تفسير سورة هود

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة هود من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هنا وبالله التوفيق، وأما قوله ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ أي هي محكمة في لفظها، مفصلة في معناها فالقرآن كامل صورة ومعنى، هذا معنى ما روى عن مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير، وقوله :﴿ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ أي من عند الله الحكيم في أقواله وأحكامه، الخبير بعواقب الأمور ﴿ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله ﴾ أي أنزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له، وقوله :﴿ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ﴾ أي إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه، وبشير الثواب إن أطعتموه؛ كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ صعد الصفا، فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب، فاجتمعوا، فقال :« يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تصبّحكم ألستم مصدقيّ؟ » فقالوا : ما جربنا عليك كذباً، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد «، وقوله :﴿ وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ ﴾ أي وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عزّ وجلّ فيما تستقبلونه، وأن تستمروا على ذلك :﴿ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً ﴾ أي في الدنيا، ﴿ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ أي في الدار الآخرة، قاله قتادة، كقوله :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، وقد جاء في » الصحيح « أن رسول الله صلى الله ﷺ قال لسعد :» وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك «، عن ابن مسعود في قوله :﴿ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾، قال : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا، بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات، ثم يقول : هلك من غلب آحاده على أعشاره وقوله :﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾، هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى، وكذَّب رسله فإن العذاب يناله يوم القيامة لا محالة ﴿ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ ﴾ أي معادكم يوم القيامة، ﴿ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي وهو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه وانتقامه من أعدائه، وإعادة الخلائق يوم القيامة، وهذا مقام ترهيب كما أن الأول مقام ترغيب.
قال ابن عباس : كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم، فأنزل الله هذه الآية، وفي لفظ آخر له : أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا، فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم، قال البخاري :﴿ يَسْتَغْشُونَ ﴾ يغطون رؤوسهم، وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الآية : يعني به الشك في الله وعمل السيئات، أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئاً أو عملوه، فيظنون أنهم يستخفون من الله بذلك، فأخبرهم الله تعالى أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل ﴿ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ﴾ من القول، ﴿ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ أي يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر، وما أحسن ما قال ( زهير بن أبي سلمى ) في معلقته المشهورة :
فلا تكتمن الله ما في قلوبكم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
وقال عبد الله بن شداد : كان أحدهم إذا مر برسول الله ﷺ ثنى عنه صدره وغطى رأسه فأنزل الله ذلك، وعود الضمير إلى الله أولى، لقوله :﴿ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾.
أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض، صغيرها وكبيرها وأنه يعلم مستقرها، أي يعلم أين منتهى سيرها في الأرض وأين تأوي إليه من وكرها وهو مستودعها، عن ابن عباس :﴿ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ﴾ أي حيث تأوي ﴿ وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ حيث تموت، وعن مجاهد :﴿ مُسْتَقَرَّهَا ﴾ في الرحم ﴿ وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ في الصلب، فجميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله كقوله :﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ]، وقوله :﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ].
يخبر تعالى عن قدرته على كل شيء وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك، كما روى الإمام أحمد، « عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله ﷺ :» اقبلوا البشرى ما بني تميم «، قالوا : قد بشرتنا فأعطنا، قال :» اقبلوا البشرى يا أهل اليمن «، قالوا : قد قبلنا، فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال :» كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء «، قال : فأتاني آتٍ فقال : يا عمران انحلت ناقتك من عقالها، قال : فخرجت في إثرها، فلا أدري ما كان بعدي ».
وفي « صحيح مسلم » عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله ﷺ :« إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يلخق السماوات والأرض بخسمين ألف سنة، وكان عرشه على الماء »، قال مجاهد :﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء ﴾ قبل أن يخلق شيئاً، وقال قتادة :﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء ﴾ ينبئكم كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض، وقال ابن عباس : إنما سمي العرش عرشاً لارتفاعه، وعن سعيد بن جبير، سئل ابن عباس عن قول الله :﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء ﴾ على أي شيء كان الماء؟ قال : على متن الريح.
وقوله تعالى :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ أي خلق السماوات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ولم يخلق ذلك عبثاً، كقوله :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ﴾ [ ص : ٢٧ ]، وقال تعالى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى الله الملك الحق ﴾ [ المؤمنون : ١١٥-١١٦ ]، وقوله :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ ﴾ أي ليختبركم ﴿ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ ولم يقل أكثر عملاً، بل ﴿ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ ولم يقل أكثر عملاً، بل ﴿ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾، ولا يكون العمل حسناً حتى يكون خالصاً لله عزّ وجلّ، على شريعة رسول الله ﷺ، فمتى فقد العمل واحداً من هذين الشرطين حبط وبطل، وقوله :﴿ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت ﴾ الآية، يقول تعالى ولئن أخبرت يا محمد هؤلاء المشركين أن الله سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم مع أنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض، وهم مع هذا ينكرون البعث والمعاد يوم القيامة، الذي هو بالنسبة إلى القدرة أهون من البداءة، كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ]، وقولهم :﴿ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي يقولون كفراً وعناداً ما نصدقك على وقوع البعث، وما يذكر ذلك إلا من سحرته فهو يتبعك على ما تقول، وقوله :﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ﴾ الآية، يقول تعالى : ولئن أخرنا عنهم العذاب والمؤاخذة إلى أجل معدود وأمد محصور، وأوعدناهم إلى مدة مضروبة ليقولن تكذيباً واستعجالاً ﴿ مَا يَحْبِسُهُ ﴾ أي يؤخر هذا العذاب عنا، فإن سجاياهم قد ألفت التكذيب والشك، فلم يبق لهم محيص عنه ولا محيد؛ والأمة تستعمل القرآن في معان متعددة، فيراد بها الأمد كقوله في هذه الآية :﴿ إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ﴾، وقوله في يوسف
1155
﴿ وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ [ يوسف : ٤٥ ]، وتستعمل في الإمام المتقدى به، كقوله :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [ النحل : ١٢٠ ]، وتستعمل في الملة والدين، كقول المشركين :﴿ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ ﴾ [ الزخرف : ٢٢ ]، وتستعمل في الجماعة كقوله :﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ ﴾ [ القصص : ٢٣ ]، وتستعمل في الفرقة والطائفة كقوله تعالى :﴿ وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ].
1156
يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة، إلا من رحم الله، أنه إذا أصابته شدة بعد نعمة حصل له يأس وقنوط بالنسبة إلى المستقبل، وكفر وجحود لماضي الحال، كأنه لم ير خيراً ولم يرج بعد ذلك فرجاً، وهكذا إن أصابته نعمة بعد نقمة ﴿ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني ﴾ أي يقول ما ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء، ﴿ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾ أي فرح بما في يده بطر فخور على غيره، قال الله تعالى :﴿ إِلاَّ الذين صَبَرُواْ ﴾ أي على الشدائد والمكاره، ﴿ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ أي في الرخاء والعافية، ﴿ أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ ﴾ أي بما يصيبهم من الضراء ﴿ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ بما أسلفوه في زمن الرخاء كما جاء في الحديث :« والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشوكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه »، وفي « الصحيحين » :« والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن ».
يقول تعالى مسلياً لرسول الله ﷺ عما كان يتعنت به المشركون فيما كانوا يقولونه عن الرسول كما أخبر تعالى عنهم في قوله :﴿ وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ﴾ [ الفرقان : ٨ ]، فأمر الله تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه وأرشده إلى أن لا يضيق بذلك منهم صدره، ولا يصدنه ذلك ولا يثنيه عن دعائهم إلى الله عزّ وجلّ آناء الليل وأطراف النهار، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٧ ] الآية، وقال : هاهنا :﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ ﴾ أي لقولهم ذلك، فإنما أنت نذير ولك أسوة بإخوانك من الرسل قبلك فإنهم كُذّبوا وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله عزّ وجلّ، ثم بين تعالى إعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله ولا بعشر سور مثله، ولا بسورة من مثله، لأن كلام العرب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات، وذاته لا يشبهها شيء، تعالى وتقدس وتنزه، ثم قال تعالى :﴿ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ﴾ أي فإن لم يأتوا بما دعوتموهم إليه، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك، وأن هذا الكلام منزل من عند الله متضمن علمه وأمره ونهيه ﴿ وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾.
قال ابن عباس : إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يظلمون نقيراً، يقول : من عمل صالحاً التماس الدنيا صوماً أو صلاة لا يعمله إلا التماس الدنيا، أوفّيه الذي التمس في الدنيا من المثابة وحبط عمله الذي كان يعمله وهو في الآخرة من الخاسرين، وقال أنس والحسن : نزلت في اليهود والنصارى، وقال مجاهد : نزلت في أهل الرياء، وقال قتادة : من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازي بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة، كما قال تعالى :﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ﴾ [ الإسراء : ١٨ ]، وقال تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ ﴾ [ الشورى : ٢٠ ]
يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى، التي فطر عليها عباده، كما قال تعالى :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا ﴾ [ الروم : ٣٠ ] الآية. وفي « الصحيحين » :« كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » الحديث، وفي « صحيح مسلم » :« يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً » فالمؤمن باق على هذه الفطرة، وقوله :﴿ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ﴾ أي جاءه شاهد من الله، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكملة المعظمة، المختتمة بشريعة محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولهذا قال ابن عباس ومجاهد :﴿ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ﴾ إنه جبريل عليه السلام، وعن علي والحسن وقتادة : هو محمد ﷺ، وكلاهما قريب في المعنى، لأن كلا من جبريل ومحمد صلوات الله عليهما بلغ رسالة الله تعالى، ولهذا قال تعالى :﴿ أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ﴾ وهو القرآن بلّغه جبريل إلى النبي ﷺ وبلّغه النبي إلى أمته، ثم قال تعالى :﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى ﴾ أي ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة ﴿ إِمَاماً وَرَحْمَةً ﴾ أي أنزله الله تعالى إلى تلك الأمة إماماً لهم، وقدوة يقتدون بها ورحمة من الله بهم، فمن آمن به حق الإيمان قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن، ولهذا قال تعالى :﴿ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ ثم قال تعالى متوعداً لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه، ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ ﴾ أي ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض، مشركهم وكافرهم وأهل الكتاب وغيرهم من سائر طوائف بني آدم ممن بلغه القرآن، كما قال تعالى :﴿ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ] ﴿ فالنار مَوْعِدُهُ ﴾ كما ورد في « الصحيح » « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا ؤمن بي إلا دخل النار »، وقال سعيد بن جبير : كنت لا أسمع بحديث عن النبي ﷺ على وجهه إلا وجدت تصديقه في القرآن، فبلغني أن النبي ﷺ قال :« لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار » فجعلت أقول : أين مصداقه في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الىية :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُه ﴾، قال : من الملل كلها، وقوله :﴿ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ ﴾ الآية، أي القرآن حق من الله لا مرية ولا شك فيه، كما قال تعالى :﴿ تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين ﴾ [ السجدة : ٢ ]، وقال تعالى :﴿ الم * ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ١-٢ ]، وقوله :﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، كقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ] وقوله :﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ].
يبيّن تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رؤوس الخلائق، كما ورد عن رسول الله ﷺ قال :« إن الله عزّ وجلّ يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول :﴿ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين ﴾ » الآية. وقوله :﴿ الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ أي يردون الناس عن اتباع الحق، وسلوك طريق الهدى والموصلة إلى الله عزّ وجلّ، ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ أي ويريدون أن يكون طريقهم ﴿ عِوَجاً ﴾ غير معتدلة، ﴿ وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ ﴾ أي جاحدون بها مكذبون بوقوعها، ﴿ أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي بل كانوا تحت قهره وغلبته، وفي قبضته وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم، ولكن ﴿ يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار ﴾ [ إبراهيم : ٤٢ ]، وفي « الصحيحين » :« إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، »، ولهذا قال تعالى :﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب ﴾، الآية أي يضاعف عليهم العذاب وذلك أن الله تعالى جعل لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم، بل كانوا صماً عن سماع الحق، عمياً عن ابتاعه، كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار ﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير ﴾ [ الملك : ١٠ ].
وقوله تعالى :﴿ أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا نار حامية، فهم معذبون فيها لا يفتر عنهم من عذابها، كما قال تعالى :﴿ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ]، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ ﴾ أي ذهب عنهم، ﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ من دون الله من الأنداد والأصنام فلم تجد عنهم شيئاً بل ضرتهم كل الضرر، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٦ ]، وقال تعالى :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٢ ] وقال الخليل لقومه :﴿ ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على خسرهم ودمارهم، ولهذا قال :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون ﴾، يخبر تعالى عن مآلهم بأنهم خسر الناس في الآخرة، لأنهم اعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن الحور العين بطعام من غسلين، وعن القصور العالية بالهاوية، فلا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون.
لما ذكر تعالى حال الأشقياء، ثنَّى بذكر السعداء، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبهذا ورثوا الجنات، المشتملة، على الغرف العاليات، والقطوف الدانيات، والحسان الخيرات، والفواكه المتنوعات، والنظر إلى خالق الأرض والسماوات، وهم في ذلك خالدون ولا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون، ولا يبصقون، ولا يتمخطون، إن هو إلا رشح مسك يعرقون؛ ثم ضرب تعالى مثل الكافرين والمؤمنين فقال :﴿ مَثَلُ الفريقين ﴾ أي الذين وصفهم أولاً بالشقاء، والمؤمنين بالسعادة، فأولئك كالأعمى والأصم، وهؤلاء كالبصير والسميع، فالكافر أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه، أصم عن سماع الحجج فلا يسمع ما ينتفع به، ﴿ وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٢٣ ]، وأما المؤمن ففطن ذكي، بصير الحق يميز بينه وبين الباطل، فيتبع الخير ويترك الشر، سميع للحجة فلا يروج عليه باطل، فهل يستوي هذا وهذا؟ ﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ أفلا يعتبرون فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء كما قال تعالى :﴿ لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون ﴾ [ الحشر : ٢٠ ]، كقوله :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير * وَلاَ الظلمات وَلاَ النور * وَلاَ الظل وَلاَ الحرور * وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور ﴾ [ فاطر : ١٩-٢٢ ].
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال لقومه :﴿ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله، ولهذا قال :﴿ أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله ﴾، وقوله :﴿ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عذبكم الله عذاباً أليماً، ﴿ فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ ﴾، والملأ هم ( السادة والكبراء ) من الكافرين منهم ﴿ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا ﴾، أي لست بملك ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا؟ ثم ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا، ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن فكر ولا نظر، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك، ولهذا قالوا :﴿ وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي ﴾ أي في أول بادئ ﴿ وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾، يقولون : ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلق ولا خُلُق لما دخلتم في دينكم هذا، ﴿ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ أي فيما تدعونه لكم من البر والصلاح والعبادة والسعادة. هذا اعتراض الكافرين على نوح عليه السلام وأتباعه، وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، سواء اتبعه الأشراف أو الأراذل، بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء. والغالب على الأشراف والكبراء مخالفة الحق، كما قال تعالى :﴿ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ]، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان : أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال : بل ضعفاؤهم، فقال هرقل : هم أتباع الرسل، وقولهم : بادي الرأي ليس بمذمة ولا عيب، لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما جاءوا بأمر جلي واضح، وفي الحديث :« ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير ( أبي بكر )، فإنه لم يتلعثم » أي ما تردّد ولا تروّى، لأنه رأى أمراً عظيماً واضحاً فبادر إليه وسارع، وقوله :﴿ وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾، هم لا يرون ذلك لأنهم عمي عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون، بل هم في ريبهم يترددون، وفي الآخرة هم الأخسرون.
يقول تعالى مخبراً عما رد به نوح على قومه في ذلك :﴿ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي ﴾ أي على يقين وأمر جلي وبنوة صادقة وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم، ﴿ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ﴾ أي خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها ولا عرفتم قدرهابل بادرتم إلى تكذيبها وردها ﴿ أَنُلْزِمُكُمُوهَا ﴾ أي نغضبكم بقبولها وأنتم لها كارهون.
يقول لقومه : ولا أسألكم على نصحي ﴿ مَالاً ﴾ أجرة آخذها منكم، إنما أبتغي الأجر من الله عزّ وجلّ :﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا ﴾ طلبوا منه أن يطرد المؤمنين عنه احتشاماً أن يجلسوا معهم، كما سأل أمثالهم خاتم الرسل ﷺ أن يطرد عنهم جامعة من الضعفاء ويجلس معهم مجلساً خاصاً، فأنزل الله تعالى :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي ﴾ [ الأنعام : ٥٢ ].
يخبرهم أنه رسول من الله يدعو إلى عبادة الله وحده، ولا يسألهم عن ذلك أجراً، ثم هو يدعو الشريف والوضيع، فمن استجاب له فقد نجا، ويخبرهم أنه لا قدرة له على التصرف في خزائن الله، ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وليس هو بملك من الملائكة، بل هو مبشر مرسل مؤيد بالمعجزات، ولا أقول عن هؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم، إنهم ليس لهم عند الله ثواب على أعمالهم ﴿ الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ ﴾، فإن كانوا مؤمنين، فلهم جزاء الحسنى.
يقول تعالى مخبراً عن استعجال قوم نوح نقمة الله وعذابه - والبلاء موكلٌ بالمنطق - ﴿ قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾ أي حاججتنا فأكثرت من ذلك ونحن لا نتبعك، ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ أي من النقمة والعذاب ادع علينا بما شئت فليأتنا ما تدعو به، ﴿ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي إنما الذي يعاقبكم ويعجلها لكم الله الذي لا يعجزه شيء، ﴿ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾ أي أيُّ شيء يجدي عليكم إبلاغي لكم وإنذاري إياكم ونصحي ﴿ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾ أي إغواءكم ودماركم، ﴿ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي هو مالك أزمة الأمور، المتصرف الحاكم العادل الذي لا يجور، له الخلق وله الأمر وهو المبدئ المعيد.
هذا كلام معترض في وسط هذه القصة، مؤكد لها مقرر لها، يقول تعالى لمحمد ﷺ ﷺ أم يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون افترى هذا وافتعله من عنده، ﴿ قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ﴾ أي قائم ذلك عليّ ﴿ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ ﴾ أي ليس ذلك مفتعلاً ولا مفترى، لأني أعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه.
يخبر تعالى أنه أوحى إلى نوح، لما استعجل قومه نقمة الله بهم وعذابه لهم، فدعا عليهم نوح دعوته :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ]، ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر ﴾ [ القمر : ١٠ ] فعند ذلك أوحى الله إليه :﴿ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ﴾ فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم، ﴿ واصنع الفلك ﴾ يعني السفينة، ﴿ بِأَعْيُنِنَا ﴾ أي بمرأى منا، ﴿ وَوَحْيِنَا ﴾ أي تعليمنا لك ما تصنعه، ﴿ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ ﴾، قال قتادة : كان طولها ثلثمائة ذراع في عرض خمسين، وعن الحسن : طولها ستمائة ذراع وعرضها ثلثمائة، وقيل غير ذلك، قالوا : وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعاً، ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع، فالسفلى للدواب والوحوش، والوسطى للإنس، والعليا للطيور، وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.
وقوله تعالى :﴿ وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ ﴾ أي يهزأون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق، ﴿ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ﴾ الآية، وعيد شديد وتهديد أكيد، ﴿ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ﴾ أي يهينه في الدنيا، ﴿ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ أي دائم مستمر أبداً.
هذه موعدة من الله تعالى لنوح عليه السلام، إذا جاء أمر الله من المطر الهتَّان، الذي لا يقلع ولا يفتر، كما قال تعالى :﴿ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾، وأما قوله :﴿ وَفَارَ التنور ﴾، فعن ابن عباس : التنور وجه الأرض، أي صارت الأرض عيوناً تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماء، وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف، فحينئذٍ أمر الله نوحاً عليه السلام أن يحمل معه في السفينة ﴿ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين ﴾ من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح، وغيرها من النباتات اثنين ذكراً وأنثى، وقوله :﴿ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ﴾ أي واحمل فيها اهلك وهم أهل بيته وقرابته، ﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ﴾ منهم ممن لم يؤمن بالله، فكان منهم ابنه ( يام ) الذي انعزل وحده، وامرأة نوح وكانت كافرة بالله ورسوله، وقوله :﴿ وَمَنْ آمَنَ ﴾ أي من قومك، ﴿ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ أي نزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فعن ابن عباس : كانوا ثمانين نفساً منهم نساؤهم، وعن كعب الأحبار : كانوا اثنين وسبعين نفساً، وقيل : كانوا عشرة، والله أعلم.
يقول تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام للذين أمر بحملهم معه في السفينة أنه قال :﴿ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا ﴾ أي بسم الله يكون جريها على وجه الماء، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها. قال تعالى :﴿ فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين ﴾ [ المؤمنون : ٢٨ ]، ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور، عند الركوب على السفينة وعلى الدابة، كما روى الطبراني، عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال :« أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا : بسم الله الملك ﴿ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [ الأنعام : ٩١ ] - الآية - ﴿ بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ »، وقوله :﴿ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ مناسب عند ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين فذكر أنه غفور رحيم كقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ الأعراف : ١٦٧ ]، وقوله :﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال ﴾ أي السفينة سائرة بهم على وجه الماء، الذي قد طبق جميع الأرض، حتى طغت على رؤوس الجبال، وارتفع عليها بخمسة عشرة ذراعاً، وقيل : بثمانين ميلاً، وهذه السفينة جارية على وجه الماء بإذن الله وكنفه وعنايته، كما قال تعالى :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ [ الحاقة : ١١-١٢ ]، وقال تعالى :﴿ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ ﴾ [ القمر : ١٤ ]، وقوله :﴿ ونادى نُوحٌ ابنه ﴾ الآية، هذا هو الابن الرابع واسمه يام وكان كافراً، دعاه أبو أن يؤمن ويركب معهم، ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون، ﴿ قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء ﴾ اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رؤوس الجبال، وأنه لو تعلق في رأس بجل لنجّاه ذلك من الغرق، فقال لو أبوه نوح عليه السلام ﴿ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ ﴾ أي ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله، وقيل إنّ ﴿ عَاصِمَ ﴾ بمعنى ( معصوم ) كما يقال : طاعم وكاس، بمعنى مطعوم ومكسو ﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين ﴾.
يخبر تعالى أنه لما أغرق أهل الأرض لكهم إلا أصحاب السفينة، أمر الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقعل عن المطر ﴿ وَغِيضَ المآء ﴾، أي شرع في النقص، ﴿ وَقُضِيَ الأمر ﴾ أي فرغ من أهل الأرض قاطبة ممن كفر بالله لم يبق منهم ديار، ﴿ واستوت ﴾ السفينة بمن فيها ﴿ عَلَى الجودي ﴾ قال مجاهد : وهو جبل بالجزيرة أرست عليه سفينة نوح عليه السلام، وقال قتادة : استوت عليه شهراً حتى نزلوا منها وأبقى الله السفينة على الجودي عبرة وآية، حتى رآها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت وصارت رماداً، وقال الضحاك : الجودي جبل بالموصل، وقال بعضهم : هو الطور، وقال كعب الأحبار : إن السفينة طافت ما بين المشرق والمغرب قبل أن تستقر على الجودي، وقال قتادة وغيره : ركبوا في عاشر شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوماً، واستقرت بهم على الجودي شهراً، وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم، وقد ورد نحو هذا في حديث مرفوع رواه ابن جرير، وأنهم صاموا يومهم ذلك، والله أعلم، وقوله :﴿ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين ﴾ أي هلاكاً وخساراً لهم وبعداً من رحمة الله، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم فلم يبق لهم بقية، وقد روى ابن جرير عن عائشة زوج النبي ﷺ، أن النبي ﷺ قال :« لو رحم الله من قوم نوح أحداً لرحم أم الصبي ».
هذا سؤال استعلام من نوح عليه السلام عن حال ولده الذي غرق :﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي ﴾ أي وقد وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الذي لا يخلف، فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين، ﴿ قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ أي الذين وعدت إنجاءهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، ولهذا قال :﴿ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ ﴾ [ هود : ٤٠ ] فكان هذا الولد ممن سبق عله القول بالغرق، لكفره ومخالفته أباه نبي الله نوحاً عليه السلام، قال ابن عباس : هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية، وقال عكرمة : إنه عمل عملاً غير صالح، ويروى أن رسول الله ﷺ قرأ بذلك.
قال محمد بن إسحاق : لما أراد الله أن يكف الطوفان أرسل ريحاً على وجه الأرض فسكن الماء، وانسدت ينابيع الأرض وأبواب السماء، يقول الله تعالى :﴿ وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ ﴾ [ هود : ٤٤ ] الآية، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر، وكان استواء الفلك على الجودي فيما يزعم أهل التوراة في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، وفي أول يوم من الشهر العاشر رأى رؤوس الجبال، وظهر البر، وكشف نوح عطاء الفلك ﴿ قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ﴾ الآية.
يقول تعالى لنبيّه ﷺ هذه القصة وأشباهها ﴿ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب ﴾ يعني من أخبار الغيوب السالفة نوحيها إليك على وجهها كأنك شاهدها ﴿ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ ﴾ أي نعلمك بها وحياً منا إليك، ﴿ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هاذ ﴾ أي لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها حتى يقول من يكذبك إنك تلعمتها منه، بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح، كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك، فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك وأذاهم لك فإنا سننصرك ونحوطك بعنايتنا، ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، كما فعلنا بالمرسلين حين نصرناهم على أعدائهم ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ ﴾ [ غافر : ٥١ ] الآية، ﴿ فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ ﴾.
يقول تعالى :﴿ وَ ﴾ لقد أرسلنا ﴿ إلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ﴾ آمراً لهم بعبادة الله وحده لا شريك له ناهياص لهم عن الأوثان التي افتروها واختلقوا لها أسماء الآلهة، وأخبرهم أنه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ من الله إنما يبغي ثوابه من الله الذي فطره، ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة، ثم أمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة وبالتوبة عما يستقبلون، ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه وسهل عليه أمره وحفظ شأنه، ولهذا قال :﴿ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً ﴾، وفي الحديث :« من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب ».
يخبر تعالى أنهم قالوا لنبيهم :﴿ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ﴾ أي بحجة وبرهان على ما تدعيه، ﴿ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ﴾ أي بمجرد قولك اتركوهم نتركهم ﴿ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ بمصدقين، ﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء ﴾ يقولون ما نظن إلا أن بعض الآلهة أصابك بجنون وخبل في عقلك، بسبب نهيك عن عبادتها وعيبك لها، ﴿ قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ ﴾، يقول : إني بريء من جميع الأنداد والأصنام، ﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ﴾ أي أنتم وآلهتكم إن كانت حقاً ﴿ ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾ أي طرفة عين. وقوله :﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ ﴾ أي تحت قهره وسلطانه، وهو الحاكم العادل الذي لا يجوز في حكمه، فإنه على صراط مستقيم، وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة، ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام، التي لا تنفع ولا تضر، بل هي جماد لا تسمع ولا تبصر، ولا توالي ولا تعادي، وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده، الذي ما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه، فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
يقول لهم هود : فإن تولوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم وحده لا شريك له، فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي إياكم رسالة الله التي بعثني بها، ﴿ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ يعبدونه وحده لا يشركون به ولا يبال بكم فإنكم لا تضرونه بكفركم بل يعود وبال ذلك عليكم، ﴿ إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ أي شاهد وحافظ لأقوال عباده وأفعالهم، ﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا ﴾ وهو الريح العقيم أهلكهم الله عن آخرهم ونجى هوداً وأتباعه من عذاب غليظ برحمته تعالى ولطفه ﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾، كفروا بها وعصوا رسل الله وذلك أن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء، فنزّل كفرهم منزلة من كفر بجميع الرسل ﴿ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ تركوا اتباع رسولهم الرشيد، واتبعوا أمر كل جبار عنيد، فلهذا اتبعوا في هذه الدنيا لعنة كلما ذكروا، وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ﴿ ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ ﴾ الآية، قال السُّدي : ما بعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على لسانه.
يقول تعالى :﴿ وَ ﴾ لقد أرسلنا ﴿ إلى ثَمُودَ ﴾ وهم الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة وكانوا بعد عاد فبعث الله منهم ﴿ أَخَاهُمْ صَالِحاً ﴾ فأمرهم بعبادة الله وحده، ولهذا قال :﴿ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض ﴾ أي ابتدأ خلقكم منها خلق أباكم آدمن ﴿ واستعمركم فِيهَا ﴾ أي جعلكم عماراً تعمرونها وتستغلونها، ﴿ فاستغفروه ﴾ لسالف ذنوبكم ﴿ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ ﴾ فيما تستقبلونه، ﴿ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ ﴾ [ البقرة : ١٨٦ ] الآية.
يذكر تعالى ما كان من الكلام بين صالح عليه السلام وبين قومه وما كان عليه قومه من الجهل والعناد من قولهم :﴿ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا ﴾ أي كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت :﴿ أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾، وما كان عليه أسلافنا، ﴿ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ أي شك كثير، ﴿ قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي ﴾ فيما أرسلني به إليكم على يقين وبرهان، ﴿ وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ ﴾، وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده، فلو تركته لما نفعتموني ولما زدتموني ﴿ غَيْرَ تَخْسِير ﴾ أي خسارة.
تقدم الكلام على هذه القصة مستوفى في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته ها هنا وبالله التوفيق.
يقول تعالى :﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ ﴾ وهم الملائكة إبراهيم بالبشرى، قيل تبشره بإسحاق، وقيل بهلاك قوم لوط، ويشهد للأول قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع وَجَآءَتْهُ البشرى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ﴾ [ هود : ٧٤ ]، ﴿ قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ ﴾ أي عليكم، قال : علماء البيان : هذا أحسن مما حيوه به لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام ﴿ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ أي ذهب سريعاً، فأتاهم بالضيافة وهو عجل فتى البقر، ﴿ حَنِيذٍ ﴾ مشوي على الرضف وهي الحجارة المحماة، هذا معنى ما روي عن ابن عباس وقتادة وغير واحد، كما قال الآية الأخرى :﴿ فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢٦-٢٧ ] وقد تضمنت هذه الآية آداب الضيافة من وجوه كثيرة، وقوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ﴾ ينكرهم، ﴿ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا يشتهونه ولا يأكلونه، فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاء به فارغين عنه بالكلية، فعند ذلك نكرهم ﴿ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ قال السدي : لما بعث الله الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صورة رجال شبان حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه، فلما رآهم أجلَّهم ﴿ فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٢٦ ] فذبحه ثم شواه في الرضف وأتاهم به فقعد معهم، وقامت سارة تخدمهم، فذلك حين يقول :﴿ وامرأته قَآئِمَةٌ ﴾ وهو جالس، فلما قربه إليهم ﴿ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢٧ ] ؟ قالوا : يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن، قال : فإن لهذا ثمناً، قالوا : وما ثمنه؟ قال : تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال : حق لهذا أن يتخذه ره خليلاً ﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ﴾، يقول فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم وأوجس منهم خيفة، وقالت سارة : عجباً لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم وهم لا يأكلون طعامنا؟! ﴿ قَالُواْ لاَ تَخَفْ ﴾ أي قالوا : لا تخف منا إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم، فضحكت سارة استبشاراً بهلاكهم لكثرة فسادهم، وغلظ كفرهم وعنادهم، قال ابن عباس :﴿ فَضَحِكَتْ ﴾ أي حاضت، وقول وهب بن منبه : إنما ضحكت لما بشرت بإسحاق، فمخالف لهذا السياق، فإن البشارة صريحة مرتبة على ضحكها ﴿ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ أي بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل، فإن يعقوب ولد إسحاق، ومن هنا استدل من استدل بهذه الآية على أن الذبيح إنما هو ( إسماعيل ) وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق لأنه وقعت البشارة به، وأنه سيولد له يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق لاخلف فيه، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه، فتعين أن يكون هو إسماعيل، وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه ولله الحمد، ﴿ قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً ﴾ الآية حكى قولها في هذه الآية كما حكى فعلها في الآية الأخرى فإنها ﴿ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ ﴾، وفي الذاريات
1182
﴿ فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾ [ الآية : ٢٩ ]، كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب، ﴿ قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ أي قالت الملائكة لها : لا تعجبي من أمر الله فإنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، فلا تعجبي من هذا وإن كنت عجوزاً عقيماً وبعلك شيخاً كبيراً فإن الله على ما يشاء قدير، ﴿ رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ﴾ أي هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله، محمود ممجد في صفاته وذاته.
1183
يخبر تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه لما ذهب عنه الرو، وهو ما أوجس من الملائكة خيفة حين لم يأكلوا وبشروه بعد ذلك بالولد وأخبروه بهلاك قوم لوط، أخذ يقول : أتهلكون قرية فيها ثلثمائة مؤمن؟ قالوأ : لا، قال : فتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا : لا، حتى بلغ خمسة، قالوا : لا، قال : أرأيتكم أن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا، فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك :﴿ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته ﴾ [ العنكبوت : ٣٢ ] الآية، فسكت عنهم واطمأن نفسه، وقوله :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ﴾ مدحٌ لإبراهيم بهذه الصفات الجميلة، وقد تقدم تفسيرها. وقوله تعالى :﴿ ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ ﴾ الآية، أنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
يخبر تعالى عن قدوم الملائكة بعدما أعلموا إبراهيم بهلاكهم وفارقوه، فانطلقوا من عنده فأتوا لوطاً عليه السلام، وهم في أجمل صورة تكون على هيئة شبان حسان الوجوه، ابتلاءً من الله - وله الحكمة والحجة البالغة - فساءه شأنهم وضاقت نفسه بسببهم، وخشي أن يضيفهم أحد من قومه فينالهم بسوء، ﴿ وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴾، قال ابن عباس : شديد بلاؤه، وذلك أنه علم أنه سيدافع عنهم ويشق عليه ذلك. وذكر قتادة أنهم أتوه وهو في أرض له فتضيفوه فاستحيا منهم، فانطلق أمامهم وقال لهم في أثناء الطريق كالمعرض لهم بأن ينصرفوا عنه : ما أعلم على وجه الأ ﴿ ض أهل بلد أخبث من هؤلاء، ثم مشى قليلاً، ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات، قال قتادة وقد كانوا امروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك، قال السدي : خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فبلغوا نهر سدوم نصف النهار، ولقوا بنت لوط تستقي، فقالوا : يا جارية هل من منزل؟ فقالت : مكانكم حتى آتيكم وفَرِقت عليهم من قومها فأتت أباها فقالت : يا أبتاه أدرك فتياناً على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم أحسن منهم لا يأخذهم قومك وكان قومه نهوه أن يضف رجلاً، فقالوا : خل عنا فلنضيف الرجال، فجاء بهم فلم يعلم بهم أحد إلا أهل بيته، فخرجت امرأته فأخبرت قومها فجاءوا يهرعون إليه، وقوله :{ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ﴾ أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، وقوله :﴿ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات ﴾ أي لم يزل هذا من سجيتهم حتى أخذوا وهم على ذلك الحال، وقوله :﴿ قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾ يرشدهم إلى نسائهم، فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة، كما قال في الآية الأخرى، ﴿ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ [ الشعراء : ١٦٦ ]، ﴿ قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [ الحجر : ٧١ ]، وقال في هذه الآية الكريمة :﴿ هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾ قال مجاهد : لم يكن بناته ولكن كن من أمته وكل نبي أبو أمته، وكذا روي عن قتادة وغير واحد. وقوله :﴿ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ﴾ أي اقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم، ﴿ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾ أي فيه خير، يقبل ما أمره به ويترك ما أنهاه عنه، ﴿ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ ﴾ أي إنك لتعلم أن نساءنا لا أرب لنا فيهن ولا نشتهيهن، ﴿ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ﴾ أي ليس لنا غرض إلا في الذكور وأنت تعلم ذلك، فأي حاجة في تكرار القول علينا في ذلك؟ قال السدي :﴿ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ﴾ إنما نريد الرجال.
يقول تعالى مخبراً عن نبيّه لوط عليه السلام إن لوطاً توعدهم بقوله :﴿ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ﴾ الآية، أي لكنت بكم وفعلت بكم الأفاعيل بنفسي وعشيرتي، ولهذا ورد في الحديث :« رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني الله عزّ وجلّ - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه »، فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رسل الله إليه، وأنهم لا وصول لهم إليه، ﴿ قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ ﴾ وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل وأن يتبع أدبارهم، أي يكون ساقة لأهله، ﴿ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ ﴾ أي إذا سمعت ما نزل بهم ولا تهولنكم تلك الأصوات المزعجة، وقوله :﴿ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك ﴾ ذكروا أنها خرجت معهم وأنها لما سمعت الوجبة التفتت وقالت : واقوماه، فجاءها حجر من السماء فقتلها، ثم قربوا له هلاك قومه تبشيراً له لأنه قال لهم : أهلكوهم الساعة، فقالوا :﴿ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ ﴾ ؟ هذا وقوم لوط وقوف على الباب وعكوف، قد جاءوا يهرعون إليه من كل جانب، ولوط واقف على الباب يدافعهم ويردعهم وينهاهم عما هم فيه، وهم لا يقبلون منه، بل يتوعدونه ويتهددونه، فعند ذلك خرج عليهم جبريل عليه السلام، فضرب وجوههم بجناحه فطمس أعينهم، فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق؛ كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ [ القمر : ٣٧ ] الآية.
يقول تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا ﴾ وكان ذلك عند طلوع الشمس ﴿ جَعَلْنَا عَالِيَهَا ﴾ وهي سدوم ﴿ سَافِلَهَا ﴾، كقوله :﴿ فَغَشَّاهَا مَا غشى ﴾ [ النجم : ٥٤ ]، ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ أي حجارة من طين، قاله ابن عباس وغيره. وقد قاله في الآية الأخرى :﴿ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٣٣ ] أي مستحجرة قوية شديدة، وقال بعضهم : مشوية، وقال البخاري :﴿ سِجِّيلٍ ﴾ : الشديد الكبير، سجيل وسجين اللام والنون أختان، وقوله :﴿ مَّنْضُودٍ ﴾ قال بعضهم : منضودة في السماء أي معدة لذلك. وقال آخرون :﴿ مَّنْضُودٍ ﴾ أي يتبع بعضهم بعضاً في نزولها عليهم، وقوله :﴿ مُّسَوَّمَةً ﴾ أي معلمة كل حجر مكتوب عليه اسم الذي ينزل عليه، فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدث، إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس فدمره، فتتبعهم الحجارة من سائر البلاد حتى أهلكتهم عن آخرهم، فلم يبق منهم أحد، وقال مجاهد : أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم كفأها؛ وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن؛ ولما قلبها كان أول ما سقط منها شرفاتها. وقال قتادة وغيره. بلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشر جناحه فانتسف بها أرضهم بما فيها من قصورها ودوابها وحجارتها وشجرها وجيمع ما فيها، فضمها، في جناحه فحواها وطواها في جوف جناحه، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب، وكانوا أربعة آلاف ألف، ثم قلبها، فأرسلها إلى الأرض منكوسة، ودمدم بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها حجارة من سجيل، قال تعالى :﴿ جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات. وقال السدي : لما أصبح قوم لوط نزيل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ بها السماء، حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم وأصوات ديوكهم ثم قلبها فقتلهم فذلك قوله :﴿ والمؤتفكة أهوى ﴾ [ النجم : ٥٣ ]، ومن لم يمت حتى سقط للأرض أمر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذاً في الأرض يتبعهم في القرى، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله؛ فذلك قوله عزّ وجلّ :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ [ الأعراف : ٨٤ ] أي في القرى حجارة من سجيل، وقوله :﴿ وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ ﴾ أي وما هذه النقمة ممن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه.
يقول تعالى : ولقد أرسلنا إلى مدين وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحجاز والشام قريباً من معان، بلاداً تعرف بهم يقال لها ( مدين )، فأرسل الله إليهم شعيباً وكان من أشرفهم نسباً، ولهذا قال :﴿ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ﴾ يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له وينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان، ﴿ إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ﴾ أي في معيشتكم ورزقكم، وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله، ﴿ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ﴾ أي في الدار الآخرة.
نهاهم أولاً عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا الناس، ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن، ونهاهم عن العثو في الأرض بالفساد وقد كانوا يقطعون الطريق، وقوله :﴿ بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾، قال ابن عباس : رزق الله خير لكم، وقال الحسن : رزق الله خير لكم من بخسكم الناس، وقال الربيع : وصية الله خير لكم، وقال مجاهد : طاعة الله، وقال قتادة : حظكم من الله خير لكم، وقال ابن جرير : أي ما يفضل لكم من الربج بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس، قلت ويشبه قوله قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث ﴾ [ المائدة : ١٠٠ ] الآية، وقوله :﴿ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ أي برقيب ولا حفيظ، أي افعلوا ذلك لله عزّ وجلّ، لا تفعلوا ليراكم الناس بل الله عزّ وجلّ.
يقولون له على سبيل التهكم - قبحهم الله - ﴿ أصلاوتك ﴾ أي قراءتك، ﴿ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ ﴾ أي الأوثان والأصنام، ﴿ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾ فنترك التطفيف عن قولك، وهي أموالنا نُفعل فيها ما نريد، قال الحسن في الآية : أي والله إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم، وقال الثوري في قوله :﴿ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾ ؟ يعنون الزكاة، ﴿ إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد ﴾ ؟! يقول ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء قبحهم الله ولعنهم وقد فعل.
يقول لهم أرأيتم يا قوم ﴿ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ﴾ أي على بصيرة فيما أدعو إليه، ﴿ وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ﴾ قيل : أراد النبوة، وقيل : أراد الرزق الحلال ويحتمل الأمرين، قال الثوري :﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ أي لا أهاكم عن الشيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم، وقال قتادة : لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه، ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت ﴾ أي فيما آمركم وأنهاكم إنما أريد إصلاحكم جهدي وطاقتي، ﴿ وَمَا توفيقي ﴾ في إصابة الحق فيما أريده ﴿ إِلاَّ بالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ في جميع أموري ﴿ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ أي أرجع، قاله مجاهد. روى الإمام أحمد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الانصاري قال : سمعت أبا حميد، أو أبا أسيد يقول عنه ﷺ أنه قال :« إذا سمعتم الحديث عني تعرفة قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه »، ومعناه والله أعلم : مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به، ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه ﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾، قال أبو سليمان الضبي : كانت تجيئنا كتب ( عمر بن عبد العزيز ) فيها الأمر والنهي، فيكتب في آخرها : وما كانت من ذلك إلا كما قال العبد الصالح ﴿ وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾.
يقول لهم :﴿ وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي ﴾ أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد، فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط من النقمة والعذاب، وقال قتادة :﴿ وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي ﴾ يقول : لا يحملنكم فراقي، وقال السدي : عداوتي، على أن تمادوا في الضلال والكفر فيصيبكم من العذاب ما أصابهم، ولما أحاط الناس بعثمان بن عفان أشرف عليهم من داره فقال :﴿ وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ﴾، يا قوم لا تقتلوني، إنكم إن قتلتموني كنتم هكذا، وشبك بين أصابعه، وقوله :﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ﴾ قيل : المراد في الزمان، قال قتادة : يعني إنما هلكوا بين أيديكم بالأمس، وقيل : في المكان، ويحتمل الأمران، ﴿ واستغفروا رَبَّكُمْ ﴾ من سالف الذنوب، ﴿ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ ﴾ فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة ﴿ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ﴾ لمن تاب.
يقولون :﴿ ياشعيب مَا نَفْقَهُ ﴾ ما نفهم ﴿ كَثِيراً ﴾ من قولك، ﴿ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ﴾، قال السدي : أنت واحد، وقال أبو روق : يعنون ذليلاً، لأن عشيرتك ليسوا على دينك، ﴿ وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ﴾ أي قومك ﴿ لَرَجَمْنَاكَ ﴾ قيل : بالحجارة، وقيل : لسببناك، ﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ أي ليس عندنا لك معزة، ﴿ قَالَ ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله ﴾، يقول : أتتركوني لأجل قومي، ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى أن تنالوا نبيّه بمساءة وقد اتخذتم جانب الله ﴿ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً ﴾ أي نبذتموه خلفكم لا تطيعونه وال تعظمونه، ﴿ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ أي هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم عليها.
لما يئس نبي الله شعيب من استجابتهم له قال : يا قوم ﴿ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ ﴾ أي طريقتكم، وهذا تهديد شديد ﴿ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ﴾ على طريقتي، ﴿ وارتقبوا ﴾، أي مني ومنكم، ﴿ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ﴾ أي انتظروا، ﴿ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ﴾، قال الله تعالى :﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾، وقوله :﴿ جَاثِمِينَ ﴾ أي هامدين لا حراك بهم وذكر هاهنا أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء ﴿ عَذَابُ يَوْمِ الظلة ﴾ [ الشعراء : ١٨٩ ]، وهم أمة واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها، وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه، وقوله :﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ ﴾ أي يعيشوا في دارهم قبل ذلك ﴿ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ وكانوا جيرانهم قريباً منهم في الدار وشبيهاً بهم في الكفر وكانوا عرباً مثلهم.
يقول تعالى مخبراً عن إرسال موسى بآياته ودلالاته الباهرة إلى فرعون ملك القبط وملئه ﴿ فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ﴾ أي منهجه ومسلكه وطريقته في الغي، ﴿ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ أي ليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال وكفر وعناد؛ وكما أنهم اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم، كذلك هو يقدمهم يوم القيامة إلى نار جهنم، ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود ﴾، وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفرين في العذاب يوم القيامة، كما قال تعالى؛ ﴿ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]، وقال تعالى :﴿ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب ﴾ [ الأحزاب : ٦٨ ] الآية، وقوله :﴿ وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة ﴾ الآية، أي أتبعناهم زيادة على عذاب النار لعنة في الدنيا، ﴿ وَيَوْمَ القيامة بِئْسَ الرفد المرفود ﴾. قال مجاهد : زيد لعنة يوم القيامة لعنتان، وقال ابن عباس : لعنة الدنيا والآخرة، وهو كقوله :﴿ وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين ﴾ [ القصص : ٤٢ ].
لما ذكر تعالى خبر الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم وكيف أهلك الكافرين ونجى المؤمنين، قال :﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى ﴾ أي أخبارهم، ﴿ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ ﴾ أي عامر، ﴿ وَحَصِيدٌ ﴾ أي هالك، ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ﴾ أي إذا أهلكناهم ﴿ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ ﴾ بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم، ﴿ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ﴾ أوثانهم التي يعبدونها ويدعونها ﴿ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ ﴾ ما نفعوهم ولا أنقذوهم بإهلاكهم، ﴿ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾. قال مجاهد وقتادة : أي غير تخسير، وذلك أن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتباعهم تلك الآلهة، فلهذا خسروا في الدنيا والآخرة.
يقول تعالى : وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بأشباههم، ﴿ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾. وفي « الصحيحين » عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته »، ثم قرأ ﷺ :﴿ وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ الآية.
يقول تعالى : إن في إهلاكنا الكافرين وإنجائنا المؤمنين ﴿ لآيَةً ﴾ أي عظة واعتباراً على صدق موعودنا في الآخرة، كما قال تعالى :﴿ فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين ﴾ [ إبراهيم : ١٣ ] الآية. وقوله :﴿ ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس ﴾ أي أولهم وآخرهم، كقوله :﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ]، ﴿ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾ أي عظيم تحضره الملائكة، ويجتمع فيه الرسل وتحشر الخلائق بأسرهم، من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب، ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، وقوله :﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ﴾ أي ما نؤخر إقامة القيامة إلا لأنه قد سبقت كلمة الله في وجود أناس معدودين من ذرية آدم، ضرب مدة معينة إذا انقطعت وتكامل وجود أولئك المقدر خروجهم قامت الساعة، ولهذا قال :﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ﴾ أي لمدة مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينتقص منها، ﴿ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ أي يوم يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إلا بإذن الله، كقوله :﴿ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٧ ]، وفي « الصحيحين » في حديث الشفاعة :« ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذٍ اللهم سلّمْ سلّمْ »، وقوله :﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ أي فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد، كما قال :﴿ فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير ﴾ [ الشورى : ٧ ]، ثم بيّن تعالى حال الأشقياء وحال السعداء فقال :
يقول تعالى :﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴾، قال ابن عباس : الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، أي تنفسهم زفير وأخذهم النفسق شهيق، لما هم فيه من العذاب، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض ﴾ قال ابن جرير : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت : هذا دائم، دوام السماوات والأرض، وكذلك يقولون : هو باق ما اختلف الليل والنهار، يعنون بذلك كله أبداً، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم، فقال :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض ﴾ قلت : ويحتمل أن المراد بما دامت السماوات والأرض الجنس، لأنه لا بد في عالم الآخرة من سماوات والأرض، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات ﴾ [ إبراهيم : ٤٨ ]، ولهذا قال الحسن البصري في قوله :﴿ مَا دَامَتِ السماوات والأرض ﴾ قال : يقول سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض، وعن ابن عباس قال : لكل جنة سماء وأرض، وقال ابن أسلم : ما دامت الأرض أرضاً والسماء سماء، وقوله :﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾، كقوله :﴿ النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ﴾ [ الأنعام : ١٢٨ ]، وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء على أقوال كثيرة نقل كثيراً منها ابن جرير رحمه الله، واختار أن الاستثناء عائد على ( العصاة ) من أهل التوحيد، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين، فتخرج من لم يعمل خيراً قط، وقال يوماً من الدهر ﴿ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ الصافات : ٣٥ ]، كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله ﷺ ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها، وهذا الذي عليه كثير العلماء قديماً وحديثاً، وقال السدي : هي منسوخة بقوله :﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾ [ النساء : ٧٥ ].
يقول تعالى :﴿ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ ﴾ وهم أتباع الرسل ﴿ فَفِي الجنة ﴾ أي فمأواهم الجنة، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي ماكثين فيها أبداً، ﴿ مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ ﴾ معنى الاستثناء هاهنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمراً واجباً بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى، فله المنة عليهم دائماً، وعقّب ذلك بقوله :﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع، لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة ثم انقطاع أو لبس أو شيء، بل حتم له بالدوام وعدم الانقطاع، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [ هود : ١٠٧ ]، كقوله :﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ]، وهنا طيَّب القلوب وثبَّت المقصود بقوله :﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾. وقد جاء في « الصحيحين » :« يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت »، وفي « الصحيح » أيضاً :« فيقال : يا أهل الجنة إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً ».
يقول تعالى :﴿ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء ﴾ المشركون إنه باطلوجهل وضلال، فإنهم إنما يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل، أي ليس لهم مستند فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات وسيجزيهم الله على ذلك أتم الجزاء، قال سفيان الثوري، عن ابن عباس :﴿ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ﴾، قال : ما وعدوا من خير أو شر، وقال ابن أسلم : لموفوهم من العذاب نصيبهم غير منقوص، ثم ذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب فاختلف الناس فيه فمن مؤمن به ومن كافر به، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك يا محمد أسوة، فلا يغيظنك تكذيبهم لك، وقوله تعالى :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾. قال ابن جرير : لولا ما تقدم من تأجيله العذاب إلى أجل معلوم لقضى الله نبيهم، ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه كما قال :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾، ثم أخبر تعالى أنه سيجمع الأولين والآخرين من الأمم ويجزيهم بأعمالهم فقال :﴿ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ أي عليم بأعمالهم جميعاً، جليلها وحقيرها وصغيرها وكبيرها، وقوله :﴿ وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ ﴾ [ هود : ١١٣ ] قال ابن عباس : هو الركون إلى الشرك، وقال أبو العالية : لا ترضوا بأعمالهم؛ وقال ابن جرير عن ابن عباس : ولا تميلوا إلى الذين ظلموا؛ وهذا القول حسن، أي لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم، ﴿ فَتَمَسَّكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾ [ هود : ١١٣ ] أي ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم، ولا ناصر يخلصكم من عذابه.
يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد، وينهى عن الطغيان، وهو البغي، فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك، وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ولا يخفى عليه شيء.
قال ابن عباس :﴿ وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار ﴾ قال : يعنى الصبح والمغرب، وقال الحسن : هي الصبح والعصر. وقال مجاهد : هي الصبح في أول النهار والظهر والعصر مرة أخرى، ﴿ وَزُلَفاً مِّنَ اليل ﴾ يعني صلاة العشاء. وقال مجاهد والضحاك : إنها صلاة المغرب والعشاء؛ وقد يحتمل أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان : صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها، وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة، ثم نسخ في حق الأمة، وثبت وجوبه عليه، ثم نسخ عنه أيضاً، والله أعلم.
وقوله :﴿ إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ﴾ يقول : إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال : كنت إذا سمعت من رسول الله ﷺ حديثاً نفعني الله بما شاء إن ينفعني منه، وإذا حدثني عنه أحد استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - أنه سمع رسول الله ﷺ يقول :« ما من مسلم يذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر له » وفي « الصحيحين » عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان : أنه توضأ لهم كوضوء رسول الله ﷺ ثم قال : هكذا رأيت رسول الله ﷺ يتوضأ وقال : من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيها نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه وفي « صحيح مسلم » عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال :« الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر » وقال البخاري، عن أبي مسعود، « أن رجلاً أصاب من امرأة قبله، فأتى النبي ﷺ فأخبره، فأنزل الله :﴿ وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ﴾، فقال الرجل : يا رسول الله ألي هذا؟ قال :» لجميع أمتي كلهم «.
وروى الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ :»
إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه «، قال : قلنا : وما بوائقه يا نبي الله؟ قال : غشه وظلمه، ولا يكسب عبد مالاً حراماً فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث »
1203
، وروى الإمام أبو جعفر بن جرير « عن أبي اليسر ( كعب بن عمرو الأنصاري ) قال : أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمراً، فقلت : إن في البيت مراً أجود من هذا، فدخلت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت عمر فسألته فقال : اتق الله واستر على نفسك، ولا تخبرنّ أحداً، فلم أصبر حتى أتيت النبي ﷺ فأخبرته فقال :» أخلفتَ رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟ « حتى ظننت أني من أهل النار، حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذٍ »، فأطرق رسول الله ﷺ ساعة، فنزل جبريل، فقال أبو اليسر : فجئت فقرأ عليَّ رسول الله ﷺ :﴿ وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ فقال إنسان : يا رسول الله أله خاصة أم للناس عامة؟ قال :« للناس عامة ». وعن أبي ذر، أن رسول الله ﷺ قال :« اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن » وفي رواية عنه قال، قلت : يا رسول الله أوصني، قال :« إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها »، قال : قلت : يا رسول الله أمن الحسنات ( لا إله إلا الله ) ؟ قال :« هي أفضل الحسنات » رواه أحمد.
1204
يقول تعالى : فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض، وقوله :﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيراً وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته، ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما قال تعالى :﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولئك هُمُ المفلحون ﴾ [ آل عمران : ١٠٤ ]، وفي الحديث :« إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب »، وقوله :﴿ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ ﴾ أي استمروا على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب، ﴿ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾، ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، ولم يأت قرية مصلحة نقمته وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين، كما قال تعالى :﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ ﴾ [ هود : ١٠١ ]، وقال :﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [ فصلت : ٤٦ ].
يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان وكفر، كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً ﴾ [ يونس : ٩٩ ]، وقوله :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ أي لا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم، قال عكرمة : مختلفين في الهدى، وقوله :﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ أي إلا المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين، أخبرتهم به رسل الله إليهم ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه ووازروه، ففاز بسعادة الدنيا والآخرة، لأنهم الفرقة الناجية، وقال عطاء :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ يعني اليهود والنصارى والمجوس ﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ يعني الحنيفية، وقال قتادة : أهل رحمة الله : أهل الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل الفرقة، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم، وقوله :﴿ ولذلك خَلَقَهُمْ ﴾، قال الحسن البصري : وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس : خلقهم فريقين كقوله :﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٥ ] وعن ابن عباس قال : للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب. ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ]، وقيل : بل المراد وللرحمة وللاختلاف خلقهم، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ قال : الناس مختلفون على أديان شتى ﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾، فمن رحم ربك غير مختلف، فقيل له لذلك خلقهم، قال : خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لعذابه، وقال ابن وهب : سألت مالكاً عن قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ ﴾ قال : فريق في الجنة وفريق من السعير، وقد اختار هذا القول ابن جرير، وقوله :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره لعلمه التام وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين ( الجن والإنس ) وله الحجة البالغة والحكمة التامة، وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة، قال : قال رسول الله ﷺ :« اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة : مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، فقال الله عزّ وجلّ للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار. أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما الجنة فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً يسكن فضل الجنة، وأما النار فلا تزال تقولك ﴿ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴾ [ ق : ٣٠ ] حتى يضع عليها رب العزة قدمه فتقول : قط قط وعزتك ».
يقول تعالى : وكل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين، كل هذا مما ﴿ نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ أي قلبك يا محمد ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسوة، وقوله :﴿ وَجَآءَكَ فِي هذه الحق ﴾ أي في هذه السورة، قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف، وعن الحسن وقتادة : في هذه الدنيا، والصحيح في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء، وكيف أنجاهم الله والمؤمنين بهم، وأهلك الكافرين، جاءك فيها قصص حق ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون، وذكرى يتذكر بها المؤمنون.
يقول تعالى آمراً رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد ﴿ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ ﴾ أي على طريقتكم ومنهجكم، ﴿ إِنَّا عَامِلُونَ ﴾ أي على طريقتنا ومنهجنا، ﴿ وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾ أي ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون ﴾ [ الأنعام : ١٣٥ ]، وقد أنجز الله لرسوله وعده ونصره وأيده، وجعل كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم.
يخبر تعالى أنه عالم غيب السماوات والأرض وأنه إليه المرجع والمآب، وسيؤتي كل عامل عمله يوم الحساب، فله الخلق والأمر، فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه، فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه، وقوله :﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ أي ليس يخفى عليه ما عليه مكذبوك يا محمد بل هو عليم بأحوالهم وأقوالهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين.
Icon