تفسير سورة آل عمران

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
مدنية وآياتها مائتان
كلماتها ٣٤٨٥ حروفها : ١٤٤٢٤

﴿ ألم ﴾
السورة المبدوءة بحروف مقطعة تسع وعشرون سورة وحين ننطق بهذه الفواتح ننطق بأسماء الحروف١ ثم من العلماء من عد هذه الفواتح مما استأثر الله تعالى بعلمه فردوا علمها إليه سبحانه ومنهم من قال : هي من المحكم الذي يمكن التوصل إلى معناه فإما أن تكون أسماء للسور أو أقساما أقسم ربنا جل وعز بها ولربنا الحكيم أن يقسم بما شاء وذهب البعض إلى أن كل حرف منها يدل على اسم من أسمائه الحسنى أو صفة من صفاته فالألف مفتاح اسم ﴿ الله ﴾ واللام مفتاح ﴿ اللطيف ﴾ والميم مفتاح اسمه ﴿ المجيد ﴾ وذهب آخرون إلى أنها ذكرت في أوائل السور للإعجاز إذ هذه الحروف ينطق الخلق بها والقرآن العزيز مركب منها ومع ذلك عجزوا وسيظلون عاجزين عن الإتيان بكلام يشبه كلام الملك القدوس عز وجل.
١ فلا نقول في ﴿ألم﴾ مثلا ألم ولكن ننطق باسم كل حرف منها فنقول ألف لام ميم. وهكذا..
﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾
المستحق للعبادة هو الله لا يستحقها سواه- و﴿ الله ﴾ مبتدأ و﴿ لا إله ﴾ مبتدأ ثان وخبره محذوف تقديره معبودا أو موجودا و﴿ إلا هو ﴾ بدل من موضع ﴿ لا إله ﴾..... ﴿ الحي القيوم ﴾ نعت لله عز وجل.. قال الطبري : عن قوم إنه يقال حي قيوم كما وصف نفسه ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه.. ؛ وقال السدي : المراد بالحي الباقي.. ﴿ القيوم ﴾.. القائم بتدبير ما خلق عن قتادة وقال الحسن معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شيء منها ؛ وقال ابن عباس معناه الذي لا يحول ولا يزول-١.
١ ما بين العارضتين أورده القرطبي في الجامع لأحكام القرآن..
﴿ الكتاب ﴾ القرآن. ﴿ بالحق ﴾ بالصدق. ﴿ لما بين يديه ﴾ لما سبقه.
﴿ التوراة ﴾ كتاب الله المنزل على موسى عليه السلام.
﴿ الإنجيل ﴾ كتاب الله المنزل على عيسى عليه السلام.
القرآن الموحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو وحي الحكيم سبحانه أنزله١ متلبسا بالحق مشتملا على ما يقيم بين الناس ميزان القسط والعدل وفيه ما يشهد للتوراة والإنجيل بالصدق ويبين ما أخفاه منهما أهل التحريف والزيغ، وقد جاء الفرقان والكتاب المجيد بعدهما ناسخا لهما مهيمنا عليهما ومن يجحد آيات ربنا التنزيلية وحججه التكوينية فإن عقابه على جحوده أليم موجع مذل دائم ولا يمنعه من بأس الله مانع.
﴿ الفرقان ﴾ الذي فرق الله تعالى به بين الحق والباطل وهو القرآن.
﴿ عزيز ﴾ لا نظير له ولا مثيل له والقاهر الذي يغلب ولا يغلب.
القرآن الموحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو وحي الحكيم سبحانه أنزله١ متلبسا بالحق مشتملا على ما يقيم بين الناس ميزان القسط والعدل وفيه ما يشهد للتوراة والإنجيل بالصدق ويبين ما أخفاه منهما أهل التحريف والزيغ، وقد جاء الفرقان والكتاب المجيد بعدهما ناسخا لهما مهيمنا عليهما ومن يجحد آيات ربنا التنزيلية وحججه التكوينية فإن عقابه على جحوده أليم موجع مذل دائم ولا يمنعه من بأس الله مانع.
ربنا المعبود بحق لا يغيب عن سمعه وبصره ولا يستتر عن علمه شيء في الكون كله علويه وسفليه – وعبر عن معلوماته بما في الأرض والسماء مع كونها أوسع من ذلك لقصور عباده بما سواها من أمكنة مخلوقاته وسائر معلوماته من جملة ما لا يخفى عليه إيمان من آمن من خلقه وكفر من كفر-١. عن محمد ابن الزبير :﴿ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ﴾ أي قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في عيسى جعلوه ربا وإلها وعندهم من علمه غير ذلك، غرة بالله وكفرا به وعنه ﴿ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ﴾
١ ما بين العارضتين من فتح القدير للشوكاني..
﴿ الأرحام ﴾ واحدها رحم وهو موضع الجنين من المرأة.
﴿ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ﴾ قد كان عيسى ممن صور في الأرحام لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه كما صور غيره من بني آدم فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل ؟.
وعن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : قوله تعالى ﴿ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ﴾ إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يوما ثم تكون علقة أربعين يوما ثم تكون مضغة أربعين يوما فإذا بلغ أن يخلق بعث الله ملكا يصورها كما يؤمر فيقول أذكر أو أنثى أو أشقى أو سعيد وما رزقه وما عمره وما أثره وما مصائبه ؟ فيقول الله ويكتب الملك.. ثم أعلمهم أنه الحكيم في تدبيره وإعذاره إلى خلقه ومتابعة حججه عليهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
﴿ محكمات ﴾ معروف تفسيرها مفهوم أو لا يصرفن عما وضعن عليه.
﴿ متشابهات ﴾ ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل أو لهن تصريف وتأويل.
﴿ زيغ ﴾ ميل عن القصد. ﴿ تأويله ﴾ ما يؤول إليه الأمر ويصير.
﴿ يذكر ﴾ يتذكر فلا ينسى ويتدارس فيحفظ دون ترك أو تضييع.
﴿ أولوا الألباب ﴾ أصحاب العقول.
قوله ﴿ منه آيات محكمات ﴾.. يعني آيات القرآن وأما المحكمات فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبينات والتفصيل وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام ووعد ووعيد، وثواب وعقاب وأمر وزجر ومثل وعظة وعبر.. وما أشبه ذلك. ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن { هن الفرائض والحدود وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم وإنما سماهن أم الكتاب لأنهن معظم الكتاب وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه-١.
أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴾ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه٢ منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم ).
١ مما أورد صاحب جامع البيان..
٢ الأصل في معنى التشابه: كون الشيئين بحيث يعجز الذهن عن التمييز بينهما ثم يقال لكل ما لا يهتدي إليه الإنسان متشابه ونظير المشكل لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره. ومما أورد الحسن النيسابوري لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بالدلالة القطعية العقلية على أن معناه الراجح محال عقلا فإذا قامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به الظاهر فعند هذا لا يحتاج إلا أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا.. فإذن الخوض في تعيين التأويل غير جائز ويدخل في هذا الباب استدلال المشبه بقوله ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ فإنه لما ثبت بتصريح العقل امتناع كون الإله في مكان فمن تمسك به كان متمسكا بالمتشابهات.. والإنصاف أن الآيات ثلاثة أقسام أحدها ما يتأكد ظواهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقا. وثانيها التي قامت الدلائل القاطعة على طرفي ثبوته وانتفائه فهو المتشابه بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر.. الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى وأنه لا يتكلم بالباطل والبعث فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القاطعة على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد الله تعالى عرفوا أن مراد الله تعالى منه شيء غير ذلك الظاهر ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله بحيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن... ١هـ؛ أقول بين المولى تقدست أسماؤه في مواطن من الذكر العزيز أن آيات الفرقان كلها محكمات يقول تبارك وتعالى ﴿تلك آيات الكتاب الحكيم﴾ ويقول سبحانه ﴿كتاب أحكمت آياته..﴾ ولعل المراد بالإحكام هنا كون كل القرآن كلاما حقا فصيح الألفاظ صحيح المعاني وأنه بحيث لا يتمكن أحد من الإتيان بمثله قال مولانا وهو أصدق القائلين ﴿الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها..﴾ أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والإعجاز والبراءة من التناقص والتناقض..
﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ﴾.
جاز أن يكون هذا من تتمة حال الراسخين ومقالهم فهم مستيقنون بأن محكم القرآن ومتشابهه تنزيل من الحكيم الحميد وهم يضرعون إلى ربنا القريب المجيب أن يثبتهم على هذا التصديق واليقين حتى لا تميل القلوب عن سبيل الحق والرشد ويدعونه أن يمنحهم رحمة في أولاهم وأخراهم كما يسألونه وهو الذي يبعث الخلائق يوم النشور أن ينجيهم من الخزي والعذاب وأن يعظم لهم الأجور وجائز أن يكون خبرا يراد به الطلب أي قولوا ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا – ﴿ رحمة ﴾ ليشمل جميع أنواعها فأولها أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة وثانيها أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية.. وثالثها أن يحصل له في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية ورابعها أن يحصل له عند الموت سهولة أسباب سكرات الموت، وخامسها سهولة السؤال والظلمة والوحشة في القبر، وسادسها في القيامة سهولة الخطاب وغفران السيآت وتبديلها بالحسنات، وسابعها في الجنة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وثامنها في الحضرة رفع الأستار ورؤية الملك الجبار-١.
١ ما بين العارضتين مما أورد الحسن النيسابوري ثم تابع: قال أهل السنة: القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان وصالح لأن يميل إلى الكفر وكل منهما يتوقف على داعية ينشئها الله تعالى فيه إذ لو حدثت بنفسها لزم سد باب إثبات الصانع فإن كانت داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والرين وغيرهما مما ورد في القرآن. وإن كانت داعية الإيمان فهو التوفيق والرشاد والهداية والتثبيت والعصمة ونحوها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن).... ﴿إن الله لا يخلف الميعاد﴾ قيل هو كلام الله تعالى كأنه يصدقهم فيما قالوه... واعلم أنه لا يلزم من أنه تعالى لا يخلف الوعد القطع بوعيد الفساق كما يزعم المعتزلة لأن كل ما ورد في وعيد الفساق فهو عندنا مشروط بشرط عدم التوبة..
﴿ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ﴾ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أن من لم يصدق بالله تعالى وما يجب الإيمان به فإن أقرب قريب إليهم من مال وولد لا يدفع عنهم ما نزل العزيز بهم من بأس، والمال والولد أول ما يفزع إليه عند النوازل، و﴿ من ﴾ في قوله ﴿ من الله ﴾ للبدل مثل قوله ﴿ .. إن الظن لا يغني من الحق شيئا.. ﴾١ أي بدله والمضاف محذوف تقديره لن تغني عنهم بدل رحمة الله وطاعته شيئا وفي الحديث ( ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) أي لا ينفعه جده وحظه في الدنيا بدل طاعتك وعبادتك٢ ﴿ وأولئك هم وقود النار ﴾ هم في الدنيا مخذولون وفي الآخرة تسعر بهم النار ومالهم من شفعاء ولا أنصار فهم حطب جهنم وتعلوهم الذلة والصغار.
١ من سورة يونس الآية ٣٦..
٢ من تفسير غرائب القرآن..
﴿ كدأب ﴾ كصنيع وحال وأمر وشأن وعادة.
﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ﴾ شأن الذين يكذبون بما بعث الله به النبي الخاتم كشأن قوم فرعون والأمم المكذبة من قبلهم مثل قوم نوح وقوم هود وقوم صالح ومن على شاكلتهم ممن جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله فلما آسفونا أذقناهم الخزي وأحللنا بهم النقمة والبأس في الدنيا وعذاب الآخرة أخزى.
﴿ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ﴾ أمر من الله العلي الكبير إلى نبينا البشير النذير أن يحذر أهل الكفر من العذاب العاجل -الغلبة والهزيمة- والآجل- ( لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش.. )١ عن ابن عباس قال : لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر فقدم المدينة جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال ( يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا ) فقالوا يا محمد لا تغرنك نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تأت مثلنا فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم ﴿ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ﴾ إلى قوله ﴿ لأولي الأبصار ﴾. ٢ ١ه.
١ من سورة الأعراف من الآية ٤١..
٢ نقله عنه الطبري وارتضاه..
﴿ لأولي الأبصار ﴾ لأصحاب الفهم.
﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾ عن قتادة والربيع ما حاصله قد كان لكم علامة وعبرة ومتفكر في فرقتين التقتا للحرب وإحدى الفئتين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر والأخرى مشركو قريش ﴿ يرونهم مثليهم رأي العين ﴾ قال كان ذلك يوم بدر وكان المشركون تسعمائة وخمسين وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة عشر رجلا فإن قال لنا قائل فكيف قيل ﴿ يرونهم مثليهم رأي العين ﴾ وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذ ثلاثة أمثال المسلمين قلنا لهم كما يقول القائل -وعنده عبد- احتاج إلى مثله أنا محتاج إليه وإلى مثله ثم يقول أحتاج إلى مثليه فيكون ذلك خبرا عن حاجته إلى مثله وإلى مثلي ذلك المثل.. صار المثل اثنين والاثنان ثلاثة١. وقال عبد الله بن مسعود قد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا وذلك قول الله عز وجل ﴿ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينكم... ﴾٢ يقول أبو جعفر : فمعنى الآية على هذا التأويل : قد كان لكم يا معشر اليهود آية في فئتين التقتا إحداهما مسلمة والأخرى كافرة كثير عدد الكافرة قليل عدد المسلمة ترى الفئة القليل عددها الكثير عددها أمثالا لها أنها تكثرها من العدد بمثل واحد.. فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قللهم في أعينهم والمعنى الآخر منه التقليل الثاني على ما قاله ابن مسعود وهو أن أراهم عدد المشركين مثل عددهم لا يزيدون عليهم فذلك التقليل الثاني... ﴿ والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾ والله يشدد ويقوي ويحصن ويحذر بعونه وتأييده وغلبه على عدوه من يشاء ويريد من عباده، إن في ذلك لمعتبرا ومتفكرا لأصحاب البصائر والعقول ومتعظا لمن يدرك الحق.
١ ما بين العارضتين مما أورد الطبري..
٢ من سورة الأنفال من الآية ٤٤..
﴿ البنين ﴾ الأولاد. ﴿ القناطير ﴾ واحدها قنطار وهو معيار يوزن به.
﴿ المقنطرة ﴾ المضعفة أضعافا كثيرة.
﴿ الذهب والفضة ﴾ المعدنان النفيسان.
﴿ الخيل ﴾ اسم جمع لا واحد له من لفظه والواحد من معناه فرس
﴿ المسومة ﴾ الراعية في المروج والمسارح والراعي.
﴿ الأنعام ﴾ الإبل والبقر والغنم. ﴿ الحرث ﴾ كل ما يحرث ويزرع.
﴿ متاع ﴾ ما يتمتع به ويتلذذ به. ﴿ المآب ﴾ المرجع.
﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾ حسن للبشر حب١ ما تميل إليه نفوسهم، يسرون بنيله ويبتهجون وينزعون إلا قليلا إلى ما يرغبون ؛ - واختلف الناس من المزين ؟ فقالت فرقة : الله زين ذلك ؛ وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ ذكره البخاري. وفي التنزيل ﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها.. ﴾٢ ولما قال عمر : الآن يا رب حين زينتها لنا نزلت.
﴿ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم... ﴾
١ قال المتكلمون: في الآية دليل على أن الحب غير الشهوة لأن المضاف يجب أن يكون مغايرا للمضاف إليه فالشهوة من فعل الله تعالى والمحبة من أفعال العباد وهي أن يجعل الإنسان كل همته مصروفة إلى اللذات والطيبات. نقل هذا عن المتكلمين صاحب تفسير غرائب القرآن..
٢ من سورة الكهف من الآية ٧..
﴿ أؤنبئكم ﴾ هل أخبركم ؟. ﴿ رضوان ﴾ رضا العظيم.
﴿ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم... ﴾وقالت فرقة : المزين هو الشيطان وهو ظاهر قول الحسن فإنه قال : من زينها ؟ ما أحد أشد لها ذما من خالقها فتزيين الله تعالى إنما هو الإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها. والآية على كل الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخ لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم.. واتباع الشهوات مرد وطاعتها مهلكة-١.
عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات )٢ فكان المعنى الجنة لا تنال إلا بحبس النفس على مطالب الحق والصبر على ذلك وما يردي المكلف في جهنم من اتباع الهوى ومطاوعة النفس فيما تشتهيه ﴿ من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ﴾، ﴿ من ﴾ لبيان الجنس فالشهوات منها الميل إلى النساء ومنها حب الذكور من الذرية تكاثرا بهم ومنها حب جمع وتملك الأوزان التي تبلغ القناطير المضاعفة الكثيرة من الذهب ومن الفضة إذ بتملكها ووفرتها تتحقق الرغائب وتدرك الأماني والمطالب إلا أن يشاء الله، ومن الشهوات التي تهفو إليها نفوس الكثيرين تملك الأفراس والحقول وما يحرث ويزرع. ﴿ ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ﴾ هذه الزينات الحائلة والمتع العاجلة لا تلبث أن تفارق من تملكوها أو يفارقوها لكن ما أعد الله الغني الشكور للمتاجرين معه تجارة لا تبور الذين يبتغون فيما آتاهم ربهم الدار الآخرة -ما أعد هؤلاء الذاكرين الشاكرين خير وأبقى ؛ وإنما يذم التعلق بهذه الشهوات إذا ألهت عن الوفاء بحق الله، وإلا فهي من الحلال الطيب. وصدق الله العظيم ﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة.. ﴾٣ فالنساء جاء الكتاب العزيز بشرعة الزواج منهن ﴿ .. فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم.. ﴾٤. كما جاءت السنة الصحيحة بالدعاء لمن أحسن اختيار الفضلى منهن، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( عليك بذات الدين تربت يداك ) لكن الكثيرات منهن حبائل الشيطان ففي الصحيحين عن رسوله صلى الله عليه وسلم قال ( ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء ). والأبناء الأتقياء بركة على أنفسهم وعلى والديهم ومن هنا كان من ضراعة الرسل الكرام إلى ربنا الكريم الوهاب :﴿ رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء.. ﴾٥، ﴿ .. فهب لي من لدنك وليا ﴾٦. وعلمنا القرآن من دعاء عباد الرحمن ﴿ ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين.. ﴾٧ وأما حين لا يصلحون فهم العدو المبين وصدق الله العظيم ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم.. }٨. يقال : في النساء فتنتان وفي الأولاد فتنة واحدة، فأما اللتان في النساء فإحداهما أن تؤدي إلى قطع الرحم، لأن المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأمهات والأخوات، والثانية يبتلى بجمع المال من الحرام والحلال. وأما البنون فإن الفتنة فيهم واحدة، وهو ما ابتلي بجمع المال لأجلهم. أقول وفي الذكر العزيز :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ﴾٩. وفي الكتاب المجيد كذلك ﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم ﴾١٠ وأما حب المال الكثير فلا وزر فيه إذا جمع من الحلال، وأنفق في مرضاة ربنا ذي الجلال ﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء... ﴾١١، ونعم المال الصالح للعبد الصالح ؛ لكن الاغترار به والركون إليه يحمل على البغي والطغيان ﴿ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ﴾١٢ بل يطغى على العقول والقلوب حتى تستحب العمي على الهدى وهكذا فتن صاحب الجنتين ﴿ .. قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن هذه الساعة قائمة.. ﴾١٣ ﴿ يحسب أن ماله أخلده ﴾١٤، وأما الخيل فقد أمرنا بإعدادها لتكون عونا لجند الحق المؤمنين وسبيلا لخذلان المبطلين يقول مولانا وهو أصدق القائلين ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم.. ﴾١٥، وفي صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الخيل معقودة في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ) وفي رواية ( الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( الخيل لثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنها قطعت كيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به كان ذلك حسنات له فهو لذلك الرجل أجر، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر )، أي مناوأة لأهل الحق وغلبة على حقوقهم " رواه البخاري في الجهاد والتفسير وغيرهما ورواه مسلم في الزكاة.
﴿ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ﴾- منتهى الاستفهام عند قوله ﴿ من ذلكم ﴾ و﴿ للذين اتقوا ﴾ خبر مقدم و﴿ جنات ﴾ رفع بالابتداء.. قال ابن عطية وهذه الآية والتي قبلها نظير قوله عليه السلام ( تنكح المرأة لأربع لمالها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ) أخرجه مسلم وغيره، فقوله ( فاظفر بذات الدين ) مثل لهذه الآية وما قبل مثال للأولى فذكر تعالى وهو أنه إذا دخل أهل الجنة يقول الله تعالى لهم ( تريدون شيئا أزيدكم ) ؟ فيقولون يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا " رضاي فلا أسخط بعده أبدا " أخرجه مسلم. وفي قوله تعالى ﴿ والله بصير بالعباد ﴾ وعد ووعيد-١٦ :
١ ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن..
٢ رواه مسلم في صحيحه..
٣ سورة الأعراف من الآية ٣٢..
٤ سورة النساء من الآية ٣..
٥ سورة آل عمران من الآية ٣٨..
٦ سورة مريم من الآية ٥..
٧ سورة الفرقان من الآية ٧٤..
٨ سورة التغابن من الآية ١٤..
٩ سورة المنافقون الآية ٩..
١٠ سورة التغابن الآيات ١٥-١٦-١٧..
١١ سورة البقرة من الآية ١٦١..
١٢ سورة العلق من الآية ٦ والآية٧..
١٣ سورة الكهف من الآية ٣٥ ومن الآية ٣٦..
١٤ سورة الهمزة الآية ٣..
١٥ سورة الأنفال من الآية ٦٠..
١٦ من الجامع لأحكام القرآن..
﴿ قنا ﴾ احفظنا واجعل لنا وقاية.
﴿ الذين يقولون ربنا إننا آمنا ﴾ بدل من ﴿ للذين اتقوا ﴾ أو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين يقولون، وذكر من خلق المتقين هنا ست خصال : أولها قولهم يا مليكنا وخالقنا إننا صدقنا لك وبكل ما أوجبت علينا التصديق به ﴿ فاغفر لنا ذنوبنا ﴾ فاستر علينا آثامنا لا تفضحنا بها واصفح يا مولانا عن مؤاخذتنا وعقوبتنا على اقترافها ﴿ وقنا عذاب النار ﴾ وحل بيننا وبين دخول جهنم ﴿ .. ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته.. ﴾١.
١ سورة غافر من الآية ٩..
﴿ القانتين ﴾ الطائعين الخاضعين.
﴿ الأسحار ﴾ واحدها سحر وهو سدس الليل الأخير.
﴿ المستغفرين ﴾ السائلين ربنا المغفرة للذنوب وسترها والعفو عن العقوبة عليها.
﴿ الصابرين ﴾ الحابسين أنفسهم على طاعة الله والحابسيها عن معصيته والثابتين على الرشد في السراء والضراء وحين البأس ﴿ والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ﴾ بعد الخصلتين الأوليين ذكر حرف العطف إما لأن الموصوف بها متعدد وإما للدلالة على استقلال كل منهما وكمالهم فيها، فالصدق في القول والعمل والسر والعلانية يكتب صاحبه عند الله تعالى صديقا والخضوع لله الملك المهيمن والتضرع إليه سبحانه والمداومة١ على طاعته وبذل المال فيها يرضي رب العزة والجلال كل أولئك مما تدرك بها الجنات وترفع به الدرجات – في ترتيب طلب المغفرة في قوله تعالى ﴿ فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ﴾ على مجرد الإيمان دليل على كفاية في استحقاق المغفرة والوقاية من النار من غير توقف على الطاعات، والمراد من الذنوب الكبائر والصغائر.. ﴿ والمستغفرين بالأسحار ﴾ قال مجاهد والكلبي وغيرهما بالأسحار.. عن زيد بن أسلم قال : هم الذين يشهدون صلاة الصبح من ثلث الليل بذلك لما فيها من الخفاء.. وقال بعضهم السحر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة إذ العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروح أجمع، وفي الصحيح أنه تعالى وتنزه عن سمات الحدوث ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول ( من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر )٢.
١ مما جاء في تفسير غرائب القرآن ثم إن ههنا أمرين يعينان على الطاعة الخدمة بالمال والابتهال والتضرع إلى حضرة القدس والجلال وذلك قوله ﴿والمنفقين والمستغفرين بالأسحار﴾ فقوله ﴿والمنفقين﴾ معناه الشفقة على خلق الله..
٢ من روح المعاني بتصرف يسير..
﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ﴾ قال الزجاج : الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه فقد دلنا الله تعالى على وحدانيته بما خلق وبين ؛ ويرى السدي وغيره أن المراد بأولي العلم المؤمنون كلهم. إنه سبحانه دل على وحدانيته بل وسائر كمالاته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره وما نصبه من الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وما أوحي من آياته الناطقة بذلك -كسورة الإخلاص وآية الكرسي- وغيرهما.. ﴿ والملائكة وأولوا العلم ﴾ عطف على الاسم الجليل ولا بد حينئذ من حمل الشهادة على معنى مجازي كامل شامل لا يسنده إلى هذين الجمعين بطريق عموم المجاز أي : أقر الملائكة بذلك وآمن العلماء به واحتجوا عليه... وقوله تعالى ﴿ قائما بالقسط ﴾ بيان لكماله تعالى في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته ؛ و﴿ القسط ﴾ العدل والباء للتعدية أي مقيما بالعدل.. ﴿ لا إله إلا هو ﴾ تقرير للمشهود به للتأكيد، وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعي إنما يكون بالدليل.. ولينبنى عليه قوله تعالى :﴿ العزيز الحكيم ﴾ فيعلم أنه المنعوت بهما وقيل : لا تكرار لأن الأول شهادة الله تعالى وحده والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم-١.
قال جعفر الصادق : الأولى وصف وتوحيد والثانية رسم وتعليم، يعني قولوا لا إله إلا الله العزيز الحكيم.
١ من روح المعاني..
﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ قال أبو العالية الدين في هذه الآية الطاعة والملة والإسلام بمعنى الإيمان١ والطاعات. فمن أراد شرعه وعبودية يرفعها مولاه جل علاه فليتبع الشرعة الحنيفية السمحة وإلا فلن يقبل الله تعالى منه عملا ولا صرفا ولا عدلا. ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ ؛ ﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾ عن ابن عمر : بغيا على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها... ولعل المراد ب ﴿ الذين أوتوا الكتاب ﴾ اليهود والنصارى وبالكتاب الجنس – واختلفوا في التوحيد وقيل في نبوته صلى الله عليه وسلم وقيل في الإيمان بالأنبياء –. وقوله تعالى ﴿ إلا من بعدما جاءهم العلم ﴾ زيادة أخرى، فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القباحة.. أي ما اختلفوا في وقت لغرض إلا بعد العلم لغرض البغي٢. ﴿ ومن يكفر بآيات الله ﴾ من ينكر ويجحد حجج ربنا وكلماته الدالة على أن الدين المرتضى هو الإسلام ﴿ فإن الله سريع الحساب ﴾ فإن مولانا محيط علمه، تامة قدرته، سريع قضاؤه وجزاؤه، هذا نذيرنا لمن لم يستيقن برسالتنا ورسولنا.
١ الأصل في المسمى الإيمان والإسلام التغاير ففي الصحيحين من حديث جبريل عليه السلام (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه رسله والبعث بعد الموت وبالقدر خيره وشره..) الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان) أو كما قال..
٢ من روح المعاني..
﴿ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ﴾ [ أي جادلوك بالأقاويل المزورة والمغطاة فأسند أمرك إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ وعلى الله نصرك، وقوله ﴿ وجهي ﴾ بمعنى ذاتي ومنه الحديث ( سجد وجهي للذي خلقه وصوره ).. وقوله ﴿ من اتبعن ﴾ ﴿ من ﴾ في محل رفع عطفا على التاء في قوله ﴿ أسلمت ﴾ أي ومن اتبعن أسلم أيضا.. قوله تعالى ﴿ وقولوا للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ﴾ الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب ﴿ أأسلمتم ﴾ استفهام معناه التقرير.
وقال زجاج ﴿ أأسلمتم ﴾ تهديد وهذا حسن لأن المعنى أأسلمتم أم لا ]١. فإن دخلوا في الإسلام فقد أصابوا سبيل الاستقامة وجادة الرشد وإن أعرضوا عما تدعون إليه فما أنت عليهم بوكيل وليس عليك هداهم إنما أنت مذكر ورسول تبلغ فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وربك ذو علم محيط بمن آمن وعمل صالحا، ومن بغى وغوى، وسيجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
مما يقول صاحب تفسير القرآن العظيم : وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله تعالى ﴿ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا.. ﴾٢ وقال تعالى ﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾٣ وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم امتثالا لأمر الله له بذلك. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار )٤... وقال (.. وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )٥.
١ ما بين العلامتين [] من الجامع لأحكام القرآن..
٢ سورة الأعراف من الآية ١٥٨..
٣ سورة الأعراف من الآية ١..
٤ رواه مسلم عن أبي هريرة..
٥ متفق عليه..
رضي الله تعالى لعباده الإسلام دون سواه، فمن كذب بالحق وقد جاءه وأعرض عن الهدى بعد أن تبين له وقتل الأنبياء وهم صفوة البشر الذين بعثوا بوحي رب القوى والقدر، أو قتلوا الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر فأنبئهم بما ينتظرهم من العقاب الموجع وتقييد قتلهم النبيين وما عطف عليه بالقول الكريم :﴿ بغير حق ﴾ قيد لبيان الواقع فإن قتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون بالقسط١ من الناس يكون إذا وقع دائما بغير حق فهو قيد ليس للاحتراز – دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة.. وفي التنزيل ﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.. ﴾٢، ثم قال﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.... ﴾٣ فجعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين... ٤.
روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ).
١ أورد القرطبي: وقد روى عن ابن مسعود قال: النبي صلى الله عليه وسلم ( بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس بئس القوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر بئس القوم قوم يمشي المؤمن من بينهم بالتقية)..
٢ من سورة التوبة من الآية ٦٧..
٣ سورة التوبة من الآية ٧١..
٤ مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن وأضاف: قال الحسن: قال النبي صلى الله عليه سلم: "ومن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه" وعن درة بنت أبي لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال من خير الناس يا رسول الله قال " آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه".. ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد وإنما يقوم به السلطان إذا كانت إقامة الحدود إليه والتعزيز إلى رأيه، والحبس والإطلاق له والنفي والتغريب، فينصب في كل بلد رجلا صالحا قويا عالما وأمينا ويأمره بذلك ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة. قال الله تعالى ﴿الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر...﴾.. وليس من شرط الداعي أن يكون عدلا عند أهل السنة خلافا للمبتدعة حيث تقول لا يغيره إلا العدل، وهذا ساقط فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس فإن تشبثوا بقوله تعالى ﴿أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم...﴾ وقوله ﴿كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون﴾ ونحوه، قيل لهم: إنما وقع الذم هاهنا على ارتكاب ما نهى عنه لا على نهيه عن المنكر ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى.. أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك؛ وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه لم يستطع سوى ذلك قال: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا ولكنها مقيدة بالاستطاعة.. وزعم ابن العربي أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند الكثير من العلماء الاقتحام عند هذا الغرر –الخطر- وإن لم يرج زواله فأي فائدة عنده؟ والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف ما كان ولا يبالي.. وهذه الآية على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع خوف القتل. وقال تعالى ﴿.. وامر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك..﴾ وهذا إشارة للإذاية.. قال العلماء الأمر بالمعروف باليد على الأمراء وباللسان على العلماء وبالقلب على الضعفاء يعني عوام الناس فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله وإن لم يمكنه بالعقوبة أو بالقتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل وهذا تلقي من قول الله تعالى ﴿... فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله..﴾ وعليه بين العلماء أنه إذا دفع الصائل -القاتل- على نفسه أو ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شيء عليه... وقيل كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء إمام عادل لا يظلم وعامل على سبيل الهدى ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى... ؛ روى أنس بن مالك: قيل يا رسول الله متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال (إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم) قلنا يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا قال ( الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم). قال زيد: تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (والعلم في رذالتكم) إذا كان العلم في الفساق أخرجه ابن ماجه. ١هـ. يراجع من شاء الجزء الرابع من الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي جـ٤ صـ٤٦وما بعدها..
﴿ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾ والجاحدون الباغون وقتلة الأنبياء وأعداء الداعين إلى الحق كل أهل الفساد والغي هؤلاء بطل ثواب عملهم في عاجل حياتهم وآجلها.
﴿ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ﴾، ﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.. ﴾ ١، ﴿ قل أنفقوا طوعا أوكرها لن يتقبل منكم.. ﴾٢، ﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله.. ﴾٣.
-فأما قوله ﴿ في الدنيا ﴾ فلم ينالوا بها محمدة ولا ثناء من الناس لأنهم كانوا على ضلال وباطل ولم يرفع الله لهم بها ذكرا بل لعنهم وهتك أستارهم وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم...... فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمة فذلك حبوطها في الدنيا وأما في الآخرة فإنه أعد لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بورا لا ثواب لها.. ﴿ وما لهم من ناصرين... ﴾ وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله إذا انتقم منهم بما سلف من إجرائهم واجترائهم عليه فيستنقذهم منه-٤.
١ من سورة الأنفال من الآية ٣٦..
٢ من سورة التوبة من الآية ٥٣..
٣ من سورة التوبة الآية ٥٤..
٤ من جامع البيان في تفسير القرآن..
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ﴾[.. دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم أو إياهم والنصارى إلى الآيات الدالة على صحة نبوته من التوراة أو منها ومن الإنجيل فأبوا فنزلت ؛ ومعنى قوله ﴿ نصيبا ﴾ أي حظا وافرا من علم الكتاب يريد أحبار اليهود. و﴿ من ﴾ إما للتبعيض وإما للبيان والكتاب يراد به غير القرآن من الكتب التي كانوا مقرين بحقيتها.. ثم بين سبب التعجيب بقوله ﴿ يدعون إلى كتاب الله ﴾ وهو التوراة -كما مر-.. ولأنه تعالى عجب رسوله من تمردهم وإعراضهم وإنما يتوجه التعجيب إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته. وعن ابن عباس أنه القرآن وليس ببعيد، لأنهم دعوا إليه بعد قيام الحجج على أنه كتاب من عند الله ﴿ ليحكم ﴾ أي الكتاب ﴿ بينهم ﴾ أي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذف الثاني للعلم به أو يراد الحكم الاختلاف الواقع بينهم كما في قصة الزانيين، ولهذا راجعوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم.. ﴿ ثم يتولى فريق منهم ﴾ وهم الرؤساء والأحبار أو الذين لم يسلموا من أحبارهم، ومعنى :﴿ ثم ﴾ استبعاد ما بين رتبتي الدعاء والتولي، ﴿ وهم معرضون ﴾ قوم لا يزال الإعراض ديدنهم وهجيراهم، والضمير في ﴿ هم ﴾ إما أن يرجع إلى الفريق، أي : هم جامعون بين التولي والإعراض، لا عن استماعهم الحجة في ذلك المقام فقط، بل عنه وعن سائر المقامات. وإما أن يرجع على الباقين منهم فيكون قد وصف العلماء والرؤساء بالتولي والباقين بالإعراض لأجل إعراض علمائهم ومتقدميهم. وإما أن يرجع إلى أهل الكتاب أي هم قوم عادتهم الإعراض عن قبول الحق ؛ ﴿ ذلك ﴾ التولي والإعراض أو ذلك العقاب أو الوعيد بسبب أنهم كانوا يتساهلون في أمر العقاب ولا يفرقون بين ما يتعلق بأصول الدين وبين ما يتعلق بفروعه فقالوا﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾
﴿ ذلك ﴾ التولي والإعراض أو ذلك العقاب أو الوعيد بسبب أنهم كانوا يتساهلون في أمر العقاب ولا يفرقون بين ما يتعلق بأصول الدين وبين ما يتعلق بفروعه فقالوا﴿ لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾
هي أيام عبادة العجل فاستوجبوا الذم من وجوه : أحدها -استقصار مدة العذاب ومن أين لهم العلم بذلك ؟ وثانيها – أن عبادة العجل كفر والكفر يستحق به الكافر عذابا دائما، وثالثها- أن استثناء الأيام المعدودات فقط فيه دليل على أنهم استحقروا تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وذلك كفر صريح ؛ ﴿ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴾ من قولهم :﴿ .. نحن أبناء الله وأحباؤه.. ﴾١ أو من قولهم ﴿ .. لن تمسنا النار إلا أياما.. ﴾٢، أو من قولهم : نحن أولي النبوة من قريش أو من زعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ]٣.
١ سورة المائدة من الآية ١٨..
٢ سورة البقرة من الآية ٨٠..
٣ ما بين العالمتين [] من تفسير غرائب القرآن..
﴿ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ﴾ قال الفراء : إذا قلت : جمعوا ليوم الخميس معناه جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس أو وعيد لهم واستعظام للكرب الذي ينتظرهم يوم تلفح بالنار وجوههم وتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم وإن عذاب ربنا لواقع ما له من دافع وينال كل مكلف جزاء ما فعل في دنياه فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وحاشا أن يظلمه الله ولا يظلم ربك أحدا.
هذا ثناء على الله تعالى وإقرار بجلاله وحكيم تدبيره وسابغ أفضاله، فبيده الخلق والأمر والإعزاز والقهر والتذليل والتسخير والتبديل والتغيير، يبدع ما يشاء أن يبدع ويهب العطاء لمن يشاء ويوسع – ﴿ قل اللهم مالك الملك ﴾ تأكيد لما تشعر به الآية السابقة من مزيد عظمته تعالى وعظيم قدرته وفيه أيضا إفحام لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه لاسيما المنافقين الذين هم أسوأ حالا من اليهود والنصارى وبشارة له صلى الله عليه وسلم بالغلبة الحسية على من خالفه كغلبته بالحجة على من جادله.. ﴿ بيدك الخير ﴾.. وتعريف الخير للتخصيص أي ﴿ بيدك ﴾ التي لا يكتنه كنهها.. وإنما خص ﴿ الخير ﴾ بالذكر تعليما لمراعاة الأدب وإلا فذكر الإعزاز والإذلال يدل على أن الخير والشر كلاهما بيده سبحانه وكذا قوله تعالى المسوق لتعليل ما سبق وتحقيقه :﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾.. ﴿ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ﴾
﴿ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ﴾ الولوج في الأصل الدخول... واستعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه.. وقال الجبائي : المراد بإيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر-١.. ﴿ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ﴾ عن الحسن قال : تخرج المؤمن من الكافر وتخرج الكافر من المؤمن [ وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب تأويل من قال يخرج الإنسان الحي والأنعام والبهائم الأحياء من النطفة الميتة من الإنسان الحي والأنعام والبهائم الأحياء وذلك إخراج الميت من الحي وذلك أن كل حي فارقه شيء من جسده فذلك الذي فارقه منه ميت، فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه ثم ينشئ الله منها إنسانا حيا وبهائم وأنعاما وأحياء.. فإن كنت سلطت عيسى على الأشياء التي به يزعمون أنه إله : من إحياء الموتى وإبراء الأسقام والخلق للطير من الطين، والخبر عن الغيوب لتجعله آية للناس وتصديقا له في نبوته التي بعثته بها إلى قومه، فإن من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه كتمليك الملوك وأمر النبوة ووضعها حيث شئت وإيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل وإخراج الحي من الميت والميت من الحي ورزق من شئت من بر أو فاجر بغير حساب فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه ولم أملكه إياه فلم يكن لهم في ذلك عبرة وبينة إذ لو كان إلها لكان ذلك كله إليه وهو في علمهم يهرب من الملوك وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد ]٢.
﴿ اللهم ﴾ قال جمهور النحويين أصل اللهم يا الله فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو ( يا ) جعلوا بدله هذه الميم المشددة والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد، قال النضر بن شميل : من قال ( اللهم ) فقد دعا الله بجميع أسماءه و﴿ مالك ﴾ منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان أي يا مالك الملك – وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة لأن الله تعالى حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي خاتم الأنبياء على الإطلاق ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله وخصه بخصائص لم يعطها نبيا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية وكشفه له عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار-٣
١ من روح المعاني وقد أورد صاحبها نقولا مطولة..
٢ ما بين العلامتين [] من جامع البيان..
٣ من تفسير القرآن العظيم..
﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾ عن ابن عباس : نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار أو يتخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون لهم اللطف ويخالفونهم في الدين، وعن السدي : أما ﴿ أولياء ﴾ فيواليهم في دينهم ويظهرهم على عورة المؤمنين ؛ رغب سبحانه في تولي أوليائه وحذر من الاستعانة أو الانتصار أو الاستظهار بأعدائه١. ﴿ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾ – وكون المؤمن وليا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون راضيا بكفره والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يصدر عن المؤمن فلا يدخل تحت الآية لقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾. وثانيها- المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه. والثالث – كالمتوسط بين القسمين وهو الركون إليهم والمعونة والمظاهرة لقرابة أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك.. مع اعتقاد أن دينهم باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه حذرا من أن يجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه، حتى يخصه بالموالاة دون المؤمنين٢. فمن اتخذهم أعوانا وركن إليهم وولاهم في فسادهم وإضلالهم فليس من ولاية الله ولا من دينه في قليل ولا كثير لكن لاطفهم في ظاهر الأمر حين تمكنهم ليتقي خطرا عظيما يوشك أن يوقعه به في فله أن يصانعهم تقية٣، وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء. روى البخاري عن أبي الدرداء : إنا لنبش٤ في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم ويدل على جواز التقية ٥ قوله تعالى :﴿ .. إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان... ﴾٦.
﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾- أي ذاته المقدسة وإطلاق ذلك عليه سبحانه جائز في المشاكلة كقوله ﴿ ... تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك... ﴾٧ وفي غيرهما ؛ وذهب بعض المتأخرين إلى منع ذلك إلا مشاكلة. وقال الزجاج معناه ويحذركم الله إياه ثم استغنوا عن ذلك بهذا وصار المستعمل. قال : أما قوله.. تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك وقال بعض أهل العلم معناه ويحذركم الله عقابه مثل ﴿ واسأل القرية.. ﴾٨ فجعلت النفس في موضع الإضمار٩. ﴿ وإلى الله المصير ﴾ [ متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به وأتيتم ما نهاكم عنه من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين نالكم من عقاب ربكم ما لا قبل لكم به، ويقول : فاتقوه واحذروه أن ينالكم ذلك منه فإنه شديد العقاب ]١٠.
١ وفي النهي عن موالاة أعداء الدين جاءت آيات محكمات منها: ﴿.. لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من فهواهم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعلمون محيط﴾ من سورة آل عمران منها:﴿.. لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾ من سورة المائدة ومنها ﴿لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..﴾ من سورة المجادلة..
٢ من تفسير غرائب القرآن..
٣ ما جاء في روح المعاني وفي الآية دليل على مشروعية التقية... والعدو قسمان: الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم، والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة ومن هنا صارت التقية قسمين أما القسم الأول فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه..... وأما القسم الثاني فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه.... وعد قوم باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوهم والانبساط معهم وإعطائهم لكف آذاهم.. ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع... وراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس وهم الخوارج والشيعة أما الخوارج فقد ذهبوا إلى أنه لا جوز التقية بحال.. ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان وأما الشيعة فكلامهم مضطرب.. فقال بعضهم إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال... وقال غيره: إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا ومستحبة لصيانة العرض حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به... وفي أفضلية التقية من سني واحد صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن خلافا أيضا ومنهم من ذهب إلى جواز -بل وجوب- إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع.... ومما يرد قولهم أيضا إن التقية لا تكون إلا الخوف: والخوف قسمان الأول الخوف على النفس وهو منتف في حق حضرات الأئمة بوجهين: أحدهما أن موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسألة الكليني في الكافي، وعقد لها باب وأجمع عليها سائر الأئمة. وثانيها أن الأئمة يكون لهم علم بما كان وما يكون فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص... وأيضا لو كانت التقية واجبة لم يتوقف إمام عن بيعة خليفة رسول الله صلى الله عليه سلم ستة أشهر.. ومما يرد قولهم في نسبة التقية إلى الأنبياء عليهم السلام بالمعنى الذي أراده قوله سبحانه في حقهم: ﴿الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله...﴾ وقوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالتك والله يعصمك من الناس..﴾ ١هـ. يراجع من يشاء الجزء الثالث من ص ١٢١ إلى ص ١٢٦.
.

٤ وفي رواية إنا لنشكر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم، وعن بردة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ائذنوا له فبئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة فلما دخل ألان له القول) فلما خرج قلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال " يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس –أو يدعه الناس- اتقاء فحشه"..
٥ قال الجوهري يقال اتقى تقية وتقاة مثل اتخم تخمة، وفاؤها واو كترات فالتقاة اسم وضع موضع المصدر. قال الواحدي ويجوز أن يجعل ﴿تقاة﴾ ههنا مثل دعاة ورماة فيكون حالا يؤكده وعلى هذين الوجهين يكون ﴿تتقوا﴾ متضمنا معنى تحذروا أو تخافوا ولهذا عدي بمن ويحتمل أن التقاة أو التقية بمعنى المتقي مثل ضرب الأمير لمضروبه فالمعنى إلا أن تخافوا من جهنم أمرا يجب اتقاؤه رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم والمراد بتلك الموالاة مخالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من إظهار الطوية. ١هـ..
٦ من سورة النحل وتمام الآية ﴿من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم﴾ رقم ١٠٦..
٧ من سورة المائدة من الآية ١١٦..
٨ من سورة يوسف من الآية ٨٢..
٩ من فتح التقدير لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني..
١٠ ما بين العلامتين [] مما أورد أبو جعفر..
﴿ قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض ﴾ هذا نذير وتذكير بإحاطة علم ربنا الخبير الذي لا تخفى عليه خافية وما يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر سرا كان أو جهرا أو حديث نفس، والمؤمنون تقشعر جلودهم إذا ذكروا بآيات ربهم، في صحيح مسلم ١ عن ابن عباس قال : لما نزلت ﴿ ... وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله... ﴾٢ قال : دخل قلوبهم منه شيء لم يدخل قلوبهم من شيء : فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا ) قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ﴾٣ قال " قد فعلت " ﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ﴾ قال " قد فعلت " ﴿ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ﴾ قال " قد فعلت ".
﴿ والله على كل شيء قدير ﴾- والله قدير على معاجلتكم بالعقوبة على موالاتكم إياهم ومظاهرتكموهم على المؤمنين وعلى ما يشاء من الأمور كلها لا يتعذر عليه شيء أراده ولا يمتنع عليه شيء طلبه٤.
١ ونقل ابن كثير روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير﴾ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾ فلما فعلوا ذلك نسخه الله فأنزل قوله ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا﴾ قال نعم ﴿ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا﴾ قال نعم ﴿ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين﴾ قال نعم"..
٢ من سورة البقرة من الآية ٢٨٤..
٣ من سورة البقرة من الآية ٢٨٦..
٤ من جامع البيان..
﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ﴾ جملة ﴿ ما عملت ﴾ في محل نصب على المفعولية ﴿ تجد ﴾ و﴿ محضرا ﴾ مفعول ثان ١ فكل من كان مكلفا في الدنيا سيجد جزاء ما عمل من الخيرات محضرا بإذن الله تعالى وذلك يوم البعث يوم الفصل أو تجده مسطرة في صحائف أعمالنا يوم يؤتون كتبهم بأيمانهم. و﴿ يوم ﴾ منصوب إما بقول الحق سبحانه ﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ وإما بمحذوف تقديره اذكر ﴿ وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ﴾ عن الحسن قال : يسر أحدكم أن لا يلقى عمله ذاك أبدا يكون ذلك مناه أما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذها. وعن السدي :﴿ أمدا بعيدا ﴾ مكانا بعيدا وهو قريب من قوله تعالى في حال تبري قرناء السوء بعضهم من بعض – ﴿ حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ﴾٢ ؛ و﴿ ما ﴾ في ﴿ وما عملت من سوء ﴾ إما معطوفة على ﴿ ما ﴾ الأولى أو مبتدأ خبره ﴿ تود ﴾٣ ﴿ ويحذرهم الله نفسه ﴾- أن تسخطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم فتوافونه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا وهو عليكم ساخط فينالكم من أليم عقابه ما لا قبل لكم به ثم أخبر عز وجل أنه رؤوف بعباده رحيم بهم ومن رأفته بهم تحذيره إياهم نفسه وتخويفهم عقوبته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه٤.
١ وقال بعضهم منصوب على الحالية..
٢ من سورة الزخرف الآية ٣٨..
٣ نقل القرطبي والنيسابوري والشوكاني والألوسي أكثر من وجه في إعراب الآية الكريمة..
٤ من جامع البيان..
﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾ قال الأزهر : محبة العبد لله ورسوله : طاعته لهما واتباع أمرهما ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران. قال ابن عرفة : المحبة ١ عند العرب إرادة الشيء على قصد له ومما أورد سهل بن عبد الله : علامة حب الله حب القرآن وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض ".
﴿ ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ﴾ اتباع ما جاء به النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم يعقب حب الله تعالى وستره على ما يلمون به من خطأ وعفوه عما يقترفوه من لمم ما استغفروه وهو تقدست أسماؤه واسع المغفرة والرحمة.
١ أورد القرطبي في تصريف حب وأحب وما اشتق منهما بحثا مستوفى..
﴿ قل أطيعوا الله والرسول ﴾ – حذف المتعلق مشعر بالتعميم أي في جميع الأوامر والنواهي ؛ قوله ﴿ فإن تولوا ﴾ يحتمل أن يكون من تمام مقول القول فيكون مضارعا حذفت فيه إحدى التاءين أي تتولوا ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى فيكون ماضيا. وقوله ﴿ فإن الله لا يحب الكافرين ﴾ نفي المحبة كناية عن البغض والسخط.. ١ [ فدل على مخالفته في الطريقة كفر والله لا يحب من اتصف بذلك وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول الأمي خاتم الرسل ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين الجن والإنس الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولوا العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه والدخول في طاعته واتباع شريعته.. ]٢ وهكذا علمنا المولى أن مخالفة النبي الخاتم تعقب العذاب العاجل والآجل. ﴿ .. فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ﴾٣ وطاعته عليه السلام من طاعة المولى سبحانه ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله.. ﴾٤.
١ من فتح القدير للشوكاني..
٢ ما بين العلامتين [] من تفسير القرآن العظيم..
٣ من سورة النور من الآية ٢٣..
٤ من سورة النساء من الآية ٨٠..
﴿ اصطفى ﴾ اختار وخص بفضل.
﴿ العالمين ﴾ جمع عالم وكل جنس من المخلوقات يسمى عالما.
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض فاصطفى١ ﴿ آدم ﴾ عليه السلام، خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها لما في ذلك من الحكمة. واصطفى ﴿ نوحا ﴾ عليه السلام وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قوم يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا سرا وجهرا فلم يزدهم ذلك إلا فرارا فدعا عليهم فأغرقهم الله عن آخرهم ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به. واصطفى ﴿ آل إبراهيم ﴾ ومنهم سيد البشر خاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ﴿ وآل عمران ﴾ والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى ابن مريم عليه السلام فعيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم -٢.
﴿ إن الله اصطفى ﴾ إن المولى سبحانه قد خص هؤلاء النبيين بفضل عظيم من لدنه قال بعض العلماء التقدير إن الله اصطفى دينهم وهو الإسلام، وقال الزجاج : اختارهم للنبوة على عالمي زمانهم. وفي البخاري : عن ابن عباس قال : آل إبراهيم وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد يقول الله تعالى ﴿ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي للمؤمنين ﴾ وقيل ﴿ آل إبراهيم ﴾ نفسه. وكذا ﴿ آل عمران ﴾ ومنه قوله تعالى ﴿ .. وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون.. ﴾٣. وقيل المراد عيسى لأن أمه ابنة عمران.
١ صفوة كل شيء خالصه وخياره. وصفى الإنسان أخوه يصافيه الإخاء بصدق وفي الحديث: إن الله لا يرضى لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيه من أهل الأرض فصبر واحتسب بثواب دون الجنة. من لسان العرب..
٢ ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم..
٣ من سورة البقرة من الآية ٢٤٨..
﴿ ذرية ﴾ أولادا ونسلا.
﴿ ذرية ﴾ قال الأخفش : نصب على الحال أي في حال كون بعضهم من بعض أي ذرية بعضها ولد١ بعض، ﴿ بعضها من بعض ﴾ قال الحسن : يعني في التناصر في الدين كما قال :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض.. ﴾٢ يعني في الضلالة. ١ه.
١ وقد يراد بالذرية النساء وفي الحديث أنه رأى امرأة مقتولة فقال ما كانت هذه تقاتل الحق خالدا فقل له: لا تقتل ذرية ولا عسيفا والعسيف الأجير وحديث عمر: حجوا بالذرية لا تأكلوا أرزاقنا وتذروا أرباقها في أعناقها: أي حجوا بالنساء وضرب الأرباق وهي القلائد مثلا لما قلدت أعناقها من وجوب الحج وقيل كنى بها عن الأوزار من لسان العرب..
٢ من سورة التوبة من الآية ٦٧..
﴿ امرأة عمران ﴾ أم مريم. جدة عيسى عليه السلام.
﴿ نذرت ﴾ جعلت على نفسي واجبا، والنذيرة الولد يجعل خادما للمتعبد من ذكر وأنثى.
﴿ محررا ﴾ خالصا لله مفرغا لعبادته.
﴿ إذ قالت امرأة عمران ﴾ قال محمد بن زيد : اذكر إذ ؛ وقال الزجاج : المعنى واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران ؛ قال محمد بن إسحق : وكانت لا تحمل فرأت يوما طائرا يزق فرخه فاشتهت الولد فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا فاستجاب الله دعاءها فلما تحققت الحمل نذرت أن يكون محررا أي خالصا مفرغا للعبادة لخدمة بيت المقدس. ١ه.
﴿ رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ﴾ قال ابن قتيبة : المعنى نذرت لك أن تجعل ما في بطني مفرغا لعبادتك ولخدمة بيتك المقدس، قال الضحاك : جعلت ولدها لله والذين يدرسون الكتاب ويتعلمونه ؛ ﴿ فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ﴾ تضرعت إلى الله أن يتقبل نذرها إنه سبحانه سميع الدعاء محيط علمه بكل الأشياء.
﴿ وضعتها ﴾ ولدتها.
﴿ أعيذها ﴾ أجيرها وأمنعها وأحفظها بك.
﴿ الرجيم ﴾ المطرود.
﴿ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ﴾ فلما ولدت جنة أو حنة أو حبة ما كان في بطنها وقد نذرته قالت يا رب إني ولدت النذيرة أنثى، والله أعلم من كل خلقه بما ولدت، -أعلم بشأن أم مريم حين تحسرها وتحزنها من توهم خيبة رجاها وأنها ليست من الولي إلى الله تعالى في شيء إذ لها مرتبة عظمى وتحريرها تحرير لا يوجد منه- وقال الألوسي : قبل ذلك الجملة اعتراضية سيقت لتعظيم المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه والتجهيل لها بقدره، و﴿ ما ﴾ على هذا عبارة عن الموضوعة –المولودة- ﴿ وليس الذكر كالأنثى ﴾ كان المعنى ما ذكر كانت تترقب كالأنثى التي وهبتها لها، [ ومريم في لغتهم العابدة فأرادت بقولها ﴿ وإني سميتها مريم ﴾ التقرب والطلب إلى الله أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها، ولهذا أردف بطلب الإعاذة لها ولولدها ]١ ؛ ﴿ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ﴾ وإني أضرع إليك اللهم أن تجعل موئلها وملجأها ومعقلها ومعقل ذريتها إليك، وحفظهم من الشيطان المبعد المطرود لا يكون إلا بك. وقد أجاب الله دعاءها وحقق رجاءها وحفظها وولدها فكانت من القانتين وكان ابنها عيسى عليه السلام وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مسه إلا مريم وابنها ) ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم ﴿ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ﴾٢.
١ ما بين العلامتين [] من تفسير غرائب القرآن..
٢ وفي رواية أخرى له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى ابن مريم ومريم) ثم قرأ رسول الله صلى اله عليه وسلم ﴿وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم.﴾.
﴿ فتقبلها ﴾ فرضيها أو فكفلها بالرعاية وسلك بها طريق السعداء.
﴿ وأنبتها نباتا حسنا ﴾ سوى خلقها من غير زيادة أو نقصان.
﴿ وكفلها زكريا ﴾ جعل الله الضامن لمصالحها زكريا عليه السلام.
﴿ المحراب ﴾ المسجد أو مقام الإمام من المسجد.
﴿ أنى لك هذا ﴾ من أين لك هذا.
﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ﴾ رضي الله تعالى عن النذيرة، عن ابن جرير : تقبل من أمها ما أرادت بها للكنيسة وأجرها فيها، ﴿ وأنبتها ﴾ قال نبتت في غذاء الله. وعن أبي عمر : حتى تمت فكملت امرأة بالغة تامة. ومما جاء في روح المعاني : رضي بمريم في النذر مكان الذكر ففيه تشبيه النذر بالهدية ورضوان الله تعالى بالقبول.. ولم يقبل قبلها أنثى.. ورباها الرب تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها، قاله ابن عباس رضي الله عنهما …﴿ وكفلها زكريا ﴾.. ضمها الله تعالى إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها على ما ذكر في حديث ابن عباس، ﴿ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ﴾ كل وقت دخل عليها كافلها زكريا عليه السلام حيث هي في المسجد أو في أعلى مكان فيه لقي بحضرتها طعاما لا كالطعام، قال مجاهد وعكرمة وغيرهما : يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. ﴿ قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ قيل هو من قول مريم ردا على سؤال زكريا عليه السلام، ويجوز أن يكون مستأنفا يسألها كافلها زوج أختها من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا ؟ فتجيب هو مما تفضل الله تعالى علي به إن المعبود الرزاق تقدست أسماؤه وتباركت نعمه وآلاؤه يمنح من يشاء من عباده ما يريد سبحانه مما لا يعده العادون ﴿ .. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.. ﴾١.
١ من سورة إبراهيم من الآية ٣٤..
حين رأى زكريا عليه السلام من شأن مريم ما رأى من الإكرام والإنعام الذي أسبغه عليها المولى ذو الجلال والإكرام، دعا ربه متضرعا يا رب أعطني من عندك أولادا صالحين أو غلاما رضيا كما جاء في سورة أخرى ﴿ ... فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ﴾ ١ إنك يا مولانا تجيب دعوة الداعي إذا دعاك، وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة حيث قال : الذي يطلب الولد أحمق وما عرف أنه هو الغبي الأخرق٢ ؛ كيف لا وقد جاء في محكم القرآن أن الرسل صلوات ربنا عليهم قد آتاهم مولانا الأولاد ورزقهم الأزواج ﴿ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية.. ﴾٣، وأخبر سبحانه أن دعاء خليله إبراهيم عليه السلام بقوله الحق ﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ﴾٤، وعد الذرية والأزواج من آياته وآلائه :﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة... ﴾٥ ومن ثنائه على عباد الرحمن قال تبارك وتعالى ﴿ والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ﴾٦، وقد ترجم البخاري على هذا : باب طلب الولد وترجم أيضا باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة. وساق حديث أنس بن مالك : قالت أم سليم : يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له، فقال ( اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته ) وفي الصحيحين ( اللهم اغفر لأبي وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين ).
١ من سورة مريم من الآية ٥ والآية ٦..
٢ من الجامع لأحكام القرآن..
٣ من سورة الرعد من الآية ٣٨..
٤ من سورة الشعراء الآية ٨٤..
٥ من سورة النحل من الآية ٧٢..
٦ من سورة الفرقان من الآية ٧٤..
﴿ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ﴾ خاطبت الملائكة زكريا شفاها بعد أن دعا ربه وتضرع إليه أن يهبه ذرية طيبة فخاطبوه وأسمعوه وهو قائم يصلي في محراب عبادته ومحل خلوته ومجلس مناجاته وصلاته كما يقول ابن كثير، أي فنادته الملائكة في حال قيامه مصليا أن الله سيوجد لك من صلبك ولدا اسمه يحيى وإنما جاء فنادته مؤنثة دون فناداه الملائكة مثلا -إذ الملائكة ليست إناثا- إنما جاءت هكذا لأن جماعة الذكور إذا تقدمت أفعالها أنثت الأفعال وذلك كقول الله تعالى ﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا.. ﴾١ وذهب جماعة من أئمة التفسير إلى أن المراد بالملائكة جبريل، ربما لما يرون من أنه وحده الموكل بالوحي. لكن ثبت في الصحيح أن الوحي كانت تنزل به جموع من الملائكة أو ملك آخر سوى جبريل كلما قضى الله ذلك.
روى الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا –صوتا- من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته.
﴿ إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ﴾ ناداه جمع الملائكة الذين أرسلوا إليه بالبشرى أن الله سبحانه سيوجد لك من صلبك ولدا ذكرا وسيكون اسمه يحيى فأبشر ﴿ مصدقا بكلمة من الله ﴾ قال ابن عباس : كان يحيى وعيسى ابني خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه له.. وهو أول من صدق عيسى. وكلمة الله عيسى وهو أكبر من عيسى عليه السلام... – والمراد بالكلمة عيسى عليه السلام، ... ، وإنما سمي عيسى عليه السلام بذلك لأنه وجد بكلمة ﴿ كن ﴾ من دون توسط سبب عادي.. وأريد بهذا التصديق : الإيمان -٢. ﴿ وسيدا ﴾ قال ابن عباس : الحليم التقي وقال مجاهد : هو الكريم على الله عز وجل
﴿ وحصورا ﴾ عن ابن مسعود وابن عمرو وغيرهما : لا يأتي النساء. ﴿ ونبيا من الصالحين ﴾ وسيكون ولدك يحيى مع الفضل الذي يبشر به من الأنبياء أي ناشئا منهم أو معدودا فيهم ف﴿ من ﴾ على الأول للابتلاء وعلى الثاني للتبعيض.. وقد يقال : المراد من الصلاح الذي لابد منه فمنصب النبوة ألبتة من أقاصي مراتبه وعليه مبني دعاء سليمان عليه السلام ﴿ .. وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾٣ ولعله أولى مما قبل-٤.
مما يقول صاحب تفسير القرآن العظيم : وهذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته وهي أعلى من الأولى كقوله لأم موسى ﴿ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ﴾٥ قال : أي الملك ﴿ كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾ أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر.
١ من سورة الحجرات الآية ١٤..
٢ من روح المعاني..
٣ من سورة النحل من الآية ١٩..
٤ من سورة القصص من الآية ٧..
٥ عقيم لا تلد..
قال : أي الملك ﴿ كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾ أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر.
﴿ قال رب اجعل لي آية ﴾ أي علامة أستدل بها على وجود الولد مني ﴿ قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ﴾ أي إشارة، لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح، كما في قوله ﴿ ... ثلاث ليال سويا ﴾١ ثم أمر بكثرة الذكر والتسبيح في هذا الحال فقال تعالى ﴿ واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي ٢ والإبكار ﴾٣. ١ه.
١ من سورة مريم من الآية ١٠..
٢ من منتصف النهار الثاني إلى الليل يسمى العشي..
٣ من طلوع الفجر إلى وقت الظهر..
﴿ وإذ قالت الملائكة ﴾ -تتمة لشرح أحكام اصطفاء آل عمران ووقعت قصة زكريا ويحيى عليهما السلام في البين لما فيها مما يؤكد ذلك الاصطفاء، ﴿ وإذ ﴾ في المشهور منصوب باذكر –مقدرة- والجملة معطوفة على الجملة السابقة عطف القصة على القصة، وبينهما كمال المناسبة لأن تلك مسوقة أولا وبالذات لشرح حال الأم وهذه لشرح حال البنت١، والأولى أن يكون المراد بالملائكة ههنا جبريل عليه السلام ويشهد لهذا قول الحق سبحانه ﴿ ... فأرسلنا إليه روحنا.. ﴾٢، ومعلوم أن جبريل عليه السلام سمي بذلك لأنه كان ينزل بوحي الله تعالى على أنبيائه وفي الوحي حياة الروح.
﴿ يا مريم ٣ إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ﴾، ﴿ اصطفاك ﴾ اختارك ويمكن أن يراد بالاصطفاء الأول ما اتفق لها أول أمرها فقد قبل الله تعالى تحريرها لخدمة البيت المقدس مع كونها أنثى وكان رزقها من عند الله وكفلها زكريا وسمعت كلام ملك الوحي إلى غير ذلك من أنواع اللطف، ﴿ وطهرك ﴾ -وأما التطهير فتطهيرها عن الكفر والمعصية كما قال في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته :﴿ .. ويطهركم تطهيرا ﴾٤ وعن مسيس الرجال.. وعن الأفعال الذميمة والأقوال القبيحة. وأما الاصطفاء الثاني فهو ما اتفق لها في آخر عمرها من ولادة عيسى بغير أب وشهادته ببراءتها عما قذفها اليهود، قيل : المراد اصطفاؤها على نساء عالمي زمانها٥.
روى الشيخان٦ أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها ٧ خديجة بنت خويلد ).
١ من روح المعاني..
٢ من سورة مريم من الآية ١٧..
٣ كثير من العلماء ذهب إلى كلام ملك الوحي إليها كان على سبيل النفث في الروع والإلهام كما في حق أم موسى التي قال القرآن الحكيم في شأنها ﴿وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه..﴾ من سورة القصص من الآية ٧. ومن العلماء من قال كان خطابه إياها كرامة لها أو إرهاصا لعيسى..
٤ من سورة الأحزاب من الآية ٣٣..
٥ من تفسير غرائب القرآن..
٦ يراد بالشيخين هنا البخاري ومسلم رحمهما الله..
٧ روى عبد الرزاق عن أبي هريرة وأخرجه مسلم بنحوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه علة ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط)..
﴿ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ﴾ [ أخبر تعالى عن الملائكة أنهم أمروا بكثرة العبادة والخشوع والركوع والسجود والدأب في العمل لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره وقضاه مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين، بما أظهر الله تعالى من قدرته العظيمة حيث خلق منها ولدا من غير أب فقال تعالى ﴿ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ﴾ أما القنوت فهو الطاعة في خشوع كما قال تعالى ﴿ وله من في السموات والأرض كل له قانتون ﴾١، وقال مجاهد كانت مريم عليها السلام تقوم حتى تتورم كعباها والقنوت هو طول الركوع في الصلاة يعني امتثالا لقول الله تعالى ﴿ يا مريم اقنتي لربك ﴾ قال الحسن : يعني اعبدي لربك ﴿ واسجدي واركعي مع الراكعين ﴾ أي كوني منهم.
ثم قال لرسوله بعدما أطلعه على جلية الأمر ﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ﴾.
١ من سورة الروم الآية ٢٦..
﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ﴾ أي نقصه عليك ﴿ وما كنت لديهم ﴾ أي ما كنت عندهم يا محمد فتخبرهم عن معاينة عما جرى، بل أطلعك الله على ذلك كأنك حاضر ومشاهد لما كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكلفها وذلك لرغبتهم في الأجر.
قال ابن جرير عن عكرمة : ثم خرجت أم مريم بها يعني بمريم في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى عليهما السلام -وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة- فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فإني حررتها وهي أنثى ولا يدخل الكنيسة حائض وأنا لا أردها إلى بيتي، فقالوا هذه ابنة إمامنا- وكان عمران يؤمهم في الصلاة- وصاحب قرباننا فقال زكريا : ادفعها إلي فإن خالتها تحتي، فقالوا لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة فقرعهم زكريا فكفلها ]١.
١ ما بين العلامتين [] مما أورد ابن كثير رحمه الله..
﴿ المسيح ﴾ المبارك أو السيد أو ممسوح بالبركة واليمن أو المريض فيبرأ.
﴿ وجيها ﴾ ذا جاه وشرف وقدر.
﴿ المقربين ﴾ المكرمين بالمنزل الرفيع عند الله.
- شروع في قصة عيسى عليه السلام، والمراد بالملائكة جبريل عليه السلام على المشهور، والقول شفاهي... و﴿ إذ ﴾ المضافة إلى ما بعدها بدل من نظيرتها السابقة.. ﴿ يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه ﴾ كلمة ( من ) لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة ( لكلمة ) وإطلاق الكلمة على من أطلقت عليه باعتبار أنه خلق من غير واسطة أب بل بواسطة ﴿ كن ﴾ فقط على خلاف أفراد بني آدم فكان تأثير الكلمة ﴿ كن ﴾ في حقه أظهر وأكمل.. وعلى ذلك أكثر المفسرين، وأيدوا ذلك بقوله تعالى ﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ﴾-١. ﴿ اسمه المسيح عيسى ابن مريم ﴾ أي المبارك وممسوح باليمن والبركة أو الذي يمسح المريض فيبرأ. نقل عن جمع من العلماء : وأما الدجال فسمي مسيحا لأنه يسيح في الأرض أي يطوفها ويدخل جميع بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس فهو فعيل بمعنى فاعل في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ) الحديث، وفي صحيح مسلم كذلك- : " فبينا هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ٢ واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان٣ كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد ٤ فيقتله " الحديث.
﴿ وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ﴾ قال الأخفش : شريفا ذا قدر وجاه ومقربا عند الله، والنصب على الحال.
١ من روح المعاني..
٢ أي في شفتين أو حلتين..
٣ حبات فضة تصنع على هيئة اللؤلؤ..
٤ قرية في فلسطين قريبة من بيت المقدس..
﴿ ويكلم الناس في المهد وكهلا ﴾.
﴿ المهد ﴾ مقر الصبي في رضاعه.
﴿ كهلا ﴾ بين الشباب والشيخوخة.
﴿ ويكلم الناس في المهد وكهلا ﴾ مما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ١ عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب الجبار.. ) فكأن المعنى : وأقدرت بقدرتي عيسى على أن يكلم الناس صغيرا وهو ما زال بعد في مقر رضاعه وفراش طفولته ويكلمهم كبيرا ؛ ﴿ ومن الصالحين ﴾ أي وهو من العباد الصالحين.
١ في موطن آخر من صحيح مسلم أن ممن تكلموا في المهد صاحب الأخدود، وعن ابن عباس يرفعه وأخرجه البيهقي: وشاهد يوسف. وزاد بعضهم يحيى عليه السلام وصبي ما شطة امرأة فرعون. ومما قال صاحب الجامع لأحكام القرآن: ولا معارضة بين هذا وبين قوله عليه السلام ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة) بالحصر فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحي إليه في تلك الحال ثم بعد هذا أعلم الله تعالى بما شاء من ذلك فأخبره به. ١هـ..
﴿ أنى ﴾ كيف ومن أين.
﴿ يكون ﴾ يوجد.
﴿ يمسسني ﴾ يفض إلي ويلامسني.
﴿ قضى ﴾ حكم.
﴿ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ سألت مريم ربها عجبا مما سمعت لا تشككا في قدرة المولى سبحانه ولكن كأنما أرادت هل يكون هذا الولد الذي بشرت به من زوج يتزوجها في المستقبل أم يخلقه الله تعالى هكذا ؟ ولذلك قالت ﴿ ولم يمسسني بشر ﴾ أي لم تنكح لم تتزوج والمسيس في القرآن الكريم يرد بمعنى استمتاع الزوج بزوجته كما في الآية ﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن.. ﴾١ وكأنها تسأل : على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ولست بذات زوج ؟ ﴿ قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ قال الملك عليه السلام في جواب مريم عليها السلام : إن الذي خلق كل شيء حكم وأراد أن ترزقي بغلام دون أن يكون لك زوج، ومولانا القوي القدير لا يعجزه شيء يريده، بل يوجده ولو بغير أسباب فإذا توجه مراده جل وعلا إلى أي شيء تحقق المراد دون إبطاء.
١ من سورة البقرة من الآية ٢٣٦..
﴿ الكتاب ﴾ جنس الكتب المنزلة.
﴿ الحكمة ﴾ الفقه والأحكام والعلوم العقلية.
﴿ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾ قد يكون العطف هنا على ﴿ يبشرك ﴾ أي إن الله يبشرك وإن الله يعلمه، و﴿ الحكمة ﴾ العلم، أو حسن الخلق، و﴿ رسولا ﴾ نصبت بمحذوف تقديره ويجعله رسولا، و﴿ التوراة ﴾ الكتاب السماوي المنزل على موسى صلى الله عليه وسلم.
﴿ بني إسرائيل ﴾ أبناء يعقوب.
﴿ بآية ﴾ بحجة وعلامة وبرهان.
﴿ أخلق ﴾ أصور وأسوي بمقادير.
﴿ بإذن ﴾ بقدرته ومشيئته.
﴿ الأكمه ﴾ الذي ولد أعمى.
﴿ الأبرص ﴾ المصاب بالوضح في جلده.
﴿ أنبئكم ﴾ أخبركم.
﴿ تدخرون ﴾ تخبئون.
﴿ ورسولا إلى بني إسرائيل ﴾ وبنو إسرائيل هم أبناء يعقوب عليه السلام.
﴿ أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾ كأن في الكلام مقدرا، أي ناطقا بأني قد جئتكم بحجة وبرهان من ربكم وأمر معجز يشهد لي بالصدق وأني مبلغ عن الله – ثم بين عن الآية ما هي فقال... بأن أخلق من الطين كهيئة الطير والطير جمع طائر... فإن قال قائل وكيف ؟ قيل : فأنفخ فيه وقد قيل أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير قيل لأن معنى الكلام فأنفخ في الطير ولو كان ذلك : فأنفخ فيها وكان صحيحا جائزا كما قال في المائدة ﴿ .. فأنفخ فيها.. ﴾ يريد فأنفخ في الهيئة... ﴿ وأبرئ الأكمه والأبرص ﴾ يعني بقوله وأبرئ وأشفي... عن مجاهد : الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل فهو يتكمه... عن قتادة قال : كنا نحدث أن الأكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينين.. وإنما أخبر الله عز وجل عن عيسى صلوات الله عليه وسلامه أنه يقول ذلك لبني إسرائيل احتجاجا منه بهذه العبر والآيات عليهم في نبوته وذلك أن الكمه والبرص لا علاج لهما فيقدر على إبرائه ذو طب بعلاج فكان ذلك أدلته على صدق قيله أنه رسول لأنه من المعجزات، مع سائر الآيات التي أعطاه إياها دلالة على نبوته... ﴿ وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾ وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء من الله يدعو لهم فيستجيب له.. وأما قوله ﴿ وأنبئكم بما تأكلون ﴾ فإنه يعني وأخبركم بما تأكلون مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكلكموه. ﴿ وما تدخرون ﴾ يعني بذلك : وما تعرفونه فتخبئونه ولا تأكلونه... فإن قال قائل : وما كان في قوله لهم : وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم من الحجة له على صدقه وقد رأينا المتنجمة والمتكهنة تخبر بذلك كثيرا فتصيب، قيل إن المتنجم والمتكهن معلوم منهما عند من يخبره بذلك أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه، لم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ومن سائر أنبياء الله ورسله وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن ابتداء بإعلام الله إياه من غير أصل تقدم ذلك احتذاه أو بنى عليه أو فزع إليه كما يفزع المتنجم إلى حسابه والمتكهن إلى رأيه. فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها وبين علم سائر المتكذبة على الله أو المدعية علم ذلك، ﴿ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ يعني بذلك ثناؤه : إن في خلقي من الطين الطير بإذن الله وفي إبرائي الأكمه والأبرص وإحيائي الموتى وإنبائي إياكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ابتداء من غير حساب وتنجيم ولا كهانة وعرافة، لعبرة لكم ومتفكرا تتفكرون بذلك فتعتبرون به أني محق في قولي لكم إني رسول من ربكم إليكم، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ يعني إن كنتم مصدقين حجج الله وآياته، مقرين بتوحيده ونبيه موسى والتوراة التي جاءكم بها-١.
١ من جامع البيان في تفسير القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري..
﴿ لما بين يدي ﴾ لما تقدمني وسبقني وكان أمامي.
﴿ ولأحل ﴾ ولأبلغكم ما أحل الله.
﴿ ومصدقا لما بين يدي من التوراة ﴾ جاء عيسى ابن مريم عليه السلام مؤمنا بما أنزل الله من كتاب سبق، والنحويون يرون أن ﴿ مصدقا ﴾ نصب على الحال من ﴿ وجئتكم ﴾ ومعلوم أن شأن الأنبياء عليهم السلام يصدقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله، وإن اختلف بعض شرائع أحكامهم لمخالفة الله بينهم في ذلك مع أن عيسى كان فيما بلغنا عاملا بالتوراة لم يخالف شيئا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها، ولذلك جاء بعد هذا القول الكريم :﴿ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾ عن الربيع قال : كان الذي جاء به عيسى ابن مريم ألين من الذي جاء به موسى قال : وكان حرم عليهم فيما جاء به موسى من التوراة لحوم الإبل والتروب، فأحلها لهم على لسان عيسى وحرمت عليهم الشحوم وأحلت لهم فيما جاء به عيسى... ١ه. والقرآن الكريم يبين أن الله تعالى ضيق على اليهود معايشهم وعجل لهم بعض النكال ببغيهم، يقول مولانا تقدست أسماؤه ﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم... ﴾١ ﴿ وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ﴾ وأتيتكم من عند ربي وربكم بعلامات وحجج وبرهان على صدق ما أقول لكم. ووحد ﴿ آية ﴾ مع أنه عليه السلام أعطى آيات كثيرات على إرادة جنس الآيات وهي على الحقيقة متجانسة من حيث كونها جاءت شاهدا وبرهانا على صدقه في دعوى الرسالة، فاتقوا الله معاشر الإسرائيليين، إذ قد بين القرآن الحكيم إلى من بعث المسيح عليه الصلوات والتسليم فقال الحق سبحانه :﴿ ورسولا إلى بني إسرائيل ﴾ فخافوا غضب الله تعالى وعقابه الذي ينزله بمن أعرض عن الحق بعد أن جاءه. ﴿ وأطيعون ﴾ [ فإن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله ثم ختم كلامه بقوله ﴿ إن الله ربي وربكم ﴾
١ من سورة النساء من الآية ١٦٠..
﴿ صراط مستقيم ﴾ طريق لا يعوج ولا ينحرف.
﴿ إن الله ربي وربكم ﴾ إظهارا للخضوع واعترافا بالعبودية وردا لما يدعيه عليه الجهلة من النصارى الضالين المنحرفين عن الصراط المستقيم ]١ فقد شهد عليه الصلاة والسلام بالحق وأنه عبد لله تعالى كما أنهم عبيد لله سبحانه وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، و( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون.. )٢، وما يكون لعيسى أن يقول ما ليس له بحق وهذه الآية وإن كان ظاهرها خبرا ففيه الحجة البالغة من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على الوفد الذين حاجوه من أهل نجران بإخبار الله عز وجل عن أن عيسى كان بريئا مما نسبه إليه من نسبه إلى غير الوصف الذي وصف به نفسه من أنه لله عبد كسائر عبيده من أهل الأرض إلا ما كان الله جل ثناؤه خصه به من النبوة والحجج التي آتاه دليلا على صدقه كما آتى سائر المرسلين غيره من الأعلام والأدلة على صدقهم، والحجة على نبوتهم -٣.
١ ما بين العلامتين [ ] مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن..
٢ من سورة النساء من الآية ١٧٢..
٣ ما بين العارضتين من جامع البيان..
قال أبو عبيدة معنى ﴿ أحس ﴾ عرف. وقال الزجاج : المعنى علم ووجد، وقال الفراء : أرادوا قتله. لما وجد المسيح عليه السلام من أكثر من دعاهم نكران نبوته بعدما تبين لهم من برهان الله الذي أوتي عيسى.. استنصر عليهم فقال من أنصاري في السبيل إلى الله ؟ عن الحسن ومجاهد : طلب النصرة ليحتمي بها من قومه ويظهر الدعوة. يقول علماء القرآن : وهذه سنة الله في أنبيائه وقد قال لوط عليه السلام ﴿ .. لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ﴾١ أي عشيرة وأصحابا ينصرونني.
﴿ وقال الحواريون نحن أنصار الله ﴾ قال الكلبي وأبو روق : أي أنصار نبي الله ودين الله والحواريون٢ أصحاب عيسى عليه السلام وكانوا اثني عشر رجلا عن ابن عباس : سموا بذلك لبياض ثيابهم وكانوا صيادين وعن ابن أبي نجيح : كانوا قاصرين فسموا بذلك لتبييضهم الثياب. وعن قتادة والضحاك سموا بذلك لأنهم كانوا خاصة الأنبياء.
﴿ آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ﴾ من جملة قول الحواريين قولهم آمنا بالله أي صدقنا بجلال الله المعبود بحق واستيقنا بأنه الأحد الذي لم يولد ولم يلد ولم يكن له كفوا أحد واشهد يا عيسى بأنا مسلمون لربنا منقادون لشرعته خاضعون لسلطانه وأمره. نقل عن محمد بن جعفر بن الزبير : وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم... لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه يعني وفد نصارى نجران.
ومما يقول أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز وجل أن الإسلام دينه الذي ابتعث به عيسى بن مريم والأنبياء من قبله لا النصرانية ولا اليهودية، وتبرئة من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها، كما برأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام، وذلك احتجاج من الله تعالى ذكره تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وفد نجران.
١ من سورة هود من الآية ٨٠..
٢ أصل الحور في اللغة البياض وحورت الثياب بيضتها والحوارى من الطعام ما حور أي بيض والحواريون أيضا الناصر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل نبي حواري وحواريي الزبير" والحواريات النساء لبياضهن".
﴿ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ﴾
وهذا خبر من الله عز وجل عن الحواريين أنهم قالوا ربنا آمنا أي صدقنا بما أنزلت يعني بما أنزلت على نبيك عيسى من كتابك واتباعنا الرسول يعني بذلك صرنا أتباع عيسى على دينك الذي ابتعثته به وأعوانه على الحق الذي أرسلته به إلى عبادك.. فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق وأقروا لك بالتوحيد وصدقوا رسلك واتبعوا أمرك ونهيك فاجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك وأحلنا معهم، ولا تجعلنا ممن كفر بك وصد عن سبيلك وخالف أمرك ونهيك ؛ يعرف خلقه جل ثناؤه بذلك سبيل الذين رضي أقوالهم وأفعالهم ليحتذوا طريقهم ويتبعوا مناهجهم، فيصلوا إلى مثل الذي وصلوا إليه من درجات كرامته، ويكذب بذلك الذين انتحلوا من الملل غير الحنيفية المسلمة في دعواهم على أنبياء الله أنهم كانوا على غيرها، ويحتج به على الوفد الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجران بأن قيل من رضي الله عنه من أتباع عيسى كان خلاف قيلهم، ومناهجهم غير مناهجهم. ١ه.
﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ﴾ المكر قد يراد به الاحتيال والخداع والسعي بالفساد في خفية ومداجاة، وإحكام الأمر توصلا إلى الشر ؛ والضمير في ﴿ مكروا ﴾ يعود على الذين ﴿ أحس عيسى منهم الكفر ﴾ وهم بنو إسرائيل الذين دعاهم إلى الحق فأعرضوا وعاندوا وصدوا. عن السدي : بما أن عيسى سار بهم -يعني بالحواريين الذين يصطادون السمك- فآمنوا به واتبعوه إذ دعاهم حتى أتى بنو إسرائيل ليلا فصاح فيهم فذلك قوله ﴿ .. فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة.. ﴾١ الآية، أما مكر الله بهم فإنه فيما ذكر السدي : إلقاؤه شبه عيسى على بعض أتباعه حتى قتله الماكرون بعيسى وهم يحسبونه عيسى وقد رفع الله عز وجل عيسى قبل ذلك. نقل أسباط عن السدي : ثم إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلا من الحواريين في بيت فقال عيسى لأصحابه من يأخذ صورتي يقتل وله الجنة ؟ فأخذها رجل منهم وصعد بعيسى إلى السماء فذلك قوله ﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ﴾ فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة عشر فأخبروهم أن عيسى قد صعد به إلى السماء فجعلوا يعدون القوم فيجدونهم ينقصون رجلا من العدة ويرون صورة عيسى فيهم فشكوا فيه وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى وصلبوه، فذلك قول الله عز وجل ﴿ .. وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ﴾٢ قال الزجاج : يقال مكر الليل وأمكر إذا أظلم وقيل أصله من إجماع الأمر وإحكامه فلما كان المكر رأيا محكما قويا مصونا عن جهات النقض والفتور لا جرم سمي مكرا.
مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن روى أن ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السلام وكان جبريل لا يفارقه ساعة فأمره جبريل أن يدخل بيتا فيه روزنة، فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل من تلك الروزنة وكان قد ألقى شبهه على غيره ممن وكل ليقتله غيلة فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق : فرقة قالت كان الله فينا فذهب، وأخرى قالت كان ابن الله وأخرى قالت كان عبد الله ورسوله.. وقيل إنهم مكروا في إخفاء أمره وإبطال دينه، ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل أعداءه، وهم اليهود ﴿ والله خير الماكرين ﴾ أقواهم مكرا، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب، واعلم أن المكر إن كان عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر فهو في حق الله تعالى محال فاللفظ إذن من المتشابهات فيجب أن يؤول بأن جزاء المكر يسمى مكرا لقوله ﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها.. ﴾٣، أو بأنه تعالى عاملهم معاملة من يمكر وهو عذابهم على سبيل الاستدراج وإن كان المكر عبارة عن التدبير المحكم الكامل لم يكن اللفظ متشابها لأنه غير ممتنع٤ في حق الله تعالى إلا أنه قد اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى غيره. ١ه.
عن الفراء وغيره : مكر الله استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون، وقال ابن عباس : كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وذلك هو الاستدراج ليملي الله تعالى لهم، وقال الزجاج : مكر الله مجازاتهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الابتداء كقوله ﴿ الله يستهزئ بهم.. ﴾٥
﴿ وهوخادعهم.. ﴾٦.
١ من سورة الصف من الآية ١٤..
٢ من سورة النساء من الآية ١٥٧..
٣ من سورة الشورى من الآية ٤٠..
٤ يقول صاحب الجامع لأحكام القرآن: هو اسم فاعل من مكر وقد عده بعض العلماء في أسماء الله تعالى... وكان عليه السلام يقول في دعائه (اللهم امكر لي ولا تمكر علي)..
٥ من سورة البقرة من الآية ١٥..
٦ من سورة النساء من الآية ١٤٢..
﴿ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ﴾ ﴿ إذ ﴾ ظرف ل ﴿ مكر ﴾ أو لمحذوف تقديره اذكر فإذ صلة من قوله ﴿ ومكر الله ﴾ يعني ومكر الله بهم حين قال لعيسى إني متوفيك ورافعك إلي فتوفاه ورفعه إليه١. ﴿ متوفيك ﴾ قال الحسن وابن جريج معنى متوفيك قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت. وعن الربيع بن أنس هو وفاة نوم، قال الله تعالى ﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل.. ﴾٢ أي ينيمكم لأن النوم أخو الموت، وقال المولى سبحانه ﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها.. ﴾٣. وعن قتادة والضحاك والفراء وغيرهم : هذا من المقدم والمؤخر لأن الواو لا توجب الرتبة والمعنى إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، كقول الحق سبحانه ﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ﴾٤، والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما والذي صح عن الصادق المصدوق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحسبك أن الله تعالى رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وأنه ما قتل وما صلب وأنه باق على الحياة حتى ينزل إلى الأرض قبل قيام الساعة. روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص ٥ فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد ). وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء ٦ حاجا أو معتمرا أو ليثنيهما ) ولا ينزل بشرع ينسخ شريعتنا بل يتعبد بما شرع لنا ففي صحيح مسلم٧ عن أبي هريرة أن الر سول صلى الله عليه وسلم قال :( كيف أنتم إذا نزل ابن مريم وإمامكم منكم ).
﴿ ورافعك إلي ﴾ مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن : أما قوله فرافعك إلي فالمشبهة تمسكوا بمثله في إثبات المكان لله وأنه في السماء لكن الدلائل القاطعة دلت على أنه متعال عن الحيز والجهة فوجب حمل هذا الظاهر على التأويل بأن المراد إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي، ومثله قول إبراهيم :﴿ .. إني ذاهب إلى ربي.. ﴾٨ وإنما ذهب من العراق إلى الشام وقد سمي الحجاج زوار الله والمجاورون جيران الله والمراد التفخيم والتعظيم أو المراد إلى مكان لا يملك الحكم عليه هناك غير الله، فإن في الأرض ملوكا مجازية... ثم إنه كما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه عبر لذلك عن معنى التخليص بلفظ التطهير فقال ﴿ ومطهرك من الذين كفروا ﴾ أي من خبث جوارهم وسوء عشرتهم. ﴿ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ﴾ وليس هذا فوقية المكان بالاتفاق، فالمراد : الفوقية بالحجة والدليل وإما الفوقية بالقهر والاستيلاء وفيه إخبار عن ذل اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة ولعمري إنه كذلك.. على أنا نقول : المراد بمتبعي المسيح هم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعده فصدقوه في قوله ﴿ .. ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد... ﴾٩ أو دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى. ١ه.
﴿ ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾ هذا من الكلام الذي صرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة، فقد كان الكلام الذي تقدم يخبر عن متبعي عيسى وعن الكافرين به ثم وجه الخطاب إلى كل من الفريقين بأنهم راجعون إلى الله المولى الحق، ومحاسبون بين يديه ومجزيون بما عملوا إن خيرا فخير وإن شرا فشر وذهب بعض علماء القرآن وأئمة البيان إلا أن ﴿ ثم ﴾ للتراخي الرتبي والترقي من كلام إلى آخر لا على التراخي في الزمان فحينئذ لا يلزم أن يكون رجوعهم إلى الله تعالى متأخرا عن الجعل في الزمان.
١ ما بين العارضتين من جامع البيان.
٢ من سورة الأنعام من الآية ٦٠..
٣ من سورة الزمر من الآية ٤٢..
٤ سورة طه الآية ١٢٩..
٥ النوق الشابة..
٦ فج الروحاء: طريق بين مكة والمدينة سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وإلى مكة عام الفتح وعام الحج..
٧ وروى ابن جرير بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي وإنه خليفتي على أمتي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأن شعره يقطر وإن لم يصبه بلل بين محصرتين يدق الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذاب الدجال وتقع في الأرض الأمنة..) الحديث وفي آخره ( فيثبت في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه)..
٨ سورة الصافات من الآية ٩٩..
٩ سورة الصف من الآية ٦..
﴿ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾ الفاء تفسيرية لما سبق من الإخبار عن الحكم بين الجميع -من آمن ومن كفر- فالذين جحدوا وكذبوا ولم يؤمنوا ولا استيقنوا يشقون في الدنيا بالإذلال والنكال أو بالوجل من غلبة الإسلام وأهله عليهم كما تعظم شقوتهم في الآخرة بالتخسير والتحسير وحر السعير وما يمنعهم من بأس الله تعالى مانع ولا يدفعه عنهم مدافع.
﴿ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ﴾ هذا حكم الله الحق في أهل الصدق الذين استيقنوا بما يجب الاستيقان وصلحت بواطنهم واستقاموا على الشرع الحنيف ففعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهوا عنه فإن مولانا الشكور الغفور يوفر عليهم ويتمم جزاء ما عملوا بقلوبهم وجوارحهم ويمنحهم ثواب ما قدموا ويعطيهموه وافيا من غير نقص ﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ أي لا يريد تعظيمهم ولا يرحمهم ولا يثني عليهم أو المراد يبغضهم على ما هو الشائع في مثل هذه العبارة، والجملة تذليل لما قبل مقرر لمضمونه.
﴿ ذلك ﴾ أي المذكور من أمر عيسى عليه السلام والإتيان به بما يدل على البعد للإشارة إلى عظم شأن المشار إليه وبعد منزلته في الشرف ﴿ نتلوه عليك ﴾ أي نسرده ونذكره شيئا بعد شيء، والمراد تلوناه إلا أنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة الحاصلة، اعتناء بها، وقيل يمكن الحمل على الظاهر لأن قصة عيسى عليه السلام لم يفرغ منها بعد. ﴿ من الآيات ﴾ أي الحجج الدالة على صدق نبوتك إذا أعلمتهم بما لا يعلمه إلا قارئ كتاب الله تعالى أو معلم، ولست بواحد منهما فلم يبق إلا أنك قد عرفته عن طريق الوحي ﴿ والذكر ﴾ أي القرآن وقيل اللوح المحفوظ وتفسيره به لاشتماله عليه، و﴿ من ﴾ تبعيضية على الأول وابتدائية على الثاني... ﴿ الحكيم ﴾ أي المحكم المتقن نظمه أو الممنوع من الباطل أو صاحب الحكمة-١.
١ ما بين العارضتين من روح المعاني..
﴿ مثل ﴾ صفة وحال عجيبة.
﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ﴾ صفة عيسى وحاله العجيبة في ولادته دون أب ودون أم -ووجه الشبه أن كلا منهما وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة بل الوجود من غير أب وأم أغرب فشبه الغريب بالأغرب لأنه المشبه به ينبغي أن يكون أقوى حالا من المشبه في وجه الشبه-١. [ ونزلت هذه الآية بسبب وفد نجران حين أنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم قوله :( إن عيسى عبد الله وكلمته ) فقالوا : أرنا عبدا خلق من غير أب فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ( آدم من كان أبوه أعجبتم من عيسى ليس له أب فآدم عليه السلام ليس له أب ولا أم ) فذلك قوله تعالى ﴿ ولا يأتونك بمثل... ﴾ أي في عيسى ﴿ إلا جئناك بالحق... ﴾ في آدم ﴿ وأحسن تفسيرا ﴾٢ ]٣.
﴿ خلقه من تراب ﴾ بيان لوجه الشبه فكلاهما عليهما السلام وجدا بطريقة خارجة عن العادة و﴿ من ﴾ لابتداء الغاية – والمعنى ابتدأ خلق قالبه من هذا الجنس، ﴿ ثم قال له كن فيكون ﴾ أي صر بشرا فصار فالتراخي على هذا زماني إذ بين إنشائه مما ذكر وإيجاد الروح فيه وتصييره لحما ودما زمان طويل ٤.. وفي الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لأنه سبحانه احتج على النصارى وأثبت جواز خلق عيسى عليه السلام من غير أب ولا أم -٥.
١ مما أورد النيسابوري..
٢ من سورة الفرقان الآية ٣٣..
٣ ما بين العلامتين [] أورده القرطبي..
٤ مما جاء في روح المعاني..
٥ مما جاء في روح المعاني..
﴿ الممترين ﴾ الشاكين.
﴿ الحق من ربك ﴾ الذي تلوناه عليك هو الحق من مولاك أيها النبي الخاتم ﴿ فلا تكن من الممترين ﴾ [ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكا في أمر عيسى عليه السلام ]١. - ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى ﴿ .. فلا تكونن من المشركين ﴾٢ بل قد ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين إحداهما أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد في الثبات على اليقين نورا على نور، ثانيهما -أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فيفزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره، ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطف بغيره-٣.
١ مما جاء في روح المعاني..
٢ سورة القصص من الآية ٨٧..
٣ من روح المعاني..
﴿ حاجك ﴾ جادلك وخاصمك.
﴿ نبتهل ﴾ نتباهل ونسترسل في الدعاء على الكاذب.
﴿ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ﴾ فمن جادلك في أمر عيسى عليه السلام بعد الذي أنزل عليك من الآيات الموجبة للعلم بأنه عبد الله ورسوله ﴿ فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴾ أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إذ حاجه وفد نصارى نجران ١ وخاصموه في أمر المسيح أمره سبحانه أن يباهلهم ويلاعنهم ويدعوهم إلى أن يجمعوا أهلهم ويجمع هو صلوات الله عليه وسلامه أهله ثم يسترسل ويتضرع كلا الفريقين في الدعاء إلى الله جل علاه أن ينزل مقته ولعنته على الكاذب منهما. [ قوله ﴿ تعالوا ﴾ أي هلموا وأقبلوا وأصله الطلب لإقبال الذوات، ويستعمل في الرأي إذا كان المخاطب حاضرا كما تقول لمن هو حاضر عندك تعال ننظر في هذا الأمر، قوله ﴿ ندع أبناءنا ﴾.. اكتفى بذكر البنين عن البنات إما لدخولهن في النساء أو لكونهن الذين يحضرون مواقف الخصام دونهن.. ، وقوله ﴿ فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴾ عطف على نبتهل مبين لمعناه ]٢. ولما دعاهم الرسول صلوات الله عليه وسلامه إلى التباهل أحجموا إذ هم مستيقنون أن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق وأنهم كاذبون، روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث حذيفة أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه لا تلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا نحن ولا عقبنا من بعدنا فقالوا له نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلا أمينا فقال ( قم يا أبا عبيدة ) فلما قام قال
( هذا أمين هذه الأمة ).
١ مما روى ابن إسحق في سيرته: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى من نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب حبرات: جبب وأردية.. يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم؛.. قال فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: أبو حارثة بن علقمة والعاقب عبد المسيح وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم... يقولون: هو الله ويقولون هو ولد الله ويقولون هو ثالث ثلاثة تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.. ؛ فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسلما " قالا قال (إنكما لم تسلما فأسلما) قالا: بلى قال (كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير) قالا: فمن أبوك يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة ﴿آل عمران﴾ إلى بضع وثمانين آية منها.. فلما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك فقالوا يا أبا القاسم {دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ثم انصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم فقالوا يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه الاستئصال منكم إن فعلتم فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين) ١هـ..
٢ ما بين العلامتين [] من فتح القدير..
﴿ القصص ﴾ الحديث الذي يورد خبرا بعد خبر ويتتبع المعاني.
﴿ العزيز ﴾ الغالب غلبة تامة والقادر قدرة كاملة والذي لا نظير له.
﴿ الحكيم ﴾ المتقن لكل شيء صنعا.
﴿ إن هذا لهو القصص الحق ﴾ إذ الذي قصصناه عليك لهو الحق دون سواه أو إن هذا القرآن لهو الذي نتابع فيه ذكر الحق، ونوالي فيه إنباءك بما هو صدق ويقين. ﴿ وما من إله إلا الله ﴾ وليس من إله يستحق العبادة إلا الله ذو الجلال والإكرام وفيه رد على الثنوية القائلين زورا بإلهين اثنين وقد أبطل القرآن زعمهم بالقول الحكيم ﴿ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد.. ﴾١، وفيه كذلك رد على القائلين بالتثليت الذين نعى القرآن عليهم بقوله :﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد.. ﴾٢ وكذا في الآية الكريمة ﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد.. ﴾٣.
﴿ وإن الله لهو العزيز الحكيم ﴾ – أي الغالب غلبة تامة أو القادر قدرة كذلك أو الذي لا نظير له ؛ ﴿ الحكيم ﴾ المتقن فيما صنع أو المحيط بالمعلومات ٤ [ وفيه جواب عن شبهة النصارى أن عيسى يقدر على الإحياء ويخبر عن الغيوب فإن هذا القدر من القدرة والعلم لا يكفي في الإلهية بل يجب أن يكون الإله غالبا لا يدفع ولا يمنع وهم يقولون إنه قد قتل ولم يقدر على الدفع ويلزم أن يكون عالما بكل المعلومات وبالعواقب الأمور وعيسى لم يكن كذلك.
١ من سورة النحل من الآية ٥١..
٢ من سورة المائدة من الآية ٧٣..
٣ من سورة النساء من الآية ١٧١..
٤ من روح المعاني..
﴿ تولوا ﴾ أعرضوا أو تتولوا وتعرضوا.
﴿ فإن تولوا ﴾ عما وصفت من التوحيد وأن إله الخلق يجب أن يكون قادرا على المقدورات عالما بجميع المعلومات١ فاعلم أن إعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك معهم وفوض أمرهم إلى الله ﴿ فإن الله عليم بالمفسدين ﴾ لأنه عالم بحال المفسدين في الدنيا وبنياتهم وأغراضهم الفاسدة فيجازيهم بأعمالهم الخبيثة، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما أورد على نصراني نجران من الدلائل ما انقطعوا معه ثم دعاهم على المباهلة فانخذلوا ورضوا بالصغار وقبلوا الجزية أمره الله تعالى بنمط آخر من الكلام مبني على الإنصاف يشهد به كل طبع مستقيم وعقل سليم فقال ﴿ قل يا أهل الكتاب ﴾.
١ من سورة الجاثية من الآية ٢٣..
﴿ كلمة ﴾ كلام.
﴿ سواء ﴾ مستو عدل.
﴿ أربابا ﴾ سادة يطاعون في معصية الله تعالى.
﴿ قل يا أهل الكتاب ﴾... قيل المراد يهود المدينة وقال اليهود والنصارى جميعا لأن ظاهر اللفظ يتناولهما.. والمراد من قوله ﴿ تعالوا ﴾ تعيين ما دعوا به والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالا من مكان إلى مكان والمعنى هلموا﴿ إلى كلمة سواء ﴾ فيها إنصاف من بعضنا لبعض لا ميل فيه لأحد على صاحبه والسواء هو العدل والإنصاف لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف وفيه التسوية بينه وبين صاحبه أو المراد إلى كلمة سواء مستوية ﴿ بيننا وبينكم ﴾ لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل وتفسير الكلمة ب قوله ﴿ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ﴾ فمحل ﴿ ألا نعبد ﴾ خفض على البدل من ﴿ كلمة ﴾... وهو خبر في معنى الأمر أي اعبدوا ربكم وإنما ذكر أمور ثلاثة لأن النصارى جمعوا بين ثلاثة فعبدوا غير الله وهو المسيح وأشركوا به غيره لأنهم أثبتوا أقانيم ثلاثة : أبا وابنا وروح القدس ثم قالوا إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين لما جاز عليهما مفارقة ذات الأب والتضرع بناسوت عيسى ومريم، وحيث أثبتوا ثلاثة ذوات مستقلة فقد أشركوا ثم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا لأنهم أطاعوهم في التحليل والتحريم من تلقاء أنفسهم من غير شرعة وبيان ولأنهم يسجدون لهم ويطيعونهم في المعاصي وهوى النفس ورؤية الأمور من الوسائط
﴿ أفرأيت الذي اتخذ إلهه هواه.. ﴾١، ولأن مذهبهم أن الكامل في الرياضة يظهر فيه أثر اللاهوت ويحل فيه فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فهم وإن لم يطلقوا عليهم اسم الرب إلا أنهم أثبتوا في حقهم معنى الربوبية فثبت أن النصارى جمعوا بين الأمور الثلاثة، وبطلانها كالأمر المتفق عليه بين العقلاء ] ٢.
﴿ فإن تولوا ﴾ فإن أعرض الذين تدعوهم إلى ما أنزلت عليك ولم يقبلوا الكلمة السواء ولم يستيقنوا التوحيد واستمروا على شركهم ﴿ فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾ فاعتزوا أنتم بما هديتكم إليه من الدين الحق وتابعوا الدعوة إليه وكونوا عنوانا عليه فذلك هو الفصل المبين ﴿ ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ﴾٣ كما يقول الغالب لمغلوبه في جدال وصراع لزمتك الحجة فاعترف بأني أنا الغالب أو يكون من باب التعريض ومعناه فاعترفوا بأنكم الكافرون حيث أعرضتم عن الحق بعدما تبين.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس قال : حدثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ".
١ من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن النيسابوري..
٢ من سورة فصلت الآية ٣٣..
٣ ؟؟؟؟؟.
﴿ تحاجون ﴾ تجادلون وتخاصمون وتنازعون.
﴿ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ﴾ ينكر الله تعالى على اليهود والنصارى دعواهم أن إبراهيم وشريعته كانت اليهودية أو النصرانية -والكلام على حذف مضاف أي دين إبراهيم وشريعته لأن الذوات لا مجادلة فيها-١ تنازعون وتجادلون ويزعم كل فريق منكم أنه سلام الله عليه كان على دينكم وكيف يعقل أن يكون على شرعة التوراة بقرون وكيف تزعمون أنه كان من أتباع الإنجيل -كتاب النصرانية- والإنجيل نزل بعد إبراهيم وبعد موسى الذي أنزلت عليه التوراة بدهر متطاول ؟ ألا تتفكرون أفلا تعقلون بطلان ما تقولون ؟
١ من روح المعاني..
﴿ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ﴾ أطلتم الجدال والمخاصمة ولا يتكلم موسى وعيسى عليهما السلام وقد تعلمون شيئا من اتباع آبائكم لملتيهما فلم تجادلون وتنازعون في أمر إبراهيم ولا علم لأحد بأنه كان على أي من ملتكما ؟ [ وفي الآية دليل على منع الجدال بالباطل بل ورد الترغيب في ترك الجدال من الحق كما في الحديث ( من ترك المراء ولو محقا فأنا ضمينه على الله ببيت في ربض الجنة ) وقد ورد تسويغ الجدال بالتي هي أحسن.. ) ١ ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن )٢ ونحو ذلك فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة أو على المواطن التي تكون المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة ]٣.
﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ علمه سبحانه محيط وعلم العباد ليس إلا يسير على جانب ما جهلوه فالحق ما جاءنا عن العليم الخبير.
١ سورة النحل من الآية ١٢٥..
٢ من سورة العنكبوت من الآية ٤٦..
٣ مما أورد النيسابوري..
﴿ حنيفا ﴾ مائلا عن العقائد الزائفة.
﴿ مسلما ﴾ منقادا لطاعة الحق أو موحدا.
﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ﴾ شهد الله تعالى وكفى به شهيدا أن إبراهيم عليه السلام لم يكن إلا المتنائي عن الملل الباطلة المنقاد لمنهاج ربه وسننه القويم الموجد لربه توحيدا لا يشوبه شرك المشركين ؛ وبهذا أحق الله تعالى الحق وأبطل بهتان المفترين كما جاء في موطن آخر من القرآن العظيم ﴿ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾١.
١ من سورة البقرة الآية ١٣٥..
﴿ أولى ﴾ أقرب.
﴿ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ﴾ إن أحق الناس بإبراهيم والانتساب إليه ونصرته للذين استقاموا على سنته وملته وساروا على منهاجه وطريقته ووحدوا الله مخلصين له الدين حنفاء لله غير مشركين، وهذا النبي الخاتم١ والذين صدقوا ما جاء به شرع الإسلام والله ناصر المستيقنين بالحق على من خالفهم والنبي الخاتم محمد صلى الله عليه سلم ممن اتبع إبراهيم عليه السلام وبهذا أمره مولاه جل علاه ﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾٢ لكن أفرده بالذكر تعظيما له كقول المولى تقدست أسماؤه ﴿ فيهما فاكهة ونخل ورمان ﴾٣ فالنخل والرمان من الفاكهة لكن أفردا بالذكر لأهميتهما فكذلك ههنا فممن اتبعوه : هذا النبي والذين آمنوا بما جاء به ﴿ والله ولي المؤمنين ﴾ ينصرهم ويجازيهم بالحسنى كما هو شأن الولي-٤.
١ روى ابن جرير بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي خليل ربي ثم قرأ-﴿إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين﴾..
٢ من سورة النمل الآية ١٢٣..
٣ من سورة الرحمن الآية ٦٨..
٤ من روح المعاني..
﴿ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ﴾ يحب فريق من اليهود والنصارى خبالكم معاشر المسلمين ولا يكفون عن السعي لإغوائكم ويجتهدون في إضلالكم بالكيد والصد وبما يقدرون عليه من تلبيس وحرب، كما جاء في محكم التنزيل ﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا.. ﴾ ١ وقد يراد بالإضلال الإهلاك كما في قول الحق سبحانه ﴿ وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد.. ﴾٢ ؛ فالضالون المكذبون يريدون إضلال المهتدين وبهذا أنبأنا الخلاق العليم ﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ﴾٣ وهكذا كان الأشقياء من الغابرين ﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا.. ﴾٤، ويتابعهم الغواة إلى يوم الدين ﴿ لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا.. ﴾٥ والكفر ملة واحدة ﴿ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم.. ﴾ ٦.
﴿ وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾ – نفي وإيجاب ؛ وما يشعرون أي وما يفطنون أنهم لا يصلون إلى إضلال المؤمنين وقيل.. لا يعلمون بصحة الإسلام وواجب عليهم أن يعلموا لأن البراهين ظاهرة والحجج باهرة والله أعلم٧.
١ من سورة البقرة من الآية ١٠٩..
٢ من سورة السجدة من الآية ١٠..
٣ من سورة النساء من الآية ٨٩..
٤ من سورة إبراهيم من الآية ١٣..
٥ من سورة البقرة من الآية ٢١٧..
٦ من سورة البقرة من الآية ١٠٥..
٧ من الجامع لأحكام القرآن..
﴿ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ﴾ عن قتادة تشهدون أن نعت محمد صلى الله عليه سلم في كتابكم ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمي الذي يؤمن بالله تعالى وكلماته، وعن ابن جريج ﴿ وأنتم تشهدون ﴾ أن الدين عند الله الإسلام ومعنى الكفر بالتوراة والإنجيل إما بالكفر بما يدلان عليه فيكون قد أطلق اسم الدليل على المدلول أو الكفر بنفس التوراة والإنجيل لأنهم كانوا يحرفونهما وينكرون تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعنى ﴿ وأنتم تشهدون ﴾ : أنهم عند حضور المسلمين وعند حضور عوامهم كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا خلا بعضهم إلى بعض شهدوا بصحتها وعلى هذا فيكون في الآية إخبار عن الغيب فيكون معجزا. وقيل آيات الله وهي القرآن وشهادتهم أنهم يعرفون في قلوبهم أنه حق وقيل آيات الله : جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فمعنى تشهدون أنكم تعترفون بدلالة المعجزة على صدق المدعي ثم لما وبخهم على الغواية أردف التوبيخ بالإغواء وهو إما بإلقاء الشبهات في الدين وهو معنى لبسهم الحق بالباطل وإما بإخفاء الدلائل وهو كتمانهم الحق-١.
١ من تفسير غرائب القرآن..
﴿ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ﴾ عن قتادة : لم تلبسون ( تخلطون ) اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام ولا يجزي إلا به وعن الربيع يكتمون شأن محمد صلى اله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
﴿ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ﴾ عن السدي : كان أحبار قرى عرينة اثني عشر حبرا فقالوا لبعضهم ادخلوا في دين محمد أول النهار وقولوا نشهد أن محمدا حق صادق، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم فحدثونا أن محمدا كاذب وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم لعلهم يشكون يقولون : هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم ؟ فأخبر الله عز وجل رسوله بذلك، وعن ابن عباس ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ لعلهم ينقلبون عن دينهم.
﴿ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ﴾ جائز أن يكون الخطاب للمؤمنين يوصينا ربنا سبحانه أن لا نطمئن ونركن ونصدق إلا لمن آمن بديننا أما من خالفه فلا نؤمن به وجائز أن يكون هذا كالذي قبله مما حكاه الكتاب المجيد عن مكر اليهود كما نقل عن السدي أن المعنى لا تؤمنوا إلا لمن اتبع اليهود ﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾ قال بعض المفسرين اعترض بهذا القول الكريم في وسط الكلام عن قول اليهود ﴿ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ﴾ فكأن المعنى : أو أن يحاجوكم عند ربكم أي لا تؤمنوا إلا لمن اتبع دينكم ولا تؤمنوا أن يأتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تؤمنوا أن يحاجكم أحد عند ربكم، نقل عن الفراء ومثله عن الكسائي : يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله عز وجل ﴿ إلا لمن تبع دينكم ﴾ ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾ أي البيان الحق هو بيان الله عز وجل ﴿ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ﴾ بين ألا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم و [ لا ] مقدرة بعد ﴿ أن ﴾ أي لئلا يؤتى أحد كقول الحق سبحانه ﴿ .. يبين الله لكم ألا تضلوا.. ﴾ ١ أي لئلا تضلوا فلذلك صلح دخول ﴿ أحد ﴾ في الكلام و﴿ أو ﴾ أي حتى. مثل قولهم لا نلتقي أو تقوم الساعة أي حتى أو إلى أن – ويحتمل أن تكون الآية كلها خطاب للمؤمنين من الله تعالى على جهة التثبيت لقلوبهم والتشحيذ لبصائرهم لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم والمعنى لا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا من اتبع دينكم ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والدين ولا تصدقوا أن يحاجوكم في دينكم عند ربكم من خالفكم أو يقدر على ذلك فإن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله، قال الضحاك : إن اليهود قالوا إنا نحاج عند ربنا من خالفنا في ديننا فبين الله تعالا أنهم المدحضون المعذبون وأن المؤمنين هم الغالبون ومحاجتهم : خصومتهم يوم القيامة ففي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن اليهود والنصارى يحاجونا عند ربنا فيقولون أعطيتنا أجرا واحدا وأعطيتهم أجرين فيقول هل ظلمتكم من حقوقكم شيئا قالوا لا قال فإن ذلك فضلي أوتيه من أشاء ) ٢.
١ من سورة النساء من الآية ١٧٦..
٢ من الجامع لأحكام القرآن والحديث مروي بنحو هذا في صحيح البخاري..
﴿ يختص برحمته من يشاء ﴾ ذهب الحسن ومجاهد إلى أن الرحمة قد يراد بها النبوة والهداية ؛ وابن جريج إلى أنها ربما تعني الإسلام والقرآن، وقال أبو عثمان أجمل القول ليبقى معه رجاء الراجي وخوف الخائف ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ والمعبود بالحق تقدست أسماؤه صاحب الفضل الحق يمنحه من يشاء سبحانه ممن رضي عنهم وفضله جل علاه لا يقادر قدره، جليل أثره وخطره.
﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائما ﴾ ينبئنا العليم الخبير أن بعضا من أهل الكتاب مؤتمن وإن بعضا منهم خائن وفي هذا تحذير لنا كي لا ننخدع بهم وخص أهل الكتاب بالذكر – وإن كان سائر الناس كذلك فيهم الأمين والخائن – لأن الخيانة فيهم أكثر، - وذكر الله تعالى قسمين من يؤدي ومن لا يؤدي إلا بالملازمة عليه وقد يكون من الناس من لا يؤدي وإن دمت عليه قائما فذكر الله القسمين لأنه الغالب والمعتاد، والثالث نادر فخرج الكلام على الغالب-١ الباء في ﴿ بقنطار ﴾ بمعنى على أو بمعنى في، أي في حفظ القنطار [ ﴿ إلا ما دمت عليه قائما ﴾ استثناء من أعم الأحوال أو الأوقات أي ﴿ لا يؤده إليك ﴾ في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامك أو في وقت دوام قيامك، والقيام مجاز عن المبالغة في المطالبة وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالإلحاح والسدي بالملازمة.. ]٢.
مما أورد أبو عبد الله القرطبي : الأمانة عظيمة القدر في الدين ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرحم على جنبتي الصراط كما في صحيح مسلم، فلا يمكن من الجواز إلا من حفظهما، وروى مسلم عن حذيفة قال : حدثنا النبي صلى الله عليه سلم عن رفع الأمانة قال ( ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه ) الحديث.. وقد مضى في البقرة معنى قوله عليه السلام ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) والله أعلم... ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافا لمن ذهب إلى ذلك، لأن فساق المسلمين يوجد فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ولا يكونون بذلك عدولا فطريق العدالة والشهادة ليس يجزي فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة ؛ ألا ترى قولهم ﴿ ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ ؟ فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه ولو كان ذلك كافيا في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين. ١ه.
﴿ ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ استحلال بعض أهل الكتاب ما ائتمنتموهم عليه ومماطلتهم في أدائه إليكم وإن كان يسيرا من أجل ادعاهم أنه لا حرج عليهم في أخذ أموالكم وسلب ما يقدرون عليه من حقوقكم – إما لأنهم يبالغون في التعصب لدينهم حتى استحلوا قتل المخالف وأخذ ماله بأي طريق كان وإما لأنهم قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، الخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا -٣ وقد يعنون بالأميين من ليس على دينهم وقد يقصدون ذلك العرب وأميتها إما لقلة من كان يكتب ويحسب منهم٤ وإما لأنه لم يبعث فيهم نبي إلا خاتم النبيين محمد بن عبد الله عليه الصلوات والتسليم ﴿ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ مما نقل عن ابن جريج : ادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم وهم على علم بأن قيلهم هذا ادعاء وافتراء وتقول على الله تعالى بالباطل، أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن : قال رجل لابن عباس : إنا نصيب في العمد٥ من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول ليس علينا في ذلك بأس فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب ﴿ ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم.
١ من الجامع لأحكام القرآن..
٢ ما بين العلامتين [] من روح المعاني..
٣ من تفسير غرائب القران..
٤ في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)..
٥ ونقل بعضهم أنها الغزو..
﴿ بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين ﴾ قال الزجاج ما حاصله : عندي وقف التمام على ﴿ بلى ﴾ لأنه لمجرد نفي ما قبله أي بلى عليهم سبيل في ذلك، وما بعده استئناف إخبار من الله عز وجل عمن أدى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاء الله ومراقبة وعيده.. ليس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود من أنه ليس عليهم في أموال الأميين حرج ولا إثم.. ولكن الذي أوفى بعهده.. والهاء في قوله ﴿ من أوفى بعهده ﴾ عائدة على اسم الله في قوله ﴿ ويقولون على الله الكذب ﴾ يقولون بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدق به وبما جاء به من عند الله من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها وغير ذلك من أمر الله ونهيه.. واتقى ما نهاه عنه من الكفر به وسائر معاصيه التي حرمها عليه فاجتنب ذلك مراقبة وعيد الله وخوف عقابه.. فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه ويحذرون عذابه فيجتنبون ما نهاهم عنه وحرمه عليهم ويطيعونه فيما أمرهم به١ والعهد مصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول.
١ من جامع البيان..
﴿ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ﴾ ﴿ يشترون ﴾ يستبدلون ؛ ﴿ بعهد الله ﴾ بأمر الله تعالى وما يلزم الوفاء به ﴿ وأيمانهم ﴾ حلفهم كذبا ﴿ ثمنا قليلا ﴾ عوضا حقيرا وهو متدن مهما كثر لقلته في جنب ما يفوتهم من الخير والثواب في العاجل والآجل وما يلحقهم من الخزي والنكال دنيا وآخرة فإنه لا نصيب لهم يوم يلقون ربهم سبحانه.
﴿ ولا يكلمهم الله ﴾ كلاما تطيب به نفوسهم.
﴿ ولا ينظر إليهم يوم القيامة ﴾ لا ينالهم من ربهم يوم القيامة نظرة عفو وصفح ورحمة بل ليس لهم يوم يلقونه سبحانه إلا العقاب المذل والمقام البئيس وصنوف الألم الموجع غاية الوجع نسأل الله تعالى العافية.
في صحيح البخاري عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ) فقال الأشعث بن قيس : في والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألك بينة ) قلت لا قال لليهودي ( احلف ) فقلت يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالي فأنزل الله ﴿ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا.. ﴾ إلى آخر الآية.
﴿ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ﴾ من بني إسرائيل طائفة تميل الكلام وتعوج به عن القصد ولا يبالون بعظم الإثم في ذلك وإن كان كلاما موحى به من السماء ويحرفونه عن مواضعه ويبدلونه وينقصون منه ويزيدون فيه ويتأولونه على غير وجهه وقيل المراد يميلون الألسنة بمشابه الكتاب ؛ والألسنة جمع لسان يذكر ويؤنث
﴿ ويقولون على الله الكذب ﴾ – أي في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى تعريضا وتصريحا ﴿ وهم يعلمون ﴾ أنهم كاذبون عليه سبحانه وهو تسجيل عليهم بأن ما افتروه عن عمد لا عن خطأ-١.
١ مما أورد صاحب روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ثم أورد بحثا نقل فيه عن وهب بن منبه أنه قد بقيت نسخ من التوراة والإنجيل لم يتناولوها بإضافة المفتريات وإنما أخفوها وأضافوا في غيرها ولذلك كان القرآن يتحداهم ويقول ﴿.. فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين﴾ وهم يمتنعون من ذلك لكن رجح صاحب روح المعاني أنهم غيروا في كتب الله تعالى التي نزلت عليهم وساق جانبا من التناقض الواقع في أناجيلهم..
﴿ ما كان ﴾ ما صح ولا استقام.
﴿ لبشر ﴾ لواحد من الناس.
﴿ يؤتيه ﴾ يعطيه.
﴿ الكتاب ﴾ شيئا من الكتب السماوية المنزلة.
﴿ الحكم ﴾ الحكمة والفهم والعلم.
﴿ والنبوة ﴾ الأنباء عن الله تعالى.
﴿ كونوا عبادا ﴾ كونوا عابدين يدعوهم إلى عبادة نفسه دون الله سبحانه.
﴿ ربانيين ﴾ حكماء علماء أتقياء مصلحين.
ما يجوز ولا ينبغي ولا يستقيم مع العقل أن ينادي نبي أعطاه الله تعالى الرسالة إلى الخلق واصطفاه فأنزل عليه الوحي وبعثه بكتاب من كتبه السماوية الهادية إلى الرشد ومنحه مولانا الحكم والعلم والفهم ما يصح لمثل هذا الذي اختاره ربنا واصطفاه على علم أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه ولكن يدعوهم ويقول لهم كونوا أتقياء حكماء مصلحين بسبب كونهم عالمين ومعلمين للناس الخير والرشد والبر ؛ والحاصل أن من قرأ بالتشديد ( ﴿ تعلمون ﴾ ) لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم والتعليم وهو أن يكون مع ذلك مخلصا أو حكيما أو حليما حتى تظهر السببية، ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني على العالم الذي يعلم الناس فيكون المعنى كونوا معلمين بسب كونكم علماء وبسبب كونكم تدرسون العلم، وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل وأن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله سبحانه-١.
مما نقل عن مجاهد في معنى ﴿ ربانيين ﴾ الرباني : الجامع إلى العلم والفقه البصر بالسياسية والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم ومن المعلوم أن عدم الأمر قد يكون في معنى النهي فكان المعنى ما يجوز لنبي أن يأمر الناس بعبادة نفسه بل ينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء – وإنما خص الملائكة والأنبياء بالذكر لأن الذين وصفوا بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح.
١ من فتح القدير..
﴿ أربابا ﴾ سادة مطاعين معبودين.
﴿ أيأمركم ﴾ أي البشر وقيل الله ﴿ بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ﴾ ومعنى الاستفهام الإنكار أي إنه لا يفعل ذلك-١ [ ووجه كون الخطاب للكفار وأن الآية نزلت فيهم بأنه يجوز أن يقال لأهل الكتاب ﴿ أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ﴾ أي منقادون مستعدون للدين الحق إرخاء للعنان واستدراجا ]٢.
١ من تفسير غرائب القران.
٢ من روح المعاني..
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ﴾ لعل المراد واذكر يا محمد إذ أخذ ربك الميثاق على النبيين لما أي قسما١ لأن الله عز وجل أخذ ميثاق جميع الأنبياء بتصديق كل رسول ابتعثه إلى خلقه، مما قال الربيع ﴿ لتؤمنن به ولتنصرنه ﴾ يقول لتؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولتنصرنه وقال هم أهل الكتاب وقال طاووس : أخذ الله ميثاق الأول من الأنبياء ليصدقن بما جاء به الآخر منهم، وعن قتادة : هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدق بعضهم بعضا وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم فيما بلغتهم رسلهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه وينصرونه، وعن ابن عباس : ذكر ما أخذ عليهم يعني على أهل الكتاب وعلى النبيين من الميثاق بتصديقه يعني بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم إذا جاءهم وإقرارهم به على أنفسهم.. ١ه.
﴿ قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا ﴾ [.. أقررتم بالميثاق الذي واثقتموني عليه من أنكم مهما آتاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وأخذتم على ذلكم إصري يقول وأخذتم على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي والقيام بنصرتهم، وإصري يعني : عهدي ووصيتي وقبلتم في ذلك مني، ورضيتموه والأخذ هو القبول في هذا الموضع والرضا من قولهم أخذ الوالي عليه البيعة بمعنى بايعه وقبل ولايته ورضي بها ]٢.
﴿ قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ﴾ عن علي ابن أبي طالب فاشهدوا على أممكم بذلك وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم.
١ أورد الألوسي في إعراب هذه الجملة الكريمة قريبا من ألفي كلمة..
٢ من جامع البيان..
﴿ فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾ من أعرض عن الوفاء بعهدي وأدبر واستكبر عن اتباع أنبيائي الذين أرسلوا يصدق بعضهم بعضا ويؤمنون بما أنزل الله من الكتاب ومن قعد عن نصرة الرسل وما أرسلوا به فهؤلاء المكذبون هم الخارجون على حدودي المنشقون عن سبيلي وديني الذي رضيته [ وهاتان الآيتان وإن كان مخرج الخبر فيهما من الله عز وجل بما أخبر أنه أشهد وأخذ به ميثاق من أخذ من أنبيائه ورسله فإنه مقصود به إخبار من كان حوالي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل أيام حياته صلى الله عليه سلم عما لله من العهد في الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومعنى تذكريهم ما كان الله آخذا على آبائهم وأسلافهم من المواثيق والعهود وما كانت أنبياء الله عرفتهم وتقدمت إليهم في تصديقه واتباعه ونصرته على من خالفه وكذبه وتعريفهم ما في كتب الله التي أنزلها إلى أنبيائه التي ابتعثهم إليهم من صفته وعلامته ]١.
١ من جامع البيان.
﴿ أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للعطف على مقدر وكأنه : أتتولون فتبغون وتطلبون وترضون غير دين الله ؟ وقدم المفعول على الفعل لأنه المقصود بالإنكار ودين الله تعالى الذي لم يرتض سواه هو الإسلام ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه... ﴾ والطوع الاتباع والانقياد، والكره ما كان بمشقة وإباء من النفس و﴿ طوعا وكرها ﴾ مصدران في موضع الحال أي طائعين ومكرهين.
عن الحسن ﴿ أسلم من في السماوات ﴾ وتم الكلام ثم قال ﴿ والأرض طوعا وكرها ﴾ وقال : والكاره المنافق لا ينفعه عمله. وذلك المعنى بينته آية كريمة ﴿ ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها.. ﴾ ١ – فالمؤمن مستسلم بقلبه لله والكافر مستسلم لله كرها، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع -٢ قال قتادة : أسلم المؤمن طوعا والكافر عند موته كرها ولا ينفعه ذلك، بقوله ﴿ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا.. ﴾٣ ؛ ﴿ وإليه ترجعون ﴾ وإلى ربنا سبحانه الرجعى ليجزي الذي أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
١ من سورة الرعد من الآية ١٥..
٢ من تفسير القران العظيم..
٣ من سورة غافر من الآية ٨٥..
﴿ قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط ﴾ لما كان عهد المولى تقدست أسماؤه إلى أنبيائه وإلى أممهم أن يؤمنوا بكل رسول وينصروا رسالته وصى نبيه وعلمنا في شخصه الكريم عليه الصلوات والتسليم أن نستيقن بكل ما يجب الإيمان به من رسالة ورسول، ومن قبل ذلك الاستيقان بالله جل وعلا، وصدقت وصدقت أمتي بالقرآن المنزل علي وصدقنا بالوحي الذي أنزله ربنا على إبراهيم وإسماعيل وعلى إسحق ويعقوب والأسباط ذرية يعقوب.
﴿ وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم ﴾ وآمنا وصدقنا بما أوحي إلى موسى وبما أوحي إلى عيسى وبكل وحي أنزله ربنا على نبي من أنبيائه.
﴿ لا نفرق بين أحد منهم ﴾ لسنا نصدق برسالة دون أخرى ولا نؤمن بنبي وندع الإيمان بمن سواه ولكنا نؤمن بجميع الرسالات وجميع الرسل فإن من فرق بالإيمان بين نبي ونبي فليس من الله في شيء، وصدق الله العظيم ﴿ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا.. ﴾١، وهذا هو منهاج ربنا الذي يريد أن يجتمع عليه الأولون والآخرون ﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.. ﴾٢، وفي سورة البقرة يقول الحق تقدست أسماؤه ﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ﴾٣، نحن لربنا طائعون ولدينه متبعون ولشرعه منقادون.
١ من سورة النساء الآية ١٥٠. ومن الآية ١٥١..
٢ من سورة الشورى من الآية ١٣..
٣ من سورة البقرة الآية ١٣٦..
﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ ومن يطلب ويرتض سننا وسبيلا إلى الله غير سنن الإسلام وسبيله فقد زاغ عن القصد وتنكب عن الرشد وفاته كل الخير وعمله عليه رد ولن يدرك في الآخرة فلاحا ولا فوزا.
﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات ﴾ كان هذا من تتمة الوعيد على التولي عن الحق والخروج على الميثاق الذي واثق عليه الأنبياء أممهم من الإيمان برسالات ربنا ورسله وابتغاء ملة غير الإسلام الحنيف فهؤلاء الذين زاغوا يزيغ الله قلوبهم فصدورهم حرجة بهذا الدين القويم.
عن قتادة وعطاء والحسن : نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا بإقامتهم على كفرهم. ١ه.
و﴿ كيف ﴾ استفهام يراد به النفي مثل قول الحق سبحانه ﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله ورسوله.. ﴾١ ؟ أي لا يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله فالآية تبين أن الله لا يهدي إلى الحق قوما كفروا بعد إيمانهم وبعدما علموا أن الرسول حق وبعدما سمعوا الآيات التنزيلية القرآنية ورأوا الآيات التكوينية الآفاقية والأنفسية وشاهدوا معجزات النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾.. يقال : ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالما لا يهديه الله وقد رأينا كثيرا من المرتدين قد أسلموا وهداهم الله وكثيرا من الظالمين تابوا عن الظلم، قيل له : معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون على الإسلام فأما إذا أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك- ٢.
١ من سورة التوبة من الآية ٧..
٢ من الجامع لأحكام القرآن..
[ هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم وبعد أن شهدوا أن الرسول حق ﴿ جزاؤهم ﴾ ثوابهم من عملهم الذي عملوه ﴿ أن عليهم لعنة الله ﴾ يعني أن حل بهم من الله الإقصاء والبعد ﴿ والملائكة والناس ﴾ ومن الملائكة والناس – يسألون لهم الإقصاء والبعد – إلا مما يسوؤهم من العقاب، ﴿ أجمعين ﴾ يعني من جميعهم لا من بعض من سماه جل ثناؤه من الملائكة والناس ولكن من جميعهم، وإنما جعل ذلك جل ثناؤه ثواب عملهم لأن عملهم كان بالله كفرا.
﴿ خالدين فيها ﴾ يعني ماكثين فيها يعني في عقوبة الله ﴿ لا يخفف عنهم العذاب ﴾ لا ينقصون من العذاب شيئا في حال من الأحوال ولا ينفسون فيه ﴿ ولا هم ينظرون ﴾ يعني ولا هم ينظرون لمعذرة يعتذرون وذلك كله -أعني الخلود في العقوبة- في الآخرة ؛ ثم استثنى جل ثناؤه الذين تابوا من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم فقال تعالى ذكره ﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ﴾
﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ﴾
يعني إلا الذين تابوا من بعد ارتدادهم عن الإيمان فراجعوا الإيمان بالله ورسوله وصدقوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند ربهم
﴿ وأصلحوا ﴾ يعني : فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره غفور يعني ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الردة فتارك عقوبته عليه وفضيحته به يوم القيامة غير مؤاخذه به إذا مات على التوبة منه، رحيم متعطف عليه بالرحمة ]١.
عن مجاهد قال : جاء الحرث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر الحرث فرجع إلى قومه فأنزل الله عز وجل فيه القرآن ﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ﴾ إلى ﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾ قال فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحرث إنك والله ما علمت لصدوق، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله عز وجل لأصدق الثلاثة قال الحارث فأسلم فحسن إسلامه.
وعن الحسن : هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم. ١ه.
قال أبو جعفر : وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن من أن الآية معني بها أهل الكتاب على ما قال، غير أن الأخبار بالقول الآخر أكثر والقائلين به أعلم بتأويل القرآن وجاز أن يكون الله عز وجل أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدوا عن الإسلام فجمع قصتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ثم عرف عباده سننه فيهم فيكون داخلا في ذلك كل من كان كافرا فأسلم على عهد محمد صلى الله عليه وسلم ثم ارتد وهو حي عن إسلامه، فيكون معنيا بالآية جميع هذين الصنفين وغيرهما ممن كان بمثل معناهما بل ذلك كذلك إن شاء الله فتأويل الآية إذن كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم يعني كيف يرشد الله للصواب ويوفق للإيمان قوما جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم أي بعد تصديقهم إياه وإقرارهم بما جاء به من عند ربه، ﴿ وشهدوا أن الرسول حق ﴾ يقول : بعد أن أقروا أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلقه حقا وجاءهم البينات يعني وجاءهم الحجج من عند الله والدلائل بصحة ذلك ؛ ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ يقول : والله لا يوفق للحق والصواب الجماعة الظلمة وهم الذين بدلوا الحق إلى الباطل فاختاروا الكفر على الإيمان. ١ه.
١ من جامع البيان.
﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ﴾ عن أبي العالية : هم اليهود والنصارى والمجوس أصابوا ذنوبا في كفرهم فأرادوا أن يتوبوا منها ولن يتوبوا من الكفر -يريدون التوبة من بعض الذنوب ولم يرجعوا بعد عن كفرهم – ألا ترى أنه يقول
﴿ وأولئك هم الضالون ﴾ ؟ وعن السدي : أما ﴿ ازدادوا كفرا ﴾ فماتوا وهم كفار، وأما ﴿ لن تقبل توبتهم ﴾ فعند موته إذا تاب لم تقبل توبته، قال أبو جعفر : وأولى في الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية قول من قال : عنى بها اليهود وأن يكون تأويله إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه بعد إيمانهم به قبل مبعثه ﴿ ثم ازدادوا كفرا ﴾ بما أصابوا من الذنوب في كفرهم ومقامهم على ضلالهم ﴿ لن تقبل توبتهم ﴾ من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ويراجعوا التوبة منه بتصديق ما جاء به من عند الله، وإنما قلنا : ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب لأن الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها إذا كانت في سياق واحد وإنما قلنا معنى ازديادهم الكفر ما أصابوا في كفرهم من المعاصي لأنه جل ثناؤه قال ﴿ لن تقبل توبتهم ﴾ فكان معلوما أن معنى قوله ﴿ لن تقبل توبتهم ﴾ إنما هو معني به لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم لا من كفرهم، لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده فقال ﴿ هو الذي يقبل التوبة من عباده.. ﴾١ فمحال أن يقول عز وجل : أقبل ولا أقبل في شيء واحد وإذا كان ذلك كذلك، وكان من حكم الله في عباده أنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب وكان الكفر بعد الإيمان أحد تلك الذنوب التي وعد قبول التوبة منها بقوله ﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾ علم أن المعنى الذي لا يقبل التوبة منه غير المعنى الذي تقبل التوبة منه وإذ كان ذلك كذلك فالذي لا تقبل منه التوبة هو الازدياد على الكفر بعد الكفر، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح فإن الله كما وصف به نفسه ﴿ غفور رحيم ﴾، فإن قال قائل وما ينكر أن يكون معنى ذلك كما قال من قال : فلن تقبل توبتهم من كفرهم عند حضور أجله أو توبته الأولى ؟ قيل أنكرنا ذلك لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة، وقد وعد الله عز وجل عباده قبول التوبة منهم مادامت أرواحهم في أجسادهم ولا خلاف بين جميع الحجة في أن كافرا لو أسلم قبل خروج نفسه بطرفة عين أن حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه والموارثة وسائر الأحكام غيرها، فكان معلوما بذلك أن توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام ولا منزلة بين الموت والحياة يجوز أن يقال لا يقبل الله فيها توبة الكافر فإذا صح أنها في حال حياته مقبولة ولا سبيل بعد الممات إليها بطل قول الذي زعم أنها غير مقبولة عند حضور الأجل.. ١ه.
١ من سورة الشورى من الآية ٢٥..
﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ﴾ في الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به ؟ فيقول نعم فيقال له لقد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك )١ : وهذا قول الحق جل علاه ﴿ إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم ﴾٢، و﴿ ذهبا ﴾ منصوب على نزع الخافض والتقدير : من ذهب أو منصوب على التمييز، والواو في قوله سبحانه ﴿ ولوا افتدى به ﴾ فإنها على رأي الزجاج وابن الأنباري - للعطف والتقدير : لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك مع كفره ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه وقيل يجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله تقدست أسماؤه د ﴿ ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به.. ﴾ ٣ [ فإن قيل من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة شيئا وبتقدير أن يملك فلا نفع في الذهب هناك فما فائدة هذا الكلام ؟ فالجواب أنه على سبيل الفرض والتقدير والذهب كناية عن أعز الأشياء والمراد أنه لو قدر على أعز الأشياء وفرض أنه بذله نفعا للآخذ وأن المبذول في غاية الكثرة لعجز أن يتوصل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب ربه ] ٤ ؛ هؤلاء المبعدون في الكفر المصرون عليه المستديمون له مدة حياتهم لهم العقاب الدائم الموجع في آخرتهم وما لهم من يشفع فيهم ولا من يدفع ما يحله الله بهم.
١ وفي رواية غيرهما بزيادة " فذلك قوله تعالى ﴿إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار..﴾الآية..
٢ من سورة المائدة الآية ٣٦..
٣ من سورة الزمر من الآية ٤٧..
٤ من تفسير غرائب القرآن..
﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ﴾.
﴿ تنالوا ﴾ تعطوا وتدركوا وتصيبوا.
﴿ البر ﴾ الصدق والطاعة والصلاح والخير والتقى والقربة وخير الدنيا والآخرة فخير الدنيا الهدى وسعة النعمة وخير الآخرة الفوز بالرضوان والخلود والجنة.
﴿ تنفقوا ﴾ توسعوا وتنشروا وتتصدقوا وأنفق الرجل إنفاقا إذا وجد نفاقا ورواجا وكثر من يقبل على ما لديه.
[ لما ذكر أن الإنفاق لا ينفع الكافر البتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة وهو الإنفاق من أحب الأشياء إليهم ؛... البر... ما به يصيرون أبرارا ليدخلوا في قوله ﴿ إن الأبرار لفي نعيم ﴾١ فيكون المراد بالبر ما يصدر عنهم من الأعمال المقبولة المذكورة في قوله ﴿ .. أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ﴾٢، والثاني : الجنة أي لن تنالوا ثواب البر وقيل المراد بر الله وأوليائه وإكرامه وإياهم.. و﴿ من ﴾ في قوله ﴿ من ما تحبون ﴾ للتبعيض.. وفيه أن إنفاق كل المال غير مندوب بل غير جائز لمن يحتاج إليه ] ٣.
لن يبلغ المسلم درجة التقى والقربة ولن يصيب حقيقة الصدق مع الله والطاعات التامة له، ولن يمنح بر الله تعالى وثوابه ورضوانه وجنته حتى يبذل مما يحبه. عن عطاء قال : لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء تأملون العيش وتخشون الفقر.
في الصحيحين عن عمر قال : يا رسول الله لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر فما تأمرني به ؟ قال ( احبس الأصل وسبل الثمرة ).
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة وكان أحب أمواله إليه بئر حاء٤ وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت ﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله تعالى يقول ﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ وإن أحب أموالي إلي بئر حاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ) فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
﴿ وما تنفقوا من شيء ﴾ – أي شيء تنفقوا طيب تحبونه أو خبيث تكرهونه. ﴿ فإن الله به عليم ﴾.. فيجازيكم بحسبه.. وفي الآية ترغيب وترهيب-٥.
١ من سورة الانفطار الآية ١٣..
٢ من سورة البقرة من الآية ١٧٧..
٣ من تفسير غرائب القرآن..
٤ بستان وماء ومال في موضع قريب من المسجد النبوي وبعضهم يسميه بئر حاء..
٥ روح المعاني؛ وتابع يقول: وظاهر هذه الأخبار يدل على أن الإنفاق في الآية يعم المستحب.. وهو مبني على أن المراد مما تحبون المال لاكرائن.. واستشكلت هذه الآية بأن ظاهرها يستدعي أن الفقير الذي لم ينفق طول عمره مما يحب لعدم إمكانه لا يكون بارا أو لا يناله بر الله تعالا بأهل طاعته مع أنه ليس كذلك، وأجيب بأن الكلام خارج مخرج الحث على الإنفاق وهو مقيد بالإمكان وإنما أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب وقيل الأولى أن يكون المراد ﴿لن تنالوا البر﴾ الكامل الواقع على أشرف الوجوه ﴿حتى تنفقوا مما تحبون﴾ والفقير الذي لم ينفق طول عمره لا يبعد القول بأنه لا يكون بارا كاملا ولا يناله بر الله تعالى الكامل بأهل الطاعة وقيل: الأولى أن يقال إن المراد ﴿لن تنالوا البر﴾ على الإنفاق ﴿حتى تنفقوا مما تحبون﴾ وحاصله أن الإنفاق من المحبوب يترتب عليه نيل البر وأن الإنفاق مما عداه لا يترتب عليه نيل البر، وليس في الآية ما يدل على حصر ترتيب البر على الإنفاق من المحبوب ونفي ترتيب البر على فعل آخر من الأفعال المأمور بها وحينئذ لا يبعد أن يكون الفقير غير منفق بارا أو نائلا بر الله تعالى بأهل طاعته من جهة أخرى... ١هـ..
- لما نزل قول الله تعالى -ayah text-primary">﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم.. ﴾ -note text-primary mx-٢" href="#foonote-١">١ وقوله.. -ayah text-primary">﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر.. ﴾-note text-primary mx-٢" href="#foonote-٢">٢ وإلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه إنما حرم عليهم كثيرا من الأشياء جزاء لهم على بغيهم وظلمهم غاظهم ذلك واشمأزوا وامتعضوا، من قبل أن ذلك يقتضي وقوع النسخ ومن قبل أنه تسجيل عليهم بالبغي والظلم وغير ذلك من مساويهم، فقالوا لسنا بأول من حرمت عليه وما هو إلا تحريم قديم فنزلت :-ayah text-primary">﴿ كل الطعام ﴾ أي المطعومات كلها لدلالة -ayah text-primary">﴿ كل ﴾ على العموم، وإن كان لفظه مفردا سواء قلنا الاسم المفرد المحلى بالألف واللام يفيد العموم أو لا. والطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل.. فيحتمل أن يكون المراد الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنها كانت محرمة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يكون اللام في الطعام للعهد لا للاستغراق والحل مصدر كالعز والذل ولذا استوى فيه الواحد والجمع قال تعالى -ayah text-primary">﴿ .. لا هن حل لهم.. ﴾-note text-primary mx-٢" href="#foonote-٣">٣، والوصف بالمصدر يفيد المبالغة وأما الذي حرم إسرائيل على نفسه فروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن يعقوب مرض مرضا شديدا فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام والشراب إليه لحمان الإبل وألبانها وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل.. وههنا سؤال وهو أن التحريم والتحليل خطاب الله تعالى، فكيف صار تحريم يعقوب سببا للحرمة ؟ فأجاب المفسرون بأن الأطباء أشاروا إليه باجتنابه ففعل وذلك بإذن الله تعالى.. وأيضا الاجتهاد جائز على الأنبياء لعموم -ayah text-primary">﴿ .. فاعتبروا.. ﴾-note text-primary mx-٢" href="#foonote-٤">٤ ولقوله في معرض المدح -ayah text-primary">﴿ .. لعلمه الذين يستنبطونه منهم.. ﴾-note text-primary mx-٢" href="#foonote-٥">٥ ولأن الاجتهاد طاعة شاقة فيلزم أن يكون للأنبياء منها نصيب أوفر لاسيما ومعارفهم أكثر وعقولهم أنور وأذهانهم أصفى وتوفيق الله وتسديده معهم أوفى، ثم إذا حكموا بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم.. والأظهر أن ذلك التحريم ما كان بالنص وإلا لقيل : إلا ما حرمه الله على إسرائيل فلما نسب إلى إسرائيل دل على أنه باجتهاده-note text-primary mx-٢" href="#foonote-٦">٦.
﴿ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ﴾ قال الكلبي : لم يحرمه الله عز وجل في التوراة عليهم وإنما حرمه بعد التوراة بظلمهم وكفرهم وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا أو صب عليهم رجزا وهو الموت، فذلك قوله تعالى ﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات لهم أحلت لهم.. ﴾٧ الآية وقوله ﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر.. ﴾ إلى قوله ﴿ .. ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ﴾٨.
١ من سورة النساء من الآية ١٦٠..
٢ من سورة الأنعام من الآية ١٤٦..
٣ من سورة الممتحنة من الآية ١٠..
٤ من سورة الحشر من الآية ٢..
٥ من سورة النساء من الآية ٨٣..
٦ من تفسير غرائب القرآن..
٧ من تفسير سورة النساء من الآية ١٦٠..
٨ من سورة الأنعام من الآية ١٤٦..
﴿ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ﴾ قال الزجاج : في هذه الآية أعظم دلالة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أخبرهم أنه ليس في كتابهم وأمرهم أن يأتوا بالتوراة فأبوا يعني عرفوا أنه قال ذلك بالوحي. والافتراء الاختلاق والادعاء زورا، ﴿ من بعد ذلك ﴾ من بعد ما تبين له الحق. والظلم الجور ووضع الشيء في غير موضعه والإساءة وتجاوز الحد والميل عن القصد، فهؤلاء جمعوا هذا السوء كله جاروا إذ أساءوا الأدب مع الله تعالى وقالوا عليه سبحانه ما لم يقل ومالوا عن طريق الاستقامة فبخسوا أنفسهم حقها من الفوز والسلامة.
﴿ قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾ أمر للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة له تبع أن يذكروا بأن مولانا الحق يقول الحق ويهدي للتي هي أقوم فكل ما صدر عن ربنا فهو صدق وعدل ولا تبديل له فاتبعوا ملة الإسلام فإنها ملة إبراهيم عليه السلام والشرع الذي جاءه من الملك العالم، ولقد كان الخليل - صلوات الله وسلامه – حنيفا مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحق مستقيما على شرع الله تعالى ومنهاجه وما رضي عن شرك ولا بأهل شرك أبدا.
مما يقول الطبري : وإنما قال جل ثناؤه ﴿ وما كان من المشركين ﴾ يعني به وما كان من عدادهم وأوليائهم وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم ونصرة بعضهم بعضا فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو نصرائهم وأهل ولا يتهم وإنما عنى جل ثناؤه بالمشركين : اليهود والنصارى وسائر الأديان غير الحنيفية قال : لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة ولكنه كان حنيفا مسلما. ١ه.
﴿ أول ﴾ أسبق وأفضل
﴿ بيت ﴾ مسجد، وبيت الله : الكعبة البيت الحرام.
﴿ وضع ﴾ جعل وأعد وهيئ. ﴿ بكة ﴾ مكة.
﴿ مباركا ﴾ كثير الخير ثابتا.
﴿ هدى ﴾ هاديا. ﴿ للعالمين ﴾ لأجناس من الخلق كل جنس منها عالم.
إن أسبق وأفضل مسجد هيئ وأعد للناس كي يعبدوا الله تعالى فيه وحوله المسجد الحرام، الكعبة البيت العتيق ﴿ مباركا ﴾ كثير الخير يغفر الله الذنوب لمن طاف به واعتكف عنده وأقام الصلاة حوله، قال ابن عباس ﴿ مباركا ﴾ لما أنه يضاعف فيه ثواب العبادة وقال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله تعالى ﴿ .. يجبى إليه ثمرات كل شيء.. ﴾١ وقيل بركته٢ دوام العبادة فيه ولزومها، ومباركا منصوب لوقوعه حالا. ﴿ وهدى للعالمين ﴾ يهدي من حجه واعتمره واستقبله وعظمه إلى ثواب الله عز وجل شأنه أو يهدي إلى ربه تبارك وتعالى بما فيه من الآيات العجيبة.
١ من سورة القصص من الآية ٥٧..
٢ أورد صاحب روح المعاني: وقد جاء البركة بمعنيين: النمو وهو الشائع والثبوت ومنه البركة لثبوت الماء فيها، والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه وتبارك الله سبحانه بمعنى ثبت ولم يزل. ووجه الكرماني كونه مباركا بأن الكعبة كالنقطة وصنوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة.. ومن كان في المسجد الحرام يفصل أنوار تلك الألواح الصافية المقدسة بنور روحه فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه وهذا غاية البركة ثم إن الأرض كروية وكل آن يفرض فهو صبح لقوم ظهر لثان عصر لثالث وهلم جرا، فليست الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها لأداء الفرائض فهو دائما كذلك وقد أورده من قبله صاحب تفسير غرائب القرآن.
.

﴿ آيات بينات ﴾ علامات وحجج واضحات مبينات لبرهان من قدرة الله وحكمته.
﴿ مقام إبراهيم ﴾ حيث أقام خليل الرحمان وتعبد أو قام هو وإسماعيل يبنيان.
﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾ فرض الله على الناس المستطيعين القصد إلى الكعبة البيت العتيق للطواف به وأداء سائر أركان الحج.
﴿ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ﴾ قال الأخفش :﴿ مقام ﴾ مبتدأ وخبره محذوف والتقدير فيه آيات منها مقام إبراهيم ؛ والواو في ﴿ ومن دخله كان آمنا ﴾ للاستئناف وما بعدها لبيان حكم من أحكام الحرم. وقال جماعة من العلماء : إن الآية خبر في معنى الأمر أي ومن دخله فأمنوه والمقام في اللغة – كما قال النحاس – من قام يقوم يكون مصدرا واسما للموضع ومقام من أقام والأصح- في رأي القرطبي ومن تابعه في تعيين المقام- أنه : الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم وهذا قول جابر بن عبد الله وابن عباس وقتادة وغيرهم، وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن الطويل أن النبي صلى اله عليه وسلم لما رأى البيت استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ ﴿ .. واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.. ﴾١ فصلى ركعتين قرأ فيهما ب ﴿ قل هو الله أحد ﴾٢ ﴿ وقل يا أيها الكافرون ﴾٣، إن البيت العتيق وحماه منة لله تعالى على جيرانه والناس أجمعين يقول مولانا وهو أصدق القائلين :﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا.. ﴾٤ قال تبارك اسمه ﴿ فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ﴾٥ وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) وقال ( إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق ٦ السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعض شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها ) فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال ( إلا الإذخر ).
﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾اللام لام الإيجاب والإلزام و﴿ على ﴾ توكيد للإلزام في الصحيح عن أبي هريرة : خطبنا رسول الله صلى الله عليه سلم فقال ( أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا ) فقال رجل كل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ) ثم قال ( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم الشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ). ﴿ من ﴾ بدل بعض من كل بدل من ﴿ الناس ﴾ فكان المعنى حج البيت على المستطيع من الناس والاستطاعة تعني ملك الزاد والراحلة ولو بأجرة وصحة البدن على وجه يمكنه الركوب وأمن الطريق وهناك شرط لصحة الحج على الإطلاق وهو الإسلام وشرط لصحة المباشرة بعد الإسلام وهو التمييز ولوقوعه عن حجة الإسلام شرطان البلوغ والحرية.
﴿ ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ﴾ فيه من غاية السخط والخذلان والتغليظ على من لم يحج مع قدرته على الأداء ما فيه ؛ عن ابن عباس والضحاك وعطاء وحسن والمجاهد : من كفر : من لم يره عليه واجبا. ويقول صاحب جامع البيان : من جحد فرض ذلك وأنكر وجوبه فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله وعن سائر خلقه من الجن والإنس. ١ه.
١ من سورة البقرة ومن الآية ١٢٥..
٢ من سورة الإخلاص ١ والمعلوم أنه قرأ السورة بآياتها الأربع..
٣ قرأ صلى الله عليه وسلم السورة كاملة..
٤ من سورة البقرة الآية ١٢٥..
٥ من سورة قريش الآيتان ٣-٤..
٦ يقول بعض علماء القرآن: وفي هذا دليل على أن مكة والبيت أوجدها الله تعالى أول ما أوجد من الأرض لأن تحريمها لا يمكن إلا بعد وجودها ولأنه تعالى سماهم أم القرى وهذا يقتضي سبقها على سائر البقاع ولأن تكليف الصلاة كان ثابتا في أديان جميع الأنبياء.. قال تعالى في سورة مريم ﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم..﴾ إلى قوله ﴿خروا سجدا وبكيا﴾ لا بد لها من قبلة فلو كانت قبلتهم غير الكعبة لم تكن هي أول بيت وضع للناس. هذا محال خلف. والمعلوم أنه قرأ السورة بآياتها الأربع..
﴿ أهل ﴾ أصحاب وأتباع.
﴿ الكتاب ﴾ جنس الكتب المنزلة ويراد التوراة والإنجيل.
﴿ شهيد ﴾ يرى ويسمع ويعلم ويطلع.
أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم -والأمة له في ذلك تبع- أن يجادلوا أصحاب التوراة والإنجيل اليهود والنصارى وأن ينكروا عليهم جحودهم ما جاء عن الله تعالى من حجج وما تنزل من لدنه سبحانه من وحي وأن يخوفونهم بطش الله ونقمته وبأسه الذي لا يرد عن القوم الذين يطلع الله تعالى منهم على الفسوق والمروق والتكذيب بالحق ؛ -يا معشر يهود وغيرهم من سائر من ينتحل الديانة بما أنزل الله عز وجل من كتبه ممن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحد نبوته لم تجحدون حجج الله التي آتاها محمدا في كتبكم وغيرها التي قد تثبت عليكم بصدقه ونبوته وحجته ؟... وأنتم تعلمون صدقه فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم معتمدون الكفر بالله وبرسوله على علم ومعرفة من كفرهم-١.
١ من جامع البيان..
﴿ تصدون ﴾ تمنعون وتصرفون.
﴿ سبيل ﴾ الطريق الموصلة إلى رضاه والدين الذي لا يقبل سواه.
﴿ تبغونها ﴾ تريدونها وتطلبونها. ﴿ عوجا ﴾ ميلا من الاستواء.
﴿ شهداء ﴾ عارفين تشاهدون الطريق السوية من الطريق العوجاء.
﴿ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن ﴾ إنكار من الله تعالى عليهم أن يكتفوا باستحباب الضلال بل عمدوا إلى الإضلال فانبعثوا يمنعون ويصرفون من استطاعوا ممن أسلم أو أراد الدخول فيه. [ وكان صدهم عن سبيل الله إلقاء الشكوك والشبهات في قلوب ضعفة المسلمين وإنكار أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم ومنع من أراد الدخول في الإسلام بجهدهم وكيدهم أو بتذكير ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله ] ١. قال الزجاج : العوج بالكسر كسر العين في المعاني وبالفتح في الأعيان ؛ يقال اعوج إذا كان في الدين والقول والعمل، ويقال : عوج بفتح العين في الأجسام كالسيف والفرس والحائط - ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعملونها مما لا يرضاه لعباده وغير ذلك من أعمالكم حتى يعاجلكم بالعقوبة عليهما معجلة أو يؤخر ذلك لكم حتى تلقوه فيجازيكم عليها، وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله ﴿ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ﴾ والآيات بعدها إلى قوله ﴿ وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ نزلت في رجل من اليهود.
١ من تفسير غرائب القرآن..
عن مجاهد قال : كان جماع قبائل الأنصار بطنين : الأوس والخزرج وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن حتى من الله عليهم بالإسلام قال فبينما رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ومعهما يهودي جالس فلم يزل يذكرهما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهم حتى استبا ثم اقتتلا قال فنادى هذا قومه وهذا قومه فخرجوا بالسلاح وصف بعضهم لبعض، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد يومئذ بالمدينة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يمشي بينهم وبين هؤلاء ليسكنهم حتى رجعوا ووضعوا السلاح فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ﴾ إلى قوله ﴿ عذاب عظيم ﴾.
وعن قتادة : قد تقدم الله إليكم فيهم كما تسمعون وحذركم وأنبأكم بضلالتهم فلا تأمنوهم على دينكم ولا تنتصحوهم على أنفسكم فإنهم الأعداء الحسدة الضلال كيف تأمنون قوما كفروا بكتابهم ؟ وقتلوا رسلهم وتحيروا في دينهم، وعجزوا عن أنفسهم ؟ أولئك هم أهل التهمة والعداوة وهكذا فطاعة الأكثرين من اليهود والنصارى أعداء الدين ترد المؤمنين عن تآخيهم وألفتهم وتفضي إلى فرقتهم وارتدادهم وفتنتهم، فالتآخي أخو الإيمان والتفرق أخو الكفر.
-في رواية ابن زيد بن أسلم : خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن معه من المهاجرين فقال ( يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا الله الله ) فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين١.
١ أورده صاحب تفسير غرائب القرآن..
عن مجاهد قال : كان جماع قبائل الأنصار بطنين : الأوس والخزرج وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن حتى من الله عليهم بالإسلام قال فبينما رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ومعهما يهودي جالس فلم يزل يذكرهما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهم حتى استبا ثم اقتتلا قال فنادى هذا قومه وهذا قومه فخرجوا بالسلاح وصف بعضهم لبعض، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد يومئذ بالمدينة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يمشي بينهم وبين هؤلاء ليسكنهم حتى رجعوا ووضعوا السلاح فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ﴾ إلى قوله ﴿ عذاب عظيم ﴾.
﴿ يعتصم ﴾ يمتنع ويتمسك.
﴿ بالله ﴾ بدينه وبطاعته سبحانه.
﴿ هدى ﴾ وفق وأرشد. ﴿ صراط مستقيم ﴾ طريق غير معوجة دين الإسلام.
﴿ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ﴾ إنكار أن يكون منهم متابعة للضالين وتعجيب أن يعوج من تتلى عليه الآيات المحكمات ومن يتعلم من الرسول سنن الرشد وهدى التقى الصالحات وهذا كقول الحق تقدست أسماؤه ﴿ وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور.. ﴾١. ﴿ ومن يعتصم بالله ﴾ الذي يمتنع بالله ويستمسك بدينه ﴿ فقد هدي إلى صراط مستقيم ﴾ تتحقق هدايته للطريق المعتدلة التي لا عوج فيها، قال الزجاج : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لأن رسول الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أوتيه فينا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا وإن لم نشاهده انتهى. ولم يسند سبحانه التلاوة إلى رسوله عليه الصلاة والسلام إشارة إلى استقلال كل من الأمرين في الباب وإيذانا بأن التلاوة كافية في الغرض من أي تال كانت-٢.
١ من سورة الحديد الآية ٨. ومن الآية ٩..
٢ من روح المعاني.
عن مجاهد قال : كان جماع قبائل الأنصار بطنين : الأوس والخزرج وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن حتى من الله عليهم بالإسلام قال فبينما رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ومعهما يهودي جالس فلم يزل يذكرهما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهم حتى استبا ثم اقتتلا قال فنادى هذا قومه وهذا قومه فخرجوا بالسلاح وصف بعضهم لبعض، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد يومئذ بالمدينة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يمشي بينهم وبين هؤلاء ليسكنهم حتى رجعوا ووضعوا السلاح فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ﴾ إلى قوله ﴿ عذاب عظيم ﴾.
﴿ حق تقاته ﴾ يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾ كأن المعنى يا من صدقتهم واستيقنتم بما يجب الإيمان به اتقوا الله اتقاء حقا ؛ روى البخاري عن عبد الله قال : قال رسول اله صلى الله عليه وسلم ( حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر ) روي عن الربيع أنه لما نزلت هذه الآية قالوا يا رسول الله من يقوى على هذا ؟ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل ﴿ فاتقوا الله ما استطعتم.. ﴾١ قال ابن عباس : قول الله عز وجل ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾ لم تنسخ ولكن حق تقاته أن يجاهد في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم وتقوموا بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم، قال النحاس كل ما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخ. ١ه.
﴿ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ عن طاووس : على الإسلام وعلى حرمة الإسلام. نهى أن يدركهم الموت على خلاف حال الإسلام.
١ من سورة التغابن من الآية ١٦..
عن مجاهد قال : كان جماع قبائل الأنصار بطنين : الأوس والخزرج وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن حتى من الله عليهم بالإسلام قال فبينما رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ومعهما يهودي جالس فلم يزل يذكرهما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهم حتى استبا ثم اقتتلا قال فنادى هذا قومه وهذا قومه فخرجوا بالسلاح وصف بعضهم لبعض، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد يومئذ بالمدينة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يمشي بينهم وبين هؤلاء ليسكنهم حتى رجعوا ووضعوا السلاح فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ﴾ إلى قوله ﴿ عذاب عظيم ﴾.
﴿ بحبل الله ﴾ بكتابه ووحيه. ﴿ ألف ﴾ أحل فيها الألفة والمودة.
﴿ فأصبحتم ﴾ فصرتم. ﴿ شفا ﴾ حرف.
﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ﴾ عن ابن مسعود : القرآن وعنه : الطاعة والجماعة فكأن المعنى : تمسكوا بكتاب الله يمنعكم من الشقوة والضلال ويعصمكم الله به الفتن وألزموا الطاعة والجماعة ينصرف عنكم التنافر والتناحر وتكونوا أهل التناصر والتآزر كما جاء في الكتاب العزيز في مثل النبي والمؤمنين ﴿ .. ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه.. ﴾١.
﴿ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ﴾ عن عكرمة أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الأنصار فآمنوا به وصدقوه فأراد أن يذهب معهم فقالوا يا رسول الله إن بين قومنا حربا وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد فوعدوه العام المقبل، وقالوا : يا رسول الله نذهب فلعل الله أن يصلح تلك الحرب قال فذهبوا ففعلوا وأصلح الله عز وجل تلك الحرب وكانوا يرون أنها لا تصلح وهو يوم بعاث، فلقوه من العام المقبل سبعين رجلا قد آمنوا فأخذ عليهم النقباء اثني عشر نقيبا فذلك حين يقول ﴿ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ﴾.
عن قتادة قوله :﴿ وكنتم على شفا٢ حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته ﴾ كان الحي من العرب أذل الناس علة٣ وأشقاه عيشا وأبينه ضلالة وأعراه جلودا وأجوعه بطونا معكومين على رأس حجر، بين الأسدين فارس والروم لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه من عاش منهم عاش شقيا ومن مات ردي في النار يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظا وأدق فيها شأنا منهم حتى جاء الله عز وجل بالإسلام فورثكم به الكتاب وأحل لكم به دار الجهاد ووضع لكم به الرزق وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا نعمه فإن ربكم منعم يحب الشاكرين وإن أهل الشكر في مزيد الله فتعالى ربنا وتبارك. ١ه.
١ من سورة الفتح من الآية ٢٩..
٢ شفا حافة وطرف..
٣ قال بعض المحققين العلة ولاء أي حلفا..
عن مجاهد قال : كان جماع قبائل الأنصار بطنين : الأوس والخزرج وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن حتى من الله عليهم بالإسلام قال فبينما رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ومعهما يهودي جالس فلم يزل يذكرهما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهم حتى استبا ثم اقتتلا قال فنادى هذا قومه وهذا قومه فخرجوا بالسلاح وصف بعضهم لبعض، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد يومئذ بالمدينة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يمشي بينهم وبين هؤلاء ليسكنهم حتى رجعوا ووضعوا السلاح فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ﴾ إلى قوله ﴿ عذاب عظيم ﴾.
﴿ أمة ﴾ طائفة.
﴿ المعروف ﴾ ما عرف حسنة مما جاء به الشرع أو شهد به العقل.
﴿ المنكر ﴾ ما تنكره الشرائع المنزلة وتأباه العقول السليمة.
﴿ المفلحون ﴾ المدركون ما طلبوا الناجون مما منه هربوا.
﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ﴾ أمر الله جل علاه أن تكون منا طائفة تدعوا إلى الله وما فيه صلاح عباده وتأمر بفعل ما حسنه الشرع وتنهاهم عن إتيان المنكر والشر ومن يفعل ذلك الذي وصانا الله به فهو الرابح الفائز المدرك لما طلب الناجي مما منه هرب- ﴿ .. إلى الخير.. ﴾ وهو جنس تحته نوعان الترغيب في فعل ما ينبغي من واجبات الشرع ومندوباته، والكف عما لا ينبغي من محرماته ومكروهاته، فلا جرم أتبعه النوعين بزيادة في البيان فقال :﴿ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ واختلفوا في أن كلمة من في قوله ﴿ منكم ﴾ للتبيين أو التبعيض-١.
وبالجملة : الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق فلينظر الداعي إلى الخير في حال كل مكلف وغير مكلف حتى الصبيان ليتمرنوا والمجانين كيلا يضروا، ويدعوه إلى ما يليق به متدرجا من السهل إلى الأصعب في الأمر والإنكار، كل ذلك إيمانا واحتسابا لا سمعة ورياء ولا لغرض من الأغراض النفسانية والجسمانية وذلك أن هذه الدعوة منصب النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بعده-٢.
١ ذهب طائفة إلى أنها للتبيين لأنه ما من مكلف إلا وجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما بيده أو بلسانه أو بقلبه وكيف وقد وصفهم الله تعالى بذلك في قوله ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾.. ثم قالوا إن ذلك وإن كان واجبا على الكل إلا أنه إذا قام به بعض سقط عن الباقين كسائر فروض الكفايات، وقال آخرون إنها للتبعيض إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنساء والمرضى العاجزين وإما لأن هذا التكليف مختص بالعلماء الذين يعرفون الخير ما هو، والمعروف والمنكر ما هما ويعلمون كيف يترتب الأمر في إقامتها وكيف يباشر فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر.. وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا.. واعلم أن الأمر بالمعروف على ثلاثة أضرب: أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى وهو نوعان أحدهما ما يؤمر به الجمع دون الإفراد كإقامة الجمعة حيث تجتمع شرائطها فإن كانوا عدوا يرون الفقاد الجمعة بهم والمحتسب لا يراه فلا يأمرهم بما لا يجوز ولا ينهاهم عما يرونه فرضا عليهم.. والثاني- ما يؤمر به الأفراد كما إذا أخر بعض الناس الصلاة عن الوقت فإن قال نسيتها حثه على المراقبة، ولا يعترض على من أخرها والوقت باق، وثانيهما ما يتعلق بحقوق الآدميين وينقسم إلى عام كالبلد إذا تعطل شربه، أو انهدم سوره أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم فإن كان في بيت المال مال لم يؤمر الناس بذلك وإن لم يكن أمر ذوو المكنة برعايتها وإلى خاص كمطل المديون الموسر بالدين فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعاده رب الدين وليس له الحبس، وثالثها الحقوق المشتركة كأمر الأولياء بنكاح الأكفاء وإلزام النساء أحكام العدة وأخذ السادة بحقوق الأرقاء وأرباب البهائم بتعهدها وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق ومن يغير هيئات العبادات كالجهر في الصلاة السرية والعكس أو يزيد في الأذان يمنعه وينكر عليه ومن يتصدى للتدريس والوعظ وهو ليس من أهله ولم يؤمن اغترار الناس به التأويل أو تحريف، فينكر المحتسب عليه ويظهر أمره لئلا يغتر به وإذا رأى رجلا واقفا مع امرأة في شارع يطرقه الناس لم ينكر عليه وإن كان في طريق خال فهو موضوع ريبة فينكر ويقول إن كانت ذات محرم فصنها عن مواضع الريب وإن كانت أجنبية فخف الله عنها في الخلوة ولا ينظر في حقوق الآدميين كتعدي الجار في جدار إلا باستعداد صاحب الحق وينكر على من يطيل الصلاة من أئمة المساجد المطروقة وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم وقصروا في النظر في الخصومات والسوقي المختص بمعاملة النساء يختبر أمانته فإن ظهرت منه خيانته منع من معاملتهن..
٢ من تفسير القرآن العظيم وقد فهم البعض من قوله تعالى ﴿.. وأولئك هم المفلحون﴾ أن القاموس ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأنه ليس من أهل الفلاح..
عن مجاهد قال : كان جماع قبائل الأنصار بطنين : الأوس والخزرج وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن حتى من الله عليهم بالإسلام قال فبينما رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ومعهما يهودي جالس فلم يزل يذكرهما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهم حتى استبا ثم اقتتلا قال فنادى هذا قومه وهذا قومه فخرجوا بالسلاح وصف بعضهم لبعض، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد يومئذ بالمدينة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يمشي بينهم وبين هؤلاء ليسكنهم حتى رجعوا ووضعوا السلاح فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ﴾ إلى قوله ﴿ عذاب عظيم ﴾.
﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾- لما أمر الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نهى عن ضده وكان ذلك مما لا يتم إلا بالقدرة على تنفيذه، كيف وفي الناس ظلمة ومتغلبون ؟ فلا جرم حذر أهل الحق أن يتفرقوا ويختلفوا كيلا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف... قال بعضهم ﴿ .. تفرقوا واختلفوا.. ﴾ مؤداهما واحد والتأكيد للتكرير، وقيل معناها مختلف تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين أو تفرقوا بسبب التأويلات الفاسدة للنصوص واختلفوا بأن حاول كل منهم نصرة قوله.. - ١.
﴿ أولئك لهم عذاب عظيم ﴾ الذين اختلفوا بعد وضوح الحق من يهود أو نصارى أو من يقتفي أثرهم من المنتسبين إلى الإسلام لهم عذاب عظيم.
١ أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن بحثا يزيد على ألف كلمة في ذكر بعض الفرق ج٤ ص ١٦٠. وما بعدها..
﴿ يوم تبيض وجوه ﴾ ﴿ يوم ﴾ قد تكون منصوبة بفعل تقديره اذكر وهو اليوم الآخر يجمل الله تعالى أهل رضوانه فيبيض ظواهرهم كما طهر بواطنهم وسرائرهم، ﴿ وتسود وجوه ﴾ وآخرون تسود بشرتهم كما خبثت سريرتهم وهم الذين أساءوا في دنياهم-﴿ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ﴾١ والظاهر أن البياض والاسوداد يكون لجميع الجسد، إلا أنهما أسندا للوجوه لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه وهو أشرف أعضاءه ﴿ فأما الذين اسودت وجوههم ﴾ تفصيل لأحوال الفريقين وابتدأ بحال الذين اسودت وجوههم لمجاورته ﴿ وتسود وجوه ﴾ وليكون الابتداء والاختتام بما يسر الطبع ويشرح الصدر ﴿ أكفرتم بعد إيمانكم ﴾ على إرادة القول المقرين بالفاء أي فيقال لهم ذلك.. والاستفهام للتوبيخ والتعجيب من حالهم.. والظاهر من السياق أن هؤلاء أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم : كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان به قبل مبعثه وإليه ذهب عكرمة-٢. ﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ هذا حكم ربنا الذي لا معقب لحكمه يصلى الذين شقوا عذابا شديدا لا يكتنه كنهه بسبب جحودهم وانعدام يقينهم.
١ سورة الرحمن الآية ٤١..
٢ من روح المعاني..
﴿ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ﴾ وأما الذين سعدوا وبيض الله وجوههم ووهبهم نورا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم فأولئك يدخلهم ربنا في رحمته ويخلدهم في جنته وكرامته وينعمون لغير نهاية غاية- وإنما عبر ذلك بالرحمة إشعارا بأن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا ينال ما ينال إلا برحمته تعالى ولهذا ورد في الخبر ( لن يدخل أحدكم الجنة عمله فقيل له حتى أنت يا رسول الله فقال حتى أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته )١.
١ من روح المعاني..
﴿ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ﴾ هذه الآيات المنزلة في الذكر المعظمة في الشرف والقدر يقرؤها عليك أمين وحينا على مكث ويبلغك إياها بالصدق وما ربك بظلام للعبيد ولا يظلم أحدا مثقال ذرة فمن عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ﴿ .. وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾١.
١ من سورة النساء من الآية ٤٠..
﴿ ولله ما في السماوات والأرض ﴾ [ وفي موجة النفي إلى الإرادة الواقعة على الفكرة دليل على أنه سبحانه لا يريد فردا من أفراد الظلم الواقعة على فرد من أفراد العالم والمراد بما في السماوات وما في الأرض مخلوقاته سبحانه أي له ذلك يتصرف فيه كيف يشاء وعلى ما يريد وعبر ب﴿ ما ﴾ تغليبا لغير العقلاء على العقلاء لكثرتهم.. ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ أي لا إلى غيره لا شركة ولا استقلالا ]١.
١ ما بين العلامتين [] من فتح القدير..
﴿ كنتم ﴾ وجدتم وخلقتم﴿ أخرجت ﴾ أظهرت.
﴿ بالمعروف ﴾ بالخير والبر والطاعات. ﴿ المنكر ﴾ السوء والشر. والمحرمات.
لما أجرى الكلام في مخاطبة المؤمنين إلى بيان أن كل ما في الوجود ملكه وملكه إبداعا.. وأن منتهى الكل إليه أتبع ذلك مزية هذه الأمة ليعلم أنها بسابقة العناية الأزلية إذ جعلهم مظهر الألطاف وذكر بعدها رذيلة أهل الكتاب ليعرف أنها لوقوعهم في طريق القهر ولا اعتراض لأحد على ما يفعله المالك في ملكه.. قال بعض المفسرين كان ههنا تامة، وانتصاب ﴿ خير أمة ﴾ على الحال أي حدثتم ووجدتم خير أمة، والأكثرون على أنها – كان- ناقصة فجاء إيهام أنهم موصوفون بالخيرية في الزمان الماضي دونما يستقبل، فأجيب بأن كان لا تدل على عدم سابق ولا انقطاع طارئ بدليل قوله ﴿ .. وكان الله غفورا رحيما ﴾١. وقيل المراد كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ.. أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة كقوله﴿ .. ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل.. ﴾٢.. وقيل إنها بمعنى صار أي صرتم خير أمة وأصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الطائفة الموصوفة بالإيمان به والإقرار بنبوته وإذا أطلقت الأمة في نحو قول العلماء اجتمعت الأمة، وقعت عليهم، يقال لكل من جمعتهم دعوته إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم لفظ الأمة إلا بهذا القيد. قال الزجاج : ظاهر الخطاب في ﴿ كنتم ﴾ مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه عام في حق كل الأمة ونظيره ﴿ .. كتب عليكم القصاص.. ﴾٣ ﴿ .. كتب عليكم الصيام.. ﴾٤ - ٥.
وقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة تشهد بفضل هذه الأمة وشرفها وكرامتها على الله عز وجل وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة، ففي الصحيحين عن عبد الله ابن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ) ؟ فكبرنا ثم قال ( إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ) وفيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( نحن الآخرون الأولون يوم القيامة نحن أول الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وآتيناه من بعدهم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه الناس لنا فيه تبع غدا لليهود وللنصارى بعد غد ).
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ) ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله فقال ( ما الذي تخوضون فيه ؟ ) فأخبروه فقال :( هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) فقام عكاشة بن محصن فقال ادع الله أن يجعلني منهم قال ( أنت منهم ) ثم قام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم قال ( سبقك بها عكاشة ).
ونقل المفسرون بالمأثور عن قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة فليؤد شرط الله تعالى منها كأنه يشير بذلك إلى قول المولى سبحانه ﴿ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ وجملة تأمرون وما بعدها في موقع الحال أي كنتم خير أمة حال كونكم آمرين بالبر والطاعات ناهين عن السوء والخطيئات مؤمنين بالله تعالى وبما يجب عليكم الإيمان به من الملائكة والآخرة والرسل والرسالات.
- وأما الإيمان بالله فلا شك أنه في هذه الأمة أكمل لأنهم آمنوا بكل ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو ثواب أو عقاب إلى غير ذلك ولا يقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض... وإنما قدم الأمر بالمعروف على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات لأن الآية سيقت لبيان فضل الأمر بالمعروف وتأكد القيام به ولهذا كرر بعد قوله ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون ٦ إلى الخير ويأمرون بالمعروف.. ﴾.. على أن الواو لا تفيد الترتيب -٧.
﴿ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم ﴾ لو أقر واستيقن أهل التوراة والإنجيل بما يجب الإيمان به كما استيقن المسلمون وأقروا وصدقوا بالله تعالى وكافة رسله وكتبه لكان أولى٨ لهم من أن يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض ويصدقوا بنبوة رسول الله ويجحدوا نبوة غيره ؛ ﴿ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ﴾ من اليهود والنصارى قلة آمنت بالرسالة الخاتمة والرسول الخاتم كعبد الله بن سلام وغيره وأكثر اليهود والنصارى فسقوا عن هدى الله وخرجوا عن ميثاقه الذي أخذ عليهم أن يؤمنوا بكل الرسل وأن يتبعوا النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
ثم قال تعالى مخبرا عباده المؤمنين ومبشرا لهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين فقال تعالى ﴿ لن يضروكم ٩ إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ﴾١٠.
١ سورة النساء الآية ٩٦..
٢ سورة الفتح من الآية ٢٩..
٣ سورة البقرة من الآية ١٧٨.
٤ سورة البقرة من الآية ١٨٣..
٥ من تفسير غرائب القرآن..
٦ وقد يتمسك بهذا في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأنه ليس من أهل الفلاح وأجيب بأن هذا ورد على سبيل الغالب فإن الظاهر أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يشرع فيه إلا بعد صلاح أحوال نفسه لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير وقلما يتفق ممن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت وجهها ؟ قال بعض العلماء: إن ترك ارتكاب المنهي عنه والنهي عن ارتكاب المنهي عنه واجبان على الفاسق فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر وعن بعض السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا، وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول: لا أقول ما لا أفعل فقال وأينا يفعل ما يقول ؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بالمعروف ولا ينهى عن المنكر والحق في هذه القضية ما قيل:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض
النهي ما أورده الحسن النيسابوري وأقول: الأفضل أن يطابق القول العمل لكن على المنصوح أن يقبل التذكير بالحق وأن يتلقى الحكمة فهو أحق الناس بها ولعل الناصح ينفعه نصحه يوما..

٧ مما جاء في تفسير غرائب القرآن..
٨ نبه صاحب تفسير غرائب القرآن إلى أن ﴿خيرا﴾ لست لبيان أن ما يدعون إليه يشارك ما هم عليه الخيرية لكنه يزيد عليه فيها: فأورد: لحصلت لهم صفة الخيرية أيضا لانضمامهم في زمرة هذه الآي أو لحصل لهم في اليأس وحظوظ الدنيا ما هو خير مما تركوا هذا الدين لأجله لأن الحاصل على هذا التقدير عزة الإسلام مع الفوز بما وعدوا من إتيان الأجر في الآخرة مرتين وعليه ما هم فيه ليس إلا استتباع بعض الجهلة من العوام وشيء نزر من الرشا وبعد ذلك خلود في النار. ١هـ..
٩ لن يضركم الضرر الحقيقي الذي يتمثل في الحرب والنهب ونحوها لكن يصيبكم منهم أذى من بهتانهم وافترائهم الكذب فالاستثناء على هذا منقطع..
١٠ مما أورد المفسرون: وإنما لم يجزم بالعطف على ﴿يولوكم﴾ لئلا يصير نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم بل يرفع ليكون وعد النصر وعدا مطلقا وتكون هذه الجملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كأنه قيل أخبرهم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ثم أخبركم وأبشركم أن النصر والقوة منتف عنهم رأسا فلن يستقيم لهم أمر البتة ومعنى ﴿ثم﴾ إفادة التراخي في الرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بانهزامهم عند القتال فإن قيل هب أن اليهود كذلك لكن النصارى قد يوجد لهم قوة وشوكة في ديارهم قلنا هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول تدل على ذلك فكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع وأهل خيبر أو لعل المراد نفي النصرة عنهم بعد القتال ولم يوجد نصراني بهذه الحالة وفي الآية تشجيع للمؤمنين وتثبيت لمن آمن من أهل الكتاب كيلا يلتفتوا إلى تضليلاتهم وتحريفاتهم..
﴿ يولوكم الأدبار ﴾ يفروا ويعطوا ظهورهم لمن يقاتلهم وينهزموا.
﴿ لا ينصرون ﴾ يغلبون ويخذلون.
﴿ لن يضروكم ١ إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ﴾٢.
هكذا وقع فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة كلهم أذلهم الله، كذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم كذلك ويحكم بملة الإسلام وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام٣.
١ لن يضركم الضرر الحقيقي الذي يتمثل في الحرب والنهب ونحوها لكن يصيبكم منهم أذى من بهتانهم وافترائهم الكذب فالاستثناء على هذا منقطع..
٢ مما أورد المفسرون: وإنما لم يجزم بالعطف على ﴿يولوكم﴾ لئلا يصير نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم بل يرفع ليكون وعد النصر وعدا مطلقا وتكون هذه الجملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كأنه قيل أخبرهم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ثم أخبركم وأبشركم أن النصر والقوة منتف عنهم رأسا فلن يستقيم لهم أمر البتة ومعنى ﴿ثم﴾ إفادة التراخي في الرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بانهزامهم عند القتال فإن قيل هب أن اليهود كذلك لكن النصارى قد يوجد لهم قوة وشوكة في ديارهم قلنا هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول تدل على ذلك فكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع وأهل خيبر أو لعل المراد نفي النصرة عنهم بعد القتال ولم يوجد نصراني بهذه الحالة وفي الآية تشجيع للمؤمنين وتثبيت لمن آمن من أهل الكتاب كيلا يلتفتوا إلى تضليلاتهم وتحريفاتهم..
٣ من تفسير القرآن العظيم..
﴿ ضربت ﴾ لزمت وصارت.
﴿ الذلة ﴾ المهانة وهدر النفس والمال والأهل.
﴿ أينما ثقفوا ﴾ في أي مكان وجدوا.
﴿ بحبل من الله ﴾ باعتصام بذمة الله وبكتابه.
﴿ وحبل من الناس ﴾ باعتصام بذمة المسلمين.
﴿ وباءوا ﴾ ورجعوا وصاروا أحقاء. ﴿ المسكنة ﴾ الحاجة.
﴿ يعتدون ﴾ يتجاوزون الحد.
﴿ ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ﴾ ثبتت عليهم الذلة وأحاط بهم الهوان في أي مكان يوجدون فيه وعلى كل حال قال الفراء إلا أن يعتصموا بحبل من الله أي بذمة الله أو كتابه وبذمة المسلمين حين تعقد الجزية وتضرب عليهم أو يعطون الأمان فإنهم بذلك يسلمون من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال الأموال وصاروا أحقاء بغضب الله، ورجعوا ولم يظفروا إلا بسخطه ونقمته التي لا تفارقهم وهم دائما محاويج لا يستشعرون غنى ولا قناعة.
﴿ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ ذلك الهوان الذي يحيطهم الله تعالى به بسبب تكذيبهم الرسالات والرسل وقتلهم الداعين إلى الله من الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس وما لهم في جورهم وسفكهم الدماء الزكية من حق أصلا لكنه البغي والفسوق والحيف وتعدي الحدود ونسبة القتل إليهم مع أن أجداد المخاطبين بهذا حين تنزل القرآن الكريم هم الذين فعلوا لأنهم رضوا بفعلهم وتابعوهم على غيهم ومروقهم.
﴿ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ﴾ قال الفراء ﴿ أمة ﴾ رفع ب ﴿ سواء ﴾ والتقدير ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة.. وأمة كافرة أي لا يستوي أمة من أهل الكتاب شأنها كذا وأمة أخرى شأنها كذا، والقائمة : المستقيمة العادلة من قولهم : أقمت العود فقام أي استقام وعن ابن مسعود : ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء، وقال ابن إسحق عن ابن عباس لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن١ سعية وأسيد بن سعية وأسيد٢ بن عبيد، ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم ﴿ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله ﴾ إلى قولهّ﴿ وأولئك هم الصالحين ﴾ وهذا يشهد للمعنى الذي أشير إليه أولا بل يعضده في ختام السورة الكريمة ﴿ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا لهم أجرهم عند ربهم.. ﴾ ٣.
وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال القفال رحمه الله : لا يبعد أن يقال أولئك الحاضرون كانوا نفرا من مؤمني أهل الكتاب فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم... مع أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا ولا يبعد أيضا أن يقال المراد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسماهم الله أهل الكتاب كأنه قيل أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم الله تعالى أهل الكتاب حالهم وصفتهم كذا فكيف يستويان ؟.
- ثم إنه تعالى مدح الأمة المذكورة بصفات ثمان – أنها ﴿ قائمة ﴾ قيل : أي في الصلاة وقيل ثابتة على التمسك بدين الحق ملازمة غير مضطربة وقيل أي مستقيمة عادلة.. والصفة الثانية- ﴿ يتلون ﴾ أي أمة قائمة ﴿ يتلون آيات الله آناء الليل ﴾ فالتلاوة القراءة وأصل الكلمة الاتباع فكأن التلاوة هي اتباع اللفظ وآيات الله القرآن وقد يراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على صانعها وآناء الليل ساعاته واحدها إني.. الصفة الثالثة – ﴿ وهم يسجدون ﴾ يحتمل أن يكون حالا من يتلون كأنهم يقرءون القرآن في السجدة تخشعا إلا أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا يأباه... وأن يكون المراد وهم يصلون ويتهجدون والصلاة تسمى سجدة وركعة.. وأن يراد وهم يخضعون لله، كقوله ﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض.. ﴾٤ الصفة الرابعة – ﴿ يؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ فالصفات المتقدمة إشارة إلى كمالهم بحسب القوة النظرية.. والخامسة والسادسة – ﴿ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ وهاتان الصفتان إشارة إلى أنهم فوق التمام وذلك لسعيهم في تكميل الناقصين بإرشادهم إلى ما ينبغي وفيه تعريض بالأمة المذمومة أنهم كانوا مداهنين ؛ وعن سفيان الثوري إذا كان الرجل محببا في جيرانه محمودا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن ؛ الصفة السابعة – ﴿ ويسارعون في الخيرات ﴾ أي المذكورات كلها وهي من صفات المدح لأن المسارعة في الخير دليل فرط الرغبة فيه حتى لا يفوت ففي التأخير آفات. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ( العجلة من الشيطان ) مخصوص بهذه الآية... والأمور متفاوتة : منها ما يحمد فيه التأخير لكونه مما حصل على مهل وتدريج.. ومنها ما يحمد فيه التعجيل.. فتنتهز فيه الفرصة وتغتنم فإن الفرص تمر مر السحاب قال صلى الله عليه وسلم ( اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك ). الصفة الثامنة – ﴿ وأولئك من الصالحين ﴾ وذلك أن الأمور بخواتيمها والعاقبة غير معلومة إلا في علم الله تعالى بانخراطهم في سلك الصالحين فذلك المقصود وقصارى المجهود-. ٥
١ رواية ابن جريج: ثعلبة بن سلام أخو عبد الله بن سلام..
٢ في رواية ابن جرير وأسيد وأسد ابنا كعب، وزاد: وشعبة ومبشر..
٣ من سورة آل عمران من الآية ١٩٩..
٤ من سورة الرعد من الآية ١٥..
٥ من تفسير غرائب القرآن..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٣:﴿ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ﴾ قال الفراء ﴿ أمة ﴾ رفع ب ﴿ سواء ﴾ والتقدير ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة.. وأمة كافرة أي لا يستوي أمة من أهل الكتاب شأنها كذا وأمة أخرى شأنها كذا، والقائمة : المستقيمة العادلة من قولهم : أقمت العود فقام أي استقام وعن ابن مسعود : ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء، وقال ابن إسحق عن ابن عباس لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن١ سعية وأسيد بن سعية وأسيد٢ بن عبيد، ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم ﴿ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله ﴾ إلى قولهّ﴿ وأولئك هم الصالحين ﴾ وهذا يشهد للمعنى الذي أشير إليه أولا بل يعضده في ختام السورة الكريمة ﴿ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا لهم أجرهم عند ربهم.. ﴾ ٣.
وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال القفال رحمه الله : لا يبعد أن يقال أولئك الحاضرون كانوا نفرا من مؤمني أهل الكتاب فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم... مع أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا ولا يبعد أيضا أن يقال المراد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسماهم الله أهل الكتاب كأنه قيل أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم الله تعالى أهل الكتاب حالهم وصفتهم كذا فكيف يستويان ؟.

-
ثم إنه تعالى مدح الأمة المذكورة بصفات ثمان – أنها ﴿ قائمة ﴾ قيل : أي في الصلاة وقيل ثابتة على التمسك بدين الحق ملازمة غير مضطربة وقيل أي مستقيمة عادلة.. والصفة الثانية- ﴿ يتلون ﴾ أي أمة قائمة ﴿ يتلون آيات الله آناء الليل ﴾ فالتلاوة القراءة وأصل الكلمة الاتباع فكأن التلاوة هي اتباع اللفظ وآيات الله القرآن وقد يراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على صانعها وآناء الليل ساعاته واحدها إني.. الصفة الثالثة – ﴿ وهم يسجدون ﴾ يحتمل أن يكون حالا من يتلون كأنهم يقرءون القرآن في السجدة تخشعا إلا أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا يأباه... وأن يكون المراد وهم يصلون ويتهجدون والصلاة تسمى سجدة وركعة.. وأن يراد وهم يخضعون لله، كقوله ﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض.. ﴾٤ الصفة الرابعة – ﴿ يؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ فالصفات المتقدمة إشارة إلى كمالهم بحسب القوة النظرية.. والخامسة والسادسة – ﴿ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ وهاتان الصفتان إشارة إلى أنهم فوق التمام وذلك لسعيهم في تكميل الناقصين بإرشادهم إلى ما ينبغي وفيه تعريض بالأمة المذمومة أنهم كانوا مداهنين ؛ وعن سفيان الثوري إذا كان الرجل محببا في جيرانه محمودا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن ؛ الصفة السابعة – ﴿ ويسارعون في الخيرات ﴾ أي المذكورات كلها وهي من صفات المدح لأن المسارعة في الخير دليل فرط الرغبة فيه حتى لا يفوت ففي التأخير آفات. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ( العجلة من الشيطان ) مخصوص بهذه الآية... والأمور متفاوتة : منها ما يحمد فيه التأخير لكونه مما حصل على مهل وتدريج.. ومنها ما يحمد فيه التعجيل.. فتنتهز فيه الفرصة وتغتنم فإن الفرص تمر مر السحاب قال صلى الله عليه وسلم ( اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك ). الصفة الثامنة – ﴿ وأولئك من الصالحين ﴾ وذلك أن الأمور بخواتيمها والعاقبة غير معلومة إلا في علم الله تعالى بانخراطهم في سلك الصالحين فذلك المقصود وقصارى المجهود-. ٥
١ رواية ابن جريج: ثعلبة بن سلام أخو عبد الله بن سلام..
٢ في رواية ابن جرير وأسيد وأسد ابنا كعب، وزاد: وشعبة ومبشر..
٣ من سورة آل عمران من الآية ١٩٩..
٤ من سورة الرعد من الآية ١٥..
٥ من تفسير غرائب القرآن..

﴿ وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين ﴾ ومهما فعلتم من صالح وبر فلن تجحدوا ثوابه بل يشكره الله لكم ويجزل لكم أجره ويتقبله منكم فإنه يتقبل عمل المتقين وهو أعلم بمن اتقى والأمة القائمة استجمعت جوانب التقوى فلها من ربنا الشكور هذه البشرى.
﴿ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ [ لن تدفع عنه أمواله التي جمعها في الدنيا وأولاده الذين رباهم فيها شيئا من عقوبة يوم القيامة إن أخرها لهم إلى يوم القيامة ولا في الدنيا إن عجلها لهم فيها، وإنما خص أولاده وأمواله لأن أولاد الرجل أقرب أنسبائه إليه وهو على ماله أقرب منه على مال غيره وأمره فيه أجوز من أمر في مال غيره، فإذا لم يغني عنه ولده لصلبه وماله الذي هو نافذ الأمر فيه فغير ذلك من أقربائه وسائر أنسبائه وأموالهم أبعد من أن تغني عنه من الله شيئا ثم أخبر جل ثناؤه أنهم هم أهل النار الذين هم أهلها بقوله ﴿ وأولئك أصحاب النار ﴾ وإنما جعلهم أصحابها لأنهم أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها، كصاحب الرجل الذي لا يفارقه، وقرينه الذي لا يزايله، ثم وكد ذلك بإخبارهم عنهم أنهم فيها خالدون صحبتهم إياها صحبة لا انقطاع لها، إذ كان من الأشياء ما يفارق صاحبه في بعض الأحوال ويزايله في بعض الأوقات، وليس كذلك صحبة الذين كفروا النار التي أصلوها ولكنها صحبة دائمة لا نهاية لها ولا انقطاع نعوذ بالله منها ومما قرب منها من قول وعمل.
القول في تأويل قوله :﴿ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ﴾ يعني بذلك جل ثناؤه شبه ما ينفق الذين كفروا أي شبه ما يتصدق به الكافر من ماله فيعطيه من يعطيه على وجه القربة إلى ربه١ وهو لوحدانية الله جاحد ولمحمد صلى الله عليه وسلم مكذب في أن ذلك غير نافعه مع كفره وأنه مضمحل عند حاجته إليه ذاهب بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه كشبه ريح فيها برد أصابت هذه الريح التي فيها البرد الشديد حرث قوم يعني زرع قوم أملوا إدراكه ورجوا ريعه وعائدة نفعه ﴿ ظلموا أنفسهم ﴾ يعني أصحاب الزرع عصوا الله وتعدوا حدوده ﴿ فأهلكته ﴾ يعني : فأهلكت الريح التي فيها الصر زرعهم ذلك بعد الذي كانوا عليه من الأمل ورجاء عائدة نفعه عليهم، يقول تعالى ذكره : فكذلك فعل بنفقة الكافر وصدقته في حياته حين يلقاه يبطل ثوابها ويخيب رجاءه منها ﴿ وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ﴾.. وما فعل الله بهؤلاء الكفار ما فعل بهم لأن عملهم الذي عملوه لم يكن لله وهم له بالوحدانية دائنون ولأمره متبعون ولرسله مصدقون بل كان ذلك منهم وهم به مشركون ولأمره مخالفون ولرسله مكذبون... الكافر هو الظالم نفسه لإكسابها من معصية الله وخلاف أمره ما أوردها به نار جهنم وأصلاها به سعير سقر ]. ٢
١ فإذا بذل في معاندة مولاه سبحانه ومحاولة إطفاء نوره جل علاه فإن الله يعجل له خزيا وندامة مع ما يدخر له من حر السعير والحسرة والملامة مصداقا لوعد ربنا الحق ﴿إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون﴾..
٢ من جامع البيان...
﴿ بطانة ﴾ خاصة ﴿ من دونكم ﴾ من سواكم.
﴿ لا يألونكم خبالا ﴾ لا يقصرون فيما فيه إفسادكم.
﴿ ودوا ما عنتم ﴾ أحبوا ما يعنتكم ويشق عليكم ويضركم أبلغ الضرر.
﴿ بدت البغضاء ﴾ ظهرت شدة البغض لكم.
﴿ من أفواههم ﴾ من فم كل منهم ومن فلتات ألسنتهم.
﴿ بينا لكم الآيات ﴾ أظهرنا لكم العلامات الواضحات والدلالات الظاهرات
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ﴾ نهى الله تعالى عباده الذين صدقوا واستيقنوا به سبحانه وبما يجب الإيمان به أن يتخذوا أولياء وأصفياء من سواهم والبطانة هم الخاصة الذين يطلعون على داخل أمر من يستبطنهم ويكاشفهم بما يستسر به، روى البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله ) وقد حذر القرآن المجيد من موالاة أهل الكفر١ في آية كثيرة منها ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ﴾، ٢ ومنها ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم.. ﴾ ٣، ومهما كانوا من القربى فلا حل في موالاتهم ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ﴾٤ ﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ﴾.. ٥.
﴿ ولا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ﴾ ينبأ العليم الخبير بما تنطوي عليه نفوس أعداء الدين من بغض وحقد شديد على المؤمنين فهم لا يكفون عن إتيان كل ما يجر الفساد على المسلمين وأحب شيء إلى قلوبهم ما يجلب الضرر ويشق على الدين ومهما تواصوا بكتمان سخطهم ونقمتهم علينا فإن ألسنتهم تبسط بالسوء والنيل منا بين الحين والحين، فكيف بما انطوت عليه صدورهم من حقد مكين ؟
﴿ قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ﴾ قد أظهرنا لكم الدلائل والعلامات الواضحات لكل من يعقل فإن وعيتم ما وعد كم به ربكم فاحذروا ما يبينه لكم عدوكم.
١ مما نقل صاحب الجامع لأحكام القرآن قيل لعمر رضي الله عنه إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك فقال لا آخذ بطانة من دون المؤمنين فلا يجوز استكتاب أهل الذمة ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة قلت وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء انتهى..
٢ من سورة النساء الآية ١٤٤..
٣ سورة المائدة من الآية ٥١..
٤ من سورة التوبة الآية ٢٣..
٥ سورة المجادلة من الآية ٢٢..
﴿ تؤمنون بالكتاب ﴾ تصدقوا بجنس الكتب المنزلة كلها.
﴿ عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ﴾ عضوا بأسنانهم على أطراف أصابعهم.
﴿ موتوا بغيظكم ﴾ دعاء عليهم أن يموتوا غما لما يرون من ائتلاف المؤمنين.
﴿ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ﴾ تسعون لخيرهم العاجل والآجل فتدعونهم إلى الإسلام الموصل إلى دار السلام وهم يريدون لكم الرجوع إلى الكفر والآثام ﴿ وتؤمنون بالكتاب كله ﴾ تصدقون بكافة الكتب التي أنزلها قول الحق سبحانه ﴿ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آبائكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك.. ﴾١.
﴿ وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ﴾، هؤلاء الخصوم الألداء مخادعون ماكرون محتالون إذا كانوا معكم في مجلس أو جمع ادعوا الإيمان استهزاء بكم وتقية منكم وطعما في معرفة أسراركم وإذا خلا بعضهم إلى بعض عضوا أصابعهم تغيظا من الألفة التي بينكم والنصر والتأييد الذي يحالف جندكم.
﴿ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ﴾- خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم على عداوتهم وحث لهم على خطابهم خطاب الخصماء، فإنه لا أقطع للمحبة من جراحة اللسان فالمقصود على هذا من قوله تعالى ﴿ موتوا بغيظكم ﴾ مجرد الخطاب بما يكرهونه والصحيح الذي اتفقت عليه كلمتهم أنه دعاء عليهم.. ﴿ إن الله عليم بذات الصدور ﴾ أي بما خفي فيها..
١ من سورة الأنعام الآية ٩١-ومن الآية ٩٢..
﴿ حسنة ﴾ نعمة. ﴿ تسؤهم ﴾ تحزنهم. ﴿ سيئة ﴾ محنة وبلية.
﴿ كيدهم ﴾ مكرهم. ﴿ محيط ﴾ أحاط علمه وجزاؤه لا مفر منه.
﴿ إن تمسسكم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ حسنة ﴾ نعمة من ربكم كالألفة واجتماع الكلمة والظفر بالأعداء ﴿ تسؤهم ﴾ أي تحزنهم وتغظهم ﴿ وإن تصبكم سيئة ﴾ أي : محنة كإصابة العدو منكم، واختلاف الكلمة فيما بينكم ﴿ يفرحوا ﴾أي يبتهجوا﴿ بها ﴾ وفي ذلك إشارة إلى تناهي عداوتهم إلى حد الحسد والشماتة.. ﴿ وإن تصبروا على آذاهم أو على طاعة الله تعالى ومضض الجهاد في سبيله { وتتقوا ﴾ ما حرم عليكم ﴿ لا يضركم كيدهم ﴾ أي : مكرهم وأصل الكيد المشقة.. ﴿ شيئا ﴾ نصب على المصدر أي ﴿ لا يضركم كيدهم شيئا ﴾ من الضرر لا كثيرا ولا قليلا ببركة الصبر والتقوى لكونها من محاسن الطاعات ومكارم الأخلاق ومن تحلى بذلك كان في كنف الله تعالى وحمايته من أن يضره كيد عدو.. ﴿ إن الله بما يعملون ﴾ من الكيد.. ﴿ محيط ﴾ علما.. فيعاقبهم به أو فيثيبكم عليه-١.
١ من روح المعاني..
﴿ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ﴾ كأن المعنى : واذكر يا محمد إذ سرت من بين أهلك تتخذ للمؤمنين أماكن للقتال وأصل الغدو الخروج غدوة في الصباح قبل الظهيرة وعبر به هنا عن مجرد الخروج من غير اعتبار لوقت حدوثه، و﴿ مقاعد ﴾ أي مواطن والمقعد والمقام يتوسع في معناهما فيراد به المكان ومنه قوله تعالى ﴿ في مقعد صدق ﴾.. ١ وقوله سبحانه ﴿ .. قبل أن تقوم من مقامك.. ﴾ ٢ أي من موضع حكمك وجمهور علماء القرآن وعلماء المغازي على أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد، قال عكرمة كانت يوم السبت للنصف من شوال وكان خروج الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعد الصلاة في اليوم الرابع عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ﴿ والله سميع عليم ﴾ سميع لكل قول عليم بكل ما ظهر وما بطن.
- لما وعدهم النصر على الأعداء إن هم صبروا واتقوا وخلاف ذلك إن لم يصبروا أتبعه قوله ﴿ وإذ غدوت من أهلك.. ﴾ ﴿ ولقد نصركم الله ببدر.. ﴾ يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين مستعدين للقتال فلما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم انهزموا ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين لكنهم أطاعوا أمر الرسول فغلبوا واستولوا على خصومهم-٣.
١ من سورة القمر الآية ٥٥..
٢ من سورة النمل من الآية ٣٩..
٣ من تفسير غرائب القرآن..
﴿ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما ﴾ فرقتان منكم أيها المؤمنون حدثتهم أنفسهم بالرجوع عن القتال ولم يعزما على ذلك ولا صمما عليه لكن الله الرحيم تولاهما فثبتهما على الحق وحبب إليهما الجهاد مع النبي والمؤمنين، روى البخاري في صحيحه عن جابر قال : فينا نزلت ﴿ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا.. ﴾ قال نحن الطائفتان بنو حارث وبنو سلمة وما نحب أنها لم تنزل لقول الله عز وجل ﴿ والله وليهما ﴾ ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ ليثق بالله وحده أهل اليقين وليرضوا بقضائه مع السعي فيما لا بد منه من الأسباب.
﴿ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ﴾ [ بيان لما يترتب على الصبر والتقوى إثر بيان ما ترتب من عدمهما... وقال قتادة إن بدرا ماء بين مكة والمدينة التقى عليه النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في السابع عشر من شهر رمضان يوم الجمعة سنة اثنين من الهجرة. والباء بمعنى – في- أي : نصركم الله في بدر ﴿ وأنتم أذلة ﴾ حال.. والمراد بها عدم العدة لا الذل المعروف ] ١ ﴿ فاتقوا الله ﴾ وأطيعوا واصبروا ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ لتقوموا بشكره على ما أنعم به عليكم من النصر وليزيدكم بالشكر نصرا.
١ من روح المعاني..
﴿ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ﴾ في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه ( اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) فمازال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداؤه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، فقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾١ فأمده الله تعالى بالملائكة.
١ من سورة الأنفال الآية ٩..
﴿ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ﴾ نقل عن الحسن أن هذا كان يوم بدر وقال الربيع بن أنس أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا خمسة آلاف وأما مجاهد وعكرمة والضحاك فقالوا : هذا الوعد متعلق بيوم أحد، لكن لم يحصل الإمداد بالخمسة آلاف لأن المسلمين فروا يومئذ ؛ - وقوله تعالى ﴿ بلى إن تصبروا وتتقوا ﴾ يعني تصبروا على مصابرة عدوكم وتتقوني وتطيعوا – أمري ١ ﴿ ويأتوكم من فورهم هذا ﴾ عن قتادة : أي : من وجههم هذا، وعن مجاهد أي : من غضبهم هذا ؛ ﴿ مسومين ﴾ معلمين بسيما وهي العلامة. قال ابن عباس : كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم.
١ من تفسير القرآن العظيم..
﴿ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم ﴾ -أي وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييبا لقلوبكم وتطمينا وإلا فإنما النصر من عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم-١.
والقرآن الكريم يذكر باقتدار الله تعالى على إنفاذ ما يريد بسبب وبدون سبب ليعلق القلب بالمولى ويستيقن ﴿ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ﴾ من الغالب الذي لا يغلب سبحانه ومن الحكيم الذي لا يفوته الصواب أبدا، يأتي النصر منه جل جلاله لا من سواه وهذا كقوله تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه ﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا.. ﴾٢ ويقول عز وجل ﴿ ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض.. ﴾ ٣.
١ من تفسير القرآن العظيم..
٢ من سورة الأنفال من الآية ١٧..
٣ من سورة محمد عليه السلام من الآية ٤..
﴿ ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ﴾ يمددكم الله بالنصر ليحق الحق ويستأصل طائفة من الكافرين فيمكنكم من رقابهم وقطع أعناقكم ﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم.. ﴾ ١ أو يخذلهم فينهزموا ويرجعوا بذل الخيبة وفقدان الأمل.
١ من سورة التوبة الآية ١٤..
﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾ في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول ( كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله تعالى ) فأنزل الله تعالى ﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾. وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم حتى أنزل الله تعالى ﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ الآية وقال البخاري أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو لأحد قنت١ بعد الركوع وربما قال إذا قام :( سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة ابن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) يجهر بذلك وكان يقول في بعض صلاته في الفجر ( اللهم العن فلانا وفلانا ) لأحياء من أحياء العرب حتى أنزل الله ﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ والآية ﴿ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾ وقريب من هذا ما وصى الله تعالى به في آيات محكمات أخر ﴿ فذكر إنما أنت بمذكر لست عليهم بمسيطر ﴾٢ فربك مالك أمرهم إن شاء الله يهديهم إلى الحق فيظفروا بأجر من تاب وأناب إلى ربه، وإن يشأ يهلكهم ويخلدهم في العذاب بما جحدوا وظلموا.
١ روى الدارقطني بإسناد صحيح عن أنس أنه قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا ومما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن: زعم بعض الكوفيين أن هذه الآية ناسخة للقنوت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله في الركعة الأخيرة من الصبح واحتج بحديث ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الفجر بعد رفعه من الركوع (اللهم ربنا ولك الحمد في الآخرة -ثم قال- اللهم العن فلانا وفلانا) فأنزل الله عز وجل ﴿ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم..﴾ الآية أخرجه البخاري... وليس هذا موضوع نسخ وإنما نبه الله تعالى نبيه على أن الأمر ليس إليه وأنه لا يعلم من الغيب شيئا إلا ما أعلمه، وأن الأمر كله لله يتوب على من يشاء ويجعل العقوبة لمن يشاء والتقدير ليس لك من الأمر شيء ولله ما في السماوات والأرض والتقدير دونك ودونهم يغفر لمن يشاء. فلا نسخ والله أعلم. ١هـ.
٢ من سورة الغاشية الآيتان ٢١-٢٢..
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم ﴾ ليس لك يا محمد من الأمر شيء ولله جميع ما بين أقطار السماوات والأرض، من مشرق الشمس إلى مغربها دونك ودونهم يحكم فيهم بما شاء ويقضي فيهم بما أحب فيتوب على من أحب من خلقه العاصين أمره ونهيه ثم يغفر له ويعاقب من يشاء منهم على جرمه فينتقم منه وهو الغفور الذي يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح والرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم-١.
١ من جامع البيان..
نهى الله تعالى عن خطيئة من أكبر الخطايا وأمر بواحدة هي سبيل النجاة من كل مرهوب والظفر بأكرم مطلوب، حذر سبحانه من تعاطي الربا ورغب في الحرص على التقوى والمراد من الأكل الأخذ وبحسب المرابين من المقت والسخط أن الله تعالى ورسوله حرب لهما :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴾١. و﴿ أضعافا ﴾ حال و﴿ مضاعفة ﴾ صفة ل ﴿ أضعافا ﴾ وليس الموصوف وصفته هنا لتقيد النهي أي المحرم عليكم الربا الذي يكون أضعافا مضاعفة بل هو لبيان ما كانوا عليه من أخذ أضعاف الدين الذي كان في الابتداء، ومن المعلوم أن الربا محرم على كل حال قل أو كثر.
﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾ – فيه أن اتقاء الله في هذا النهي واجب وأن الفلاح يقف عليه فلو أكل ولم يتق زال الفلاح ويعلم منه أن الربا من الكبائر لا من الصغائر، ويؤكد قوله ﴿ واتقوا النار التي أعدت للكافرين ﴾
١ سورة البقرة الآيتان ٢٧٨-٢٧٩..
﴿ واتقوا النار التي أعدت للكافرين ﴾ كان أبو حنيفة يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه وكون النار معدة للكافرين لا يمنع دخول الفساق وهم مسلمون فيها لأن أكثر أهل النار الكفار فغلب جانبهم-١.
١ من تفسير غرائب القرآن..
﴿ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ﴾ افعلوا ما أمركم الله به واجتنبوا كل ما نهاكم ربكم عنه واستجيبوا للرسول في كل ما ندبكم إليه لكي تدركوا رحمة الله تعالى أو افعلوا ذلك راجين رحمة البر الرحيم سبحانه.
﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ﴾ معطوف على ما سبق من الأمر بالتقوى والطاعة يوصينا الله جل علاه أن نبادر ونسابق ويباري بعضنا بعضا وننافس فيما يرجى أن ننال به ستر الذنوب والخطيئات، والعفو من ربنا فلا يعاقبنا على ما اكتسبنا من إثم وسيئات.
﴿ وجنة عرضها السماوات والأرض ﴾ وبادروا وسابقوا إلى ما يدخلكم به الله بفضله سبحانه دارا تنعمون فيها وتخلدون وتسكنون في قصورها وتمرحون في روضاتها وقد أوسعنا فنعم الموسعون ؛ روى أبو سعيد الخدري :( إن أدنى أهل الجنة منزلة من يتمنى ويتمنى حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى لك ذلك وعشرة أمثاله ) أخرجه مسلم في صحيحه. حتى كان عرضها ١ عرض السماوات والأرضين وطولها يعلم مداه الخبير العليم وسقفها عرش ربنا العلي العظيم في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وسقفها عرش الرحمن ). ﴿ أعدت للمتقين ﴾ هيئت دار النعيم لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
١ نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تقرن السماوات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا الله وهذا قول جمهور أهل العلم وقدرة ربنا تقدست أسماؤه لا يعظم عليها شيء ونقل صاحب الجامع لأحكام القرآن: وقال قوم الكلام جاء من مقطع العرب من الاستعارة: فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى حسنت العبارة عنها بعرض السموات والأرض. ١هـ..
﴿ الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ﴾ : من صفات المتقين الموعودين بجنات النعيم أنهم أهل بر ورحمة وخلق كريم فهم ينفقون في اليسر والعسر ويبذلون ويجودون في الرخاء والشدة ويصلون ويتصدقون مما قل من المال أو كثر والبشرى لهم من الله الذي لا يخلف الميعاد ﴿ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾١ وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال : جاء رجل بناقة مخطومة فقال يا رسول الله هذه في سبيل الله فقال ( لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة ).
﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ﴾ : يسكتون على ما يغيظهم ولا يظهرونه بقول ولا بفعل بل يردون غضبهم ويكفون عن إمضائه وإذا أسيء إليهم قابلوا إساءة المسيء بالإحسان إليه. ونقل عن الحسن : يقال يوم القيامة : ليقم من كان له على الله من أجر فما يقوم إلا إنسان عفا ثم قرأ هذه الآية ﴿ والعافين عن الناس.. ﴾ وهذا كقول الحق سبحانه ﴿ .. وإذا ما غضبوا هم يغفرون ﴾٢ وقوله تبارك اسمه ﴿ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يأتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا.. ﴾٣.
﴿ والله يحب المحسنين ﴾ – و( ال ) إما للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا وإما للعهد... الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأن ( تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك )- ٤.
١ من سورة البقرة الآية٢٧٤..
٢ من سورة الشورى من الآية ٣٧..
٣ من سورة النور من الآية ٢٢..
٤ من روح المعاني..
﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾[ ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفا هم دون الصنف الأول فألحقهم بهم برحمته ومنه فهؤلاء هم التوابون ]١. لم يقنط البر الرحيم جل ذكره من عصى من عفوه وألحقهم بالبررة الموعودين بدار كرامته وأثنى على من ألم بخطيئة ثم أناب إلى الرشد وجادته، ﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾٢ والفاحشة قد تعني السيئة المتزايدة القبح ويمكن أن تكون في الآية صفة لموصوف محذوف والتقدير : والذين إذا فعلوا فعلة فاحشة ﴿ أو ظلموا أنفسهم ﴾ أذنبوا ذنبا يؤاخذ فاعله به ويعاقب عليه ﴿ ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ﴾ –أي وعيده أو عقابه وأنه سائلهم أو نهيه أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه، وعلى جميع التقادير فلا بد من مضاف محذوف وقيل المراد ذكروا الله بالثناء والتعظيم.. والمراد بالاستغفار الإتيان بالتوبة على الوجه الصحيح وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل...
﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾ لأن كمال قدرته وغناه كما أنه يقتضي إزالة ذلك العقاب عنه لكن صدور الرحمة عنه بالذات " سبقت رحمتي غضبي " فجانب العفو والمغفرة أرجح ولا سيما إذا اقترن الذنب بالتوبة والاعتذار والتنصل بأقصى ما يمكن للعبد-٣.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) ﴿ ولم يصروا على ما فعلوا ﴾ لم يقيموا على قبيح فعلهم ولم يعاودوه وليس في عزمهم ولا نيتهم أن يأتوه ّ﴿ وهم يعلمون ﴾ قال الحسن بن الفضل ﴿ وهم يعلمون ﴾ أن لهم ربا يغفر الذنب ويشهد بهذا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال ( أذنب عبدي ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فذكر مثله مرتين وفي آخره- اعمل ما شئت فقد غفرت لك ) أخرجه مسلم، وقيل والحال أنهم يعلمون قبحها لأنه قد يعذر الجاهل ولا يعذر العالم - عن السدي : فيعلمون أنهم قد أذنبوا ثم أقاموا فلم يستغفروا ﴿ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العالمين ﴾.
١ من الجامع لأحكام القرآن..
٢ من سورة الأعراف الآية ٢٠١..
٣ من تفسير غرائب القرآن..
﴿ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ﴾
هؤلاء الذين وعدوا وبشروا يجزيهم الله تعالى على ما كان منهم سترا وغفرانا ونعيما وخلودا ومقاما في بساتين تجري من تحت أشجارها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى، وأنعم به من أجر وما أعظمه من ثواب يمنحه الله من عمل الصالحات وكان من المستيقنين ولقي ربه على هذا الدين القويم.
﴿ خلت ﴾ مضت. ﴿ سنن ﴾ أمم، أو طرق أو نذر مما جرى للمجرمين.
- يعني بقوله تعالى :﴿ قد خلت من قبلكم سنن ﴾ مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم يا معشر أصحاب محمد وأهل الإيمان به من نحو قوم عاد وثمود وقوم هود وقوم لوط وغيرهم من سلاف الأمم قبلكم، ﴿ سنن ﴾ : يعني مثلات سير بها فيهم وفيمن كذبوا بهم من أنبيائهم الذي أرسلوا إليهم بإمهالي أهل التكذيب بهم واستدراجي إياهم حتى إذا بلغ الكتاب فيهم الذي أجلته لإدالة أنبيائهم وأهل الإيمان بهم عليهم، ثم أحللت بهم عقوبتي وأنزلت بساحتهم نقمتي فتركتهم لمن بعدهم أمثالا وعبرا، ﴿ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ : يقول فسيروا أيها الضانون إن إدالتي من أدلت أهل الشرك يوم أحد على محمد وأصحابه لغير استدراج مني لمن أشرك بي، وكفر برسلي، وخالف أمري في ديار الأمم الذين كانوا قبلكم ممن كان على مثل الذي عليه هؤلاء المكذبون برسلي والجاحدون وحدانيتي، فانظروا كيف كان عاقبة تكذيبهم أنبيائي، وما الذي آل إليه عن خلافهم أمري وإنكارهم وحدانيتي، فتعلموا عند ذلك أن إدالتي من أدلت من المشركين على نبيي محمد وأصحابه استدراج وإمهال ليبلغ الكتاب أجله الذي أجلت لهم، ثم إما أن يؤول حالهم إلى مثل ما آل إليه حال الأمم الذين سلفوا قبلهم من تعجيل العقوبة عليهم، أو ينيبوا إلى طاعتي واتباع رسولي-١.
١ من جامع البيان..
﴿ بيان ﴾ تبيين. ﴿ هدى ﴾ شرح الصدور بالحق.
﴿ موعظة ﴾ زجر عن السوء.
﴿ هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ﴾ هذا الذي ناديتكم إليه من النظر في أحوال السابقين وعاقبة المكذبين أو هذا الذي جاءكم من آيات كتابي : تبيين لكل من يعقل وبه تنشرح صدور الأتقياء للرشد وتلين بمواعظه قلوب المتقين إلى منهاج البر، وبكلمات ربنا التامات قامت الحجة على الذين جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فقطع الله عذرهم بقوله الحكيم ﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ﴾١.
١ من سورة الأنعام الآيات من ١٥٥ إلى ١٥٧..
﴿ ولا تهنوا ﴾ ولا تضعفوا.
﴿ الأعلون ﴾ الأرفع قدرا والأعز مقاما.
﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ﴾ : نهى الله تعالى أن يحزن المؤمن لأن الحزن يضعفه والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بربنا القوي متضرعا إليه أن يجيره مما يضعف النفس ويوهن العزم١، وجاء في آية كريمة مباركة :﴿ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون٢ والله معكم ولن يتركم أعمالكم ﴾٣، وقال المولى تقدست أسماؤه :﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون.. ﴾٤، وجعل التأييد والتيقن لأهل اليقين ﴿ ... والعاقبة للمتقين ﴾٥ ﴿ ... وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾٦.
١ ومنه الحديث " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن"..
٢ مما أورد الألوسي: والمراد والحال أنكم أعلى منهم شأنا فإنكم على الحق وقتالكم لإعلاء كلمة الله تعالى وقتلاكم في الجنة وأنهم على الباطل وقتالهم لنصرة كلمة الشيطان وقتلاهم في النار واشتراكهم على هذا في العلو بناء على الظاهر وزعمهم. وإذا أخذ الكلمة بمعنى الغلبة لا يحتاج إلى هذا، علما بأن الحرب سجال وأن العاقبة للمتقين. ١هـ..
٣ من سورة محمد صلى الله عليه وسلم الآية ٣٥..
٤ من سورة النساء من الآية ١٠٤..
٥ من سورة الأعراف من الآية ١٢٨..
٦ من سورة الروم من الآية ٤٧..
﴿ قرح ﴾ جرح وألم.
﴿ نداولها ﴾ نديل لهم من عدوهم مرة ونديل للعدو حينا.
﴿ شهداء ﴾ مشهود لهم بالجنة.
﴿ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾ : إن تصبكم جراح وتقتل منكم طائفة فقد أصيب أعداؤكم بجراح وقتل-﴿ وتلك الأيام ﴾ : اسم إشارة مشار به في ما بعده كما في الضمائر المبهمة التي يفسرها ما بعدها.. وفعله يفيد التضخيم والتعظيم و﴿ الأيام ﴾ : بمعنى الأوقات أو الأيام العرفية وتعريفها للعهد إشارة إلى أوقات الظفر والغلبة الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية، ويوما بدر وأحد داخلان فيها دخولا أوليا، ﴿ نداولها بين الناس ﴾ : نصرفها بينهم فتديل لهؤلاء مرة ولهؤلاء أخرى، كما وقع ذلك يوم بدر ويوم أحد والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى واحد... وصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار للإعلام بأن تلك المداولة سنة مسلوكة فيما بين الأمم قاطبة إلى أن يأتي أمر الله تعالى-١. ﴿ وليعلم الله الذين آمنوا ﴾ : لعل المعنى ليرى المؤمنين من المنافقين فيميز بعضهم٢ عن بعض- والكلام من باب التمثيل أي ليعاملهم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم والعلم فيه مجاز عن التمييز من باب إطلاق اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم.. وبالجملة لا يرد لزوم حدوث العلم الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى وإطلاق الإيمان مع أن المراد هو الرسوخ والإخلاص فيه والإشعار بأن الإيمان لا ينطلق على غيره-٣. ﴿ ويتخذ منكم شهداء ﴾ : ويصطفي ويختار بعضا منكم فيكرمهم بالشهادة فكأنهم يشهدون الجنة، عن عكرمة قال : لما أبطأ على النساء الخبر خرجن يستخبرن فإذا رجلان مقتولان على دابة أو على بعير فقالت امرأة من الأنصار من هذا فلان أخو فلانة وزوجها أو زوجها وابنها فقالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا : حي قالت فلا أبالي يتخذ الله تعالى من عباده الشهداء ونزل القرآن على ما قالت ﴿ ويتخذ منكم شهداء ﴾ ﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ [ أي المشركين أي وإن أنال الكفار – وفي نسخة : أدال- من المؤمنين فهو لا يحبهم وإن أحل ألما بالمؤمنين فإنه يحب المؤمنين.
١ مما أورد صاحب المعاني..
٢ وذهب طائفة إلى أن المعنى.. ليعلم الله الذين آمنوا بصبرهم على ما يقع عليه الجزاء كما علم علما أزليا..
٣ مما أورد صاحب روح المعاني..
﴿ ليمحص ﴾ ليختبر ويطهر.
﴿ يمحق ﴾ ينقص ويهلك.
﴿ وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ﴾.. وليمحص يختبر.. وليطهر أي من ذنوبهم على حذف مضاف المعنى وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا قاله الفراء.. يمحص يخلص... فالمعنى عليه ليبتلي المؤمنين ليقيهم وليخلصهم من ذنوبهم ﴿ ويمحق الكافرين ﴾ أي يستأصلهم بالهلاك ]١.
١ من الجامع لأحكام القرآن..
﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ﴾ : كان المعنى بل أتظنون أن تدركوا نعيم الآخرة والخلود في جنتها دون أن تجاهدوا وتصبروا على أمانات رب العالمين ؟ لن يتحقق الفوز بالجنات إلا بالجهاد في سبيل الحق والصبر في البأساء والضراء وحين البأس مع صبر جميل على طاعة الله تعالى وصبر عن معصيته وتلك سنة للمولى – تقدست أسماؤه لا تتبدل، يقول جل ثناؤه :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذي خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا.. ﴾١، ويقول سبحانه :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلكم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾٢، وفرق بين لم و﴿ ما ﴾ فجعل لم لنفي الماضي ولما لنفي الماضي والمتوقع و﴿ يعلم ﴾ منصوب بإضمار أن، وقال الزجاج : الواو بمعنى حتى.
١ من سورة البقرة الآية ٢١٤..
٢ من سورة العنكبوت الآيتان ٢-٣..
﴿ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ﴾ جائز أن تكون الواو للعطف واللام موطئة للقسم، وقد للخصوص و﴿ تمنون ﴾ أصلها تتمنون فحذفت إحدى التائين و﴿ الموت ﴾ يعني القتال في سبيل الله وإن ترتب عليه الموت والضمير في ﴿ فقد رأيتموه ﴾ عائد على لقاء العدو المستفاد مما هو مسبق، ﴿ وأنتم تنظرون ﴾ أي والحال أنكم ترون اللقاء وتشهدونه، وقال الأخفش : هذا يكون بمعنى التأكيد لقوله ﴿ فقد رأيتموه ﴾ مثل ﴿ ولا طائر يطير بجناحيه.. ﴾١ وفي الآية إضمار أي فقد رأيتموه وأنتم تنظرون فلم فررتم ؟.
عن مجاهد قال : غاب رجال عن بدر فكانوا يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر فلما كان يوم أحد ولى منهم فعاتبهم الله.
ومما أورد صاحب جامع البيان : وإنما قيل ﴿ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ﴾ لأن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهد بدرا كانوا يتمنون قبل أحد يوما مثل يوم بدر فيبلوا الله من أنفسهم خيرا وينالوا من الأجر مثل ما نال أهل بدر فلما كان يوم أحد فر بعضهم وصبر بعضهم حتى أوفى بما كان عاهد الله قبل ذلك فعاتب الله من فر منهم.
ونقل عن ابن إسحق : لقد كنتم تمنون الشهادة على الذي أنتم عليه من الحق قبل أن تلقوا عدوكم يعني الذين حملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خروجه بهم إلى عدوهم لما فاتهم من الحضور في اليوم الذي كان قبله بدر ورغبة في الشهادة التي قد فاتتهم.
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : قال عمي أنس بن النضر -سمعت به- ولم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليه فقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع، قال : فهاب أن يقول غيرهما وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام المقبل فاستقبله سعد ابن مالك فقال يا أبا عمر وأين ؟ قال واها٢ لريح الجنة أجدها دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية فقالت عمتي الربيعة بنت النضر : فما عرفت أخي إلا ببنانه ٣ ونزلت هذه الآية ﴿ .. رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ﴾٤.
١ من سورة الأنعام من الآية ٣٨..
٢ تقال إعجابا بالشيء..
٣ بأطراف أصابعه..
٤ سورة الأحزاب من الآية ٢٣..
﴿ انقلبتم على أعقابكم ﴾ ارتددتم عن مواجهة العدو أو رجعتم عن ملة الإسلام.
﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ﴾ قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالشعب أمر الرماة أن يكونوا أصل الجبل لا ينتقلون سواء كان الأمر لهم أم عليهم فلما وقفوا وحملوا على الكفار هزموهم وقتل علي رضي الله عنه طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم والزبير والمقداد شدا على المشركين، ثم حمل الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فهزموا أبا سفيان ثم إن بعض القوم لما رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان خالد ابن الوليد صاحب ميمنة الكفار، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم وكثر القتلى في المسلمين ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر وكسر رباعيته وشج وجهه وأقبل يريد قتله فدب عنه مصعب بن عمير – وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد – حتى قتل ابن قميئة، واحتمل طلحة بن عبيد الله رسول الله، ودافع عنه أبو بكر وعلي، وظن ابن قميئة أنه قتل رسول الله فقال : قد قتلت محمدا وصرخ صارخا ألا إن محمدا قد قتل، قيل وكان الصارخ الشيطان ففشا في الناس خبر قتله صلى الله عليه وسلم فانكفؤوا وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ( إلي عباد الله ) حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم، فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا آتانا خبر مقتلك فرغبت قلوبنا، فنزلت، فكأن المعنى : ليس محمد إلا مرسل كسائر إخوانه المرسلين بشر يموتون لكنهم عن ربهم مبلغون وعلى من صدقوا بالرسالة أن يثبتوا على اليقين ويكبتوا أعداء الدين ويتابعون الدعوة إلى رب العالمين. عن قتادة : قال ناس من علية أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم : قاتلوا على ما قاتل عليه محمد نبيكم حتى يفتح الله لكم أو تلحقوا به. ومما روى السدي : أقبل أبي ابن خلف الجمحي وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( بل أنا أقتلك ) فقال : يا كذاب أين تفر ؟ فحمل عليه فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في جنب الدرع فخرج جرحا خفيفا فوقع يخور خوران الثور فاحتملوه وقالوا ليس بك جراحة، قال أليس قال " لأقتلنك ؟ " لو كانت لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم ولم يلبث إلا يوما حتى مات من ذلك الجرح وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل.. ١ه.
﴿ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ فهل إذا مات خاتم النبيين أو قتل يرجع الناس عن إسلامهم أو عن قتال أعدائهم ؟ هذا مما ينكر ويجحد ﴿ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ﴾ والذي يقعد عن مدافعة الكافرين أو الوفاء بأمانات الدين لن يضر إلا نفسه أما كلمة الله فستبقى عالية وسيشرف المولى سبحانه أقواما بالعمل تحت لوائهم ﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾١ ﴿ .. فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.. ﴾٢. ﴿ وسيجزي الله الشاكرين ﴾ سيعظم ربنا المثوبة لمن قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه واتبعوا رسوله حيا وميتا فهؤلاء هم الذين شكروا أنعم الله عليهم وأعلاها نعمة الهداية على الإسلام ﴿ .. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.. ﴾٣.
١ سورة محمد الآية ٣٨..
٢ سورة المائدة من الآية ٥٤..
٣ سورة المائدة من الآية ٣..
﴿ بإذن الله ﴾ بقضاء المولى سبحانه وقدره.
﴿ كتابا مؤجلا ﴾ قضاء جعل الله له وقتا محددا.
﴿ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ﴾- لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له.. كقوله﴿ .. وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب.. ﴾١.. وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه.. ﴿ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ﴾ أي من كان عمله للدنيا فقط ناله منها ما قدره الله له ولم يكن له في الآخرة من نصيب ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها، وما قسم له في الدنيا، كما قال تعالى :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ﴾٢ وقال تعالى ﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ﴾٣ ولهذا قال ربنا ﴿ وسنجزي الشاكرين ﴾ أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم٤.
١ سورة فاطر من الآية ١١..
٢ سورة الشورى الآية: ٢٠.
٣ سورة الإسراء الآيتان ١٨-١٩..
٤ من تفسير القرآن العظيم..
﴿ وكأين ﴾ وكم وكثير.
﴿ ربيون ﴾ ربانيون عالمون بجلال الله وحقه عابدون.
﴿ وهنوا ﴾ انكسر حدهم بالخوف. ﴿ ضعفوا ﴾ عن عدوهم.
﴿ استكانوا ﴾ خضعوا وذلوا.
﴿ وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ﴾ وكثير من الأنبياء قاتل معه أصحابه، قال الخليل الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة، ومعرفة الربوبية لله تعالى. وعن مجاهد وعكرمة وغيرهما : الربيون الجماعات الكثيرة، وقال الحسن : وهم العلماء الصبر [ هلا فعلتم كما كان أهل الفضل والعلم من أتباع الأنبياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبيهم من المضي على منهاج نبيهم والقتال على دينه أعداء دين الله على نحو ما كانوا يقاتلون مع نبيهم.. فما عجزوا لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل الله ولا لقتل من قتل منهم عن حرب أعداء الله ولا نكلوا عن جهادهم.. وما ضعفت قواهم.. وما ذلوا فتخشعوا لعدوهم في الدخول في دينهم ومداهنتهم فيه خفية منهم ولكن مضوا قدما.. صبرا على أمر الله.. والله يحب هؤلاء وأمثالهم ]١.
١ ما بين العلامتين [] من جامع البيان..
﴿ إسرافنا ﴾ تجاوزنا الحد.
﴿ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ﴾ الإسراف الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد، في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ). و﴿ قولهم ﴾ منصوب على أنه خبر ﴿ كان ﴾ والقول الكريم ﴿ إلا أن قالوا ﴾ استثناء مفرغ أي ما كان قولهم -قالوا ذلك مع كونهم ربانيين هضما لأنفسهم ؛ ﴿ وثبت أقدامنا ﴾ في مواطن القتال.
﴿ فآتاهم ﴾ فأعطاهم. ﴿ ثواب الدنيا ﴾ النصر والغنيمة والعز.
﴿ وحسن ثواب الآخرة ﴾ نعيم الآخرة الحسن.
﴿ فآتاهم الله ﴾ بسبب ذلك﴿ ثواب الدنيا ﴾ من النصر والغنيمة والعزة ونحوها ﴿ وحسن ثواب الآخرة ﴾ من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ثواب الآخرة الحسن وهو نعيم الجنة جعلنا الله من أهلها-١.
١ من فتح التقدير..
بعد بيان هدى النبيين المجاهدين وصبر المقاتلين على ما يصيبهم في سبيل الله نصرة للحق والدين، والأجر الآجل الذي يجزله لهم مولانا خير الناصرين، حذرت الآية الكريمة من عاقبة مطاوعة الكافرين ملاحدة كانوا أو مشركين أو كتابيين أو منافقين فإن متابعتهم أو استنصاحهم أو مودتهم تردي في الغي والضلال والذل والخسران المبين والعذاب المهين وإن تقبلوا رأيهم يحملوكم على الردة عن دينكم فترجعوا عن الدين الذي ارتضاه الله هالكين أذهبت دنياكم وآخرتكم.
﴿ بل الله مولاكم وهو خير الناصرين ﴾ – والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا خطأ وجهالة لأنهم عاجزون مثلكم متحيرون وبغير إذن الله لا ينفعون ولا يضرون ﴿ وهو خير الناصرين ﴾ لو فرض أن لأحد سواه قدرة على النصر، لأنه خبير بمواقع الحاجات قدير على إنجاز الطلبات ينصر في الدنيا والآخرة بلا شائبة علة من العلات ونصرة غيره لو فرض -فإنه مخصوص بالدنيا وببعض الأمور وفي بعض الأوقات ولغرض من الأغراض الفاسدات كيف ولا ناصر بالحقيقة سواه-١.
١ من تفسير غرائب القرآن..
﴿ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ﴾ روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغائم وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ).
[ والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام قال الله تعالى ﴿ .. وألقى الألواح.. ﴾١ ﴿ فألقوا حبالهم وعصيتم.. ﴾٢ ﴿ فألقى موسى عصاه.. ﴾٣ قال الشاعر :
فألقت عصاها واستقر بها النوى
ثم قد يستعمل مجازا كما في الآية، وقوله﴿ .. وألقيت عليك محبة مني ﴾٤.. ﴿ بما أشركوا بالله ﴾ تعليل، أي كان سبب إلقاء الرعب في قلوبهم إشراكهم ؛ فما ف﴿ ما ﴾ للمصدر ويقال أشرك به أي عدل غيره ليجعله شريكا.. ﴿ ما لم ينزل به سلطانا ﴾ حجة وبيانا، وعذرا وبرهانا، ومن هذا قيل للوالي : سلطان، لأنه حجة الله عز وجل في الأرض. ويقال إنه مأخوذ من السليط وهو ما يضاء به السراج وهو دهن السمسم.. فالسلطان يستضاء به في إظهار الحق وقمع الباطل.. ومعنى هذا أنه لم تثبت عبادة الأوثان في شيء من الملل ولم يدل عقل على جواز ذلك٥.
﴿ ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ﴾ عجل الله لهم الخزي والفزع في الحياة الدنيا ثم يردون في الآخرة إلى مأوى بئيس تعيس ونار يثوون ويقيمون ويخلدون في حرها وعذابها ﴿ .. ذلك جزيناهم ببغيهم.. ﴾٦.
١ سورة الأعراف من الآية ١٥٠..
٢ سورة الشعراء من الآية ٤٤..
٣ سورة الشعراء الآية ٤٥..
٤ سورة طه من الآية ٣٩..
٥ ما بين العلامتين [] من الجامع لأحكام القرآن..
٦ من سورة الأنعام من الآية ١٤٦..
﴿ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ﴾ أنجز ربنا ما وعد من تأييد الفئة القليلة المؤمنة على الكثيرة الكافرة بتقديره سبحانه واقتداره فاندفع المسلمون يوم أحد يقتلون المشركين ويستأصلونهم استئصالا. روى البخاري عن البراء بن عازب قال : لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير، وقال لهم :( لا تبرحوا أماكنكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم )، يقول محمد بن كعب القرظي فلما التقى القوم قتل صاحب لواء المشركين وتسعة نفر منهم بعده وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن ١ في الجبل وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا٢ يقولون الغنيمة الغنيمة وترك بعض الرماة مركزهم طلبا للغنيمة.
﴿ حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ﴾ إلى أن جبنتم واختلفتم فيما أمرتم به وعصيتم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما لاحت بشائر النصر على العدو. عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناسا من الناس يعني يوم أحد فكانوا من ورائهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كونوا ها هنا فردوا وجه من قدمنا وكونوا حرسا لنا من قبل ظهورنا ) وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه اختلف الذين كانوا جعلوا من ورائهم، فقال بعضهم لبعض لما رأوا النساء مصعدات في الجبل ورأوا الغنائم قالوا انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوا الغنيمة قبل أن تسبقوا إليها وقالت طائفة أخرى بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا فذلك قوله ﴿ منكم من يريد الدنيا ﴾ للذين أرادوا الغنيمة ﴿ ومنكم من يريد الآخرة ﴾ للذين قالوا نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونثبت مكاننا.. ١ه.
﴿ ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ﴾ بعد أن كانت لكم الغلبة على المشركين صدر يوم أحد كفاكم ربنا عنهم حتى صرتم إلى غير ما كنتم عليه بل إلى ضده فنزل بكم البلاء بسبب عصيان بعض منكم وانشغالهم بجمع الغنائم كأنه قيل قد نصركم الله تعالى إلى وقت فشلكم وتنازعكم.. و ﴿ ثم صرفكم ﴾ حينئذ عطف على ذلك.. ﴿ لقد عفا عنكم ﴾ بمحض التفضل أو لما علم من عظيم ندمكم على المخالفة -٣. والخطاب عام أو خاص بمن خالف من الرماة ٤، ﴿ والله ذو فضل على المؤمنين ﴾ [ هو متفضل عليهم في جميع الأحوال سواء كانت الدولة لهم أو عليهم لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة ]٥.
١ يسرعن المشي..
٢ أي الرماة المسلمون..
٣ من روح المعاني..
٤ مما أورد الحسن النيسابوري الآية مشتملة على المعذورين في الانصراف وعلى غير المعذورين فقوله﴿ثم صرفكم عنهم﴾ إلى المعذورين وقوله ﴿ولقد عفا عنكم﴾ يرجع إلى غير المعذورين. ١هـ..
٥ ما بين العلامتين [] من تفسير غرائب القرآن..
﴿ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ﴾ الإصعاد الذهاب في الأرض والإبعاد فيها ﴿ ولا تلوون ﴾ لا تلتقون ؛ قال ابن إسحق أنبهم الله بالفرار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم لا يعطفون عليه لدعائه إياهم. ﴿ والرسول يدعوكم في أخراكم ﴾ وكان صلوات الله عليه حين ناداهم في الساقة والجماعة الأخرى، لأن الذين فروا تقدموا النبي وبقي هو في الجماعة المتأخرة ﴿ فأثابكم غما بغم ﴾ فقال الحسن ﴿ غما ﴾ يوم أحد ﴿ بغم ﴾ يوم بدر للمشركين ؛ وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا ﴿ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون ﴾ كأنه تعليل لما جرى أي كان ما كان لأجل أن لا تغتموا على ما فاتكم من النصر والغنيمة ولا ما وقع بكم من القتل والجراح فلا تأسوا لإدبار الدنيا ولا تفرحوا بإقبالها وهذا قريب من معنى قول الحق سبحانه ﴿ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم.. ﴾١ وربنا ذو خبرة وعلم محيط بكل عمل وفعل وقصد وقول، فيجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته أو يعفو عنه.
١ من سورة الحديد من الآية ٢٣..
أصابكم الضر وكثر فيكم الجرح والقتل لكني تداركتكم بالسكينة تخالط قلوبكم والنعاس يخالط أهل اليقين منكم، أمنا أحللته أنفس الصادقين، روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ﴿ وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ﴾ حملتهم على الهم وأقلقتهم حظوظ أنفسهم – يعني المنافقين : متعب بن قشير وأصحابه وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وخوف المؤمنين، فلم يغشهم النعاس يتأسفون على الحضور... والواو في قوله ﴿ وطائفة ﴾ واو الحال بمعنى إذ أن طائفة يظنون أمر محمد صلى الله عليه وسلم باطل وأنه لا ينصر ﴿ ظن الجاهلية ﴾ فحذف. ﴿ يقولون هل لنا من الأمر من شيء لفظه استفهام ومعناه الجحد أي ما لنا من شيء من الأمر أي من أمر الخروج وإنما خرجنا كرها يدل عليه قوله تعالى إخبارا عنهم { ولو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ﴾ قال الزبير أرسل علينا النوم ذلك اليوم وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا١ ؛ ﴿ قل إن الأمر كله لله ﴾ ﴿ كله ﴾ نعت ل﴿ الأمر أو تأكيد وقال الأخفش : بدل أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء { ويخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ﴾ يضمرون خلاف الذي يظهرونه لك. ﴿ يقولون ﴾ في أنفسهم أو خفية لبعضهم إذ لو كان القول جهارا لم يكونوا منافقين والجملة إما بدل من ﴿ يخفون ﴾ أو استئناف.. - ٢. ﴿ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ﴾ [ أي ما قتل عشائرنا فقيل إن المنافقين قالوا لو كان لنا عقل ما خرجنا إلى قتال أهل مكة ولما قتل رؤسائنا فرد عليهم فقال ﴿ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز ﴾ أي لخرج ﴿ الذين كتب ﴾ أي فرض ﴿ عليهم القتل ﴾ يعني في اللوح المحفوظ ﴿ إلى مضاجعهم ﴾ أي مصارعهم.. وقيل لو تخلفتم أيها المنافقون لبرزتم إلى موطن آخر غيره تصرعون فيه حتى يبتلي الله ما في الصدور ويظهره للمؤمنين... ؛ والتقدير ﴿ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ﴾ فرض الله عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم وقيل معنى ﴿ ليبتلي ﴾ ليعاملكم معاملة المختبر وقيل ليقع منكم مشاهدة ما علمه غيبا، وقيل هو على حذف مضاف والتقدير : ليبتلي أولياء الله تعالى.. ﴿ والله عليم بذات الصدور ﴾ أي ما فيها من خير وشر وقيل ذات الصدور هي الصدور لأن ذات الشيء نفسه.
١ من الجامع لأحكام القرآن..
٢ من روح المعاني..
﴿ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ﴾... والمراد من تولى عن المشركين يوم أحد، عن عمر رضي الله عنه وغيره ؛ السدي : يعني من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة دون من صعد الجبل.. ويعني ﴿ استزلهم الشيطان ﴾ استدعى زللهم بأن ذكرهم خطايا سلفت منهم فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا.. وعلى الجملة فإن حمل الأمر على ذنب محقق فقد عفا الله عنه ]١.. ﴿ إن الله غفور ﴾ يغطي سبحانه ويستر ذنب من زل ثم استغفر وتاب ونزع واستعتب فإن المولى سبحانه يعفو عنه ويصفح ؛ ﴿ حليم ﴾ لا يعجل على من عصاه وخالفه أمره بالنقمة ولكن يمهل وينظر ليتذكر من يتذكر.
١ ما بين العلامتين[] من الجامع لأحكام القرآن، وقد أورد حديثا عن ابن عمر كما في صحيح البخاري: حدثنا عبد الله أخبرنا أبو حمزة عن عثمان بن وهب قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال من هؤلاء القعود قالوا هؤلاء قريش، قال من الشيخ؟ قالوا ابن عمر، فأتاه فقال إني سائلك عن شيء أتحدثني ؟ قال أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال نعم، قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال نعم، قال فتعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال نعم قال: فكبر، قال ابن عمر تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (إن لك أجر من شهد بدرا وسهمه) وأما تغيبه عن بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة فقال "أشار" النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى (هذه يد عثمان) فضرب بها على يده "اليسرى" فقال (هذه لعثمان) اذهب بها الآن معك..
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ﴾ نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بمن جحد أو نافق ولم يستيقن بحقائق الدين ﴿ وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ﴾ فإن قيل كيف يخاطبون من مات أو قتل ؟ أجيب بأنه ربما كان هذا من قول بعض الكافرين والمنافقين لبعضهم الآخر يقول فريق منهم لإخوانه في النسب أو في الكفر والنفاق لو أطعنا الذين سافروا للتجارة أو قضاء الأوطار ولم يخرجوا ما ماتوا ولو بقي معنا الذين ذهبوا للغزو وقعدوا ما قتلوا، ومن المفسرين من ذهب إلى أن اللام العاقبة في قول الله سبحانه ﴿ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ﴾ أي هذا القول والتخيل والتثبيط عن الانتشار في الأرض والخروج لملاقاة العدو يعقب أصحابه حسرة وندامة يوم القيامة حين يرون ثواب الساعين والمجاهدين – ومنهم من قال متعلق اللام قول المولى جل ثناؤه :﴿ لا تكونوا ﴾ أي لا تكونوا مثلهم فإن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون تزيد من غمهم وغيظهم في الدنيا والآخرة ﴿ والله يحيي ويميت ﴾ رد لجهالتهم وجواب عن مقالتهم أي الأمر بيده والخلق له فقد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد وعلى المكلف أن يتلقى أوامره بالامتثال، فالله أعلم بحقيقة الأحوال ولا يجزي الأمور إلا على وفق إمضائه وإحكامه ونقضه وإبرامه وكل ميسر لما خلق له-١ [ وهذا من الله عز وجل ترغيب لعباده المؤمنين على جهاد عدوه والصبر على قتالهم وإخراج هيبتهم من صدورهم وإن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم وأعداء الله وإعلام منه لهم أن الإحياء والإماتة بيده وأنه لن يموت أحد ولا يقتل إلا بعد فناء أجله الذي كتب له، ونهي منه لهم إذ كان كذلك أن يجزعوا الموت من مات منهم أو قتل من قتل منهم في حرب المشركين، ثم قال جل ثناؤه ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ إن الله يرى ما تعملون من خير ومن شر فاتقوه أيها المؤمنون فإنه محص ذلك كله حتى يجازي كل عامل بعمله.
١ من تفسير غرائب القرآن..
﴿ ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ﴾ فخاطب جل ثناؤه عباده المؤمنين يقول لهم : لا تكونوا أيها المؤمنون في شك من أن الأمور كلها بيد الله وأن إليه الإحياء والإماتة كما شك المنافقون في ذلك ولكن جاهدوا في سبيل الله وقاتلوا أعداء الله على يقين منكم بأنه لا يقتل في حرب ولا يموت في سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفاته ثم وعدهم على جهادهم في سبيله المغفرة والرحمة وأخبرهم أن موتا في سبيل الله وقتلا في الله خير لهم مما يجمعون في الدنيا من حطامها ورغيد عيشها الذي من أجله يتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله ويتأخرون عن لقاء العدو... فتأويل الكلام ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم ليغفرن الله لكم وليرحمنكم فدل ذلك عليه الخبر عن فضل ذلك على ما يؤثرونه من الدنيا وما يجمعون فيها...
﴿ ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ﴾ –يعني بذلك جل ثناؤه ولئن متم أو قتلتم أيها المؤمنون فإن إلى الله مرجعكم ومحشركم فيجازيكم بأعمالكم فآثروا ما يقربكم من الله ويوجب لكم رضاه ويقربكم من الجنة من الجهاد في سبيل الله والعمل بطاعته على الركون إلى الدنيا وما تجمعون فيها من حطامها الذي هو غير باق لكم بل هو زائل عنكم وعن طاعة الله والجهاد فإن ذلك يبعدكم عن ربكم ويوجب لكم سخطه ويقربكم من النار }١.
١ من جامع البيان.
﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ يمتن المولى سبحانه على النبي والمؤمنين ١ بما هدى إليه مصطفاه صلى الله عليه وسلم من خفض جناحه لمن اتبعه وحمله على من أساء فأحبهم أعظم الحب وآثروه هم على أنفسهم وعلى أهليهم ولو كان صلوات الله عليه وحاشاه جافي الطبع أو متجهم الوجه أو قليل التفرق والشفقة لتفرق الناس عنه ولنفروا منه، عن قتادة أي والله لطهره الله من الفظاظة والغلظة وجعله قريبا رحيما بالمؤمنين رءوفا، وذكر لنا أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخوب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح ﴿ فاعف عنهم ﴾ لعل ذلك أمر بالصفح وعدم المؤاخذة على ما له عليه الصلاة والسلام في خاصته عليهم من تبعة ﴿ واستغفر لهم ﴾ ادع الله لهم أن يستر عليهم ما يكون خاصته عليهم من تبعة ؛ ﴿ واستغفر لهم ﴾ ادع الله أن يستر عليهم ما يكون من سيئاتهم وأن لا يعاقبهم بذنوبهم ﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ تقول العرب : شار العسل أي استخرجه واجتناه وأخذه من موضعه وأشرني على العمل أي أعني واستشار أمره إذا تبين وظهر ؛ فالمولى سبحانه يأمر نبيه والأمة في ذلك تبعا له أن يأخذ الرأي من أهله فيما يحدث من أمور وأن يجتني ما عند الخبراء من خبرة في آية واقعة تكون. ففي المشورة كما يستفاد من أصلها اللغوي استبانة لوجه الحق واستظهار لخطة الرشد والحكمة والصواب ؛ ومعلوم أن المشاورة تكون فيما لم يرد به الشرع ؛ نقل في الجامع لأحكام القرآن قال ابن عطية : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب هذا ما لا خلاف فيه وقد مدح الله المؤمنين بقوله ﴿ .. وأمرهم شورى بينهم.. ﴾٢ وقال ابن خويز منداد : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وفيما أشكل عليهم من أمور الدين ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم استشار٣ في أمر الخروج إلى غزوة بدر وكذا قبل السير إلى معركة أحد، كما أنه استشار في أمر الأسرى، وفي غير ذلك كما أشار عليه بعض الأصحاب رضوان الله عليهم بالمنزل يوم بدر وبالعريش يكون فيه، فقبل مشورتهم.
عن قتادة : أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء لأنه أطيب لأنفس القوم وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا أو أرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على أرشده ؛ وقال العلماء : وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالما دينا وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن : ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا محببا لمن يستشيره وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة -وهي أعظم النوازل – شورى ؛ قال البخاري : وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء في أمر العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها. مما يقول الطبري : وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتآخ للحق وإرادة جميعهم للصواب من غير ميل إلى الهوى، ولا حيد عن الهدى فالله مسددهم وموفقهم.
وأما قوله ﴿ فإذا عزمت فتوكل على الله ﴾ فإنه يعني : فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما أنابك وحزبك من أمر دينك ودنياك فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفها وتوكل فيما تأتي من أمورك وتدع وتحاول أن تزاول على ربك فثق به في كل ذلك وارض بقضائه في جميعه، دون آراء سائر خلقه ومعونتهم، فإن الله يحب المتوكلين وهم الراضون بقضائه والمستسلمون لحكمه فيهم وافق ذلك منهم هوى أو خالفه. ١ه. والعزم : قصد الإمضاء.
١ مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن: ثم إنه سبحانه لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم حين عفا عنهم وترك التغليظ عليهم في انهزامهم. روى أن امرأة عثمان دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم وعلي يغسلان السلاح فقالت: ما فعل عثمان ؟ أما والله لا تجدونه أمام القوم، فقال لها علي: ألا إن عثمان فضح الذمار اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿مه﴾ – يعني اسكت-. وروى أنه قال حينئذ " أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا (ولما دخل عثمان مع صاحبه ما زاد على أن قال: لقد ذهبتم بها عريضة) وعنه قال (إنما أنا لكم مثل الوالد فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها) وقال صلى الله عليه وسلم (لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه) فلما كان صلى الله عليه وسلم إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقا لأن الغرض من البعثة وهو التزام التكاليف لا يتم إلا إذا مالت قلوب الأمة إليه وسكنت نفوسهم لديه ورأوا فيه آثار الشفقة وإمارات النصيحة. وعن بعض الصحابة أنه قد قال لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين جملة، وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا، فما كنا ندخل في الإسلام ولكنه دعانا على كلمة واحدة فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة..
٢ من سورة الشورى من الآية ٣٨..
٣ روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعمرين- أبي بكر وعمر- رضي الله تعالى عنهما (لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما)..
﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم ﴾ إن يقض الله تعالى أن تنصروا فأنتم منصورون لا محالة إذ مراده سبحانه لا يراد أبدا ولقد نصركم ببدر على قلتكم، وضعف عدتكم ؛ ﴿ وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ﴾ الاستفهام هنا ليس يراد به طلب الفهم وإنما يعني النفي أي إن يشأ المولى ترككم دون معونة فلا ينصركم أحد من بعد خذلانه سبحانه وإياكم ؛ ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ – وليخص المؤمنون إياه بالتوكل لما علم أن الأمر كله له ولا راد لقضائه ولا دافع لبلائه، ولأن الإيمان يوجب ذلك وليس المراد بالتوكل أن يهمل الإنسان حال نفسه بالكلية ويفرض الوسطاء والأسباب كما يتصور الجهال وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل وإنما التوكل هو أن يراعي الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق وتأييده وتوفيقه وتسديده١.
١ من تفسير غرائب القرآن..
﴿ وما كان لنبي أن يغل ﴾ عن ابن عباس : ما كان للنبي أن يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القسم، ولكن يقسم بالعدل ويأخذ فيه بأمر الله ويحكم فيه بما أنزل الله، يقول : ما كان الله ليجعل نبيا يغل من أصحابه فإذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك استنوا به ؛ ﴿ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ﴾ في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال ( لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك شيئا قد أبلغتك لألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس حمحمة١ فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته ثغاء٢ يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع٣ تخفق٤ فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته صامت٥ فيقول يا رسول اله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ) ؛ والغلول الأخذ من المغانم التي يظفر بها المسلمون في قتال الكفار قبل أن تقسم [ القليل والكثير لا يحل أخذه في الغزو وقبل المقاسم إلا ما جمعوا عليه من أكل المطاعم في أرض الغزو ومن الاحتطاب والاصطياد ] ٦.
قال عطاء : في الغزاة يكونون في السرية فيصيبون أنحاء -زقاق وأواني- السمن والعسل والطعام فيأكلون وما بقي ردوه إلى إمامهم وعلى هذا جماعة العلماء. قال الحسن : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحوا المدينة أو الحصن أكلوا من السويق والدقيق والسمن والعسل فإذا غل الرجل في المغنم ووجد أخذ منه وأدب وعوقب بالتعزير... أجمع العلماء على أن للغال أن يرد جميع ما غل إلى صاحب المقاسم قبل أن يتفرق الناس إن وجد السبيل إلى ذلك وأنه إذا فعل ذلك فهي توبة له وخروج عن ذنبه-٧.
﴿ ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾ وبعد العرض والحساب والحكم تعطى كل نفس جزاء ما عملته وأجره أو وزره وافيا من غير نقص أو بخس وهؤلاء المكلفون الذين حوسبوا لا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزداد عقاب عاصيهم.
١ صوت دون الصهيل.
٢ صياح الغنم.
٣ جمع رقعة وهي التي تكتب والمراد عليها من الحقوق المكتوبة..
٤ تتحرك وتسمع حركتها..
٥ الذهب والفضة خلاف الناطق وهو الحيوان..
٦ من الجامع لأحكام القرآن..
٧ من الجامع لأحكام القرآن، وأضاف: ومن الغلول هدايا العمال وحكمه في الفضيحة في الآخرة حكم الغال. روى مسلم في صحيحه عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال (ما بال العامل نبعثه فيجئ فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا. لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء وإن كانت بقرة فلها خوار أو شاة تيعر) (تصوت صوت الظأن والمعز) ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي (مكان في الجلد لونه ترابي) إبطية ثم قال (اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت) وتابع القرطبي يقول: ومن الغلول حبس الكتب عن أصحابها ويدخل غيرها في معناها قال الزهري إياك وغلول الكتب فقيل له وما غلول الكتب؟ قال حبسها عن أصحابها..
﴿ أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ﴾ لا يستويان فيمن ابتغى رضوان الله سعد في أولاه وأخراه ومن أمعن في الجرم لم يظفر إلا بغضب الله وعذابه ومرجعه في الآخرة إلى دار السعير جهنم، وما أذم هذا الذي يصير إليه الخاطئون المجرمون. روي عن ابن إسحق أن المعنى : أفمن اتبع رضوان الله تعالى في العمل بالطاعة كمن باء بسخط منه سبحانه في العمل بالمعصية ؟ والاستفهام هنا إنكاري.
﴿ هم درجات عند الله ﴾ المطيعون والمجرمون ليسوا سواء فلكل درجات بما عملوا فهم ذوو درجات عند مولانا الذي يقضي بالحق، فالمؤمنون في الجنة في منازل يعلوا ويفضل بعضها بعضا، والكافرون في دركات النار بعضها أسفل من بعض ﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ والمعبود بحق تقدست أسماؤه يرى ويعلم أعمال وأحوال كل المسلمين والمجرمين والمصلحين والمفسدين والمتقين والفجار. يقول المولى العزيز الغفار ﴿ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ﴾١، ويقول تعالى ﴿ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة.. ﴾ ٢.
١ سورة يونس الآية ٦٠..
٢ سورة المجادلة من الآية ٧..
﴿ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ﴾ من عظيم طول الله تعالى ومنته وفضله ونعمته على أهل الإسلام الدين المرتضى أن أرسل إليهم نبيا وأن اختار هذا النبي الخاتم من ولد إسماعيل ومن العرب، ومعنى المن ههنا الإنعام على من لا يطلب الجزاء منه والوجه في المنة إما أن يعود على أصل البعثة، وإما أن يعود إلى بعثة هذا الرسول، فمن الأول أن الخلق مجبولون على النقصان والجهالة والنبي يورد عليهم وجوه دلائل الكمال ويزيح عللهم في كل حال، وأيضا إنهم وإن شهدت فطرتهم وجوه دلائل الكمال، ويزيح عللهم في كل حال وأيضا إنهم وإن شهدت فطرتهم بوجوب خدمة مولاهم لكن لا يعرفون كيفية تلك الخدمة إلى أن يشرحها النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وأيضا إنهم جبلوا على الكسل والملل فهو يورد عليهم أنواع الرغبات والترهيبات فيزول فتورهم ويتجدد نشاطهم، وبالجملة فعقول البشر بمنزلة أنوار البصر، وعقل النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة نور الشمس فكذلك لا يحصل الاهتداء بمجرد العقل ما لم ينضم إليه إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الثاني أن هذا الرسول بعث من أنفسهم أي من جنسهم عربيا مثلهم أو من ولد إسماعيل كما أنهم من ولده.. ؛ وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون به ووجه المنة أنه إذا كان اللسان واحدا سهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه، وإذا كانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة كان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه، والوثوق به وفيه أيضا شرف لهم وفخر، كما قال ﴿ وإنه لذكر لك ولقومك.. ﴾ ١ وذلك أن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب كانوا يفتخرون بموسى وعيسى. وبالتوراة والإنجيل وما كان للعرب ما يقابل ذلك، فلما بعث الله محمدا وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائد على شرف جميع الأمم٢.
﴿ يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ﴾ وعهد ربنا جل ثناؤه نبينا أن يتلوا علينا آيات الله وأن يطهرنا ويحلي نفوسنا بكريم الخصال ويخليها عن ذميم الأقوال والأفعال ﴿ قد أفلح من زكاها ﴾٣ وأمانة تعليمنا الكتاب والسنة أداها الرسول الأمين عليه الصلوات والتسليم وورثنا أداء تلك الأمانات ﴿ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني٤... ﴾ وحذر وأنذر من كتم علما أو قعد عن تبيان الحق، أو حاد عن طريق الرشد فقال﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ﴾٥.
مما أورد النيسابوري في معنى ﴿ يزكيهم ﴾ : الإرشاد يتم بأمرين التحلية والتخلية، فكما يجب على المعلم التنبيه على نعوت الكمال ليحظى المتعلم بها يجب عليه التحذير عن النقصان ليتحرز عنها وذلك بنحو ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة من الوعد والإيعاد، والوعظ والتذكير، والتشبث بأمور الدنيا لتتقوى بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح ولذلك مدح بأنه على خلق عظيم وأنه أوتي مكارم الأخلاق. ١ه.
﴿ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ﴾ مما نقل عن ابن إسحق : في عمياء من الجاهلية لا تعرفون حسنة ولا تستغيثون من سيئة، صم عن الحق عمي عن الهدى. ١ه. فبعثة هذا الرسول بعد الجهل والحيرة تكون نعمة عظم موقعها ورحمة تم فضل الله بها على المؤمنين.
١ من سورة الزخرف من الآية ٤٤..
٢ من تفسير غرائب القرآن..
٣ سورة الشمس.
٤ سورة يوسف من الآية ١٠٨..
٥ سورة البقرة الآيتان ١٥٩-١٦٠..
﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ عن قتادة : أصيبوا يوم أحد قتل منهم سبعون يومئذ وأصابوا مثليها يوم بدر قتلوا من المشركين سبعين... ذكر لنا أن النبي الله صلى الله عليه قال لأصحابه يوم أحد لما قدم أبو سفيان والمشركون فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ( إنا في جنة حصينة ) يعني بذلك المدينة ( فدعوا القوم أن يدخلوا علينا نقاتلهم ) فقال له ناس من أصحابه من الأنصار : يا نبي الله إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة وقد كنا نمتنع في الغزو في الجاهلية فبالإسلام أحق أن نمتنع فيه، فابرز بنا إلى القوم فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لامته فتلاوم القوم فقالوا عرض النبي صلى الله عليه وسلم القوم بأمر وعرضتم بغيره، اذهب يا حمزة وقل لنبي الله أمرنا لأمرك تبع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنه ليس لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يناجز وإنه ستكون فيكم مصيبة ) قالوا يا نبي الله : خاصة أوعامة ؟ قال ( سترونها ) ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن بقرا تنحر فتأولها قتلا في أصحابه، ورأى أن سيفه ذا الفقار انقصم فكان قتل عمه حمزة، قتل يومئذ وكان يقال له أسد الله، ورأى أن كبشا أغبر فتأوله كبش الكتيبة عثمان بن أبي طلحة أصيب يومئذ وكان معه لواء المشركين، وعن عكرمة ﴿ قلتم أنى هذا ﴾ إذ نحن مسلمون نقاتل غضبا لله وهؤلاء مشركين، ﴿ قل هو من عند أنفسكم ﴾ عقوبة لكم بمعصيتكم النبي صلى الله عليه وسلم حين قال ١ه. وعن ابن إسحق : إنكم أحللتم ذلك بأنفسكم ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير. ١ه.
والهمزة للاستفهام الذي يعني اللوم و﴿ أنى هذا ﴾ يعني من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ؟ - وفي الآية -على ما قيل- جواب ضمني عن استبعادهم تلك الإصابة، ويعني أن أحوال الدنيا لا تدوم على حالة واحدة فإذا أصبتم منهم مثل ما أصابوا منكم وزيادة فما وجه الاستبعاد ؟ لكن صرح بجواب آخر يبري العليل ويشفي الغليل وتطأطئ منه الرؤوس، فقال سبحانه ﴿ قل ﴾ يا محمد في جواب سؤالهم الفاسد ﴿ هو ﴾ أي هذا الذي أصابكم كائن ﴿ من عند أنفسكم ﴾ أي أنها السبب حيث خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتركهم المركز وحرصوا على الغنيمة فعاقبهم الله تعالى بذلك، قاله عكرمة١.
١ نقله صاحب روح المعاني..
﴿ وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين ﴾ والذي أصابكم حين التقى جمعكم بجمع المشركين يوم أحد إنما كان بعلم الله تعالى وقدره ﴿ وليعلم المؤمنين ﴾ –المراد ليظهر للناس ويثبت لديهم إيمان المؤمن -١
١ نقله صاحب روح المعاني..
﴿ وليعلم الذين نافقوا ﴾ [ المراد بالعلم هنا التمييز والإظهار لأن علمه تعالى ثابت قبل ذلك والمراد بالمنافقين هنا عبد الله بن أبي وأصحابه ؛ قوله ﴿ وقيل لهم ﴾ هو معطوف على قوله ﴿ نافقوا ﴾ أي ليعلم الله الذين نافقوا والذين قيل لهم ﴿ تعالوا قاتلوا في سبيل الله ﴾ إن كنتم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر ﴿ أو ادفعوا ﴾ عن أنفسكم إن كنتم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فأبوا جميع ذلك وقالوا ﴿ لو نعلم قتالا لاتبعناكم ﴾... لو كنا نقدر على القتال ونحسنه لاتبعناكم ولكنا لا نقدر على ذلك ولا نحسنه، وعبر عن نفي القدرة على القتال بنفي العلم به لكونها مستلزمة له... وقيل معناه رابطوا، والقائل للمنافقين هذه المقالة هو عبد الله بن حرام الأنصاري والد جابر بن عبد الله، وقوله ﴿ هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ﴾ أي هم في هذا اليوم الذي انخذلوا فيه عن المؤمنين إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان عند من كان يظن أنهم مسلمون، لأنهم قد بينوا حالهم وهتكوا أستارهم وكشفوا عن نفاقهم إذ ذاك، ... ﴿ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ﴾ أقوالهم التي تتكلم بها ألسنتهم تخالف ما هو مستقر في صدورهم فهم يدعون الإيمان وقلوبهم ليس فيها إلا الكفر والأضغان، ولعل من الحكمة في ذكر ﴿ بأفواههم ﴾ بعد القول- وهو لا يكون إلا بالأفواه – التوكيد على أنهم نطقوا بهذا وتفوهوا به وذلك مثل قول المولى سبحانه﴿ .. ولا طائر يطير بجناحيه.. ﴾١. ﴿ والله أعلم بما يكتمون ﴾ علم ربنا محيط بكل ما ظهر وبطن ويعلم ما يبدي العباد وما يخفون ويعلم السر وما هو أخفى – مطلع عليه ومحصيه عليهم حتى يهتك أستارهم في عاجل الدنيا فيفضحهم به ويصليهم به الدرك الأسفل من النار في الآخرة.
١ من سورة الإنعام الآية ٣٨..
القول في تأويل قوله جل ثناؤه :﴿ الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ﴾ يعني تعالى ذكره بذلك : وليعلم الله الذين نافقوا الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا... وقعد هؤلاء المنافقون القائلون ما قالوا مما أخبر الله عز وجل عنهم قيلهم عن الجهاد مع إخوانهم وعشائرهم في سبيل الله... لو أطاعنا من قتل بأحد من إخواننا وعشائرنا.. ما قتلوا هنالك قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه سلم : قل يا محمد لهؤلاء القائلين هذه المقالة من المنافقين ﴿ فادرؤوا ﴾ يعني فادفعوا.. إن كنتم أيها المنافقون الصادقون في قيلكم لو أطاعنا إخواننا في ترك الجهاد في سبيل الله مع محمد صلى الله عليه وسلم وقتالهم أبا سفيان ومن معه من قريش ما قتلوا هنالك بالسيف وكانوا أحياء بقعودهم... فإنكم قد قعدتم عن حربكم وقد تخلفتم عن جهادهم وأنتم لا محالة ميتون-١ عن السدي : هم عبد الله بن أبي وأصحابه.
١ من جامع البيان..
لما بين سبحانه أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحانا ليتميز المؤمن من المنافق والكاذب من الصادق بين ههنا أن من لم ينهزم وقتل فله عند الله هذه الكرامة والنعمة وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون١ ؛ لا يظنن ظان أن الذين قتلوا مجاهدين في سبيل الله أمواتا بل هم أحياء، وقد صح٢ أن حياتهم محققة ؛ ﴿ عند ربهم يرزقون ﴾ [ فيه حذف مضاف تقديره عند كرامة ربهم و﴿ عند ﴾ هنا تقتضي غاية القرب... قال سيبويه فهذه عندية الكرامة لا عندية المسافة والقرب ]٣.
١ من فتح التقدير..
٢ في مصنف أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه وسلم (لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيمهم قالوا من يبلغ إخوانا عنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب فقال الله سبحانه أنا أبلغهم عنكم) قال فأنزل الله: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا..﴾ إلى آخر الآيات، وروى مسلم في صحيحه عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ فقال: أما إنا قد سألنا عن تلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع عليهم ربهم اطلاعه فقال هل تشتهون شيئا فقالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا) ومما روى البخاري عن جابر حين بكى لموت أبيه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (مازالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع)..
٣ ما بين العلامتين [] من الجامع لأحكام القرآن..
﴿ فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ الشهداء في سرور وحبور بما وهبهم البر الرحيم من نعيم وعطاء عظيم ويسرون ويفرحون كذلك بما أعد الله تعالى لإخوانهم في الإيمان الذين ما زالوا بعد أحياء، قال الزجاج : الإشارة بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم إلى جميع المؤمنين وإن لم يقتلوا ولكنهم لما عاينوا ثواب الله وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم من فضله مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ١ه.
﴿ يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ﴾ يبتهج الشهداء بما تفضل عليهم المولى سبحانه من رضاه ونعيمه وبما شاهدوا من منازل السلامة والكرامة التي سيحل بها أهل الإيمان- النفس تبقى لها علاقة مع بدئها لا بالتحريك واكتساب الأعمال ولكن بالتلذذ والتألم ونحوها، وليس ببدع أن يتغير التعلق بحسب تغير الأطوار كما يتغير في مدة العمر بحسب الأسنان والأمزجة، والتحقيق فيه أن في هذا العالم جعلت متصرفة في البدن لأجل اكتساب الأعمال والملكات وأنه يفتقر إلى تحريك الأعضاء وأعمال الجوارح والآلات، وبعد الموت تجعل متصرفة فيه من جهة الجزاء والثواب فكيف يقاس أحدهما على الآخر، فلعله يكفي بعد الموت أن يكون له علاقة التلذذ والتألم والإدراك فقط إلى أن تقوم القيامة الكبرى ؛ وهذا القدر لا ينافي كون البدن مشاهدا في القبر بلا تحرك ولا إحساس ولا نطق، ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وقال :( يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا فإني وجدت ما وعدني الله حقا ) فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها قال ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا ) وفي حديث عذاب القبر ( إنه ليسمع قرع نعالهم )-١.
١ تفسير غرائب القرآن..
﴿ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ﴾ هذه بشرى لمن تابع الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دون وهن لما أصابهم أو استكانة لعدوهم محتملين الأثخان والجراحات التي ألمت بهم، و﴿ الذين ﴾ بدل من ﴿ المؤمنين ﴾ أو نعت لهم أو مبتدأ خبره ﴿ للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ﴾ و﴿ استجابوا ﴾ أي أطاعوا ؛ ﴿ القرح ﴾ الجراح والقتل و﴿ من ﴾ في ﴿ منهم ﴾ للبيان فكلهم – رضوان الله عليهم- محسن وتقي. عن عكرمة قال : كان يوم أحد السبت للنصف من شوال فلما كان الغد من يوم أحد يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله بن عمر وبن حرام فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال لي يا ابني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم ؛ وعن أبي السائب أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل كان شهد أحدا، فقال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين فلما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي أو قال لي : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما لنا من دابة نركبها. وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحا منه، فكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال فأقام بها ثلاثا الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة.
وعن السدي : انطلق أبو سفيان منصرفا من أحد حتى بلغ بعض الطريق ثم إنهم ندموا وقالوا بئسما صنعتم إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشديد تركتموهم ارجعوا واستأصلوهم فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزوا فأخبر الله رسوله فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ثم رجعوا من حمراء الأسد فأنزل الله جل ثناؤه فيهم ﴿ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ﴾.
﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾ ؛ نقل عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمر وابن حزم قال : مر به -يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم – معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة ١ نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقتهم ٢ معه لا يخفون عليه شيئا كان بها ومعبد يوم مشرك، فقال : والله يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.. فلما رأى أبا سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في مجمع لم أر مثله قط ؛ قال ويلك ؟ ما تقول ؟ قال والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل... فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومر به ركب من عبد القيس فقال أين تريدون ؟ قالوا نريد المدينة قال ولم ؟ قالوا نريد الميرة، قال فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتمونا ؟ قالوا نعم قال : فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه ولأصحابه لنستأصل بقيتهم فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبا سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾ ؛ وعن السدي : لما ندموا –يعني أبا سفيان وأصحابه- على الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا : أرجعوا فاستأصلوهم فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزموا فلقوا أعرابيا فجعلوا له جعلا، فقالوا له : إن لقيت محمدا وأصحابه فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم فأخبر الله جل ثناؤه ورسوله صلى الله عليه وسلم فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد فلقوا الأعرابي في الطريق فأخبرهم الخبر، فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ثم رجعوا من حمراء الأسد فأنزل الله فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم :﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾. ﴿ فاخشوهم ﴾ فخافوا ولا تقفوا في وجه هذا الجمع الوفير. ﴿ فزادهم إيمانا ﴾ زاد القول المثبط الذين استجابوا لله والرسول إيمانا ٣ فأمعنوا في طلب عدوهم متوكلين على ربهم.
١ العيبة وعاء يوضع فيه حر المتاع ونفيس الثياب والعرب تكني عن الصدور والقلوب التي تحتوي على الضمائر المخفاة بالعياب وعيبة الرجل موضع سره وبيننا وبينهم عيبة مودة ومصافاة، فخزاعة كانت تخلص النصح وتحفظ السر، تصدق الود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم..
٢ بيعتهم وحشدهم وضرب أسيافهم..
٣ أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن ما حاصله: فزيادة الإيمان على هذا في الأعمال والزيادة والنقصان في متعلقاته دون ذاته، وفيه حجة على من أنكر أن يكون الإيمان يزيد وينقص، وهذا المعنى موجود في حديث الشفاعة حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم وفيه: (فيقول المؤمنون يا رب إخواننا كانوا يصومون ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتهم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقول ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه).
﴿ فانقلبوا بنعمة من الله وفضل ﴾ العطف بالفاء على محذوف تقديره فخرجوا في طلب أعداء الله فولى الأعداء ورجعوا هم والحال أنهم قد فازوا بتسليم الله إياهم وتثبيته يقينهم، وبعز بين الخلق والرضوان من الخالق جل علاه، وقد اتبعوا في كل أحوالهم ما فيه الفوز بمرضاة الله وثوابه ونعيمه والله هو المتفضل عليهم بهدايتهم إلى الحق والرشد وبكل فضل لا يحد مداه.
﴿ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ﴾ اعلموا أهل الإيمان أن إبليس وجنده من شياطين الإنس والجن يوسوسون إلى أوليائهم ليثبطوهم عن القتال كما فعلت وسوستهم في نفس عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين وذهب جمع من المفسرين إلى أن المعنى أن الشيطان يخوف أولياءه وهم الكافرون ؛ ﴿ فلا تخافوهم ﴾-أي أولياءه الذين يخوفكم بهم الشيطان، أو فلا تخافوا الناس المذكورين في قوله ﴿ أن الناس قد جمعوا لكم ﴾ نهاهم سبحانه عن أن يخافوهم فيجبنوا عن اللقاء... ؛ وأمرهم بأن يخافوه سبحانه فقال ﴿ وخافون ﴾ فافعلوا ما آمركم به واتركوا ما أنهاكم عنه، لأني الحقيق بالخوف مني والمراقبة لأمري ونهيي لكون الخير والشر بيدي، وقيده بقوله ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ لأن الإيمان يقتضي ذلك-١ ؛ ومثله قول الله تعالى ﴿ ... فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ﴾٢.
١ من فتح التقدير..
٢ من سورة النساء من الآية ٧٦..
﴿ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ﴾ في هذا النهي تسلية وتقوية فإن الوقوع في القبيح مما يألم له المؤمن فكيف بالمسارعة إلى الجحود، وشدة الرغبة في الضلال والإضلال والمبادرة إلى كل ما يبتغون به للمؤمنين والهلاك والخبال ؟ قال القشيري : والحزن على كفر الكافر طاعة ولكن النبي صلى الله عليه سلم كان يفرط في الحزن كما قال تعالى ﴿ .. فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.. ﴾ ١ وقال سبحانه ﴿ .. فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم تؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾٢. وهكذا فالمؤمن الصادق له في رسول الله تعالى – وهو المبعوث رحمة للعالمين – أسوة حسنة، يألم لضلال الضالين ويأسف لغواية الغاوين لكن يتسلى بأن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ؛ ﴿ إنهم لن يضروا الله شيئا ﴾ لن ينقصوا من ملك الله تعالى وسلطانه بغيهم وبغيهم فمما روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربنا تبارك وتعالى ﴿ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ﴾.
وبعضكم يرى أن الكلام على حذف مضاف والمراد أولياء الله وفي حذف ذلك وتعليق نفي الضرر به تعالى تشريف للمؤمنين وإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى وفي ذلك مزيد مبالغة في التسلية بل وفي التقوية أيضا، فإن المعنى على هذا لا يحزنك خوف أن يضروك فإنهم لن يضروا دين الله ولا أوليائه أبدا. ﴿ يريد٣ الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة ﴾ – فيه دليل على أن الكفر بإرادة الله تعالى وإن عاقب فاعله وذمه لأن ذلك لسوء استعداده المقتضي إفاضة ذلك عليه، ... وفي ذكر الإرادة إيذان بكمال خلوص الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم حيث تعلقت بهما إرادة أرحم الراحمين... وصيغة المضارع للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها... ففيه إشارة إلى بقائهم على الكفر حتى يهلكوا فيه. ﴿ ولهم ﴾ مع هذا الحرمان من الثواب بالكلية ﴿ عذاب عظيم ﴾ لا يقدر قدره-٤.
١ سورة فاطر من الآية ٨..
٢ سورة الكهف الآية ٦..
٣ مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن: فيه دليل على أن إرادة الله تتعلق بالعدم وتنصيص على أن الخير والشر والنفع والضر بإرادة الله١هـ..
٤ من روح المعاني..
﴿ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا١ ولهم عذاب أليم ﴾ من رضي بنكران ما يجب اليقين به ورغب في الكفر والشك والشرك وأعرض عن التصديق بالحق وتركه فلن ينقص بجحوده من ملك الله شيئا ولن ينطفئ نور الهدى ولن يشفى غيظه على أهل البر والتقى، وإنما ضرره راجع عليه في أولاه بالتدمير وفي أخراه يصلى حر السعير.
١ منصوب لوقوعه موقع المصدر ويجوز انتصابه على تقدير حذف الباء..
﴿ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ﴾ لا يظنن كافر أن إمهال الله تعالى له وتنعيمه وحمله عليه فيه الخير له١ كلا ﴿ إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ﴾ وذلك كقول المولى تقدست أسماؤه ﴿ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ﴾٢ ومهما أوتوا من متاع فإنهم به مستدرجون ؛ ﴿ ... سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين ﴾٣.
﴿ إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ﴾ [ والآية نص في بطلان مذهب القدرية ؛ لأنه أخبر أنه يطيل أعمارهم ليزدادوا الكفر بعمل المعاصي وتوالي أمثاله على القلب كما تقدم في بيان ضده وهو الإيمان ]. ٤
١ مما نقل صاحب الجامع لأحكام القرآن: وروي عن ابن مسعود قال: ما من أحد بر ولا فاجر إلا الموت خير له فإن كان برا فقد قال الله تعالى ﴿وما عند الله خير للأبرار﴾ وإن كان فاجرا فقد قال تعالى ﴿إنما نملي لهم ليزدادوا إثما...﴾..
٢ من سورة المؤمنون الآيتان ٥٥-٥٦..
٣ من سورة القلم من الآية ٤٤ إلى الآية ٤٥..
٤ ما بين العلامتين[] من الجامع لأحكام القرآن..
﴿ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ﴾ قال مجاهد : ميز بينهم يوم أحد وقال قتادة : ميز بينهم بالجهاد والهجرة والحق أنها سنة من سنن مولانا الحكيم – تقدست أسماؤه فهو يقول ﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ﴾١ وهي سنة لا تبدل فيها ولا تحول تمضي في الآخرين كما مضت في الأولين، ﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾٢ وقال تباركت آلاؤه ﴿ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ﴾٣، وقال جل ثناؤه ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ﴾٤ – أي لابد أن يعقد شيئا من المحنة، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين فظهر به صبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله وهتك به ستار المنافقين فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم٥. وروى ابن جرير : حتى يخرج المؤمن من الكافر. قال أبو معاذ : مزت الشيء أميزه ميزا إذا فرقت بين شيئين فإن كانت أشياء قلت ميزتها تمييزا. ﴿ وما كان الله ليطلعكم على الغيب ﴾ [ أي ما كان الله ليعين لكم المنافقين حتى تعرفوهم ولكن يظهر ذلك لكم بالتكليف والمحنة وقد ظهر ذلك في يوم أحد فإن المنافقين تخلفوا وأظهروا الشماتة فما كنتم تعرفون هذا الغيب قبل هذا، فالآن قد أطلع الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام وصحبه على ذلك، وقيل معنى ﴿ ليطلعكم ﴾ أي وما كان ليعلمكم ما يكون منهم... ؛ ﴿ ولكن الله يجتبي ﴾أي يختار ﴿ من رسله ﴾ لاطلاع غيبه ﴿ من يشاء ﴾ ]٦. ﴿ فآمنوا بالله ورسوله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ﴾ نقل عن الكلبي فقال : قالت قريش تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك فنزلت، فعلى هذا يكون الخطاب موجها إلى من ظلوا على كفرهم، لكن الخطاب كان في أول الآية مع المؤمنين، فإذا راعينا السياق فيمكن أن يكون المعنى آمنوا الإيمان الخالص واثبتوا على هذا اليقين معشر المؤمنين، فإن أهل التصديق الراسخ، والتقوى التي تملأ القلوب فتفيض على الجوارح أعد الله تعالى لهم الجزاء الأوفى، والثواب الأبقى.
١ سورة العنكبوت الآية ٢..
٢ سورة العنكبوت الآية ٣..
٣ سورة التوبة الآية ١٦..
٤ سورة البقرة الآية ٢١٤..
٥ من تفسير القرآن العظيم..
٦ ما بين العلامتين [] من الجامع لأحكام القرآن..
﴿ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خير لهم بل هو شر لهم ﴾ ذهب بعض النحويين إلى أن في الكلام محذوفا، والتقدير : لا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم و﴿ بل ﴾ لإبطال حسبانهم فالحق أن البخل شر لهم. عن السدي : هم الذين آتاهم الله من فضله فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله ولم يؤدوا زكاتها، ومما يقول الواحدي : وفي حكم الزكاة سائر المصارف الواجبة كالإنفاق على النفس وعلى الأقربين الذين يلزمه مؤنتهم، وعلى المضطر وفي الذب عن المسلمين إذا قصدهم عدو وتعين دفعهم بالمال. ﴿ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ﴾ سيجعل لهم يوم القيامة طوق في النار، والبخل أن يمنع الإنسان الحق الواجب عليه١ وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشح والضن والإمساك عن البذل فيما أمرنا الله أن نبذل فيه. ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم ). وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ( من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا٢ أقرع٣ له زبيبتان٤ يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ٥ ثم يقول أنا مالك أنا كنزك -ثم تلا هذه الآية – ﴿ ولا يحسبن الذين يبخلون ﴾ الآية.
﴿ ولله ميراث السماوات والأرض ﴾ يبطل ملك جميع المستخلفين ممن سموا مالكين فلا يبقى إلا الملك ذي القوة المتين - أخبر تعالى ببقائه ودوام ملكه وأنه في الأبد كهو في الأزل، غني عن العالمين فيرث الأرض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم، فتبقى الأملاك والأموال لا مدعى فيها فجرى هذا مجرى الوارثة في عادة الخلق، وليس لها بميراث في الحقيقة لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن يملكه من قبل، والله سبحانه وتعالى مالك السماوات والأرض وما بينهما، وكانت السماوات وما فيها، والأرض وما فيها له، وأن الأموال كانت عارية عند أربابها ؛ فإذا ماتوا ردت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل ونظير هذه الآية قوله تعالى ﴿ إنا نحن نرث الأرض ومن عليها... ﴾٦ الآية. والمعنى في الآيتين أن الله تعالى أمر عباده بأن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا٧ ؛ ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ مما يقول ابن جرير : إنه بما يعمل هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من الفضل وغيرهم من سائر خلقه ذو خبرة وعلم محيط بذلك كله، حتى يجازي كلا منهم على قدر استحقاقه، المحسن بالإحسان والمسيء على ما يرى تعالى ذكره.
١ ونقل عن ابن عباس: يعني بذلك أهل الكتاب أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس لكن الآية الكريمة وما بعدها يشير إلى منع الزكاة، فرعاية السياق أولى..
٢ حية ذكرا..
٣ تمرط جلد رأسه لكثرة سمه وطول عمره..
٤ نكتتان سوداوان فوق عينيه..
٥ شدقية..
٦ من سورة مريم من الآية ٤..
٧ من الجامع لأحكام القرآن..
عن عكرمة عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر رضي الله عنه بيت المدارس فوجد يهودا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص –وكان من علمائهم وأحبارهم- فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله تعالى وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلا الله تعالى من فقر وإنه إلينا لفقير وما نتضرع إليه كما تضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، وإنه ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا ؛ فغضب أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله تعالى ؛ فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه ( ما حملك على ما صنعت ) ؟ قال : يا ر سول الله قال قولا عظيما، يزعم أن الله تعالى شأنه فقير وهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله تعالى مما قال فضربت وجهه، فجحد فنحاص فقال ما قلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص تصديقا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه هذه الآية وأنزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب ﴿ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا.. ﴾ الآية.
﴿ سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ﴾ ستكتب ملائكتنا أقوال هؤلاء السفهاء وسيكتبون قتلهم الأنبياء ظلما والسين للتأكيد ؛ وفي هذا ما فيه من الوعيد، لأنهم سيجزون بأقوالهم وأفعالهم التي تناهت في السوء والبغي وإنما نسبوا إلى قتل الأنبياء وأجدادهم هم القتلة لأنهم رضوا بفعلهم فشاركوهم بهذا الرضا جرمهم.
﴿ ونقول ذوقوا عذاب الحريق ﴾ – سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يبقى على لسان الأمة إلى يوم القيامة. ثم عطف عليه قتلهم الأنبياء ليدل على أنهم كما لم يقدروا الله حق قدره حتى نسبوا إليه ما نسبوه، فكذلك لم يقضوا حقوق الأنبياء ففعلوا بهم ما فعلوا، ﴿ ونقول ذوقوا عذاب الحريق ﴾... أي ذات حرقة والمعنى : ينتقم منهم فيقول لهم ذوقوا عذاب النار كما أذقتم المسلمين جرع الغصص وهذا القول يحتمل أن يقال عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتب...
﴿ ذلك ﴾ العذاب أو الوعيد ﴿ بما قدمت أيديكم ﴾ من السب والقتل، وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال يباشر باليد، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب، وإن كان بعضه باللسان أو بسائر الجوارح... ﴿ وأن الله ﴾ أي وبأن الله ﴿ ليس بظلام للعبيد ﴾... إنه مالك الملك والمالك إذا تصرف في ملكه كيف يشاء لم يكن ذلك ظلما.. نفى حقيقة الظلم عنه في قوله :﴿ وما ظلمناهم ١... ﴾، ولكنه نفى ههنا كثرة الشر والظلم أن يصدر عنه كأنه قال : إن خيل إليكم أن في الوجود شرا بناء على ما في ظنكم من أن الحكيم قد يصدر عنه الشر القليل بتبعية الخير الكثير، فاعلموا أني منزه عن صدور الشر الكثير مني، وأن هذا من الشر القليل الذي في ضمنه خير كثير-. ٢
١ من سورة هود من الآية ١٠١..
٢ من تفسير غرائب القرآن..
﴿ الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ﴾ قال عطاء : كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف، فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه، وبنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء، لها دوي وحفيف ولا دخان لها، فتأكل ذلك القربان، وهو البر الذي يتقرب به إلى الله تعالى. وقال الكلبي : نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا.. وحيي بن أخطب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا وأنزل عليك الكتاب : وإن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فإن جئتنا به صدقناك فنزلت.
﴿ قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ﴾ نقل عن السدي أن الشرط جاء في التوراة هكذا : من جاء يزعم أنه رسول الله تعالى فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما الصلاة والسلام فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان. لكن جمهرة من العلماء قالوا بعدم ثبوت هذا الشرط أصلا ؛ والله تبارك وتعالى يؤتي نبيه حجته ليبكتهم ويظهر كذبهم إذ أتتهم رسل كثيرة بالحجج الواضحات وبالقربان الذي تأكله النار، ومع ذلك لم يؤمنوا بهم بل اجترؤوا على قتلهم مما يقطع بعظيم بغيهم وبالغ كذبهم.
﴿ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ﴾ ليعلم الله الحليم نبيه العظيم بأنه ليس بدعا في النبيين بل سنة الله فيه وفيمن يدعوهم هي سنته فيمن مضى من إخوانه المرسلين فقد كذبهم أقواهم وعموا عن البرهان والسلطان الذي آتاهم الله، وصموا عن سماع الحق الذي أنزل عليهم وهو وحي الحميد المجيد وكلامه، فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون.
﴿ كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾ وعظ ووعد ووعيد، وعظ بأن الأولى دار ممر، وأن الآخرة هي المستقر، الأولى لعب وزينة وتفاخر وتكاثر والآخرة سعادة دائمة أو شقوة لا تنتهي. وفي الآية الكريمة وعد لأهل الصدق بالتنحية عن النار والفوز بالجنة مع الأبرار ووعيد للمغرورين أنهم سيحاسبون وسيجزون الجزاء الأوفى بما كانوا يعملون ﴿ فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ﴾١ ؛ ﴿ توفون ﴾ تعطون الأجور كاملة يوم الجزاء فأما -ما يقع من الأجور في الدنيا أو في البرزخ فإنما هو بعض الأجور، والزحزحة : التنحية والإبعاد... ﴿ فاز ﴾ ظفر بما يريد ونجا مما يخاف.. اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة ولا عيش إلا عيشها ولا نعيم إلا نعيمها فاغفر ذنوبنا واستر عيوبنا واعرض عنا رضا لا سخط بعده واجمع لنا بين الرضا منك علينا والجنة -٢.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله وباليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ). وروى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها )٣. وفي البخاري من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اللهم باسمك أموت وباسمك أحيا ) وفيه ( خذ من حياتك لموتك ).
١ من سورة النزعات الآيات من ٣٧ إلى ٤١..
٢ من فتح القدير في علم التفسير..
٣ وعند ابن أبي حاتم بزيادة " اقرؤوا إن شئتم ﴿فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز﴾ رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد وغيرهم..
﴿ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ﴾ كأن المعنى والله لتختبرن في أموالكم ولتختبرن في أنفسكم، ولقد قضى ربنا بحكمته أن يكون الاختبار قرين الاستخلاف١، ﴿ .. خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا... ﴾٢ ﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ﴾٣، .. ﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾٤- ﴿ في أموالكم ﴾ بالفرائض فيما والجوائح... والأولى القول بالعموم، ﴿ و ﴾ في ﴿ أنفسكم ﴾ بالقتل والجراح والأسر والأمراض وفقد الأقارب وسائر ما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد، وقدم الأموال على الأنفس للترقي إلى الأشرف.. -. ٥ ﴿ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ﴾ ؛ روى البخاري بسنده عن أسامة بن زيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية ٦، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد ابن عبادة ببني الحارث بن الخز رج قبل وقعة بدر حتى مر على مجلس به عبد الله بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يسلم ابن أبي، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف، فنزل ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه : بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى سكتوا ثم ركب النبي صلى الله عليه سلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب ) ؟ يريد عبد الله بن أبي ( قال كذا وكذا ) فقال سعد : يا رسول اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ والمولى العليم الخبير يهتك أستارهم ويبين أحقادهم ويقول ﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره.. ﴾٧، وكذا حال أهل الشرك ﴿ وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه.. ﴾٨، ﴿ أذى كثيرا ﴾ – كالطعن في الدين وتخطئة من آمن والافتراء على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والتشبيب بنساء المؤمنين ﴿ وإن تصبروا ﴾ على تلك الشدائد عند ورودها ﴿ وتتقوا ﴾ أي تتمسكوا بتقوى الله تعالى وطاعته والتبتل إليه بالكلية إليه والإعراض عما سواه بالمرة بحيث يستوي عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه :﴿ فإن ذلك ﴾... الصبر والتقوى... ﴿ من عزم الأمور ﴾ أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل واحد... أو مما عزمه الله تعالى وأوجبه على عباده-٩.
١ في المأثور ما يفيد أن الامتحان يأتي على قدر رسوخ اليقين فإن عظم الأجر بقدر عظم المصيبة ومنه ما روى مرفوعا ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه وما يزال بالعبد حتى يمشي على وجه الأرض ما عليه خطيئة)..
٢ سورة الملك من الآية ٢..
٣ سورة البقرة الآية ١٥٥..
٤ سورة الأنبياء من الآية ٣٥..
٥ من روح المعاني..
٦ نسبة على فدك بلدة بجوار المدينة..
٧ من سورة البقرة الآية ١٠٩..
٨ سورة سبأ من الآية ٣١..
٩ من روح المعاني..
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ﴾ قال الحسن وقتادة ومحمد بن كعب : إن الآية عامة لكل عالم فالذين أوتوا الكتاب على هذا كل ما آتاه الله علم شيء من الكتاب أي كتاب كان، ويشهد لذلك قول أبي هريرة : لولا ما آخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ؛ ثم تلا هذه الآية ؛ لتظهرن للناس أمانات الكتاب الذي علمتم ولا تخفوا منه شيئا، قال قتادة : هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإن كتمان العلم هلكة، ولا يتكلفن رجل ما له علم به فيخرج من دين الله فيكون من المتكلفين، كان يقال : مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب، وكان يقال : طوبى لعالم ناطق، وطوبى لمستمع واع، هذا رجل علم علما فعلمه وبذله ودعا إليه، ورجل سمع خيرا فحفظه ووعاه وانتفع به.
﴿ فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ﴾ طرحوا العمل بما جاءهم من العلم وألقوه وراء ظهورهم حتى لا يذكر أبدا، وأخذوا مقابل كتمانهم الحق وتركهم العمل بما يهدي إلى الرشد- أخذوا به متاعا من حطام الدنيا فبئس شيئا يشترونه ذلك الثمن.
﴿ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ﴾ الخطاب لكل ما يصلح له ؛ ومعناه : لا تظن و﴿ أتوا ﴾يعني فعلوا ويتمنون أن يحمدهم الناس أو المسلمون بأمر لم يفعلوه، فلا تظنهم أنهم بمنجاة من عذاب النار، بل لهم العذاب الموجع. روى البخاري وغيره عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم سألهم -أهل الكتاب- عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه ؛ – من هنا يعلم بعد القول بأن الأولى إجراء الموصول على عمومه شاملا لكل من يأتي من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ويود أن يحمده الناس بما هو عار منه من الفضائل.. نعم يزيده بعدا ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم.. أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرحا بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب ١ ثم تلا ﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب.. ﴾ إلى آخر الآيتين.. - ٢.
١ وفي رواية عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو واعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت ﴿لا تحسبن الذي يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا﴾ الآية..
٢ من روح المعاني..
﴿ ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ﴾[ أي هو مالك كل شيء فلا يعجزه شيء فهابوه ولا تخالفوه واحذروا غضبه ونقمته فإنه العظيم الذي لا أعظم منه، القدير الذي لا أقدر منه ]١.
١ ما بين العلامتين [] من تفسير القرآن العظيم..
﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ﴾ من حجج الله تعالى وعلامات حكمته واقتداره ما بث في الكون من عجائب في إتقانها وعجيب صنعها ما يشهد أن بديع السماوات والأرض سبحانه واحد لا شريك له ولا مثيل له، لا ند له ولا ضد، وفي تسخيره هذه المخلوقات لنا ما يحمل كل عاقل على شكر المنعم الذي قدر ويسر، ولعل هذا الإخبار يراد به الطلب فكأنه : تدبروا أيها الناس واعتبروا، ففي بنيان السماء الذي لم يتشقق، وفي رفعها بدون عمد وفي سعتها ١ وعظيم خلقها وفي علو قدرها وشرف ملئها وفي كواكبها ونجومها وشمسها وقمرها معتبر ومدكر لكل صاحب عقل سليم جوهره ؛ وفي الأرض التي ذللت وبسطت ومهدت وحولت السهل والجبل والماء واليابسة، وضمت أقوات العباد بل ومن ترابها كان جسد آدم عليه السلام وتحت أديمها تغيب عظامنا ورفاتنا، ويوم البعث تشقق عن أجسادنا مصداقا لوعد ربنا :﴿ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ﴾٢ في هذا الكوكب الذي باركه الله ذكرى لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ؛ وفي تعاقب الليل والنهار برهان ونعمة، فمن رحمته جعل الليل سكنا وجعل النهار معاشا فتبارك الله أحسن الخالقين ؛ وفي فضل هذه الآيات المحكمات ٣ وردت الأحاديث.
١ نقل عن رائد الفضاء الأمريكي قوله: عندما وقع علي الاختيار لبرنامج الفضاء كان بين أوائل الأشياء التي أعطيت لي كتيب صغير يحوي الكثير من المعلومات في الفضاء، وكان بين محتوياته فقرتان يتعلقان بضخامة الكون أثرتا في تأثيرا بالغا؛ عندما نذكر أن المجرة التي تضم كوكبنا يبلغ قطرها حوالي مائة ألف سنة ضوئية نشعر بدهشة ولما كانت الشمس نجما لا يعتد به تقع على مسافة حوالي ثلاثين ألف سنة ضوئية بين مركز المجرة ويدور في مدار خاص به كل مائتي مليون سنة أثناء دوران المجرة، فإننا ندرك مدى صعوبة المقاييس الهائل لكون الواقع وراء المجموعة الشمسية بل إن الفضاء الذي يقع بين النجوم في مجرتنا ليس نهاية هذا الكون، فوراءه الملايين من المجرات الأخرى تندفع جميعا فيما يبدو متباعدة عن بعضها بسرعات خيالية وتمتد حدود الكون المرئي بالمجهر مسافة ألفي مليون سنة ضوئية.
٢ سورة طه الآية ٥٥..
٣ أخرج ابن حبان في صحيحه عن عطاء قال: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله تعالى عليه وسلم، قالت: وأي شأنه لم يكن عجبا ؟ إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال (ذريني أتعبد لربي) فقام فتوضأ ثم قام ليصلي فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم وما تأخر من ذنبك؟ قال (أفلا أكون عبدا شكورا ولم لا أفعل وقد أنزل الله تعالى علي في هذه الليلة ﴿إن في خلق السموات والأرض﴾ إلى قوله سبحانه ﴿فقنا عذاب النار﴾ ثم قال (ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)..
﴿ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ﴾ لا ينقطعون عن ذكر الله تعالى في جميع أحوالهم بألسنتهم وقلوبهم وعقولهم ويتأملون ويتدبرون بديع صنع ربهم في أنفسهم وفي الكون المحيط بهم ؛ وفي صحيح مسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ﴿ قياما ﴾ و﴿ قعودا ﴾ نصبا على الحال، ﴿ وعلى جنوبهم ﴾ في موضع الحال أيضا أي مضطجعين ومثله قوله تعالى ﴿ .. دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما.. ﴾١، على العكس والفكرة : تردد القلب في الشيء. وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة وفيه : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ الآيات العشر الخواتم من سورة آل عمران وقام إلى شن٢ معلق فتوضأ وضوءا خفيفا ثم صلى ثلاثة عشر ركعة.
﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ﴾ يقول الذاكرون المتفكرون : يا ربنا شهدنا أنك ما خلقت هذه المخلوقات عبثا ولا لعبا ننزه مولانا ونقدسه أن يفعل شيئا إلا لحكمة ؛ فاللهم احفظنا من حر جهنم وشرها وما يقرب إليها من قول أو عمل، وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته، فقال ﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾٣-٤، ويقول صاحب الجامع لأحكام القرآن ما حاصله : ختم تعالى هذه السورة بالأمر بالنظر والاستدلال في آياته، إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير قدوس سلام، غني عن العالمين حتى يكون إيمانهم مستندا إلى اليقين لا إلى التقليد. ١ه.
١ من سورة يونس الآية ١٢..
٢ قربة.
٣ من سورة يوسف الآيتان ١٠٥-١٠٦..
٤ من تفسير القرآن العظيم..
﴿ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ﴾ مما نقل عن الزجاج : أخزى الله تعالى العدو أي أبعده ؛ وعن المفضل أهلكه ؛ وعن ابن الأنباري : الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو بانقطاع حجة أو بوقوع في بلاء واحتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وذلك لأنه رتب فيها العذاب الروحاني وهو الإخزاء بناء على الإهانة والتخجيل على الجسماني الذي هو إدخال النار، وجعل الثاني شرطا والأول جزاء والمراد من الجملة الشرطية الجزاء والشرط قيد له فيشعر أنه أقوى... ، الآية ليست عامة لقوله تعالى ﴿ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا.. ﴾١ فتحمل على من أدخل النار للخلود وهم الكفار، ... ، وأيضا يحتمل أن يقال : الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك، والمثبت هو الأول والمنفي هو الثاني... ﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾ أي : ليس لكل منهم ناصر ينصره ويخلصه مما هو فيه... ، نفي الناصر لا يمنع نفي الشفيع لأن النصر دفع بقوة، والشفاعة تخليص بخضوع وتضرع... ، وأجاب غير واحد- على تقدير عموم الظالم، وعدم الفرق بين النصر والشفاعة- بأن الأدلة الدالة على الشفاعة- وهي أكثر من أن تحصى -مخصصة للعموم-٢.
١ من سورة مريم الآية ٧١. ومن الآية ٧٢..
٢ من روح المعاني..
﴿ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ﴾ ويتضرع ويقول المتفكرون الوجلون متضرعين يا ربنا إننا سمعنا مناديا يقول آمنوا بربكم فصدقنا واستيقنا، عن محمد بن كعب قال : هو الكتاب، ليس كلهم لقي النبي صلى الله عليه وسلم فالمنادي : القرآن ؛ وعن قتادة : سمعوا دعوة من الله فأجابوها فأحسنوا الإجابة فيها وصبروا عليها، ينبئكم الله عن مؤمن الإنس كيف قال، وعن مؤمن الجن كيف قال، فأما مؤمن الجن فقال ﴿ .. إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ﴾١، وأما مؤمن الإنس فقال ﴿ .. إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا.. ﴾ الآية.
﴿ ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ﴾ ويدعون قائلين : يا ربنا فاستر ذنوبنا وإن عظمت وغط ما فرط منا من إساءة، فإنك قلت وقولك الحق ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ﴾٢. وتوفنا مع أهل البر الذين توسعوا في طاعتك فاجعلنا اللهم معدودين منهم وعلى مثل درجاتهم.
١ من سورة الجن من الآية ١ والآية ٢..
٢ من سورة النساء الآية ٣١..
﴿ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ﴾ ويتضرع المؤمنون إلى ربنا يسألونه يا ربنا ونرجوك أن تعطينا ما وعدتنا به على ألسنة رسلك من التأييد على العدو والفوز يوم البعث ﴿ ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ﴾ -وأيدركون المراد بالموعود على ألسنة الرسل – النصر لا الثواب الأخروي – تعقيب ذلك بقوله تعالى ﴿ ولا تخزنا يوم القيامة ﴾ لأن طلب الثواب يغني عن الدعاء لأن الثواب متى حصل كان الخزي عنهم بمراحل، وهذا بخلاف ما إذا كان المراد من الأول الدعاء بالنصر في الدنيا فإن عدم الإغناء عليه ظاهر، بل في الجمع بين الدعاءين حينئذ لطافة إذ مآل الأول : لا تخزنا في الدنيا بغلبة العدو علينا فكأنهم قالوا لا تخزنا في الدنيا ولا تخزنا في الآخرة-١.
١ من روح المعاني..
﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب١ دعا المؤمنون المتفكرون وسألوا الله الفوز بالعزة والنجاة من الخزي، فأجاب ربهم دعاءهم وحقق سؤلهم ورفع قدرهم بسبب أنه لا يضيع عمل عامل، - والمراد بالإضاعة ترك الإثابة ؛ قوله ﴿ من ذكر أو أنثى ﴾. ﴿ من ﴾ بيانية ومؤكدة لما تقتضيه النكرة الواقعة في سياق النفي من العموم ؛ قوله ﴿ بعضكم من بعض ﴾ أي : رجالكم مثل نسائكم في الطاعة ونساؤكم مثل رجالكم فيها، والجملة معترضة لبيان كون كل منهما من الآخر باعتبار تشعبهما من أصل واحد-٢ ؛ ﴿ فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم ﴾ فالذين تركوا أرضهم إلى أرض يأمنون فيها على دينهم، وأخرجهم أعداء الله واضطروهم إلى مفارقة أوطانهم ؛ ﴿ وأوذوا في سبيلي ﴾ أصابهم الضر والبلاء بسبب إيمانهم بالله وعبادة ربهم ﴿ وقاتلوا ﴾ وحاربوا من حاد الله ورسوله، ﴿ وقتلوا ﴾ وبذلوا أرواحهم، وقضوا شهداء ﴿ لأكفرن عنهم سيئاتهم ﴾ ههنا قسم محذوف والتكفير الستر المستتبع -بفضل الله- الصفح وعدم العقوبة، ﴿ ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ ولأسكننهم قصورا في جنات تجري من تحت بساتينها وحدائقها وأشجارها الأنهار، ﴿ ثوابا من عند الله ﴾ أي : ولأثيبنهم مثوبة من عندي٣، وأنا أثيب الثواب٤ الجزيل، ﴿ والله عنده حسن الثواب ﴾ – في تعليقه حسن الإثابة على احتمال المشاق في دينه، والصبر على صعوبة تكاليفه، دليل على أن حكمة الله تعالى اقتضت نوط الثواب والجنة بالعمل، حتى لا يتكل الناس... ولا يهملوا جانب العمل.. ؛ عن الحسن : أخبر الله تعالى أنه استجاب لهم إلا أنه أتبع ذلك رفع الدعاء وما يستجاب به فلابد من تقديمه بين يدي الدعاء، يعني قوله ﴿ ... والعمل الصالح يرفعه.. ﴾٥- ٦. ثبت في الصحيحين أن رجلا قال : يا رسول الله ! أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي ؟ قال " نعم " ثم قال " كيف قلت " ؟ فأعاد عليه ما قال فقال " نعم إلا الدين قاله لي جبريل آنفا ".
١ روى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله ألا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تعالى ﴿فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى﴾ ؛ الآية وأخرجه الترمذي..
٢ من فتح التقدير..
٣ أي ثوابا يختص به ويقدره وبفضله لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه، يقول الرجل عندي ما تريد أي أنا مختص به ويملكه وإن لم يكن بحضرته..
٤ من ثاب يثوب إذا رجع فالثواب إذن ما يرجع على العامل من جزاء عمله..
٥ من سورة فاطر من الآية ١٠..
٦ مما أورد النيسابوري..
﴿ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ﴾ عن قتادة : والله ما غروا نبي الله ولا وكل إليهم شيئا من أمر الله حتى قبضه الله على ذلك ؛ فكأن الخطاب خرج بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم والمعني به غيره ؛ فهو موجه إلى كل مكلف يسمع، والتقلب في البلاد : التنقل والسفر من بلد إلى بلد، وجلب التجارة، والتصرف في المزارع والمكاسب ومثله قول الله تعالى ﴿ .. فلا يغررك تقلبهم في البلاد ﴾١ ؛
١ من سورة غافر من الآية ٤..
﴿ متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ﴾، المتاع ما يعجل الانتفاع به وسماه قليلا لأنه فان، وكل فان وإن كان كثيرا فهو قليل١ ؛ ﴿ ثم مأواهم جهنم ﴾ عما قليل يفنى ما متعوا به ثم يأوون ويرجعون ويصيرون إلى دار العذاب ﴿ وبئس المهاد ﴾ ذميم ما مهدوا لأنفسهم في السعير بما كفروا وصدوا عن الحق والخير والهدى.
١ من الجامع لأحكام القرآن. ثم قال: وفي صحيح الترمذي عن المستورد الفهري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بماذا يرجع)..
﴿ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ﴾ النزل ما يعجل للنزيل الضيف. ليس حال المسلمين كحال المجرمين فأهل الكفر نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ أما من آمن وعمل صالحا فلهم الحياة الطيبة والنعيم المقيم الأوفى وصدق الله العظيم ﴿ أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ﴾١ ؛ ﴿ نزلا من عند الله ﴾ يعني إنزالا من الله إياهم فيما أنزلهموها... ﴿ من عند الله ﴾ يعني من قبل الله ومن كرامة الله إياهم وعطاياه لهم، وقوله :﴿ وما عند الله خير للأبرار ﴾ يقول : وما عند الله من الحياة والكرامة وحسن المآب خير للأبرار مما يتقلب فيه الذين كفروا فإن الذين يتقلبون فيه زائل فان، وهو قليل من المتاع الخسيس وما عند الله.. من كرامته للأبرار وهم أهل طاعته باق غير فان ولا زائل-٢.
١ من سورة القصص الآية ٦١..
٢ من جامع البيان..
﴿ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ﴾، آيات محكمات سبقت، بينت حال الكافرين ومصير المؤمنين المتقين ثم بينت هذه حال من آمن بالإسلام من الكتابيين فطائفة ممن أوتوا التوراة والإنجيل صدقوا بما أنزل الله تعالى على أنبيائهم من كتبه، وآمنوا بما أنزل على النبي الخاتم وأمته ولم يستكبروا عن الإذعان لما نزل من الحق ولم يبدلوا ما استحفظوا عليه من سابق الوحي ولا كتموا شيئا من صفات النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل هؤلاء الأمناء السعداء يوفيهم الله أجرهم ويزيدهم من فضله فإن مولانا وعد ووعده الحق – ﴿ .. وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾١.
في الصحيحين -صحيحي البخاري ومسلم- عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ) فذكر منهم رجلا من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، وفي الصحيحين كذلك أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال ( إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه ) فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه ؛ وبشرى الثواب المضاعف لمسلمة أهل الكتاب كما نقل عن مجاهد ؛ وعن الحسن البصري معنى هذه الآية الكريمة هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد فاتبعوه وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله أجر اثنين، للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى الله عليه وسلم واتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم، بل جاء في الآيات المحكمات ﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين.. ﴾٢.
١ من سورة النساء من الآية ٤٠..
٢ من سورة القصص الآيتان ٥٢-٥٣ ومن الآية ٥٤..
﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾ عن محمد ابن كعب القرظي : اصبروا على دينكم وصابروا على الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوي وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم ؛ وعن زيد بن أسلم : صبروا على الجهاد وصابروا عدوكم ورابطوا على عدوكم، ومما يقول أبو جعفر ابن محمد الطبري : عنى بقوله :﴿ اصبروا ﴾ الأمر بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى، صعبها وشديدها، وسهلها وخفيفها ؛ ﴿ وصابروا ﴾ يعني : وصابروا أعداءكم من المشركين. لأن المعروف من كلام العرب في المفاعلة أن تكون من فريقين أو اثنين فصاعدا ولا تكون من واحد إلا قليلا... وإذ كان ذلك كذلك فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم حتى يظفرهم الله بهم، ويعلي كلمتهم ويخزي أعداءهم، وإلا يكن عدوهم أصبر منهم ؛ وكذلك قوله ﴿ ورابطوا ﴾ معناه : ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك في سبيل الله ؛ وأرى أن أصل الرباط : ارتباط الخيل للعدو كما ارتبط لهم عدوهم لهم خيلهم ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء : ويحمي عنهم من بينه وبينهم ممن بغاهم بشر كان ذا خيل قد ارتبطها، أو ذا رجلة لا مركب له. ١ه.
يقول علماء الأحكام : المرابط في سبيل الله هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما، وأما سكان الثغور دائما بأهلهم الذين يعمرون ويكتسبون هنالك فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين، وقال بعضهم للرباط حالتان : حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد، وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إن كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسرق والله أعلم. في صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما فيها ) وفي صحيح مسلم عن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان )١ ؛ وفي هذا دليل على أن الرباط أفضل الأعمال الذي يبقى ثوابها بعد الموت٢، كما جاء في فضل الرباط حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه قال : قال رسول الله صلى الله عيه وسلم ( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة٣ إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش٤ طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة ٥ وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع ) والأحاديث في ذلك كثيرة ٦، ﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾ توقوا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة بما أمرتم به من الصبر والمصابرة والمرابطة كي تسلموا مما منه هربتم وتدركوا أفضل ما طلبتم.
١ رويت بفتح الفاء أي الشيطان لأنه يفتن الناس عن الدين ورويت بالضم جمع فاتن يعاون بعضهم بعضا على إضلال الناس وفتنتهم..
٢ أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن ما استدل به على أفضلية الرباط فنقل من سنن أبي داود عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر). ثم أورد حديث العلاء بن أبي عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا مات الإنسان -وفي رواية ابن آدم- انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة -وفي رواية إلا من ثلاثة صدقة- جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) وهو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم ثم قال القرطبي: فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح الذي يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاد الصدقات وذهاب العلم وموت الولد والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة وهذا لأن أعمال البر كلها لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين وإقامة شعائر الإسلام. ١هـ..
٣ الثوب المخطط؛ وروى: القطيفة، وهي الأقمشة ذات المحمل..
٤ أي إذا أصابته الشوكة فلا وجد من يخرجها منه بالمنقاش..
٥ قال بن الجوزي: المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو والرفعة..
٦ روى أبو داود عن سهل بن الحنظلة أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين حتى كانت عشية، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشياههم فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (تلك غنيمة المسلمين غدا إنشاء الله) ثم قال (من يحرسنا الليلة) ؟ قال أنس بن أبي مرشد: أنا يا ر سول الله قال " فاركب " فركب فرسا فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا تعز من قبلك الليلة) فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركعنا ركعتين فقال (هل أحسستم فارسكم)؟ فقال رجل يا رسول الله ما أحسسناه، فثوب بالصلاة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال (أبشروا فقد جاءكم فارسكم) فجعلنا ننظر من خلال الشجرة في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى الشعب حيث أمرتني فلما أصبحنا طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل نزلت الليلة ؟) قال لا إلا مصليا أو قاضي حاجة فقال له (أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها) وروى النسائي مرفوعا (حرمت النار على عين دمعت أو بكيت من خشية الله وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله) وروى الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله)..
Icon