ﰡ
العبودية لله وحده
ليس في هذا الوجود إلا خالق ومخلوق، والخالق: هو المبدع منزل الشرائع، ومالك السموات والأرض، وخالق الأشياء كلها، والقادر على الضر والنفع، والإحياء والإماتة والبعث والنشور، والمخلوق: هو العاجز الموجود من قبل خالقه الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فكان بأمس الحاجة إلى الخالق، وإذا كان الخالق وهو الله تعالى هو المالك الموجد الرازق، والمخلوق: هو المحتاج الفقير إلى ربه، كان لا بد له من الإذعان لخالقه في عبادته وحده لا شريك له، وأنه لا معبود بحق في الوجود سوى الله سبحانه، وهذا ما تقرره وتوضحه الآيات الآتية في مطلع سورة الفرقان المكية:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣)«١» «٢» «٣» «٤» [الفرقان: ٢٥/ ١- ٣].
في فاتحة هذه السورة يصف الحق تعالى نفسه بالجلال والجمال والكمال، والتنزيه
(٢) القرآن الفاصل بين الحق والباطل.
(٣) هيأه لما يصلح له.
(٤) بعثا بعد الموت.
وهذه الآية رد على مقالات قريش حين قالوا: «إن القرآن افتراء محمد، وإنه ليس من عند الله». ثم أكد الله تعالى انفراده بإنزال القرآن ببيان اتصافه بصفات الجلال والعظمة وهي أربع:
١- إنه المالك المطلق لجميع ما في السموات والأرض، يملك الخلق والإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة، والأمر والنهي على منهج الحق وعلى وفق الحكمة والمصلحة. وهذا دليل وجود الله تعالى ووحدانيته في الخلق والتدبير وهي وحدانية الربوبية، ووحدانيته في وجوب العبادة لله وحده وهي وحدانية الألوهية.
٢- ليس لله ولد مطلقا، ولم يتخذ ولدا، لعدم حاجته إليه، فهو المنزّه عن الوالد والولد، والصاحبة، لاتصافه بالكمال، وتنزهه عن صفات النقصان.
٣- وليس لله أيضا شريك في ملكه وسلطانه، فهو وحده المعبود بحق، والجدير بالعبادة، والمتفرد باستحقاق العبودية، والتوجّه بهذه العبودية لله تعالى يشعر الإنسان بالعزة والكرامة، ويملأ النفس خوفا من المتصف بالعظمة والجلال، ويجعل الرجاء
وهذا رد على فئة الثنوية القائلين بوجود إلهين اثنين: وهما النور والظلمة، وعبدة النجوم والكواكب من الصابئة، وعبدة الأوثان من مشركي العرب وغيرهم الذين عبدوا مع الله إلها آخر ليقربهم إليه زلفى.
٤- وخلق الله كل شيء، وهذا عام في كل مخلوق، وأوجده بتقدير معين، متناسب الأجزاء، وتقدير الأشياء: هو حدّها بالأمكنة والأزمان والمقادير، والمصلحة، والإتقان، فسبحان من أبدع الخلق بنظام متناسق متناسب بديع.
وأما الوثنيون وأمثالهم: فإنهم اتخذوا من دون الله آلهة مزعومة، لا تستحق الألوهية لأسباب أربعة: وهي أنها عاجزة عن خلق شيء، والإله بحق هو الخالق الموجد، وهي مخلوقة، والمخلوق محتاج، وهي لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، والإله هو القادر على الضر والنفع، وهي لا تملك الإماتة والإحياء، ولا النشور، أي إعادة الأجساد حية من القبور، فالنشور: هو الإحياء بعد الموت للحساب، أو بعث الناس من القبور، والمخلوق: لا يملك ذلك.
ومن المعلوم أن الأصنام مخلوقة، يخلقها البشر بالنحت والتصوير، وهذا أشد إبداء لخساسة الأصنام.
إن الفرق واضح إذن بين الخالق المستحق وحده للعبادة وهو مالك السموات والأرض، وخالق جميع الأشياء بتقدير دقيق وتناسب بديع، وبين المخلوقات الضعيفة بنفسها، العاجزة عن جلب الخير ودفع الضر، التي لا تستطيع فعل شيء، ولا سلب شيء.
يتسرع الجهلة والأغبياء عادة في الحكم على الأشياء، فيصفونها بصفات باطلة، معتمدين على مجرد الأوهام، جامدين على ما هم عليه من انحراف وضلال. وهكذا كان شأن كفار قريش حين ظهور دعوة الإسلام وتنزل الوحي على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، تسرعوا في وصف القرآن الكريم الموحى به من الله تعالى بأنه مختلق مكذوب وأسطورة، وتورطوا في وصف النبي عليه الصلاة والسلام بأنه مجرد ناسخ، انتسخ القرآن وأخذه عن علماء أهل الكتاب، فهو يملى عليه في الصباح وفي المساء. فرد الله تعالى على هاتين الشبهتين ببيان كون القرآن كلام الله المنزل على رسوله الأمين، وليس هو مفترى من عند محمد صلّى الله عليه وسلّم. أخبر الله تعالى عن هذه الشبهات، وطريق الرد عليها، فقال سبحانه:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤ الى ٦]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
«١» «٢» «٣» «٤» [الفرقان: ٢٥/ ٤- ٦].
نزلت الآية كما ذكر ابن عباس في النضر بن الحارث الذي قال: القرآن أساطير الأولين، وردّد مشركو قريش مقالته، فقالوا: كل ما في القرآن من ذكر أساطير الأولين، فإنما هو بسبب النضر بن الحارث المشهور في ذلك، ثم رموا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأنه اكتتبها.
والآيات تضمنت بيان شبهتي قريش والرد عليهما. أما الشبهتان فهما:
(٢) أكاذيبهم المسطورة في كتبهم.
(٣) أول النهار وآخره، أي دائما.
(٤) يعلم الخفي عنا. [.....]
ثانيا- قال كفار قريش أيضا: إن هذا القرآن مجرد أكاذيب المتقدمين، وأحاديث السابقين المسطرة في كتبهم، اكتتبها محمد عن طريق أهل الكتاب: وهم في قول مجاهد: قوم من اليهود، وفي قول ابن عباس: عبيد من الفرس كانوا للعرب، أحدهم أبو فكيهة مولى الحضر مبيّن، وجبر، ويسار، وعدّاس، وغيرهم، فهي تقرأ عليه صباح مساء، أي دائما، وخفية، ليحفظها، ثم يعلنها، فأخبر الله تعالى أنهم ما جاؤوا إلا إثما وزورا، أي ما قالوا إلا بهتانا وزورا، والزور: تحسين الباطل، فإنهم عرفوا محمدا في صغره وشبابه بأنه الصادق الأمين، لا يصدر عنه شيء من الافتراء والأباطيل.
ثم أجابهم الله تعالى بأمر نبيه أن يقول لكفرة قريش ردا على أباطيلهم: لقد أنزل الله تعالى القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين، وذلك بصدق وواقعية، لا مجال لأحد من البشر في الإتيان به، والله الذي أنزل القرآن، يعلم السرائر كلها مهما دقّت أو خفيت، كما يعلم بالظواهر، وإن الله الذي أنزل القرآن رحمة بالعباد:
هو المتصف بالمغفرة الواسعة والرحمة الشاملة. والإتيان بهذين الوصفين: «الغفور الرحيم» لفتح باب الأمل والتوبة، ليرجع الجاحدون عن جحودهم، ويتوبوا على تقصيرهم، ويتجنبوا كل آفات ضلالهم. وهذا شأن المصلح والمربي الناجح، لا يلجأ لأول وهلة للعقاب المادي، وإنما يترفع ويسمو عن أخطاء الأدنياء، فيتحقق النجاح
وهذا إعلان واضح بأن التوبة الصادقة تسقط الذنوب السابقة، لأن الله غفار لمن تاب، رحيم بمن أناب.
طعن آخر بالنبي
تابع المشركون في بطحاء مكة طعونهم بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، جحودا برسالته، وتنفيرا عن اتباعه، فتصوروا أن الرسول النبي ينبغي أن يكون ملكا من الملائكة، ولا يصح أن يكون مجرد بشر عادي يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، وإذا كان الرسول من البشر، فلماذا يكون فقير الحال؟ ولم لا يكون مؤيدا بالحرس والأعوان، يعيش في قصر شامخ، وبستان مثمر ممتع، وتكون يده ملأى بالكنوز المترعة، والأموال الوفيرة؟
حكى القرآن الكريم هذه الأخبار، ورد عليها ردا مفحما، يقطع ألسنة الجاحدين المستكبرين، فقال الله تعالى:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠)
«١» «٢»
(٢) غلب السحر على عقله.
ذكر ابن إسحاق وغيره أن سادة قريش كعتبة بن ربيعة وأبي سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وغيرهم قالوا: يا محمد، إن كنت تحبّ الرياسة، ولّيناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجعوا في باب الاحتجاج عليه، وقالوا: مالك وأنت رسول من الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق تريد التماس الرزق؟ أي من كان رسول الله فهو مستغن عن جميع ذلك. ثم قالوا له: سل ربك أن ينزل معك ملكا ينذر معك، أو يلقى إليك كنز من الذهب تنفق منه، أو يردّ لك جبال مكة ذهبا، أو تزال الجبال، ويكون مكانها جنات تجري فيها الأنهار، فنزلت هذه الآية.
المعنى: هذه خمس شبهات أخرى حول النبي، وجهها المشركون، تتعارض في زعمهم مع صفة النبوة، وهي:
١- قال المشركون: لا ميزة لهذا النبي الذي يدعي الرسالة علينا، فهو يأكل الطعام كما نأكل، ويحتاج لما نحتاج إليه، أي إنه ينبغي أن يكون ملكا.
٢- وهذا النبي يمشي في الأسواق كما نمشي، طلبا للتكسب والرزق، فلا فضل له علينا، وهو مثلنا، فمن أين يكون تميزه علينا؟
٣- وهلا أنزل عليه ملك من عند الله، فيشهد على صدق ما يدعيه، ويرد على من خالفه؟! ٤- وهلا ألقي عليه كنز من السماء، فينفق منه، فلا يحتاج للتردد على الأسواق، لطلب الرزق والمعاش؟! ٥- وإن لم يكن له كنز، فهلا يكون له بستان يأكل منه، ويعيش من ثمراته وغلاله؟!
٦- ما تتبعون إلا رجلا مسحورا، مختل العقل، لا يدرك ما يقول، فكيف يطاع فيما يأمر؟! أجاب الله تعالى عن هذه الشبهات ببيان التعجب من طرحها، قائلا: انظر أيها النبي مسريا عن نفسك، ومتعجبا لما يقول هؤلاء المشركون، وتأمل بتلك الأمثلة والأشباه، فهي أقوال باطلة، وأوصاف مفتراة، فلا يجدون طريقا للهدى والاستقامة ومعرفة الحق. إنهم أخطئوا الطريق فلا يجدون سبيلا لهداية، ولا يطيقونه لتلبسهم بضده من الضلال.
إن شبهات مشركي مكة حول النبي ضعيفة ساقطة، لا تستحق الرد العلمي عليها، وجوابها إجمالا ما سبق، وأما تفصيلا فهو:
تعاظم الله وتكاثر خيره، فهو سبحانه إن شاء وهب لك في الدنيا خيرا مما اقترحوا أو طلبوا، وهو أن يعجل لك مثلما وعدك به في الآخرة من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، ومن القصور الشامخة النادرة، وأن يؤتيك خيرا مما يقولون في الدنيا، ويكون أفضل وأحسن. ولكن الله تعالى ادخر لك العطاء في دار الآخرة الخالدة، لا في الدنيا الزائلة، حتى لا تشتغل بالدنيا عن الدين، وأداء مهمة تبليغ الرسالة، وما عند الله خير وأزكى، وأدوم وأبقى.
إن من أهم الأسباب التي كانت وراء تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم من قومه قريش إنكارهم يوم القيامة وعدم فهمهم للحق، فهذا أساس كفرهم، فلو أنهم آمنوا بالبعث يوم القيامة، وقدروا خطورة المساءلة والحساب، لدفعهم الإيمان إلى التصديق برسالة هذا النبي وبما أنزل الله عليه في القرآن، وترتب على هذا التكذيب للرسالة الإلهية وإنكار القيامة استحقاقهم للعذاب الشديد في الآخرة، في نار السعير ذات التغيظ والزفير، قال الله تعالى واصفا هذه الأحداث الغيبية:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١١ الى ١٦]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥)
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
«٢» «٣» «٤» [الفرقان: ٢٥/ ١١- ١٦].
ليس المهم في تكذيب المشركين لرسالتك أيها النبي مشيك في الأسواق، بل إنهم كفرة رافضون الحق، منكرون يوم القيامة، فذلك هو الذي يحملهم على أقوالهم الساقطة، لأن من لا يؤمن بالقيامة وبالحساب والجزاء فيها، يتسرع في التورط بتكذيب الوحي الإلهي، من غير تقدير للعواقب، ولقد هيأنا لمن كذب بالقيامة وما فيها من حساب وجزاء نارا شديدة الاستعار أو الالتهاب. وأهوال نار القيامة ذات صفتين غريبتين:
الأولى: إذا كانت النار في مرأى الناظر من بعيد، سمعوا صوت غليانها الدال على
(٢) التغيظ: صوت غليان، والزفير: الصوت الشديد.
(٣) مشدودة بالأغلال.
(٤) ثبورا: أي هلاكا.
الصفة الثانية: إذا ألقي الكفار في النار في مكان ضيق، مقرّنين، أي مربوط بعضهم إلى بعض، صاحوا واستغاثوا قائلين: يا ثبورنا أي يا ويلنا، ويا هلاكنا احضر، فهذا وقتك، والمقصود بالمكان الضيق من النار: التضييق عليهم من المكان في النار، وذلك نوع من التعذيب.
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن أبي حاتم: «والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار، كما يستكره الوتد في الحائط»
أي يدخلون كرها وعنفا. وقوله تعالى: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً الثبور: الهلاك أو الويل، وهو مصدر، ومفعول: «دعوا» محذوف، تقديره: دعوا من لا يجيبهم. لذا قال الله تعالى: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) أي يقال لهم على معنى التوبيخ والاعلام بأنهم مخلّدون: لا تقتصروا على حزن واحد، بل أحزنوا كثيرا، لأنكم أهل لذلك. وإنكم إن وقعتم في الهلاك، فليس هو هلاكا واحدا، وإنما أنواع كثيرة من الهلاك، إما لتنوع ألوان العذاب، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدّلوا غيرها. والمقصود تيئيسهم من الخلاص من العذاب بالهلاك، والتنبيه إلى أن عذابهم أبدي، لا خلاص منه.
وإذا كانت هذه أوصاف العذاب الأخروي للكفار، فقل يا محمد لهؤلاء الكفرة الذين سيتعرضون لهذه الأحوال من النار، على جهة التوبيخ واللوم، والتوقيف والتهكم والتحسر: أهذا العذاب الذي وصفت لكم أفضل وأكرم أم نعيم جنة الخلد الذي يدوم إلى الأبد، وقد وعدها المتقون الأبرار، الذين أطاعوا الله فيما أمر به، وانتهوا عما نهى عنه، وكانت تلك الجنة لهم جزاء طاعتهم في الدنيا، ومصيرهم أو مآلهم الحسن.
حشر المشركين مع آلهتهم
إن أصعب شيء على الإنسان في تحقيق مراده هو خيبة الآمال، وانقطاع الرجاء، وانعدام النصراء لتحقيق المطلوب، ويؤدي ذلك إلى نوع من القلق والحيرة، والتعذيب النفسي، والإحباط ومحاولة البحث عن البديل، وكان من الإنصاف والإخبار بالحق: أن الله تعالى أخبر عن مفاجأة الكفار بالإحباط يوم القيامة، حيث يحشرون مع آلهتهم المزعومة، لمناقشتهم أمامهم عن الذي أضل الآخر، فيتبرأ المعبودون المتبوعون من العبدة الأتباع، ويفاجأ العابدون بأنهم لن يجدوا بديلا ولا نصيرا لهم، قال الله تعالى مصورا هذا الموقف المؤلم.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
هذا مشهد من مشاهد القيامة، يتميز بالمواجهة الفعلية بين العابدين والمعبودين، ويتم فيه تقريع الكافرين في عبادتهم غير الله تعالى.
والمعنى: اذكر أيها النبي الرسول لأولئك المشركين يوم يجمعهم الله مع معبوديهم من الإنس، والملائكة، والأصنام التي ينطقها الله، فيقال للمعبودين على سبيل التقرير والتثبيت: أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال حقا، أم هم ضلوا السبيل الصحيح بأنفسهم، وعبدوكم من أنفسهم، دون توجيه أو دعوة منكم لهم؟! وقوله تعالى: وَما يَعْبُدُونَ يراد به كل شيء عبد من دون الله، فغلّب العبارة عما لا يعقل من الأوثان، لأنها كانت الأغلب وقت المخاطبة.
وظاهر السؤال: «أأنتم» من الله تعالى، ويحتمل أن يكون ذلك من الملائكة بأمر الله تعالى. فأجاب المعبودون بلسان المقال أو الحال على طريق التعجب مما سئلوا عنه: «سبحانك».
أي تنزيها لك يا رب مما نسبه إليك المشركون، وما كان يصح لنا بحال أن نتخذ أنصارا من دونك، فنحن الفقراء إليك، وليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك، فنحن ما دعوناهم إلى عبادتنا، بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، من غير أمرنا ولا رضانا، ونحن أبرياء منهم ومن عبادتهم، ولكن طال عليهم العمر، وانشغلوا بالتمتع باللذات والشهوات، هم وآباؤهم، حتى نسوا ما أنزلته إليهم على
(٢) دفعا للعذاب.
فقال الله تعالى للعابدين: لقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء مناصرون، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى، فلا يقدرون، أي الآلهة المزعومة على صرف العذاب عن العابدين، ولا الانتصار لأنفسهم بحال من الأحوال. وذلك كما جاء في آية أخرى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) [الأحقاف: ٤٦/ ٥- ٦].
وقوله تعالى: فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً معناه: لا تستطيعون أيها العابدون غير الله ردّ التكذيب أو العذاب، ولا مناصرة أنفسكم بنصير ما.
ثم خاطب الله الكفار بقوله: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ.. أي ومن يشرك بالله، لأن الظلم هو الشرك، والظالمون: هم المشركون كما جاء في آية سابقة (الفرقان ٨) وقد يشمل اللفظ أهل الفسق، فيكون المعنى: من يشرك بالله أو يكفر أو يفسق، نذقه يوم القيامة عذابا شديدا، لا يعرف قدره، وعذابا أكبر من أي عذاب آخر. وقد استعمل الظلم في الإشراك في قول الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:
٣١/ ١٣]. واستعمل في الفسق في قول الله سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: ٤٩/ ١١].
إن أدنى نظرة تأمل وتعقل في هذا المشهد يدل لأهل العقول السليمة على أن عبادة غير الله أو مع الله: ضلال وانحراف وعديمة الجدوى، وأن عقد الآمال على شفاعة الآلهة المعبودة من غير الله سراب خادع، وضلال واضح.
إن أبسط مبادئ الرسالة أو السفارة أن يكون الرسول أو السفير من جنس المرسل إليهم، لتحقيق أهداف الرسالة من أيسر الطرق، وتمكين الرسول والمرسل إليه من النقاش والحوار المؤدي للغاية، لذا كان الأنبياء والرسل من جنس البشر المرسل إليهم، بل من أقوامهم وإخوانهم، أو من بني جلدتهم وعشيرتهم، حتى يكون اللقاء أو الخطاب مثمرا، ولكن المشركين من عهد نوح عليه السلام إلى عهد خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم اشتبه عليهم أمر الرسالة، وظنوا أن الرسول ينبغي أن يكون من جنس أسمى أو أعلى من المرسل إليه، فأنكروا بشرية الرسل، وطالبوا بأن يكون النبي المرسل أحد الملائكة، أخبر القرآن الكريم عن هذه التطلعات في قول الله تعالى:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١)
«١» «٢» [الفرقان: ٢٥/ ٢٠- ٢١].
قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما أخرجه الواحدي وابن جرير الطبري، لما عير المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالفاقة، وقالوا: «ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق» حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ
ومفعول «أرسلنا» محذوف، يدل عليه الكلام، تقديره: رجالا أو رسلا، وعلى هذا المفعول المحذوف المقدّر، يعود الضمير في قوله: إِلَّا إِنَّهُمْ.
والمعنى: إن جميع الرسل المرسلين من عند الله كانوا بشرا يأكلون الطعام، للتغذي
(٢) تجاوزوا الحد في الطغيان.
قال مقاتل: إن الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاص ابن وائل وغيرهم من أشراف قريش حين رأوا أبا ذر، وعبد الله بن مسعود، وعمارا، وبلالا، وصهيبا، وسالما مولى أبي حذيفة، قالوا: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟! فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين: أَتَصْبِرُونَ؟ أي على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر، والجهد والإيذاء، كأنه تعالى جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين.
ورتب المشركون على إنكار بشرية الرسل بديلا فقالوا: هلا أنزل علينا الملائكة، كما تنزل على الأنبياء، فنراهم عيانا، فيخبرونا بأن محمدا صادق في ادعائه النبوة، أو نرى ربنا جهارا علنا، فيخبرنا بأنه أرسله إلينا، ويأمرنا بتصديقه واتباعه. ولما تمنت كفار قريش رؤية ربهم، أخبر الله تعالى أنهم عظموا أنفسهم، وسألوا ما ليسوا له بأهل.
والله لقد تكبروا واستكبروا عن الحق، وتجاوزوا الحد في الظلم والكفر تجاوزا
أهوال القيامة
مهما حاول الإنسان، على الرغم من أخبار القرآن الغيبية أن يتصور أهوال يوم القيامة، وما يتعرض له من المخاوف والأحداث الجسمية، فإنه لن يستطيع إدراك الواقع الرهيب الذي يقرع النفس ويرهب القلب، ويحير أرباب الفكر والعقول، لأن دور الملائكة الشداد في العذاب، وظهور الغمام، وتغير معالم الكون فوق كل تصور.
وحينئذ يكون المجرمون والظالمون في بأس شديد، وندم عظيم، ويكون أهل الجنة في خير مقام، وأحسن مكان. وهذا ما نراه واضحا في الآيات التالية:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٢ الى ٢٩]
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [الفرقان: ٢٥/ ٢٢- ٢٩].
(٢) كالهباء (كالذرات المرئية في ضوء الشمس).
(٣) مفرّقا.
(٤) مكان قيلولة وراحة. [.....]
(٥) تتفتح.
(٦) السحاب الأبيض الرقيق.
(٧) طريقا للهدى أو النجاة.
(٨) كثير الترك لمن يواليه.
ثم أخبر الله تعالى عن إحباط أعمال الكفار، حكاية عن يوم القيامة، والمعنى:
قصدنا في بيان حكمنا وإنفاذنا إلى محاسن أعمال الكفار في الدنيا، التي هي في الحقيقة لا تزن شيئا، إذ لا نية معها، ولا ركيزة لها من الإيمان، فجعلناها مبدّدة، لا نفع فيها ولا خير، كالغبار المتناثر الذي لا جدوى معه ولا فائدة، والمراد: وصيرناها هباء منثورا، أي شيئا لا تحصيل له، ولا تعدل شيئا، لفقدانها شرط القبول: وهو الإخلاص لله، ومتابعة شرع الله عز وجل.
وفي مقابل هذه الصورة القائمة لمصير أعمال الكافرين، يخبر الله تعالى عن حال أهل الجنة المؤمنين الصالحين، فهم خير مأوى ومنزلا، وأتم استقرارا، في مكان ثابت مستقر، يعني أن مستقر أهل الجنة خير من مستقر أهل النار.
وفي خبر ثالث تضمنته الآيات يأمر الله نبيه بأن يذكر يوم تتشقق السماء عن الغمام وتتفتح عنه، ويكون الملك الحق الثابت المبين للرحمن، ويتبدل نظام الكون، وهو يوم القيامة عند انفطار السماء، ونزول الملائكة، ووقوع الجزاء بحقيقة الحساب، فتنزل الملائكة، وفي أيديهم صحائف أعمال العباد، لتكون حجة وشاهدا
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة: ٢/ ٢١٠]. وكان ذلك اليوم يوم القيامة على الكافرين يوما شديدا صعبا، لأنه يوم عدل وقضاء فصل أي محاكمة حاسمة، كما في آية أخرى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) [المدثر: ٧٤/ ٩- ١٠].
وفي خبر رابع، اذكر أيها الرسول يوم القيامة الذي يعض المشرك وكل ظالم على يديه ندما وحسرة، وأسفا على ما فرط في حياته، يقول: يا ليتني اتخذت مع رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم طريقا إلى النجاة والسلامة. يا ويلتي، أي يا هلاكي احضر، فهذا أوانك، ليتني لم أتخذ فلانا الذي أضلني خليلا، أي صديقا حميما، أرداني اتباعه، وصرفني عن الهدى، وأخذ بي إلى دائرة الضلال.
لقد أضلني وحرفني عن ذكر الله والإيمان والقرآن، بعد بلوغه إلي، وكان من شأن الشيطان أن يخذل الإنسان الكافر عن الحق، ويصرفه عنه، ويدعوه إلى الباطل، ويستعمله فيه.
وآية وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ... نزلت في عقبة بن أبي معيط، حين مال إلى الإسلام أو أسلم، لكن خليله الذي صادقة وهو أبي بن خلف قد نهاه عن الإسلام، فقبل نهيه. وأبيّ هذا قتله الرسول صلّى الله عليه وسلّم بيده يوم أحد، فنزلت الآية في عقبة وأبيّ، فالظالم:
عقبة، وفلان: أبيّ، في قوله تعالى: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (٢٨).
والظاهر أن كلمة «الظالم» لفظ عام، وأن مقصد الآية تعظيم يوم، يتبرأ فيه الظالمون من خلّانهم الذين أمروهم بالظلم، وكلمة «فلان» معناه واحد من الناس، وليس من ظالم إلا وله في دنياه خليل يعينه، ويحرضه على الظلم في الأغلب.
لقد أصيب مشركو مكة بالذعر الشديد، والاضطراب الكبير حين نزول القرآن وإعلان النبي صلّى الله عليه وسلّم دعوته، تمسكا بهيمنتهم وسلطانهم في مكة، ولفرض نفوذهم على الحجيج وعلى القبائل العربية، وأداهم ذلك كله إلى التخبط والحيرة، فكانت ردود أفعالهم متفاوتة ومضطربة، فمرة يرفضون ما جاء به القرآن، ومرة يتأثرون ببلاغته، فينصاعون لنداءاته، ثم أدى بهم الصلف والتكبر إلى هجر القرآن كليا، ومواجهة الدعوة الإسلامية مواجهة عنيفة، وطالبوا بمطالب تعجيزية أو جعل الوحي القرآني يتنزل على وفق أهوائهم ورغباتهم دفعة واحدة حتى يروا رأيهم، فلا يكشف القرآن مواقفهم، وإنما يحبط مساعيهم في مفاجأته، ونزوله التدرجي، قال الله تعالى واصفا هذه المواقف لقريش:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٠ الى ٣٤]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
«١» «٢» «٣» [الفرقان: ٢٥/ ٣٠- ٣٤].
ينزعج الإنسان عادة كل الانزعاج إذا خاب ولم يحقق نجاحا في مهمته ورسالته، وكان هذا شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كغيره من الأنبياء، لقد بذل أقصى جهده في هداية قومه فأعرضوا عنه، واستكبروا عن قبول الحق، فشكا الرسول إلى ربه سوء أفعال قومه المشركين، قائلا في الدنيا: يا رب، إن قومي قريشا تركوا الإصغاء لهذا القرآن، ولم يؤمنوا به، وأعرضوا عن الإيمان به واتباع هديه، وهجروه وتركوا تصديقه.
(٢) فرّقناه آية بعد آية أو بيّناه.
(٣) أصدق بيانا.
وجاء بعد هذه الشكوى إيناس من الله تعالى لنبيه بأن غيره من الرسل كذلك امتحن بأعداء في زمنه، فلا تحزن يا محمد، فتلك عادة الأقوام مع أنبيائهم، فكما جعلنا لك أعداء من المشركين يتقولون عليك الأباطيل، ويهجرون القرآن، جعلنا لكل نبي من الأنبياء المتقدمين أعداء من المشركين الظالمين، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم. لكن النصر والغلبة في النهاية للرسول النبي صلّى الله عليه وسلّم، لذا وعد الله تعالى نبيه بقوله: وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً أي اكتف بربك، فإنه هو الهادي إلى الحق، وهو الناصر على أعدائك في الدنيا والآخرة.
ثم أخبر القرآن عن شبهة أخرى لمشركي مكة، روي عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم أن كفار قريش قالوا في بعض معارضاتهم: لو كان هذا القرآن من عند الله تعالى، لنزل جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل، فنزلت هذه الآية: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً والمعنى: إذا كنت تزعم أيها الرجل أنك رسول من عند الله، أفلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة، كما أنزلت التوراة جملة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود؟! أي لو كان القرآن من عند الله حقا، فلم لم ينزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم دفعة واحدة، كما أنزلت الكتب الإلهية المتقدمة؟! فأجابهم الله تعالى عن مقالتهم: لقد أنزلناه منجّما متفرقا بحسب الوقائع والمناسبات في مدى ثلاث وعشرين سنة، لتثبيت فؤاد محمد صلّى الله عليه وسلّم، وليحفظه لكونه أميا، وليتطابق مع الأسباب المؤقتة، فيكون ذلك أدعى للإيمان به، ولدفع الحرج عن المكلفين بتكليفهم بجملة أحكام في زمن واحد، ولمراعاة مبدأ التدرج في التشريع والتناسب مع مقتضيات التربية، والانتقال من حال سيئة إلى حال أحسن بتهيئة
ثم أخبر الله تعالى أن هؤلاء الكفرة في مكة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة، كتمثيلهم في هذه المسألة بالتوراة والإنجيل إلا جاء القرآن بالذي هو حق، ثم هو أحسن تفسيرا، أو أفصح بيانا وتفصيلا.
ثم أوعد الله تعالى الكفار بما ينزل بهم يوم القيامة، من الحشر على وجوههم إلى النار، إذلالا وخزيا وهوانا، وأولئك الظلمة هم شر مكانا وهو جهنم، شر من أهل الجنة، وأضل سبيلا، أي طريقا عن الحق، والمقصود منه الزجر عن طريقهم ومنهجهم الخطأ، والمشي على الوجوه إما حقيقة بإقدار الله تعالى، كإقدارهم المشي على أقدامهم، أو مجاز عن سوء الحال ودفعهم دفعا إلى جهنم، من غير وعي منهم ولا احترام لهم.
التأسي بقصص الأنبياء
يربط الوحي الإلهي أحداث الزمان بعضها ببعض، قديمها وحاضرها، لتحقيق وحدة شمولية، ومقارنة الأشياء ببعضها، والانتهاء بعدئذ إلى نظرة واحدة من خلال تشابه الوقائع. وهكذا نجد القرآن الكريم يتعرض لأحوال المشركين في مكة، ثم يعرض بعدها أحوال الأقوام السابقين، ومواقفهم مع أنبيائهم الذين أرادوا لهم الخير والإسعاد والنجاة والإنقاذ، ومصداق هذا التوجه نجده في إيراد مجموعة أخبار هنا تتعلق بالأنبياء السابقين وأقوامهم المعارضين، قال الله تعالى:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٥ الى ٤٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الفرقان: ٢٥/ ٣٥- ٤٠].
هذه الآيات التي تتحدث عن أخبار الأمم الماضية هي تمثيل للمشركين العرب، وتوعد بأن يحل بهم ما حلّ بأولئك المعذبين. بدأ الله تعالى بإيراد جانب من قصة موسى عليه السلام، مفادها: تالله لقد آتينا موسى التوراة، وجعلنا معه أخاه هارون نبيا وزيرا، يؤازره ويعاونه ويناصره.
فقال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي قلنا لهما: اذهبا إلى فرعون وقومه لتبليغ الرسالة، ومضمونها إعلان توحيد الإله، وتوحيد الربوبية. فلا إله غير الله، ولا معبود بحق سواه، وهو مفاد توحيد الألوهية، والله وحده هو الخالق المدبر الرازق، الموجّه، وهو المقصود بتوحيد الربوبية.
فلما كذب فرعون وقومه برسالة موسى وهارون، ولم يقروا بوحدانية الله تعالى وتوحيد عبادته، أهلكهم الله إهلاكا، فانظروا يا مشركي مكة عاقبة الكفر والضلال وتكذيب الرسل.
ثم أورد الله تعالى جزءا من قصة نوح عليه السلام مفادها: اذكر يا محمد لقومك
(٢) أصحاب البئر الذين رسّوا أي دسوا نبيهم في البئر.
(٣) أمما.
(٤) أي أهلكناهم إهلاكا.
(٥) لا يتوقعون بعثا.
وجاء الوحي بخبر ثالث، أمر الله نبيه بإعلان، مفاده: اذكر أيها الرسول أيضا لقومك قصة عاد الذين كذبوا رسولهم هودا عليه السلام، وقبيلة ثمود الذين كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام، وأصحاب الرّس أي البئر: وهم قوم من عبدة الأصنام بعث الله لهم شعيبا أو غيره، فدعاهم إلى توحيد الله والإيمان به وبرسالته، فكذبوه، فخسف الله بهم الأرض، واذكر أيها الرسول أمما كثيرة بين قوم نوح وعاد وأصحاب الرسّ، لما كذّبوا الرسل، أهلكناهم جميعا، وكلا من هؤلاء الأقوام بيّنا لهم الحجج وأوضحنا لهم الأدلة، وأزلنا الأعذار والشبهات عنهم، فلم يؤمنوا، وإنما كذبوا، فأهلكناهم إهلاكا شديدا.
والقرون جمع قرن، والقرن في الأظهر: هو الأمة المتعاصرة في الزمن الواحد، وجملة وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً إيهام لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى.
وقصة رابعة هي قصة قوم لوط، فلقد مرّ مشركو مكة على ديار قوم لوط، أثناء تجارتهم إلى الشام في رحلة الصيف، وبخاصة على سدوم أعظم قرى قوم لوط التي أهلكها الله بمطر السوء: وهو المصحوب بالحجارة من سجّيل (جهنم) أفلم يروا ما حل بتلك القرى من عذاب الله ونكاله، بسبب تكذيبهم رسولهم، ومخالفتهم أوامر الله؟! إنهم أي العرب يرون ذلك عيانا، ولكنهم لم يعتبروا، لأنهم لا يتوقعون
إن هذه الزواجر وأخبار العذاب كفيلة بردع الظالمين المشركين لو تأملوا وتفكروا واتعظوا.
استهزاء المشركين بالنبي صلّى الله عليه وسلّم
على الرغم من إنذارات المشركين العرب بتعرضهم لسخط الله تبارك وتعالى، ورؤيتهم العبرة من تدمير مدينة قوم لوط، وهي سدوم بالشام، فإن هؤلاء المشركين تابعوا استهزاءهم بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم واحتقارهم له إذا رأوه، واستبعدوا أن يبعثه الله تعالى رسولا، وأصروا على الوثنية، وتعدد الآلهة، وغالوا في ذلك حتى سموا دعوته إضلالا، وتابعوا تحذيرهم من تأثير دعوته الجديدة وآيات القرآن التي كادت تؤثر فيهم وتجرفهم إلى الإيمان، وترك عبادة الأوثان، قال الله تعالى مصوّرا هذه المواقف:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
«١» «٢» [الفرقان:
٢٥/ ٤١- ٤٤].
نزلت الآية الأولى: وَإِذا رَأَوْكَ.. في أبي جهل، فإنه كان إذا مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع صحبه، قال مستهزئا: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا.
(٢) حفيظا من عباده. [.....]
ويقولون على سبيل الازدراء: أهذا هو المبعوث من عند الله رسولا إلينا؟! قبحهم الله، فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا المثل الأعلى للأنبياء، والصفوة المختارة من البشر، وأول عظماء التاريخ في أحواله وأخلاقه الخاصة، وفي معاملاته الاجتماعية، وفي تضحيته بأغلى ما لديه لإعلاء كلمة الله، وفي رحمته بقومه وبالبشرية قاطبة، وفي قيادته الناجحة نجاحا باهرا، فهو حريص على هداية قومه وإسعادهم.
ومن مواقفهم المهينة: أنهم قالوا: قارب محمد أن يثنينا عن عبادة الأصنام، وترك ديننا إلى دين الإسلام، لولا أن صبرنا على تلك العبادة الموروثة، فردّ الله تعالى عليهم من نواح ثلاث:
الأولى: وعيد وتهديد شديد لهم، إنهم حين يشاهدون العذاب المنتظر الذي لا مفر لهم منه، يدركون من أخطأ الطريق، أهم أم المؤمنون مع نبيهم وقائدهم؟! الثانية: تنبيه على عدم الجدوى من دعوتهم إلى الدين الحق، فإنهم اتخذوا أهواءهم آلهة، فأطاعوهم، واستولى عليهم التقليد، أفأنت أيها النبي تكون عليهم وكيلا يتولى أمورهم، ويحفظ شؤونهم، وهم غارقون في الضلال؟! فإن من جعل إلهه هواه برأيه المحض، لن ينفع معه نصح ولا إرشاد، كما لا ينفع شيئا من جعل هواه مطاعا فصار كالإله، والهوى قائد إلى كل فساد، والنفس أمّارة بالسوء، وإنما الصلاح إذا ائتمرت النفوس العقل، وأصغت إلى الهدى بوعي، والوكيل: القائم على الأمر الناهض به.
الثالثة: بل (وهي للإضراب عما سبقه من الكلام من اللفظ دون المعنى) أي أتظن أن أكثرهم يسمعون سماع تدبر وفهم، أو يتعقلون ويفكرون فيما تتلو عليهم، وترشدهم إليه من الفضائل والأخلاق الحميدة، فتجهد نفسك في إقناعهم بصدق
مظاهر الكون الدالة على الله تعالى
ما أكثر البراهين الدالة على وجود الله تعالى ووحدانيته، وهي براهين كونية حسية مشاهدة، لا تحتاج لكثير من التفكر والتأمل والتعقل، وإنما تحتاج للانتباه لها، وفهم مدلولاتها، وما تؤديه من فوائد عظيمة أوجدها الخالق، لنفع الإنسان، والاهتداء بها إلى الله تعالى، وهي في آيات متوالية أدلة خمسة: وهي مدّ الظل وقبضه، وإيجاد الليل والنهار، وإرسال الريح لإنزال المطر، وإيجاد الفاصل في أعماق الماء بين البحر الملح والبحر العذب، وخلق البشر من الماء المهين، أذكر هنا الأدلة الثلاثة الأولى وهي في قوله تعالى:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٩]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
«١» «٢» «٣»
(٢) ساترا بظلامه.
(٣) أي قطعا للأعمال وراحة للأبدان.
تلفت هذه الآيات النظر للاهتداء إلى الخالق، وذلك في بدئها بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أي انتبه، والرؤية هنا: رؤية القلب.
١- والمعنى: ألم تنظر أيها النبي وكل مخاطب من البشر بقلبك ووعيك إلى صنع الله في خلق الظل للتفيؤ به، في مواجهة حرارة الشمس الساطعة، من طلوعها لغروبها، كيف جعله الله تعالى متفاوتا في ساعات النهار والفصول الأربعة، لإفادة الإنسان كضبط الوقت، والاستمتاع بالظل بعد التعرض لشدة الحر، فيكون الظل متراوحا بين مدّ وقبض، فيمتد الظل صباحا من أول الإسفار إلى بزوغ الشمس، ومساء من بعد مغيب الشمس مدة يسيرة، ففي هذين الوقتين ظل ممدود على الأرض، مع أنه نهار، وفي سائر النهار ظلال متقطعة، والمد والقبض مطّرد في كل يوم، فالظل الممدود يكون من الفجر إلى طلوع الشمس، وإن كان في بقايا الليل في غير نهار.
ولو شاء الله لجعل الظل ثابتا دائما على حال واحدة لا يتغير طولا وقصرا، ويكون غير متحرك ولا منسوخ.
ثم يجعل الله طلوع الشمس علامة على الظل، فلولا طلوعها لما عرف الظل، فكل شيء يتميز بضده، ثم يحسر الله تعالى الظل ويحوّله بالتدرج بحسب سير الشمس وارتفاعها، حتى لا يبقى منه إلا قليل تحت سقف أو تحت شجرة ونحوها. والقبض اليسير: إما اللطيف أو السهل القريب التناول.
(٢) مبشرات بالرحمة.
٣- والله هو الذي أرسل الرياح مبشرات بمجيء السحاب وهطول الأمطار والإنبات وتسيير السفن، وأنزل من السماء، أي السحاب ماء طاهرا مطهّرا، يتطهر به في تنظيف الأجسام والملابس والأشياء المختلفة، والانتفاع به في الطعام والشراب وسقي النباتات والحيوانات. وأنزل الله المطر لإحياء الأرض التي لا نبات فيها، وطال انتظارها للغيث، فتصبح بعد ريّها مزدهرة بأنواع النباتات والزهر والشجر، كما جاء في آية أخرى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: ٢٢/ ٥]، والرياح جمعا إذا وردت في القرآن فهي للمطر والرحمة، وإذا وردت مفردة فإنما هي للعذاب، والطهور وصف مبالغة في «طاهر» فهو طاهر مطهّر.
وأنزل الله المطر أيضا ليشرب منه الإنسان ومختلف أنواعه، والحيوان بفئاته، للحاجة الشديدة إليه، وإبقاء الحياة، وازدهار الأرض بالخضرة، كما ذكر في آية أخرى، في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى: ٤٢/ ٢٨].
فظهر بهذا أن منافع الماء شيئان:
١- إحياء النبات، لقوله تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ووصف البلدة بالميت لأنه جعله كالمصدر الذي يوصف به المذكر والمؤنث، أو تكون البلدة بمعنى البلد.
٢- وإحياء الحيوان والإنسان لقوله سبحانه: أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً والأناسي:
جمع إنسان، أو جمع إنسيّ. وقدم الله الأنعام وأخر الإنسان لشدة حاجة الحيوان،
مظاهر أخرى ذات دلالة على الله تعالى
هناك أدلة أخرى على وجود الله تعالى وتوحيده: وهي إيجاد حاجز بين الماء الملح والماء العذب في وسط البحر، وخلق الإنسان من ماء مهين يكون سببا لبقاء النوع الإنساني، وتنوع العلاقات الإنسانية بالأنساب والمصاهرات، وقد أورد الله تعالى هذين الدليلين بعد بيان نعمة إنزال المطر، وتفريقه أو توزيعه في أنحاء الأرض وبين أهلها توزيعا، يلتقي مع الحاجة والحكمة الإلهية، فقال الله تعالى موضحا كل ذلك:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٠ الى ٥٤]
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤)
«١» »
«٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [الفرقان: ٢٥/ ٥٠- ٥٤].
لقد كان توزيع الأمطار بنسب متفاوتة بين البلاد وأهلها بفعل الله تعالى، وبمقتضى حكمته البالغة، وهذا هو المراد بالآية الأولى: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ.. أي ولقد فرقنا المطر وحولناه من جهة إلى أخرى، فأمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب من مكان إلى آخر، ليتذكروا نعمة الله ويعتبروا، ولكن أكثر الناس
(٢) جحودا.
(٣) أي خلاهما وأرسلهما متجاورين.
(٤) شديد العذوبة.
(٥) شديد الملوحة.
(٦) أي حاجزا.
(٧) أي حدا محدودا.
(٨) ذوي نسب ذكورا.
(٩) ذوات صهر إناثا. [.....]
والمراد بقوله تعالى: وَجاهِدْهُمْ بِهِ الضمير يعود على القرآن أو الإسلام.
ثم ذكر الله تعالى الدليل المتعلق بالبحار، فهو سبحانه الذي جعل البحرين المتضادين متجاورين متلاصقين لا يمتزجان، هذا ماء زلال عذب فرات، أي مفرط العذوبة، وهذا ملح شديد الملوحة، ولكن لا يختلط أحدهما بالآخر، كأن بينهما حاجزا منيعا، وحدا محدودا. وهذا دليل آخر على وجود الله وقدرته الباهرة ووحدانيته في الكون.
والدليل الأخير على وجود الله: أن الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة، فسوّاه وعدّله، وجعله كامل الخلقة، ذكرا أو أنثى كما يشاء الله، وقسم النوع الإنساني قسمين: ذكورا تنسب إليهم الأنساب، وإناثا يصاهر بهن، وكان الله الخالق قديرا بالغ القدرة، يفعل ما يشاء من هذا وغيره، يخلق ما يريد، على وفق
وهذا دليل آخر على قدرة الله تعالى، فهو الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأمده بالقوة، وأعانه في حياته على تحمل ظروف المعيشة، وسخّر له جميع منافع الكون، رحمة منه وفضلا، وقوله تعالى: وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً كان: يراد بها الدوام قبل وبعد، لا أنها تعطي مضيا فقط.
ومن يتأمل في الظواهر الكونية، بادر طوعا أو كرها إلى الإقرار بوجود الله ووحدانيته، إلها حكما عدلا، رحيما، قديرا، رازقا، مهيمنا، عليما بكل شيء، وفوق كل شيء، وخلق كل شيء فقدره تقديرا.
وثنية المشركين وإيمان الموحدين
لم يذعن المشركون لنداء القرآن العظيم بالإيمان بوحدانية الله، على الرغم من الأدلة الكونية الكثيرة المتقدمة في آيات سابقة، الدالة على وجود الله وقدرته وتوحيده، وإنما بقوا في مستنقع الوثنية، وظلوا يعبدون الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وليس الرسول مكلفا بحملهم على الهداية، وإنما دوره مقصور على التبشير والإنذار من غير طلب عوض أو مقابل من الأجور، وفي مواجهة ذلك، أمر الله نبيه والمؤمنين برسالته بإفراد الله بالعبادة، وتفويض الأمور إليه، لأنه مالك السموات والأرض وما بينهما، وخالق الشمس والقمر وبروج الكواكب، وجاعل الليل والنهار متعاقبين، قال الله تعالى مبينا منهج الفريقين:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٥ الى ٦٢]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [الفرقان: ٢٥/ ٥٥- ٦٢].
المعنى: ويعبد المشركون الوثنيون من غير الله تعالى آلهة لا تنفعهم عبادتها، ولا يضرهم هجرها وتركها، وكان الكافر على معصية ربه معينا غيره من الكفرة، ومعينا الشيطان بأن يطيعه. وهذا عام في جنس الكافر. وسبب نزول هذه الآية: هو أبو جهل بن هشام، ولكن اللفظ عام لجنس الكفار كلهم.
ثم سرّى الله عن نبيه وخفف عنه أحزانه بمعارضة قومه دعوته، فأبان له: لا تهتم بهم، ولا تذهب نفسك حسرات عليهم، حرصا عليهم، فإنما أنت رسول تبشر المؤمنين بالجنة، وتنذر الكافرين بالنار، ولست بمطالب بإيمانهم جميعا.
ثم أمر الله رسوله بأن يحتج على المشركين لإزالة وجوه التهم بقوله ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي لا أطلب مالا ولا نفعا يختص بي، لكن مسئولي ومطلوبي: هو إيمانكم بالله، فمن شاء أن يهتدي ويؤمن ويتخذ إلى رحمة ربه طريق نجاة، فليفعل. أو
(٢) هذا استثناء منقطع.
(٣) نزهة عن النقائص مع الحمد والثناء.
(٤) تباعدا عن الإيمان.
(٥) البروج منازل الكواكب السيارة.
(٦) أي كل منهما يأتي بعد الآخر.
واستمرّ أيها النبي في التبشير والإنذار، وتوكل على الحي الذي لا يموت، فهو المتكفل بنصرك في كل أمرك، وسبح بحمده، أي قل: سبحان الله وبحمده، أي تنزيهه واجب، وبحمده أقول، وكفى بالله عالما خبيرا بذنوب عباده ومعاصيهم الظاهرة والخفية، يعلم كل شيء منها، وهو محصيها عليهم، ومجازيهم عليها بالخير خيرا، وبالشر شرا.
والله الخبير العليم بكل شيء: هو الذي أوجد أو أبدع السموات السبع والأراضي السبع وما بينهما من المخلوقات، في ستة أيام، بقدرته وسلطانه، ثم استوى الله على العرش أعظم المخلوقات استواء يليق بعظمته وجلاله، فاسأل أيها السامع من هو خبير به، عالم بعظمته، فاتبعه واقتد به، أي اسأل جبريل والعلماء وأهل الكتب المنزلة سابقا.
وأما الكفار: فقابلوا الشكر والتوكل بالكفر والاعتماد على النفس، فإذا طلب منهم السجود لله أو للرحمن وحده، فقالوا سائلين سؤال مغالطة: وما الرحمن؟
استفهام عن مجهول عندهم. فقد كانت قريش لا تعرف هذا الاسم في أسماء الله تبارك وتعالى، وقالت: إن محمدا يأمر بعبادة رحمن اليمامة، أي مسيلمة الكذاب الذي تسمى بالرحمن، فنزل قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ: أنسجد لمن أمرتنا بالسجود له، لمجرد قولك، من غير أن نعرفه، وزادهم هذا الأمر بالسجود نفورا وإعراضا وبعدا عن الحق والصواب.
ولما كان سؤال قريش عن الله تعالى وعن اسمه الآخر الذي هو الرحمن سؤالا عن مجهول، نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته تعالى التي تعرّف به، وتوجب الإقرار
والله هو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين، يخلف أحدهما الآخر، ويأتي بعده، توقيتا لأوقات العبادة، وترويحا للنفوس، وتهدئة في الليل للمشاعر، وتيسيرا للرزق في النهار، لمن أراد أن يتذكر ما يجب عليه، ويتفكر في عجائب صنع الله، ويشكر ربه على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.
صفات عباد الرحمن
- ١- تميز القرآن الكريم بالعناية بالإيجابيات أكثر من السلبيات، وبالبناء التشريعي والعقدي والخلقي أكثر من الهدم والفوضى والانحلال، وبالأوامر الحاملة على التهذيب والفضيلة أكثر من النواحي التي تمنع من الانحراف والرذيلة، لذا تجد آيات القرآن تصف ضلال الكافرين والجاحدين، وتوبخهم وتؤنبهم، ثم تعود للعناية بتربية جيل الإيمان، ووفد العقيدة، وموكب النور والحضارة، لأن الإنذار وبيان العيوب ينبه العقلاء إلى وهاد الشر والفساد، أما التبشير والترغيب: فيأخذ بأيدي الصلحاء إلى جادة الحق ومنهج الاستقامة، وهكذا نجد ذم المشركين في آيات سابقة، ثم العودة السريعة لوصف عباد الرحمن بصفات جليلة ودائمة، قال الله تعالى في بيان هذه الصفات:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٣ الى ٦٧]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
«١» «٢»
(٢) قولا سديدا فيه أمان وسلام من الأذى.
هذه خمس صفات من تسع لعباد الرحمن- وهم المؤمنون حقا- تجمع بين غرر الأخلاق أو الآداب، وبين مصداقية العبادة، واعتدال النفقة، حتى لا يقع المؤمن في ضائقة، قد تصرفه عن واجباته نحو الله تعالى، أو توقعه في قلق وحيرة، وضرر وشدة.
١- أما الصفة الأولى من هذه الصفات: فهي التواضع وسمو النفس، فإن عباد الرحمن هم الذين يمشون في الأرض بسكينة ورفق ووقار، من غير ترفع ولا تعاظم، ويعاشرون الناس معاشرة حسنة لينة، من غير غلظة ولا قسوة، مع الاحتفاظ بسمو النفس وعزتها، وترفعها عن الدنايا، ومن غير استضعاف ولا ذلة، وإذا أساء إليهم الجهلة، لم يقابلوهم بالإساءة، وإنما عفوا وصفحوا، ولم يقولوا إلا خيرا، وإنما يقولون للجاهل: سلاما، من السلامة لا التسليم، أو يقولون قولا سديدا.
وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتكفأ في مشيه، كأنما يمشي في صبب «٤»، ويخاطب الناس برفق وترفع عن الخطأ والإيذاء.
٢- والصفة الثانية لعباد الرحمن: الحلم والأناة أو الإعراض عن الجاهلين، فإذا سفه عليهم الجهال بسوء القول، لم يعاملوهم بالمثل، بل عفوا وصفحوا، وتكلموا بخير، من غير غيظ ولا غضب، ورجح سيبويه أن المراد من قولهم: «سلاما» السلامة، لا التسليم. وتكون هاتان الصفتان الأولى والثانية: هما ترك الأذى، وتحمل الأذى.
٣- والصفة الثالثة: هي التهجد ليلا، فهم في ليلهم حيث ينام الآخرون
(٢) لم يضيّقوا.
(٣) وسطا بين الحالين.
(٤) أي مكان منحدر.
٤- والصفة الرابعة: هي الخوف من عذاب الله في جهنم، فهم يدعون ربهم بصرف عذاب النار عنهم، حتى يكونوا دائما في حذر وخوف مع الرجاء، وحيث يكون ذلك دليلا على صحة عقيدتهم وإيمانهم، وتطابق أعمالهم مع اعتقادهم، وعلة الدعاء على هذا النحو: أن عذاب جهنم ملازم للإنسان العاصي، ثقيل على النفس، وإن جهنم بئس المستقر أو المكان هو، وبئس موضع الإقامة هو أيضا.
٥- والصفة الخامسة: هي الاعتدال في الإنفاق أي ترك الإسراف والتقتير. فإن شأن المؤمنين إذا أنفقوا على أنفسهم لم يكونوا مبذّرين في النفقة، فلا تزيد عن الحاجة، ولا بخلاء مقترين، فيقصرون في أداء الحق والواجب، وإنما ينفقون أموالهم بنحو عدل وسط، بقدر الحاجة. والقصد من هذه الصفة: هو جعل نفقة الطاعات في المباحات من غير إفراط ولا تفريط، فلا يسرف حتى لا يضيع أو يهدر ثروته في وقت قصير، ولا يقتّر فيضيع حقا آخر أو يهمل عياله وأهله، أو يجيعهم ويفرط في الشح والبخل، والحسن في ذلك: هو القوام أي العدل، والقوام في كل واحد:
بحسب عياله وحاله، وبمدى قدرته أو جلده وصبره على الكسب، وخير الأمور أوساطها، كما جاء في آية أخرى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) [الإسراء: ١٧/ ٢٩].
أما النفقة في العبادة التي توهم غير المراد منها: فهي أمر قد حظرت الشريعة قليلة وكثيره، وكذلك التعدي على مال للآخرين.
- ٢- لم يقتصر الحق تعالى في بيان صفات عباد الرحمن- وهم المؤمنون حقا- على الاتصاف الإيجابي بصفات السداد والاعتدال، والعبادة والدعاء، وإنما عليهم تجنب الحرام والاعتداء على الحرمات في النفس والمال والعرض، وإهدار حقوق الآخرين وتزوير الحقائق. ويظلون على هذا مع قبول الموعظة الحسنة للاستزادة من التحلي بالفضيلة، والطلب من الله تعالى باستمرار حسن الحال، في النفس والزوجة والذرية، والقدوة لجميع الأتقياء، لتبقى قافلة الهدى والصلاح سائرة في مسيرتها الظافرة، ويكون المصير حسنا بالتمتع في جنان الخلد، وخلود النعيم والرضوان الإلهي، علما بأن ثمرة الطاعة والاستقامة تعود لصاحبها، ولا تنفع الله طاعة، ولا تضره معصية، قال الله تعالى مبينا هذه الخصال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٨ الى ٧٧]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢)
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦»
(٢) الاستثناء هنا في الظاهر متصل بما قبله، وقال أبو حيان: الأولى عندي أن يكون منقطعا، أي لكن من تاب فلا يضاعف له العذاب. [.....]
(٣) ساقط القول الذي لا نفع فيه.
(٤) مكرمين أنفسهم.
(٥) مسرّة وفرحا.
(٦) أي أعلى منازل الجنة وأفضلها، لأن الغرفة: الدرجة العالية أو الرفيعة.
نزلت آية وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ فيما
أخرجه الشيخان عن ابن عباس في أناس من أهل الشرك أكثروا من القتل والزنا، فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن كفارة لأعمالهم السابقة، فنزلت: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآيات.
وكذلك آية إِلَّا مَنْ تابَ نزلت فيما أخرجه البخاري عن ابن عباس بعد الآيات السابقة، حينما قال مشركو مكة: قد قتلنا النفس بغير حق، ودعونا مع الله إلها آخر، وأتينا الفواحش، فنزلت: إِلَّا مَنْ تابَ الآية.
هذه تتمة صفات عباد الرحمن وبيان جزائهم في الآخرة، لنفعهم المحض، لا لله المعبود.
٦- الصفة السادسة للمؤمنين عباد الرحمن: هي اجتناب الشرك والقتل والزنا، فهم لا يعبدون مع الله شريكا آخر، ولا يقتلون النفس عمدا إلا بحق كالقصاص وعقوبة الرجم وعقاب المرتد. ومن يفعل إحدى هذه الجرائم الثلاث، يجد في الآخرة عقابا شديدا مضاعفا ضعفين: أحدهما على الكفر، والآخر على المعصية الكبيرة، ويخلد في نار جهنم إلى الأبد مع الإهانة والإذلال، إلا أن التائب من المعصية ولو كانت قتلا، تكون توبته بالإقلاع عنها والندم عليها، والتصميم على تركها في المستقبل، والتصديق بالله ورسوله وآخرته، وفعل الأعمال الصالحة، وحينئذ يمحو الله عنه بالتوبة سيئته، ويبدل مكانها حسنة، ويغفر الله له ويرحمه. وتبديل السيئات بالحسنات معناه: أن يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأولى طاعة، فيكون ذلك سببا
(٢) عبادتكم لله.
(٣) ملازما لكم.
٧- والصفة السابعة: هي اجتناب شهادة الزور وهي الكذب على غيره متعمدا، لأن الزور هو الكذب، والمعنى لا يشهدون الزور، فهي من الشهادة، لا من المشاهدة. وهم أيضا لا يحضرون مجالس الزور، وهو كل باطل مزور ومزخرف، وإذا صدف مرورهم بذلك، مرّوا غير متدنسين منه بشيء. فيكون المراد من هذه الصفة: ترك حضور الزور وكل بهتان وإثم، وأعظمه الشرك.
٨- والصفة الثامنة: هي قبول الموعظة، فإن عباد الرحمن إذا ذكّروا بآيات ربهم، حرصوا على استماعها، وأقبلوا على تلقيها بآذان صاغية، وقلوب واعية، وأبصار متفتحة.
٩- والصفة التاسعة: الابتهال إلى الله، فعباد الرحمن: هم الذين يبتهلون إلى ربهم، داعين الله أن يرزقهم زوجات صالحات، وأولادا أتقياء، وأن يكونوا قدوة حسنة، وأئمة يقتدى بهم في الخير واتباع الدين.
ثم ذكر الله تعالى جزاء عباد الرحمن وهو أنهم يجزون بالدرجات العالية في الجنان ويتلقون التحية والسلام والإكرام، بسبب صبرهم على الطاعة، وعن المعصية. وهم خالدون في النعيم الأبدي الذي لا ينقطع، وحسن ذلك المقر والمقام.
ثم ختم الله تعالى سورة الفرقان وبيان صفات عباد الرحمن بإعلان واضح: مفاده أن الله غني عن عباده، فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، ولا يبالي الله بهم لولا إقبالهم على دعائه ومناجاته. وأما أنتم يا معشر الكافرين فإنكم كذبتم رسلي، ولم تؤمنوا بلقائي، فسوف يكون تكذيبكم سببا ملازما لعذابكم.