ﰡ
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما رواه الترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله - ﷺ -، حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤)﴾.
وأخرج ابن مردويه عن داود بن صالح أنه سأل سهل بن حنيفة الأنصاري عن قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾ أأنزلت في سبيل الله؛ قال: لا، ولكنَّها في صفوف الصلاة.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الر﴾ تقدم القول في بيان معاني هذه الحروف ومبانيها، فذكرنا أنها حروف تنبيه بمنزلة ألا ويا، وينطق بأسمائها ساكنة، فيقال: ﴿ألف لام را﴾، وقيل (٢): اسم للسورة، وعليه الجمهور؛ أي: هذه السورة مسماة بـ ﴿الر﴾، ﴿تِلْكَ﴾؛ أي: هذه السورة العظيمة الشأن ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾؛ أي: آيات من الكتاب المنزل عليك، الكامل الحقيق باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق، على ما يدل عليه اللام؛ أي: بعض من جميع المنزل عليك، أو من جميع المنزل إذ
(٢) روح البيان.
٢ - ﴿رُبَمَا﴾ رب ها هنا للتكثير، كما في "مغني اللبيب"؛ أي: كثيرًا، ﴿يَوَدُّ﴾ ويتمنى في الآخرة ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالقرآن وبكونه من عند الله تعالى ﴿لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾؛ أي: كونهم مسلمين في الدنيا، مستسلمين لأحكام الله تعالى وأوامره ونواهيه.
وإنما دخلت (١) رب هنا على المستقبل مع كونها لا تدخل إلا على الماضي؛ لأن المترقب في أخباره تعالى كالواقع المتحقق، فكأنه قيل: ربما ود الذين كفروا لو كانوا مسلمين؛ أي: منقادين لحكمه، مذعنين له من جملة أهله، وكانت هذه الودادة منهم عند موتهم أو يوم القيامة، والمراد: أنه لما انكشف لهم الأمر، واتضح بطلان ما كانوا عليه من الكفر، وأن الدين عند الله سبحانه هو الإِسلام، لا دين غيره.. حصلت منهم هذه الودادة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي لمجرد التحسر والتندم، ولوم النفس على ما فرطت في جنب الله تعالى. وقيل: كانت هذه الودادة منهم عند معاينة حالهم وحال المسلمين. وقيل: عند خروج عصاة الموحدين من النار. والظاهر: أن هذه الودادة كائنة منهم في كل وقت، مستمرة في كل لحظة بعد انكشاف الأمر لهم.
وبالجملة: فهذا إخبار (٢) من الله سبحانه عن الكفار بأنهم سيندمون في الآخرة على ما كانوا عليه من الكفر، ويتمنون أن لو كانوا في الدنيا مسلمين.
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا اجتمع
(٢) المراغي.
وقصارى ذلك (١): قد يتمنى الذين كفروا لو كانوا مسلمين، حينما يعاينون العذاب وقت الموت والملائكة باسطوا أيدهم، أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون، وفي الموقف حينما يرون هول العذاب، وقد انصرف المسلمون إلى الجنة، وسيقوا هم إلى النار، والمسلمون المذنبون عذبوا بذنوبهم ثم خرجوا منها، وبقي الكافرون في جهنم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي (٢): ﴿رُبَّما﴾ مشددة، وقرأ نافع وعاصم وعبد الوارث: ﴿رُبَما﴾ مخففة، وقرأ طلحة بن مصرف وزيد بن علي: ﴿رُبَتَما﴾ بزيادة تاء، قال الفراء: أسدٌ وتميمٌ يقولون: ﴿رُبَّمَا﴾ بالتشديد، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون: ﴿رُبَما﴾ بالتخفيف، وتيم الرباب يقولون: ﴿رَبَما﴾ بفتح الراء، وقيل إنما قرئت بالتخفيف لما فيها من التضعيف، والحروف المضاعفة قد تحذف نحو: (إن) و (لكن) فإنهم قد خففوها، قال الزجاج: يقولون: رُبَّ رجل جاءني، بالتشديد، ورُبَ رجل جاءني بالتخفيف، وإنما زيدت (ما) مع (ربَّ) ليليها الفعل، وقال الأخفش: أدخل (ما) مع (ربَّ) ليتكلم بالفعل بعدها، فرب (٣) للتكثر باعتبار مرات التمني، وللتقليل باعتبار أزمان الإفاقة، فأزمان إفاقتهم قليلة بالنسبة لأزمان الدهشة، وكونها للتقليل أبلغ في التهديد،
(٢) زاد المسير والبحر المحيط.
(٣) المراح.
فائدة: وقال عبد الله بن المبارك: ما خرج أحد من الدنيا من مؤمن وكافر إلا على ندامة وملامة لنفسه، فالكافر لما يرى من سوء ما يجازى به، والمؤمن لرؤية تقصيره في القيام بموجب الخدمة وترك الحرمة وشكر النعمة اهـ.
٣ - ﴿ذَرْهُمْ﴾؛ أي: دع الكفار يا محمد، واتركهم عن النهي عما هم عليه بالتذكرة والنصحية، لا سبيل إلى ارعوائهم عن ذلك، والآية منسوخة بآية القتال كما في "بحر العلوم". ﴿يَأْكُلُوا﴾ كالأنعام ﴿وَيَتَمَتَّعُوا﴾ بدنياهم وشهواتها؛ أي: إن تركتهم على حالهم، يأكلوا كما تأكل الأنعام، ويأخذوا حظوظهم من دنياهم. فتلك أخلاقهم، ولا خلاق لهم في الآخرة.
والمراد (١): دوامهم على ذلك لا إحداثه، فإنهم كانوا كذلك، وهما أمران بتقدير اللام، لدلالة ﴿ذَرْهُمْ﴾ عليه، أو جواب أمر على التجوز؛ لأن الأمر بالترك يتضمن الأمر بهما؛ أي: دعهم وبالغ في تخليتهم وشأنهم، بل مرهم بتعاطي ما يتعاطون. ﴿وَيُلْهِهِمُ﴾؛ أي: الكفار؛ أي: يشغلهم عن اتباعك أو عن الاستعداد للمعاد، ﴿الْأَمَلُ﴾؛ أي: التوقع لطول الأعمار، وبلوغ الأوطار، واستقامة الأحوال، وأن لا يلقوا في العاقبة والمال إلا خيرًا، وفي: ﴿يلههم﴾ ثلاث قراءات: كسر الهاء والميم، وضمهما، وكسر الهاء وضم الميم، وأما الهاء الأولى فمكسورة لا غير اهـ. شيخنا ذكره في "الجمل". وهذا (٢) تهديدٌ لهم؛ أي: دعهم عما أنت بصدده من الأمر والنهي لهم، فهم لا يرعوون أبدًا، ولا يخرجون من باطل، ولا يدخلون في حق، بل مرهم بما هم فيه من الاشتغال بالأكل، والتمتع بزهرة الدنيا، فإنهم كالأنعام التي لا تهتم إلا بذلك ولا تشتغل بغيره.
(٢) الشوكاني.
ثم علل الأمر بتركهم بقوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ سوء صنيعهم إذا هم عاينوا سوء جزائهم، ووخامة عاقبتهم، وفي هذا وعيد بعد تهديد، وإلزام لهم بالحجة، ومبالغة في الإنذار، وإيماء إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للآخرة والتأهب لها ليس من أخلاق المؤمنين.
والخلاصة (٢): اتركهم على ما هم عليه من الاشتغال بالأكل، ونحوه من متاع الدنيا، ومن إلهاء الأمل لهم عن اتباعك، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم، وسوء صنيعهم، وما زالوا في الآمال الفارغة والتمنيات الباطلة حتى أسفر الصبح لذي عينين، وانكشف الأمر، ورأوا العذاب يوم القيامة، فعند ذلك يذوقون وبال ما صنعوا، والأفعال الثلاثة مجزومة على أنها جواب الأمر كما مرَّ.
أخرج أحمد والطبراني والبيهقي: عن عمرو بن شعيب مرفوعًا قال: "صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ولهلك آخرها بالبخل والأمل"، وروي عن الحسن أنه قال: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل. وروي عن علي أنه قال: إنما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق.
قال بعضهم: الأمل (٣) إرادة الحياة للوقت للتراخي بالحكم والجزم، أعني: بلا استثناء ولا شرط صلاح، وهو مذموم في الشرع جدًّا، وغوائله أربع: الكسل في الطاعة وتأخيرها، وتسويف التوبة وتركها، وقسوة القلب بعدم ذكر الموت،
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وبعد أن هدد من كذب الرسول بقوله: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ﴾ ذكر سر تأخر عذابهم إلى يوم القيامة، وعدم التعجيل به، كما فعل بكثير من الأمم السالفة
٤ - فقال: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ﴾، أي: وما أهلكنا قرية من القرى، بنوع من أنواع العذاب، بالخسف بها وبأهلها، كما فعل ببعضها، أو بإخلائها من أهلها بعد إهلاكهم، كما فعل بأخرى ﴿إِلَّا وَلَهَا﴾ في ذلك الشأن؛ أي: لتلك القرية ﴿كِتَابٌ﴾؛ أي: أجل مقدر مكتوب في اللوح المحفوظ، واجب المراعاة بحيث لا يمكن تبديله؛ لوقوعه حسب الحكمة المقتضية له ﴿مَعْلُومٌ﴾ لا ينسى ولا يغفل، حتى يتصور التخلف عنه بالتقدم والتأخر.
وخلاصة ذلك (١): أننا لو شئنا لعجلنا لهم العذاب، فصاروا كأمس الدابر، ولكن لكل أجلٍ كتاب، وشأننا الإمهال لا الإهمال، فـ ﴿كِتَابٌ﴾ (٢): مبتدأ، خبره الظرف، والجملة حال من قرية، لأنها وإن كانت نكرة قد صارت بما فيها من العموم في حكم الموصوفة، لا سيما بعد تأكده بكلمة ﴿مِنْ﴾.
والمعنى: وما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا حال أن يكون لها كتابٌ؛ أي: أجلٌ مؤقتٌ لهلاكها، قد كتبناه، لا نهلكها قبل بلوغه، معلوم لا نغفل عنه، حتى تمكن مخالفته بالتقدم والتأخر، و ﴿الواو﴾ للفرق بين كون هذه الجملة حالًا أو صفة؛ لأنها تعينها للحالية، أو صفة للقرية المقدرة، التي هي بدل من المذكورة على المختار، فيكون بمنزلة كونه صفة للمذكورة؛ أي: وما أهلكنا قرية من القرى إلا قرية لها كتاب معلوم، وتوسيط الواو حينئذٍ بين الصفة والموصوف - وإن كان القياس عدمها - للإيذان بكمال الالتصاق بينهما، من حيث إن الواو شأنها الجمع والربط.
٥ - وبعد أن بين (٣) سبحانه أن الأمم المهلكة كان لكل منهم وقت معين
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وهذه الجملة (٢) مبينة لما قبلها، فكأنه قيل: إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العقلاء، فإن لكل أمة وقتًا معينًا في نزول العذاب، لا يتقدم ولا يتأخر، وفي هذا تنبيه (٣) لأهل مكة، وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والإلحاد، الذي يستحقون به الهلاك، وزجر لهم بأن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتروا به، فالهلاك مدخر لهم لا يتقدم ولا يتأخر.
٦ - ولما فرغ من تهديد الكفار.. شرع في بيان بعض عتوهم في الكفر، وتماديهم في الغي، مع تضمنه لبيان كافرهم بمن أنزل عليه الكتاب، بعد بيان كفرهم بالكتاب فقال: ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: مشركوا مكة وكفار العرب لغاية تماديهم في العتو والغي مخاطبين لرسول الله - ﷺ -، قال (٤) مقاتل: نزلت في عبد الله بن أمية، والنضر بن الحارث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة. انتهى. ﴿يَا أَيُّهَا﴾ الرجل ﴿الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ﴾ والقرآن في زعمه، وعلى وفق ما يدعيه، نادوا به النبي - ﷺ - على وجه التهكم، ولذا اتهموه بالجنون بقولهم: ﴿إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾؛ أي: إنك بسبب هذه الدعوى التي تدعيها، من كونك رسولًا لله،
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
والمعنى: أي وقالوا استهزاء وتهكمًا: يا أيها الرجل الذي زعم أنه نزل عليه القرآن إن ما تقوله أملاه عليك الجنون، وليس له معنى معقول، وهو مخالف لآرائنا، بعيد من معتقداتنا، فكيف نقبل ما لا تقبله العقول، ولا ترضاه الفحول من رجالاتنا الفخام، وعشائرنا العظام.
٧ - ﴿لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ﴾ ﴿لَوْ مَا﴾: حرف (٣) تحضيض بمعنى هلَّا، مركب من (لو) المفيدة للتمني، ومن (ما) المزيدة، فأفاد المجموع الحث على الفعل الداخلةُ هي عليه.
والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة ليشهدوا على صدقك، ويعضدوك على إنذارك، وقيل: المعنى لو ما تأتينا بالملائكة فيعاقبونا على تكذيبنا لك، كما أتت الأمم المكذبة لرسلهم، ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في دعواك الرسالة، فإن قدرة الله على ذلك مما لا ريب فيه، وكذا احتياجك إليه في تمشية أمرك؛ أي: إن كان (٤) ما تدعيه حقًّا وقد أيدك الله، وأرسلك.. فما منعك أن تسأله أن ينزل
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
وخلاصة لك (١): أنَّ من يخالف آراءنا إما مجنون، وإما له سلطان عظيم من ربه، وحينئذٍ فماذا يمنعه أن يقويه بالملائكة ليشهدوا بصدقه، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ إلى نحو ذلك من الآيات،
٨ - وقد أجاب الله سبحانه وتعالى عن اقتراحهم فقال: ﴿مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾؛ أي: ما (٢) ننزل الملائكة إلا بالحكمة والفائدة، وليس في نزول الملائكة من السماء وأنتم تشاهدونهم فائدة لكم؛ لأنكم إذا رأيتموهم قلتم إنهم بشر، لأنكم لا تطيقون رؤيتهم إلا وهم على الصورة البشرية، إذ هم من عالم غير عالمكم، وإذا قالوا نحن ملائكة كذبتموهم؛ لأنهم على صورتكم، فيحصل اللبس، ولا تنتفعون بهم، وإلى هذا أشار في سورة الأنعام بقوله: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾.
والمعنى: ﴿مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾؛ أي: لا بما قلتم واقترحتم من إخبارها لكم بصدقه، وقال الزمخشري: ما ننزل الملائكة إلا تنزيلًا متلبسًا بالحكمة والمصلحة، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانًا تشاهدونهم، ويشهدون لكم بصدق النبي - ﷺ -؛ لأنكم حينئذٍ مصدقون عن اضطرار، وقرأ (٣) الحرميان: نافع وابن كثير، والعربيان: أبو عمرو وابن عامر: ﴿ما تنزل﴾ مضارع تنزل؛ أي: ما تتنزل ﴿المَلاَئِكَةُ﴾ بالرفع. وقرأ أبو بكر ويحيى بن وثاب: ﴿ما تنزل﴾ بضم التاء وفتح النون والزاي، وقرأ الأخوان حمزة والكسائي، وحفص وابن مصرف: ﴿مَا نُنَزِّلُ﴾ بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الزاي، وقرأ زيد بن علي: ﴿ما نزل﴾ ماضيًا مخففًا مبنيًّا للفاعل ﴿الملائكة﴾ بالرفع.
﴿وَمَا كَانُوا إِذًا﴾؛ أي: إذ نزلت عليهم الملائكة فلم يؤمنوا ﴿مُنْظَرِينَ﴾؛ أي: مؤخرين ساعة؛ أي: ولو نزلنا الملائكة ما أخر عذابهم، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة، فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
و ﴿إِذًا﴾ حرف جواب (٢) وجزاء لشرط مقدر، وهي مركبة من إذ وهو اسم بمعنى الحين، ثم ضم إليه إن فصار: إذ إن، ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها، فمجيء لفظة إنْ.. دليل على إضمار فعل بعدها، والتقدير: وما كانوا إذ إنْ كان ما طلبوه منظرين، والإنظار التأخير.
والمعنى: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا مؤخرين بعد نزولهم طرفة عين، كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة، ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، لتعلق العلم والإرادة بازديادهم عذابًا، وبإيمان بعض ذراريهم.
٩ - ثم أجاب سبحانه عن قولهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ ورد إنكارهم تنزيل الذكر واستهزاءهم برسول الله - ﷺ -، وسلَّاه على ذلك بقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ﴾ لعظم شأننا، وعلو جنابنا، و (نحن) ليست بفصل؛ لأنها ليست بين اسمين، ﴿نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾؛ أي: نحن (٣) نزلنا ذلك الذكر والقرآن الذي أنكروه، وأنكروا نزوله عليك، ونسبوك بسببه إلى الجنون، وعموا منزله، حيث بنوا الفعل للمفعول، إيماء إلى أنه أمر لا مصدر له، وفعل لا فاعل له؛ أي: وليس إنزاله عليك بزعمك، كما اعتقدوا أنه مختلق من عنده. اهـ شيخنا.
﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ في كل وقت وزمان من كل ما لا يليق به، كالطعن فيه، والمجادلة في حقيته، والتكذيب له، والاستهزاء به، والتحريف والتبديل والزيادة
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
والمعنى: أي إنما (٢) أنتم قوم ضالون مستهزئون بنبينا، وليس استهزاؤكم بضائره؛ لأنا نحن نزلنا القرآن ونحن حافظوه، فقولوا أنتم إنه مجنون، ونحن نقول إنا نحفظ الكتاب الذي أنزلناه عليه من الزيادة والنقص والتغيير والتبديل والتحريف والمعارضة والإفساد والإبطال، وسيأتي في مستقبل الأزمان من يتولون حفظه والذب عنه، ويدعون الناس إليه، ويستخرجون لهم ما فيه من عبر وحكم وآداب وعلوم، تناسب ما تستخرجه العقول من المخترعات، وتستنبطه الأفكار من نظريات وآراء، فيستنير بها العارفون ويهتدي بهديها المفكرون، فلا تبتئس أيها الرسول بما يقولون وما يفعلون.
١٠ - ثم سلَّى رسوله - ﷺ - عما أصابه من سفه قومه، وادعائهم جنونه، بأن هذا دأب الأمم المكذبة لرسلها من قبل، فلقد أصابهم مثل ما أصابك من قومك، فاستهزؤوا بهم كما استهزأ قومك بك، فنصرنا رسلنا وكبتنا أعداءهم، وسيكون أمرك وأمرهم كذلك، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا رسلًا كائنة ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ يا محمد، وحذف المفعول لدلالة الإرسال عليه ﴿فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: في شيع الأمم الأولين؛ أي: الأقدمين، وفرقهم وأحزابهم وطوائفهم، جمع شيعة: وهي الفرقة (٣) المتفقة على طريقة ومذهب، سموا بذلك لأن بعضهم يشايع بعضًا ويتابعه، من شايعه إذا تبعه، ومنه الشيعة: وهم الذين شايعوا عليًّا، وقالوا: إنه الإِمام بعد رسول الله - ﷺ -، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده، وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند الفراء، والأصل: في الشيع الأولين، ومن ثم حذف الموصوف
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
والمعنى: نبأنا رجالًا فيهم، وجعلنا رسلًا فيما بينهم. اهـ "بيضاوي".
١١ - ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ﴾؛ أي: وما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها ﴿إلَّا كَانُوا بِهِ﴾؛ أي: بذلك الرسول ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾؛ أي: إلا كانت تلك الشيعة يستهزئون بذلك الرسول الذي أتى إليهم، كما يفعله هؤلاء الكفار مع محمد - ﷺ -، وفيه تسلية لرسول الله - ﷺ - بأن هذه عادة الجهال مع الأنبياء عليهم السلام، والجملة (١) في محل النصب على أنها حال مقدرة من ضمير المفعول في يأتيهم؛ أي: وما يأتيهم رسول من الرسل إلا حالة كونهم مستهزئين به، أو في محل الرفع صفة لرسول، فإن محله الرفع على الفاعلية؛ أي: وما يأتيهم (٢) إلا رسول كانوا يستهزئون به، أو في محل جر على أنها صفة له على اللفظ على المحل.
والمعنى: أي إننا أرسلنا قبلك رسلًا لأمم قد مضت، وما أتى أمةً رسولٌ إلا كذبوه واستهزؤوا، لما جرت به العادة من أن فعل الطاعات وترك اللذات مستثقلٌ على النفوس، إلى أنهم يدعونهم إلى ترك ما ألفوا من المعتقدات الخبيثة، وترك عبادة الأوثان الباطلة، وذلك مما يشق على النفوس، إلى أن الرسول قد يكون فقيرًا، لا أعوان له ولا أنصار ولا مال ولا جاء، فلا يتبعه الرؤساء وذوو البأس والقوة، بل يعملون على مشاكسته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، إلى أن الله يخذلهم، ويلقي دواعي الكفر في قلوبهم بحسب السنن التي سنها لعباده،
١٢ - كما يرشد إلى ذلك قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: كإدخالنا الاستهزاء في قلوب الأولين ﴿نَسْلُكُهُ﴾؛ أي: نسلك الاستهزاء وندخله ﴿فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾ من مشركي مكة، ومن شايعهم في الاستهزاء والتكذيب، على معنى أنه يخلقه ويزينه في قلوبهم، والسلك إدخال الشيء في الشيء، كإدخال الخيط في المخيط؛ أي: الإبرة، حالة كون المجرمين من أهل مكة
١٣ - ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾؛ أي: بالذكر والقرآن.
(٢) المراغي.
وقال ابن عطية (٢): الضمير في ﴿نَسْلُكُهُ﴾ عائد على الاستهزاء والشرك ونحوه، وهو قول الحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد، ويكون الضمير في: ﴿بِهِ﴾ يعود أيضًا على ذلك الاستهزاء نفسه، وتكون ﴿الباء﴾ سببية؛ أي: لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويكون قوله: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ في موضع الحال، ويحتمل أن يكون الضمير في: ﴿نَسْلُكُهُ﴾ عائدًا على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر، وهو القرآن؛ أي: نسلكه في قلوب المجرمين مكذبًا به مستهزءًا، ويكون الضمير في: ﴿بِهِ﴾ عائدًا عليه أيضًا، ويحتمل أن يكون الضمير في: ﴿نَسْلُكُهُ﴾ عائدًا على الاستهزاء والشرك، والضمير في: ﴿بِهِ﴾ يعود على القرآن، فيختلف على هذا عود الضميرين. انتهى.
والمعنى: أي (٣) كذلك نلقيه في قلوب المجرمين مستهزءًا به غير مقبول لديهم؛ لأنه ليس في نفوسهم استعداد لتلقي الحق، ولا تضيء نفوسهم بمصابيح هدايته الربانية، كما كانت حال الأمم الماضية حين ألقيت عليهم الكتب المنزلة من الملأ الأعلى.
﴿وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: قد مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم، حين فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء؛ أي: وقد جرت سنة الله في الأولين ممن بعث إليهم الرسل أن يخذلهم، ويدخل الكفر والاستهزاء في قلوبهم، ثم يهلكهم، وتكون العاقبة للمتقين، والنصر حليف رسله والمؤمنين، ذلك أسوة بالرسل قبلك مع أممهم المكذبة، ولست بأوحدي في ذلك.
والخلاصة (٤): هكذا نفعل باللاحقين كما فعلنا بالسابقين، ويستهزىء بك
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) المراغي.
١٤ - ثم حكى الله سبحانه وتعالى إصرارهم على الكفر، وتصميمهم على التكذيب والاستهزاء فقال: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا﴾؛ أي: على هؤلاء المقترحين المعاندين لمحمد - ﷺ -، الذين يقولون لو ما تأتينا بالملائكة ﴿بَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾، أي: بابًا من أبوابها المعهودة، ومكناهم من الصعود إليه، أو بابًا (١) مَّا، لا بابًا من أبوابها المعهودة كما قيل، ويسرنا لهم الرقي والصعود إليه ﴿فَظَلُّوا فِيهِ﴾ أي: في ذلك الباب؛ أي: فصاروا ﴿يَعْرُجُونَ﴾؛ أي: يصعدون في ذلك الباب بآلةٍ أو بغير آلةٍ، حتى يشاهدوا ما في السماء من عجائب الملكوت التي لا يجحدها جاحد، ولا يعاند عند مشاهدتها معاند، وقيل: الضمير في: ﴿فَظَلُّوا﴾ للملائكة؛ أي: فظل الملائكة يعرجون في ذلك الباب، والكفار يشاهدونهم، وينظرون صعودهم من ذلك الباب..
١٥ - ﴿لَقَالُوا﴾؛ أي: لقال هؤلاء الكفار المعاندون لمحمد - ﷺ -، لفرط عنادهم، وزيادة عتوهم وتشكيكهم في الحق: ﴿إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾، أي: سدت من باب الإحساس، أو حبست عن النظر وحيرت، أو غشيت وغطيت، ثم أضربوا عن قولهم ﴿إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾ حيث قالوا: ﴿بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ قد سحرنا محمد - ﷺ -، كما قالوه عند ظهور سائر الآيات الباهرة، كما قال تعالى حكايةً عنهم: ﴿وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾، تلخيصه: لو أوتوا بما طلبوا.. لكذبوا، لتماديهم في الجحود والعناد، وتناهيهم في ذلك. كما في "الكواشي".
وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالةٌ على أنهم يبيتون القول بذلك، وأن ما يرونه لا حقيقة له، وإنما هو أمر خيل إليهم بنوع من السحر، قالوا كلمة إنما تفيد الحصر في المذكور آخرًا، فيكون الحصر في الأبصار لا في التسكير، فكأنهم قالوا: سكرت أبصارنا لا عقولنا، فنحن وإن تخايلت بأبصارنا هذه الأشياء، لكنا نعلم بعقولنا أن الحال بخلافه، ثم قالوا: بل نحن، كأنهم أضربوا عن الحصر في الأبصار، وقالوا بل جاوز ذلك إلى عقولنا بسحر سحره لنا؛ أي: ولو فتحنا على
وقرأ الأعمش وأبو حيوة (١): ﴿يَعْرِجُون﴾ بكسر الراء، وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود، وقرأ الحسن ومجاهد وابنُ كثير: ﴿سُكِّرَتْ﴾ بتخفيف الكاف مبنيًّا للمفعول، وقرأ باقي السبعة.. بشدها مبنيًّا للمفعول، وقرأ الزهري: بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيًّا للفاعل، شبهوا رؤية أبصارهم برؤية السكران، لقلة تصوره ما يراه، وقرأ أبان بن تغلب: ﴿سُحرت أبصارنا﴾، وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسير معنى لا تلاوةً، لمخالفتها لسواد المصحف.
١٦ - ولما ذكر سبحانه كفر الكافرين وعجزهم، وعجز أصنامهم.. ذكر قدرته الباهرة، وخلقه البديع، ليستدل بذلك على وحدانيته فقال: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد خلقنا ﴿فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا﴾؛ أي: قصورًا وبيوتًا وطرقًا ومنازل، ينزلها السيارات السبع في السموات السبع، والمراد بها هنا: منازل الشمس والقمر، والنجوم السيارة ومواضع سيرها، وهي البروج الاثنا عشر المشهورة، المختلفة الهيئات والخواص، وأسماؤها: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وقد جمع تلك الأبراج بعضهم في بيتين فقال:
حَمَلَ الثَّوْرُ جَوْزَةَ السَّرَطَانِ | وَرَعَى اللَّيْثُ سُنْبُلَةَ الْمِيْزَانِ |
وَرَمَى عَقْرَبٌ بَقَوْسٍ لِجَدْيٍ | نَزَحَ الْدَّلْوُ بِرْكَةَ الْحِيْتَانِ |
(٢) الصاوي.
زُحَلٌ شَرَى مِرِّيْخَهُ مِنْ شَمْسِهِ | فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدَ الأَقْمَارُ |
والمعنى: أي وزينا السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والكواكب، سياراتٍ كانت أو ثوابت، وسميت (١) السيارة لسرعة حركاتها، وسميت الثابتة الثوابت إما لثبات أوضاعها أبدًا، وإما لقلة حركاتها الثابتة وغاية بطئها، فإن السماويات ليست بساكنة، وحركات الثوابت على رأي أكثر المتأخرين درجة واحدة في ست وستين سنة شمسية، وثمان وستين سنة قمرية، فيتم برجًا في ألف سنة، ودورة في أربعة وعشرين ألف سنة، وتسمى الثوابت بالكواكب البيابانية إذ يهتدى بها في الفلاة، وهي البيابانية بالعجميَّة، والكواكب الثابتة بأجمعها على الفلك الثامن، وهو الكرسي، وفوقه الفلك الأطلس؛ أي: فلك الأفلاك وهو العرش، سمي بالأطلس لخلوه عن الكواكب، تشبيهًا له بالثوب الأطلسي الخالي من النقش، ثم حركة الأفلاك بالإرادة، وحركة الكواكب بالعرض، إذ كل منها مركوز في الفلك كالكرة المنغمسة في الماء، والكواكب التي أدركها الحكماء بأرصادهم ألف وتسع وعشرون، فمنها سيارة ومنها ثوابت، والكل مما أدركوا، ومما لم يدركوا زينة السماء، كما أن في الأرض زينة لها. ﴿لِلنَّاظِرِينَ﴾؛ أي (٢): لكل من ينظر إليها، فمعنى التزيين ظاهر، أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بذلك على قدرة مقدرها، وحكمة مدبرها، فتزيينها: ترتيبها على نظام بديع مستتبع للآثار الحسنة، وتخصيصهم لأنهم هم المنتفعون بها، وأما غيرهم فنظرهم كلا نظر.
(٢) روح البيان.
١٧ - ﴿وَحَفِظْنَاهَا﴾؛ أي: وحفظنا السماء ﴿مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾؛ أي: مرمي بالنجوم، فلا يقدر أن يصعد إليها، ويوسوس في أهلها، ويتصرف في أهلها، ويقف على أحوالها، فيلاحظ في الكلام معنى الإضافة، أي: من دخول كل شيطان، إذ الحفظ لا يكون من ذات الشيطان. وفي كلمة ﴿مِنْ﴾ ها هنا دلالة على أن اللام في الشيطان الرجيم في الاستعاذة لاستغراق الجنس. كما في "بحر العلوم".
والمعنى: أي ومنعنا كل شيطان رجيم من القرب منها، كما قال في آية أخرى: ﴿وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ﴾؛ أي: وحفظناها من كل شيطان خارج من الطاعة برميه بالشهب، كما تحفظ المنازل من متجسس يخشى منه الفساد.
١٨ - ﴿إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾؛ أي: إلا من اختلس الكلام المسموع بسرعة، وأخذه سرًّا، ﴿فَأَتْبَعَهُ﴾؛ أي: تبعه ولحقه ﴿شِهَابٌ﴾؛ أي: لهب محرق، وهي شعلة نار ساطعة ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر أمره للمبصرين، فالاستثناء إما متصل؛ أي: إلا من استرق السمع، ويجوز أن يكون منقطعًا؛ أي: ولكن من استرق السمع... إلخ.
والمعنى (٢): حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئًا من الوحي وغيره، إلا من استرق السمع فإنها تتبعه الشهب فتقتله، أو تخبله، ومعنى فأتبعه: تبعه ولحقه وأدركه، والشهاب الكوكب، أو النار المشتعلة الساطعة، وسمي الكوكب شهابًا؛ لبريقه شبه النار، والمبين: الظاهر للمبصرين، يرونه لا يلتبس عليهم.
قال القرطبي" واختلف (٣) في الشهاب هل يقتل أم لا؟ فقال ابن عباس:
(٢) الشوكاني.
(٣) القرطبي.
أحدهما: أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم، فلا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكهانة.
والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استقروه من السمع إلى غيرهم من الجن، قال ذكره الماوردي، ثم قال: والقول الأول أصح، ومما يجب (١) التنبيه له: أن هذا حكاية فعل قبل النبي - ﷺ -، وأن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال قبل أن يبعثه الله تعالى، فلما بعث رسول الله - ﷺ -.. كثر الرجم، وزاد زيادة ظاهرة، حتى تنبه لها الإنس والجن، ومنع الاستراق رأسًا وبالكلية.
ويعضده ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات كلها، فلما ولد عيسى عليه السلام.. منعوا من ثلاث سموات، ولما ولد محمد - ﷺ -.. منعوا من السموات كلها بالشهب.
وما يوجد اليوم من أخبار الجن على ألسنة المخلوقين، إنما هو خبر منهم عما يرونه في الأرض، مما لا نراه نحن، كسرقة سارقٍ، أو خبية من مكان خفيّ ونحو ذلك، وإن أخبروا بما سيكون كان كذبًا. كما في "أكمام المرجان".
وخلاصة قوله: ﴿إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: لكن من أراد اختطاف شيء من علم الغيب، مما يتحدث به الملائكة في الملأ الأعلى.. تبعه كوكب مشتعل نارًا ظاهرًا للمبصرين فأحرقه، ولم يصل إلى معرفة شيءٍ مما يدبر في ملكوت السموات، وبهذا المعنى قوله: ﴿لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ﴾.
وبعد فالكتاب الكريم أخبرنا بأن الشياطين أرادوا أن يختطفوا شيئًا من أخبار الغيب، مما لدى الملائكة الكرام، فسلطت عليهم الشهب المشتعلة، والنجوم المتقدة، فأحرقتهم، ولا نبحث عن معرفة كنه ذلك ولا نمعن في النظر
١٩ - وبعد أن ذكر الدلائل السماوية على وحدانيته.. أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا﴾؛ أي: ومددنا الأرض وبسطناها على وجه الماء العذب، وجعلناها (١) ممتدة الطول والعرض والعمق، ليمكن الانتفاع بها على الوجه الأكمل، وهذا فيما يظهر في مرأى العين، فلا يدل على نفي الكروية عن الأرض، لأن الكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي، وفي "الخازن": وزعم (٢) أرباب الهيئة أنها كرة عظيمة بعضها في الماء، وبعضها خارج عن الماء، وهو الجزء المعمور منها، واعتذروا عن قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا﴾ بأن الكرة إذا كانت عظيمة.. كان كل جزء منها كالسطح العظيم، فثبت بهذا الأمر أن الأرض ممدودة مبسوطة، وأنها كروية، والله أعلم بمراده، وكيف مد الأرض. انتهى.
﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا﴾؛ أي: خلقنا في الأرض وجعلنا فيها جبالًا ﴿رَوَاسِيَ﴾؛ أي: ثوابت لا تتحرك خوف أن تضطرب الأرض بسكانها، كما قال في آيات أخرى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾.
والمعنى (٣): وجعلنا في الأرض رواسي بقدرتنا الباهرة، وحكمتنا البالغة، وذلك بأن قال لها: كوني فكانت، فأصبحت الأرض، وقد أرسيت بالجبال، بعد أن كانت تمور مورًا، فلم يدر أحدٌ مم خلقت.
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
٢٠ - ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ﴾ أيها العباد ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الأرض ﴿مَعَايِشَ﴾؛ أي: أسبابًا تعيشون بها، من المطاعم والمشارب والملابس، وغيرها مما يتعلق به البقاء، جمع: معيشةٍ، وقيل: هي الملابس، وقيل: هي التصرف في أسباب الرزق في مدة الحياة، والقول الأول أظهر؛ أي: إن (٢) أنواع معايشكم من غذاء وماء ولباس ودواء، قد سخَّرناها لكم في الأرض، فلا السمك في البحر غذيتموه، ولا الطير في الجو ربيتموه، ولا غيرهما من أشجار الجبال والغابات وحيوان البر والبحر خلقتموه.
﴿وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾ معطوف (٣) على معايش؛ أي: وجعلنا لكم في الأرض معايش، وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين، وهم المماليك والخدم والأولاد الذين رازقهم في الحقيقة هو الله تعالى، وإن ظن بعض العباد أنه الرازق لهم، باعتبار استقلاله بالكسب، ولهذا الظن ذكرهم بهذا العنوان؛ لرد حسبانهم أنهم يكفون موؤناتهم، ولتحقيق أن الله تعالى هو الذي يرزقهم وإياكم، أو معطوف على محلِّ ﴿لَكُمْ﴾ وهو النصب؛ أي: جعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لمن لستم له برازقين فيها معايش، فيكون من عطف الجار والمجرور على الجار والمجرور، ولا يجوز العطف على الضمير المجرور في ﴿لَكُمْ﴾ لأنه لا يجوز عند الأكثر إلا بإعادة الجار؛ أي: وجعلنا لكم فيها من لستم رازقيه من العيال
(٢) الشوكاني وروح البيان.
(٣) المراغي.
وخلاصة هذا: أنه سبحانه يسر لكم أسباب المكاسب وصنوف المعايش، وسخر لكم الدواب التي تركبونها، والأنعام التي تأكلونها، والعبيد التي تستخدمونها، فكل أولئك رزقهم على خالقهم لا عليكم، فلكم منها المنفعة، ورزقها على الله تعالى، وهذا في غاية الامتنان.
وقرأ الجمهور: ﴿مَعَايِشَ﴾ بالياء، وقرأ الأعرج، وخارجة عن نافع: ﴿مَعائش﴾ وبالهمز، وهي شاذَّةٌ كما سيأتي في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى.
٢١ - ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ﴾ إن نافية، وما مزيدة للتأكيد، وهذا التركيب عام لوقوع النكرة في حيز النفي مع زيادة (من)، ومع لفظ (شيء) المتناول لكل الموجودات، الصادق على كل فرد منها، والخزائن: جمع خزانة، وهو المكان الذي يحفظ نفائس الأموال، وذكر الخزائن تمثيل لاقتداره تعالى على كل مقدور؛ أي: وما كل الممكنات ﴿إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾؛ أي: إلا هي مقدورةٌ لنا ومملوكة، نخرجها من العدم إلى الوجود، بمقدار معلوم كيف نشاء، أو المراد بالخزائن: مفاتيحها؛ أي: وما شيء من أرزاق العباد إلا عندنا مفاتيحه، نعطيها كيف نشاء من البسط والقبض.
والخلاصة: أي ما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده، والإنعام به متى أردنا دون أن يكون تأخير ولا إبطاء، فخزائن ملكنا مليئة بما تحبون من النفائس، غير محجوبة عن الباحث الساعي إلى كسبها من وجوهها، بحسب السنن التي وضعناها، والنظم التي قدرناها، ولا يمنعها مانع، ولا يستطيع دفعها دافع، فهي تحت قبضة الطالب إذا أحسن المسعى، وأحكم الطلب، كما قال: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾. ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ﴾؛ أي: وما ننزل ذلك الشيء من السماء إلى الأرض، أو نوجده للعباد ﴿إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾؛ أي: إلا بمقدار معلوم وحساب معين، والقدر بمعنى المقدار.
وقرأ الأعمش (٣): ﴿وما نرسله﴾ مكان ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ﴾، والإرسال أعم، وهي قراءة تفسير ومعنى، لا أنها لفظ قرآن، لمخالفتها سواد المصحف، وفي "روح البيان": ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ﴾؛ أي: ما نوجد وما نكوِّن شيئًا من تلك الأشياء متلبسًا بشيء من الأشياء إلا بقدر معلوم؛ أي: إلا متلبسًا بمقدار معين، تقتضيه الحكمة، وتستدعيه المشيئة التابعة لها، وفي "تفسير أبي الليث": ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾؛ أي: مفاتيح رزقه، ويقال: خزائن المطر، ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ﴾؛ أي: المطر ﴿إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾؛ أي: إلا بكيل ووزن معروف.
٢٢ - ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ معطوف على ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ وما بينهما اعتراض، والرياح: جمع ريح، وهو جسم لطيف منبث في الجو سريع المرور. اهـ "خطيب"، واللواقح: جمع لاقحة؛ أي: حاملة لأنها تحمل الماء إلى السحاب، فهي ملقحة، يقال: ناقة ملقحة إذا حملت الولد؛ أي: وأرسلنا الرياح وأنشأناها حالة كونها لواقح وحوامل للماء إلى السحاب، فهي حالة مقدرة، وقال
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
وقرأ حمزة (١): ﴿الريح﴾ بالإفراد، وقرأ من عداه: ﴿الرِّيَاحَ﴾ بالجمع، وعلى قراءة حمزة تكون اللام في الريح للجنس، وقالوا: الرياح للخير، والريح للشر؛ لقوله - ﷺ -: "اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا".
والمعنى: أي إن (٢) من فضله سبحانه وتعالى على عباده وإحسانه إليهم أن أرسل إليهم الرياح لواقح، ويكون ذلك على ضروب:
١ - أن يرسلها حاملات للسحاب، فتلقح بها الأشجار بما تنزل عليها من الأمطار، فتغيرها من حال إلى حال، فتعطيها حياة جديدة، إذ تزدهر أزهارها، وتثمر أغصانها، بعد أن كانت قد ذبلت وصوحت، وأصبحت في مرأى العين كأنها ميتة لا حياة فيها، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ﴾.
٢ - أن يرسلها ناقلة لقاح الأزهار الذكور إلى الأزهار الإناث، لتخرج الثمر والفواكه للناس.
٣ - أن يرسلها لتزيل عن الأشجار ما علق بها من الغبار، لينفذ الغذاء إلى مسامها، فيكون ذلك رياضة للشجر والزرع، كرياضة الحيوان.
﴿فَأَنْزَلْنَا﴾ بعد ما أنشانا بتلك الرياح سحابًا ماطرًا ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: من جانب العلو، فإن كل ما علاك فهو سماء، وهو الظاهر هنا، لا الفلك يعني من السحاب ﴿ماء﴾؛ أي: بعض ماء المطر، كما يفيده التنكير، فإنه معلوم عند الناس علمًا يقينيًّا أنه لم ينزل من السماء الماء كله، بل قدر ما يصلون به إلى
(٢) المراغي.
﴿وَمَا أَنْتُمْ لَهُ﴾؛ أي: لذلك المطر المنزل ﴿بِخَازِنِينَ﴾؛ أي: بقادرين على إيجاده وخزنه في السحاب، وجمعه فيه، وإنزاله، بل نحن القادرون على إيجاده وجمعه في السحاب وإنزاله، وقيل: المعنى: وما أنتم بخازنين له بعد ما أنزلناه في الغدران والآبار والعيون، بل نحن نخزن ونجمع في هذه المخازن، ونحفظه فيها، لنجعله لكم سقيًا، ويكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه، مع أن طبيعة الماء تقتضي الغور.
والمعنى: أي فأنزلنا من (١) السماء مطرًا، فأسقيناكم ذلك المطر لشرب زرعكم ومواشيكم، وفي ذلك استقامة أمور معايشكم، وتدبير شؤون حياتكم إلى حين، كما قال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ ﴿وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾؛ أي: ولستم بخازنين الماء الذي أنزلته فتمنعوه من أن أسقيه من أشاء؛ لأن ذلك بيدي، وهو خاضع لسلطاني، إن شئت حفظته، وإن شئت غار في باطنها ويتخلل طبقاتها، فلا أبقي منه شيئًا ينفع الناس والحيوان، ويسقي الزرع الذي عليه عماد حياتكم.
والخلاصة (٢): نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب، وإنزاله، وما أنتم على ذلك بقادرين.
٢٣ - وبعد أن ذكر نظم المعيشة في هذه الحياة.. ذكر إحياء الإنسان وإماتته فقال: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي﴾ بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة، وتقديم (٣) الضمير للحصر، وهو إما تأكيد للأول، أو مبتدأ خبره الفعل، والجملة خبر
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
والمعنى (١): أي وإنا لنحيي من كان ميتًا إذا أردنا، ونميت من كان حيًّا إذا شئنا، ونحن نرث الأرض ومن عليها، فنميتهم جميعًا، ولا يبقى حي سوانا، ثم نبعثهم كلهم ليوم السحاب، فيلاقي كل امرئٍ جزاء ما عمل، إن خيرًا وإن شرًّا.
٢٤ - ثم أقام الدليل على إمكان ذلك، وأثبت قدرته عليه فقال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد علمنا منكم أيها العباد ولادة وموتًا؛ يعني: الأولين من زمان آدم إلى هذا الوقت (٢)، واستقدم بمعنى تقدَّم، كما سيأتي في مبحت التصريف، وكذلك استأخر بمعنى تأخر فيما سيأتي، واللام فيه موطئة للقسم كما فسرنا، وكذا اللام في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾ منكم موطئة له؛ أي: وعزتي وجلالي لقد علمنا من تأخر منكم ولادة وموتًا، يعني الآخرين إلى يوم القيامة، وقيل: من تقدم طاعة ومن تأخر فيها، وقيل: من تقدم في صف القتال ومن تأخر، وقيل: المراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياء، وقيل: المستقدمون هم الأمم المتقدمون على أمة محمد - ﷺ -، والمستأخرون: هم أمة محمد - ﷺ -، وقيل: المستقدمون مَنْ قُتل في الجهاد، والمستأخرون من لم يُقتل.
(٢) روح البيان.
٢٥ - ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى لا غيره ﴿يَحْشُرُهُمْ﴾؛ أي: يحشر الخلائق في عرصات القيامة، فيجمع الأولين والآخرين عنده يوم القيامة، من أطاعه منهم ومن عصاه، ويجازي كلًّا بما عمل، بحسب ما وضع من السنن وقدَّر من ارتباط المسببات بأسبابها، وجعل لكل عمل جزاءً له، فهو المتولي لذلك القادر عليه لا غيره، كما يفيده ضمير الفصل من الحصر، وقرأ (٢) الأعمش: ﴿يَحْشِرهم﴾ بكسر الشين. ثم أكد هذا وزاده إيضاحًا فقال: ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿حَكِيمٌ﴾؛ أي: (٣) بالغ الحكمة، متقن في أفعاله، فإنها عبارة عن العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والإتيان بالأفعال على ما ينبغي، وهي صفة من صفاته تعالى، لا من صفات المخلوقين.
وما يسميه الفلاسفة الحكمة هي المعقولات، وهي من نتائج العقل، والعقل من صفات المخلوقين، فكما لا يجوز أن يقال لله العاقل، لا يجوز للمخلوق الحكيم، إلا بالمجاز لمن آتاه الحكمة، كما في "التأويلات النجمية". ﴿عَلِيمٌ﴾ واسع العلم، وسع علمه كل شيء، ولعل تقديم صفة الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء (٤) فهو تعالى يفعل ما يشاء على مقتضى الحكمة والعدل، وما يؤيده من سعة العلم والفضل.
الإعراب
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١)﴾.
﴿الر﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة ﴿الر﴾؛ أي: مسماة
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
﴿رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (٢)﴾.
﴿رُبَمَا﴾: حرف جر وتكثير، ولكن بطل عملها لدخول ﴿ما﴾ الكافة عليها، ولذلك دخلت على الجملة الفعلية ما الكافة؛ لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها، ﴿يَوَدُّ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وسوغ دخول رب على المضارع مع أنها مختصة بالماضي كونه بمنزلة الماضي في تحقق الوقوع، من حيث إنه من أخبار الله تعالى، وهي صدق لا تتخلف، ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿لَوْ﴾ مصدرية، ﴿كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿لَوْ﴾ المصدرية ﴿لَوْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، والتقدير: كثيرًا يود الذين كفروا كونهم مسلمين. ويحتمل كون ﴿لَوْ﴾ حرف شرط وامتناع، جوابها محذوف، وكذا مفعول الود محذوف، والتقدير: ربما يود الذين كفروا النجاة لو كانوا مسلمين لسروا بذلك أو تخلصوا مما هم فيه.
﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)﴾.
﴿ذَرْهُمْ﴾ فعل أمر ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿يَأْكُلُوا﴾: فعل وفاعل، مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف النون، وكذا تقول في ﴿يَتَمَتَّعوا﴾، والجملة جوابية لا محل لها من الإعراب ﴿وَيَتَمَتَّعُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿يَأْكُلُوا﴾. ﴿وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ﴾: فعل ومفعول، معطوف على ﴿يَأْكُلُوا﴾ على كونه مجزومًا بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء؛ لأنه من ألهى يلهي ﴿فَسَوْفَ﴾ ﴿الفاء﴾: تعليلية، ﴿سوف﴾: حرف تنفيس واستقبال، ﴿يَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: ﴿ذَرْهُمْ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَهْلَكْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾: مفعول به، و ﴿مِن﴾: زائدة، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿وَلَهَا﴾ ﴿الواو﴾: واو الحال، ﴿لها﴾: خبر مقدم، ﴿كِتَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مَعْلُومٌ﴾: صفة ﴿كِتَابٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ﴿قَرْيَةٍ﴾، وسوَّغ مجيء الحال منها دخول من الزائدة عليها، والتقدير: وما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا حال كون أجل معلوم لهلاكها، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿تَسْبِقُ﴾: فعل مضارع، ﴿مِنْ أُمَّةٍ﴾: فاعل، و ﴿مِنْ﴾ زائدة لتأكيد النفي، ﴿أَجَلَهَا﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة، ﴿وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿تَسْبِقُ﴾، ومتعلق ﴿يَسْتَأْخِرُونَ﴾ محذوف لدلالة ما قبله عليه، تقديره: عنه ولوقوعه فاصلة، وحمل (١) على لفظ ﴿أُمَّةٍ﴾ في قوله: ﴿أَجَلَهَا﴾، فأفرد وأنث، وعلى معناها في قوله: ﴿وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ فجمع وذكر.
﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي﴾ إلى قوله: ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء في محل النصب مقول قال، ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ ﴿أي﴾، ﴿نُزِّلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به، ﴿الذِّكْرُ﴾: نائب فاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾: ناصب واسمه وخبره، و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، والجملة في محل النصب مقول قال، على كونها جواب النداء، ﴿لَوْ مَا﴾: حرف تحضيض بمعنى هلَّا، ﴿تَأْتِينَا﴾: فعل ومفعول، ﴿بِالْمَلَائِكَةِ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في
﴿مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾.
﴿مَا﴾: نافية ﴿نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور، حال من فاعل ﴿نُنَزِّلُ﴾؛ أي: حالة كوننا ملتبسين بالحق، أو صفة لمصدر محذوف، تقديره: إلا تنزيلًا ملتبسًا بالحق ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾: نافية ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿إِذًا﴾: حرف جواب وجزاء، ولكن لا عمل لها، لعدم دخولها عل الفعل، ﴿مُنْظَرِينَ﴾: خبر كان، وجملة كان معطوفة على جملة ﴿نُنَزِّلُ﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿نَحْنُ﴾: تأكيدٌ لاسم ﴿إنَّ﴾ أو مبتدأ، ولا يصح كونه ضمير فصل لعدم وقوعه بين اسمين، ﴿نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في فصل الرفع خبر ﴿إن﴾ أو خبر المبتدأ، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿وَإِنَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إنا﴾: ناصب واسمه ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق بما بعده، ﴿لَحَافِظُونَ﴾: خبر ﴿إن﴾ و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، وجملة ﴿إن﴾ معوفة على جملة ﴿إنَّ﴾ الأولى.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١١)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل، ومفعوله محذوف، تقديره: رسلًا، ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة للمفعول المحذوف، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية
﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)﴾.
﴿كَذَلكَ﴾: جار ومجرور، صفة لمصدر محذوف، ﴿نَسْلُكُهُ﴾ فعل ومفعول، ﴿فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والتقدير: نسلك الاستهزاء في قلوب المجرمين سلكًا مثل يسلكه في قلوب أولئك الكفرة، والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾ أو جملة مفسرة لقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾ فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة.
﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿لو﴾: شرطية، ﴿فَتَحْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، ﴿بَابًا﴾ مفعول به، ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿بَابًا﴾، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾. ﴿فَظَلُّوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ظَلُّوا﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿فِيهِ﴾: متعلق بحسب بعدها، وجملة ﴿يَعْرُجُونَ﴾ في محل النصب خبر ظل، وجملة ﴿ظَلُّوا﴾ معطوفة على جملة ﴿فَتَحْنَا﴾ على كونها فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾. (﴿لَقَالُوا﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾ الشرطية،
﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (١٧)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿جَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، ﴿فِي السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿جَعَلْنَا﴾ إن كان جعل بمعنى خلق، و ﴿بُرُوجًا﴾: مفعول به، ويجوز (١) أن يكون بمعنى صيرنا، فيكون مفعوله الأول ﴿بُرُوجًا﴾، ومفعوله الثاني الجار والمجرور، فيتعلق بمحذوف اهـ "سمين"، ﴿وَزَيَّنَّاهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿لِلنَّاظِرِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿زينا﴾. ﴿وَحَفِظْنَاهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿حفظنا﴾. ﴿رَجِيمٍ﴾: صفة لـ ﴿شَيْطَانٍ﴾.
﴿إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (١٨)﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء ﴿مَنِ﴾: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، ﴿اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنِ﴾، والجملة صلة ﴿مَنِ﴾ الموصولة ﴿فَأَتْبَعَهُ﴾ الفاء: عاطفة ﴿أتبعه﴾: فعل ومفعول، ﴿شِهَابٌ﴾: فاعل، ﴿مُبِينٌ﴾: صفة لـ ﴿شِهَابٌ﴾، والجملة معطوفة على جملة الصلة، والعائد ضمير المفعول في ﴿أتبعه﴾. وفي "أبي السعود" قوله: ﴿إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾ (٢)
(٢) أبو السعود.
﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (٢٠)﴾.
﴿وَالْأَرْضَ﴾: منصوب على الاشتغال، بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده، وبسطنا الأرض مددناها، بسطنا الأرض: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿جَعَلْنَا﴾ على كونها جواب القسم لا محل لها من الإعراب، ﴿مَدَدْنَاهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مفسرة للمحذوف لا محل لها من الإعراب، ﴿وَأَلْقَيْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة وبسطنا الأرض، ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿ألقينا﴾، ﴿رَوَاسِيَ﴾ مفعول به لـ ﴿أَلْقَيْنا﴾. ﴿وَأَنْبَتْنَا﴾: فعل وفاعل، معطوف على بسطنا، ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَنْبَتْنَا﴾ والمفعول محذوف، تقديره: ضروبًا، ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة للمفعول المحذوف، ﴿مَوْزُونٍ﴾ صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾. ﴿وَجَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل بمعنى وضعنا، معطوف على بسطنا الأرض، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿جعلنا﴾، ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور حال ﴿مَعَايِشَ﴾، ﴿مَعَايِشَ﴾: مفعول به، ﴿وَمَن﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على ﴿مَعَايِشَ﴾، ﴿لَسْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور، متعلق بما بعده، ﴿بِرَازِقِينَ﴾: خبر ليس، والباء زائدة.
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إنْ﴾ نافية، ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: مبتدأ و ﴿مِنْ﴾ زائدة، وسوَّغ الابتداء بالنكرة وقوعه في سياق النفي، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿عِنْدَنَا﴾: ظرف ومضاف إليه، خبرٌ مقدم، ﴿خَزَائِنُهُ﴾: مبتدأ ثان مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره مستأنفة. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية: ﴿نُنَزِّلُهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء
﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (٢٢)﴾.
﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿جَعَلْنا﴾. ﴿لَوَاقِحَ﴾: حال من ﴿الرِّيَاحَ﴾، ﴿فَأَنْزَلْنَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أنزلنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أرسلنا﴾. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿أنزلنا﴾، ﴿مَا﴾: مفعول به بـ ﴿أنزلنا﴾، ﴿فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والواو حرف متولد من إشباع حركة الميم، والجملة معطوفة على جملة ﴿أنزلنا﴾، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿مَا﴾: حجازية أو تميمية ﴿أَنْتُمْ﴾: اسم ﴿مَا﴾، أو مبتدأ، ﴿لَهُ﴾: متعلق بما بعده، ﴿بِخَازِنِينَ﴾: خبر ﴿ما﴾، أو خبر المبتدأ، والباء زائدة، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير المخاطبين.
﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)﴾.
﴿وَإِنَّا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿لَنَحْنُ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿نحن﴾: مبتدأ، ﴿نُحْيِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿وَنُمِيتُ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿نُحْيِي﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة، ﴿وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الرفع معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، على كونها خبرًا لـ ﴿إنَّ﴾، ﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ﴾: فعل ومفعول، ﴿مِنْكُمْ﴾: حال من ﴿الْمُسْتَقْدِمِينَ﴾، أو متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم قبله، ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه ﴿هُوَ﴾
التصريف ومفردات اللغة
﴿رُبَمَا يَوَدُّ﴾ ربما بضم الراء وتخفيف الباء وتشديدها: كلمة (١) تدل على أن ما بعدها قليل الحصول أو كثيره، فإذا قيل: ربما زارنا فلان.. دل على أن حصول الزيارة منه قليل، ولكنها هنا للتكثير كما في "مغني اللبيب"، قال أبو حاتم (٢): أهل الحجاز يخففونها، ومنه قول الشاعر:
رُبَّما ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ صَقِيْلٍ | بَيْنَ بُصْرَى وَطَعْنَةٍ نَجْلاَءِ |
خَلِيْلَيَّ لِلتَّكْثِيْرِ رُبَّ كَثِيْرَةٌ | وَجَاءَتْ لِتَقْلِيْلٍ وَلَكِنَّهُ يَقِلّ |
وَتَصدِيْرُهَا شَرْطٌ وَتَأخِيْرُ عَامِلٍ | وَتَنْكِيْرُ مَجَرُوْرٍ بِهَا هَكَذَا نُقِلْ |
(٢) الشوكاني.
(٣) الفتوحات القيومية.
﴿وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ﴾ الهاء الأولى من بنية الفعل، والثانية مفعول به، يقال ألهاه كذا إذا شغله، ولهى هو عن الشيء يلهى إذا شغل، ومنه قولهم لهيت عن الشيء ألهى لهيًا إذا أعرضت عنه، والأمل التوقع في طول الحياة، وبلوغ الأوطار، واستقامة الأحوال، وفي" المصباح" أملته أملًا - من باب طلب - ترقبته، وأكثر ما يستعمل الأمل فيما يستبعد حصوله.
﴿لَوْ مَا﴾ مثل هلَّا، كلمة تفيد الحث والحض على فعل ما يقع بعدها، وفي "السمين" لَوْ ما حرف تحضيض كهلا وتكون أيضًا حرف امتناع لوجود، وذلك كما أن لولا مترددة بين هذين المعنيين، وقد عرف الفرق بينهما، وهو أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهرًا أو مضمرًا، والامتناعية لا يليها إلا الأسماء لفظًا أو تقديرًا عند البصريين، واختلف فيها هل هي بسيطةٌ أم مركبةٌ؟، فقال الزمخشري: لو ركبت تارةً مع لا وتارةً مع ما لمعنيين، وأما هل فلم تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض، واختلف أيضًا في لوما هل هي أصل بنفسها؟، أو فرع من لولا، وأن الميم مبدلة من اللام؟.
﴿فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ﴾ والشيع جمع شيعة، وهي الجماعة المتفقة على مبدأ واحد في الدين والمعتقدات، أو المذاهب والآراء، من شاعه إذا تبعه، وأصله الشياع، وهو الحطب الصغار توقد به الكبار، وفي"المصباح": الشيعة الاتباع والأنصار، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، ثم صارت الشيعة اسمًا لجماعةٍ مخصوصة، والجمع شيع مثل سدرة وسدر، والأشياع جمع الجمع.
﴿نَسْلُكُهُ﴾؛ أي: ندخله، يقال: سلكت الخيط في الإبرة؛ أي: أدخلته فيها، وفي" المختار": السلك بالكسر الخيط، وبالفتح مصدر سلك في الشيء
﴿فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾؛ أي: يصعدون، يقال: ظل فلان يفعل كذا إذا فعله بالنهار، وهو من أخوات كان الناقصة.
﴿إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾؛ أي: سدت ومنعت من الإبصار بالتخفيف والتشديد سبعيتان كما مر، فعلى التخفيف يقال سكرت النهر سكرًا - من باب قتل - سددته، والسكر بالكسر ما يسدُّ به اهـ "مصباح" وقولنا بالتشديد؛ أي: لأجل التكثير والمبالغة اهـ "زاده".
﴿مَسْحُورُونَ﴾. أي: سحرنا محمد - ﷺ -، بظهور ما أبداه من الآيات.
﴿بُرُوجًا﴾ البروج واحدها برج، وهي النجوم العظام، ومنها نجوم البروج الاثني عشر المعروفة في علم الفلك؛ أي: منازل ومحال وطرقًا تسير فيها الكواكب السيارة.
﴿لِلنَّاظِرِينَ﴾؛ أي: المفكرين المستدلين بذلك على قدرة مقدرها، وحكمة مدبرها، وفي "السمين": والنظر هنا عينيٌّ، وقيل قلبيٌّ، وحذف متعلقة ليعم.
﴿حفظناها﴾؛ أي: منعناها.
﴿رَجِيمٍ﴾ والرجيم؛ أي: المرجوم المرمي بالرجام؛ أي: الحجارة، والمراد بالرجيم هنا المرميُّ بالنجوم.
﴿إلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾ والاستراق: افتعال من السرقة، وهي أخذ الشيء خفية، شبه به خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى، والمسترق المستمع خفية، كما في "القاموس"، والسمع المراد به هنا ما يسمع، واستراق السمع اختلاسه سرًّا.
﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾ يقال: تبعت القوم تبعًا وتباعةً - بالفتح -؛ أي: مشيت خلفهم، أو مروا بك فمضيت معهم، وأتبعت القوم إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم، والشهاب الشعلة الساطعة من النار الموقدة، ومن السحاب في الجوِّ، واختلف المفسرون في المراد من الشهاب هنا على قولين:
والقول الثاني: أن الشهاب الذي يصيب الشيطان شعلة نار تنفصل من الكوكب، وتسميتها بالشهاب مجاز لانفصالها منه اهـ من "الخازن". وأما المبين فمعناه البين الواضح الظاهر، ﴿مَدَدْنَاهَا﴾ أي: بسطناها ومهدناها للسكنى، ﴿رَوَاسِيَ﴾ جمع راسية وهي الجبال الثوابت، يقال وما يرسو رسوًا ورسوًّا، إذا ثبت كأرسى.
﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ بالياء التصريحية، لأنه من العيش فالياء أصلية، فوجب تصريحها، وذلك لأنها في المفرد أصلية؛ لأن مفرده معيشة من العيش، والمد في المفرد. لا يُقْلب همزًا في الجمع إلا إذا كان زائدًا في المفرد، كما قال ابن مالك:
وَالْمَدُّ زيدَ ثَالِثًا فِي الوَاحِدِ | هَمْزًا يُرَى فِي مِثْلِ كَالْقَلاَئِدِ؟ |
أحدها: أنها جمع ملقح، لأنه من ألقح يلقح فهو ملقح، فجمعه ملاقح، فحذفت الميم تخفيفًا، يقال ألقحت الريح السحاب، كما يقال ألقح الفحل الأنثى، وهذا قول أبي عبيدة.
والثاني: أنها جمع لاقح، يقال: لقحت الريح إذا حملت الماء، وقال الأزهري: حوامل تحمل السحاب، كقولك ألقحت الناقة إذا حملت الجنين في بطنها، فشبهت الريح بها.
والثالث: أنها جمع لاقح على النسب، كلابن وتامر؛ أي: ذات لقاح، قاله الفراء. اهـ "سمين". وفي "المختار": ألقح الفحل الناقة، والريح السحاب،
﴿فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾؛ أي: جعلناه لكم سقيًا لمزارعكم ومواشيكم، تقول العرب إذا سَقَت الرجل ماء أو لبنًا.. سقيته، وإذا أعدوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته.. قالوا أسقيته، أو أسقيت أرضه أو ماشيته. ﴿الْوَارِثُونَ﴾ جمع وارث، وجمعه هنا للتعظيم، لأنه لا تاني له تعالى، والوارث في الأصل من يتخلف الميت في تملك تركته، وهذا المعنى مستحيل في حقه تعالى؛ لأنه مالك للموجودات بأسرها، أصالة لا خلافة، فوجب جعله مستعارًا لمعنى الباقي بعد فناء خلقه، تشبيها له بوارث الميت في بقائه بعد فنائه اهـ "زاده".
﴿الْمُسْتَقْدِمِينَ﴾ اسم فاعل من استقدم بمعنى تقدم، فالسين زائدة، وكذا ﴿الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾ من استأخر بمعنى تأخر، ﴿يَحْشُرُهُمْ﴾؛ أي: يجمعهم، من حشر من باب نصر.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: تعريف الكتاب وتنكير القرآن في قوله: ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ للدلالة على التفخيم والتعظيم، كما ذكره "البيضاوي".
ومنها: عطف إحدى الصفتين على الأخرى في قوله: ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ إشعارًا بأنه الكلام الجامع بين الكتابية والقرآنية، كما في "روح البيان".
ومنها: الإتيان بلفظ الغيبة في قوله: ﴿كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ نظرًا إلى أنه مخبر عنهم، ولو نظر إلى الحكاية لقيل: لو كنا مسلمين.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ﴾ فالمراد أهلها وهو من باب إطلاق المحل وإرادة الحال، فالمجاز حينئذٍ في الظرف، ويصح أن يكون من مجاز الحذف.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ﴾.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾ لأن (١) كلمة إنما تفيد الحصر في المذكور آخرًا، فيكون الحصر في الأبصار لا في التسكير، فكأنهم قالوا: سكرت أبصارنا لا عقولنا، كما في "الجمل".
ومنها: الدلالة على التكثير والمبالغة في: ﴿سُكِّرَتْ﴾ على قراءة التشديد، وهي قراءة الجمهور.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿إلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾ شبه اختطافهم الكلام المسموع بسرعة بأخذ المال خفية، فاستعار له الاستراق بمعنى الاختطاف، فاشتق منه استرق بمعنى اختطف، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ﴾ لأن الشهاب حقيقة في شعلة نار ساطعة، فاستعاره للكوكب.
ومنها: المجاز في قوله ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ لأنه بمعنى معلوم المقدار، فيكون (٢) إطلاق الوزن عليه مجازًا؛ لأن الناس لا يعرفون مقادير الأشياء إلا بالوزن كما في "الخازن".
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ (٣) شبَّه الجبال الرواسي - استحقارًا لها، واستقلالًا لعددها، وإن كانت خلقًا عظيمًا - بحصيات قبضهن قابض بيده فنبذهن، وما هو إلا تصوير لعظمته، وتمثيل لقدرته، وأن كل فعل عظيم يتحير فيه الأذهان، فهو هين عليه.
ومنها: الاستعارة التخييلية في قوله: ﴿إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾ (٤) شبهت
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لَوَاقِحَ﴾ حيث شبهت الريح التي تجيء بالخير - من إنشاء سحاب ماطرٍ - بالحامل، كما شبه بالعقيم ما ليس كذلك.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ لأن السماء حقيقة في الفلك، فاستعارها للسحاب بجامع العلو في كل.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿مَاءً﴾ إشعار بأن النازل بعض الماء لا كله، بل قدر ما يصلون به إلى المنفعة، ويسلمون معه من المضرة.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي﴾ أكد بالجملة الاسمية، وبإن، وبالضمير.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿نَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾ حيث استعار الوارث الباقي بعد فناء الميت، للباقي بعد فناء الخلق كلهم، بجامع حصول البقاء في كلٍّ، بعد فناء غيره.
ومنها: الطباق بين: ﴿نُحْيِي﴾ ﴿وَنُمِيتُ﴾، وبين: ﴿الْمُسْتَقْدِمِينَ﴾ و ﴿الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿خَزَائِنُهُ﴾ و ﴿خَازِنِينَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (٥٥) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (٥٦) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (٦٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نبه (١) على منتهى الخلق، وهو الحشر يوم القيامة إلى ما يستقرون فيه.. نبههم على مبدأ أصلهم آدم، وما جرى
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) ما أعد لأهل النار.. ذكر ما أعد لأهل الجنة، ليظهر تباين ما بين الفريقين، ولما كان حال المؤمنين معتنىً به.. أخبر أنهم في جنات وعيون، وجعل ما يستقرن فيه في الآخرة كأنهم مستقرون فيه في الدنيا، ولذلك جاء: ﴿أدخلوها﴾ على قراءة الأمر؛ لأن من استقر في الشيء.. لا يقال له أدخل فيه، وجاء حال الغاوين موعودًا به في قوله: ﴿لموعدهم﴾ لأنهم لم يدخلوها.
وعبارة "المراغي" هنا: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (٢) لما ذكر حال أهل الغواية، وبين أنهم في نار جهنم، يخلدون فيها أبدًا، وأنم يكونون في طبقات بعضها أسفل من بعض، بمقدار ما اجترحوا من السيئات، واقترفوا من المعاصي.. أردفه بذكر حال أهل الجنة، وما يتمتعون به في نعيم مقيم، ووفاق بعضهم مع بعض، لا ضغن بينهم ولا حقد، وهم يتحدثون على سرر متقابلين، ولا يجدون مس التعب والنصب، ولا يخرجون منها أبدًا.
قوله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه
(٢) المراغي.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (٢) الثعلبي عن سلمان الفارسي لما سمع قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣)﴾ فر ثلاثة أيام هاربًا من الخوف لا يعقل، فجيء به إلى النبي - ﷺ -، فسأله، فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فوالذي بعثك بالحق قطعت قلبي، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥)﴾.
قوله تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عليِّ بن الحسين: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر يعني قوله تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ قيل: وأي غل؟ قال: غلُّ الجاهلية، إن بني تميم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية عداوة فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل عليٌّ يسخن يده فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ...﴾ الآيتان، سبب
(٢) لباب النقول.
التفسير وأوجه القراءة
٢٦ - ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد خلقنا وأوجدنا ﴿الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: آدم سمي إنسانًا لظهوره وإدراك البصر إياه، وقيل من النسيان لأنه عهد إليه فنسي اهـ "خازن" أو (٢) خلقنا هذا النوع الإنساني بأن خلقنا أصله وأول فردٍ من أفراده خلقًا بديعًا منطويًا على خلق سائر أفراده إنطواءً إجماليًّا. ﴿مِنْ صَلْصَالٍ﴾؛ أي: من طين يابس غير مطبوخ، يصلصل؛ أي: يصوت عند نقره، وإذا طبخ؛ أي: مسته النار.. فهو فخار؛ أي: خلقنا آدم من صلصال كائن ﴿مِنْ حَمَإٍ﴾؛ أي: من طين تغير واسود بطول مجاورة الماء ﴿مَسْنُونٍ﴾ صفة حمأ؛ أي: منتنٍ، أو مصور بصورة آدمي، من سنة الوجه، وهي صورته، أو مصبوب من سنَّ الماء إذا صبه؛ أي: مفرغ على هيئة الإنسان، كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب، كالرصاص والنحاس ونحوهما، كأنه سبحانه أفرغ الحمأ، فصور من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس، إذا نقر صوَّت، ثم غيره إلى جوهر آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
قال المفسرون (٣): خلق الله آدم عليه السلام من طين، فصوره وتركه في
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
والمعنى (١): وعزتي وجلالي لقد خلقنا أول فرد من أفراد الإنسان من طين يابس، يصلصل ويصوت إذا نقر، أسود متغير مفرغ في قالب ليجف، ويبس كالجواهر المذابة التي تصب في القوالب، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (١٥)﴾ وقد جاء خلق آدم على أطوار مختلفة، وكان أوَّلًا ترابًا، كما قال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ ثم كان طينًا كما قال: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾ ثم كان صلصالًا من حمأ مسنون، كما جاء في هذه الآية، وإنما خلقه على ذلك ليكون خلقه أعجب وأتم في الدلالة على القدرة.
٢٧ - ﴿وَالْجَانَّ﴾ منصوب على الإشتغال ﴿خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل خلق آدم عليه السلام، قال ابن عباس (٢): الجان أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر، وقال قتادة: هو إبليس، وقيل: الجان أبو الجن، وإبليس أبو الشياطين، وفي الجن مسلمون وكافرون، يأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم، وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون، ولا يموتون إلا إذا مات إبليس، وقال وهب: إن من الجن من يولد له، ويأكلون ويشربون، وهم بمنزلة الآدميين، ومن الجن من هو بمنزلة الريح، لا يتوالدون ولا يشربون ولا يأكلون، وهم الشياطين، والأصح (٣) أن الشياطين نوع من الجن لاشتراكهم في الاستتار، سموا جنًّا لتواريهم واستتارهم عن الأعين، من قولهم: جن الليل إذا ستر، والشيطان هو العاتي المتمرد الكافر، والجن منهم المؤمن ومنهم الكافر.
﴿مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾؛ أي: من نار هي السموم، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته، كمسجد الجامع؛ أي: النار السموم، كما ذكره في "البحر"؛ أي: "من" نار هي الريح الحارة، النافذة في مسام الإنسان من لطفها وقوة حرارتها فتقتله،
(٢) الخازن.
(٣) الخازن.
وقدم (٢) خلق الإنسان على الجان، مع أنه خلق قبله تعظيمًا لشأنه، وإظهارًا لفضله، وكان بين خلق آدم والجن ستون ألف سنة، واتفق أهل العلم من أهل التحقيق على أن عالم الملك مقدم خلقه على عالم الجان، وعالم الجان مقدم على عالم الإنسان، وانتقل ملك الدنيا إلى آدم، ليحصل له الاعتبار بالسابقين، ويظهر له الفضل على الكل بتأخيره عن جميع المخلوقات، لأنه كالخاتم على الباب، وهو خاتم المخلوقات، ونتيجة الكائنات، ونسخة الكليات من المحسوسات والمعقولات، وبه تم كمال الوجود، لتحققه بوصفي الجمال والجلال، واللطف والقهر، بخلاف الملك فإنه مخلوقٌ على جناح واحد هو اللطف، ولم يكن قبل آدم خلق من التراب، فخلق آدم منه ليكون عبدًا خضوعًا وضوعًا ذلولًا مائلًا إلى السجود؛ لأنه مقام العبودية الكاملة، فكل جنس يميل إلى جنسه، ولهذا تواضع آدم لله، واستكبر إبليس عن التواضع، فأبى وعلا وتكبر،
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي وخلقنا هذا الجنس من نار الريح الحارة، التي لها لفح وتقتل من أصابته، وعلينا أن نؤمن بأن الجن خلقت من النار، ولكنا لا نعرف كُنْهَ ذلك ولا حقيقته، فذلك ما لا سبيل إلى معرفته إلا من طريق الوحي، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: ﴿والجَأْن﴾ بالهمز، ذكره في "البحر".
٢٨ - وبعد أن ذكر سبحانه خلق الإنسان الأول في معرض الاستدلال على قدرته.. ذكر ما قاله للملائكة في شأنه فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لأمتك قصة ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ ﴿لِلْمَلَائِكَةِ﴾ الذين كانوا (٢) في الأرض، وهم كانوا عشرة آلاف، كذا قالوا، والظاهر العموم وعدم التخصيص، لأنه تخصيص بلا مختص ولا نص ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا﴾؛ أي: إني أخلق آدميًّا ظاهر البشرة غير مستورها بالشعر، لأنه جسم كثيف ظاهر الجلد، والبشر مأخوذ من البشرة، وهي ظاهر الجلد، وعبر باسم الفاعل الدال على التحقيق إشعارًا بتحققه ﴿مِنْ صَلْصَالٍ﴾ أي من طينٍ يابسٍ مصوت عند نقره، متعلق بـ ﴿خَالِقٌ﴾، أو صفة لـ ﴿بَشَرًا﴾؛ أي: بشرًا كائنًا من صلصال كائن ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾؛ أي: من طين أسود منتن.
شاورهم الله سبحانه وتعالى بصورة الامتحان، ليميز الطيب؛ أي: الملك من الخبيث؛ أي: إبليس، فسلم الملك وهلك إبليس، ولذلك قيل: عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، وقيل: أخبرهم سبحانه بتكوين آدم قبل أن يخلقه، ليوطنوا أنفسهم على فناء الدنيا، وزوال ملكوتها، كما قال تعالى لآدم ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ والسكنى لا تكون إلا على وجه العارية، ليوطن نفسه على الخروج من الجنة
٢٩ - ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾؛ أي: سويت خلقه، وعدلت صورته الإنسانية، وكملت أجزاءه. ﴿وَنَفَخْتُ﴾؛ أي: وأجريت وأدخلت ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك الإنسان المسوى ﴿مِنْ رُوحِي﴾ ﴿مِنْ﴾ زائدة؛ أي: نفخت فيه روحي، أو
(٢) تنوير المقباس.
٣٠ - ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ﴾؛ أي: فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح، وجعل فيه الحياة، فسجد له الملائكة ﴿كُلُّهُمْ﴾ بحيث لم يشذ منهم أحد أرضيًّا كان أو سماويًّا ﴿أَجْمَعُونَ﴾ بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن السجود، بل سجدوا مجتمعين دفعة واحدة، ولا ريب في أن السجود معًا أكمل أصناف السجود فيحمل عليه،
٣١ - ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ كان (٣) بينهم مأمورًا معهم بالسجود، فغلب اسم الملائكة، ثم استثنى بعد التغليب، كقولك: رأيتهم إلا هذا، وجملة قوله ﴿أَبَى﴾ إبليس وامتنع ﴿أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾؛ أي: أن يكون مع الملائكة الذين أمروا بالسجود، ﴿فسجدوا﴾ مستأنفة استئنافًا بيانيًّا واقعًا في جواب سؤال قائل يقول: هلا سجد؟ فقيل: أبي ذلك واستكبر عنه؛ أي: عدم سجوده لم يكن من تردده، بل من إبائه واستكباره، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعًا، فيتصل به ما بعده؛ أي: لكن إبليس أبي أن يكون معهم في السجود لآدم استكبارًا واستعظامًا لنفسه، وحسدًا لآدم
(٢) روح البيان.
(٣) الكشاف.
٣٢ - وجملة قوله: ﴿قَالَ﴾ الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ﴾؛ أي: أَيُّ عذر لك ﴿أَلَّا تَكُونَ﴾؛ أي: في أن لا تكون ﴿مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ لآدم، مستأنفة أيضًا، واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله سبحانه وتعالى لإبليس بعد أن أبى السجود؟ وهذا (١) الخطاب له ليس للتشريف والتكريم، بل للتقريع والتوبيخ.
والمعنى: أيُّ غرض لك في الامتناع من السجود، وأيُّ سبب حملك على أن لا تكون مع الساجدين لآدم من الملائكة وهم في الشرف وعلو المنزلة والقرب من الله بالمنزلة التي قد علمتها.
فإن قلت: كيف (٢) يعقل هذا الخطاب، مع أن مكالمة الله تعالى بغير واسطة من أعظم المناصب، وأشرف المراتب، فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة؟
قلتُ: إن مكالمة الله تعالى إنما تكون منصبًا عاليًا إذا كانت على سبيل الإكرام والإعظام، فأما إذا كانت على سبيل الإهانة والإذلال فلا اهـ. "كرخي".
٣٣ - ﴿قَالَ﴾ إبليس، وهو استئناف بياني أيضًا ﴿لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ﴾ واللام لتأكيد النفي؛ أي: ينافي حالي، ولا يستقيم مني، ولا يليق بي وأنا جوهر روحاني أن أسجد ﴿لِبَشَرٍ﴾؛ أي: لجسم كثيف ﴿خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ﴾؛ أي: من طين يابس كائن ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾؛ أي: من طين أسود منتن، جعل (٣) العلة لترك سجوده كون آدم بشرًا مخلوقًا من صلصال من حمأ مسنون، زعمًا منه أنه مخلوق من عنصر أشرف من عنصر آدم، وفيه إشارة إجمالية في كونه خيرًا منه، وقد صرح بذلك في موضع آخر فقال: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾، وقال في موضع آخر: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾
٣٤ - فأجاب الله سبحانه عليه بقوله: ﴿قَالَ﴾ الله تعالى لإبليس اللعين: ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَا﴾ أي: من الجنة، أو من السماء، أو من زمرة
(٢) الفتوحات.
(٣) الشوكاني.
٣٥ - ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ﴾؛ أي: الطرد والإبعاد عن الرحمة، أو إن عليك لعنتي كما في سورة ص، فأل عوض عن المضاف إليه، فاختلاف العبارة للتفنن فلا اعتراض.
﴿إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾؛ أي يوم الجزاء؛ أي: إنك مدعو عليه باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الحساب، من غير أن يعذب، فإذا جاء ذلك اليوم.. عذب عذابًا ينسى اللعن معه، فيصير اللعن حينئذٍ كالزائل، بسبب أن شدة العذاب تذهل، أو المعنى: عليك الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه مستمرًّا عليك لازمًا لك إلى يوم الجزاء، وهو يوم القيامة، وجعل يوم القيامة غاية للعنةٍ لا يستلزم انقطاعها في ذلك الوقت؛ لأن المراد دوامها من غير انقطاع، وذكر يوم الدين للمبالغة، كما في قوله تعالى: ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ في التأبيد، ويؤيده وقوع اللعن في ذلك اليوم كما قال تعالى: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ وهو لعن مقارن بالعذاب الأليم، نسأل الله الفوز والسلامة.
فإن قلت (٣): إن حرف إلى لانتهاء الغاية، فهل ينقطع اللعن عنه يوم الدين، الذي هو يوم القيامة؟
قلتُ: لا بل يزداد عذابًا إلى اللعنة التي عليه، كأنه قال تعالى: وإن عليك اللعنة فقط إلى يوم الدين، ثم تزداد بعد ذلك عذابًا دائمًا مستمرًا لا انقطاع له.
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
وقد ذكر سبحانه حجاج إبليس، وذكر سبب امتناعه عن السجود لآدم بأنه خير منه، فإنه خلق من النار، وآدم من الطين، والنار خير من الطين، وأشرف منه، والشريف لا يعظم من دونه، ولو أمره ربه بذلك.
وفي هذا ضروب من الجهالة (٢)، وأنواع من الفسق والعصيان، فإنه:
١ - اعترض على خالقه بما تضمنه جوابه.
٢ - احتج عليه بما يؤيد اعتراضه.
٣ - جعل امتثال الأمر موقوفًا على استحسانه وموافقته لهواه، وهذا رفض لطاعة الخالق، وترفع عن مرتبة العبودية.
(٢) المراغي.
٥ - قد جهل ما خص به آدم من استعداده العلمي والعملي أكثر من سواه، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، فكان بذلك أفضل منهم، وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة والطاعة لربهم.
٣٦ - ﴿قَالَ﴾ إبليس - عليه لعنة الله -: ﴿رَبِّ فَأَنْظِرْنِي﴾؛ أي: أخرني، وأمهلني، ولا تمتني، ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾؛ أي: آدم وذريته، للجزاء بعد فنائهم، والبعث إحياء الميت، كالنشر، والفاء (١) واقعة في شرط مقدر دل عليه قوله: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ أي إذا جعلتني رجيمًا.. فأمهلني، وأخرني إلى يوم يبعثون، وهو يوم القيامة، أراد الملعون بذلك السؤال أن لا يذوق الموت لاستحالته بعد يوم البعث، وأن يجد فسحة لإغوائهم؛ ويأخذ منهم ثأره،
٣٧ - فأجابه إلى الثاني دون الأول كما قال تعالى: ﴿قَالَ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿فَإِنَّكَ﴾ يا لعين ﴿مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾؛ أي: من المؤجلين الذين أخرت آجالهم أزلًا، ودل على أن ثمة منظرين غير إبليس، وهم الملائكة، فهم ليسوا بذكور ولا إناث، ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون، ولا يموتون إلى آخر الزمان، وأما الشياطين فذكور وإناث يتوالدون، ولا يموتون بل ينظرون كما أنظر إبليس، وأما الجن فيتوالدون وفيهم ذكور وإناث ويموتون.
٣٨ - ثم بين سبحانه الغاية التي أمهله إليها فقال: ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)﴾؛ أي: المعين عند الله تعالى، لا يتقدم ولا يتأخر، وهو وقت موت الخلق عند النفخة الأولى، ثم لا يبقى بعد ذلك حي إلا الله تعالى أربعين سنة، إلى النفخة الثانية، وأراد اللعين بهذا السؤال أنه لا يموت أبدًا؛ لأنه إذا أمهل إلى يوم البعث الذي هو وقت النفخة الثانية لا يموت بعد ذلك؛ لانقطاع الموت حين النفخة الأولى، فعلم أنه إذا أمهل إلى يوم البعث.. أمهل إلى الأبد، فأجابه الله تعالى
٣٩ - ﴿قَالَ﴾ إبليس ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ ﴿الباء﴾ للقسم و ﴿ما﴾ مصدرية، وجواب القسم قوله: ﴿لَأُزَيِّنَنَّ﴾؛ أي: أقسم بإغوائك إياي لأزينن ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لذرية آدم، المعاصي والشهوات واللذات، فالمفعول محذوف ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في الدنيا التي هي دار الغرور، كما في قوله: ﴿أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾ لأن الأرض محل متاعها ودارها، وفي "التِبْيان": أُزين لهم المقام في الأرض، كي يطمئنوا إليها، وإقسامه بعزة الله المفسرة بسلطانه كما في قوله: ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾ لا ينافي إقسامه بهذا الإغواء، فإنه فرع من فروعها، وأثر من آثارها، فلعله أقسم بهما جميعًا، فحكى تارة قسمه بصفة فعله وهو الإغواء، وأخرى بصفة ذاته وهي العزة، والتزيين منه إما بتحسين المعاصي لهم وإيقاعهم فيها، أو بشغلهم بزينة الدنيا عن فعل ما أمرهم الله به، فلا يلتفتون إلى غيرها ﴿وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾؛ أي: ولأحملنهم ﴿أًجْمَعِينَ﴾ على الغواية والضلالة
٤٠ - ﴿إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ﴾؛ أي: من ذرية آدم؛ أي: إلا عبادك ﴿المُخْلَصِينَ﴾ منهم، الذين أخلصتهم لطاعتك، وطهرتهم من شوائب الشرك الجلي والخفي، فلا يعمل فيهم كيدي، فإنهم أهل التوحيد الحقيقي، على بصيرة من أمرهم ويقظة، وكفاك في شرف الصدق أن اللعين ما رضي لنفسه الكذب حتى استثنى المخلصين.
والمعنى (١): أي قال إبليس: رب بسب إغوائك إياي وإضلالي لأزينن لذرية آدم، وأحببن إليهم المعاصي، وأرغبهم فيها، ولأغوينهم كما أغويتني وقدرت علي ذلك، إلا من أخلص منهم لطاعتك، ووفقته لهدايتك، فإن ذلك مما لا سلطان لي عليه ولا طاقة لي به.
وقرأ الكوفيون ونافع والحسن والأعرج (٢): ﴿المخلَصين﴾ بفتح اللام، ومعناه: أي اللذين أخلصهم الله تعالى للطاعة، بالتوفيق والعصمة، وعصمهم من
(٢) البحر المحيط.
١ - الدنيا، وسلاحها لقاء الخلق وسجنها العزلة.
٢ - والشيطان، وسلاحه الشبع وسجنه الجوع.
٣ - والنفس، وسلاحها النوم وسجنها السهر.
٤ - والهوى، وسلاحه الكلام وسجنه الصمت.
٤١ - قال الله تعالى لإبليس: ﴿هَذَا﴾ الإخلاص الذي يكون في عبادي ﴿صِرَاطٌ﴾؛ أي: طريق ﴿عَلَيَّ﴾ مراعاته وحفظه، لا سبيل لك عليه، وقيل: علي بمعنى إلى؛ أي: هذا الإخلاص طريق إليَّ؛ أي: يؤدي إلى كرامتي وثوابي ﴿مُسْتَقِيمٌ﴾؛ أي: قويم لا عوج فيه. ولا انحراف، وقرأ الضحاك (١)، وإبراهيم، وابن سيرين، وأبو رجاء، ومجاهد، وقتادة، وقيس بن عباد، وحميد وعمرو بن ميمون، وعمارة ابن أبي حفصة، وأبو شرف مولى كندة، ويعقوب: ﴿عَلَيُّ﴾ بكسر السلام وبالرفع والتنوين على أنه صفة لـ ﴿صِرَاطٌ﴾؛ أي: هذا الإخلاص طريق رفيع عالٍ، لارتفاع شأنه، مستقيم لا عوج فيه، وهذه القراءة على أن الإشارة إلى الإخلاص، فإيثار (٢) حرف الاستعلاء على حرف الانتهاء لتأكيد الاستقامة، والشهادة باستعلاء من ثبت عليه، فهو أدل على التمكين من الوصول، ومو تمثيل؛ إذ لا استعلاء لشيء على الله تعالى،
٤٢ - والإضافة في قوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي﴾ إضافة تشريف؛ أي: إن عبادي المخلصين الذين ذكرتهم ﴿لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على إغوائهم ﴿سُلْطَانٌ﴾؛ أي: قدرة أصلًا؛ أي: لا تسلط لك عليهم، بإيقاعهم في ذنب يهلكون به، ولا يتوبون منه، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء ونحوهما، فإنه ذنب مغفور، لوقوع التوبة عنه، وقيل المراد بعبادي
(٢) روح البيان.
والمعنى: إن عبادي لا سلطان لك على أحد منهم، سواء أكانوا مخلصين أم غير مخلصين، لكن من اتبعك باختياره.. صار من أتباعك، وقال سفيان بن عيينة: ليس لك عليهم قوة ولا قدرة على أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي.
والخلاصة (١): أن إبليس أوهم أن له على بعض عباد الله سلطانًا، بقوله: ﴿لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فأكذبه الله بقوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي﴾ إلخ.
٤٣ - ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ﴾ سجن الله في الآخرة، ﴿لَمَوْعِدُهُمْ﴾؛ أي: لمكان وعد المتبعين الغاوين ﴿أَجْمَعِينَ﴾ تأكيد للضمير، والعامل (٢) الإضافة يعني الاختصاص، لا اسم مكان فإنه لا يعمل، أو حال منه؛ أي: وإنَّ جهنم موعد جميع من اتبع إبليس، وهي مقرهم وبئس المهاد، جزاء ما اجترحوا من السيئات، وكفاء ما دنسوا به أنفسهم من قبيح المعاصي.
و ﴿جَهَنَّمَ﴾: معرب، فارسي الأصل، وفي "تفسير الفاتحة" للفناري: سميت جهنم لبعد قعرها، يقال: بئر جهنام؛ أي: بعيدة القعر، وقعرها خمس وسبعون مئة من السنين، وهي أعظم المخلوقات، سجن الله في الآخرة،
٤٤ - ﴿لَهَا﴾؛ أي: لجهنم ﴿سَبْعَةُ أَبْوَابٍ﴾؛ أي: سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغواية والضلالة، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: بأنها جهنم، والسعير، ولظى، والحطمة، وسقر، والجحيم، والهاوية، وهي أسفلها، وإنما كانت سبعة لكثرة أهلها؛ أي: لها سبعة أبواب، كل باب فوق باب، على قدر
(٢) روح البيان.
﴿لِكُلِّ بَابٍ﴾ من تلك الأبواب المنفتح على طبقة من الطبقات. وقوله: ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من الأتباع الغواة حالٌ من قوله: ﴿جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾؛ أي: قدر معلوم وضرب معين مفرز من غيره، حسبما يقتضيه استعداده، قال ابن جريج: النار سبع دركات، وهي جهنم ثم لظى ثم السعير ثم الجحيم ثم الهاوية، فأعلاها للعصاة الموحدين، والثانية لليهود، والثالثة للنصارى، والرابعة للصابئين، والخامسة للمجوس، والسادسة للمشركين، والسابعة للمنافقين، فجهنم أعلى الطبقات، ثم ما بعدها تحتها وهكذا، ولا ريب أن من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فإنه لا يبقى مخلدًا في جهنم، فتبقى جهنم خالية، وأما الطبقات السافلة فأهلها خالدون، واختلفت الروايات في ترتيب طبقات النار، وفي الأكثر جهنم أوَّلها، وفيما بعدها اختلاف أيضًا، وليس في هذا كله أثر مرفوع يمكن أن يركن إليه ويجعل حجة فيه، وقيل: خلق (١) الله تعالى للنار سبعة أبواب، دركات بعضها تحت بعضٍ، وللجنة ثمانية أبواب، درجات بعضها فوق بعض؛ لأن الجنة فضل، والزيادة في الفضل والثواب كرم، وفي العذاب جور، وقيل: الأذان سبع كلمات، والإقامة ثمان، فمن أذن وأقام.. غلقت عنه أبواب النيران، وفتحت له أبواب الجنة الثمانية.
وفي "الخطيب": تنبيه: تخصيص (٢) هذا العدد، لأن أهلها سبع فرق، وقيل جعلت سبعة على وفق الأعضاء السبعة، من العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل؛ لأنها مصادر السيئات، فكانت مواردها الأبواب السبعة، ولما كانت هي بعينيها مصادر الحسنات بشرط النية، والنية من أعمال القلب.. زادت الأعضاء واحدًا، فجعلت أبواب الجنة ثمانية.
والمعنى: أن الله تعالى يجزيء أتباع إبليس سبعة أجزاء، فيدخل كل جزء وقسم دركة من النار، والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة، فلذلك اختلفت
(٢) الخطيب.
٤٥ - ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: إن الذين اتقوا الله وخافوا عقابه، فأطاعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه يمتعون ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ وبساتين، تجري من تحتها الأنهار ﴿وَعُيُونٍ﴾؛ أي: وأنهار من ماء غير أسنٍ وأنهار من لبن لم يتغير طعمه أي: مستقرون فيها، لكل واحد منهم جنة وعين، على ما تقضِ قاعدة مقابلة الجمع بالجمع، ويقال لهم عند وصولهم إلى الباب: ادخلوها بسلام آمنين، والقائل هو الله تعالى، أو بعض ملائكته؛ أي: ادخلوا الجنة، حالة كونكم متلبسين بسلام من الآفات والمنغصات، آمنين من سلب تلك النعم التي أنعم بها ربكم عليكم، وأكرمكم بها، تخافون إخراجًا ولا فناءً ولا زوالًا، أو مسلِّمين بعضكم على بعض، أو مسَلَّمَا عليكم من الملائكة، أو من الله عز وجل.
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام (١): ﴿وعيون﴾ بضم العين، وباقي السبعة بكسرها،
٤٦ - وقرأ الحسن ﴿أَدْخلُوها﴾ ماضيًا مبنيًّا للمفعول من الإدخال، وقرأ يعقوب في رواية رويسٍ كذلك، وبضم التنوين، وعنه فتحه، وما بعده أمر على تقدير: أدخلوها إياهم، من الإدخال، أمر الملائكة بإدخال المتقين الجنة، وتسقط الهمزة في القراءتين، وقرأ الجمهور: ﴿ادْخُلُوهَا﴾ أمرٌ من الدخول، فعلى قراءتي الأمر ثَم محذوف؛ أي: يقال لهم، أو يقال للملائكة.
٤٧ - ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ﴾؛ أي: أخرجنا ما في قلوبهم ﴿مِنْ غِلٍّ﴾؛ أي: من حقد وحسد وبغض وعداوة كامنة، كانت بينهم في الدنيا، وصفيناهم منها، وقوله: ﴿إِخْوَانًا﴾ حال (٢) من الضمير في ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: إن المتقين مستقرون في جنات وعيون، حالة كونهم إخوة في المحبة والمودة والتعاطف، وزاد في هذه السورة ﴿إِخْوَانًا﴾ لأنها نزلت في أصحاب رسول الله - ﷺ -، وما سواها عام في المؤمنين، وحالة كونهم ﴿عَلَى سُرُرٍ﴾ مكللة بالجواهر، جمع سرير، وقيل هو المجلس الرفيع المهيأ للسرور، وحالة كونهم ﴿مُتَقَابِلِينَ﴾؛ أي: يقابل بعضهم
(٢) روح البيان.
والمعنى: وأخرجنا (٢) ما في صدور هؤلاء المتقين - الذين ذكرت صفتهم - من الحقد والضغينة من بعضهم لبعض، روى القاسم عن أبي أمامة قال: يدخل أهل الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من غلٍّ، ثم قرأ: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾.
٤٨ - والخلاصة: أن الله طهر قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة، ونزع منها كل غلٍّ، وألقى فيها التواد والتحاب والتصافي، حالة كونهم ﴿لَا يَمَسُّهُمْ﴾؛ أي: لا يمس المتقين ولا يصبهم ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة ﴿نَصَبٌ﴾؛ أي: تعب (٣) وإعياء، لعدم وجود ما يتسبب عنه ذلك في الجنة؛ لأنها نعيم خالص، ولذة محضة، تحصل لهم بسهولة، وتوافيهم مطالبهم بلا كسب ولا جهد، بل بمجرد خطور شهوة الشيء بقلوبهم يحصل ذلك الشيء عندهم صفوًا وعفوًا، روى الشيخان أن النبي - ﷺ - قال: "إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب".
﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا﴾؛ أي: عن الجنات والعيون ﴿بِمُخْرَجِينَ﴾ أبد الآباد؛ لأن تمام النعمة بالخلود؛ أي: وهم خالدون فيها أبدًا لا يبرحونها، يشعرون بلذة النعيم ودوامه، فهم في خلود بلا زوال، وكمال بلا نقصان، وفوز بلا حرمان.
والخلاصة (٤): أن المسرة بالنعيم لا تتم إلا إذا توافرت فيه أمور:
١ - أن يكون مقرونًا بالتعظيم، وإلى ذلك الإشارة بقوله: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (٤٦)﴾.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
٣ - أن يكون دائمًا غير قابل للزوال، وإلى ذلك الإشارة بقوله: ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ وفي هذا (١) الخلود الدائم وعلمهم به تمام اللذة وكمال النعيم، فإن علم من هو في نعمة ولذة بانقطاعها وعدمها بعد حين موجب لتنغص نعمته، وتكدر لذته.
٤٩ - ثم قال سبحانه وتعالى بعد أن قص علينا ما عنده للمتقين من الجزاء العظيم والأجر الجزيل ﴿نَبِّئْ﴾ يا محمد ﴿عِبَادِي﴾؛ أي: أعلمهم وأخبرهم بـ ﴿أَنِّي أَنَا﴾ وحدي، فهو لقصر المسند على المسند إليه ﴿الْغَفُورُ﴾؛ أي: الكثير المغفرة لذنوبهم ﴿الرَّحِيمُ﴾؛ أي: الكثير الرحمة لهم، كما حكمت به على نفسي، إن رحمتي سبقت غضبي، اللهم اجعلنا من عبادك الذين تفضلت عليهم بالمغفرة، وأدخلتهم تحت واسع الرحمة، وانغمسوا في بحار الرضا والمحبة.
ثم إنه لما أمر رسول الله بأن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة.. أمر بأن يذكر لهم شيئًا مما يضمن التخويف والتحذير، حتى يجتمع الرَّجاء والخوف، ويتقابل التبشير والتحذير، ليكونوا راجين خائفين فقال: ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾؛ أي: الكثير الإيلام.
والمعنى (٢): أخبر أيها الرسول عبادي أنني أنا الذي أستر ذنوبهم إذا تابوا منها وأنابوا، بترك فضيحتهم بها، وعقوبتهم عليها، الرحيم بهم، بأن لا أعذبهم بعد توبتهم منها، وفي قوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي﴾ إيماء إلى أنه ينبىء كل من كان معترفًا بعبوديته، فيشمل ذلك المؤمن المطيع والعاصي، ولا يخفى ما في ذلك من تغليب جانب الرحمة من قبله تعالى على جانب العقاب، ومن الأمر لهم بالإنابة والتوبة، وأخبرهم أيضًا بأن عذابي لمن أصر على المعاصي، وأقام عليها، ولم يتب منها،
(٢) المراغي.
وفي هذه الآية لطائف (١):
منها: أنه سبحانه وتعالى أضاف العباد إلى نفسه بقوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي﴾ وهذا تشريف وتعظيم لهم، ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمدًا - ﷺ - ليلة الإسراء.. لم يزد على قوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ فكل من اعترف على نفسه بالعبودية لله تعالى فهو داخل في هذا التشريف العظيم.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى لمَّا ذكر الرحمة والمغفرة.. بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة، أولها: قوله: ﴿أَنِّي﴾ وثانيها: ﴿أَنَا﴾، وثالثها: إدخال الألف واللام في: ﴿الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ وهذا يدل على تغليب جانب الرحمة والمغفرة،
٥٠ - ولما ذكر العذاب.. لم يقل: إني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك، بل قال: ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾ على سبيل الإخبار.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى أمر رسوله - ﷺ - بأن يبلغ عباده هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة لعباده، ثم ذكر سبحانه قصصًا تقدم مثله بأسلوب آخر في سورة هود.
٥١ - وبدأ قصص إبراهيم عليه السلام فقال: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (٥١)﴾ الخليل عليه السلام، وهذا معطوف على ما قبله؛ أي: وأخبر يا محمد عبادي عن قصة ضيف إبراهيم، وقرأ أبو حيوة: ﴿ونبِّيْهم﴾ بإبدال الهمزة ياء، وأصل الضيف الميل، يقال: ضفت إلى كذا ملت إليه، والضيف من مال إليك نزولًا بك، وصارت صفة الضيافة متعارفة في القرى، وأصل الضيف مصدر، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع في عامة كلامهم، وقد يجمع فيقال: أضياف وضيوف وضيفان، وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى ليبشروا إبراهيم بالولد، ويهلكوا قوم لوط، وفيهم جبريل وميكائيل عليهما السلام،
٥٣ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال الضيوف الملائكة لإبراهيم: ﴿لَا تَوْجَلْ﴾؛ أي: لا تخف يا إبراهيم منَّا، وقوله: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ﴾ استئناف (٢) في معنى التعليل، للنهي عن الوجل، فإن المبشر به لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن، كيف لا وهو بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زمانًا طويلًا، والبشارة هي الإخبار بما يظهر سرور المخبر به؛ أي: لا تخف يا إبراهيم منا لأنا جئناك بالبشرى ﴿بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾؛ أي: بولد هو إسحاق، ذو علم وفطنة وفهم لدين الله، وسيكون له شأن، لأنه سيصير نبيًّا، ونحو الآية قوله: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا﴾ وقيل: معناه عليم في صغره، حليم في كبره.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿لَا تَوْجَلْ﴾ مبنيًّا للفاعل، وقرأ الحسن بضم التاء مبنيًّا للمفعول من الإيجال، وقرىء ﴿لا تَاجَلْ﴾ بإبدال الواو ألفًا، كما قالوا تابة في توبة، وقرىء ﴿لا تواجل﴾ من واجله بمعنى أوجله،
٥٤ - ثم قال إبراهيم متعجبًا من مجيء ولد من شيخ وعجوز: ﴿أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ﴾ وأثر فيَّ. والاستفهام (٤) فيه للتعجب والاستبعاد عادة، و ﴿عَلَى﴾ بمعنى مع؛ أي: مع مس الكبر وإصابته إياي؛ أي: إن الولادة أمر مستنكر عادة مع الكبر، وأمر عجيب من بين الهرمين، وهو حال؛ أي: أبشرتموني حالة كوني كبير السن، أو بمعنى بعد؛
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
٥٥ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال ضيف إبراهيم له ﴿بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بشرناك بما يكون حقًّا لا محالة فيه، وإنَّا لنعلم أن الله قد وهب لك غلامًا، ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ﴾؛ أي: فلا تكن يا إبراهيم من الآيسين، الذين يقنطون وييئسون من فضل الله ورحمته، فييأسوا من خرق العادة، بل أبشر بما بشرناك به، واقبل البشرى.
(٢) البحر المحيط.
٥٦ - والاستفهام في قوله: ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ﴾ إنكاري؛ أي: قال إبراهيم للضيف لا يقنط ولا ييأس ﴿مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾؛ أي: إلا المخطئون طريق المعرفة والصواب، فلا يعرفون سعة رحمته، وكمال علمه وقدرته، وغفل عن رجاء الله الذي لا يخيب من رجاه فضلَّ بذلك عن الرأي القيم، وهذا كقول يعقوب: ﴿لَا يَايْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.
وخلاصة مقاله (٣): أنه نفى القنوط من نفسه على أتم وجه، فكأنه قال: ليس بي قنوط من رحمته تعالى، لكن حالي تنافي فيض تلك النعم الجليلة التي غمرني بها، وتوالي المكرمات التي شملت آل هذا البيت، وقرأ النحويان (٤) أبو عمرو والكسائي والأعمش: ﴿ومن يَقْنِط﴾ هنا وفي الروم والزمر بكسر النون من باب ضرب، وباقي السبعة بفتحها من باب فرح، وقرأ زيد بن علي والأشهب: بضمها من باب نصر.
٥٧ - وبعد أن تحقَّق عليه السلام مصداق هذه البشرى، ورأى أنهم أتوا مختفين على غير ما عهد عليه ملك الوحي، سألهم عن أمرهم، ليزول عنه الوجل، كما بينه الله سبحانه وتعالى ﴿قَالَ﴾ إبراهيم للضيف ﴿فَمَا خَطْبُكُمْ﴾؛ أي: فما أمركم وشأنكم ﴿أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ وما الذي جئتم به غير ما قد بشرتموني به، والاستفهام استخبار، والخطب الأمر الخطير، والشأن العظيم؛ أي: قال (٥) لهم: ما الأمر العظيم الذي جئتم لأجله سوى البشرى، وكأنه عليه السلام فهم من مجرى
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
(٥) المراغي.
٥٨ - فأجابوه بما بينه سبحانه وتعالى ﴿قَالُوا﴾؛ أي: الملائكة لإبراهيم ﴿إنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ متناهين، وهم قوم لوط، واكتفوا بهذا القدر من الجواب؛ لأن إبراهيم يعلم أن الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين كان ذلك لهلاكهم وإبادتهم،
٥٩ - ومما يرشد إلى هذا الفهم قولهم ﴿إِلَّا آلَ لُوطٍ﴾؛ أي: إلا أتباع لوط في الدين ﴿إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فلن نهلكهم، بل ننجيهم من العذاب الذي أمرنا أن نُعَذِّبَ به قوم لوط، وهو قلب مدائنهم، فالاستثناء (١) متصل من الضمير في ﴿مُجْرِمِينَ﴾؛ أي: أرسلنا إلى قوم أجرموا جميعًا إلا آل لوط، يريد أهله المؤمنين، فالقوم والإرسال شاملان للمجرمين وغيرهم.
والمعنى: إنَّا أرسلنا إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط، لنهلك الأولين وننجي الآخرين، واكتفى بنجاة (٢) الآل لأنهم إذا نجوا وهم تابعون فالمتبوع وهو لوط أولى بذلك. لوط: هو ابن هاران بن تارخ، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل، كان قد آمن به، وهاجر معه إلى الشام، بعد نجاته من النار، واختتن لوط مع إبراهيم وهو ابن ثلاث وخمسين، وإبراهيم ابن ثمانين أو مدّة وعشرين سنة، فنزل إبراهيم فلسطين، وهي البلاد التي بين الشام ومصر، منها الرملة وغزة وعسقلان وغيرها، ونزل لوط الأردن، وهي كورة بالشام، فأرسل الله لوطًا إلى أهل سدوم بالدال، وكانت تعمل الخبائث، فأرسل الله إليهم ملائكة للإهلاك، وقرأ الأخوان حمزة والكسائي ﴿لَمُنَجُّوهُمْ﴾ بالتخفيف من أنجا، وقرأ الباقون بالتشديد من نجى، واختار هذه القراءة الأخيرة أبو عبيدة وأبو حاتم، والتنجية والإنجاء التخلص مما وقع فيه غيرهم،
٦٠ - ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾ استثناء من الضمير في ﴿منجوهم﴾، وليس استثناء من استثناء، كما في "البحر" واسمها واهلة، ﴿قَدَّرْنَا﴾؛ أي: قضينا
(٢) روح البيان.
الإعراب
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (٢٧)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ (الواو) استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، ﴿مِنْ صَلْصَالٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَلَقْنَا﴾. ﴿مِنْ حَمَإٍ﴾: جار ومجرور، صفة لـ ﴿صَلْصَالٍ﴾، ﴿مَسْنُونٍ﴾: صفة ﴿حَمَإٍ﴾. ﴿وَالْجَانَّ﴾: منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، يفسره المذكور بعده، تقديره: وأنشأنا الجان خلقناه، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة: ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾، ﴿خَلَقْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: حال من ضمير ﴿خَلَقْنَاهُ﴾، والجملة جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب ﴿مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿خَلَقْنَا﴾، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، كمسجد الجامع، وصلاة الوسطى.
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿قَالَ رَبُّكَ﴾؛ فعل وفاعل، ﴿لِلْمَلَائِكَةِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه
﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١)﴾.
﴿فَسَجَدَ﴾ ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتفريع، ﴿سجد الْمَلَائِكَةُ﴾: فعل وفاعل، ﴿كُلُّهُمْ﴾: توكيد أول، ﴿أَجْمَعُونَ﴾: توكيد ثان، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿إِبْلِيسَ﴾: منصوب على الاستثناء، متصل أو منقطع على الخلاف فيه، ﴿أَبَى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْلِيسَ﴾، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية عدم السجود، ﴿أَنْ يَكُونَ﴾: ناصب وفعل ناقص، واسمه ضمير يعود على ﴿إِبْلِيسَ﴾ ﴿مَعَ السَّاجِدِينَ﴾: ظرف ومضاف إليه، خبر ﴿يَكُونَ﴾ وجملة ﴿يَكُونَ﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿أَبَى﴾ تقديره: أبى كونه مع الساجدين.
﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة
﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَا﴾ إلى قوله: ﴿الدِّينِ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿فَاخْرُجْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب شرط محذوف، تقديره: فحيث عصيت وتكبرت فاخرج، وجملة الشرط المحذوف في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿اخرج﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿إبليس﴾ ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿اخرج﴾، ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾: ناصب واسمه
﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦ {قَالَ﴾ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)}.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿إبليس﴾، والجملة مستأنفة، ﴿رَبِّ فَأَنْظِرْنِي﴾ إلى آخر الآية مقول ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿فَأَنْظِرْنِي﴾ ﴿الفاء﴾: واقعة في جواب شرط مقدر دل عليه قوله: ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾، تقديره: إذا جعلتني رجيمًا فأنظرني، وجملة الشرط المحذوف في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿أنظرني﴾ فعل ومفعول ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾: متعلق به، وجملة ﴿يُبْعَثُونَ﴾ في محل الجر مضاف إليه. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلة مستأنفة، ﴿فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ مقول محكي وإن شئت قلت: ﴿الفاء﴾: تعليلية لجملة محذوفة معلومة من السياق، تقديرها لا تطمع إنظارك إلى يوم يبعثون؛ لأنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿إنك﴾: ناصب واسمه، ﴿مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾: جار ومجرور، خبره، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها معللة للجملة المحذوفة. ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿الْمُنْظَرِينَ﴾، ﴿الْمَعْلُومِ﴾: صفة لـ ﴿الْوَقْتِ﴾.
﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿إبليس﴾، والجملة مستأنفة، ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ إلى ﴿قَالَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾: حرف جرٍّ
﴿قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (٤٢)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة ﴿هَذَا صِرَاطٌ﴾ إلى قوله: ﴿جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت ﴿هَذَا صِرَاطٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿عَلَيَّ﴾: جار ومجرور، صفة أولى لـ ﴿صِرَاطٌ﴾ وعليَّ بمعنى إلى، والتقدير: هذا صراط موصل إليَّ، ﴿مُسْتَقِيمٌ﴾: صفة ثانية له. ﴿إِنَّ عِبَادِي﴾: ناصب واسمه، ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص ﴿لَكَ﴾: خبره مقدم، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بما بعده، ﴿سُلْطَانٌ﴾: اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿مَنِ﴾: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، ﴿اتَّبَعَكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنِ﴾ الموصولة، ﴿مِنَ الْغَاوِينَ﴾: حال من فاعل ﴿اتَّبَعَكَ﴾ والجملة الفعلية صلة الموصول.
﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ﴾: ناصب واسمه وخبره، و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، ﴿أَجْمَعِينَ﴾: تأكيد لضمير الغائبين، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إنَّ﴾ الأولى، ﴿لَهَا﴾: جار ومجرور، خبر مقدم، ﴿سَبْعَةُ أَبْوَابٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو في محل الرفع خبر ثان خبر لـ ﴿إِنَّ﴾ ﴿لِكُلِّ بَابٍ﴾: جار ومجرور ومضاف خبر مقدم ﴿مِنْهُمْ﴾ جار ومجرور حال من ﴿جُزْءٌ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرًا مقدمًا أعني قوله: ﴿لِكُلِّ بَابٍ﴾ ﴿جُزْءٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مَقْسُومٌ﴾: صفة ﴿جُزْءٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور في قوله: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ﴾، والتقدير: سبعة أبواب كائنة هي لها حالة كون كل باب منها له جزء مقسوم منهم.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (٤٨)﴾.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾: خبره، ﴿وَعُيُونٍ﴾: معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿ادْخُلُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال لهم ادخلوها، ﴿يَمَسُّهُمْ﴾: جار ومجرور حال أول من فاعل ﴿ادْخُلُوهَا﴾، تقديره: حالة كونكم ملتبسين بسلام، ﴿آمِنِينَ﴾: حال ثانية، ﴿وَنَزَعْنَا مَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، ﴿فِي صُدُورِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، ﴿مِنْ غِلٍّ﴾: جار ومجرور، حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله، ﴿إِخْوَانًا﴾: حال من ضمير الغائبين؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه، فيجوز مجيء الحال من المضاف إليه، ﴿عَلَى سُرُرٍ﴾: حال من الضمير في ﴿إِخْوَانًا﴾ ﴿مُتَقَابِلِينَ﴾: حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله، ﴿لَا يَمَسُّهُمْ﴾:
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (٥١)﴾.
﴿نَبِّئْ عِبَادِي﴾ فعل وفاعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة، ﴿أَنِّي﴾: ناصب واسمه ﴿أَنَا﴾: تأكيد لضمير النصب، أو ضميره فصل، أو مبتدأ، ﴿الْغَفُورُ﴾: خبر أول لـ ﴿أن﴾، ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر ثان، أو صفة لـ ﴿الْغَفُورُ﴾، وجملة ﴿أنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسدَّ مفعولي ﴿نَبِّئْ﴾ الثاني والثالث؛ لأنه يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، والتقدير: نبىء عبادي كوني الغفور الرحيم، أو مجرورة بحرف جر محذوف؛ أي: بأني أنا الغفور. ﴿وَأَنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿أن عذابي﴾: ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْعَذَابُ﴾ خبر ﴿أن﴾ ﴿الْأَلِيمُ﴾: صفة لـ ﴿الْعَذَابُ﴾، وجملة ﴿أن﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أنَّ﴾ الأولى. ﴿وَنَبِّئْهُمْ﴾: فعل ومفعول أول، ﴿عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة ﴿نَبِّئْ﴾ الأولى.
﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (٥٣)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد إذ دخلوا، ﴿دَخَلُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة في محل الجر
﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة، ﴿أَبَشَّرْتُمُونِي﴾: إلى قوله ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَبَشَّرْتُمُونِي﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التعجبي ﴿بشرتموني﴾: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية، والواو حرف زائد من إشباع حركة الميم، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾، ﴿عَلَى﴾: حرف جر بمعنى مع، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب، ﴿مَسَّنِيَ الْكِبَرُ﴾: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية، في محل النصب مبنيٌّ على الفتح، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلَى﴾، تقديره: على مس الكبر إياي؛ أي: مع مس الكبر إياي، الجار والمجرور حال من ياء ﴿بشرتموني﴾؛ أي: أبشرتموني حالة كوني كبير السن، ﴿فَبِمَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿الباء﴾: حرف جر، ﴿م﴾: اسم استفهام للاستفهام التعجبي، في محل الجر بالباء، والجار والمجرور متعلق بما بعده، ﴿تُبَشِّرُونَ﴾: فعل وفاعل، مرفوع وعلامة
﴿قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (٥٥)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ﴾ مقولٌ محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت ﴿بَشَّرْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَكُنْ﴾: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، واسمها ضمير يعود على إبراهيم، ﴿مِنَ الْقَانِطِينَ﴾: خبر ﴿تَكُنْ﴾، وجملة ﴿تَكُنْ﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿بَشَّرْنَاكَ﴾، على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (٥٦)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة ﴿وَمَن يَقنَطُ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع مبتدأ، ﴿يَقْنَطُ﴾: فعل مضارع، ﴿مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَقْنَطُ﴾، ﴿إلا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿الضَّالُّونَ﴾: فاعل ﴿يَقْنَطُ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، وعلى هذا الوجه فلا ضمير في ﴿يَقْنَطُ﴾ والرابط للخبر بالمبتدأ ﴿الهاء﴾ من ﴿رَبِّهِ﴾، وهذا الإعراب على ما قاله: ابن عنقاء، كما ذكره صاحب "الكواكب الدرية"، وأما على مذهب الجمهور ففي ﴿يَقْنَطُ﴾ ضمير مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿الضَّالُّونَ﴾: بدل من فاعل ﴿يَقْنَطُ﴾ المستتر فيه بدل كل من كل، ولم يؤت معه بضمير؛ لأن قوة تعلق المستثنى بالمستثنى منه تغني عن الضمير، كما قاله الفاكهي، وابن عنقاء، والعصاميُّ.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة، ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم زيادة محاورتي لكم.. فأقول لكم ﴿ما خطبكم﴾، ﴿ما﴾: اسم استفهام للاستفهام الإستخباري في محل الرفع مبتدأ، ﴿خَطْبُكُمْ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدر، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَيُّهَا﴾ منادي نكرة مقصودة، ﴿الْمُرْسَلُونَ﴾: صفة لـ ﴿أيُّ﴾ تابع للفظه.
﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (٦٠)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿أُرْسِلْنَا﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿إِلَى قَوْمٍ﴾ متعلق به، ﴿مُجْرِمِينَ﴾: صفة ﴿قَوْمٍ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿آلَ لُوطٍ﴾: منصوب على الاستثناء، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿لَمُنَجُّوهُمْ﴾: خبر ﴿إن﴾ مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم، و ﴿الهاء﴾ مضاف إليه، ﴿أَجْمَعِينَ﴾: تأكيد لضمير ﴿منجوهم﴾، ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾: استثناء من ضمير ﴿منجوهم﴾ منصوب، ﴿قَدَّرْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿إِنَّهَا﴾: ناصب واسمه، ﴿لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾ و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، وجملة ﴿إنّ﴾ في محل النصب مفعول ﴿قَدَّرْنَا﴾، ولكنها معلقة عنها باللام، وجملة ﴿قَدَّرْنَا﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل الاستثناء قبلها. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ﴾؛ أي: طين يابس، يصلصل ويصوت إذا
﴿مِنْ حَمَإٍ﴾؛ أي: من طين تغير واسود من مجاورة الماء له، واحدته حمأة، وقال الليث (٢): الحمأ طين أسود منتن واحدته حمأة بتحريك الميم، ووهم في ذلك، وقالوا: لا نعرف في كلام العرب الحمأة إلا ساكنة الميم، قاله أبو عبيدة والأكثر، قال أبو الأسود:
يَجِيءُ بِمِلْئِهَا طَوْرًا وَطَوْرًا | يَجِيءُ بِحَمْأةِ وَقَلِيْلِ مَاءِ |
﴿مَسْنُونٍ﴾ والمسنون قال الفراء هو المتغير، وأصله من سننتُ الحجر على
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
ثُمَّ حَاصَرْتُهَا إلى الْقُبَّةِ الْحَمْـ | ـرَاءِ تَمْشِيْ في مَرْمَرٍ مَسْنُوْنِ |
تُرِيْكَ سُنَّةَ وَجْه غَيْرَ مُقْرِفَةٍ | مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ ولا نَدَبُ |
﴿وَالْجَانَّ﴾؛ أي: هذا (١) الجنس، كما أن الإنسان يراد به ذلك، فإذا أريد بالإنسان آدم.. أريد بالجان أبو الجن، وإبليس أبو الشيطان، وهما نوعان يجمعهما وصف الاستتار عنا، وسمي جانًّا لتواريه عن الأعين، يقال جن الشيء إذا ستره، فالجان يستر نفسه عن أعين بني آدم.
﴿مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ السموم الحرٌّ المفرط (٢) من نار أو شمس أو ريح، يدخل في المسام فيقتل، والمسام هي ثقب البدن، جمع سمٍّ بكسر السين على غير قياس، كمحاسن جمع حسنٍ، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: من نار ذات سموم؛ أي: صاحبة حرارة شديدة قاتلة.
(٢) البحر المحيط.
﴿سَوَّيْتُهُ﴾؛ أي: أتممت خلقه، وهيأته لنفخ الروح فيه.
﴿وَنَفَخْتُ﴾ والنفخ إجراء الريح من الفم أو غيره في تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها، ويراد به هنا إضافة ما به الحياة إلى المادة القابلة لها.
﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ أمر من وقع يقع من باب وضع إذا سقط وخر، وحذفت الواو من الأمر على حد قول ابن مالك:
فأمر أو مضارع من كوعد احذف... إلخ.
﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ من أبلس (١) إذا يئس وتحير، ومنه إبليس أو هو أعجمي.
﴿فإنَّك رجيمٌ﴾؛ أي: مرجوم مطرود من كل خير وكرامة، وفي "المصباح": الرجم بفتحتين الحجارة، والرجم القبر، سمي بذلك لما يجتمع عليه من الأحجار، ورجمته رجمًا من باب قتل ضربته بالرجم اهـ. وفي "القاموس": الرجم اللعن والشتم والطرد والهجران اهـ.
﴿اللَّعْنَةَ﴾ الإبعاد على سبيل السخط ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾؛ أي: يوم الجزاء، ﴿يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ وهو يوم النفخة الثانية، ﴿فَأَنْظِرْنِي﴾؛ أي: أمهلني وأخرني ولا تمتني، ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)﴾. هو يوم النفخة الأولى حين يموت الخلائق، ﴿والإغواء﴾ الإضلال يقال غوى غواية إذا ضل في نفسه، وأغوى إذا أضل غيره؛ أي: دعاه إلى غواية. ﴿هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ﴾؛ أي: هذا صراط حق لا بد أن أراعيه وأحفظه ﴿مُسْتَقِيمٌ﴾؛ أي: لا انحراف فيه، فلا يعدل عنه إلى غيره، ﴿سُلْطَانٌ﴾ والسلطان التسلط والتصرف بالإغواء، ﴿سَبْعَةُ أَبْوَابٍ﴾؛ أي: سبع طبقات، ﴿جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾؛ أي: فريق معين مفروز من غيره.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ هم الذين اتقوا الكفر والفواحش، ولهم ذنوب من الصغائر تكفرها الصلوات وغيرها. ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين، ﴿وَعُيُونٍ﴾؛ أي: أنهار جارية ﴿بِسَلَامٍ﴾؛ أي: بسلامة من الآفات، وأمن من المخافات، ﴿مِنْ غِلٍّ﴾ الغل الحقد
﴿عَلَى سُرُرٍ﴾ السرر جمع سرير، وهو مجلس عال رفيع موطأ للسرور، وهو مأخوذ منه؛ لأنه مجلس سرور، قال ابن عباس؛ أي: على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية اهـ "خازن".
﴿لَا يَمَسُّهُمْ﴾؛ أي: لا يصيبهم، ﴿نَصَبٌ﴾: والنصب الإعياء والتعب، ﴿نَبِّئْ عِبَادِي﴾ تقول أنبأت القوم إنباء ونبأتهم تنبئة إذا أخبرتهم، ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (٥١)﴾ والأفصح في كلمة الضيف أن لا تثنى ولا تجمع حين تستعمل للمثنى والجمع والمؤنث، بل تستعمل بلفظ واحد لكل ذلك.
﴿لَا تَوْجَلْ﴾ والوجل اضطراب النفس لخوفها من توقع مكروه يصيبها.
﴿عَلِيمٍ﴾؛ أي: ذي علم كثير.
﴿بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالأمر المحقق الذي لا شك في وقوعه، ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ﴾ يقال قنط من كذا إذا يئس من حصوله، وفي "المختار": القنوط اليأس، وبابه جلس ودخل وطرب وسلم، فهو قانط وقنوط.
﴿إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ الكفار الذين لا يعرفون كمال قدرته تعالى وسعة رحمته.
﴿فَمَا خَطْبُكُمْ﴾؛ أي: أمركم وشأنكم الذي لأجله أرسلتم، ﴿قَدَّرْنَا﴾؛ أي: قضينا وكتبنا، يقال قضى الله عليه كذا، وقدره عليه أي: جعله على مقدار الكفاية في الخير والشر، وقدر الله الأقوات جعلها على مقدار الحاجة.
﴿مِنَ الْغَابِرِينَ﴾؛ أي الباقين مع الكفار ليهلكوا معهم، وأصله من الغبرة، وهي بقية اللبن في الضرع، وفي "المختار": غير الشيء بقي وغبر أيضًا مضى، وهو من الأضداد وبابه دخل.
البلاغة
وقد تضمَّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
ومنها: التكرار في قوله: ﴿مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿مِنْ رُوحِي﴾.
ومنها: جمع تأكيدين في قوله: ﴿كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ للمبالغة وزيادة تقرير الشيء في الذهن، وشدة الاعتناء به.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾.
ومنها: التعبير (١) بصيغة اسم الفاعل في قوله: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾ إشعارًا بتحقق وقوعه واستمراره.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ لأنه إما (٢) كناية عن الطرد والإبعاد؛ لأن يطرد يرجم بالحجارة على أثره، أو كناية عن كونه شيطانًا من الشياطين الذين يرجمون بالشهب.
منها: جناس الاشتقاق بين: ﴿أنظرني﴾ و ﴿المنظرين﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿أغويتني﴾ و ﴿أغوينهم﴾.
منها: إيثار حرف الاستعلاء على حرف الانتهاء في قوله: ﴿هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ لتأكيد الاستقامة، والشهادة باستعلاء من ثبت عليه، فهو أدل على التمكين من الوصول وهو تمثيل، إذ لا استعلاء لشيء على الله تعالى.
ومنها: الإضافة في قوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي﴾ للتشريف ولتفخيم شأنهم.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ﴾؛ أي: يقال لهم ادخلوها.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ﴾؛ أي: في قلوبهم
(٢) روح البيان.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿نَصَبٌ﴾ للتقليل لا غير؛ أي: أيُّ شيء منه.
ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)﴾ مع قوله: ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾ فقد قابل بين العذاب والمغفرة، وبين الرحمة الواسعة والعذاب الأليم، وهذا من المحسنات البديعية.
ومنها: القصر في قوله: ﴿أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ فهو (١) من قصر المسند على المسند إليه.
ومنها: الاستفهام التعجبيُّ في قوله: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق بين: ﴿الْقَانِطِينَ﴾ و ﴿يَقْنَطُ﴾ وبين ﴿الْمُرْسَلُونَ﴾ ﴿وَأَرْسَلْنَا﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾ فأسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مجازًا، وهو فعل الله تعالى لما لهم من القرب والاختصاص؛ لأنهم رسل الله، أرسلوا بأمره تعالى، كما يقول خاصة الملك: أمرنا بكذا، والآمر هو الملك.
ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (٦٩) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (٧٠) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٨١) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١)﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وقعالى لما أمر نبيه - ﷺ - أن يبلغ عباده أنه غفار لذنوب من تابوا وأنابوا إلى ربهم، وأن عذابه مؤلم لمن أصروا على المعاصي، ثم فصل ذلك
قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في القصص السالف إهلاك الأمم المكذبة لرسلها، وعذابها بشيء من أنواع العذاب كفاء ما دنسوا به أنفسهم، من فظائع الشرك وأنواع المعاصي، التي تقوض دعائم الإخلاص لبارىء النسم، وتهد أركان نظم المجتمع بعبادة الأصنام والأوثان وتطفيف الكيل والميزان، وإتيان الفاحشة التي تشمئز منها النفوس، وتنفر منها الأذواق السليمة.. أرشد (٢) هنا إلى أنهم بعملهم هذا قد تركوا ما قد قضت به الحكمة الإلهية في خلق السموات والأرض، من عبادة خالقهما وطاعته، واستقرار نظم المجتمع على وجه صالح صحيح، ودأبوا على عبادة غيره من الأصنام والأوثان، فكان من العدل تطهير الأرض منهم دفعًا لشرورهم، وإصلاحًا لمن يأتي بعدهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر رسوله - ﷺ - أن يصبر على أذى قومه، وأن يصفح عنهم الصفح الجميل.. أردف ذلك بذكر ما أولاه من النعم، وما أغدق عليه من الإحسان، ليسهل عليه الصفح، ويكون فيه سلوة له على احتمال الأذى، فذكر أنه آتاه السبع المثاني - الفاتحة - والقرآن العظيم الجامع لما فيه
(٢) المراغي.
ثم أمره (١) أن يعلن ما أمر به من الشرائع، ولا يلتفت إلى لوم المشركين وتتريبهم له، ولا يبالي بما سيكون منهم، فالله تعالى كفاه أمر المستهزئين به، وأزال كيدهم، وإذا ساوره ضيق الصدر من سماع سفههم واستهزائهم كما هو دأب البشر.. فليسبح ربه وليحمده، وليكثر المطاعة، فالعبد إذا حزبه أمر نزع إلى طاعة ربه، وقد كفل سبحانه أن يكشف عنه ما أهمه.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)﴾ الجمهور على أنها نزلت في خمسة نفر، كانوا يبالغون في إيذاء رسول الله - ﷺ - والاستهزاء به، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى، وهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، والأسود بن يغوث، والحرث بن قيس، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان سبب هلاكهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧)﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: أن سبع قوافل أقبلت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها أنواع من البر والطيب والجواهر وسائر الأمتعة، فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها، ولأنفقناها في سبيل الله، فقال تعالى: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خيرٌ لكم من هذه القوافل السبع، ويدل على
التفسير وأوجه القراءة
٦١ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١)﴾ جملة مستأنفة (١) لبيان إهلاك من يستحق الهلاك، وتنجية من يستحق النجاة، فلفظة آل زائدة بدليل قوله: ﴿وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا﴾
٦٢ - ﴿قَالَ﴾ لوط مخاطبًا لهم ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾؛ أي: لا أعرفكم بل أنكركم، وإنما (٢) قال لوط هذه المقالة لأنهم دخلوا عليه وهم في زيِّ شبان مردان حسان الوجوه، فخاف أن يهجم عليهم قومه، فلهذا السبب قال هذه المقالة، وقيل إن النكرة ضد المعرفة، فقوله إنكم منكرون يعني لا أعرفكم، ولا أعرف من أي الأقوام أنتم، ولأي غرض دخلتم عليَّ؛ أي: فلما خرج الملائكة المرسلون من عند إبراهيم، وسافروا من قريته إلى قرية لوط، وكان بينهما أربعة فراسخ، ودخلوا عليه.. أنكرهم لوط ولم يعرفهم، وقال لهم من أيِّ الأقوام أنتم، ولأي غرض جئتم، وإني أخاف أن تمسوني بسوء، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾، وعبارة البيضاوي: ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ تنكركم نفسي، وتنفر عنكم، مخافة أن تطرقوني بشبرٍ اهـ.
قيل: وإنما قال لهم هذه (٣) المقالة لأنه لم يشاهد من المرسلين حين مقاساة الشدائد ومعاناة المكايد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون إعانة ولا مساعدة فيما يأتي ويذر، حين تجشم الأهوال في تخليصهم، فأنكر خذلانهم له، وتركهم نصره حين المضايقة، التي حلت به بسببهم، حتى اضطر إلى أن يقول: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ كما جاء في سورة هود، لأن القصة سيقت هنا مختصرةً،
٦٣ - وذكرت هناك مبسوطة ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالت الرسل في
(٢) النسفي.
(٣) المراغي.
والمعنى: قالت الرسل مخاطبين لوطًا: ما جئناك يا لوط بما خطر ببالك من المكروه، بل جئناك بما فيه سرورك، وهو عذابهم الذي كنت تحذرهم منه، وهم يكذبونك فيه قبل مجيئه، فأنى لك بعد هذا أن تعتريك مساءة وضيق ذرعٍ.
وخلاصة ما أرادوا أن يقولوا (١): ما خذلناك وما خلينا بينك وبينهم، بل جئناك بما يدمرهم ويهلكهم من العذاب الذي كنت تتوعدهم به، وهم يكذبونك، واختاروا هذا الأسلوب ولم يقولوا: جئناك بعذابهم، لإفادة ذلك شيئين: تحقق عذابهم، وتحقق صدقه عليه السلام، بعد أن كابد منهم كثيرًا من الإنكار والتكذيب.
٦٤ - ﴿وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾؛ أي: باليقين الذي لا مرية فيه ولا تردد، وهو العذاب النازل بهم لا محالة، ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ في ذلك الخبر الذي أخبرناك من إهلاكهم؛ أي: وجئناك بالأمر المحقق المتقن، الذي لا مجال فيه للامتراء والشك، وهو العذاب الذي كتب وقدر لقوم لوط، وإنا لصادقون فيما أخبرناك به.
٦٥ - ثم شرعوا يرتبون له مبادئ النجاة قبل حلول العذاب بقومه، فقالوا له: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾؛ أي: فاذهب بهم، من السرى وهو السير في الليل ﴿بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾؛ أي: في طائفة من الليل؛ أي: في بعض منه والمراد بأهله ابنتاه، فلم يخرج من قريته إلا هو وابنتاه، قيل: ومعهم امرأته الصالحة، وفي "القرطبي" في سورة هود: فخرج لوط وطوى الله الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم؛ أي: فسر (٢) ببنتيك وامرأتك الصالحة في جزء من الليل عند السحر، ﴿وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ﴾؛ أي: امش خلفهم، لأجل أن تطمئن عليهم، وتعرف أنهم: ناجون، جمع دبر وهو من كل شيء عقبه ومؤخَّره؛ أي: وكن على إثرهم لتسوقهم وتسرع
(٢) المراح.
﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ﴾؛ أي: منك ومنهم ﴿أَحَدٌ﴾ إلى ورائه إذا سمع الصيحة لئلا تراعوا من عظيم ما نزل بهم من البلاء، أو جعل (١) الالتفات كناية عن مواصلة السير، وترك التواني والتوقف؛ لأن من يلتفت لا بد له من أدنى وقفة ولم يقل هنا ﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾، كما في سورة هود اكتفاءً بما قبله، وهو قوله: ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾.
﴿وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾؛ أي: سيروا إلى المكان الذي أمركم بالذهاب إليه، وهو الشام أو مصر، أو زعر وهي قرية بالشام، وقيل الأردن، وقيل إلى حيث يأمركم جبريل، وذلك أن جبريل أمرهم أن يسيروا إلى قرية معينة، ما عمل أهلها عمل قوم لوط اهـ "خازن".
٦٦ - ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ﴾؛ أي: وأوحينا (٢) إلى لوط ذلك الأمر الذي حكمنا به على قومه، وفرغنا منه، ثم إنه سبحانه وتعالى فسر ذلك الأمر الذي قضاه بقوله: ﴿أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ﴾؛ أي: أن آخر هؤلاء المجرمين ﴿مَقْطُوعٌ﴾؛ أي: مهلك حالة كونهم ﴿مُصْبِحِينَ﴾؛ أي: داخلين في الصباح؛ أي: إن هؤلاء القوم يستأصلون عن آخرهم بالعذاب وقت الصبح؛ أي: يتم استئصالهم حال ظهور الصبح، حتى لا يبقى منهم أحد، وإنما أبهم الأمر الذي قضاه عليهم أولًا وفسره ثانيًا تفخيمًا له، وتعظيمًا لشأنه، وقرأ الأعمش (٣) وزيد بن علي: ﴿إنَّ دابر﴾ بكسر الهمزة، لمَّا ضمن ﴿قضينا﴾ بمعنى أوحينا، فكان المعنى أعلمنا، علق الفعل فكسر إن، أو لما كان القضاء بمعنى الإيحاء فمعناه القول، كسر إن يؤيِّده قراءة عبد الله: ﴿وقلنا إن دابر﴾ وهي قراءة تفسير لا قرآنٍ، لمخالفتها سواد المصحف، والمعنى:
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ﴾ فيرى ما ينزل بقومه فيرق قلبه لهم، وليوطن نفسه على الهجرة، ويطيب نفسًا بالانتقال إلى المسكن الجديد، ثم أكدوا هذا النهي بقولهم: ﴿وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾؛ أي: واذهبوا حيث يأمركم ربكم، غير ملتفتين إلى ما ورائكم، كالذي يتحسر على مفارقة وطنه، فلا يزال يلوي له أخاديده.
والخلاصة: أنهم أمروا بمواصلة السير، ونهوا عن التواني والتوقف، ليكون ذلك أقطع للعوائق وأحق بالإسراع للوصول إلى المقصد الحقيقيّ، وهو بلاد الشام.
ثم بين العلة في الأمر بالإسراع السريع فقال: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ﴾؛ أي: وأوحينا إليه أن ذلك الأمر مقضي مبتوت فيه، ثم فصل ذلك فقال: ﴿أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾؛ أي: إن آخر قومك وأولهم مجذوذ مستأصل صباح ليلتهم، ولا يبقى منهم أحدٌ، ونحو الآية: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾
٦٧ - ثم شرع يذكر ما صدر من القوم حين علموا بقدوم الأضياف، وما ترتب عليه مما أشير إليه أولًا على سبيل الإجمال فقال: ﴿وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ﴾؛ أي؛ أهل مدينة لوط المسماة بسذوم - بسين مهملة فذال معجمة، وأخطأ (١) من قال بمهملة - وهي التي ضرب بقاضيها المثل في الجور، ومدائن قوم لوط كانت أربعًا، وقيل سبعًا، وأعظمها سذوم، وفي "درياق الذنوب" لابن الجوزي: كانت خمسين قرية؛ أي: جاء أهل مدينة سذوم إلى منزل لوط حالة كونهم ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾؛ أي: يبشر (٢) بعضهم بعضًا بأضياف لوط، والاستبشار إظهار الفرح والسرور؛ أي: يظهرون الفرح والسرور بأضياف لوط طمعًا في ارتكاب الفاحشة منهم، وقالوا: نزل بلوط
(٢) الخازن.
٦٨ - فقال لهم لوط ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ المرد ﴿ضَيْفِي﴾؛ أي: أضيافي، وحق على الرجل إكرام ضيفه، وأفرد الضيف لأنه مصدر كما مر، والمراد أضيافي، وسماهم ضيفًا لأنه رآهم على هيئة الأضياف، وقومه رأوهم مرد حسان الوجوه، فلذلك طمعوا فيهم ﴿فَلَا تَفْضَحُونِ﴾؛ أي: فلا تظهروا عاري عندهم، فإن الضيف يجب إكرامه، فإذا قصدتموهم بالسوء.. كان ذلك إهانة فيَّ.
والمعنى: ﴿وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ﴾؛ أي (١): وجاء أهل مدينة سذوم حين سمعوا أن ضيفًا قد ضافوا لوطًا، حالة كونهم ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾؛ أي: مستبشرين بنزولهم مدينتهم طمعًا في ركوب الفاحشة منهم، وفي هذا إيماء إلى فظاعة فعلهم، إذ هم خالفوا ما جرى به العرف وركب في الأذواق السليمة، من إكرام الغريب وحسن معاملته، وقصدوا بهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين، وقد تقدم في سورة هود أن هذا المجيء قبل قول الملائكة: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾ فما في سورة هود على الترتيب الواقعي، وما هنا على خلافه، إلا أن يقال إن الواو لا تقتضي ترتيبًا اهـ شيخنا. وفي "الكرخي": وذكر القصة في هود بترتيب الوقوع، وهنا أخر ذكر مجيئهم عن قول الرسل: ﴿قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٦٤)﴾ مع تقدمه، ليستقل الأول ببيان كيفية نصرة الصابرين والثاني بتساوي الأمم، ذكره في "الفتوحات": روي أن امرأة لوط أخبرتهم بأنه نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح منهم وجهًا ولا أحسن شكلًا، فذهبوا إلى دار لوط طلبًا لهم، مظهرين اغتباطًا وسرورًا بهم، ثم أخبر عن مقالة لوط لقومه حين رآهم يقصدون به السوء. ﴿قَالَ﴾ لوط لقومه ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ الذين جئتموهم، تريدون منهم الفاحشة ﴿ضَيْفِي﴾؛ أي: أضيافي ﴿فَلَا تَفْضَحُونِ﴾ فيهم وأكرموني بترك التعرض لهم بمكروه،
٦٩ - ثم زاد النهي توكيدًا بقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: وخافوا الله فيَّ وفي أنفسكم، أن يحل بكم عقابه في مباشرتكم لما يسوءني، أو في ركوب الفاحشة، واحفظوا ما أمركم به ونهاكم
٧٠ - ثم أبانوا له أنه السبب في الفضيحة وفي هذا الخزي، كما ذكره الله سبحانه بقوله: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قوم لوط الذين جاؤوا إليه ﴿أَوَلَمْ نَنْهَكَ﴾ يا لوط ﴿عَنِ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: عن أن تضيف أحدًا من العالمين، أو تؤويه في قريتنا، إذ هم كانوا يتعرضون لكل غريب بالسوء، وكان لوط ينهاهم عن ذلك على قدر حوله وقوته، ويحول بينهم وبين من يتعرضون له، وكانوا قد نهوه عن التعرض لهم في مثل ذلك، وخلاصة مقالهم: أن ما ذكرت من الخزي والفضيحة أنت مصدره، والجالب له، فلولا تعرضك لنا.. ما أصابك ما أصابك.
قال في "الإرشاد": قوله: ﴿أَوَلَمْ نَنْهَكَ﴾ الهمزة (٢) فيه للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم نقدم إليك وألم ننهك عن التعرض لهم بمنعهم عنا، وكانوا يتعرضون لكل واحد من الغرباء بالسوء، وكان عليه السلام يمنعهم عن ذلك بقدر وسعه، وهم ينهونه عن أن يجير أحدًا، أو يوعدونه بقولهم: لئن لم تنته يا لوط.. لتكونن من المخرجين، وفي "الشوكاني" وغيره: إن الاستفهام للإنكار، وليس بصواب، لعدم صدق ضابط الإنكاري عليه، بل التقريري يصدق عليه لأنه حمل المخاطب على الإقرار بما بعد حرف النفي، كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ﴾ ولما رآهم (٣) لوط متمادين في غيِّهم، لا يرعوون عن غوايتهم، ولا يقلعون عما هم عليه..
٧١ - ﴿قَالَ﴾ لوط لقومه ﴿هَؤُلَاءِ﴾ النساء الموجودات بيننا ﴿بَنَاتِي﴾؛ أي: بنات قومي فأزوجهن إياكم، أو تزوجهوهن؛ أي: قال لوط لقومه تزوجوا النساء، ولا تفعلوا ما قد
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وفي الآيات فوائد:
الأولى: أن إكرام الضيف ورعاية الغرباء من أخلاق الأنبياء، وهو من أسباب الذكر الجميل، وفي الحديث: "من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وقرى الضيف.. دخل الجنة" كما في "الترغيب".
والثانية: أنه لا بد لكل مؤمن متق أن يسد باب الشر بكل ما أمكن له من الوجوه، ألا ترى أن لوطًا عليه السلام لما لم يجد مجالًا لدفع الخبيثين.. عرض عليهم بناته بطريق النكاح، وإن كانوا غير أكفاء دفعًا للفساد.
والثالثة: أن محل التمتع هي النساء لا الرجال، كما قالوا: ضرر النظر في الأمرد أشد، لامتناع الوصول إليه في الشرع، لأنه لا يحل الاستمتاع بالأمرد أبدًا.
٧٢ - ﴿لَعَمْرُكَ﴾؛ أي: لحياتك يا محمد قسمي؛ أي: أقسمت لك بحياتك ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن قوم لوط ﴿لَفِي سَكْرَتِهِمْ﴾؛ أي: لدائمون في سكرتهم وغوايتهم،
وقرأ الأشهب (١): ﴿سُكرتهم﴾ بضم السين، وابن أبي عبلة: ﴿سَكَراتِهم﴾ بالجمع، والأعمش: ﴿سَكْرِهم﴾ بغير تاء، وأبو عمرو في راوية الجهضمي: ﴿أنَّهم﴾ بفتح همزة ﴿أنَّهم﴾، والعمر (٢) والعُمْر بالفتح والضم واحد، وهو البقاء، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف، لأن الحلف كثير الدوران على ألسنتهم، ولذلك حذفوا الخبر تقديره: لعمرك قسمي، كما حذفوا الفعل في قولهم: تالله.
وقال القاضي عياض: اتفق (٣) أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جلَّ جلاله، بمدة حياة محمد - ﷺ -، وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي فقال: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى ها هنا بحياة محمد - ﷺ - تشريفًا له، قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله سبحانه وتعالى بحياةِ أحدٍ غير محمد - ﷺ -؛ لأنه أكرم البرية عنده تعالى، قال ابن العربي: ما الذي يمنع أن يقسم الله سبحانه وتعالى بحياة لوط؟ قال القرطبي: ما قاله حسن، وذكر صاحب "الكشاف" وأتباعه: أن هذا القسم هو من الملائكة على تقدير القول والمعنى عليه؛ أي: قالت الملائكة للوط وحياتك أيها الرسول إن قومك لفي ضلالتهم التي جعلتهم حيارى، لا يعرفون ما أحاط بهم من البلاء، ولا ماذا يصيبهم من العذاب المنتظر، لما أصابهم من عمى البصيرة، فهم لا يميزون الخطأ من الصواب، ولا الحسن من القبيح.
٧٣ - ثم ذكر سبحانه عاقبة أمرهم فقال: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾؛ أي: فأخذت قوم لوط وأهلكتهم ﴿الصَّيْحَةُ﴾ العظيمة، أو صيحة جبريل عليه السلام، حال كونهم
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
٧٤ - ثم بين سبحانه كيفية أخذها لهم ولقريتهم فقال: ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا﴾؛ أي: عالي المدينة وأعلاها وظاهرها أولًا أو عالي قرى قوم لوط ﴿سَافِلَهَا﴾؛ أي: أسفلها وباطنها وتحتها مقلوبة، وذلك بأن رفعناها إلى قريب من السماء على جناح جبريل، ثم قلبناها عليهم، فصارت منقلبة بهم، وكانت قراهم (٣) أربعة، فيها أربع مئة ألف مقاتل، وقوله: ﴿عَالِيَهَا﴾ مفعول أول لجعلنا، لأنه بمعنى صيرنا، و ﴿سَافِلَهَا﴾ مفعول ثان له، وهو أدخل في الهول والفظاعة من العكس.
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على أهل المدينة؛ أي: وأنزلنا عليهم في تضاعيف ذلك قبل تمام الإنقلاب، أو على من كان منهم خارجا عن المدينة، بأن كان غائبًا في سفر أو غيره ﴿حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾؛ أي: من طين مطبوخ بالنار متحجر مكتوب عليه اسم من يرمى به، فهلكوا بالخسف والحجارة، وفي "الكواش": وأمطرنا على شذاذهم؛ أي: على من غاب عن تلك البلاد، والمعنى (٤): أي: فجعلنا عالي المدينة - وهو ما على وجه الأرض - سافلها، فانقلبت عليهم،
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
(٤) المراغي.
وخلاصة ذلك: أنه تعالى أرسل عليهم ثلاثة أنوع من العذاب:
١ - الصيحة المنكرة الهائلة والصوت المفزع المخيف.
٢ - أنه قلب عليهم القرية فجعل عاليها سافلها.
٣ - أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل.
٧٥ - ثم ذكر أن في هذا القصص عبرة لمن اعتبر فقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن فيما ذكر من القصة من تعرض قوم لوط لضيف لوط طمعًا فيهم، وقلب المدينة على من فيها، وإمطار الحجارة عليها وعلى من غاب منهم ﴿لَآيَاتٍ﴾؛ أي: لعلامات يستدل بها على حقية الحق، وعبرات يعتبر بها، ﴿لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾؛ أي: للمتفكرين المتفرسين الذين يتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته.
أي: إن فيما فعلناه بقوم لوط من الهلاك والعذاب لدلالات للمفكرين، الذين يصبرون ما يحدث في الكون من عظات وعبر، ويستدلون بذلك على ما يكون لأهل الكفر والمعاصي من عقاب بئيس بما كانوا يكسبون.
أخرج البخاري في "التاريخ"، والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو نعيم وابن مردويه؛ عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - ﷺ -: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى" ثم قرأ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)﴾ والفراسة (١) ما يوقعه الله في قلوب الصلحاء، فيعلمون بذلك أحوال الناس بالحدس والظن (٢) ما يحصل بدلائل التجارب والأخلاق، وقد صنف الناس في القديم والحديث كتبًا في ذلك، وبعض العلماء يجعلها دليلًا يحكم به، كما فعل إياس بن معاوية؛ كان قاضيًا ذكيًّا في عهد التابعين،
٧٦ - ثم لفت أنظار أهل مكة إلى الاعتبار بها لو أرادوا، فقال: ﴿وَإِنَّهَا﴾، أي: قوى قوم لوط ﴿لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾؛
(٢) المراغي.
٧٧ - ثم أيْأَسَ من اعتبارهم بها، إذ هي لا يعبر بها إلا المؤمنون، فقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي (٢): إن فيما فعلناه بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطًا وأهله ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لدلالة جلية واضحة، وعبرة عظيمة ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ المصدقين بالله ورسله، إذ هم يعرفون أن ذلك إنما كان انتقامًا من الله لأنبيائه من أولئك الجهال، الذين عصوا أمر ربهم، وكفروا برسله، ولم يرعووا عن غيهم وضلالهم، بعد إنذارهم ونصحهم.
أما الذين لا يؤمنون باللهِ فيجعلون ذلك حوادث كونية، لأسباب فلكية وشؤون أرضيةٍ، جَعلت الأرض تنهار لحدوث فراغ في بعض أجزائها، كما يشاهد اليوم في البلاد ذات البراكين من اختفاء بلاد في باطن الأرض، وابتلاع الأرض لها، كما حدث في مدينة مسينا بإيطاليا سنة ١٩٠٩، وظهور جزائر في وسط المحيطات لم تكن من قبل.
وإفراد (٣) الآية هنا بعد جمعها فيما سبق، لما أن المشاهد ها هنا بقية الآثار لا كل القصة، كما فيما سلف، وقال في "برهان القرآن": ما جاء في القرآن من الآيات فلجمع الدلائل، وما جاء من الآية فلوحدانية المدلول عليه، فلما ذكر عقيبه المؤمنين، وهم مقرون بوحدانية الله تعالى.. وحد الآية. انتهى.
وفي الآيات فائدتان:
الأولى: مدح الفراسة، وهي الإصابة في النظر.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
٧٨ - وبعد أن ذكر قصص قوم لوط.. أتبعه بقصص قوم شعيب - عليهما السلام - فقال: ﴿وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ﴾ إن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف، والأيكة الغيضة، وهي جماع الشجر، أي: وإنه كان أصحاب بقعة الأشجار المجتمعة، وهم قوم شعيب - عليه السلام - وكانوا يسكنونها، وكان عامة أشجارهم الدوم، وقيل الأيكة اسم القرية التي كانوا فيها، وقال أبو عبيدة: الأيكة وليكة مدينتهم كمكة وبكة، ﴿لَظَالِمِينَ﴾ أنفسهم وغيرهم بتكذيبهم رسل الله تعالى؛ أي: إن أصحاب الأيكة كانوا بجبلتهم ظالمين كفارًا، ليس لديهم استعدادٌ للإيمان بالله ورسله، أرسل الله تعالى إليهم وإلى أهل مدين شعيبًا فكذبوه، وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهم شعيبًا عليه السلام".
٧٩ - ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ جزاء ما دنسوا به أنفسهم من الكفر والمعاصي؛ أي؛ فأهلكناهم وعاقبناهم لما كذبوا شعيبًا، روي أن (١) الله سبحانه وتعالى سلَّط عليهم الحر سبعة أيام، حتى أخذ بأنفاسهم، وقربوا من الهلاك، فبعث الله لهم سحابة كالظلة، فالتجأوا إليها واجتمعوا تحتها، للتظلل بها، فبعث الله عليهم منها نارًا فأحرقتهم جميعًا، فهو عذاب يوم الظلة، ونعم ما قيل، والشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم ﴿وَإِنَّهُمَا﴾؛ أي: وإن مدينة أصحاب الأيكة ومدينة قوم لوط ﴿لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: لبطريق واضح يأتمون به في سفرهم، ويهتدون به في مسيرهم؛ أي: يمر أهل مكة عليهما في سفرهم إلى الشام للتجارة، وقال الفراء والزجاج: سمي الطريق
٨٠ - ثم إن الله سبحانه ختم القصص بقصة ثمود فقال: ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠)﴾ والحجر (١) بكسر الحاء وسكون الجيم اسم لأرض ثمود قوم صالح - عليه السلام - بين المدينة والشام، عند وادي القرى التي كانوا يسكنونها، وكانوا عربًا، وكان صالح - عليه السلام - من أفضلهم نسبًا، فبعثه الله إليهم رسولًا - وهو شاب - فدعاهم حتى شمط، ولم يتبعه إلا قليل مستضعفون، وقال (٢): ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ ولم يرسل إليهم إلا صالح لأن من كذب واحدًا من الرسل.. فقد كذب الباقين، لكونهم متفقين في الدعوة إلى الله، وقيل: كذبوا صالحًا ومن تقدمه من الأنبياء، وقيل: كذبوا صالحًا ومن معه من المؤمنين.
أي: وعزتي وجلالي لقد كذب ثمود نبيهم صالحًا - عليه السلام - ومن كذب رسولًا من رسل الله.. فكأنما كذب الجميع، لاتفاق كلمتهم على التوحيد، والأصول العامة التي لا تختلف باختلاف الأمم والأزمان
٨١ - ﴿وَآتَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: وآتينا ثمود وأريناهم ﴿آيَاتِنَا﴾؛ أي: حججنا الدالة على نبوة صالح - عليه السلام - الناقة وغيرها، وقيل الآية: الناقة فقط، وإنما جمعها لأن فيها آيات جمة، كخروجها من الصخرة، ودنو نتاجها عند خروجها، وعظمها وكثرة لبنها، وإنما (٣) أضاف الآية إليهم وإن كانت لصالح؛ لأنه مرسل إليهم بهذه الآيات ﴿فَكَانُوا عَنْهَا﴾؛ أي: عن تلك الآيات ﴿مُعْرِضِينَ﴾؛ أي: تاركين لها، غير ملتفتين إليها، ولا معتبرين بها، ولهذا عقروا الناقة، وخالفوا ما أمرهم به نبيهم
٨٢ - ﴿وَكَانُوا﴾؛ أي: وكان قوم صالح ﴿يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ﴾؛ أي: ينجرون وينقرون ﴿بُيُوتًا﴾ ومساكن من الجبال بالمعاويل ويثقبونها فيها حالة كونهم ﴿آمِنِينَ﴾ فيها من الانهدام، ونقب اللصوص وتخريب الأعداء، لوثاقتها، ومن الموت لاغترارهم بطول الأعمار، فهي حال مقدرة، أو من العذاب والحوادث لفرط غفلتهم، أو حسبانهم أن
(٢) الشوكاني.
(٣) الخازن.
٨٣ - ثم ذكر ميقات هلاكهم فقال: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾؛ أي: أهلكتهم صيحة من السماء فيها صوت صاعقةٍ، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم حالة كونهم ﴿مُصْبِحِينَ﴾؛ أي: داخلين في وقت الصبح؛ أي: فأخذتهم صيحة الهلاك حين كانوا في صحوة اليوم الرابع من اليوم الذي أوعدوا فيه بالعذاب، كما جاء في قوله: ﴿فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ وفي (٢) سورة الأعراف ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾؛ أي: الزلزلة، ولعلها من لوازم الصيحة المستشبعة لتموج الهواء تموجًا شديدًا، يفضي إليها، فهي مجاز عنها، وقوله ﴿مُصْبِحِينَ﴾ حال من الضمير المنصوب؛ أي: داخلين في وقت الصبح ذهب اليوم الرابع، وهو يوم الأحد، والصبح يطلق على زمان ممتد إلى الضحوة، وأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم، وفي الثاني احمرت، وفي الثالث اسودت؛ فلما كملت الثلاثة.. صح استعدادهم للفساد والهلاك، فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه العداء.
٨٤ - ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ﴾؛ أي: فما دفع عنهم ما نزل بهم من عذاب الله ﴿مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ من نحت البيوت وجمع الأموال، وكثرة العدد وجمع العدد، بل خروا جاثمين هلكى حين حل بهم قضاء الله تعالى، روي (٣) أن صالحًا - عليه السلام - انتقل بعد هلاك قومه إلى الشام بمن أسلم معه، فنزلوا رملة فلسطين، ثم انتقل إلى مكة فتوفي بها، وهو ابن ثمان وخمسين سنةً، وكان أقام في قومه عشرين سنة، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال لما مر رسول الله - ﷺ - بالحجر وهو ذاهب إلى تبوك قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين" ثم قنع رأسه، أسرع السير حتى جاوز الوادي، متفق عليه.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
٨٥ - ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾؛ أي: وما بين جنس السموات والأرضين، ولو أراد بين أجزاء المذكور.. لقال بينهن، وفيه إشارة إلى أن أصل السموات واحدة عند بعضهم، ثم قست كذا في "الكواشي". ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ أي: إلا (٢) خلقًا متلبسًا بالحق والحكمة لا باطلًا وعبثًا، أو للحق والحكمة، والباء توضع موضع اللام، يعني لينظر عبادي إليهما فيعتبروا، والمراد بالحق ما فيهما من الفوائد والمصالح، وقيل المراد بالحق مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، كما في قوله سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ وقيل المراد بالحق الزوال؛ لأنها مخلوقة وكل مخلوق زائلٌ، ﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ﴾ أي (٣): القيامة لتوقعها كل ساعة كما في "المدارك" وقال ابن مالك: هي اسم لوقت تقوم فيه القيامة، سمي بها لأنها ساعة خفية يحدث فيها أمرٌ عظيم، وقال ابن الشيخ سميت الساعة ساعةً لسعيها إلى جانب الوقوع، ومسافتها الأنفاس.
﴿لَآتِيَةٌ﴾ أي: لكائنة لا محالة، فينتقم الله سبحانه لك يا محمد فيها من أعدائك، وهم المكذبون، ويجازيك على حسناتك ويجازيهم على سيئاتهم، فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا ليجازي كل محسن بإحسانه، وكل مسيء بإساءته، وفيه وعيد للعصاة وتهديد لهم.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
٨٦ - وخلاصة ذلك (١): خالقهم بخلق حسن، وتأن عليهم واحلم وأنذرهم، وادعهم إلى ربك قبل أن تقاتلهم ﴿إن ربك﴾ الذي يبلغك يا محمد إلى غاية الكمال ﴿هُوَ الْخَلَّاقُ﴾ لك ولهم ولسائر الموجودات على الإطلاق ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأحوالك وأحوالهم بتفاصيلها، فلا يخفى عليه شيء مما جرى بينك وبينهم، فهو حقيق بأن تَكِل جميع الأمور إليه، ليحكم بينك وبينهم، وقد علم أن الصفح الجميل أولى بهم، إلى أن يحكم السيف بينك وبينهم، وفي الآية (٢) أمر بالمخالقة بالخلق الحسن، وكان النبي - ﷺ - أحسن الناس خلقًا، وأرجح الناس حلمًا، وأعظم الناس عفوًا، وأسخى الناس كفًّا.
٨٧ - ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أعطيناك يا محمد سبع آيات تسمى بالمثاني، وهي الفاتحة، سميت بذلك لأنها تثنى وتكرر في كل ركعة من الصلاة، وهذا قول عمر وعليّ وابن مسعود وأبي هريرة، والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة، لما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "أم القرآن السبع المثاني التي أعطيتها"، أو لأنها قسمت قسمين: ثناء ودعاء، وقد روي أن النبي - ﷺ - قال يقول الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"، وأعطيناك أيضًا ﴿وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾: وأكرمناك به، فهو معطوف على سبعًا من المثاني، ويكون من عطف العام على الخاص؛ لأن الفاتحة بعض من القرآن، وتخصيص الفاتحة بالذكر من بين القرآن الكريم لمزيد فضلها، على نحو ما جاء في قوله: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾، وقيل (٣): السبع المثاني هي السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
٨٨ - ثم لما بين الله سبحانه لرسوله - ﷺ - ما أنعم به عليه من هذه النعمة الدِّينية.. نفره عن اللذات العاجلة الزائلة فقال: ﴿لَا تَمُدَّن عَينَيكَ﴾؛ أي: نظر عينيك، ولا تطمح ببصرك طموح راغب، ولا تدم نظرك ﴿إِلَى مَا مَتَّعْنَا﴾؛ أي: إلى ما أعطينا به ﴿أَزْوَاجًا﴾؛ أي: رجالًا ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي الكفرة من متاع الدنيا وزخارفها، فإن ما في الدنيا بالنسبة إلى ما أعطيت مستحقر؛ أي (١): لا تتمنين أيها الرسول ما جعلنا من زينة الدنيا متاعًا للأغنياء من اليهود والنصارى والمشركين، فإن من وراء ذلك عقابًا غليظًا، والخطاب وإن كان موجَّهًا إلى النبي - ﷺ -، فهو تعليم لأمته كما تقدم مثله، يؤيد هذا ما سبق في أسباب نزول الآية، وإن كان ضعيفًا، من أنه أتت من بصرى وأذرعات سبع قوافل لقريظة والنضير إلخ، وخلاصة ذلك لقد أوتيت النعمة العظمى، التي إذا قيست بها كل النعم كانت حقيرةً، فقد أوتيت سبع آيات هي خير من السبع القوافل، ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على الكفرة؛ أي: لا تحزن ولا تتأسف لأجل عدم إيمانهم حيث (٢) لم يؤمنوا، ولم ينتظموا في سلك أتباعك، ليتقوى بهم ضعفاء المسلمين؛ لأن تَقْدُيري عليهم الكُفْرُ، وقد كان - ﷺ - يود أن
(٢) روح البيان.
٨٩ - ثم بين وظيفة الرسول - ﷺ - فقال: ﴿وَقُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: المنذر لقومه ما يصيبهم من عذاب الله، إن لم يؤمنوا؛ أي (٢): أنا النذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تماديهم في غيهم، كما حل بمن تقدم من الأمم المكذبة لرسلها، فانتقم الله منهم لإنزال العذاب بهم.
وفي "الصحيحين": عن أبي موسى الأشعري إن النبي - ﷺ - قال: "إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق"،
٩٠ - وقوله: ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠)﴾ هو (٣) من قول الله تعالى، لا من قول الرسول - ﷺ -، متعلق بقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ﴾ لأنه بمعنى أنزلنا؛ أي: أنزلنا عليك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم، إنزالًا مماثلًا لإنزال الكتابين التوراة والإنجيل، على اليهود والنصارى المقتسمين؛ أي:
٩١ - ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ﴾ المنزل عليك يا محمد ﴿عِضِينَ﴾؛ أي: أجزاء؛ أي: الذين اقتسموا القرآن وجزؤوه وجعلوه أجزاءً، فآمنوا ببعضه الذي وافق كتابيهما، وكفروا بعضه وهو ما خالفهما، أخرج هذا المعنى البخاري وسعيد بن منصور
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وفي "القرطبي": واختلف في المقتسمين على أقوال سبعة (٢):
الأول: قال مقاتل والفراء: هم ستة عشر رجلًا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا أعقاب مكة وأنقابها وفجاجها، يقولون لمن سلكها لا تغتر بهذا الخارج فينا يدعي النبوة، فإنه مجنون، وربما قالوا ساحرٌ، وربما قالوا شاعرٌ، وربما قالوا كاهنٌ، وسموا المقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق، فأماتهم شر ميتةٍ، وكانوا نصبوا الوليد بن المغيرة حكمًا على باب المسجد، فإذا سألوه عن النبي - ﷺ -.. قال صدق أولئك.
الثاني: قال قتادة: هم قوم كفار من قريش اقتسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعرًا، وبعضه سحرًا، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين.
الثالث: قال ابن عباس: هم أهل الكتاب آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه،
الرابع: قال عكرمة: هم أهل الكتاب، وسموا مقتسمين لأنهم كانوا مستهزئين، فيقول بعضهم هذه السورة لي وهذه لك.
الخامس: قال قتادة: اقتسموا كتابهم ففرقوه وبدَّدوه.
السادس: قال زيد بن أسلم: المراد قوم صالح تقاسموا على قتله، فسموا مقتسمين، كما قال تعالى: ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾.
(٢) القرطبي.
٩٢ - وبعد أن بين وظيفة الرسول، ذكر أن الحساب على الأعمال موكولٌ إلى الله سبحانه، لا إليه فقال: ﴿فَوَرَبِّكَ﴾؛ أي؛ فأقسمت لك يا محمد بربك الذي ربَّاك بالوحي ﴿لَنَسْأَلَنَّهُمْ﴾؛ أي (١): لنسألن أصناف الكفرة من المقتسمين وغيرهم، سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال استعلام، بأن يقال لم فعلتم كذا وكذا، فلا يعارض قوله تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (٣٩)﴾؛ أي: لا يسألون أي شيء فعلتم ليعلم ذلك من جهتهم؛ لأن المنفي في هذه الآية سؤال استعلام، لأن سؤال الاستعلام محال على الملك العلام، ويجوز أن يكون السؤال مجازًا من المجازاة، لأنه سببها؛ أي: فوربك لنسألن الكفرة ﴿أَجْمَعِينَ﴾ يوم القيامة
٩٣ - ﴿عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)﴾ في الدنيا من قول وفعل وتركٍ، والمعنى (٢)؛ أي: فلنسألن الكفار جميعًا يوم القيامة، سؤال تأنيبٍ وتوبيخٍ لهم على ما كانوا يقولون ويفعلون فيما بعثناك به إليهم، وفيما دعوناهم إليه من الإقرار بي وبتوحيدي والبراءة من الأنداد والأوثان.
٩٤ - وبعد أن ذكر أن وظيفته التبليغ، شدد عليه في الجهر به جهد المستطاع فقال: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾؛ أي: فاجهر بإبلاغ ما أمرت بتبليغه من الشرائع وأظهره، وافرق بين الحق والباطل ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: وأعرض عن الاهتمام باستهزائهم، ولا تبال بهم، ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة وتبليغ الرسالة، ولا تخفهم، فإن الله كافيكهم وحافظك منهم، وهذا ليس بمنسوخ؛ لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم،
٩٥ - ولمَّا (٣) كان هذا الصدع شديدًا عليه، لكثرة ما يلاقيه من أذى المشركين. ذكر أنه حارسه وكالئه منهم، فلا يخشى بأسهم فقال: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)﴾؛ أي: إنا كفيناك يا محمد شر المستهزئين وضررهم، الذين يسخرون منك ومن القرآن، وهم طائفة من
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
٩٦ - ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال: ﴿الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾؛ أي: هم الذين اتخذوا مع الله إلهًا آخر، يعبدونه من دون الله تعالى، وفي وصفهم بهذا الوصف تسلية لرسوله - ﷺ -، وتهوينٌ للخطب عليه، إذ أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء بمقام النبوة، بل تعدوا إلى الإشراك بربهم المدبر لأمورهم، والمحسن إليهم، ثم توعدهم على ما كانوا يصنعون فقال: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ عاقبة أمرهم حين يحل بهم عذاب ربهم، يوم تجزى كل نفس بما عملت، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
٩٧ - وبعد أن سلّاه بكفاية شرهم ودفع مكرهم، ذكر تسلية أخرى فقال: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ﴾ يا محمد ﴿بِمَا يَقُولُونَ﴾؛ أي: بما يقول المشركون من الأقوال الكفرية الاستهزائية، المتضمنة للطعن على رسول الله - ﷺ - بالسحر والجنون والكهانة والكذب، وقد كان يحصل ذلك مع رسول الله - ﷺ - بمقتضى الجبلية البشرية، والمزاج الإنساني،
٩٨ - ثم أمره (١) سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله سبحانه وحمده فقال: ﴿فَسَبِّحْ﴾ يا محمد ونزه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق به حالة كونك متلبسًا ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾؛ أي: متلبسًا
٩٩ - ثم أَمره بعبادة ربه؛ أي: بالدوام عليها بقوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ﴾ إلى غاية هي قوله: ﴿حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾؛ أي: الموت المتيقن، قال الزجاج: المعنى (١) اعبد ربك أبدًا؛ لأنه لو قيل اعبد ربك بغير توقيت.. لجاز إذا عبد الإنسان مرةً أن يكون مطيعًا، فإذا قال حتى يأتيك اليقين فقد أمره بالإقامة على العبادة أبدًا ما دام حيًّا، والمعنى (٢)؛ أي: إذا نزل بك الضيق ووجهت نفسك فافزع إلى ربك، ونزهه عما يقولون، حامدًا له على توفيقك للحق، وهدايتك إلى سبيل الرشاد، وصلِّ آناء الليل وأطراف النهار، فإن في مناجاة ربك ما يقربك إلى حضرة القدس، ويسمو نفسك إلى الملا الأعلى كما ورد في الحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، ودم على ما أتت عليه، طالبًا المزيد من فضله، حتى يأتيك الموت، فهناك الجزاء بلا عملٍ، وهنا العمل ولا جزاء، وقصارى ذلك: أنه تعالى أرشده إلى كشف ما يجده في نفسه من الغم بفعل الطاعات، والإكثار من العبادات، وقد كان - ﷺ - إذا حزبه أمر واشتدَّ عليه خطب.. فزع إلى الصلاة، روى أحمد عن ابن عمر أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره " وفي هذه (٣) دلالة على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على المرء ما دام ثابت العقل، روى البخاري عن ابن عمران بن حصين أن رسول الله - ﷺ - قال: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع.. فقاعدًا، فإن لم تستطع.. فعلى جنب"، اللهم وفقنا لطاعتك، واهدنا لعبادتك، واجعلنا من المتقين الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
الإعراب
﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢)﴾.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
﴿قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿بَلْ جِئْنَاكَ﴾ إلى قوله: ﴿وَقَضَيْنَا﴾ مقولٌ محكي، وإن شئت قلت: ﴿بَلْ﴾: حرف ابتداء وإضراب عن محذوف، إضرابًا إبطاليًّا تقديره: ما جئناك بما تنكرنا لأجله، ﴿جِئْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه ﴿فِيهِ﴾: متعلق بما بعده، وجملة ﴿يَمْتَرُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿فِيهِ﴾.
﴿وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)﴾.
﴿وَأَتَيْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور، متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿أَتَيْنَاكَ﴾، تقديره: حالة كوننا متلبسين بالحق، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿بَلْ جِئْنَاكَ﴾ على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾: ناصب واسمه وخبره، واللام حرف ابتداء، والجملة الاسمية في محل النصب حال ثانية من فاعل ﴿أتيناك﴾. ﴿فَأَسْرِ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿أسر﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة في محل النصب معطوفة على قوله ﴿وَأَتَيْنَاكَ﴾. ﴿بِأَهْلِكَ﴾: جار ومجرور، حال
﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧)﴾.
﴿وَقَضَيْنَا﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿قَضَيْنَا﴾ ﴿ذَلِكَ﴾: مفعول، ﴿الْأَمْرَ﴾: بدل من اسم الإشارة أو عطف بيان منه، ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب، ﴿دَابِرَ هَؤُلَاءِ﴾: اسمها ومضاف إليه، ﴿مَقْطُوعٌ﴾: خبر ﴿أَنَّ﴾ ﴿مُصْبِحِينَ﴾: حال من الضمير المستتر في ﴿مَقْطُوعٌ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر منصوب على البدلية من اسم الإشارة، أو من الأمر، تقديره: وقضينا إليه ذلك الأمر قطع دابر هؤلاء مصبحين، أو مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وقضينا إليه ذلك الأمر بقطع دابر هؤلاء ﴿وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وجملة ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ في محل النصب حال من ﴿أهْلُ الْمَدِينَةِ﴾.
﴿قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (٦٩)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة مستأنفة، ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ ناصب واسمه، ﴿ضَيْفِي﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿لا﴾ ناهية جازمة، ﴿تَفْضَحُونِ﴾: فعل مضارع
﴿قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (٧٠) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَوَلَمْ نَنْهَكَ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التقريري داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم نقدم لك ولم ننهك، ﴿لَمْ نَنْهَكَ﴾: جازم وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على قوم لوط ﴿عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة مستأنفة ﴿هَؤُلَاءِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾: جازم وفعل ناقص واسمه وخبره، والجملة فعل شرط لـ ﴿إن﴾، والجواب محذوف تقديره: إن كنتم فاعلين قضاء الشهوة فيما أحل الله.. فتزوجوا بناتي، والجملة الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿لَعَمْرُكَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿عمرك﴾: مبتدأ ومضاف إليه، والخبر محذوف وجوبا لسد جواب القسم مسده والتقدير: لعمرك قسمي، وجملة القسم مستأنفة، ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿لَفِي﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿فِي سَكْرَتِهِمْ﴾: جار ومجرور خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إن﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿يَعْمَهُونَ﴾ في محل النصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت استمرارهم في غوايتهم، وأردت بيان عاقبة أمرهم.. فأقول: أخذتهم الصيحة ﴿أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، ﴿مُشْرِقِينَ﴾: حال من ضمير المفعول، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة. ﴿فَجَعَلْنَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿جعلنا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَالِيَهَا﴾: مفعول أول، ﴿سَافِلَهَا﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾. ﴿وَأَمْطَرْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿جعلنا﴾، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به ﴿حِجَارَةً﴾: مفعول به، ﴿مِنْ سِجِّيلٍ﴾: صفة لـ ﴿حِجَارَةً﴾.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (٧٨)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم، ﴿لَآيَاتٍ﴾: اسمها مؤخر، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾: صفة لآيات، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿وَإِنَّهَا﴾: ناصب واسمه ﴿لَبِسَبِيلٍ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء؛ ﴿بِسَبِيلٍ﴾: جار ومجرور خبره، ﴿مُقِيمٍ﴾: صفة ﴿سبيل﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ الأولى، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم، ﴿لَآيَةً﴾: اسمها مؤخر، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: صفة ﴿لَآيَةً﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن ﴿كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ﴾ فعل ناقص واسمه ومضاف إليه، ﴿لَظَالِمِينَ﴾: خبره، و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ المخففة، وجملة ﴿إن﴾ المخففة مستأنفة.
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠)
﴿فَانْتَقَمْنَا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت كونهم ظالمين، وأردت بيان عاقبة أمرهم.. فأقول لك انتقمنا، ﴿انتقمنا﴾ فعل وفاعل، ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿وَإِنَّهُمَا﴾: ناصب واسمه ﴿لَبِإِمَامٍ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿بإمام﴾: جار ومجرور خبر ﴿إن﴾ ﴿مُبِينٍ﴾: صفة ﴿إمام﴾، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على جملة ﴿انْتَقَمْنَا﴾ على كونهم مقولًا لجواب إذا المقدرة، ﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾: مفعول به، ﴿وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا﴾: فعل وفاعل ومفعولان؛ لأن آتى بمعنى أعطى، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿كَذَّبَ﴾. ﴿فَكَانُوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿كانوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿عَنْهَا﴾: متعلق بما بعده، ﴿مُعْرِضِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة ﴿آتيناهم﴾.
﴿وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)﴾.
﴿وَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَنْحِتُونَ﴾ خبره، ﴿مِنَ الْجِبَالِ﴾: حال مقدرة من ﴿بُيُوتًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿بُيُوتًا﴾: مفعول، ﴿آمِنِينَ﴾: حال من فاعل ﴿يَنْحِتُونَ﴾ وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم وظلمهم، وأردت بيان عاقبتهم.. فأقول لك ﴿أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، ﴿مُصْبِحِينَ﴾: حال من ضمير المفعول، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة، ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿ما﴾: نافية ﴿أَغْنَى﴾: فعل ماض، ﴿عَنْهُمْ﴾ متعلق به، ﴿مَا﴾: اسم موصول، أو موصوفة في محل الرفع فاعل،
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ما﴾ نافية، ﴿خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة مستأنفة ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف ومضاف إليه صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور، صفة لمصدر محذوف تقديره: إلا خلقًا متلبسًا بالحق.
﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨٦)﴾.
﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ﴾ ناصب واسمه وخبره، و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، والجملة مستأنفة، ﴿فَاصْفَحِ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الساعة آتية، وأن الله ينتقم من أعدائك.. فأقول لك اصفح، ﴿اصْفَحِ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿الصَّفْحَ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، ﴿الْجَمِيلَ﴾: صفة لـ ﴿الصَّفْحَ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْخَلَّاقُ﴾. خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿الْعَلِيمُ﴾ صفة له، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿آتَيْنَاكَ سَبْعًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة جواب للقسم
﴿وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)﴾.
﴿وَقُلْ﴾: فعل أمر معطوف على ﴿اخْفِضْ﴾، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ﴾: مقولٌ محكيٌّ، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿أَنَا﴾: ضمير فصل، أو تأكيد لياء المتكلم، ﴿النَّذِيرُ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾. ﴿الْمُبِينُ﴾: صفةٌ له، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قل﴾ ﴿كَمَا﴾ ﴿الكاف﴾: صفة لمصدر محذوف معمول لآتيناك سبعًا من المثاني؛ لأنه بمعنى أنزلنا، ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صفةٌ لمصدر محذوف، تقديره: ولقد أنزلنا عليك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم إنزالًا مثل إنزالنا على المقتسمين، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْمُقْتَسِمِينَ﴾. ﴿جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول، ﴿فَوَرَبِّكَ﴾ ﴿الفاء﴾: استثنائية، ﴿وربك﴾ جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بربك يا محمد، وجملة القسم مستأنفة، ﴿لَنَسْأَلَنَّهُمْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿نسألنهم﴾: فعل ومفعول أول، ونون
﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)﴾:
﴿فَاصْدَعْ﴾ الفاء فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك. اصدع بما تؤمر، ﴿اصدع﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمدٍ، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿تُؤْمَرُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على محمد، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما تؤمر به، ﴿وَأَعْرِضْ﴾: فعل أمر معطوف على اصدع، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾: متعلق به، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: صفة للمستهزئين، ﴿يَجْعَلُونَ﴾ فعل وفاعل، ﴿مَعَ اللَّهِ﴾: متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني لجعل، ﴿إِلَهًا﴾: مفعول أول، ﴿آخَرَ﴾: صفة له، والجملة صلة الموصول، ﴿فَسَوْفَ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿سوف﴾: حرف استقبال وتنفيس، ﴿يَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والمفعول محذوف، تقديره: فسوف يعلمون عاقبة أمرهم، والجملة مستأنفة، ويحتمل كون ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ خبره، والفاء رابطة الخبر بالمبتدأ لما في المبتدأ من
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)﴾.
﴿فَسَبِّحْ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك... فأقول لك سبح بحمد وبك، ﴿سبح﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿سبح﴾ تقديره: حالة كونك متلبسًا بحمد ربك، والجملة الفعلية في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدرة، ﴿وَكُنْ﴾ فعل أمر ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود على محمد، ﴿مِنَ السَّاجِدِينَ﴾: خبر ﴿كُنْ﴾، وجملة ﴿كُنْ﴾ في محل النصب معطوف على ﴿سبح﴾ ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة ﴿سبح﴾، ﴿حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾، والتقدير: وأعبد ربك إلى إتيان اليقين، الجار والمجرور معلق بـ ﴿اعْبُدْ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾؛ أي: اذهب بهم ليلًا، والقطع من الليل الطائفة منه، كما قال:
افتحي البَابَ وانظُري في النُّجُوم | كم علينا مِن قِطْعِ لَيلٍ بَهِيمِ |
﴿لعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ﴾ والعمر والعمر بالفتح والضم الحياة، وإذا أريد به القسم تفتح عينه، وقيل والعمر بالفتح لغة في العمر بضمتين، فهما بمعنى واحد، وهو مدة عيش الإنسان؛ أي: مدة حياته في الدنيا، لكن لم يرد القسم في كلام العرب إلا بالضبط الأول؛ أي: فتح اللام وفتح العين المهملة اهـ شيخنا، وفي "السمين": لعمرك مبتدأ محذوف الخبر وجوبًا، و ﴿إِنَّهُمْ﴾ وما في حيزه جواب القسم، تقديره: لعمرك قسمي أو يميني إنهم... إلخ، والعمر بالفتح والضم هو البقاء، إلا إنهم التزموا الفتح في القسم، قال الزجاج: لأنه أخف عليهم، وهم يكثرون القسم بعمرك، وفي "الدر المنثور" وعمرك بفتح العين وسكون الميم لغة في العمر بضمهما، وهو اسم لمدة عمارة بدن الإنسان بالحياة والروح.
﴿لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾؛ أي: في غوايتهم وضلالهم يتحيرون، ويقال عمه يعمه من باب تعب، إذا تحير، كما في "المختار".
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ والصيحة الصاعقة، وكل شيء أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة، أخرجه ابن المنذر عن ابن جرير، ﴿مُشْرِقِينَ﴾؛ أي: داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس وطلوعه، و ﴿السجيل﴾ الطين المتحجر، وهو معرب لا عربيٌّ في المشهور، وفي "القاموس": السجيل كسكيت حجارة كالمدر معرب. سَنْكِ وكل اهـ. ﴿لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾؛ أي: للمتفكرين، يقال توسمت في فلان كذا؛ أي:
إِنِّي تَوَسَّمْتُ فِيْكَ الخَيْرَ أَعْرِفُهُ | وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ الْبَصَرِ |
﴿وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا﴾ هي الناقة، وفيها آيات كثيرة: كعظم خلقها، وكثرة لبنها، وكثرة شربها كما مر، ﴿وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ﴾؛ أي: يخرقون فيها بيوتًا بالمعاويل، حتى تصير مساكن من غير بنيان يسكنونها زمن الشتاء، والنحت في كلام العرب البري والنجر، يقال تحته ينحته بالكسر نحتًا - من باب ضرب - إذا براه ونقبه، والجبال جمع جبل، قال في "القاموس": الجبل محركة كل وتد للأرض عظم وطال، فإن انفرد فأكمة، أو قنة ﴿بيُوُتًا﴾ جمع بيت، وهو اسم مبنى
و ﴿الصَّفْحَ﴾ ترك التثريب واللوم، والصفح الجميل ما خلا من العتب ﴿مِنَ الْمَثَانِي﴾ جمع مثنى من التثنة، وهو التكرير والإعادة، ﴿لَا تَمُدَّنَّ﴾ يقال مد عينيه إلى مال فلان: اشتهاه وتمناه، ﴿أَزْوَاجًا﴾ جمع زوج، وهو الصنف، وخفض الجناح يراد به التواضع واللين، وأصل ذلك أن الطائر إذا أراد أن يضم فرخه إليه.. بسط جناحه، والجناحان من الإنسان جانباه، و (﴿النَّذِيرُ﴾ المخوف بعذاب الله من لا يؤمن به.
﴿عِضِينَ﴾؛ أي: أجزاء، واحدها عضةٌ من عضيت الشاة، جعلتها أعضاء وأقسامًا، وفي "البيضاوي" عضين جمع عضة، وأصلها عضوة فعلة، من عضى الشاة إذا جعلها أعضاءً وأجزاء، فيكون المعنى على هذا: الذين جعلوا القرآن أجزاء متفرقة، بعضه شعرٌ وبعضه سحرٌ وبعضه كهانةٌ ونحو ذلك، وقيل هو مأخوذ من عضته إذا بهته، فالمحذوف منه الهاء لا الواو، وفي "المختار": قال الكسائيُّ: العضة الكذب والبهتان، وجمعها عضون، مثل عزة وعزون، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)﴾ قيل ونقصان الواو، وهو من عضوته؛ أي: فرقته؛ لأن المشركين فرقوا أقاويلهم فيه، فجعلوه كذبًا وسحرًا وكهانة وشعرًا، وقيل نقصانه الهاء، وأصله عضهةٌ؛ لأن العضة والعضين في لغة قريش السحر، يقولون للساحر عاضه، ومنه قول الشاعر:
أعُوْذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا | تِ في عُقَدِ الْعَاضِهِ الْعَضِهِ |
وَلَيسَ دِينُ الله بِالعِضِيْنِ
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الكناية في قوله: ﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ﴾ لأنه كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف؛ لأن من يلتفت لا بد له من أدنى وقفةٍ.
ومنها: ترك الاستثناء هنا، حيث لم يقل: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، اكتفاءً بما قبله وهو قوله: ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ﴾ كنى به عن عذاب الاستئصال.
ومنها: الجناس الناقص في قوله: ﴿الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ﴾، وجناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ﴾.
ومنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: ﴿وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ﴾؛ لأن الجائي بعضهم لا كلهم.
ومنها: إطلاق الضيف على الملائكة بحسب اعتقاده - عليه السلام - لكونهم في زيِّ الضيف في قوله: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ﴾ حيث استعار السكرة التي هي زوال العقل من الشراب لغوايتهم وضلالتهم، بجامع عدم التمييز بين الصواب والخطأ في كل منهما.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ﴾ حيث استعار الإِمام بمعنى
ومنها: إطلاق الجمع على المفرد في قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا﴾؛ لأن المراد بها الناقة، تنزيلًا لها منزلة الجمع؛ لأن فيها آيات كثيرة وخوارق عديدة، كما مر في مبحث التفسير.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿آيَاتِنَا﴾.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾.
ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: ﴿سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ حيث شبه إلانة الجانب بخفض الجناح، بجامع العطف والرقة في كلٍ، واستعير اسم المشبه به للمشبه، وهذا من أبلغ الاستعارات، لأن الطائر إذ كف عن الطيران بجناحيه.. خفض جناحيه.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾؛ أي: من المصلين لما فيه من إطلاق البعض وإرادة الكل.
ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ﴾؛ لأن العبادة عامة شاملة للتسبيح والسجود وغيرهما.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بمعاني كتابه وأسرار تنزيله
* * *
١ - وصف القرآن الكريم.
٢ - الإعراض عن المشركين حتى يحل بهم ريب المنون.
٣ - استهزاء المشركين وإنكارهم لنبوة محمد - ﷺ -، وتكذيبهم لما يرونه من الآيات.
٤ - إقامة الأدلة على وجود الله بما يرونه من الآيات في خلق السموات والأرض وفي الإنسان.
٥ - عصيان إبليس أمر ربه في السجود لآدم، وذكر الحوار بينه وبين ربه، وطلبه الإنظار إلى يوم الدين.
٦ - بيان حال أهل الجنة وأهل النار يوم القيامة.
٧ - قصص بعض الأنبياء، وذكر ما أهلك الله به كل أمة من الأمم المكذبة لرسلها.
٨ - بيان أن الحكمة في خلق السموات والأرض هي عبادة الله تعالى وحده، وإقامة العدل والنظام في المجتمع.
٩ - ذكر ما أنعم الله به على نبيه من السبع المثاني والقرآن العظيم.
١٠ - نهي نبيه والمؤمنين عن تمني زخرف الدنيا وزينتها.
١١ - أمره - ﷺ - بخفض الجناح والرفق بمن اتبعه من المؤمنين.
١٢ - التذكير بنعمة الله عليه بإهلاك أعدائه المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين.
١٣ - الأمر بالدعوة للدين جهرًا والصدع بها، وعدم المبالاة بالمشركين.
١٤ - أمره - ﷺ - بالتسبيح والعبادة إذا ضاق صدره باستهزاء المشركين والطعن فيه وفي كتابه الكريم (١).
سورة النحل مكية (١) إلا قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ إلى آخر السورة، فإنها نزلت بالمدينة في قتل حمزة - رضي الله عنه - قاله ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه أنها مكية غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، إلى قوله: ﴿يَعْلَمُونَ﴾، وقال قتادة: هي مكية إلا خمس آيات، وهي قوله: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ﴾ إلى آخر السورة، زاد مقاتل قوله: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾ الآية، وقيل: كان يقول لسورة النحل سورة النِّعم، لكثرة تعداد النعم فيها، وهي مئة وثمان وعشرون آية، وألفان وثمان مئة وأربعون كلمة، وسبعة آلاف وسبع مئة وسبعة أحرف.
والمقصود من هذه السورة (٢): الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم، فاعل بالاختيار، منزه عن شوائب النقص، وأدل ما فيها على هذا المعنى أمر النحلة لما ذكر من شأنها في دقة الفهم، من ترتيب بيوتها ورحبها وسائر أمرها، من اختلاف ألوان ما يخرج منها من أعسالها، وجعله شفاءً، مع أكلها من الثمار النافعة والضارة، وغير ذلك من الأمور، ورسمها بالنعم واضح اهـ "خطيب".
المناسبة: ووجه المناسبة بين هذه السورة والسورة التي قبلها (٣): أنه لما قال في السورة السالفة: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢)﴾ كان ذلك تنبيهًا إلى حشرهم يوم القيامة، وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا، فقيل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال الإِمام أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: وجملة المنسوخ في هذه السورة خمس آيات:
أولاهن: قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ الآية (٦٧)، نسخت بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ﴾ الآية (٣٣) من سورة الأعراف، يعني الخمر، وقيل بقوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ الآية (٩١) أي: انتهوا.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ الآية (٨٢)، نسخت بآية السيف.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ الآية (١٠٦)، نسخت بقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ الآية (١٠٦) من سورة النحل، وقيل بآية السيف.
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ﴾ الآية (١٢٥).
والخامسة: قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ﴾ (١٢٨) نسخت كلتاهما بآية السيف، مع الاختلاف فيهما.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)﴾.المناسبة
وقد سبق لك بيان مناسبة أول هذه السورة لآخر السورة السالفة فراجعه.
قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)...﴾
وكلما بصَّرهم طائفة مما يرون ويشاهدون.. بكتهم على ما يقولون ويفعلون، وبيَّن لهم كفرانهم نعمتي الرعاية والهداية، فاحتج على وجوده بخلق الأجرام الفلكية، ثم ثنى بذكر أحوال الإنسان، ثم ثلث بذكر أحوال الحيوان، ثم ربع بذكر أحوال النبات، ثم اختتم القول بذكر أحوال العناصر الأربعة.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (٢): أنه تعالى لما امتن بإيجادهم بعد العدم وإيجاد ما ينتفعون به من الأنعام وغيرها من الركوب. ذكر ما امتن به عليهم من إنزال الماء الذي هو قوام حياتهم وحياة الحيوان، وما يتولد عنه من أقواتهم وأقواتها من الزرع، وما عطف عليه فذكر منها الأغلب، ثم عمم بقوله: ﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ ثم أتبع ذلك بخلق الليل الذي هو سكن لهم، والنهار الذي هو معاشٌ، ثم بالنيرين الذين جعلهما الله تعالى مؤثرين بإرادته في إصلاح ما يحتاجون إليه، ثم بما ذرأ في الأرض.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لمَّا ذكر الاستدلال بما ذرأ في الأرض.. ذكر ما امتن به من تسخير البحر، ومعنى تسخيره كونه يتمكن الناس من الانتفاع به، للركوب في المصالح، وللغوص في استخراج ما فيه، وللاصطياد لما فيه.
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٧)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الدلائل (٣) على
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ...﴾ الآية، سبب نزولها (١): أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١)﴾.. قال الكفار بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن القيامة قد اقتربت، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعلمون حتى ننظر، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء.. قالوا ما نرى شيئًا، فأنزل الله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ فأشفقوا، وارتقبوا قرب الساعة، فلما امتدت الأيام.. قالوا: يا محمد ما نرى شيئًا مما تخوفنا به، فأنزل الله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ فوثب رسول الله - ﷺ -، ورفع الناس رؤوسهم، ونزل: ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ فاطمأنوا، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرج (٢) ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾. ذعر
(٢) لباب النقول.