن يتعلق ب «يسير»، أي: غير يسير على الكافرين قاله أبو البقاء.
إلا أن فيه تقديم معمول المضاف إليه على المضاف، وهو ممنوع، وقد جوزه بعضهم إذ كان المضاف «غير» بمعنى النفي، كقوله: [البسيط]
504
وتقدم تحرير هذا آخر الفاتحة.
الخامس: أن يتعلق بما دل عليه «غَيرُ يَسيرٍ»، أي: لا يسهل على الكافرين.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: فما فائدة قوله: «غير يسير»، و «عسير» مغن عنه؟.
قلت: لما قال - سبحانه وتعالى -: «على الكافرين» فقصر العسر عليهم، قال: «غَيرُ يَسِيرٍ» ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً، ليجمع بين وعيد الكافرين، وزيادة غيظهم، وتيسيراً للمؤمنين، وتسليتهم، ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا.

فصل في تعلق الآية بما بعدها


لما ذكر ما يتعلق بإرشاد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر بعده وعيد الأشقياء قيل: المراد بهذه الآية هو النفخة الثانية.
وقيل: الأولى، قال الحليمي في كتاب «المنهاج» : إنه تعالى سمى الصور اسمين، وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معاً، فإن نفخة الإصعاق غير نفخة الإحياء، وجاء في الأخبار أن في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلِّها، وأنها تجمع في ذلك الثقب في النفخة الثانية، فيخرج عن النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه، فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى.
قال ابن الخطيب: وهذا مردود، لأن الناقور اسم لما ينقر فيه لا لما ينقر فيه، ويحتمل أن يكون الصور محتوياً على ثقبين: ينقر في إحداهما، وينفخ في الأخرى، فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر، والنفخ، لتكون الصيحة أشد، وأعظم، وإذا نفخ فيه للإحياء، لم ينقر فيه بل يقتصر على النفخ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها بنقرها من أجسادها بالنفخة الأولى للنقير، وهو نظير صوت الرعد؛ فإنه إذا اشتد فربما مات بسماعه، والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت.
قال ابن الخطيب: وفيه إشكال، وهو أن هذا يقتضي أن يكون النقر إنما يحصل عند صيحة الإصعاق وذلك اليوم غير شديد على الكافرين؛ لأنهم يموتون في تلك الساعة، إنما اليوم الشديد على الكافرين صيحة الإحياء، ولذلك يقول: ﴿ياليتها كَانَتِ القاضية﴾ [الحاقة: ٢٧]، أي: يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى.
وقوله: «فَذلِكَ»، أي: فذلك اليوم يوم شديد على الكافرين «غير يَسيرٍ» أي: غير سهل، ولا هين وذلك أن عقدهم لا تنحل، إلا إلى عقد أشد منها، فإنهم يناقشون الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم، وتسودُّ وجوههم، ويحشرون زرقاً، وتتكلم
505
جوارحهم، ويفضحون على رؤوس الأشهاد بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف، حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى فإنهم لا يناقشون الحساب، ويحشرون بيض الوجوه، ثِقال الموازين.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون عسيراً على المؤمنين، والكافرين، على ما روي أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - يفزعون يومئذ، وأن الولدان يشيبون، إلا أنه يكون على الكفار أشد فعلى الأول: لا يحسن الوقف على قوله ﴿يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾، فإن المعنى: إنه على الكافرين عسير وغير يسير.
وعلى الثاني: يحسن الوقف، لأنه في المعنى: أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر فيه مخصوص بزيادة تخصه، وهي أنه عليه عسير.

فصل في دليل الخطاب


قال ابن الخطيب: استدل بهذه الآية القائلون بدليل الخطاب، قالوا: لولا أن دليل الخطاب حجة وإلا فما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافرين كونه يسيراً على المؤمنين.
506
وقوله :«فَذلِكَ »، أي : فذلك اليوم يوم شديد على الكافرين «غير يَسيرٍ » أي : غير سهل، ولا هين وذلك أن عقدهم لا تنحل، إلا إلى عقد أشد منها، فإنهم يناقشون الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم، وتسودُّ وجوههم، ويحشرون زرقاً، وتتكلم جوارحهم، ويفضحون على رؤوس الأشهاد بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف، حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى فإنهم لا يناقشون الحساب، ويحشرون بيض الوجوه، ثِقال الموازين.
قال ابن الخطيب١ : ويحتمل أن يكون عسيراً على المؤمنين، والكافرين، على ما روي أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - يفزعون يومئذ، وأن الولدان يشيبون، إلا أنه يكون على الكفار أشد فعلى الأول : لا يحسن الوقف على قوله ﴿ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴾، فإن المعنى : إنه على الكافرين عسير وغير يسير.
وعلى الثاني : يحسن الوقف، لأنه في المعنى : أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر فيه مخصوص بزيادة تخصه، وهي أنه عليه عسير.
قال ابن الخطيب١ : ويحتمل أن يكون عسيراً على المؤمنين، والكافرين، على ما روي أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - يفزعون يومئذ، وأن الولدان يشيبون، إلا أنه يكون على الكفار أشد فعلى الأول : لا يحسن الوقف على قوله ﴿ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴾، فإن المعنى : إنه على الكافرين عسير وغير يسير.
وعلى الثاني : يحسن الوقف، لأنه في المعنى : أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر فيه مخصوص بزيادة تخصه، وهي أنه عليه عسير.

فصل في دليل الخطاب


قال ابن الخطيب١ : استدل بهذه الآية القائلون بدليل الخطاب، قالوا : لولا أن دليل الخطاب حجة٢ وإلا فما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافرين كونه يسيراً على المؤمنين.
١ السابق..
٢ ينظر: البحر المحيط للزركشي ٤/١٣، البرهان لإمام الحرمين ١/٤٤٩، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ٣٨، المنخول للغزالي ٢٠٨، حاشية البناني ١/٢٤٥، الآيات البينات لابن القاسم العبادي ٢/٢٣، حاشية العطار على جمع الجوامع ١/٣٢٦، تيسير التحرير لأمير بادشاه ١/٩٨، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ٢/١٧٣، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ١/١٤١، الوجيز للكراماستي ٢٤، ميزان الأصول للسمرقندي ١/٥٧٩، نشر البنود للشنقيطي ١/٩١، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج ١/١١٥..
قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً﴾، الواو في قوله: ﴿وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً﴾، كقوله: «والمُكَذبين» في الوجهين المتقدمين في السورة قبلها.
وقوله تعالى: ﴿وَحِيداً﴾ فيه أوجه:
506
أحدها: أنه حال من الياء في «ذَرْنِي»، أي: ذرني وحدي معه فأنا أكفيك في الانتقام منه.
الثاني: أنه حال من التاء في «خَلقْتُ»، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه.
الثالث: أنه حال من «مَن».
الرابع: أنه حال من عائده المحذوف، أي خلقته وحيداً، ف «وَحِيْداً» على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف، أي: خلقته وحده لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته؛ قاله مجاهد.
الخامس: أن ينتصب على الذَّمِّ، لأنه يقال: إن وحيداً كان لقباً للوليد بن المغيرة، ومعنى «وَحِيْداً» ذليلاً.
قيل: كان يزعم أنه وحيد في فضله، وماله، وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأن هذا لقب له شهر به، وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به، وإذا كان لقباً تعين نصبه على الذم.

فصل في معنى «ذرني»


معنى «ذرني» أي: دعني، وهي كلمة وعيد وتهديد، «ومَنْ خَلقْتُ» هذه واو المعية، أي: دعني والذي خلقته وحيداً.
قال المفسرون: هو الوليد بن المغيرة المخزومي، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه فإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة، وأذى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان يسمى الوحيد في قومه.
قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد ابن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي المغيرة نظير، فقال الله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ﴾ بزعمه «وَحِيْداً» لأن الله تعالى صدقه، بأنه وحيد.
قال ابن الخطيب: ورد هذا القول بعضهم بأنه تعالى لا يصدقه في دعواه بأنه وحيد لا نظير له، ذكره الواحدي، والزمخشري، وهو ضعيف من وجوه:
الأول: لأنه قد يكون الوحيد علماً فيزول السؤال، لأن اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة، بل هو قائم مقام الإرشاد.
507
الثاني: أن يكون ذلك بحسب ظنه، واعتقاده، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩].
الثالث: أنه وحيد في كفره، وعناده وخبثه؛ لأن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف.
الرابع: أنه إشارة إلى وحدته عن نفسه.
قال أبو سعيد الضرير: الوحيد الذي لا أب له كما تقدم في «زَنِيْمٌ».
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً﴾، أي: خولته، وأعطيته مالاً ممدوداً.
قال ابن عباس: هو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والنعم والخيول والعبيد والجواري.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس - أيضاً -: ألف دينار.
وقال قتادة: ستة آلاف دينار.
وقال سفيان الثوري: أربعة آلاف دينار.
وقال الثوري - أيضاً -: ألف ألف دينار.
وقال ابن الخطيب: المال الممدود: هو الذي يكون له مدد يأتي منه الجزء بعد الجزء دائماً، ولذلك فسره عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - غلة شهر بشهر وقال النعمان: الممدود بالزيادة كالزرع والضرع، وأنواع التجارات.
قال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع شتاء ولا صيفاً، كما في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ﴾ [الواقعة: ٣٠]، أي: لا ينقطع والذي يظهر أنه المال الكثير، والتقديرات تحكم.
قوله: ﴿وَبَنِينَ شُهُوداً﴾، أي: حضوراً لا يغيبون، ولا يفارقونه - ألبتة - طَيِّبَ القلب بحضورهم.
وقيل: معنى كونهم شهوداً، أي: يشهدون معه المجامعَ والمحافلَ.
508
وقيل: «شهوداً» أي: صاروا مثلهُ في شهود ما كان يشهدُ، والقيام بما كان يباشره.
قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة.
وقال السديُّ والضحاكُ: كانوا اثني عشر رجلاً، وعن الضحاك: سبعة ولدُوا بمكة، وخمسة بالطائف.
وقال مقاتل: كانوا سبعة أسلم منهم ثلاثةٌ: خالد، وهشام، والوليد بن الوليد، قال: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك قال ابن الخطيب كانوا سبعة الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص، وعبد القيس، وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة: خالد، وعمارة، وهشام.
قوله: ﴿وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً﴾، أي: بسطتُ له في العيش بسطاً في الجاه العريض والرياسة في قومه.
والتميهدُ عند العرب: التوطئة والتهيئة.
ومنه: مهدُ الصبيّ.
وقال ابن عباس: ﴿ومَهَّدتُ لهُ تَمْهِيداً﴾ أي: وسعَّتُ له ما بين «اليمن» إلى «الشام»، وهو قول مجاهدٍ وعن مجاهد أيضاً: أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ﴾. لفظة «ثُمَّ» - هاهنا - معناها: التعجب كقولك لصاحبك: أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني، ونظيره: قوله تعالى: ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١]، فمعنى «ثُمَّ - هاهنا - الإنكارُ والتعجبُ، أي: ثم الوليد يطمعُ بعد هذا كله أن أزيدهُ في المالِ والولدِ، وقد كفر بِي! قاله الكلبي ومقاتل، ثم قال:» كَلاَّ «ليس يكون ذلك مع كفرهِ بالنعمِ.
قال الحسنُ وغيره: أي: ثُمَّ يطمعُ أن أدخلهُ الجنة، وكان الوليد يقولُ: إنْ كَانَ محمدٌ صادقاً فما خلقتِ الجنة إلا لي، فقال الله عزَّ وجلَّ رداً عليه وتكذيباً له:»
كلاَّ «لستُ أزيدهُ، فلمْ يزلْ في نقصانٍ بعد قوله:» كلاَّ «حتى افتقر ومات فقيراً.
وقيل: أي: ثم يطمع أن أنصره على كفره،»
كَلا «قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة، فيكون متصلاً بالكلام الأول.
509
وقيل: «كَلاَّ» بمعنى «حقاً»، ويبتدىء بقوله «إنَّهُ» يعني الوليد ﴿كان لآيَاتِنَا عَنِيداً﴾، أي: معانداً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما جاء به.
قال الزمخشريُّ: ﴿إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا﴾ استئناف جواب لسائل سأل: لم لا يزداد مالاً، وما باله ردع عن طبعه؟.
فأجيب بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً﴾، انتهى.
فيكون كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الهرة: «إنَّها ليْسَتْ بنجسٍ، إنَّها مِنَ الطوَّافِيْنَ عَليْكُمْ».
والعنيد: المعاند.
يقال: عاند فهو عنيد وعانِد، والمعاند: البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد، والجمع: عند مثل: «راكع وركع»، قاله أبو عبيدة؛ وأنشد قول الحازميِّ: [الرجز]
٤٩٥٨ - إنَّ امْرَأ خَصَّنِي يَوْماً مودَّتهُ عَلى التَّنَائِي لعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ
٤٩٥٩ - إذَا رَكبتُ فاجْعَلانِي وَسَطا إنَّي كَبِيرٌ لا أطيقُ العُنَّدا
وقال أبو صالح: «عنيداً» معناه: مباعداً؛ قال الشاعر: [الطويل]
٤٩٦٠ - أرَانَا على حَالٍ تُفَرِّقُ بَيْنَنا نَوّى غُرْبَةٌ إنَّ الفِراقَ عَنُودُ
وقال قتادة: جاحداً.
وقال مقاتل: معرضاً.
وقيل: إنه المجاهر بعداوته.
وعن مجاهد: أنه المجانب للحق.
قال الجوهري: ورجل عنود: إذا كان لا يخالط الناس، والعنيد من التجبر، وعرق عاند: إذا لم يرقأ دمه، وجمع العنيد عُنُد مثل رغيف ورغف، والعنود من الإبل: الذي لا يخالط الإبل إنما هو في ناحية، والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير.

فصل في بيان فيما كانت المعاندة


في الآية إشارة إلى أنه كان يعاند في أمور كثيرة:
510
منها أنه كان يعاند في دلائل التوحيد، والعدل، والقدرة، وصحة النبوة وصحة البعث.
ومنها: أن كفره كان عناداً لأنه كان يعرف هذه الأشياء بقلبه وينكرها بلسانه. وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر.
ومنها: أن قوله «كان» يدل على أن هذه حرفته من قديم الزمان.
ومنها: أن هذه المعاندة، كانت مختصة منه بآيات الله تعالى.
قوله: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾، أي: سأكلفه، وكان ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يقول: سألجئه، والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان الشيء.
والصعود: جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً، ثم يهوي به كذلك فيه أبداً. رواه الترمذي.
وفي رواية: صخرة في جهنم، إذا وضعوا أيديهم عليها ذابت، فإذا رفعوها عادت.
وقيل: هذا مثل لشدة العذاب الشاق الذي لا يطاق، كقوله: عقبة صعود وكؤود، أي: شاقة المصعدِ.
ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده، وهو قوله تعالى:
﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾ : يجوز أن يكون استئناف تعليل لقوله تعالى: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾، ويجوز أن يكون بدلاً من ﴿إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً﴾.
يقال: فكر في الأمر، وتفكر إذا نظر فيه وتدبر، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاماً وهيأه، وهو المراد من قوله «وقَدَّرَ».
والعرب تقول: قدرت الشيء إذا هيأته.

فصل في معنى الآية


معنى الآية: أن الوليد فكر في شأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن لما نزل:
﴿حمتَنزِيلُ
الكتاب مِنَ الله العزيز العليم غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِي الطول لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير﴾
[غافر: ١ - ٣]، سمعه الوليد يقرأها، فقال: والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنِّ، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمثمر، وإنَّ أسفله لمغدق وإنه ليعلو، وما يعلى عليه، وما يقول هذا بشر، فقالت قريش: صبأ الوليد لتصبونَّ قريش كلها، وكان يقال للوليد: ريحانة قريش، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق إليه حزيناً، فقال له: ما لي أراك حزيناً، فقال: وما لي لا أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينوك بها، ويزعمون أنك زينت كلام محمدٍ، وتدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما، فغضب الوليدُ - لعنهُ الله - وتكبَّر،
511
وقال: أنا أحتاجُ إلى كسرِ محمدٍ وصاحبه، وأنتم تعلمون قدر مالي، واللاتِ والعُزَّى ما بي حاجةٌ إلى ذلك وأنتم تزعمُون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه قط يخنق؟.
قالوا: لا والله، قال: وتزعمون أنه كاهنٌ، فهل رأيتموه تكهن قط؟ ولقد رأينا للكهنةِ أسجاعاً وتخالجاً، فهل رأيتموهُ كذلك؟.
قالوا: لا والله. وقال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا: لا والله.
قال: وتزعمون أنه كذَّاب، فهل جريتمْ عليه كذباً قط؟.
قالوا: لا والله. وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُسمَّى الصادق والأمين من كثرة صدقه، فقالت قريش للوليدِ: فما هو؟ ففكّر في نفسه ثم نظر ثم عبس، فقال: ما هذا إلا سحرٌّ أما رأيتموه يفرق بين الرجل وولده فذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ﴾ أي في أمر محمدٍ والقرآن «وقدر» في نفسه ماذا يمكنهُ أن يقول فيهما.
قوله: ﴿فَقُتِلَ﴾، أي: لعنَ.
وقيل: قُهِرَ وغلبَ.
وقال الزهري: عذب، وهو من باب الدعاء.
قال ابن الخطيب: وهذا إنما يذكرُ عند التعجب والاستعظام.
ومثله قولهم: قتلهُ اللَّهُ ما أشجعهُ، وأخزاه الله ما أفجره، ومعناهُ: أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسدهُ بذلك، وإذا عرف ذلك، فنقول: هنا يحتملُ وجهين:
الأول: أنه تعجب من قوة خاطره، يعني أنه لا يمكن القدحُ في أمر محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشبهةٍ أعظم ولا أقوى مما ذكرهُ هذا القائلُ.
الثاني: الثناءُ عليه على طريقةِ الاستهزاء، يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط.
قوله: ﴿كَيْفَ قَدَّرَ﴾، أي: كيف فعل هذا، كقوله تعالى: ﴿انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال﴾ [الإسراء: ٤٨] ثم قيل: بضرب آخر من العقوبة. «كيف قدَّر» على أيّ حال قدَّر. «ثم نظر» بأي شيء يردّ الحق ويدفعهُ.
قال ابن الخطيب: والمعنى أنه أولاً فكّر.
وثانياً: قدَّر. وثالثاً: نظر في ذلك المقدرِ، فالنظر السابق للاستخراج، والنظر اللاحق لتمام الاحتياطِ، فهذه المرات الثلاث متعلقة بأحوال ثلاث.
512
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَبَسَ﴾، يقال: عبس يعبس عبساً، وعبوساً: أي: قطب وجهه.
وقال الليث: عبس يعبس فهو عبس إذا قطب ما بين عينيه، فإذا أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل: كلح، فإن اهتم لذلك، وفكر فيه قيل: بسر، فإن غضب مع ذلك قيل بسل. واعلم أنه ذكر صفات جسمه بعد صفات قلبه، وهذا يدل على عناده، لأن من فكر في أمر حسن يظهر عليه الفرح لا العبوس، والعبس أيضاً: ما يبس في أذناب الإبل من البعر، والبول؛ قال أبو النجم: [الرجز]
٤٩٦١ - كَأنَّ في أذْنابِهنَّ الشُّوَّلِ مِنْ عبسِ الصَّيفِ قُرونَ الأُيَّلِ

فصل في معنى الآية


معنى الآية: قطب وجهه في وجوه المؤمنين، وذلك أنه لما قال لقريش محمداً ساحر مرَّ على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام، فعبس في وجوههم.
وقيل: عبس على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين دعاه، والعبس: مصدر «عبس» مخففاً «، كما تقدم.
قوله:»
وَبَسَرَ «، يقال: بَسَر يَبسُرُ بسراً وبُسُوراً» إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسود وجهه منه، يقال: وجه باسر، أي منقبض مسود كالح متغير اللون، قاله قتادة والسدي؛ ومنه قول بشير بن الحارث: [المتقارب]
٤٩٦٢ - صَبَحْنَا تَمِيماً غَداةَ الجِفارِ بِشهْبَاءَ ملمُومةٍ بَاسِرَهْ
وأهل اليمن يقولون: بسر المركب بسراً، أي: وقف لا يتقدم، ولا يتأخر، وقد أبسرنا: أي صرنا إلى البسور.
وقال الراغب: البسر استعجال الشيء قبل أوانه، نحو: بسر الرجل حاجته طلبها في غير أوانها، وماء بسر متناول من غديره قبل سكونه، ومنه قيل للذي لم يدرك من التمر: بسر، وقوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَبَسَرَ﴾، أي: أظهر العبوس قبل أوانه، وقبل وقته.
قال: فإن قيل: فقوله تعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٤]، ليس يفعلون ذلك قبل الموت، وقد قلت: إن ذلك يكون فيما يقع قبل وقته.
قيل: أشير بذلك إلى حالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار، فخص لفظ البسر تنبيهاً على أن ذلك مع ما ينالهم من بعد، يجري مجرى التكلف، ومجرى ما يفعل قبل وقته، ويدل على ذلك ﴿تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٥].
513
وقد عطف في هذه الجمل بحروف مختلفة، ولكل منها مناسبة، أما ما عطف ب «ثُمَّ» فلأن بين الأفعال مهلة، وثانياً: لأن بين النظر، والعبوس، وبين العبوس، والإدبار تراخياً.
قال الزمخشريُّ: و «ثمّ نظر» عطف على «فكَّر» و «قدَّر»، والدعاء اعتراض بينهما، يعني بالدعاء قوله: «فَقُتِل»، ثم قال: فإن قلت: ما معنى «ثُمَّ» الداخلة على تكرير الدعاء؟.
قلت: الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى؛ ونحوه قوله: [الطويل]
٤٩٦٣ - ألاَ يَا اسْلمِي ثُمَّ اسْلمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي........................
فإن قلت: ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟.
قلت: للدلالة على أنه تأنَّى في التأمل، والتمهل، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخٍ، وتباعد، فإن قلت: فلم قال: «فَقالَ» - بالفاء - بعد عطف ما قبله ب «ثُمَّ» ؟.
قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث، فإن قلت: فلم لم يتوسط حرف العطف بين الجملتين؟.
قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التأكيد من المؤكد.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ﴾، أي: ولى وأعرض ذاهباً عن سائر الناس إلى أهله.
﴿واستكبر﴾ حين دعي إلى الإيمان، أي: تعظم.
﴿إن هذا﴾ أي: ما هذا الذي أتى به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾، أي: تأثره عن غيره.
والسحر: الخديعة.
وقيل: السحر إظهار الباطل في صورة الحق.
والأثر: مصدر قولك: أثرت الحديث آثره، إذا ذكرته عن غيرك؛ ومنه قيل: حديث مأثور، أي: ينقله خلف عن سلف؛ قال الأعشى: [السريع]
٤٩٦٤ - إنَّ الَّذي فيه تَمَاريْتُمَا بُيِّنَ للسَّامِع والآثِرِ
قال ابن الخطيب: فيه وجهان:
514
الأول: أنه من قولهم: أثرت الحديث آثره، أَثراً، إذا حدثت به عن قوم في آثارهم، أي: بعدما ماتوا، هذا هو الأصل، ثم صار بمعنى الرواية عما كان.
والثاني: يؤثر على جميع السحر، وهذا يكون من الإيثارِ.
وقال أبو سعيد الضرير: يؤثر، أي: يُورَثُ.
قوله تعالى: ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر﴾، أي: هذا إلا كلام المخلوقين تختدع به القلوب كما يخدع بالسحر.
قال ابن الخطيب: ولو كان الأمر كذلك لتمكنوا من معارضته إذا طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة.
قال السديُّ: يعني أنه من قول سيَّار عبد لبني الحضرمي، كان يجالس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك.
وقيل: إنه أراد أنه تلقنه ممن ادعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم.
قال ابن الخطيب وهذا الكلام يدل على أن الوليد كان يقولُ هذا الكلام عناداً، لما روي في الحديث المتقدم: «أنه لما سمع من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» حم «ثم خرج من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: لقد سمعتُ من محمدٍ كلاماً، ليس من كلام الجنِّ، ولا من كلام الإنس» الحديث، فلمَّا أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن قوله - هاهنا -: ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر﴾، إنَّما ذكره عناداً، أو تمرداً لا اعتقاداً.
قوله تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ هذا بدل من قوله تعالى: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾. قاله الزمخشري.
فإن كان المراد بالصعود: المشقة، فالبدل واضح، وإن كان المراد: صخرة في جهنم - كما جاء في التفسير - فيعسر البدل، ويكون فيه شبه من بدل الاشتمال، لأن جهنم مشتملة على تلك الصخرة.

فصل في معنى الآية


المعنى: سأدخله سقر كي يصلى حرها، وإنما سميت «سَقَرَ» من سقرته الشمس: إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه، ولا ينصرف للتعريف والتأنيث قال ابن عباس: «سقر» اسم للطبقة السادسة من «جهنم».
﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ﴾. هذا مبالغة في وصفها، أي: وما أعلمك أي شيء هي؟. وهي
515
كلمة تعظيم، وتهويل، ثم فسر حالها، فقال - جل ذكره -: ﴿لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ﴾ أي: لا تترك لهم لحماً، ولا عظماً، ولا دماً إلا أحرقته.
قوله: ﴿لاَ تُبْقِي﴾، فيها وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب على الحال، والعامل فيها معنى التعظيم، قاله أبو البقاء.
يعني أن الاستفهام في قوله: «مَا سَقَرُ» للتعظيم، والمعنى: استعظموا سقر في هذه الحال.
ومفعول «تُبْقِي»، وتَذرُ «محذوف أي لا تبقي ما ألقي فيها، ولا تذره، بل تهلكه.
وقيل: تقديره لا تُبْقِي على من ألقي فيها، ولا تذر غاية العذاب إلا وصلته إليه.
والثاني: أنها مستأنفة.
قال ابن الخطيب: واختلفوا في قوله: ﴿لا تبقي ولا تذر﴾.
فقيل: هما لفظان مترادفان بمعنى واحد، كرر للتأكيد والمبالغة، كقولك صدَّ عني وأعرض عني، بل بينهما فرق، وفيه وجوه:
الأول: لا تبقي من اللحم، والعظم، والدم شيئاً، ثم يعادون خالقاً جديداً،»
ولا تَذرُ «أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبداً، رواه عطاء عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
وقال مجاهد: لا تبقي فيها حياً ولا تذره ميتاً بل تحرقهم كلما جُدِّدوا. وقال السديّ: لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً. وقيل: لا تبقي من المعذبين، ولا تذر من فوقها شيئاً، إلا تستعمل تلك القوة في تعذيبهم.
قوله تعالى: ﴿لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ﴾، قرأ العامة: بالرفع، خبر مبتدأ مضمر، أي هي لواحة، وهذه مقوية للاستئناف في»
لا تُبقِي «.
وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة وزيد بن علي وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر: بنصبهما على الحال، وفيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها حال من»
سَقرُ «، والعامل معنى التعظيم كما تقدم.
516
والثاني: أنها حال من» لا تُبْقِي «.
والثالث: من»
لا تَذرُ «.
وجعل الزمخشري: نصبها على الاختصاص للتهويل.
وجعلها أبو حيان حالاً مؤكدة.
قال:»
لأن النار التي لا تبقي ولا تذر، لا تكون إلاَّ مُغيرة للأبشار «.
و»
لوَّاحةٌ «هنا مبالغة، وفيها معنيان:
أحدهما: من لاح يلوح، أي: ظهر، أي: أنها تظهر للبشر، [وهم الناس، وإليه ذهب الحسن وابن كيسان، فقال:»
لوَّاحةٌ «أي: تلوح للبشر] من مسيرة خمسمائة عام، وقال الحسن: تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً، ونظيره:
﴿وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى﴾ [النازعات: ٣٦].
والثاني: وإليه ذهب جمهور الناس، أنها من لوّحه أي: غيَّرهُ، وسوَّدهُ.
قال الشاعر: [الرجز]
٤٩٦٥ - تقُولُ:
ما لاحَكَ يا مُسَافِرُ يَا بْنَةَ عَمِّي لاحَنِي الهَواجِرُ
وقال رؤبة بن العجَّاج: [الرجز]
٤٩٦٦ - لُوِّحَ مِنْهُ بَعْدَ بُدْنٍ وسَنَقْ تَلْويحكَ الضَّامرَ يُطْوى للسَّبَقْ
وقال آخر: [الطويل]
٤٩٦٧ - وتَعْجَبُ هِنْدٌ إنْ رأتْنِي شَاحِباً تقُولُ لشَيءٍ لوَّحتهُ السَّمائمُ
ويقال: لاحَهُ يلُوحُه: إذا غير حليته.
قال أبو رزين: تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل، قال تعالى: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٤].
وطعن القائلون بالأول في هذا القول، فقالوا: لا يجوز أن يصفهم بتسويد الوجوهِ، مع قوله: ﴿لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ﴾.
517
وقيل: اللوح شدة العطش، يقال: لاحه العطش ولوحه: أي غيره، قال الأخفش: والمعنى أنها معطشة للبشر، أي: لأهلها؛ وأنشد: [الطويل]
٤٩٦٨ - سَقَتْنِي على لَوْحِ من المَاءِ شَرْبةً سَقَاهَا بِه اللَّهُ الرِّهامَ الغَوادِيَا
يعني باللوح: شدة العطش. والرهام جمع رهمة - بالكسر - وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة: أتت بالرهام.
واللُّوح - بالضم - الهواء بين السماء والأرض، والبشر: إما جمع بشرة، أي: مغيرة للجلود. قاله مجاهد وقتادة، وجمع البشر: أبشار، وإما المراد به الإنس من أهل النار، وهو قول الجمهور.
واللام في «البشر» : مقوية، كهي في ﴿لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣].
وقراءة النصب في «لوَّاحَةً» مقوية، لكون «لا تُبْقِي» في محل الحال.
قوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾، هذه الجملة فيها الوجهان:
أعني: الحالية، والاستئناف وفي هذه الكلمة قراءات شاذة، وتوجيهات مشكلة.
فقرأ أبو جعفر وطلحة: «تِسعَة عْشرَ» - بسكون العين من «عشر» ؛ تخفيفاً؛ لتوالي خمس حركات من جنس واحد، وهذه كقراءة ﴿أَحَدَ عَشْرَ كَوْكباً﴾ [يوسف: ٤] وقد تقدمت. وقرأ أنس وابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «تِسعَةُ عشَر» بضم التاء، «عَشَر» بالفتح.
وهذه حركة بناء، لا يجوز أن يتوهم كونها إعراباً، إذ لو كانت للإعراب لجعلت في الاسم الأخير لتنزل الكلمتين منزلة الكلمة الواحدة، وإنما عدل إلى التسكين كراهة توالي خمس حركات.
وعن المهدوي: «من قرأ:» تِسْعَةُ عَشَرْ «فكأنه من التداخل، كأنه أراد العطف، فترك التركيب، ورفع هاء التأنيث، ثم راجع البناء، وأسكن» انتهى.
فجعل الحركة للإعراب، ويعني بقوله: أسكن راء «عَشَرْ» فإنه في هذه القراءة كذلك.
وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أيضاً: «تِسْعَةُ أعْشُرٍ» بضم «تِسْعَة» و «أعْشُر» بهمزة مفتوحة، ثم عين ساكنة، ثم شين مضمومة، وفيها وجهان:
518
قال أبو الفضل: يجوز أن يكون جمع «العشيرة» على «أعْشُر»، ثم أجراه مجرى «تِسْعَة عشر».
وقال الزمخشريُّ: جمع «عَشِير» مثل: يَمِين وأيْمُن.
وعن أنس - أيضاً -: «تِسْعَةُ وعْشُرْ» بضم التاء وسكون العين وضم الشين وواو مفتوحة بدل الهمزة.
وتخريجها كتخريج ما قبلها، إلا أنه قلب الهمزة واواً مبالغة في التخفيف، والضمة - كما تقدم - للبناء لا للإعراب.
ونقل المهدوي: أنه قرىء: «تِسْعَةٌ وعَشْرْ»، قال: «فجاء به على الأصل قبل التركيب وعطف» عَشْر «على» تِسْعَة «، وحذف التنوين، لكثرة الاستعمال، وسكون الراء من» عشر «على نية الوقف».
وقرأ سليمان بن قتة: بضم التاء وهمزة مفتوحة، وسكون العين، وضم الشين وجر الراء من «أعْشُرٍ».
والضمة على هذا ضمة إعراب، لأنه أضاف الاسم لها بعده فأعربهما إعراب المتضايفين وهي لغة لبعض العرب يفكون تركيب الأعداد، ويعربونها كالمتضايفين؛ كقوله: [الرجز]
٤٩٦٩ - كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوتِهْ بِنْتَ ثَمانِي عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
قال أبوالفضل: ويجيء على هذه القراءة، وهي قراءة من قرأ: «أعشر» مبنياً، أو معرباً من حيث هو جمع، أن الملائكة الذي هم على «سَقَر» تسعون ملكاً.

فصل في معنى الآية


معنى الآية: أنه يلي أمر تلك النار تسعة عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها.
قيل: هم خزنة النار، مالك وثمانية عشر ملكاً.
وقيل: التسعة عشر نقيباً، وقال أكثر المفسرين: تسعة عشر ملكاً بأعيانهم.
قال القرطبي: وذكر ابن المبارك عن رجل من بني تميم، قال كنا عند أبي العوام.
519
فقرأ هذه الآية، فقال: ما تسعة عشر تسعة عشر ألف ملك أو تسعة عشر ملكاً؟ قال: قلت: لا بل تسعة عشر ملكاً، قال: وأنى تعلم ذلك؟
فقلت: لقول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [المدثر: ٣١]
قال: صدقت، هم تسعة عشر ملكاً.
قال ابنُ جريج: نعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خزنة جهنم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعْينُهُمْ كالبَرْقِ، وأنْيابُهمْ كالصَّيَاصي، وأشْعارُهمْ تَمَسُّ أقْدامَهُمْ يَخرجُ لهَبُ النَّارِ مِنَ أفْواهِهِمْ»، الحديث.
قال ابن الأثير: «الصَّياصِي: قرون البقر».
وروى الترمذي عن عبد الله قال: «قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟
قالوا: لا ندري حتى نسأله فجاء رجل الى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم، فقال: وبماذا غلبوا؟.
قال: سألهم يهود، هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟.
قال: فماذا قالوا؟ قال: فقالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيغلب قومٌ سئلوا عما لا يعلمون، فقالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ لكنهم قد سألوا نبيهم، فقالوا: أرنا الله جهرة، عليّ بأعداء الله، إني سائلهم عن تربة الجنة، وهي الدرمك، فلما جاءوا، قالوا: يا أبا القاسم، كم عدد خزنة جهنم؟.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
هَكذَا، وهَكذَا «، في مرة عشرة، وفي مرة تسعة، قالوا: نعم فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَا تُربَةُ الجنَّةِ «؟ فسكتوا، ثم قالوا: أخبرنا يا أبا القاسم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» الخُبْزُ مِنَ الدَّرْمكِ «.
قال ابن الأثير: الدرمك: هو الدقيق الحوارى.
قال القرطبيُّ: الصحيح - إن شاء الله - أن هؤلاء التسعة عشر، هم الرؤساء، والنقباء، وأما جملتهم فكما قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ [المدثر: ٣١]، وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يُؤتَى بجَهنَّم يَومئِذٍ، لها سبعُونَ ألفَ زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجُرُّونهَا»
.
520
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزل قوله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمعُ ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم: «تسعة عشر» وأنتم الدهماء - أي العدد العظيم - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم.
قال السدي: فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي: لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة، يقولها مستهزءاً.
وفي رواية: أن الحارث بن كلدة قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فلما قال أبو الأسود ذلك، قال المسلمون: ويحكم، لا يقاس الملائكة بالحدادين، فجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا تساوي بينهما، ومعناه: لا يقاس الملائكة بالسجّانين، والحداد: السجان.

فصل في تقدير عدد الملائكة


ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً:
منها ما قاله أرباب الحكمةِ: أنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية، هو القوى الحيوانية والطبيعية، فالقوى الحيوانية: فهي الخمسة الظاهرة، والخمسة الباطنة، والشَّهوة، والغضب فهذه اثنا عشر، وأما القوى الطبيعية: فهي الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة والعادية، والنافية، والمولدة، فالجموع تسعة عشر، فلما كانت هذه منشآت الآفات لا جرم كان عدد الزبانية هكذا.
ومنها: أن أبو جهنم سبعة، فستة منها للكفار وواحد للفسَّاق، ثم إنَّ الكفَّار يدخلون النار لأمور ثلاثة: ترك الاعتقاد، وترك الإقرار، وترك العمل، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة، فالمجموع: ثمانية عشر.
وأما باب الفساق: فليس هناك إلا ترك العمل، فالمجموع: تسعة عشر مشغولة بغير العبادة، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر.
521
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً ﴾، أي : خولته، وأعطيته مالاً ممدوداً.
قال ابن عباس : هو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والنعم والخيول والعبيد والجواري.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس - أيضاً - : ألف دينار١.
وقال قتادة : ستة آلاف دينار٢.
وقال سفيان الثوري : أربعة آلاف دينار٣.
وقال الثوري - أيضاً - : ألف ألف دينار٤.
وقال ابن الخطيب٥ : المال الممدود : هو الذي يكون له مدد يأتي منه الجزء بعد الجزء دائماً، ولذلك فسره عمر - رضي الله عنه - غلة شهر بشهر وقال النعمان٦ : الممدود بالزيادة كالزرع والضرع، وأنواع التجارات.
قال مقاتل : كان له بستان لا ينقطع شتاء ولا صيفاً، كما في قوله - عز وجل - :﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ [ الواقعة : ٣٠ ]، أي : لا ينقطع والذي يظهر أنه المال الكثير، والتقديرات تحكم.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٠٦) عن مجاهد وسعيد بن جبير ومثله عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥٤) وعزاه إلى ابن المنذر..
٢ ذكره الماوردي (٦/١٣٩) والقرطبي (١٩/٤٧)..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٠٦)..
٤ ذكره السيوطي (٦/٤٥٤) وعزاه إلى عبد بن حميد..
٥ ينظر الفخر الرازي ٣٠/١٧٥..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٠٦) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥٤) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه والدينوري في "المجالسة"..
قوله :﴿ وَبَنِينَ شُهُوداً ﴾، أي : حضوراً لا يغيبون، ولا يفارقونه - ألبتة - طَيِّبَ القلب بحضورهم.
وقيل : معنى كونهم شهوداً، أي : يشهدون معه المجامعَ والمحافلَ.
وقيل :«شهوداً » أي : صاروا مثلهُ في شهود ما كان يشهدُ، والقيام بما كان يباشره.
قال مجاهد وقتادة : كانوا عشرة١.
وقال السديُّ والضحاكُ : كانوا اثني عشر رجلاً٢، وعن الضحاك : سبعة ولدُوا بمكة، وخمسة بالطائف٣.
وقال مقاتل : كانوا سبعة أسلم منهم ثلاثةٌ : خالد، وهشام، والوليد بن الوليد، قال : فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك قال ابن الخطيب كانوا سبعة الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص، وعبد القيس، وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة : خالد، وعمارة، وهشام٤.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٠٧) عن مجاهد..
٢ ذكره القرطبي (١٩/٤٧)..
٣ ذكره الماوردي (٦/١٤٠) وينظر المصدر السابق..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٤٧)..
قوله :﴿ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ﴾، أي : بسطتُ له في العيش بسطاً في الجاه العريض والرياسة في قومه.
والتميهدُ عند العرب : التوطئة والتهيئة.
ومنه : مهدُ الصبيّ.
وقال ابن عباس :﴿ ومَهَّدتُ لهُ تَمْهِيداً ﴾ أي : وسعَّتُ له ما بين «اليمن » إلى «الشام »١، وهو قول مجاهدٍ وعن مجاهد أيضاً : أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش٢.
١ ينظر المصدر السابق..
٢ ينظر المصدر السابق..
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ ﴾. لفظة «ثُمَّ » - هاهنا - معناها : التعجب كقولك لصاحبك : أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني، ونظيره : قوله تعالى :﴿ ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [ الأنعام : ١ ]، فمعنى " ثُمَّ " - هاهنا - الإنكارُ والتعجبُ، أي : ثم الوليد يطمعُ بعد هذا كله أن أزيدهُ في المالِ والولدِ، وقد كفر بِي ! قاله الكلبي ومقاتل، ثم قال :" كَلاَّ " ليس يكون ذلك مع كفرهِ بالنعمِ١.
قال الحسنُ وغيره : أي : ثُمَّ يطمعُ أن أدخلهُ الجنة، وكان الوليد يقولُ : إنْ كَانَ محمدٌ صادقاً فما خلقتِ الجنة إلا لي، فقال الله عزَّ وجلَّ رداً عليه وتكذيباً له :
١ ينظر المصدر السابق..
" كلاَّ " لستُ أزيدهُ، فلمْ يزلْ في نقصانٍ بعد قوله :" كلاَّ " حتى افتقر ومات فقيراً١.
وقيل : أي : ثم يطمع أن أنصره على كفره، " كَلا " قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة، فيكون متصلاً بالكلام الأول.
وقيل :«كَلاَّ » بمعنى «حقاً »، ويبتدئ بقوله «إنَّهُ » يعني الوليد ﴿ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً ﴾، أي : معانداً للنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
قال الزمخشريُّ :﴿ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا ﴾ استئناف جواب لسائل سأل : لم لا يزداد مالاً، وما باله ردع عن طبعه ؟.
فأجيب بقوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً ﴾، انتهى.
فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم في الهرة :«إنَّها ليْسَتْ بنجسٍ، إنَّها مِنَ الطوَّافِيْنَ عَليْكُمْ »٢.
والعنيد : المعاند.
يقال : عاند فهو عنيد وعانِد، والمعاند : البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد، والجمع : عند مثل :«راكع وركع »، قاله أبو عبيدة ؛ وأنشد قول الحازميِّ :[ الرجز ]
٤٩٥٩ - إذَا رَكبتُ فاجْعَلانِي وَسَطا*** إنَّي كَبِيرٌ لا أطيقُ العُنَّدا٣
وقال أبو صالح :«عنيداً » معناه : مباعداً ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
٤٩٦٠ - أرَانَا على حَالٍ تُفَرِّقُ بَيْنَنا*** نَوّى غُرْبَةٌ إنَّ الفِراقَ عَنُودُ٤
وقال قتادة : جاحداً٥.
وقال مقاتل : معرضاً٦.
وقيل : إنه المجاهر بعداوته.
وعن مجاهد : أنه المجانب للحق٧.
قال الجوهري : ورجل عنود : إذا كان لا يخالط الناس، والعنيد من التجبر، وعرق عاند : إذا لم يرقأ دمه، وجمع العنيد عُنُد مثل رغيف ورغف، والعنود من الإبل : الذي لا يخالط الإبل إنما هو في ناحية، والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير.

فصل في بيان فيما كانت المعاندة


في الآية إشارة إلى أنه كان يعاند في أمور كثيرة :
منها أنه كان يعاند في دلائل التوحيد، والعدل، والقدرة، وصحة النبوة وصحة البعث.
ومنها : أن كفره كان عناداً لأنه كان يعرف هذه الأشياء بقلبه وينكرها بلسانه. وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر.
ومنها : أن قوله «كان » يدل على أن هذه حرفته من قديم الزمان.
ومنها : أن هذه المعاندة، كانت مختصة منه بآيات الله تعالى.
١ ينظر المصدر السابق..
٢ تقدم..
٣ ينظر المقتضب (١/٢١٨)، وابن الشجري (١/٢٧٦)، والاقتضاب ص ٤١٥، وشرح الجمل لابن عصفور ٢/٦٠٠، ومجاز القرآن ١/٢٩٠، والطبري ٢٩/٩٧، ومجمع البيان ١٠/٥٨٣، والقرطبي ١٨/٤٨..
٤ ينظر اللسان (غرب)، (وعند)، والقرطبي (١٩/٤٨)..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٠٨)..
٦ ذكره الماوردي (٦/١٤١) والقرطبي (١٩/٤٨)..
٧ ينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾، أي : سأكلفه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : سألجئه، والإرهاق في كلام العرب : أن يحمل الإنسان الشيء.
والصعود : جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً، ثم يهوي به كذلك فيه أبداً. رواه الترمذي.
وفي رواية : صخرة في جهنم، إذا وضعوا أيديهم عليها ذابت، فإذا رفعوها عادت.
وقيل : هذا مثل لشدة العذاب الشاق الذي لا يطاق، كقوله : عقبة صعود وكؤود، أي : شاقة المصعدِ.
ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده، وهو قوله تعالى :
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾ : يجوز أن يكون استئناف تعليل لقوله تعالى :﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾، ويجوز أن يكون بدلاً من ﴿ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً ﴾.
يقال : فكر في الأمر، وتفكر إذا نظر فيه وتدبر، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاماً وهيأه، وهو المراد من قوله «وقَدَّرَ ».
والعرب تقول : قدرت الشيء إذا هيأته.

فصل في معنى الآية


معنى الآية : أن الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن لما نزل :﴿ حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِي الطول لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير ﴾ [ غافر : ١ - ٣ ]، سمعه الوليد يقرأها، فقال : والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنِّ، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمثمر، وإنَّ أسفله لمغدق وإنه ليعلو، وما يعلى عليه، وما يقول هذا بشر، فقالت قريش : صبأ الوليد لتصبونَّ قريش كلها، وكان يقال للوليد : ريحانة قريش، فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق إليه حزيناً، فقال له : ما لي أراك حزيناً، فقال : وما لي لا أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينوك بها، ويزعمون أنك زينت كلام محمدٍ، وتدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما، فغضب الوليدُ - لعنهُ الله - وتكبَّر، وقال : أنا أحتاجُ إلى كسرِ محمدٍ وصاحبه، وأنتم تعلمون قدر مالي، واللاتِ والعُزَّى ما بي حاجةٌ إلى ذلك وأنتم تزعمُون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه قط يخنق ؟.
قالوا : لا والله، قال : وتزعمون أنه كاهنٌ، فهل رأيتموه تكهن قط ؟ ولقد رأينا للكهنةِ أسجاعاً وتخالجاً، فهل رأيتموهُ كذلك ؟.
قالوا : لا والله. وقال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط ؟ قالوا : لا والله.
قال : وتزعمون أنه كذَّاب، فهل جريتمْ عليه كذباً قط ؟.
قالوا : لا والله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسمَّى الصادق والأمين من كثرة صدقه، فقالت قريش للوليدِ : فما هو ؟ ففكّر في نفسه ثم نظر ثم عبس، فقال : ما هذا إلا سحرٌّ أما رأيتموه يفرق بين الرجل وولده فذلك قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ ﴾ أي في أمر محمدٍ والقرآن «وقدر » في نفسه ماذا يمكنهُ أن يقول فيهما.
قوله :﴿ فَقُتِلَ ﴾، أي : لعنَ.
وقيل : قُهِرَ وغلبَ.
وقال الزهري : عذب، وهو من باب الدعاء.
قال ابن الخطيب١ : وهذا إنما يذكرُ عند التعجب والاستعظام.
ومثله قولهم : قتلهُ اللَّهُ ما أشجعهُ، وأخزاه الله ما أفجره، ومعناهُ : أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسدهُ بذلك، وإذا عرف ذلك، فنقول : هنا يحتملُ وجهين :
الأول : أنه تعجب من قوة خاطره، يعني أنه لا يمكن القدحُ في أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم بشبهةٍ أعظم ولا أقوى مما ذكرهُ هذا القائلُ.
الثاني : الثناءُ عليه على طريقةِ الاستهزاء، يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط.
قوله :﴿ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾، أي : كيف فعل هذا، كقوله تعالى :﴿ انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال ﴾ [ الإسراء : ٤٨ ] ثم قيل : بضرب آخر من العقوبة. «كيف قدَّر » على أيّ حال قدَّر.
١ ينظر: الفخر الرازي ٣/١٧٧..
«ثم نظر » بأي شيء يردّ الحق ويدفعهُ.
قال ابن الخطيب١ : والمعنى أنه أولاً فكّر. وثانياً : قدَّر. وثالثاً : نظر في ذلك المقدرِ، فالنظر السابق للاستخراج، والنظر اللاحق لتمام الاحتياطِ، فهذه المرات الثلاث متعلقة بأحوال ثلاث.
١ ينظر: السابق..
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ عَبَسَ ﴾، يقال : عبس يعبس عبساً، وعبوساً : أي : قطب وجهه.
وقال الليث : عبس يعبس فهو عبس إذا قطب ما بين عينيه، فإذا أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل : كلح، فإن اهتم لذلك، وفكر فيه قيل : بسر، فإن غضب مع ذلك قيل بسل. واعلم أنه ذكر صفات جسمه بعد صفات قلبه، وهذا يدل على عناده، لأن من فكر في أمر حسن يظهر عليه الفرح لا العبوس، والعبس أيضاً : ما يبس في أذناب الإبل من البعر، والبول ؛ قال أبو النجم :[ الرجز ]
٤٩٦١ - كَأنَّ في أذْنابِهنَّ الشُّوَّلِ*** مِنْ عبسِ الصَّيفِ قُرونَ الأُيَّلِ١

فصل في معنى الآية


معنى الآية : قطب وجهه في وجوه المؤمنين، وذلك أنه لما قال لقريش. محمداً ساحر مرَّ على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام، فعبس في وجوههم.
وقيل : عبس على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه، والعبس : مصدر «عبس » مخففاً، كما تقدم.
قوله :" وَبَسَرَ "، يقال : بَسَر يَبسُرُ بسراً وبُسُوراً : إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسود وجهه منه، يقال : وجه باسر، أي منقبض مسود كالح متغير اللون، قاله قتادة والسدي ؛ ومنه قول بشير بن الحارث :[ المتقارب ]
٤٩٦٢ - صَبَحْنَا تَمِيماً غَداةَ الجِفارِ*** بِشهْبَاءَ ملمُومةٍ بَاسِرَهْ٢
وأهل اليمن يقولون : بسر المركب بسراً، أي : وقف لا يتقدم، ولا يتأخر، وقد أبسرنا : أي صرنا إلى البسور.
وقال الراغب : البسر استعجال الشيء قبل أوانه، نحو : بسر الرجل حاجته طلبها في غير أوانها، وماء بسر : متناول من غديره قبل سكونه، ومنه قيل للذي لم يدرك من التمر : بسر، وقوله تعالى :﴿ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴾، أي : أظهر العبوس قبل أوانه، وقبل وقته.
قال : فإن قيل : فقوله تعالى :﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٤ ]، ليس يفعلون ذلك قبل الموت، وقد قلت : إن ذلك يكون فيما يقع قبل وقته.
قيل : أشير بذلك إلى حالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار، فخص لفظ البسر تنبيهاً على أن ذلك مع ما ينالهم من بعد، يجري مجرى التكلف، ومجرى ما يفعل قبل وقته، ويدل على ذلك ﴿ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٥ ].
وقد عطف في هذه الجمل بحروف مختلفة، ولكل منها مناسبة، أما ما عطف ب «ثُمَّ » فلأن بين الأفعال مهلة، وثانياً : لأن بين النظر، والعبوس، وبين العبوس، والإدبار تراخياً.
قال الزمخشريُّ : و «ثمّ نظر » عطف على «فكَّر » و «قدَّر »، والدعاء اعتراض بينهما، يعني بالدعاء قوله :«فَقُتِل »، ثم قال : فإن قلت : ما معنى «ثُمَّ » الداخلة على تكرير الدعاء ؟.
قلت : الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى ؛ ونحوه قوله :[ الطويل ]
٤٩٦٣ - ألاَ يَا اسْلمِي ثُمَّ اسْلمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ***. . . ٣
فإن قلت : ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها ؟.
قلت : للدلالة على أنه تأنَّى في التأمل، والتمهل، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخٍ، وتباعد، فإن قلت : فلم قال :«فَقالَ » - بالفاء - بعد عطف ما قبله ب «ثُمَّ » ؟.
قلت : لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث، فإن قلت : فلم لم يتوسط حرف العطف بين الجملتين ؟.
قلت : لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التأكيد من المؤكد.
١ ينظر اللسان (شول)، و(عبس)، و(أول)، والقرطبي (١٩/٥٠)..
٢ ينظر اللسان (حضر) و(شهب)، و(لمم)، و(بسر)، والقرطبي ١٩/٥٠، والدر المصون ٦/٤١٦..
٣ صدر بيت لحميد بن ثور الهلالي وعجزه:
... *** ثلاث تحيات وإن لم تكلم
ينظر ديوانه ص ١٣٣، ورصف المباني ص ٤٥٣، وشرح المفصل ٣/٣٩، والحماسة ٢/١٣٧، والكشاف ٤/٢٤٩، والدر المصون ٦/٤١٦..

قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ ﴾، أي : ولى وأعرض ذاهباً عن سائر الناس إلى أهله.
﴿ واستكبر ﴾ حين دعي إلى الإيمان، أي : تعظم.
﴿ إن هذا ﴾ أي : ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾، أي : تأثره عن غيره.
والسحر : الخديعة.
وقيل : السحر إظهار الباطل في صورة الحق.
والأثر : مصدر قولك : أثرت الحديث آثره، إذا ذكرته عن غيرك ؛ ومنه قيل : حديث مأثور، أي : ينقله خلف عن سلف ؛ قال الأعشى :[ السريع ]
٤٩٦٤ - إنَّ الَّذي فيه تَمَاريْتُمَا*** بُيِّنَ للسَّامِع والآثِرِ١
قال ابن الخطيب٢ : فيه وجهان :
الأول : أنه من قولهم : أثرت الحديث آثره، أَثراً، إذا حدثت به عن قوم في آثارهم، أي : بعدما ماتوا، هذا هو الأصل، ثم صار بمعنى الرواية عما كان.
والثاني : يؤثر على جميع السحر، وهذا يكون من الإيثارِ.
وقال أبو سعيد الضرير : يؤثر، أي : يُورَثُ.
١ ينظر ديوان الأعشى ص ٩٣، واللسان (أثر)، والقرطبي ١٩/. ٥٠.
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٧٨..
قوله تعالى :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر ﴾، أي : هذا إلا كلام المخلوقين تختدع به القلوب كما يخدع بالسحر.
قال ابن الخطيب١ : ولو كان الأمر كذلك لتمكنوا من معارضته إذ طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة.
قال السديُّ : يعني أنه من قول سيَّار عبد لبني الحضرمي، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك٢.
وقيل : إنه أراد أنه تلقنه ممن ادعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم.
قال ابن الخطيب٣ وهذا الكلام يدل على أن الوليد كان يقولُ هذا الكلام عناداً، لما روي في الحديث المتقدم :«أنه لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم " حم " ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لقد سمعتُ من محمدٍ كلاماً، ليس من كلام الجنِّ، ولا من كلام الإنس » الحديث، فلمَّا أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن قوله - هاهنا - :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر ﴾، إنَّما ذكره عناداً، أو تمرداً لا اعتقاداً.
١ السابق..
٢ ينظر الرازي ٣٠/١٧٧..
٣ ينظر الفخر الرازي ٣٠/١٧٨..
قوله تعالى :﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ هذا بدل من قوله تعالى :﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾. قاله الزمخشري.
فإن كان المراد بالصعود : المشقة، فالبدل واضح، وإن كان المراد : صخرة في جهنم - كما جاء في التفسير - فيعسر البدل، ويكون فيه شبه من بدل الاشتمال، لأن جهنم مشتملة على تلك الصخرة.

فصل في معنى الآية


المعنى : سأدخله سقر كي يصلى حرها، وإنما سميت «سَقَرَ » من سقرته الشمس : إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه، ولا ينصرف للتعريف والتأنيث قال ابن عباس :«سقر » اسم للطبقة السادسة من «جهنم »١.
١ ينظر الرازي ٣٠/١٧٧..
﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴾. هذا مبالغة في وصفها، أي : وما أعلمك أي شيء هي ؟. وهي كلمة تعظيم، وتهويل، ثم فسر حالها، فقال - جل ذكره - :
﴿ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ ﴾ أي : لا تترك لهم لحماً، ولا عظماً، ولا دماً إلا أحرقته.
قوله :﴿ لاَ تُبْقِي ﴾، فيها وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب على الحال، والعامل فيها معنى التعظيم، قاله أبو البقاء.
يعني أن الاستفهام في قوله :«مَا سَقَرُ » للتعظيم، والمعنى : استعظموا سقر في هذه الحال.
ومفعول " تُبْقِي، وتَذرُ " محذوف أي لا تبقي ما ألقي فيها، ولا تذره، بل تهلكه.
وقيل : تقديره لا تُبْقِي على من ألقي فيها، ولا تذر غاية العذاب إلا وصلته إليه.
والثاني : أنها مستأنفة.
قال ابن الخطيب١ : واختلفوا في قوله :" لا تبقي ولا تذر ".
فقيل : هما لفظان مترادفان بمعنى واحد، كرر للتأكيد والمبالغة، كقولك صدَّ عني وأعرض عني، بل بينهما فرق، وفيه وجوه :
الأول : لا تبقي من اللحم، والعظم، والدم شيئاً، ثم يعادون خالقاً جديداً، " ولا تَذرُ " أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبداً، رواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما٢.
وقال مجاهد : لا تبقي فيها حياً ولا تذره ميتاً بل تحرقهم كلما جُدِّدوا٣. وقال السديّ : لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً٤. وقيل : لا تبقي من المعذبين، ولا تذر من فوقها شيئاً، إلا تستعمل تلك القوة في تعذيبهم.
١ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٧٨..
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥٥) وعزاه إلى ابن المنذر..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣١١) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥٥) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٥١) عن السدي..
قوله تعالى :﴿ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ﴾، قرأ العامة : بالرفع، خبر مبتدأ مضمر، أي هي لواحة، وهذه مقوية للاستئناف في " لا تُبقِي ".
وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة وزيد بن١ علي وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر : بنصبهما على الحال، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها حال من " سَقرُ "، والعامل معنى التعظيم كما تقدم.
والثاني : أنها حال من " لا تُبْقِي ".
والثالث : من " لا تَذرُ ".
وجعل الزمخشري : نصبها على الاختصاص للتهويل.
وجعلها أبو حيان حالاً مؤكدة.
قال :" لأن النار التي لا تبقي ولا تذر، لا تكون إلاَّ مُغيرة للأبشار ".
و " لوَّاحةٌ " هنا مبالغة، وفيها معنيان :
أحدهما : من لاح يلوح، أي : ظهر، أي : أنها تظهر للبشر، [ وهم الناس، وإليه ذهب الحسن وابن كيسان، فقال :" لوَّاحةٌ " أي : تلوح للبشر ]٢ من مسيرة خمسمائة عام، وقال الحسن : تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً، ونظيره :﴿ وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى ﴾ [ النازعات : ٣٦ ].
والثاني : وإليه ذهب جمهور الناس، أنها من لوّحه أي : غيَّرهُ، وسوَّدهُ.
قال الشاعر :[ الرجز ]
٤٩٦٥ - تقُولُ : ما لاحَكَ يا مُسَافِرُ*** يَا بْنَةَ عَمِّي لاحَنِي الهَواجِرُ٣
وقال رؤبة بن العجَّاج :[ الرجز ]
٤٩٦٦ - لُوِّحَ مِنْهُ بَعْدَ بُدْنٍ وسَنَقْ*** تَلْويحكَ الضَّامرَ يُطْوى للسَّبَقْ٤
وقال آخر :[ الطويل ]
٤٩٦٧ - وتَعْجَبُ هِنْدٌ إنْ رأتْنِي شَاحِباً*** تقُولُ لشَيءٍ لوَّحتهُ السَّمائمُ٥
ويقال : لاحَهُ يلُوحُه : إذا غير حليته.
قال أبو رزين : تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل، قال تعالى :﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٤ ].
وطعن القائلون بالأول في هذا القول، فقالوا : لا يجوز أن يصفهم بتسويد الوجوهِ، مع قوله :﴿ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ ﴾.
وقيل : اللوح شدة العطش، يقال : لاحه العطش ولوحه : أي غيره، قال الأخفش : والمعنى أنها معطشة للبشر، أي : لأهلها ؛ وأنشد :[ الطويل ]
٤٩٦٨ - سَقَتْنِي على لَوْحِ من المَاءِ شَرْبةً*** سَقَاهَا بِه اللَّهُ الرِّهامَ الغَوادِيَا٦
يعني باللوح : شدة العطش. والرهام جمع رهمة - بالكسر - وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة : أتت بالرهام.
واللُّوح - بالضم - الهواء بين السماء والأرض، والبشر : إما جمع بشرة، أي : مغيرة للجلود. قاله مجاهد وقتادة، وجمع البشر : أبشار، وإما المراد به الإنس من أهل النار، وهو قول الجمهور.
واللام في «البشر » : مقوية، كهي في ﴿ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾ [ يوسف : ٤٣ ].
وقراءة النصب في «لوَّاحَةً » مقوية، لكون «لا تُبْقِي » في محل الحال.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٩٦، والبحر المحيط ٨/٣٦٧، والدر المصون ٦/٤١٧..
٢ سقط من أ..
٣ ينظر الكشاف ٤/١٨٣، وشرح شواهده ص ٤٢٤، ومجاز القرآن ٢/٢٥، ٢٧٥، والقرطبي ١٩/٥١، والبحر ٨/٣٦١، والدر ٦/٤١٧، وروح المعاني ٢٩/١٥٧..
٤ ينظر ديوان رؤبة ص ١٠٤، والقرطبي ١٩/٥١..
٥ ينظر اللسان (شحب)، و(لوح) و(سمم) والقرطبي ١٩/٥١، والبحر ٨/٣٦١، والدر المصون ٦/٤١٧..
٦ البيت لسحيم عبد بني الحسحاس.
ينظر ديوانه (٢٠)، والقرطبي ١٩/٥١، والبحر ٨/٣٦١، والدر المصون ٦/٤١٧..

قوله تعالى :﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾، هذه الجملة فيها الوجهان :
أعني : الحالية، والاستئناف وفي هذه الكلمة قراءات شاذة، وتوجيهات مشكلة.
فقرأ أبو جعفر١ وطلحة :«تِسعَة عْشرَ » - بسكون العين من «عشر » ؛ تخفيفاً ؛ لتوالي خمس حركات من جنس واحد، وهذه كقراءة ﴿ أَحَدَ عَشْرَ كَوْكباً ﴾ [ يوسف : ٤ ] وقد تقدمت. وقرأ أنس٢ وابن عباس رضي الله عنهما «تِسعَةُ عشَر » بضم التاء، «عَشَر » بالفتح.
وهذه حركة بناء، لا يجوز أن يتوهم كونها إعراباً، إذ لو كانت للإعراب لجعلت في الاسم الأخير لتنزل الكلمتين منزلة الكلمة الواحدة، وإنما عدل إلى التسكين كراهة توالي خمس حركات.
وعن المهدوي :«من قرأ :" تِسْعَةُ عَشَرْ " فكأنه من التداخل، كأنه أراد العطف، فترك التركيب، ورفع هاء التأنيث، ثم راجع البناء، وأسكن » انتهى.
فجعل الحركة للإعراب، ويعني بقوله : أسكن راء «عَشَرْ » فإنه في هذه القراءة كذلك.
وعن أنس - رضي الله عنه٣ - أيضاً :«تِسْعَةُ أعْشُرٍ » بضم «تِسْعَة » و «أعْشُر » بهمزة مفتوحة، ثم عين ساكنة، ثم شين مضمومة، وفيها وجهان :
قال أبو الفضل : يجوز أن يكون جمع «العشيرة » على «أعْشُر »، ثم أجراه مجرى «تِسْعَة عشر ».
وقال الزمخشريُّ : جمع «عَشِير » مثل : يَمِين وأيْمُن.
وعن أنس - أيضاً٤ - :«تِسْعَةُ وعْشُرْ » بضم التاء وسكون العين وضم الشين وواو مفتوحة بدل الهمزة.
وتخريجها كتخريج ما قبلها، إلا أنه قلب الهمزة واواً مبالغة في التخفيف، والضمة - كما تقدم - للبناء لا للإعراب.
ونقل المهدوي : أنه قرئ :«تِسْعَةٌ وعَشْرْ »، قال :«فجاء به على الأصل قبل التركيب وعطف " عَشْر " على " تِسْعَة "، وحذف التنوين، لكثرة الاستعمال، وسكون الراء من " عشر " على نية الوقف ».
وقرأ سليمان بن قتة : بضم٥ التاء وهمزة مفتوحة، وسكون العين، وضم الشين وجر الراء من «أعْشُرٍ ».
والضمة على هذا ضمة إعراب، لأنه أضاف الاسم لها بعده فأعربهما إعراب المتضايفين وهي لغة لبعض العرب يفكون تركيب الأعداد، ويعربونها كالمتضايفين ؛ كقوله :[ الرجز ]
٤٩٦٩ - كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوتِهْ*** بِنْتَ ثَمانِي عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ٦
قال أبو الفضل : ويجيء على هذه القراءة، وهي قراءة من قرأ :«أعشر » مبنياً، أو معرباً من حيث هو جمع، أن الملائكة الذي هم على «سَقَر » تسعون ملكاً.

فصل في معنى الآية


معنى الآية : أنه يلي أمر تلك النار تسعة عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها.
قيل : هم خزنة النار، مالك وثمانية عشر ملكاً.
وقيل : التسعة عشر نقيباً، وقال أكثر المفسرين : تسعة عشر ملكاً بأعيانهم.
قال القرطبي٧ : وذكر ابن المبارك عن رجل من بني تميم، قال كنا عند أبي العوام فقرأ هذه الآية، فقال : ما تسعة عشر تسعة عشر ألف ملك أو تسعة عشر ملكاً ؟ قال : قلت : لا بل تسعة عشر ملكاً، قال : وأنى تعلم ذلك ؟
فقلت : لقول الله - عز وجل - :﴿ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾.
قال : صدقت، هم تسعة عشر ملكاً.
قال ابنُ جريج : نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أعْينُهُمْ كالبَرْقِ، وأنْيابُهمْ كالصَّيَاصي، وأشْعارُهمْ٨ تَمَسُّ أقْدامَهُمْ يَخرجُ لهَبُ النَّارِ مِنَ أفْواهِهِمْ »٩، الحديث.
قال ابن الأثير :«الصَّياصِي : قرون البقر ».
وروى الترمذي عن عبد الله قال :«قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟
قالوا : لا ندري حتى نسأله فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم، فقال : وبماذا غلبوا ؟.
قال : سألهم يهود، هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟.
قال : فماذا قالوا ؟ قال : فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم : أيغلب قومٌ سئلوا عما لا يعلمون، فقالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ لكنهم قد سألوا نبيهم، فقالوا : أرنا الله جهرة، عليّ بأعداء الله، إني سائلهم عن تربة الجنة، وهي الدرمك، فلما جاءوا، قالوا : يا أبا القاسم، كم عدد خزنة جهنم ؟.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هَكذَا، وهَكذَا "، في مرة عشرة، وفي مرة تسعة، قالوا : نعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَا تُربَةُ الجنَّةِ " ؟ فسكتوا، ثم قالوا : أخبرنا يا أبا القاسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الخُبْزُ مِنَ الدَّرْمكِ " ١٠.
قال ابن الأثير : الدرمك : هو الدقيق الحوارى.
قال القرطبيُّ : الصحيح - إن شاء الله - أن هؤلاء التسعة عشر، هم الرؤساء، والنقباء، وأما جملتهم فكما قال تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾، وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يُؤتَى بجَهنَّم يَومئِذٍ، لها سبعُونَ ألفَ زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجُرُّونهَا »١١.
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : لما نزل قوله - عز وجل - ﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم، أسمعُ ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم :«تسعة عشر » وأنتم الدهماء - أي العدد العظيم - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم١٢.
قال السدي : فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي : لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة، يقولها مستهزءاً١٣.
وفي رواية : أن الحارث بن كلدة قال : أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين١٤، فلما قال أبو الأسود ذلك، قال المسلمون : ويحكم، لا يقاس الملائكة بالحدادين، فجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا تساوي بينهما، ومعناه : لا يقاس الملائكة بالسجّانين، والحداد : السجان.

فصل في تقدير عدد الملائكة


ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً :
منها ما قاله أرباب الحكمةِ : أنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية، هو القوى الحيوانية والطبيعية، فالقوى الحيوانية : فهي الخمسة الظاهرة، والخمسة الباطنة، والشَّهوة، والغضب فهذه اثنا عشر، وأما القوى الطبيعية : فهي الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة والعادية، والنافية، والمولدة، فالجموع تسعة عشر، فلما كانت هذه منشآت الآفات لا جرم كان عدد الزبانية هكذا.
ومنها : أن أبواب جهنم سبعة، فستة منها للكفار وواحد للفسَّاق، ثم إنَّ الكفَّار يدخلون النار لأمور ثلاثة : ترك الاعتقاد، وترك الإقرار، وترك العمل، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة، فالمجموع : ثمانية عشر.
وأما باب الفساق : فليس هناك إلا ترك العمل، فالمجموع : تسعة عشر مشغولة بغير العبادة، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٩٦، والبحر المحيط ٨/٣٦٨، والدر المصون ٦/٤١٨..
٢ ينظر: السابق..
٣ ينظر: السابق..
٤ ينظر: الدر المصون ٦/٤١٨..
٥ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٦٨، والدر المصون ٦/٤١٨..
٦ الرجز لنفيع بن طارق ينظر الحيوان ٦/٤٦٣، والدرر ٦/١٩٧، وشرح التصريح ٢/٢٧٥، والمقاصد النحوية ٤/٤٨٨، والإنصاف ١/٣٠٩، وأوضح المسالك ٤/٢٥٩، وخزانة الأدب ٦/٤٣٠، ٤٣٢، وشرح الأشموني ٣/٦٢٧، واللسان (شقا)، وهمع الهوامع ٢/١٤٩..
٧ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٥٢..
٨ في أ: أشفارهم..
٩ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٥٢)..
١٠ ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (١٠/٤٠٢)، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير مجالد وثقه غير واحد.
وذكره في موضع آخر (١٠/٤١٥) وقال: رواه أحمد وإسناده حسن..

١١ تقدم تخريجه..
١٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣١٢) عن ابن عباس وقتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥٦) عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد بن حميد..
١٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٥٣)..
١٤ ينظر المصدر السابق..
قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً﴾.
روي أن أبا جهل لما نزل قول الله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [المدثر: ٣٠] قال: أيعجز كل مائة ان يبطشوا بواحدٍ منهم ثم يخرجون من النار؛ فنزل قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً﴾ أي: لم نجعلهم رجالاً فتغالبوهم.
وقيل: جعلهم ملائكة لأنهم خلاف المعذبين من الجن والإنس، فلا تأخذهم مآخذ المجانس من الرقة والرأفة، ولا يستريحون إليهم، ولأنهم أشد الخلق بأساً، وأقواهم بطشاً، ولذلك جعل - تعالى - الرسول إلى البشر من جنسهم ليكون رأفة ورحمة بنا.
وقيل: لأنَّ قوتهم أعظم من قوة الإنس والجن.
فإن قيل: ثبت في الأخبار أنَّ الملائكة مخلوقون من النور، والمخلوق من النور كيف يطيق المكث في النار؟.
فالجواب: أن الله - تعالى - قادر على كل الممكنات، فكما أنه لا استبعاد في [إبقاء الحي في مثل ذلك العذاب أبد الآباد ولا يموت، فكذا لا استبعاد] في بقاء الملائكة هناك من غير ألم.
قوله ﴿وَمَا جَعَلْنَآ عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾. أي: بليّة.
روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: المعنى: ضلالة للذين كفروا.
وقوله تعالى ﴿فِتْنَةً﴾ مفعول ثانٍ على حذف مضاف، أي إلا سبب فتنة، و «الذين» صفة ل «فتنة»، وليست «فتنة» مفعولاً له.

فصل في علة ذكر العدد.


قال ابن الخطيب: هذا العدد إنَّما صار سبباً لفتنة الكفار من وجهين:
الأول: أن الكفار يستهزئون ويقولون: لم لم يكونوا عشرين، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد؟.
والثاني: أن الكفار يقولون: هذا العدد القليل، كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر خلق العالم من الجن والإنس من أول ما خلقهم الله إلى قيام القيامة؟.
522
والجواب عن الأول: أن هذا السؤال لازمٌ على كل عددٍ يفرض.
وعن الثاني: أنه لا يبعد أن الله يزرق ذلك العدد القليل قوة تفي بذلك، فقد اقتلع جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - مدائن قوم لوطٍ على أحدِ جناحيه، ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها.
وأيضاً: فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا، ولا للعقل فيها مجال.

فصل في أن الله تعالى يريد الفتنة.


دلت هذه الآية على أن الله - تعالى - يريد الفتنة.
وأجاب الجبائي: بأن المراد من الفتنة تشديدُ التعبد ليستدلوا على أنه - تعالى - قادرٌ على تقوية هؤلاء التسعة عشر على ما لا يقوى عليه مائةُ ألفِ ملكٍ أقوياء.
وأجاب الكعبي: بأن المراد من الفتنة الامتحانُ حتَّى يفوضَ المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الله تعالى، وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به، أو يكون المراد من الفتنة ما وقعوا فيه من الكفر بسبب تكذيبهم بعدد الخزنة، وحاصله ترك الألطاف.
والجواب: أن نقول: هل لا يزال لهذه المتشابهات أثرٌ في تقوية داعية الكفر أم لا؟ فإن لم يكن له أثرٌ في تقوية داعية الكفر لم يكن إنزال هذه المتشابهات فتنة للذين كفروا ألبتة وإن كان له أثرٌ في تقوية داعية الكفر، فقد حصل المقصود؛ لأنه إذا ترجَّحت داعية الفعل صارت داعيةُ الترك مرجوحة، والمرجوح يمتنع تأثيره، فيكون الترك ممتنع الوقوع، فيصير الفعل واجب الوقوع. والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الذين﴾. متعلق ب «جعلنا» لا ب «فتنة».
وقيل: بفعل مضمر، أي: فعلنا ذلك ليستيقن.

فصل في المراد بالآية


معنى الكلام: ليُوقنَ الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدَّة خزنة جهنَّم مُوافقةٌ لما عندهم. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم. ثم يحتمل أن يريد الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام، ويحتمل أن يريد الكُلَّ، ﴿وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً﴾ لتصديقهم بعدد خزنة النار.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: حقيقة الإيمان عندكم لا تقبل الزيادة والنقصان، فما قولكم في هذه الآية؟.
523
فالجواب: نحملُه على ثمرات الإيمان، وعلى آثاره ولوازمه.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَرْتَابَ﴾، أي: ولا يشك ﴿الذين أُوتُواْ﴾ أي: أعطُوا ﴿الكتاب والمؤمنون﴾ أي: المُصدِّقُون من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أنَّ خزنة جهنَّم تسعة عشر.
فإن قيل: لما أثبت الاستيقان لأهل الكتاب، وأثبت زيادة الإيمان للمؤمنين، فما الفائدة في قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُوا الكتاب والمؤمنون﴾ ؟.
فالجواب: أن الإنسان إذا اجتهد في أمرٍ غامضٍ دقيقِ الحُجَّة كثير الشُّبه، فحصل له اليقين، فربَّما غفل عن مقدمةٍ من مقدِّمات ذلك الدليل الدقيق، فيعود الشرك، فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك، ففائدة هذه الإعادة نفي ذلك الشكِّ، وأنه حصل له يقينٌ جازمٌ، لا يحصل عقيبه شكٌّ ألبتة.
قوله تعالى: ﴿وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾، أي: في صدورهم شكٌّ ونفاقٌ من منافقي أهل «المدينة» الذين يجيئون في مستقبل الزمان بعد الهجرة، وهذا إخبار عما سيكون، ففيه معجزة ﴿والكافرون﴾ أي: اليهود والنصارى ﴿مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً﴾ يعني: بعدد خزنةِ جهنَّم، وهذا قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن بن الفضل: السورة مكيّة، ولم يكن ب «مكة» نفاقٌ، فالمرض في هذه الآية الخلاف، والمراد بالكافرين: مشركو العرب، ويجوز أن يُراد بالمرض الشكُّ والارتياب لأن أهل «مكة» كان أكثرهم مشركين، وبعضهم قاطعين بالكذب، وقوله تعالى إخباراً عنهم: ﴿مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً﴾ ؟ أي: هذا العدد الذي ذكره حديثاً، أي ما هذا من الحديث.
قال الليث رَحِمَهُ اللَّهُ: المثل الحديث، ومنه:
﴿مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون﴾ [محمد: ١٥]، أي حديثها والخبر عنها.
وقال ابن الخطيب: إنما سمَّوه مثلاً؛ لأنه لمَّا كان هذا العدد عدداً عجيباً ظن القوم أنه رُبَّما لم يكن مراداً لله منه ما أشعر به ظاهره بل جعله مثلاً لشيء آخر تنبيهاً على مقصود آخر - لا جَرمَ سمَّوه مثلاً - لأنهم لمَّا اسغربوه ظنُّوا أنه ضرب مثلاً لغيره، و «مَثَلاً» تمييزٌ أو حالٌ، وتسمية هذا مثلاً على سبيل الاستعارة لغرابته.

فصل في لام: «وليقول»


«اللام» في قوله تعالى: ﴿وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ جار على أصول أهل السُّنة؛ لأن ذلك مراد، وعند المعتزلة: هي لام العاقبة، ونسبوه إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - مع أنهم ينكرون ذلك، إما على سبيل التَّهكُّم، وإما على ما يقولونه.
524
قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ : نعتٌ لمصدر، أو حالٌ منه على ما عرف، وذلك إشارة إلى ما تقدم من الإضلال والهدي أي: مثل ذلك الإضلالِ والهدى ﴿يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ﴾ كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم «يُضِلُّ» أي: يُعمي ويُخزي من يشاء، ويهدي من يشاء أي ويرشد من يشاء كإرشاد أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذه الآية تدل على مذهب أهل السنة؛ لأنه - تعالى - قال في أول هذه الآية: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ وقال - جل ذكره - في آخر الآية: ﴿وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً﴾، ثم قال سبحانه: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ﴾.
وأما المعتزلة فذكروا تأويلاتهم المشهورة، وتقدم أجوبتها.
قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾، «جُنُود ربِّك» : مفعولٌ واجبُ التقديم لحصر فاعله ولعود الضمير على ما اتصل بالمفعول.

فصل في تفسير الآية


أي: وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار «إلاَّ هُوَ» أي: الله عَزَّ وَجَلَّ، وهذا جواب لأبي جهل حين قال: ما لإله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الجنود إلاَّ تسْعةَ عشرَ إلاَّ أنَّ لكلِّ واحد منهم من الأعوان والجنود ما لا يعلم عددهم إلا هو، ويحتمل أن يكون المعنى ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ﴾ لفرط كثرتها ﴿إِلاَّ هُوَ﴾ فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين، ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق، وهو جل جلاله يعلمها.
ويكون المعنى: أنه لا حاجة بالله - سبحانه - في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة، بل هو الذي يعذِّبهم في الحقيقة، وهو الذي يخلق الألم فيهم، ولو أنه - تعالى - قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة، فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلَّةُ العذاب فجنود الله تعالى غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«أطَّتِ السَّماءُ وحَقَّ لَهَا أن تَئِطَّ، مَا فيهَا مَوضع أرْبعِ أصَابعَ إلاَّ وفِيهَا مَلكٌ سَاجِدٌ».
قوله جل ذكره: ﴿وَمَا هِيَ﴾، يجوز أن يعود الضمير على «سَقَر» أي: وما سقر إلاَّ تذكرةٌ أي عظةٌ للبشر، وأن يعود على الآيات المذكورة فيها، أو النار لتقدمها، أو الجنود لأنه أقربُ مذكور، أو نار الدنيا، وإن لم يجرِ لها ذكر تذكرة لنا بالآخرة، قاله الزجاج أو ما هذه العدة ﴿إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ﴾ أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى، وأنه سبحانه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار.
525
والبشر: مفعول ب «ذكرى» و «اللام» فيه مزيدة.
526
قوله: ﴿كَلاَّ والقمر﴾.
قال الفراء: «كَلاَّ» أصله للقسم، التقدير: أي: والقمر.
وقيل: المعنى حقّاً والقمر، فلا يوقف على هذين التقديرين على «كلا».
وأجاز الطبري الوقف عليها، وجعلها ردّاً على الذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم أي: ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار، ثم أقسم على ذلك بالقمر، وبما بعده.
وقيل: هذا إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى؛ لأنهم لا يتذكرون.
وقيل: هو ردعٌ لمن ينكر أن يكون الكبر نذيراً.
وقيل: ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة.
قوله تعالى: ﴿والليل إِذْ أَدْبَرَ﴾.
قرأ نافع وحمزة وحفص: «إذ» ظرفاً لما مضى من الزمان «أدبر» بزنة «أكْرَمَ».
والباقون: «إذا» ظرفاً لما يستقبل «دَبَرَ» بزنة «ضَرَبَ».
والرَّسْمُ محتمل لكلتيهما، فالصورة الخطية لا تختلف.
واختار أبو عبيد قراءة «إذا»، قال: لأن بعده «إذَا أسْفرَ»، قال: «وكذلك هي في حرف عبد الله»، يعني: أنه مكتوب بألفين بعد الذال؛ أحدهما: ألف «إذا» والأخرى همزة «أدبر».
قال: وليس في القرآن قسم يعقبه «إذ»، وإنما يعقبه «إذا».
واختار ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «إذا».
ويحكى عنه: أنه لما سمع «دَبَرَ» قال: «إنَّما يدبرُ ظهر البعير».
واختلفوا: هل «دبر، وأدبر» بمعنى أم لا؟.
فقيل: هما بمعنى واحد، يقال: دبر الليل والنهار وأدبر، وقبل وأقبل؛ ومنه قولهم: «أمس الدابر» فهذا من «دَبَر»، و «أمس المُدبِر» ؛ قال صَخرُ بن عمرو بن الشَّريدِ السُّلمِيُّ: [الكامل]
526
ويروى: «المُدْبِر»، وهذا قول الفرَّاء والأخفش والزجاج.
وأما: «أدبر الراكب» وأقبل فرباعي لا غير.
وقال يونس: «دبر» انقضى، و «أدبر» تولى، ففرق بينهما.
وقال الزمخشري: «ودبر: بمعنى أدبر» ك «قبل بمعنى أقبل».
وقيل منه: صاروا كأمسِ الدابر.
وقيل: هو من دبر الليل بالنهار، إذا خلفه.
وذكر القرطبي عن بعض أهل اللغة: «دبر الليل: إذا مضى، وأدبر: أخذ في الإدبار».
وقرأ محمد بن السميفع: «والليل إذا أدبر» بألفين، وكذلك هي في مصحف عبد الله وأبيّ.
وقال قطرب: من قرأ «دبر» فيعني أقبل، من قول العرب: دبر فلان، إذا جاء من خلفي.
قال أبو عمرو: وهي لغة قريش.
قوله تعالى: ﴿والصبح إِذَآ أَسْفَرَ﴾. أي أضاء، وفي الحديث: «أسِفرُوا بالفَجْرِ».
ومنه قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ﴾ [عبس: ٣٨].
وقرأ العامة: «أسْفَرَ» بالألف وعيسى بن الفضل وابن السميفع: «سَفَر» ثلاثياً.
والمعنى: طرح الظُّلمة عن وجهه على وجه الاستعارة، وهما لغتان.
ويقال: سَفَرَ وجه فلان إذا أضاء، وأسفر وجهه حسناً: أي أشرق، وسفرت المرأة، أي كشفت عن وجهها، فهي سافرة.
قال القرطبي: ويجوز أن يكون سَفَرَ الظلام، أي كنسه، كما يسفر البيت أي: يُكنس، ومنه السفير، لما يسقط من ورق الشجر ويتحاتّ، يقال: إنما سمي سفيراً لأن الريح تُسْفره، أي: تكنسه، والمُسفرة: المكنسة «.
قوله: ﴿إِنَّهَا﴾. أي: إن النار.
وقيل: إن قيام الساعة كذا حكاه أبو حيان. وفيه شيئان: عوده على غير مذكور، وكونُ المضاف اكتسب تأنيثاً.
527
وقيل: إنه النذارة، وقيل: هي ضمير القصّة، وهذا جواب القسم وتعليل ل» كَلاَّ «والقسم معترض للتوكيد. قاله الزمخشري.
قال شهاب الدين:»
وحينئذ يحتاج إلى تقدير جوازه، وفيه تكلف وخروج عن الظاهر «.
قوله: ﴿لإِحْدَى الكبر﴾. قرأ العامَّةُ:»
لإحْدَى الكُبَر «بهمزة، وأصلها واو من الوحدة.
وقرأ نصر بن عاصم، وابن محيصن، ويروى عن ابن كثير:»
لَحدى «بحذف الهمزة.
وهذا من الشُّذوذ بحيث لا يقاس عليه.
وتوجيهه: أن يكون أبدالها ألفاً ثُمَّ حذف الألف لالتقاء الساكنين، وقياس تخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بَيْنَ بَيْنَ.
قال الواحدي: ألف إحدى مقطوع لا تذهب في الوصل و»
الكُبَر «: جمع» كُبْرَى «ك» الفُضَل «جمع» فُضْلَى «.
قال الزمخشري:»
الكُبَر: جمع الكُبْرى «. جعلت ألف التأنيث كتاء التأنيث، فكما جمعت» فُعْلة «على» فُعَل «جمعت» فُعْلى «عليها، ونظير ذلك:» السَّوافِي «في جمع» السَّافِيَاء «وهو التراب التي تسفّه الريح، و» القَواصع «في جمع» القَاصِعَاء «كأنها جمع» فاعلة «قاله ابن الخطيب

فصل في معنى الآية


معنى»
إحْدَى الكُبَرِ «أي إحدى الدواهي، قال: [الرجز]
٤٩٧٠ - ولقَدْ قَتلْتُكمْ ثُنَاءَ ومَوْحَداً وتَركْتُ مُرَّةَ مِثلَ أمْسِ الدّابرِ
٤٩٧١ - يَا ابْنَ المُعلَّى نزَلتْ إحْدَى الكْبَرْ دَاهِيَةُ الدَّهْرِ وصَمَّاءُ الغِيَرْ
ومثله: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء، لمن يستعظمونه. والمراد من» الكبر «دركات جهنم، وهي سبعة: جَهَنَّم، ولَظَى، والحطمة، والسَّعير، والجَحِيم، والهَاوية، وسَقَر. أعاذنا الله منها.
وفي تفسير مقاتل:»
الكُبَر «اسم من أسماء النار.
528
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما» إنها «أي إن تكذيبهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» لإحْدَى الكُبَر «أي: الكبيرة من الكبائر.
قوله: ﴿نَذِيراً﴾. فيه أوجه:
أحدها: أنه تمييز من»
إحدى «لما ضمنت معنى التعظيم، كأنه قيل: أعظم الكبر إنذاراً، ف» نذير «بمعنى» الإنذار «كالنكير بمعنى الإنكار، كأنه قيل: إنها لإحدى الدواهي إنذاراً، ومثله: هي إحدى النساء عفافاً.
الثاني
: أنه مصدر بمعنى الإنذار أيضاً ولكنه نصب بفعل مقدَّر، قاله الفراء.
الثالث: أنه «فعيل»
بمعنى «مُفْعِل» وهو حال من الضمير في «إنها». قاله الزجاج، وذُكِّرَ لأن معناه معنى العذاب أو أراد أنَّها «ذات إنذارٍ» على معنى النسب، كقولهم: امرأة طالق وطاهر.
قال الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: والله ما أنذرَ الخلائق بشيءٍ أدهى منها.
الرابع: أنه حال من الضمير في «إحدى» لتأويلها بمعنى العظم.
الخامس: أنه حال من فاعل «قُمْ» أول السورة، والمراد بالنذير: محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: قُمْ نذيراً للبشر، أي: مخوفاً لهم. قاله أبو علي الفارسي.
وروي عن ابن عباس، وأنكره الفراء.
قال ابن الأنباري: قال بعض المفسرين: معناه يا أيُّها المدثِّر، قُم نذيراً للبشر، وهذا قبيح لطول ما بينهما.
السادس: أنه مصدر منصوب ب «أنذِر» أول السورة، كأنه قال: إنذاراً للبشر.
قال الفراء: يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار، أي: أنذر إنذاراً، فهو كقوله تعالى: ﴿كَيْفَ نَذِيرِ﴾ [الملك: ١٧]. أي: إنذاري، فعلى هذا يكون راجعاً إلى أول السورة.
السابع: هو حالٌ من «الكُبَر».
الثامن: حالٌ من ضمير «الكُبَرِ».
التاسع: أنه منصوب بإضمار «أعني».
العاشر: أنه حال من «لإحدى». قاله ابن عطية.
الحادي عشر: أنَّه منصوب ب «ادع» مقدَّراً، إذ المراد به الله تبارك وتعالى.
روى أبو معاوية الضرير: حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين: «نذيراً للبشر»، قال: يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: أنا لكم منها نذير فاتقوها.
529
و «نذيراً» على هذا نصب على الحال، أي ب ﴿وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً﴾ منذراً بذلك البشر.
الثاني عشر: أنَّه منصوب ب «نادى، أو ببلِّغ» إذ المراد به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثالث عشر: أنَّه منصوب بما دلَّت عليه الجملة، تقديره: عظُمتْ نذيراً.
الرابع عشر: هو حال من الضمير في «الكُبَرِ».
الخامس عشر: أنَّها حال من «هو» في قوله ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾.
السادس عشر: أنَّها مفعول من أجله، النَّاصب لها ما في «الكُبَرِ» من معنى الفعل.
قال أبو البقاء: «إنَّها لإحْدى الكبر لإنذار البشر». فظاهرُ هذا أنه مفعول من أجله. واعلم أنَّ النصب: قراءةُ العامَّة.
وقرأ أبي بن كعب، وابن أبي عبلة: بالرفع.
فإن كان المراد النار جاز فيه وجهان:
أن يكون خبراً بعد خبرٍ، وأن يكون خبر مبتدإ مضمرٍ، أي: هي نذير، والتذكِر - لما تقدم - من معنى النَّسبِ. وإن كان الباري تعالى أو رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان على خبر مبتدإ مضمر، أي: هو نذير.
و «للبشر» : إما صفة، وإما مفعول ل «نذير» واللام مزيدة لتقوية العامل.
قوله: ﴿لِمَن شَآءَ﴾، فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من البشر بإعادة العامل كقوله: ﴿لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ﴾ [الزخرف: ٣٣]، و ﴿لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ﴾ [الأعراف: ٧٥]، وأن يتقدم مفعول «شاء» أي: نذيراً لمن شاء التقدم أو التأخر، وفيه ذكر مفعول «شاء» وقد تقدم أنه لا يذكر إلا إذا كان فيه غرابة.
الثاني: وبه بدأ الزمخشري: أن يكون «لمن شاء» خبراً مقدماً، و «أن يتقدم» مبتدأ مؤخر.
قال: كقولك: لمن توضّأ أن يصلي، ومعناه: مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم، أو يتأخر انتهى.
فقوله: «التقدم أو التأخر» وهو مفعول «شاء» المقدر.
قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله: «أن يتقدم» هو المبتدأ معنى لا يتبادر إلى الذهن، وفيه حذف.
قال القرطبي: اللام في «لمن شاء» متعلقة ب «النذير»، أي: نذيراً لمن شاء منكم
530
أن يتقدم إلى الخير والطاعة أو يتأخر إلى الشر والمعصية، نظيره: ﴿ولقد علمنا المستقدمين منكم﴾، أي: في الخير ﴿وَلَقَدْ علمنالمستأخرين﴾ [الحجر: ٢٤] عنه، قال الحسن: هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر، كقوله تعالى: ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٧].
وقيل: المعنى لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر، فالمشيئة متصلة بالله - عَزَّ وَجَلَّ - والتقديم بالإيمان والتأخير بالكفر.
وكان ابن عباس يقول: هذا تهديد وإعلام أنَّ من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسليماً كثيراً جوزي بثوابٍ لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة، وكذب محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عوقب عقاباً لا ينقطع.
وقال السديُّ: «لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر عنها إلى الجنة».

فصل فيمن استدل بالآية على كون العبد متمكناً من الفعل


احتج المعتزلة بهذه الآية على كون العبد متمكناً من الفعل غير مجبور عليه.
وجوابه: أنَّ هذه الآية دلَّت على أن فعل العبد معلق على مشيئته، لكن مشيئة العبد معلقة على مشيئة الله - تعالى جل ذكره - كقوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الإنسان: ٣٠].
وحينئذ تصير الآية حجة عليهم.
قال ابن الخطيب: وذكر الأصحاب جوابين آخرين:
الأول: معنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين، التهديد، كقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾.
الثاني: أنَّ هذه المشيئة لله - تبارك وتعالى - على معنى: لمن شاء الله منكم أن يتقدم، أو يتأخر.
531
قوله تعالى :﴿ والليل إِذْ أَدْبَرَ ﴾.
قرأ نافع١ وحمزة وحفص :«إذ » ظرفاً لما مضى من الزمان «أدبر » بزنة «أكْرَمَ ».
والباقون :«إذا » ظرفاً لما يستقبل «دَبَرَ » بزنة «ضَرَبَ ».
والرَّسْمُ محتمل لكلتيهما، فالصورة الخطية لا تختلف.
واختار أبو عبيد قراءة «إذا »، قال : لأن بعده «إذَا أسْفرَ »، قال :«وكذلك هي في حرف عبد الله »، يعني : أنه مكتوب بألفين بعد الذال ؛ أحدهما : ألف «إذا » والأخرى همزة «أدبر ».
قال : وليس في القرآن قسم يعقبه «إذ »، وإنما يعقبه «إذا ».
واختار ابن عباس - رضي الله عنه - :«إذا ».
ويحكى عنه : أنه لما سمع «دَبَرَ » قال :«إنَّما يدبرُ ظهر البعير ».
واختلفوا : هل «دبر، وأدبر » بمعنى أم لا ؟.
فقيل : هما بمعنى واحد، يقال : دبر الليل والنهار وأدبر، وقبل وأقبل ؛ ومنه قولهم :«أمس الدابر » فهذا من «دَبَر »، و «أمس المُدبِر » ؛ قال صَخرُ بن عمرو بن الشَّريدِ السُّلمِيُّ :[ الكامل ]
٤٩٧٠ - ولقَدْ قَتلْتُكمْ ثُنَاءَ ومَوْحَداً***وتَركْتُ مُرَّةَ مِثلَ أمْسِ الدّابرِ٢
ويروى :«المُدْبِر »، وهذا قول الفرَّاء والأخفش والزجاج.
وأما :«أدبر الراكب » وأقبل فرباعي لا غير.
وقال يونس :«دبر » انقضى، و «أدبر » تولى، ففرق بينهما.
وقال الزمخشري :«ودبر : بمعنى أدبر » ك «قبل بمعنى أقبل ».
وقيل منه : صاروا كأمسِ الدابر.
وقيل : هو من دبر الليل بالنهار، إذا خلفه.
وذكر القرطبي٣ عن بعض أهل اللغة :«دبر الليل : إذا مضى، وأدبر : أخذ في الإدبار ».
وقرأ محمد٤ بن السميفع :«والليل إذا أدبر » بألفين، وكذلك هي في مصحف عبد الله وأبيّ.
وقال قطرب : من قرأ «دبر » فيعني أقبل، من قول العرب : دبر فلان، إذا جاء من خلفي.
قال أبو عمرو : وهي لغة قريش.
١ ينظر: السبعة ٢٥٩، والحجة ٦/٣٣٨، وإعراب القراءات ٢/٤١٠، وحجة القراءات ٤٣٣..
٢ قال البطليوسي في كتابه الاقتضاب في شرح أدب الكتاب ص ٢٧٠ كذا وقع في النسخ أي مثل أمس الدابر والصواب المدبر، لأن بعده:
ولقد دمغت إلى دريد طعنة***نجلاء تزغل مثل عط المنجر
ينظر العقد الفريد لابن عبد ربه ٥/١٦٦، والاقتضاب ص ٢٧٠، ٤٦٦، ومجاز القرآن ١/١١٥، ٢/١٥٢، واللسان (دبر)..

٣ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٥٥..
٤ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٦٩، والدر المصون ٦/٤١٩..
قوله تعالى :﴿ والصبح إِذَآ أَسْفَرَ ﴾. أي أضاء، وفي الحديث :«أسِفرُوا بالفَجْرِ ».
ومنه قوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ﴾ [ عبس : ٣٨ ].
وقرأ العامة :«أسْفَرَ » بالألف وعيسى بن الفضل وابن١ السميفع :«سَفَر » ثلاثياً.
والمعنى : طرح الظُّلمة عن وجهه على وجه الاستعارة، وهما لغتان.
ويقال : سَفَرَ وجه فلان إذا أضاء، وأسفر وجهه حسناً : أي أشرق، وسفرت المرأة، أي كشفت عن وجهها، فهي سافرة.
قال القرطبي٢ : ويجوز أن يكون سَفَرَ الظلام، أي كنسه، كما يسفر البيت أي : يُكنس، ومنه السفير، لما يسقط من ورق الشجر ويتحاتّ، يقال : إنما سمي سفيراً لأن الريح تُسْفره، أي : تكنسه، والمُسفرة : المكنسة ".
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٩٧، والبحر المحيط ٨/٣٧٠، والدر المصون ٦/٤١٩..
٢ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٥٥..
قوله :﴿ إِنَّهَا ﴾. أي : إن النار.
وقيل : إن قيام الساعة كذا حكاه أبو حيان١. وفيه شيئان : عوده على غير مذكور، وكونُ المضاف اكتسب تأنيثاً.
وقيل : إنه النذارة، وقيل : هي ضمير القصّة، وهذا جواب القسم وتعليل ل " كَلاَّ " والقسم معترض للتوكيد. قاله الزمخشري.
قال شهاب الدين٢ :" وحينئذ يحتاج إلى تقدير جوازه، وفيه تكلف وخروج عن الظاهر ".
قوله :﴿ لإِحْدَى الكبر ﴾. قرأ العامَّةُ :" لإحْدَى الكُبَر " بهمزة، وأصلها واو من الوحدة.
وقرأ نصر٣ بن عاصم، وابن محيصن، ويروى عن ابن كثير :" لَحدى " بحذف الهمزة.
وهذا من الشُّذوذ بحيث لا يقاس عليه.
وتوجيهه : أن يكون أبدالها ألفاً ثُمَّ حذف الألف لالتقاء الساكنين، وقياس تخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بَيْنَ بَيْنَ.
قال الواحدي : ألف إحدى مقطوع لا تذهب في الوصل و " الكُبَر " : جمع " كُبْرَى " ك " الفُضَل " جمع " فُضْلَى ".
قال الزمخشري :" الكُبَر : جمع الكُبْرى ". جعلت ألف التأنيث كتاء التأنيث، فكما جمعت " فُعْلة " على " فُعَل " جمعت " فُعْلى " عليها، ونظير ذلك :" السَّوافِي " في جمع " السَّافِيَاء " وهو التراب التي تسفّه الريح، و " القَواصع " في جمع " القَاصِعَاء " كأنها جمع " فاعلة " قاله ابن الخطيب٤.

فصل في معنى الآية


معنى " إحْدَى الكُبَرِ " أي إحدى الدواهي، قال :[ الرجز ]
٤٩٧١ - يَا ابْنَ المُعلَّى نزَلتْ إحْدَى الكْبَرْ***دَاهِيَةُ الدَّهْرِ وصَمَّاءُ الغِيَرْ٥
ومثله : هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء، لمن يستعظمونه. والمراد من " الكبر " دركات جهنم، وهي سبعة : جَهَنَّم، ولَظَى، والحطمة، والسَّعير، والجَحِيم، والهَاوية، وسَقَر. أعاذنا الله منها.
وفي تفسير مقاتل :" الكُبَر " اسم من أسماء النار.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما " إنها " أي إن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم " لإحْدَى الكُبَر " أي : الكبيرة من الكبائر٦.
١ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٧٨..
٢ ينظر: الدر المصون ٦/٤١٩..
٣ ينظر: السبعة ٦٥٩، ٦٦٠، والحجة ٦/٣٣٩، وإعراب القراءات ٢/٤١١..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٨٤..
٥ الرجز للعجاج، ينظر ديوانه (١٦)، والقرطبي ١٩/٥٥، والبحر ٨/٣٧٠، والدر المصون ٦/٤١٩..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٥٥)..
قوله :﴿ نَذِيراً ﴾. فيه أوجه :
أحدها : أنه تمييز من " إحدى " لما ضمنت معنى التعظيم، كأنه قيل : أعظم الكبر إنذاراً، ف " نذير " بمعنى " الإنذار " كالنكير بمعنى الإنكار، كأنه قيل : إنها لإحدى الدواهي إنذاراً، ومثله : هي إحدى النساء عفافاً.
الثاني : أنه مصدر بمعنى الإنذار أيضاً ولكنه نصب بفعل مقدَّر، قاله الفراء.
الثالث : أنه «فعيل » بمعنى «مُفْعِل » وهو حال من الضمير في «إنها ». قاله الزجاج، وذُكِّرَ لأن معناه معنى العذاب أو أراد أنَّها «ذات إنذارٍ » على معنى النسب، كقولهم : امرأة طالق وطاهر.
قال الحسن رضي الله عنه : والله ما أنذرَ الخلائق بشيءٍ أدهى منها.
الرابع : أنه حال من الضمير في «إحدى » لتأويلها بمعنى العظم.
الخامس : أنه حال من فاعل «قُمْ » أول السورة، والمراد بالنذير : محمدٌ صلى الله عليه وسلم أي : قُمْ نذيراً للبشر، أي : مخوفاً لهم. قاله أبو علي الفارسي.
وروي عن ابن عباس، وأنكره الفراء.
قال ابن الأنباري : قال بعض المفسرين : معناه يا أيُّها المدثِّر، قُم نذيراً للبشر، وهذا قبيح لطول ما بينهما.
السادس : أنه مصدر منصوب ب «أنذِر » أول السورة، كأنه قال : إنذاراً للبشر.
قال الفراء : يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار، أي : أنذر إنذاراً، فهو كقوله تعالى :﴿ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ [ الملك : ١٧ ]. أي : إنذاري، فعلى هذا يكون راجعاً إلى أول السورة.
السابع : هو حالٌ من «الكُبَر ».
الثامن : حالٌ من ضمير «الكُبَرِ ».
التاسع : أنه منصوب بإضمار «أعني ».
العاشر : أنه حال من «لإحدى ». قاله ابن عطية.
الحادي عشر : أنَّه منصوب ب «ادع » مقدَّراً، إذ المراد به الله تبارك وتعالى.
روى أبو معاوية الضرير : حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين :«نذيراً للبشر »، قال : يقول الله عز وجل : أنا لكم منها نذير فاتقوها.
و «نذيراً » على هذا نصب على الحال، أي ب ﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً ﴾ منذراً بذلك البشر.
الثاني عشر : أنَّه منصوب ب «نادى، أو ببلِّغ » إذ المراد به الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثالث عشر : أنَّه منصوب بما دلَّت عليه الجملة، تقديره : عظُمتْ نذيراً.
الرابع عشر : هو حال من الضمير في «الكُبَرِ ».
الخامس عشر : أنَّها حال من «هو » في قوله ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾.
السادس عشر : أنَّها مفعول من أجله، النَّاصب لها ما في «الكُبَرِ » من معنى الفعل.
قال أبو البقاء :«إنَّها لإحْدى الكبر لإنذار البشر ». فظاهرُ هذا أنه مفعول من أجله. واعلم أنَّ النصب : قراءةُ العامَّة.
وقرأ أبي بن كعب١، وابن أبي عبلة : بالرفع.
فإن كان المراد النار جاز فيه وجهان :
أن يكون خبراً بعد خبرٍ، وأن يكون خبر مبتدإ مضمرٍ، أي : هي نذير، والتذكِر - لما تقدم - من معنى النَّسبِ. وإن كان الباري تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم كان على خبر مبتدإ مضمر، أي : هو نذير.
و «للبشر » : إما صفة، وإما مفعول ل «نذير » واللام مزيدة لتقوية العامل.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٩٨، والبحر المحيط ٨/٣٧٠، والدر المصون ٦/٤٢٠..
قوله :﴿ لِمَن شَاءَ ﴾، فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من البشر بإعادة العامل كقوله :﴿ لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ ﴾ [ الزخرف : ٣٣ ]، و ﴿ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ ﴾ [ الأعراف : ٧٥ ]، وأن يتقدم مفعول «شاء » أي : نذيراً لمن شاء التقدم أو التأخر، وفيه ذكر مفعول «شاء » وقد تقدم أنه لا يذكر إلا إذا كان فيه غرابة.
الثاني : وبه بدأ الزمخشري : أن يكون «لمن شاء » خبراً مقدماً، و «أن يتقدم » مبتدأ مؤخر.
قال : كقولك : لمن توضّأ أن يصلي، ومعناه : مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم، أو يتأخر انتهى.
فقوله :«التقدم أو التأخر » وهو مفعول «شاء » المقدر.
قال أبو حيَّان رحمه الله : قوله :«أن يتقدم » هو المبتدأ معنى لا يتبادر إلى الذهن، وفيه حذف.
قال القرطبي١ : اللام في «لمن شاء » متعلقة ب «النذير »، أي : نذيراً لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة أو يتأخر إلى الشر والمعصية، نظيره :﴿ ولقد علمنا المستقدمين منكم ﴾، أي : في الخير ﴿ وَلَقَدْ علمنا المستأخرين ﴾ [ الحجر : ٢٤ ] عنه، قال الحسن : هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر، كقوله تعالى :﴿ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾٢[ الكهف : ٢٧ ].
وقيل : المعنى لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر، فالمشيئة متصلة بالله - عز وجل - والتقديم بالإيمان والتأخير بالكفر.
وكان ابن عباس يقول : هذا تهديد وإعلام أنَّ من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً جوزي بثوابٍ لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة، وكذب محمداً صلى الله عليه وسلم عوقب عقاباً لا ينقطع٣.
وقال السديُّ :«لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر عنها إلى الجنة »٤.

فصل فيمن استدل بالآية على كون العبد متمكناً من الفعل


احتج المعتزلة بهذه الآية على كون العبد متمكناً من الفعل غير مجبور عليه.
وجوابه : أنَّ هذه الآية دلَّت على أن فعل العبد معلق على مشيئته، لكن مشيئة العبد معلقة على مشيئة الله - تعالى جل ذكره - كقوله تعالى :﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله ﴾ [ الإنسان : ٣٠ ].
وحينئذ تصير الآية حجة عليهم.
قال ابن الخطيب٥ : وذكر الأصحاب جوابين آخرين :
الأول : معنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين، التهديد، كقوله عز وجل :﴿ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾.
الثاني : أنَّ هذه المشيئة لله - تبارك وتعالى - على معنى : لمن شاء الله منكم أن يتقدم، أو يتأخر.
١ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٥٦..
٢ ينظر المصدر السابق ١٩/٥٥..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ينظر المصدر السابق..
٥ ينظر الفخر الرازي ٣٠/١٨٥..
قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾. فيه أوجه:
531
أحدها: أنَّ «رَهِينَةٌ» بمعنى «رَهْنٍ» ك «الشَّتِيمة» بمعنى «الشَّتْم».
قال الزمخشري: ليس كتأنيث «رهين» في قوله: ﴿كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ﴾ [الطور: ٢١] لتأنيث النفس، لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين؛ لأن «فعيلاً» بمعنى «مفعول» يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنَّما هي اسم بمعنى «الرهن» كالشتيمة بمعنى «الشّتم» كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه بيت الحماسة: [الطويل]
٤٩٧٢ - أبَعْدَ الذي بالنَّعْفِ نَعْفِ كُويكِبٍ رَهِينَةِ رَمْسٍ ذي تُرابٍ وجَنْدلِ
كأنَّه قال: «رَهْنِ رَمْسٍ».
الثاني: أن الهاء للمبالغة.
الثالث: أنَّ التأنيث لأجل اللفظ.
واختار أبو حيان: أنها بمعنى «مفعول» وأنها كالنَّطيحة، وقال: ويدل على ذلك أنَّه لما كان خبراً عن المذكر كان بغير هاء، وقال تعالى: ﴿كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ فأنَّثَ حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء، وحيث كان خبراً عن مؤنث أتى بالتاء كما في هذه الآية فأمَّا التي في البيت فأنَّثَ على معنى النَّفْسِ.

فصل في معنى رهينة


ومعنى «رهينة» أي: مُرتهَنَة بكسبها، مأخوذة بعملها، إمَّا خلَّصهَا وإمَّا أوبقها.
قوله: ﴿إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه استثناء متصل إذا المراد بهم المسلمون الخالصون الصالحون، فإنَّهم فكُّوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يخلِّص الراهن رهنه بإيفاءِ الحق.
والثاني: أنَّه منقطع، إذا المراد به الأطفال والملائكة.
قال ابن عباس: المراد بهم الملائكة.
وقال عليُّ بن أبي طالب وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هم أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيُرْتهَنُوا.
532
وقال الضحاك: هم الذين سبقت لهم منا الحسنى، ونحوه عن ابن جريج قال: كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين، وهم أهل الجنة فإنَّهم لا يحاسبون.
وكذا قال مقاتل والكلبي أيضاً: هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يوم الميثاق حين قال الله تعالى لهم: «هؤلاء في الجنة ولا أبالي».
قال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين، لأنهم أدَّوا ما كان عليهم.
وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: هم المسلمون.
وقيل: إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان.
وقيل: هم الذين يُعطون كتبهم بأيمانهم.
وقال أبو جعفر الباقرُ: نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون.
قوله تعالى: ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾. يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هم في جنات، وأن يكون حالاً من «أصحاب اليمين»، وأن يكون حالاً من فاعل «يتساءلون».
ذكرهما أبو البقاء. ويجوز أن يكون ظرفاً ل «يتساءلون»، وهو أظهر من الحالية من فاعله.
و «يتساءلون» يجوز أن يكون على بابه، أي: يسأل بعضهم بعضاً، ويجوز أن يكون بمعنى «يسألون» أي يسألون غيرهم، نحو «دَعوْتُه وتَداعَيْتُه».
قوله: ﴿عَنِ المجرمين﴾ فيه وجهان:
الأول: أن تكون كلمة «عن» صلة زائدة، والتقدير: يتساءلون المجرمين، فيقولون لهم: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾، فإنه يقال: سألته كذا، وسألته عن كذا.
الثاني: أن يكون المعنى: أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين.
فإن قيل: فعلى هذا يجب أن يقولوا: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ ؟.
فأجاب الزمخشري عنه فقال: «المرادُ من هذا أن المشركين يلقون ما جرى بينهم وبين المؤمنين، فيقولون: قلنا لهم: مَا سلَكَكُمْ في سَقَرَ».
533
وفيه وجه آخر وهو: أنَّ المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم؟ فلما رأوهم، قالوا لهم: ما سلككم في سقر؟ والإضمارات كثيرة في القرآن.
قوله: ﴿مَا سَلَكَكُمْ﴾ : يجوز أن يكون على إضمار القول، وذلك في موضع الحال أي: يتساءلون عنهم قائلين لهم: ما سلككم؟ قال الزمخشري: فإن قلت: كيف طابق بعد قوله: «ما سلككم» وهو سؤال المجرمين، قوله: ﴿يَتَسَآءَلُونَ عَنِ المجرمين﴾، وهو سؤال عنهم، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين: ما سلككم؟.
قلت: قوله تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ﴾ ليس ببيانٍ للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسئولين عنهم؛ لأن المشركين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم: ما سلككم في سقر؟ أي: أدخلكم في سقر، كما تقول: سَلكْتُ الخَيْط في كذا إذا أدخلته فيه، والمقصود من هذا: زيادة التوبيخ والتخجيل، والمعنى: ما أدخلكم في هذه الدركةِ من النار؟ فأجابوا: أن العذاب لأمور أربعة، ثم ذكروها وهي قولهم: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ المصلين﴾.
قال الكلبيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يسألُ الرجلُ من أهل الجنة الرجلَ من أهل النار باسمه فيقول له: يا فلانُ.
وفي قراءة عبد الله بن الزبير: يا فلان، ما سلككم في سقر؟ وهي قراءة على التفسير؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن. قاله ابن الأنباري.
وقيل: إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين، فيقولون لهم: ما سلككم في سقر؟.
قال الفراء: في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين هم الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب.
قوله: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ المصلين﴾، هذا هو الدالُّ على فاعل «سلكنا كذا» الواقع جواباً لقول المؤمنين لهم: «ما سلككم» [والتقدير: سلكنا عَدمُ صلاتنا كذا وكذا.
قال أبو البقاء: هذه الجملة سدّت مسدّ الفاعل، وهو جواب: ما سلككم، وهو نظير «مناسككم»، وقد تقدم في «البقرة» ]

فصل في تفسير الآية


قال القرطبي: معنى قولهم: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ المصلين﴾ أي: المؤمنين الذين يصلون ﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين﴾ أي: لم نكن نتصدق.
534
قال ابن الخطيب: «وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة، والزكاة؛ لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذَّبوا على تركه».
﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين﴾، أي: في الأباطيل.
وقال ابن زيد: ﴿نَخُوضُ مَعَ الخآئضين﴾ في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قولهم - لعنهم الله -: إنه ساحر، كاهن، مجنون، شاعر كذبوا - والله - لم يكن فيه شيءٌ من ذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال قتادة: كلما غوى غاوٍ غوينا معه.
وقيل: معناه: كنا أتباعاً ولم نكن متبوعين، وقولهم: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين﴾ أي: نكذّب بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم.
﴿حتى أَتَانَا اليقين﴾ أي: جائنا الموت، قال الله تعالى: ﴿حتى يَأْتِيَكَ اليقين﴾ [الحجر: ٩٩].
وهذه الآية تدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
فإن قيل: لم أخر التكذيب وهو أفحش تلك الخصال الأربع؟.
فالجواب: أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذِّبين بيوم الدين، والغرض تعظيم هذا الذنب كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾ [البلد: ١٧].
قوله: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين﴾ ؛ كقوله: [الطويل]
٤٩٧٣ - عَلَى لاَحِبٍ لا يُهتَدَى بِمنَارِهِ...........................
في أحد وجهيه، أي: لا شفاعة لهم فلا انتفاع بها، وليس المراد أن ثمَّ شفاعةً غير نافعة كقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى﴾ [الأنبياء: ٢٨] الآية.
وهذه الآية تدلُّ على صحة الشفاعة للمذنبين من هذه الأمة بمفهومها؛ لأن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدلُّ على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين.
قال عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يشفع نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رابع أربعة: جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى، أو عيسى، ثم نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم الملائكة، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم، فيقال لهم: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ ؟ قالوا: لم نك من المصلين، إلى قوله: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين﴾.
قال عبد الله بن مسعود: فهؤلاء الذين في جهنم.
535
قوله :﴿ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين ﴾. فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه استثناء متصل إذا المراد بهم المسلمون الخالصون الصالحون، فإنَّهم فكُّوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يخلِّص الراهن رهنه بإيفاءِ الحق.
والثاني : أنَّه منقطع، إذا المراد به الأطفال والملائكة.
قال ابن عباس : المراد بهم الملائكة١.
وقال عليُّ بن أبي طالب وابن عمر - رضي الله عنهما - هم أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيُرْتهَنُوا٢.
وقال الضحاك : هم الذين سبقت لهم منا الحسنى٣، ونحوه عن ابن جريج قال : كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين، وهم أهل الجنة فإنَّهم لا يحاسبون.
وكذا قال مقاتل والكلبي أيضاً : هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم - عليه الصلاة والسلام - يوم الميثاق حين قال الله تعالى لهم :«هؤلاء في الجنة ولا أبالي ».
قال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين، لأنهم أدَّوا ما كان عليهم٤.
وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : هم المسلمون٥.
وقيل : إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان.
وقيل : هم الذين يُعطون كتبهم بأيمانهم.
وقال أبو جعفر الباقرُ : نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون.
١ ينظر القرطبي ١٩/٥٥..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣١٨) والحاكم (٢/٥٠٧) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجه ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٥٩) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وذكره أيضا عن ابن عمر ونسبه إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر..

٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٥٧)..
٤ ينظر المصدر السابق..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(٦/٤٥٩) وعزاه إلى ابن المنذر..
قوله تعالى :﴿ فِي جَنَّاتٍ ﴾. يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ، أي : هم في جنات، وأن يكون حالاً من «أصحاب اليمين »، وأن يكون حالاً من فاعل «يتساءلون ». ذكرهما أبو البقاء. ويجوز أن يكون ظرفاً ل «يتساءلون »، وهو أظهر من الحالية من فاعله.
و «يتساءلون » يجوز أن يكون على بابه، أي : يسأل بعضهم بعضاً، ويجوز أن يكون بمعنى «يسألون » أي يسألون غيرهم، نحو «دَعوْتُه وتَداعَيْتُه ».
قوله :﴿ عَنِ المجرمين ﴾ فيه وجهان :
الأول : أن تكون كلمة «عن » صلة زائدة، والتقدير : يتساءلون المجرمين، فيقولون لهم :
﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴾، فإنه يقال : سألته كذا، وسألته عن كذا.
الثاني : أن يكون المعنى : أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين.
فإن قيل : فعلى هذا يجب أن يقولوا :﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴾ ؟.
فأجاب الزمخشري عنه فقال :«المرادُ من هذا أن المشركين يلقون ما جرى بينهم وبين المؤمنين، فيقولون : قلنا لهم : مَا سلَكَكُمْ في سَقَرَ ».
وفيه وجه آخر وهو : أنَّ المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم ؟ فلما رأوهم، قالوا لهم : ما سلككم في سقر ؟ والإضمارات كثيرة في القرآن.
قوله :﴿ مَا سَلَكَكُمْ ﴾ : يجوز أن يكون على إضمار القول، وذلك في موضع الحال أي : يتساءلون عنهم قائلين لهم : ما سلككم ؟ قال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق بعد قوله :«ما سلككم » وهو سؤال المجرمين، قوله :﴿ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ المجرمين ﴾، وهو سؤال عنهم، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل : يتساءلون المجرمين : ما سلككم ؟.
قلت : قوله تعالى :﴿ مَا سَلَكَكُمْ ﴾ ليس ببيانٍ للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسئولين عنهم ؛ لأن المشركين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون : قلنا لهم : ما سلككم في سقر ؟ أي : أدخلكم في سقر، كما تقول : سَلكْتُ الخَيْط في كذا إذا أدخلته فيه، والمقصود من هذا : زيادة التوبيخ والتخجيل، والمعنى : ما أدخلكم في هذه الدركةِ من النار ؟ فأجابوا : أن العذاب لأمور أربعة، ثم ذكروها وهي قولهم :﴿ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين ﴾.
قال الكلبيُّ رحمه الله : يسألُ الرجلُ من أهل الجنة الرجلَ من أهل النار باسمه فيقول له : يا فلانُ.
وفي قراءة عبد الله بن الزبير : يا فلان، ما سلككم في سقر ؟ وهي قراءة على التفسير ؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن. قاله ابن الأنباري.
وقيل : إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين، فيقولون لهم : ما سلككم في سقر ؟.
قال الفراء : في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين هم الولدان ؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب.
قوله :﴿ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين ﴾، هذا هو الدالُّ على فاعل «سلكنا كذا » الواقع جواباً لقول المؤمنين لهم :«ما سلككم » [ والتقدير١ : سلكنا عَدمُ صلاتنا كذا وكذا.
قال أبو البقاء : هذه الجملة سدّت مسدّ الفاعل، وهو جواب : ما سلككم، وهو نظير «مناسككم »، وقد تقدم في «البقرة » ]

فصل في تفسير الآية


قال القرطبي٢ : معنى قولهم :﴿ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين ﴾ أي : المؤمنين الذين يصلون
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٥٧)..
٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/٥٧..
﴿ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين ﴾ أي : لم نكن نتصدق.
قال ابن الخطيب١ :«وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة، والزكاة ؛ لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذَّبوا على تركه ».
١ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٨٦..
﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين ﴾، أي : في الأباطيل.
وقال ابن زيد :﴿ نَخُوضُ مَعَ الخائضين ﴾ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهو قولهم - لعنهم الله - : إنه ساحر، كاهن، مجنون، شاعر كذبوا - والله - لم يكن فيه شيءٌ من ذلك صلى الله عليه وسلم١.
وقال قتادة : كلما غوى غاوٍ غوينا معه٢.
وقيل : معناه : كنا أتباعاً ولم نكن متبوعين،
١ ينظر تفسير القرطبي ١٩/٥٧..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣١٩)..
وقولهم :﴿ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين ﴾ أي : نكذّب بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم.
﴿ حتى أَتَانَا اليقين ﴾ أي : جائنا الموت، قال الله تعالى :﴿ حتى يَأْتِيَكَ اليقين ﴾ [ الحجر : ٩٩ ].
وهذه الآية تدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
فإن قيل : لم أخر التكذيب وهو أفحش تلك الخصال الأربع ؟.
فالجواب : أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذِّبين بيوم الدين، والغرض تعظيم هذا الذنب كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ ﴾ [ البلد : ١٧ ].
قوله :﴿ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين ﴾ ؛ كقوله :[ الطويل ]
٤٩٧٣ - عَلَى لاَحِبٍ لا يُهتَدَى بِمنَارِهِ *** . . . ١
في أحد وجهيه، أي : لا شفاعة لهم فلا انتفاع بها، وليس المراد أن ثمَّ شفاعةً غير نافعة كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ] الآية.
وهذه الآية تدلُّ على صحة الشفاعة للمذنبين من هذه الأمة بمفهومها ؛ لأن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدلُّ على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : يشفع نبيكم صلى الله عليه وسلم رابع أربعة : جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى، أو عيسى، ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم الملائكة، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم، فيقال لهم :﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴾ ؟ قالوا : لم نك من المصلين، إلى قوله :﴿ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين ﴾.
قال عبد الله بن مسعود : فهؤلاء الذين في جهنم٢.
١ تقدم..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣١٩) عن ابن مسعود..
قوله: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ عن القرآن، أي: فما لأهل «مكة» قد أعرضوا وولَّوا.
قال مقاتل: معرضين عن القرآن من وجهين:
أحدهما: الجحود والإنكار.
والثاني: ترك العمل بما فيه.
وقيل: المراد بالتذكرة: العظة بالقرآن، وغيره من المواعظ.
و «مُعرِضيْنَ» حال من الضمير في الجار الواقع خبراً عن «ما» الاستفهامية، وقد تقدم أن مثل هذه الحال تسمى حالاً لازمة وقد تقدم بحث حسن.
و «عن التذكرة» متعلق به.
قال القرطبي: «وفي» اللام «معنى الفعل، فانتصاب الحال على معنى الفعل».
قال ابن الخطيب: «هو كقولك: ما لك قائماً».
قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ﴾، هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من الضمير في الجار، وتكون بدلاً من «معرضين». قاله أبو البقاء. يعني: أنها كالمشتملة عليها، وأن تكون حالاً من الضمير في «معرضين» فيكون حالاً متداخلة.
وقرأ العامة: حُمُر - بضم الميم -، والأعمش: بإسكانها.
وقرأ نافع وابن عامر: «مُسْتَنْفَرَةٌ» - بفتح الفاء - على أنه اسم مفعول، أي: نفَّرها القنَّاص.
والباقون: بالكسر، بمعنى نافرة.
يقال: استنفر ونفر بمعنى نحو عجب واستعجب، وسخر واستسخر؛ قال الشاعر: [الكامل].
536
وقال الزمخشري: «وكأنها تطلب النِّفار في نفوسها، في جمعها له وحملها عليه».
فأبقى السِّين على بابها من الطلب، وهو معنى حسنٌ.
قال أبو علي الفارسي: «الكسر في» مستنفرة «أولى لقوله:» فرَّت «للتناسب، لأنه يدل على أنها استنفرت، ويدل على صحة ذلك ماروى محمد بن سلام قال: سألت أبا سوار الغنوي - وكان عربياً فصيحاً - فقلت: كأنهم حمرٌ ماذا؟ فقال: مستنفرة طردها قسورة، فقلت: إنما هي فرَّت من قسورة، فقال: أفرت؟ قلت: نعم، قال: فمستنفِرة إذاً» انتهى.
يعني: أنها مع قوله طرد، تناسب الفتح، لأنها اسم مفعول، فلما أخبر بأن التلاوة «فرّت من قسورة» رجع إلى الكسر للتناسب إلا أنَّ بمثلِ هذه الحكاية لا تردُّ القراءة المتواترة.
والقَسْورة: قيل: الصَّائد، أي: نفرت وهربت من قسورة، أي: من الصائد.
وقيل: الرُّماة يرمُونها.
وقيل: هو اسم جمع لا واحد له.
وقال بعض أهل اللغة: إن «القَسْوَرة» : الرامي، وجمعه: القساورة.
ولذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان: «القسورة» وهم الرماة والصيَّادون، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو ظبيان عن أبي موسى الأشعري، وأنشدوا للبيد بن ربيعة: [الطويل]
٤٩٧٤ - إمْسِكْ حِماركَ إنَّهُ مُسْتنفِرٌ فِي إثرِ أحْمرةٍ عَمدْنَ لِغُرَّبِ
٤٩٧٥ - إذَا مَا هَتفْنَا هَتْفةً في نَديِّنَا أتَانَا الرِّجالُ العَائِدُون القَساوِرُ
وقيل: «القسورة» : الأسد. قاله أبو هريرة، وابن عباس أيضاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قال ابن عرفة: من القسْرِ بمعنى القهْرِ، أي: أنه يقهرُ السِّباع والحمر الوحشيَّة تهرب من السباع؛ ومنه قول الشاعر: [الرجز]
٤٨٧٦ - مُضمرٌ يَحْذَرُهُ الأبطَالُ كَأَنَّهُ القَسْوَرَةُ الرِّئبَالُ
أي: الأسد، إلا أن ابن عباس أنكره، وقال لا أعرف القسورة أسد في لغة أحد من العرب، وإنما القسورة: عصبُ الرجال؛ وأنشد: [الرجز]
537
٤٩٧٧ - يَا بِنْتُ كُونِي خَيرةً لِخيِّرهْ أخْوالُهَا الجِنُّ وأهْلُ القَسْوره
وقيل: القَسْورةُ: ظُلمَة الليل، قال ابن الأعرابي: وهو قول عكرمة.
وعن ابن عباس: ركز الناس؛ أي حسُّهم وأصواتهم.
وعنه أيضاً: ﴿فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ أي: من حبال الصيادين، وعنه أيضاً: القسورة بلسان «الحَبَشَةَ» الأسد، وخالفه عكرمة فقال: الأسد بلسان «الحبشة» : عَنْبَسة، وبلسان «الحبشة» : الرُّماة، وبلسان «فارس» : شير، وبلسان «النَّبْط» : أريا.
وقيل: هو أوَّل سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل: قسورة.

فصل في المراد بالحمر المستنفرة


قال ابن عباس: كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حمر مستنفرة، قال ابن عباس: أراد الحمر الوحشية.
قال الزمخشري: وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله، ولا يرى مثلُ نفار حمر الوحش، واطرادها في العدوِ إذا خافت من شيء.
قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً﴾، أي: يُعطى كُتُباً مفتوحةً، وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد، لا نُؤمِنُ بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه: «من رب العالمين»، إلى فلان ابن فلان، ونُؤمر فيه باتباعك، ونظيره: ﴿وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ﴾ [الإسراء: ٩٣].
وقال ابن عباس: كانوا يقولون: إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحدٍ منا صحيفةٌ فيها براءةٌ من النار.
وقال مطرٌ الوراق: أرادوا أن يعطوا بغير عمل.
538
وقال الكلبي: قال المشركون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوباً ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك.
قال ابن الخطيب: وهذا من الصُّحف المنشَّرة بمعزل.
وقيل المعنى: أن يذكر بذكرٍ جميلٍ، فجعلت الصُّحفُ موضعَ الذِّكر مجازاً، فقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تُكتَب عليه فما بالنا لا نرى ذلك؟!
قوله: «مُنشَّرة».
العامة: على التشديد، من «نشَّرهُ» بالتضعيف.
وابن جبير: «مُنْشرَةٌ» بالتخفيف، و «نشَّر، وأنشر» بمنزلة «نزّل وأنزَل» : والعامة أيضاً على ضمِّ الحاء من «صحُف».
وابن جبير: على تسكينها.
قال أبو حيان: «والمحفوظ في الصحيفة والثوب:» نشَر «مخففاً ثلاثياً، وهذا مردود بالقرآن المتواتر».
وقال أبو البقاء في قراءة ابن جبير: «من أنشرت، إما بمعنى أمر بنشرها مثل ألحمت عرض فلان، أو بمعنى منشورة، مثل: أحمدت الرجل، أو بمعنى: أنشر الله الميِّت أي: أحياه: فكأنه أحياها فيها بذكره».
قوله: ﴿كَلاَّ﴾، أي: ليس يكون ذلك.
وقيل: حقّاً، والأول أجود، لأنه ردٌّ لقولهم. ثم قال: ﴿بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة﴾ أي: لا أعطيهم ما يتمنُّون لأنهم لا يخافون الآخرة فلذلك أعرضوا عن التأمُّل اغتراراً بالدنيا؛ فإنه لمَّا حصلت المعجزات الكثيرة في الدلالة على صحَّة النبوةِ فطلبُ الزيادة يكون عبثاً.
قوله: ﴿كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾. أي: حقّاً أنَّ القرآن عظة.
وقيل: هذا ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة ﴿إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾ بليغة ﴿فمن شاء ذكره﴾ أي: اتعظ به، وجعله نصب عينه.
والضمير في «إنه، وذكره» للتذكرة في قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ وإنما ذُكِّرا؛ لأنهما في معنى الذِّكر والقرآن.
539
وقيل: الضمير في «إنه» للقرآن أو الوعيد.
قوله: ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ﴾.
قرأ نافع: بالخطاب، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون: بالغيبة حملاً على ما تقدم من قوله: «كُل امرىءٍ» ولم يُؤثِرُوا الالتفات.
وقراءة الخطاب، وهي اختيار أبي حاتم لأنه أعم.
وأما قراءة الغيبة فهي اختبار أبي عبيد لقوله تعالى: ﴿كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ﴾ واتفقواعلى تخفيفها.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾، بمعنى إلاَّ وقت مشيئته، لا أن ينوب عن الزمان، بل على حذف مضاف.
قالت المعتزلة: بل معناه: إلا أن يقدرهم الله - تعالى - على الذِّكر ويُهمَّهم إليه.
وأجيبوا: بأنه تعالى أبقى الذكر مطلقاً، واستثنى منه حال المشيئة المطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئةُ أن يحصلَ الذِّكرُ مطلقاً، فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصُلِ المشيئة وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهريَّة ترك للظاهر.
قوله تعالى: ﴿هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة﴾، أي: حقيقٌ بأن يتَّقيه عبادُه ويخَافُوا عِقابه فيُؤمِنوا ويُطِيعُوا، وحقيقٌ بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.
روى الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال في قوله تعالى: ﴿هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة﴾ قال: قال الله تعالى: «أنَّا أهْلُ أنْ أُتَّقَى فَمَن اتَّقَى فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إلهاً فَأنَا أهْل أنْ أغْفِرَ لَهُ».
وقال بعض المفسرين: أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبائر، وأهل المغفرة أيضاً للذنوب الصغائر.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من قرأ ﴿يا أيها المدثر﴾ أعْطِيَ من الأجْرِ عَشْرَ حَسناتٍ بعَددِ من صَدَّقَ بمُحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذَّبه ب» مكة «» والله أعلم.
540
سورة القيامة
541
قوله :﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ ﴾، هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من الضمير في الجار، وتكون بدلاً من «معرضين ». قاله أبو البقاء. يعني : أنها كالمشتملة عليها، وأن تكون حالاً من الضمير في «معرضين » فيكون حالاً متداخلة.
وقرأ العامة : حُمُر - بضم الميم -، والأعمش١ : بإسكانها.
وقرأ نافع وابن عامر٢ :«مُسْتَنْفَرَةٌ » - بفتح الفاء - على أنه اسم مفعول، أي : نفَّرها القنَّاص.
والباقون : بالكسر، بمعنى نافرة.
يقال : استنفر ونفر بمعنى نحو عجب واستعجب، وسخر واستسخر ؛ قال الشاعر :[ الكامل ].
٤٩٧٤ - إمْسِكْ حِماركَ إنَّهُ مُسْتنفِرٌ*** فِي إثرِ أحْمرةٍ عَمدْنَ لِغُرَّبِ٣
وقال الزمخشري :«وكأنها تطلب النِّفار في نفوسها، في جمعها له وحملها عليه ».
فأبقى السِّين على بابها من الطلب، وهو معنى حسنٌ.
قال أبو علي الفارسي :«الكسر في " مستنفرة " أولى لقوله :﴿ فرَّت ﴾ للتناسب، لأنه يدل على أنها استنفرت، ويدل على صحة ذلك ما روى محمد بن سلام قال : سألت أبا سوار الغنوي - وكان عربياً فصيحاً - فقلت : كأنهم حمرٌ ماذا ؟ فقال : مستنفرة طردها قسورة، فقلت : إنما هي فرَّت من قسورة، فقال : أفرت ؟ قلت : نعم، قال : فمستنفِرة إذاً» انتهى.
يعني : أنها مع قوله طرد، تناسب الفتح، لأنها اسم مفعول، فلما أخبر بأن التلاوة «فرّت من قسورة» رجع إلى الكسر للتناسب إلا أنَّ بمثلِ هذه الحكاية لا تردُّ القراءة المتواترة.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٩٩، والبحر المحيط ٨/٣٧٢، والدر المصون ٦/٣٢٢..
٢ ينظر: السبعة ٦٦٠، والحجة ٦/٣٤١، وإعراب القراءات ٢/٤١١، وحجة القراءات ٧٣٤..
٣ ينظر الطبري ١٩/١٠٦، ومجمع البيان ١/٥٨٩، ومعاني القرآن للفراء ٣/٣٠٦ واللسان (لغز)، والقرطبي ١٩/٥٨، والبحر ٨/٣٧٢ والدر المصون ٦/٤٢٢..
قال أبو علي الفارسي :«الكسر في " مستنفرة " أولى لقوله :﴿ فرَّت ﴾ للتناسب، لأنه يدل على أنها استنفرت، ويدل على صحة ذلك ما روى محمد بن سلام قال : سألت أبا سوار الغنوي - وكان عربياً فصيحاً - فقلت : كأنهم حمرٌ ماذا ؟ فقال : مستنفرة طردها قسورة، فقلت : إنما هي فرَّت من قسورة، فقال : أفرت ؟ قلت : نعم، قال : فمستنفِرة إذاً» انتهى.
يعني : أنها مع قوله طرد، تناسب الفتح، لأنها اسم مفعول، فلما أخبر بأن التلاوة «فرّت من قسورة» رجع إلى الكسر للتناسب إلا أنَّ بمثلِ هذه الحكاية لا تردُّ القراءة المتواترة.
والقَسْورة : قيل : الصَّائد، أي : نفرت وهربت من قسورة، أي : من الصائد.
وقيل : الرُّماة يرمُونها.
وقيل : هو اسم جمع لا واحد له.
وقال بعض أهل اللغة : إن «القَسْوَرة » : الرامي، وجمعه : القساورة.
ولذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان :«القسورة » وهم الرماة والصيَّادون١، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو ظبيان عن أبي موسى الأشعري، وأنشدوا للبيد بن ربيعة :[ الطويل ]
٤٩٧٥ - إذَا مَا هَتفْنَا هَتْفةً في نَديِّنَا***أتَانَا الرِّجالُ العَائِدُون القَساوِرُ٢
وقيل :«القسورة » : الأسد. قاله أبو هريرة، وابن عباس أيضاً رضي الله عنه.
قال ابن عرفة : من القسْرِ بمعنى القهْرِ، أي : أنه يقهرُ السِّباع والحمر الوحشيَّة تهرب من السباع ؛ ومنه قول الشاعر :[ الرجز ]
٤٨٧٦ - مُضمرٌ يَحْذَرُهُ الأبطَالُ*** كَأَنَّهُ القَسْوَرَةُ الرِّئبَالُ٣
أي : الأسد، إلا أن ابن عباس أنكره، وقال لا أعرف القسورة أسد في لغة أحد من العرب، وإنما القسورة : عصبُ الرجال ؛ وأنشد :[ الرجز ]
٤٩٧٧ - يَا بِنْتُ كُونِي خَيرةً لِخيِّرهْ***أخْوالُهَا الجِنُّ وأهْلُ القَسْوره٤
وقيل : القَسْورةُ : ظُلمَة الليل، قال ابن الأعرابي : وهو قول عكرمة.
وعن ابن عباس : ركز الناس ؛ أي حسُّهم وأصواتهم٥.
وعنه أيضاً :﴿ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ﴾ أي : من حبال الصيادين٦، وعنه أيضاً : القسورة بلسان «الحَبَشَةَ » الأسد٧، وخالفه عكرمة فقال : الأسد بلسان «الحبشة » : عَنْبَسة، وبلسان «الحبشة » : الرُّماة، وبلسان «فارس » : شير، وبلسان «النَّبْط » : أريا٨.
وقيل : هو أوَّل سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل : قسورة.

فصل في المراد بالحمر المستنفرة


قال ابن عباس : كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم حمر مستنفرة، قال ابن عباس : أراد الحمر الوحشية٩.
قال الزمخشري : وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله، ولا يرى مثلُ نفار حمر الوحش، واطرادها في العدوِ إذا خافت من شيء.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٢٠-٣٢١) عن ابن عباس وأبي موسى وعكرمة وقتادة.
وأخرجه الحاكم (٢/٥٠٨) عن أبي موسى. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦٠) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم..

٢ ينظر ذيل ديوان لبيد بن ربيعة ص ٢٢٦، والقرطبي ١٩/٥٨، والبحر ٨/٣٦٢، والدر المصون ٦/٤٢٣..
٣ ينظر البحر ٨/٣٦٢، والدر المصون ٦/٤٢٣..
٤ يروى الشطر الثاني كما في الطبري:
... *** أحوالها في الحي مثل القسوره
ينظر الطبري ١٩/١٠٧، والقرطبي ١٩/٥٨، والدر المصون ٦/٤٢٣، وفتح القدير ٥/٣٣٣..

٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٣٢) عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦١) وعزاه إلى سفيان بن عيينة في "تفسيره" وعبد الرزاق وابن المنذر..
٦ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦١) وعزاه إلى ابن المنذر..
٧ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٦١) وعزاه إلى ابن أبي حاتم..
٨ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٢١) عن عكرمة..
٩ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٥٨) عن ابن عباس..
قوله تعالى :﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ﴾، أي : يُعطى كُتُباً مفتوحةً، وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد، لا نُؤمِنُ بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه :«من رب العالمين »، إلى فلان ابن فلان، ونُؤمر فيه بإتباعك، ونظيره :﴿ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ ﴾ [ الإسراء : ٩٣ ].
وقال ابن عباس : كانوا يقولون : إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحدٍ منا صحيفةٌ فيها براءةٌ من النار١.
وقال مطرٌ الوراق : أرادوا أن يعطوا بغير عمل٢.
وقال الكلبي : قال المشركون : بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوباً ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك٣.
قال ابن الخطيب٤ : وهذا من الصُّحف المنشَّرة بمعزل.
وقيل المعنى : أن يذكر بذكرٍ جميلٍ، فجعلت الصُّحفُ موضعَ الذِّكر مجازاً، فقالوا : إذا كانت ذنوب الإنسان تُكتَب عليه فما بالنا لا نرى ذلك ؟ !
قوله :«مُنشَّرة ».
العامة : على التشديد، من «نشَّرهُ » بالتضعيف.
وابن جبير٥ :«مُنْشرَةٌ » بالتخفيف، و «نشَّر، وأنشر » بمنزلة «نزّل وأنزَل » : والعامة أيضاً على ضمِّ الحاء من «صحُف ».
وابن جبير٦ : على تسكينها.
قال أبو حيان٧ :«والمحفوظ في الصحيفة والثوب :" نشَر " مخففاً ثلاثياً، وهذا مردود بالقرآن المتواتر ».
وقال أبو البقاء في قراءة ابن جبير :«من أنشرت، إما بمعنى أمر بنشرها مثل ألحمت عرض فلان، أو بمعنى منشورة، مثل : أحمدت الرجل، أو بمعنى : أنشر الله الميِّت أي : أحياه : فكأنه أحياها فيها بذكره ».
١ ينظر المصدر السابق..
٢ ينظر المصدر السابق..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ينظر الرازي ٣٠/١٨٧..
٥ ينظر: الكشاف ٤/٦٥٦، والمحرر الوجيز ٥/٤٠٠، والبحر المحيط ٨/٣٧٢..
٦ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٠٠، والدر المصون ٦/٣٢٤..
٧ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٨١..
قوله :﴿ كَلاَّ ﴾، أي : ليس يكون ذلك.
وقيل : حقّاً، والأول أجود، لأنه ردٌّ لقولهم. ثم قال :﴿ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة ﴾ أي : لا أعطيهم ما يتمنُّون لأنهم لا يخافون الآخرة فلذلك أعرضوا عن التأمُّل اغتراراً بالدنيا ؛ فإنه لمَّا حصلت المعجزات الكثيرة في الدلالة على صحَّة النبوةِ فطلبُ الزيادة يكون عبثاً.
قوله :﴿ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ﴾. أي : حقّاً أنَّ القرآن عظة.
وقيل : هذا ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة ﴿ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ﴾ بليغة
﴿ فمن شاء ذكره ﴾ أي : اتعظ به، وجعله نصب عينه.
والضمير في «إنه، وذكره » للتذكرة في قوله تعالى :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ ﴾ وإنما ذُكِّرا ؛ لأنهما في معنى الذِّكر والقرآن.
وقيل : الضمير في «إنه » للقرآن أو الوعيد.
قوله :﴿ وَمَا يَذْكُرُونَ ﴾.
قرأ نافع١ : بالخطاب، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون : بالغيبة حملاً على ما تقدم من قوله :«كُل امرئ » ولم يُؤثِرُوا الالتفات.
وقراءة الخطاب، وهي اختيار أبي حاتم لأنه أعم.
وأما قراءة الغيبة فهي اختبار أبي عبيد لقوله تعالى :﴿ كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ ﴾ واتفقوا على تخفيفها.
قوله :﴿ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله ﴾، بمعنى إلاَّ وقت مشيئته، لا أن ينوب عن الزمان، بل على حذف مضاف.
قالت المعتزلة : بل معناه : إلا أن يقدرهم الله - تعالى - على الذِّكر ويُهمَّهم إليه.
وأجيبوا : بأنه تعالى أبقى الذكر مطلقاً، واستثنى منه حال المشيئة المطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئةُ أن يحصلَ الذِّكرُ مطلقاً، فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصُلِ المشيئة وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهريَّة ترك للظاهر.
قوله تعالى :﴿ هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة ﴾، أي : حقيقٌ بأن يتَّقيه عبادُه ويخَافُوا عِقابه فيُؤمِنوا ويُطِيعُوا، وحقيقٌ بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.
روى الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى :﴿ هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة ﴾ قال : قال الله تعالى :«أنَّا أهْلُ أنْ أُتَّقَى فَمَن اتَّقَى فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إلهاً فَأنَا أهْل أنْ أغْفِرَ لَهُ »٢.
وقال بعض المفسرين : أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبائر، وأهل المغفرة أيضاً للذنوب الصغائر.
١ ينظر: إعراب القراءات ٢/٤١٣، وحجة القراءات ٤٣٥..
٢ أخرجه أحمد (٣/١٤٢، ٢٤٣) وابن ماجه (٤٢٩٩) والترمذي (٣٣٢٥) والدارمي (٢/٣٠٢، ٣٠٣) والحاكم (٢/٥٠٨)، وأبو يعلى (٦/٦٦) رقم (٣٣١٧) من طرق عن سهيل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وسهيل ليس بالقوي في الحديث وقد تفرد سهيل بهذا الحديث عن ثابت.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي..

Icon