تفسير سورة الإنشقاق

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الانشقاق مكية، وآياتها خمس وعشرون، نزلت بعد سورة الانفطار.
وتبدأ هذه السورة الكريمة بذكر بعض أشراط الساعة، وخضوع الأرض والسماء لتصريفه تعالى، كما في سورة النبأ والتكوير والانفطار، لكنها تعرضها بتوسع وقوة، وفي طابع خاص، هو طابع الاستسلام لله. ففي مطلعها الخاشع الجليل تمهيد لخطاب الإنسان، وإلقاء الخشوع في قلبه لربه، لأنه مسوق إليه، وعمله مسجل في كتاب سيلقاه يوم القيامة. فمن أخذه باليمين كان حسابه يسيرا، ومن أخذه من وراء ظهره استجار من لقاء العذاب ودخول النار. ثم يأتي القسَم بظواهر من آيات الله تشهد بقدرته وتدعو الإنسان إلى الإيمان.
ثم ختمت السورة بتهديد الكافرين أن الله يعلم ما يُضمرون، وأنه أعدّ لهم العذاب الأليم، كما أعدّ للمؤمنين الأجر الدائم الذي لا ينقطع.
وسورة الانشقاق هادئة الإيقاع، جليلة الإيحاء، فيها لهجة التبصير المشفق الرحيم، في راحة ويسر. وفي إيحاء هادئ عميق، تطوف بالقلب البشري في مجالات كونية وإنسانية في آيات معدودة، لا تتجاوز عدة أسطر.. وهذا ما
لا يُعهد إلا في هذا الكتاب العجيب.

انشقت السماء : تصدعت.
بين الله تعالى في مطلع هذه السورة الكريمة أهوالَ يوم القيامة، في آيات موجَزة هي من عجائب إيجازِ القرآن وبلاغته، وذَكَر أن ما يقع بين يدي الساعة من كوارث وأهوالٍ تُشِيبُ الوِلدان، ويفزع لها الإنسان. فمنها :
إذا تشقّقت السماءُ وتصدّعت، واختلَّ نظامُ العالم.
أَذِنت لربها : استمعت إليه، أذِنَ للشيء : استمع إليه، وأذِنَ بالشيء : عَلِمَه.
حُقت : أطاعت، وقع عليها الحق واعترفت بأنها محقوقة لربها.
واستمعت السماءُ لأمرِ ربّها وانقادت لحُكمه.
وإذا الأرض مُدت : تغيرت جميع ملامحها وأصبحت قاعا صفصفا، بإزالة جبالها وتغيير معالمها.
﴿ وَإِذَا الأرض مُدَّتْ ﴾ أي : انبسطت بنسفِ ما فيها من جبال، وأصبحت لا بناءَ فيها ولا وِهاد.
وألقت ما فيها وتخلّت : أخرجت جميع ما فيها من الخلائق والكنوز التي طوتها في أجيالها العديدة.
كما قذفت ما في جوفها من الخلائق والكنوز.
﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ واستمعت لأمرِ ربّها وأطاعت... إذا حصل كل هذا - لَقِيَ الإنسانُ من الأهوال ما لا يحيط به الخيالُ في ذلك اليوم العصيب.
كادح : عامل بجد ومشقة، كدح في العمل كَدحا : سعى، وأجهد نفسَه، وعملَ خيراً أو شرّا، وكدحَ لِعياله : كسبَ لهم بمشقة.
فملاقيه : فسوف تجدُ عملَك أمامك مسجلاً في سِجلٍّ دقيق، لا ينسى شيئا.
بعد هذه المقدمة الهائلة أخبرَ اللهُ تعالى عن كدِّ الإنسانِ، وتعبه في هذه الحياة.
﴿ يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ﴾.
يا أيها الإنسانَ الغافل عن مصيره، لا تظنَّ أنك خالد، كلاّ إنك مُجِدٌّ في السيرِ إلى ربك، وراجع إليه يومَ القيامة، وإن كلَّ عملٍ عملتَه، خيراً أو شراً، سوف تُلاقيه أمامك في سجلٍّ دقيق، وسَيُجازيك ربُّك على كَدْحِك من ثوابٍ وعقاب.
في ذلك اليوم ينقسم الناسُ فريقين : فريقَ الصالحين البررة.
وهؤلاء يحاسَبون حسابا يسيرا.
ينقلب إلى أهله : يرجع إلى عشيرته فرحا مسرورا.
وينقلبون إلى أهلهم فرحين مسرورين كما قال تعالى، ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ﴾ إذ يتجاوز الله عن سيئاته. وقد روى البخاري ومسلم عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«من نُوقش الحسابَ عُذِّب. فقالت عائشة : أوليسَ الله يقول ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ﴾ فقال : إنما ذلكَ العَرضُ، ولكنّ من نوقش الحسابَ عُذِّب ».
وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« إن الله يُدني العبدَ يوم القيامة حتى يضعَ كَنَفَهُ عليه، فيقول له : فعلتَ كذا وكذا، ويعدِّدُ عليه ذنوبَه ثم يقول له : سترتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرُها لك اليوم »، فهذا هو المرادُ من الحساب اليسير. الكنف : الرحمة والستر.
من أُوتي كتابه وراء ظهره : صورةٌ عجيبة من الاحتقار والازدراء.
والفريق الثاني فريق العصاة الجاحدين، وهؤلاء يحاسبون حساباً عسيرا ويَلْقَون من العذاب ما لا يتصوره الإنسان...
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ ﴾،
هذه صورةٌ عجيبة جديدة، تأتي لأول مرة في القرآن الكريم، وهي إعطاء الكتاب للمجرمِ من وراءِ ظهره، وما هي إلا نوعٌ من الاحتقار وازدراء به.
الثبور : الهلاك، يدعو ثُبورا : يدعو على نفسه بالهلاك.
وهو حين يتناوله على هذه الصورة يدعو على نفسه بالهلاك والموت، ولكن
لا يجاب.
يصلَى سعيرا : يدخل جهنم.
ويكون مصيره النار وبئس القرار ويقول :
﴿ يا ليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يا ليتها كَانَتِ القاضية مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [ الحاقة : ٢٥-٢٩ ].
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر وابن كثير و الكسائي : يُصلى بضم الياء وفتح الصاد واللام المشددة، والباقون : يصلى بفتح الياء وإسكان الصاد وفتح اللام من غير تشديد.
لماذا ؟ إنه كان في الدنيا ساهياً لاهيا، سادراً وراء شهواته يُنكر البعثَ والحسابَ والجزاء.
إنه ظن أنه لن يحُور : إنه كان لا يؤمن بالبعث، والرجوع إلى الله، حار يحور حورا وحئورا : رجَعَ.
وقد ظنَّ أن لن يرجعَ إلى الله، ولن يبعثَه بعدَ الموت.
بلى : سيرجع إلى الله ويحاسَب.
بلى إن الله سيعيدُه بعد موته ويحاسِبُه على عمله، وهو لا تخفى عليه خافية.
الشفق : الحمرة التي تشاهَد في الأفق الغربي بعد الغروب، ويستمر إلى قبيل العشاء، والشفقُ : الشفقة.
بعد هذه الجولة العميقة الأثر بمشاهدِها، لتأكيد أن الإنسانَ راجع إلى ربه يوم القيامة، حيث يحاسَب حساباً يَسيرا أو عسيرا حسب أعماله، يُقسِم الله تعالى بآياتٍ له في الكائنات أنّ بعثَ الناس يوم القيامة كائن لا محالة.
﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق..... ﴾
تتكرر هذه العبارة في القرآنِ، وهو أسلوبٌ يأتي عندما يكون الشيءُ الذي أقسَمَ الله عليه جليلَ القدر، فيقول سبحانه : لا أُقسِم بهذه الأشياءِ على إثباتِ ما أريد لأن أمره ظاهر، وإثباته أعظمُ وأجلُّ من أن يقسَم عليه. وأول هذه الأمور الشفَق..
وسَقَ الليل الأشياء : جلّلها وجمعها، وسقت النخلة : حملت.
ثم يأتي :
فباللّيلِ وما وسَق، أي ما جمعه من الكائنات التي تسكن فيه عن الحركة.
اتّسَق : اكتمل وتم نوره وصار بدرا.
والقمرِ عندما يتم نوره ويصير بدراً كاملا.. بحق هذه الأمور الثلاثة، والتي
لا يخفَى على الناس ما فيها من المنافع، وما فيها من الآيات الناطقة بحكمة واضعِ نظامها.
لتركبنّ طبقا عن طبق : لَتُلاَقُنَّ حالاً بعد حال، بعضها أشدّ من بعض وهي الحياة، والموت، والبعث، وأهوال القيامة.
﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ ﴾ وهنا جواب القسم : لتلاقُنَّ أيها الناس حالاً بعد حال، رخاءً بعد شدة، وسُقماً بعد صحة، وغنًى بعد فقر، منذ خَلْقِكم إلى طفولتكم، وشبابكم وشيخوختكم، ثم موتكم، ثم بعثكم يوم تُحشَرون إلى ربكم للحساب.
قراءات
قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، لتركبَن بفتح الباء والخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ الباقون، لتركبُنّ بضم الباء والخطاب للجميع.
ثم بعد أن ذكر الأدلة القاطعة على صحة البعث والحساب والجزاء أتى بأسلوب فيه استفهام يقصد به التوبيخ.
﴿ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ؟ ﴾، ما لهؤلاء الجاحدين لا يؤمنون بالله، ولا يصدّقون بالبعث بعد وضوح الدلائل وقيام البراهين على وقوعه !
﴿ وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ ﴾.. خضوعاً لربّ هذا الكون البديع !
وهنا موضع سجدة. لقد منعهم العنادُ والاستكبار من الإيمان، فهم يفعلون ذلك تعالياً عن الحق، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته.
بما يوعون : بما يُضمِرون في نفوسهم من الإعراض والجحود والحسد والبغي. والله أعلمُ بما يكنّون في نفوسهم، ويُضمرون في جوانحِهم من شر وإصرارٍ على الشرك.
ثم يتجه الخطاب إلى الرسول الكريم فيقول تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أيْ أخبِرْهم يا محمد، عمّا ينتظرهم من عذاب. والتعبير بقوله :﴿ فَبَشِّرْهُمْ ﴾ فيه تهكّم لاذع حيث استعمل البشارةَ مكان الإنذار.
غير ممنون : غير مقطوع.
ثم يختم السورة الكريمة بما أعد للمؤمنين من أجرٍ دائم غير منقطع، فقال :﴿ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ بل هو دائم غير مقطوع عنهم في دار البقاء، ولَنِعم دار المتقين.
Icon