ﰡ
(١) - وَتُقْرَأ مُقَطَّعَةً كُلُّ حَرْفٍ عَلَى حِدَةٍ.
سَبَقَتِ الإِشَارَةُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ البَقَرَةِ إلى شَرْحِ مَعَانِي الحُروفِ الوَارِدَةِ فِي أوَائِلِ السُّورِ، وَنَعُودُ فَنَقُولُ إنَّهُ مِنَ الأفْضَل أنْ نَقُولَ: اللهُ أعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
الحَيُّ - الدَّائِمُ الحَيَاةِ بِلا زَوَالٍ.
القَيُّومُ - الدَّائِمُ القِيَامِ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ.
(٣) - وَهُوَ تَعَالَى الذِي أنْزَلَ عَلَيكَ القُرْآنَ، يَا مُحَمَّدُ، مُشْتَمِلاً عَلَى الحَقِّ فِي كُلِّ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ أصُولِ الشَّرائِعِ التِي تَضَمَّنَتْهَا الكُتُبُ السَّابِقَةُ، وَمُصَدِّقاً لها. فَهِيَ تُصَدِّقُه بِمَا أخْبَرَتْ عَنْهُ، وَبَشَّرَتْ بِهِ، مِنَ الوَعْدِ بِإرْسَالِ مُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولاً مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَبِإنْزالِ القُرْآنِ عَلَيْهِ. وَهُوَ يُصَدِّقُهَا لأَنَّهُ وَافَقَ مَا أَخْبَرَتْ عَنْهُ. وَاللهُ هُوَ الذِي أنْزَلَ التَّورَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، عَلَيهِمَا السَّلاَمُ.
وَإنَّ الذِينَ كَفَروا، وَجَحَدُوا بِآيَاتِ اللهِ النَّاطِقَةِ بِتَوْحِيدِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لاَ يَلِيِقُ بِعِزَّةِ جَلاَلِهِ، فَكَذَّبُوا بِالقُرْآنِ، ثُمَّ بِسَائِرِ الكُتُبِ تَبْعاً لِذَلِكَ، وَأنْكَرُوها، لُهُمْ عَذَابٌ شَديدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَاللهُ مَنيعٌ، عَزِيزُ الجَانِبِ، يَنْتَقِمُ مِمَّنْ جَحَدَ بِآيَاتِهِ، وَكَذَّبَ رَسُلَهُ.
الفُرْقَانَ - مَا يَفْرُقُ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ.
(٧) - وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي أنْزَلَ القُرآنَ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَكَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أنْ جَعَلَ مِنْهُ آيَاتِ مُحْكَمَاتٍ مُحَدَّدَةَ المَعْنَى، بَيِّنَةَ المَقَاصِدِ، هِيَ الأصْلُ وَإليهَا المَرْجِعُ (أمُّ الْكِتَابِ). وَجَعَلَ مِنْهُ آيَاتٍ مُتَشَابِهَاتٍ، يَدِقُّ فَهْمُ مَعْنَاهَا عَلَى كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَتَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ.
فَيَأخُذُونَ المُتَشَابِهَ الذِي يَسْتَطِعُونَ تَحْرِيفَهُ لِيَسْتَخْدِمُوهُ فِي الوُصُولِ إلى أغْراضِهِم الفَاسِدَةِ مِنْ إضْلاَلِ النَّاسِ لاحْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمَا يَصْرِفُونَهُ إلَيْهِ. امَّا المُحْكَم فَإنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِعُونَ الإفَادَةَ مِنْهُ لأنَّهُ دَامِغٌ لَهُمْ، وَحُجَّةٌ عَلَيهِم.
امَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ عَنِ الحَقِّ، فَإنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ المُتَشَابِهَ رَغْبَةً مِنْهُمْ فِي إثَارَةِ الفِتْنَةِ، وَيَسْتَعِينُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا فِي غَرَائِزِ النَّاسِ وَطِبَاعِهِمْ مِنْ شَكٍّ فِيمَا لَمْ يَصْل إليهِ عِلْمُهُمْ، وَلاَ يَنَالُهُ حِسُّهُمْ. كَالإِحْيَاءِ بَعْدَ المَوْتِ، وَجَميعِ شُؤُونِ الَعالَمِ الآخَر. وَيَأخُذُونَ المُتَشَابِهَ عَلَى ظَاهِرِهِ دُونَ نَظَرٍ إلى المُحْكَمِ، وَيَرْجِعُونَ فِي تَفْسِيرِ المُحْكَمِ إلى أهْوَائِهِمْ، دُونَ نَظَرٍ إلى المُحْكَمِ، وَيَرْجِعُونَ فِي تَفْسِيرِ المُحْكَمِ إلى أهْوَائِهِمْ، وَتَقَالِيدِهِمْ، لاَ إلى الأصْلِ المُحْكَمِ الذِي بُنِيَ عَلَيهِ الاعْتِقَادُ.
وَتَأوِيلُ المُتَشَابِهِ مِنَ القُرَآنِ لاَ يَعْلَمُهُ إلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ، المُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ.
(وَقَالَ بَعْضُ المُفَسِرينَ المُتَقَدِّمِينَ: إنَّ المَفْهُومَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ: أنَّه لاَ يَعْلَمُ تَفْسِيرَ المَتَشَابِهِ إلاّ اللهُ. أمَّا الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ فَعِبَارَةٌ مُسْتَأنَفَةٌ).
وَهَؤُلاءِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمَ يَرُدُّونَ المُتَشَابِهَ إلى المُحْكَمِ، وَيُؤْمِنُونَ بِهذَا وَهذا عَلَى حَقٌّ وَصِدْقٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَلاَ يُفَرِّقُونَ بَينَ مُحْكَمِ القُرَآنِ وَمُتَشَابِهِهِ.
وَلاَ يَعْقِلُ ذَلِكَ وَلاَ يَفْهَمُهُ إلاّ أصْحَابُ العُقُولٍ السَّلِيمَةِ التِي لاَ تَخْضَعُ لِتَأثِيرِ الهَوَى والشَّهَواتِ.
وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ فَقَالَ عَنْهُمْ: " مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، وَمَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، فَذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ " (أَخْرَجَهُ ابْنُ أبي حَاتِمٍ).
الوَهَّابُ - الكَثِيرُ العَطَاءِ.
لاَتُزِغْ قُلُوبَنا - لاَ تُمِلْها عَنِ الحَقِّ وَالهُدَى.
(١٠) - إنَّ الذِينَ كَفَروا بِاللهِ، وَبِآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ، وَجَحَدُوا مَا عَرَفُوهُ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، لَنْ تُفِيدَهُمْ شَيْئاً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ أمْوالُهُمْ (التِي يَبْذلُونَهَا فِي جَلْبِ المَنَافِعِ، وَدَفْعِ المَضَارِّ) وَلاَ أوْلاَدُهُمُ (الذِينَ يَتَنَاصَرُونَ بِهِمْ فِي الدُّنيا)، وَسَيَكُونُونَ حَطَباً تُوْقَدُ بِهِ جَهَنَّمُ.
(١١) - وَسَيَكُونُ حَالُ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ وَشَأنُهُمْ (دَأبُهُمْ) مِثْلَ حَالِ قَوْمِ فِرْعُوْنَ (آلِ فِرْعَونَ)، وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَبِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ كُفْرٍ وَآثامٍ، واللهُ شَدِيدُ العَذابِ ألِيمُهُ، لاَ يَمْتَعُ عليهِ أحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ.
الدَّأبُ - العَادَةُ وَالحَالُ.
آلِ فِرعَوْنَ - قَوْمِ فِرْعَوْنَ.
أَخَذَهُمْ - عَاقَبَهُمْ وَأهْلَكَهُمْ.
(هَذِهِ الآيةُ نَزَلَتْ فِي يَهُودِ بَني قَيْنُقَاع. فَبَعْدَ أنْ نَصَرَ اللهُ المُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، جَمَعَ الرَّسُولُ ﷺ يَهُودَ المَدِينةِ، وَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ اليَهُودِ أسْلِمُوا قَبْلَ أنْ يُصِيبَكُمْ اللهُ بِمَا أصَابَ بِهِ قُرَيْشاً.
فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ لاَ يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أنَّكَ قَتَلْتَ نَفَراً مِنْ قُرَيشٍ لاَ يَعْرِفُونَ القِتَالَ، إنَّكَ وَاللهِ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أنَّا نَحْنُ النًّاسُ، وَأنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا. فَأنَزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ والتي بَعْدَهَا، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ فَقَتَلَ المُسْلِمُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأجْلَوا بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاع، وَفَتُحُوا خَيْبَرَ).
المِهَادُ - الفِرَاشُ.
(١٣) - ثُمَّ حَذَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَأنْذَرَهُمْ بَألاَّ يَعْتَرُّوا بِكَثْرَةِ العَدَدِ وَالعُدَّةِ، فَلَهُمْ فِيمَا يُشَاهِدُونَهُ عِبْرَةٌ. فَأمَرَ رَسُولَهُ بِأنْ يَقُولَ للَهُودِ الذِينَ قَالُوا لَهُ مَا قَالُوا: إنَّ اللهَ مُعِزٌّ دِنيَهُ، وَنَاصِرٌ رَسُولَهُ، وَإنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ مَا أظْهَرَهُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ، إذِ التَقَتْ فِئَتَانِ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ فِئةٌ مُؤْمِنَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبيلِ إعلاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَنَصْرِ دِينهِ، (وَهُمُ المُسْلِمُونَ)، وَفِئَةٌ أخْرَى كَافِرَةٌ (وَهُمْ مُشْرِكُو قُرَيشٍ). وَقَدْ أرَى اللهُ تَعَالَى المُشْرِكينَ المُسْلِمِينَ فِي مِثْلَي عَدَدِ المُشْرِكِينَ (أيْ قَرِيباً مِنْ ألْفَي مُقَاتِلٍ) بَصُورَةٍ جَلِيَّةٍ وَاضِحَةٍ، وَهُمْ إنَّما كَانُوا فِي الحقِيقَةِ ثَلاَثَمِئَةٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، وَكَانَ ضّلِكَ إضْعَافاً لِقُلُوبِ المُشْرِكِينَ، وَلِيَهَابُوا المُسْلِمِينَ، وَلِيَجْبُنُوا عَنْ قِتَالِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ مَدَداً مِنَ اللهِ، كَمَا أمَدَّهُمْ بِالمَلاَئِكَةِ. وَقَدْ أرَى اللهُ المُسْلِمِينَ المُشْرِكِينَ قَلِيلِي العَدَدِ لِيَجْتَرِئُوا عَلَيهِمْ.
وَدَارَتِ المَعْرَكَةُ فَانْتَصَرَ جُنْدُ اللهِ، وَأعَزَّ اللهُ دِينَهُ، وَقُتِلَ رُؤوسُ الكُفْرِ. وَفي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لأولِي البَصَائِرِ لِيَهْتَدُوا إلى حِكَمِ اللهِ وَأفْعَالِهِ وَقَدَرِهِ الجَارِي بِنَصْرِ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَمْتَثِلُونَ لِمَا أوْصَاهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ بِقَدَرِ طَاقَتِهِمْ، فَيُقَاتِلُونَ ثَابِتِينَ وَاثقِينَ بِنَصْرِ اللهِ.
لَعِبْرَةً - لَعِظَةً وَدَلاَلَةً.
(١٤) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ فَطَرَ النَّاسَ عَلَى حُبِّ الشَّهَواتِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، مِنْ أنْواعٍ المَلَذَّاتِ مِنَ النِّسِاءِ وَالبَنِينَ، وَالأَمْوَالِ وَالخَيْلِ وَالأنْعَامِ وَالحَرْث، وَهِيَ زَهْرَةُ الحَيَاةِ الدُّنيا الفَانِيَةِ، وَزِينَتُهَا الزَّائِلَةُ، وَهِيَ لاَ تُقَاسُ بِمَا ادَّخَرَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنينَ الصَّالِحِينَ فِي الآخِرَةِ، وَعِنْدَ اللهِ حُسْنُ المَرْجِعِ، وَعِنْدَهُ حُسْنُ الثَّواب.
الشَّهْوَةُ - رَغْبَةُ النًّفْسِ.
الحَرْثِ - الزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ.
المُسَوَّمةِ - المُطْلَقَةِ لِتَرْعَى فِي أرْضِ اللهِ، أوِ المُعَلَّمَةِ.
المَآبِ - المَرْجِعِ.
المُقَنْطَرَةِ - المُضَاعَفَةِ أوِ المُحْكَمَةِ، المُحَصَّنَةِ.
(١٥) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ أتُرِيدُونَ أنْ أُخْبِرَكُمْ بِخَيْرٍ مِمّا زُيِّنَ للنَّاسِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا مِنْ نَعِيمِها الزَّائِلِ؟ هُوَ مَا أعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ، الذِينَ أخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ وَأنَابُوا إليهِ، مِنْ جَنَّاتٍ تَتَفَجَّرُ فِي أرْضِها الأنْهَارُ، مُخَلَّدِينَ فِيها لا تَزُولُ عَنْهُمْ أبداً، وَلاَ يَبْغُونَ عَنْهَا تَحَوُّلاً، وَلَهُمْ فِيها أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ مِنَ الدَّنَسِ وَالخُبْثِ وَالكَيْدِ وَسُوءِ الخُلُقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَعْتَرِي النِّسَاءَ. وَيَغْمُرُهُمْ رِضْوَانُ اللهِ فَلاَ يَسْخَطُ عَلَيهِمْ رَبُّهُمْ أبداً، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ، يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنَ العَطَاءِ.
الرِّضْوانُ - الرِّضَا.
التَّقْوى - الإخْبَاتُ للهِ.
(١٦) - وَعِبَادُ اللهِ المُتَّقُونَ الذِينَ يَسْتَحِقُونَ نَعِيمَ الآخِرَةِ، وَرِضْوَانَ اللهِ، هُمُ الذِينَ تَتَأَثَّرُ قُلُوبُهُمْ بِثَمَرَاتِ إِيمَانِهِمْ فَتَفِيضُ أَلْسِنَتُهُمْ بِالاعْتِرَافِ بِهَذَا الإِيمَانِ حِينَ الدُّعَاءِ وَالابْتِهَالِ إلى اللهِ فَيَقُولُونَ: رَبَّنا إنَّنا آمَنَّا بِكَ، وَبِكُتُبِكَ، وَبِرُسُلِكَ، فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنا، وَامْحُها بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَادْفَعْ عَنَّا عَذابَ النَّارِ، إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
(١٧) - وَهؤلاءِ العِبَادُ المُتَّقُونَ هُمُ: الصَّابِرُونَ عَلَى قِيَامِهِمْ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَتَرْكِ مُحَرَّمَاتِهِ، وَهُمُ الصَّادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ إيمَانِهِمْ بِمَا التَزَمُوا بِهِ مِنَ الأعْمَالِ الشَّاقَّةِ، والمُلْتَزِمُونَ بِطَاعَةِ اللهِ، وَالخُضُوعِ لَهُ (القَانِتُونَ)، وَهُمْ المُنْفِقُونَ مِنْ أمْوالِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَصِلَةِ الأرْحَامِ وَمُوَاسَاةِ ذَوِي الحَاجَاتِ، وَهُمُ المُسْتَغْفِرُونَ رَبَّهُمْ فِي أوْقَاتش السَّحَرِ، حِينَما يَكُونُ النَّاسُ نَائِمِينَ. وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: " يَنْزِلُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى اللَّيْلِ الأخِيرِ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأغْفِرَ لَهُ؟ "
(١٨) - يُبَيِّنُ الله ُ تَعَالَى أنَّهُ الوَاحِدُ، الذِي لاَ إِلهَ إلاّ هُوَ، وَأنَّهُ قَائِمٌ عَلَى شُؤونِ خَلْقِهِ بِالعَدْلِ، وَقَدْ أقَامَ الدَّلاَئِلَ عَلَى ذَلِكَ فِي الأَنْفُسِ وَالآفَاقِ، وَفِي إنْزالِ التَّشْرِيعَاتِ النَّاطِقَةِ بِذَلِكَ. وَأخْبَرَ المَلاَئِكَةُ الرُّسُلَ بِهَذَا، وَشَهِدُوا بِهِ شَهَادَةً مُؤَيَّدَةً بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ - وَهُوَ عِنْدَ الأَنْبِياءِ أقْوَى مِنْ جَمِيعِ اليَقِينِّياتِ - وَأولُو العِلْمِ أخْبَرُوا بِذَلِكَ وَبَيَّنُوهُ، وَشَهِدُوا بِهِ شَهَادَةً مَقْرُونَةً بِالدَّلائِلِ وَالحُجَجِ لأنَّ العَالِمَ بِالشَّيءِ لاَ تُعْوِزُهُ الحُجَّةُ عَلَيهِ.
وَقَوَامَةُ اللهِ فِي تَدْبِيرِ هَذَا الكَوْنِ، وَأمُورِ الخَلْقِ، تَتَّصِفُ دَائِمًا بِصِفَةِ العَدْلِ (قَائِماً بِالقِيْطِ). وَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى سُنَنَ الخَلْقِ قَائِمَةً عَلَى أسَاسِ العَدْلِ. ثُمَّ أكَّدَ تَعَالَى كَوْنَهُ مُنْفَرِداً بِالألُوهِيَّةِ، وَقَائِماً بِالعَدْلِ (لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " يُجَاءُ بِصَاحِبها - أيْ بِمَنْ شَهِدَ بِمَا شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ - يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَبْدِي عَهِدَ إلَيَّ وأنَا أحَقُّ مَنْ وَفَى بِالعَهْدِ، أدْخِلُوا عَبْدِي الجَنَّةَ " (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ).
(١٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى بِأنَّهُ لاَ يَقْبَلُ دِيناً مِنْ أحَدٍ غَيْرَ دَينِ الإِسْلاَمِ. وَالإِسْلاَمُ هُوَ الاسْتِسْلاَمُ الكَامِلُ للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، واتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا بَعَثَهُمُ اللهُ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَمَنْ لَقِيَ اللهَ بَعْدَ بِعْثَةِ مُحَمًّدٍ عَلَى غَيْرِ شَرِيْعَتِهِ فَلا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا جَاءَ بِهِ، وَجَاءَتِ الرُّسُلُ أقْوَامَهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُمُ اتِّبَاعَ سَبيلِ اللهِ هذا، وَيَحُثُّونَهُمْ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَلكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِسمَا بَيْنَهُمْ، وَخَرَجُوا عِنِ الإِسْلاَمِ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ الأنْبِيَاءُ، وَتَفَرَّقُوا شِيَعاً وَطَوَائِفَ مُتَنَاحِرَةً مَتَقَاتِلَةً. وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُ ذَلِكَ الاخْتِلافِ جَهْلاً بِحَقِيقَةِ الدِّينِ، فَالدِّينُ وَاحِدٌ لا مَجَالَ لِلاخْتِلاَفِ فِيهِ، وَلكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا اعْتِداءً وَظُلْماً وَبَغْياً وَتَبَاغُضاً بَيْنَهُمْ (بَغْياً بَيْنَهُمْ)، وَاتِّبَاعاً للرُّؤَسَاءِ الذِينَ تَجَاوَزُوا الحُدُودَ، وَلَوْلا بَغْيُهُمْ وَنَصْرُهُمْ مَذْهَباً على َذْهَبٍ، وَتَضْلِيلُهُمْ مَنْ خَالَفهُمْ بِتُفْسِيرِ نُصُوصِ الدِّينِ بِالرَّأيِ وَالهَوَى، وَتَأوِيلُ بَعْضِهِ أوْ تَحْرِيفُهُ، لَمَا حَدَثَ هَذا الاخْتِلافُ.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ الدَّالَةِ عَلى وُجوبِ الاعْتِصَامِ بِالدِّينِ وَوَحْدَتِهِ، فَإنَّ اللهَ يجَازِيهِ عَلَى مَا اجْتَرحَ مِنَ السَّيِّئاتِ، واللهُ سَريعُ الحِسَابِ.
أولُو العِلْمِ - أهْلُ البُرْهَانِ القَادِرُونَ عَلَى الإِقْنَاعِ.
بِالقِسْطِ - بِالعَدْلِ.
بَغْياً - اعْتِدَاءً وَتَجَاوُزاً لِلْحُدُودِ.
الدِّينَ - الطَّاعَةَ وَالانْقِيادَ للهِ، أوِ المِلَّةَ.
(٢٠) - فَإنْ جَادَلَكَ أهْلُ الكِتَابِ أوْ غَيْرُهُمْ (حَاجُّوكَ) يَا مُحَمَّدُ فِي التَّوْحِيدِ، بَعْدَ أنْ أقَمْتَ لَهُمُ البَيِّنَاتِ وَالبَرَاهِينَ، وَبَعْدَ أَنْ جِئْتَهُمْ بِالحَقِّ، فَقُلْ لَهُمْ: إنَّني أخْلَصْتُ عِبَادَتِي للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَلا نِدَّ، وَلاَ وَلَدَ وَلاَ صَاحِبَةَ: وَمَنِ اتًَّبَعَني عَلى دِينِي يَقُولُ كَمَقَالَتِي. وقُلْ لأَهْلِ الكِتَابِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى وَللأمِّيينَ (مُشْرِكِي العَرَبِ) أأسْلَمْتُمْ وَآمنْتُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ، كَمَا أسْلَمْتُ أنا. فَإنْ أسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى الخَيْرِ وَالرَّشَادِ، وَإنْ رَفَضُوا الدُّخُولَ فِي الإِسْلاَمِ، وَآثَرُوا البَقَاءَ عَلَى مَا هُمْ عَليهِ، فَأنْتَ مُكَلَّفٌ بِبَلاغِهِمْ وَدَعْوتِهِمْن وَإلى اللهِ مَرْجِعُهُمْ، وَعَليهِ حِسَابُهُمْ، وَاللهُ عَليمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ، مِمَّنْ يِسْتَحِقُّ الضَّلاَلَ.
(٢١) - يَذُمُّ اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الكِتَابِ الذِينَ ارْتَكَبُوا المَآثِمَ وَالمَحَارِمَ بِكُفْرِهُمْ بِاللهِ وَآيَاتِهِ، وَقَتَلُوا الأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ الذِينَ يَدُعُونَ إلى اللهِ وَإِلى اتِّبَاعِ الحَقِّ. وَالمَقْصُودُونَ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُمُ اليَهُودُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، الذِينَ قَتَلُوا عَدَداً مِن أنْبِياءِ اللهِ فِي يَومٍ وَاحِدٍ اسْتِكْباراً، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ بِالذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ فِي الدُّنْيا، وَبَشَّرَهُمْ بِعَذَابٍ أليمٍ مُهِينٍ فِي الآخِرةِ، لأنَّ هَذَا هُوَ جَزَاءُ جُرْمِهِمْ وَصَنِيعِهِمْ.
(٢٢) - قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لأبي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ: " يَا أبَا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إسْرائيل ثَلاَثَةً وَأرْبَعينَ نَبِياً أوَّلَ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَامَ مِئَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلاً مِنْ عُبَّادِ بَني إسْرَائيلَ فَأمَروا القَتَلَةَ بِالمَعْرُوفِ، وَنَهَوْهُمْ عَنِ المُنْكَرِ، فَقُتِلُوا جَمِيعاً مِنْ أخِرِ ذَلِكَ اليَوْمِ فَهُمْ الذِينَ ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ " (أخْرَجَهُ ابْنُ أبي حَاتِمٍ).
وَيَقُولُ تَعَالَى إنَّ الذِينَ يَرْتَكِبُونَ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ يُهْلِكُ اللهُ أعْمَالَهُمْ وَيُبْطِلُها فِي الدُّنْيا، فَلاَ يَنَالُونَ عَليها حَمْداً، وَلا ثَنَاءً مِنَ النَّاس. وَقَدْ لَعَنَهُمُ اللهُ، وَهَتَكَ أسْتَارَهُمْ وَأبْدَى مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبَائِحِ أعْمَالِهِمْ، عَلَى ألْسِنَةِ أنْبِيائِهِ وَرُسُلِهِ. وَقَدْ أعَدَّ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ، العَذَابَ الألِيمَ وَالخُلُودَ فِي جَهَنَّمَ، وَلَنْ يَجِدُوا لَهُمْ مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنْ بَأسِ اللهِ.
(٢٣) - يُنكِرُ اللهُ تَعَالى اليَهُودِ رَفْضَهُمُ الأخْذَ بِمَا جَاءَ فِي كُتُبِهِم - التِي يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَا - حِينَمَا يَكُونُ الحُكْمُ فِيها لاَ يُوافِقُ أهْوَاءَهُمْ. فَقَدْ زَنَى أحَدُ أشْرَافِ اليَهُودِ فَجَاؤُوا إلى النَّبِيِّ ﷺ يَسْألُونَهُ الحُكْمَ فِي الأمْرِ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمِثْلِ مَا جَاءَ فِي كُتُبِهِمْ. وَحُكْمُ الزِّنَا فِي التَّورَاةِ هُوَ الرَّجْمُ، فَتَولُّوْا عَنْهُ مُعْرِضِينَ. وَلَمْ يَقْبَلُوا حَكْمَهُ. فَهُمْ إنَّمَا جَاؤُوا إليهِ لِيَجِدُوا لَدَيهِ حُكْماً أخَفَّ مِمَّا فِي التَّورَاةِ، وَكَانَ مِنْ المَفْرُوضِ فِيهِمْ ألاَّ يَتَرَدَّدُوا فِي إجَابَةِ الدَّعْوَةِ إلى كِتَابِهِمْ، إذْ أنَّهُ أصْلُ دِينِهِمْ، وَعَلَيْهِ بُنِيَتْ عَقِيدَتُهُمْ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ إشَارَةٌ إلى أنَّهُمْ يَحْفَظُونَ طَرَفاً مِنْ كِتَابِهِمْ الذِي أوْحَاهُ اللهُ إليهِمْ. وَقَدْ فَقَدُوا سَائِرَهُ، وَأنَّهُمْ لا يُحْسِنُونَ فَهْمَهُ، وَلاَ يَلْتَزِمُونَ العَمَلَ بِهِ.
النَّصِيبُ - الحَظُّ وَهُوَ هُنَا طَرَفٌ مِنَ التَّورَاةِ وَشَيءٌ مِنْهُ.
التَّوَلِّي - الإعْراضُ بِالبَدَنِ.
(٢٤) - وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى مُخَالَفََةِ الحَقِّ، وَعَلَى العِنَادِ إلاَّ افْتِراؤُهُمْ عَلَى اللهِ فِيمَا ادَّعَوْهُ لأنْفُسِهِمْ مِنْ أنَّهُمْ لَنْ يُعَذَّبُوا فِي النَّارِ، إلاَ أياماً مَعْدَوداتٍ (قِيلَ: إنَّهَا سَبْعَةُ أيَّامٍ، عَنْ كُلِّ ألْفِ سَنَةٍ مِنْ عُمْرِ الدُّنْيَا يَوْمٌ مِنَ العَذَابِ). وَقَدْ خَدَعَهُمْ هذا الاعْتِقَادُ البَاطِلُ وَغَرَّهُمْ، فَاسْتَمَرُّوا فِي غَيِّهِمْ وَضَلاَلِهِمْ، وَأقَامُوا عَلَى ارْتِكابِ المَعاصِي وَالذُّنُوبِ.
لَنْ تَمسَّنَا النَّارُ - لَنْ نُعَذِّبَ فِي النَّارِ.
الافْتِراءُ - اخْتِلاقُ الكَذِبِ.
غَرَّهُ - خَدَعَهُ.
(٢٥) - فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ - وَقَدْ كَذَّبُوا وَافْتَرَوْا عَلَى اللهِ الكَذِبَ - إذَا جَمَعَهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمٌ لاَ شَكَّ فِي أنَّهُ آتٍ وَوَاقِعٌ، وَرَأتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ مُحْضَراً لاَ نَقْصَ فِيهِ، ثُمَّ جُوزِيتْ عَلَيهِ؟ وَاللهُ لاَ يَظْلِمُ أحَداً.
وَفَّي - مِنَ الوَفَاءِ وَهُوَ تَسْدِيدُ الدَّيْنِ.
(٢٦) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ مُعَظِّماً رَبَّكَ، وَشَاكِراً لَهُ أَنْعُمَهُ عَلَيكَ: اللَّهُمَّ لَكَ المُلْكُ وَالسُّلْطَانُ الأَعْلَى، وَالتَّصَرُّفُ التَّامُّ فِي تَدْبِيرِ الأمُورِ، تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتُعْطِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَمْنَعُهُ وَتَنْزِعُهُ عَمَّنْ تَشَاءُ، إِنَّكَ أَنْتَ الفَعَّالُ لِمَا تُرِيدُ، بِيَدِكَ الخَيْرُ وَحْدَكَ، وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، لاَ يُعْجِزُكَ شَيْءٌ عَنْ تَنْفِيذِ مُرَادِكَ.
(٢٧) - إنَّكَ يَا رَبِّ تَأخُذُ مِنْ طُولِ النَّهَارِ فَتَزيدُ فِي اللَّيلِ، ثُمَّ تَزيدُ فِي النَّهَارِ وَتأخُذُ مِنْ طُولِ اللَّيلِ، وَهَكَذا فِي فُصُولِ السَّنَةِ، وَتُخْرِجُ الزَّرْعَ الحَيَّ مِنَ الحَبِّ المَيِّتِ، وَتُخْرِجُ الحَبَّ المَيِّتَ مِنَ الزَّرْعِ الحَيِّ، وَالبَيْضَ مِنَ الدَّجَاجِ، وَالدَّجَاجَ مِنَ البَيْضِ، وَالنَّخْلَةَ مِنَ النَّوَاةِ.
(وَقَالَ الدُّكْتُورُ عَبْدُ العَزِيزِ إسْمَاعِيلُ: إنَّ النُطْفَةَ شَيءٌ حَيٌّ، وَكَذَلِكَ النَّواةُ. وَإنَّ التَفْسِيرَ الصَّحِيحَ لِقَولِهِ تَعَالَى ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ هُوَ ما يَحْصُلُ يَوْمِياً مِنْ أنَّ الحَيًّ يَنْمُو بِأكْلِ الأشْياءِ المَيِّتَةِ، فَالصَّغِيرُ يَكْبُرُ جِسْمُهُ بِتَغْذِيَتِهِ بِاللَّبَنِ وَغَيرِهِ، وَالغِذاءُ شَيءٌ مَيِّتٌ. وَإنَّ القُدْرَةَ عَلَى تَحْويلِ الشَّيءِ المَيِّتِ الذِي يأكُلُه إلى عَنَاصِرَ وَمَوَادَّ مِنْ نَوعِ جِسْمِهِ فَتَكُونُ سَبَباً فِي نُمُوِّ جِسْمِهِ، هُوَ أهَمُّ عَلاَمَةٍ تَفْصِلُ الجِسْمَ الحَيَّ عَنِ الجِسْمِ المَيِّتِ).
وَإنَّكَ يَا رَبِّ تَهَبُ عَطَاءَكَ الوَاسِعَ مَنْ تَشَاءُ وَفْقَ حِكْمَتِكَ فَلاَ رَقِيبَ عَلَيكَ يُحَاسبُكَ عَلَى مَا تَعْمَلُ.
بِغَيْرِ حِسَابٍ - بِلا نِهَايَةٍ لِمَا تُعْطِي.
الوُلُوجُ - الدُّخُولُ.
(٢٨) - رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أنَّ الحَجَّاجَ بْنَ عَمْرو، وَابْنَ أبي الحَقِيقِ وَقَيْسَ بْنَ زَيْدٍ (مِنَ اليَهُودِ) كَانُوا يُلازِمُونَ (يُبَاطِنُونَ) نَفَراً مِنَ الأنْصَارِ يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ المُنْذِرِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ لأولَئِكَ النَّفَرِ: اجْتَنِبُوا هؤُلاءِ اليَهُودَ. فَأبَوْا إلاّ مُبَاطَنَتَهُمُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ وَفِيهَا يَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالاةِ الكَافِرِينَ، وَعَنْ أنْ يَتَّخِذُوهُم أوْلِيَاءَ يُسِرُّونَ إِليْهِمْ بِالمَوَّدةِ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ. ثُمَّ تَوَعَدَّ تَعَالَى مَنْ يُخَالِفُ أمْرَهُ فِي ذَلِكَ، إلا مَنْ خَافَ فِي بَعْضِ البُلْدَانِ وَالأوقَاتِ شُرُورَهُمْ (إلا أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)، فَلَهُ أنْ يَتَّقِيَهُمْ بِظَاهِرِهِ، لاَ بِبَاطِنِهِ وَنِيَّتِهِ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْتقِيَّهُ لاَ تَكُونُ بِالعَمَلِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ) ثُمَّ هَدَّدَ اللهُ تَعَالَى المُخَالِفِينَ عَنْ أمْرِهِ بِأنْ يَحْذَرُوا نِقْمَتَهُ عَلَيْهِمْ، إذَا اسْتَمَرُّوا فِي مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَمُوَالاَةِ أَعْدَائِهِ، وَعَادَوا أَوْلِيَاءَ اللهِ، وَإلى اللهِ المَرْجِعُ وَالمُنْقَلَبُ، فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِعَمَلِهِ.
الوَلِيُّ - النَّصِيرُ.
التُّقَاةُ - الاتِّقَاءُ وَالخَوْفُ.
يُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ - يُخَوِّفُكُمُ اللهُ غَضَبَهُ وَعِقَابَهُ.
(٢٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأنَّهُ يَعْلَمُ سَرَائِرَهُمْ وَضَمَائِرَهُمْ وَظَوَاهِرَهُمْ، وَأنَّهُ لا يَخْفَى عَلَيهِ شَيءٌ مِنْ أمْورِهِمْ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الكَوْنِ جَمِيعاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأنَّهُ قَادِرٌ عَلَى عُقُوبَةِ المُخَالِفِينَ عَنْ أَمْرِهِ، وَالمُوَالينَ أَعْدَاءَهُ، فَمَا مِنْ مَعْصِيَةٍ خَفِيّةٍ، أوْ ظَاهِرَةٍ إلاّ وَهُوَ مُطَّلعٌ عَليها، وَقَادِرٌ عَلَى عِقَابِ فَاعِلِهَا عَلَيهَا.
الأمدُ - المُدَّةُ المُحَدَّدَة.
مُحْضَراً - حَاضِراً لَدَيْهَا أَوْ مُشَاهَداً فِي صُحُفِ أعْمَالِها.
وَجَاءَ دِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ لِيَخْتِمَ الأدْيَانَ السَّابِقَةَ وَيُكَمِّلَها، فَلاَ يُمْكِنُ أنْ يَدَّعِي أحَدٌ حُبَّ اللهِ، وَهُوَ يَكْفُرُ بِشَرْعِهِ وَمَا أنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِه. وَمَنْ يَتَّبعْ شَرْعَ مُحَمَّدٍ ﷺ وَيُخْلِصْ فِي ذَلِكَ يُحْبِبْهُ اللهُ، وَاتِّبَاعِ أمْرِهِ. وَاللهُ كَثِيرُ الغُفْرَانِ لِعِبَادِهِ، عَظِيمُ الرَّحْمَةِ بِهِمْ. وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ".
(٣٢) - وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: أَطِيعُوا اللهَ بِاتِّبَاعِ أوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَأطِيعُوا رَسُولَهُ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَدَعْوَتِهِ، فَإنْ رَفَضُوا ذَلِكَ، وَخَالَفُوا عَنْ أمْرِ اللهِ، فَهُمْ كَافِرُونَ، وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الكَافِرينَ.
التَّوَلِّي - الإِعْرَاضُ بِالبَدَنِ.
(٣٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ اخْتَارَ هَذِهِ البُيُوتَ عَلَى سَائِرِ أهْلِ الأرْضِ، وَجَعَلَهُمْ صَفْوةَ العَالَمِينَ بِجَعْلِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ فِيهِمْ، فَاصْطَفَى آدَمَ وَخَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ. وَاخْتَارَ نُوحاَ وَجَعَلَهُ أوَّلَ الرُّسُلِ، لَمَّا عَبَدَ النَّاسُ الأوْثَانَ وَأشْرَكُوا بِاللهِ. وَانْتَقَمَ اللهُ مِنْ قَوْمِهِ الذِينَ رَفَضُوا الاسْتِجَابَةَ إليهِ حِينَما دَعَاهُمْ إلى الحَقِّ.
وَجَاءَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّبِيِّينَ، ثُمَّ تَفَرًّقَتْ ذُرِّيَّتُهُ وانْتَشَرَتْ فِي البِلاَدِ، وَفَشَتْ فيهم الوَثَنِيَّةُ، فَظَهَر إبراهِيمُ نَبِيّاً مُرْسَلاً، وَتَتَابَعَ المُرْسَلُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَآلِهِ كإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ، وَكَانَ مِنْ أرْفَعِ أوْلاَدِهِ ذِكْراً آلُ عِمْرانَ وَهُمْ عِيسَى وَأمُّهُ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ، وَخُتِمَتِ النُّبُوَّةُ بِولدِ إسْمَاعِيلَ محمدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَليهِ.
اصْطَفَى - أخَذَ مَا صَفَا مِنَ الشَّيء - اخْتَارَ.
آلِ عِمْرَان - عِيسى وَامِّهِ مَرْيَمَ بنْتِ عِمْرَانَ.
الذُّرِّيَةُ - الأَنْسَالُ - الأَوْلاَدُ وَالأَحْفَادٌ وَأنْسَالُهُمْ.
(٣٥) - قِيلَ إنَّ امْرَأَةَ عِمرَانَ كَانَتْ عَاقِراً، فَرَأتْ طَائِراً يَزُقُّ فَرْخَهُ فَتَمَنَّتْ أنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ، فَدَعَتِ اللهَ أنْ يَرْزُقَها وَلَداً فَحَمَلَتْ.
وَلَمَّا شَعَرَتْ بِالحَمْلِ نَذَرَتْ أنْ يَكُونَ حَمْلُها خَالِصاً مُتَفرِّغاً لِعِبَادَةِ اللهِ، وَخِدْمَةِ المَعْبَدِ. وَدَعَتِ اللهَ أنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهَا نَذْرَها، فَإنَّهُ تَعَالَى هُوَ السَّميعُ لِدُعَائِها، العَلِيمُ بِنِيَّتِها.
النَّذْرُ - مَا يُوجِبُهُ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ.
المُحَرَّرُ - المُخَصَّصُ لِلْعِبَادَةِ وَالخِدْمَةِ.
(٣٦) - فَلَمَّا وَضَعَتِ امْرَأةُ عِمْرَانَ حَمْلَها، وَرَأتْ أنَّهُ أُنثَى، تَحَسَّرَتْ عَلَى مَا رَأنْ مِنْ خَيْبَةِ رَجَائِها، فَإنَّهَا نَذَرَتْ أنْ تُحَرِّرَ مَا فِي بَطْنِهَا لِخِدْمَةِ المَعْبَدِ، وَالانْقِطَاعِ لِلعِبادَةِ، وَالأنْثَى لاَ تُصْلُحُ لِذَلِكَ.
وَقَالَتْ رَبِّ إنّي وَضَعْتُها أنْثَى، وَاللهُ أعْلَمُ بِمَكَانَةِ الأنثَى التِي وَضَعتَها، وَأنَّها خَيْبرٌ مِنَ الذُّكُورِ. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى فِي القُوَّةِ وَالجَلدِ فِي العِبَادَةِ، وَفِي احْتِمَالِ خِدْمَةِ المَعْبَدِ، وَقَالَتْ إني سَمَّيْتُها مَرْيَمَ، وَإني عَوَّذْتُها بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
أعِيذُهَا بِكَ - أَجْعَلُها فِي حِفْظِكَ وَرِعَايَتِكَ، وَعَاذَ فُلاَنٌ بِفُلانٍ إذا اسْتَجَارَ بِهِ.
(٣٧) - فَتَقَبَّلَهَا رَبُهَا نَذِيرَةً مُحَرَّرَةً لِلْعِبَادَةِ وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ، وَأحَسَنَ نَشْأَتَهَا وَنَباتَها، وَقَرَنَها بِالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، تَتَعَلَّمُ مِنْهُمُ العِلْمَ وَالخَيْرَ وَالدِّينَ.
وَجَعَلَ زَكَريَا كَافِلاً لَهَا، إتْمَاماً لِسَعَادَتِهَا، لِتَقْتَبِسَ مِنْهُ العِلْمَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ. وَكُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا مَكَانَ مُصلاَّهَا (المِحْرَابَ) وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً، فَكَانَ زَكَرِيّا يَسْأَلُهَا مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا الرِّزْقُ يَا مَرْيَمُ؟ فَتَرُدُّ عَلَيهِ قََائِلَةً إنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ الذِي يَرْزُقُ النَّاسَ جَمِيعاً بِتَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَهُوَ تَعَالَى يََرْزُقَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ رِزْقاً كَثِيراً بِلاَ حُدُودٍ؟
تَقَبَّلَهَا رَبُهَا - قَبِلَهَا رَاضِياً بِهَا.
أَنْبَتَهَا - رَبَّاهَا وَجَعَلَ زَكَرِيَّا كَافِلاً لَهَا وَرَاعِياً لِمَصَالِحِهَا.
المِحْرَابَ - المُصَلَّى أَوْ غُرْفَةَ العِبَادَةِ.
الطَّيِّبُ - مَا تَسْتَطِيبُهُ النَّفْسُ - أوْ هُوَ مَا تُسْتَطَابُ أَفْعَالُهُ وَصِفَاتُهُ.
(٣٩) - فَخَاطَبَتْهُ المَلاَئِكَةُ خِطَاباً سَمِعَهُ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِحْرَابِهِ، وَمَحلِّ خَلْوَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَقَالَتْ لَهُ إن اللهَ يُبَشِّرُكَ بِوَلدٍ يُولَدُ لَكَ اسْمُهُ يَحْيَى، يَكُونُ أوَّلَ مَنْ يُصَدِّقُ بِعِيسَى الذِي خُلِقَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ، إِذْ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ، وَيَكُونُ حَلِيماً وَسَيِّداً يَفُوقُ قَوْمَهُ فِي الشَّرَفِ وَالعِبَادَةِ وَالعِلْمِ، وَيَكُونُ حَصُوراً يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنِ اتِّبَاعِ شَهَواتِها، وَيَكُونُ مَعْصُوماً عَنِ الفَوَاحِشِ، وَسَيَكُونُ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ حِينَمَا يَبْلُغُ سِنَّ النُّبُوَّةِ.
كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ - إيْ عِيسى بَنِ مَرْيَمَ الذِي خُلِقَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ.
السَّيِّدُ - الرَّئِيسُ يَسُودُ قَوْمَهُ.
الحَصُورُ - الذِي يَحْصُرُ نَفْسَهُ وَيَمْنَعُهَا مِنْ إِتْيانِ النَّقَائِصِ. وَيَأتِي اللَّفْظُ، لُغَةً، بِمَعْنَى العَاجِزُ عَنْ إِتْيانِ النِّسَاءِ.
(٤٠) - فَلَمَّا تَحَقَّقَ زَكَرِيَا مِنَ البِشَارَةِ، أخَذَ يَتَعَجَّبُ مِنْ وِلاَدَةِ وَلَدٍ لَهُ بَعْدَ الكِبَرِ، فَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ، وَقَدْ كَبِرْتُ وامْرأتِي عَاقِرٌ لاَ تَلِدُ، فَرَدَّ عَلَيهِ المَلَكُ قَائِلاً: إنَّ اللهَ يَفْعَل مَا يَشَاءُ وَيُرِيدُ، لاَ يُعْجِزُه شَيْءٌ، وَلا يَتَعَاظَمُهُ أَمْرٌ، وَلاَ يَحُولُ دُونَ نَفَاذِ مَشِيئَتِهِ حَائِلٌ.
أنَّى يَكُونُ - كَيْفَ يَكُونُ وَمِنْ أيْنَ يَكُونُ.
العَاقِرُ - الذِي لاَ يولَدُ لَهُ أوْلاَدٌ.
(٤١) - قَالَ زَكَرِيَّا: رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلامَةً (آيةً) أَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الوَلَدِ مِنَّي. قَالَ: العَلاَمَةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ أَنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ النُّطْقَ مَعَ اسْتِواءِ صِحَّتِكَ مُدَّةَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ كَامِلَةٍ. ثُمّ أَمَرَهُ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَسْبِيحِهِ في الصَّباحِ وَالمَسَاءِ حِينَمَا تَعْرِضُ لَهُ هذِهِ الحَالَةُ.
رَمْزاً - إِشَارَةً بِالْيَدِ أوْ بِالرْأسِ.
الإِبْكَارِ - مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الفَجْرِ إلى وَقْتِ الزَّوَالِ.
العَشِيِّ - من الزَّوَالِ حَتَّى مَغِيبِ الشَّمْسِ.
(٤٢) - وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ حِينَ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ: يَا مَرْيَمُ إنَّ اللهَ اخْتَارَكِ لِتكُوني أمّاً لِنَبِيّهِ عِيسَى، لِكَثْرَةِ عِبَادَتِكِ وَزُهْدِكِ وَطَهَارَتِكِ، وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ.
(٤٣) - وَأمَرَتْها المَلاَئِكَةُ (وَقِيلَ المُرادُ بِالمَلاَئِكَةِ هُنَا جِبْرِيلُ، عَلَيهِ السَّلاَمُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيةٌ أخْرى) بِأنْ تَقْنُتَ لِرَبِّها وَتَعْبُدَهُ، وَتتَذَلَّلَ لَهُ، وَبِأنْ تُكُونَ مِنَ السَّاجِدِينَ وَالرَّاكِعِينَ.
(وَقِيلَ إنَّ كَلاَمَ جِبْرِيلَ مَعَهَا لَمْ يَكُنْ وَحْياً إليْهَا، وَإنَّمَا كَانَ إلْهَاماً لَهَا بِمَا لَهَا عِنْدَ رَبِهَا مِنَ المَكَانَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ.﴾ اقْنُتِي - أخْلِصِي العِبَادَةَ وَأدِيمِي الطَّاعَةَ.
(٤٤) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ ﷺ: أنَّ مَا يُوحِيهِ إلَيهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ أطْلَعَهُ اللهُ عَلَيهِ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ بَيْنَ القَوْمِ حِينَمَا اقْتَرَعُوا فِي شَأنِ مَرْيمَ لِيَرَوْا مَنْ يَكْفُلُهَا، وَذَلِكَ حَسْماً لِلنِّزَاعِ وَالخِصَامِ عَلَى كَفَالَتِهَا وَالقَوَامَةِ عَلَيهَا، إِذْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَرْغَبُ فِي كَفَالَتِهَا لِيَفُوزَ بِالأَجْرِ مِنَ اللهِ.
الأَقْلاَمَ - القِدَاحَ المَبْرِيَّةِ، وَهِيَ السِّهَامُ وَالأزْلاَمُ التِي يَضْرِبُونَ بِهَا القُرْعَةَ.
(٤٥) - وَبَشَّرَتِ المَلاَئِكَةُ مَرْيَمَ، عَلَيهَا السَّلامُ، وَقَالَتْ لَها: إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِأنْ يَكُونَ لَكِ وَلَدٌ عَظِيمُ الشَّأنِ، وَيَكُونُ وُجُودُهُ وَخَلْقُهُ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ، فَيَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَسَيَكُونُ الاسْمُ الذِي يَعْرِفُهُ بِهِ المُؤْمِنُونَ (المَسِيحُ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ)، وَسَيَكُونُ وَجيهاً وَذَا مَكَانَةٍ عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنيا بِمَا يُوحِيهِ إليهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَيَكُونُ وَجيهاً في الآخِرةِ بِأنْ يَجْعَلَهُ اللهُ شَفِيعاً لِمَنْ يَأذَنُ لَهُ بالشَّفَاعَةِ فِيهِمْ.
(وَقَدْ أُطْلِقَ عَليهِ اسْمُ المَسِيحِ - وَهُوَ لَقَبُ المَلِكِ عِنْدَهُمْ - فَقَدْ كَانَ مِنْ تَقَالِيدِهِمْ أنْ يَمْسَحَ الكَاهِنُ بالدُّهْنِ المُقَدَّسِ مَنْ يَتَوَلَّى المُلْكَ، وَيُعَبَّرُ عَنْ تَوَلِّيهِ المُلْكَ بِالمَسْحِ).
وَجِيهاً - ذَا جَاهٍ وَقَدْرٍ وَشَرَفٍ.
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ - بِقَوْلٍ مِنْهُ (كُنْ) مُبْتَدأ مِنَ اللهِ.
(٤٦) - فَيَتَكَلَّمُ وَهُوَ فِي المَهْدِ، وَيَدْعُو إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ حِينَمَا يُصْبحُ كَهْلاً، وَيَكُونُ لَهُ عِلْمٌ صَحِيحٌ، وَعَمَلٌ صَالِحٌ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ حِينَمَا جَاءَتْ بِهِ قَوْمَهَا وَهِيَ تَحْمِلُهُ، فَبَرَّأهَا مِمَّا رَمَاهَا بِهِ اليَهُودُ مِنَ الإِفْكِ، وَنَزَّهَهَا عَنْ افْتِرائِهِمْ.
الكَهْلُ - مَنْ لَهُ مِنَ العُمْرِ بَيْنَ الثَّلاَثِينَ وَالأرْبَعِينَ عَاماً.
فِي المَهْدِ - فِي السَّرِيرِ زَمَنَ الرَّضَاعَةِ.
قَضَى أمْراً - أَرَادَ شَيْئاً أَوْ أَحْكَمَهُ وَحَتَّمَهُ.
(٤٨) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَن تَتِمَّةِ بِشَارَةِ المَلاَئِكَةِ لِمَرْيَمَ بِابْنِها إذْ قَالَتْ لَهَا: إنَّ اللهَ يُعَمِّلُهُ الكِتَابَةَ، وَالعِلْمَ الصَّحِيحَ البَاعِثَ لِلإِرَادَةِ إلى الأعْمَالِ النَّافِعَةِ، وَيُفَقِّهُهُ في التَّورَاةِ، وَيُعَلِّمُهُ أسْرارَهَا وَأَحْكَامَهَا، وَيُعَلِّمُهُ الإِنْجِيلَ الذِي يُوحِي بِهِ إليهِ.
الحِكْمَةَ - الفِقْهَ وَالصَّوَابَ قَوْلاً وَعَمَلاً.
الكِتَابَ - الخَطَّ بِالَيدِ.
(٤٩) - وَإنَّ اللهَ سَيَبْعَثُهُ رَسُولاً إلى بَني إسْرَائِيلِ فَيَقُولُ لَهُمْ: إنَّهُ رَسُولُ اللهِ إَلَيْهم، وَإنَّ اللهَ أَعْطَاهُ آياتٍ وَمُعْجِزاتٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ، مِنْهَا أنَّهُ كَانَ يُصَوِّرُ لَهُمْ مِنَ الطِّين كَهَيْئةِ الطَّيرِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ، بِإِذْنِ اللهِ، فَتَدُبُّ فِيهِ الحَيَاةُ وَيَطِيرُ. وَأنّهُ كَانَ يُبِرئُ الأكَمَهَ الذِي وُلِدَ وَهُوَ أَعْمَى، وَيُبْرِئُ الأَبْرَصَ - وَالبَرَصُ دَاءٌ مَعْرُوفٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَوَاءٌ وَلا شِفَاءٌ - وَأنَّهُ يُحْيِي المَوْتى بِإذْنِ اللهِ، وَيُنْبِئُهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ فِي بُيُوتِهِمْ مِنْ أنْواعِ المَآكِلِ، وَبِمَا يَدَّخِرُونَهُ فِيهَا إلى الغَدِ. وَفي كُلِّ ذَلِكَ آيةٌ وَمُعْجِزَةٌ تَدُلَّ عَلَى صِدْقِهِ فِيما جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ، إنْ كَانُوا مُؤْمِنينَ مُصَدِّقِينَ بِحُجَجِ اللهِ وَآيَاتِهِ، مُقِرِّينَ بِوحدَانِيَّتِهِ.
الأكَمَهَ - الأَعْمَى الذِي وُلِدَ وَهُوَ أَعْمَى.
الأَبْرَصَ - مَنْ بِهِ دَاءُ البَرَصِ.
أَخْلُقُ لَكُمْ - أصَوِّرُ لَكُمْ.
(٥٠) - وَسَيَكُونُ عِيسَى مُصَدِّقاً لِلتَّورَاةِ وَشَرِيعَتِها، وَمُقَرَراً لَهَا وَمُثْبِتاً، وَقَدْ نَسَخَتْ شَرِيعَةُ عِيسَى بَعْضَ مَا جَاءَ فِي شَريعَةِ التَّوَرَاةِ عَلَى أَصَحِّ الأقْوالِ لأَنَّهُ تَعَالَى أتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾.
وَقَالَ لَهُمْ إنَّهُ جَاءَهُمْ بِمُعْجِزاتٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَقُولُهُ لَهُمْ: (مِثْلِ خَلْقِ الطَّيرِ مِنَ الطِّينِ، وَنَفَخَ الرُّوحِ فِيهِ، وَإبراءِ الأكَمَهِ وَالأَبْرَصِ وَإحْيَاءِ المَيِّتِ، وَالإِنْبَاءِ بِالخَفِيَّاتِ...) ثُمَّ يَطْلُبُ مِنْهُمْ أنْ يُطِيعُوا رَسُولَهُ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إلَيهِ.
مَا تَدَّخِرُونَ - مَا تُخَبِّئُونَ فِي بُيُوتِكُمْ مِنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ.
(٥١) - ثُمَّ أمَرَهُمْ عِيسَى بالتَّوْحِيدِ، وَعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَبِمُلاَزَمَةِ الطَّاعَةِ بِأَدَاءِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَتَرَكَ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ السَّوِيُّ الوَاضِحُ، الذِي أَجْمَعَ عَلَيهِ الرُّسُلُ جَمِيعاً، وَهُوَ المُوصِلُ إلَى خَيْرَي الدُّنيا وَالآخِرَةِ.
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ - طَرِيقٌ سَوِيٌّ لاَ عِوَجَ فِيهِ.
(٥٢) - فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ تَعَالَى عِيسَى رَسُولاً إلى قَوْمِهِ بَني إِسْرَائِيلَ، دَعَاهُمْ إلى دِينِ اللهِ القَوِيمِ، فَأَبَى أَكْثَرُهُمْ وَسَخِرُوا مِنْهُ، فَلَمَّا اسْتَشْعَرَ عِيسَى مِنْهُمْ الكُفْرَ وَالاسْتِمْرارَ فِي العِنَادِ وَالضَّلاَلَةِ، وَقَصْدِ الإِيذَاءِ، سَأَلَ النَّاسَ قَائِلاً: مَنْ يَتْبَعُنِي إلى اللهِ، وَيَنْصُرُ دَعْوتِي إليهِ؟ فَقَالَ الحَوَارِيُّونَ (أيِ الأنْصَارُ) نَحْنُ عَلَى استعدادٍ لِنُصْرَتِكَ فِي سَبيلِ دَعْوَتِكَ إلى اللهِ، فَقَدْ آمَنَّا بِاللهِ، وَاشْهَدْ عَلينا بأنَّنا أَسْلَمْنَا إليهِ وُجُوهَنَا، وَنَحْنُ مُنْقَادُونَ لأوَامِرِهِ.
(وَفِي هذا دَليلٌ عَلَى أنَّ الإِسْلاَمَ هُوَ دِينُ اللهِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيِّ).
أحَسَّ - عَلِمَ أوْ شَعَرَ.
الأنْصَارُ - وَاحِدُهُمْ نَصِيرٌ وَهُوَ المُعِينُ وَالمُظَاهِرُ.
الحَوَارِيُّ - الصَّفِيُّ وَالنَّاصِرُ.
(٥٣) - وَتَضَرَّعَ الحَوَارِيُّونَ إلى رَبِّهِمْ قَائِلِينَ: رَبَّنا آمَنَّا بِكَ وَبِنَبِّيكَ، وَبِمَا أَنْزَلْتَ عَلَيهِ، وَاتَّبَعْنا رَسُولَكَ وَصَدَّقْنَاهُ، وَامْتَثَلْنَا لِمَا أتَى بِهِ، فَاكْتُبْنَا وَاجْعَلْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ لِرَسُولِكَ بِالتَّبلِيغِ، وَعََلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالكُُفْرِ وَالعِنَادِ وَالجُحُودِ.
(٥٤) - وَأَرادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ التَّخَلُّصَ مِنْ عِيسَى وَدَعْوَتِهِ، فَوَشَوْا بِهِ إلى مُمَثِّلِ رُومَا فِي فِلَسْطِينَ، وَقَالُوا لَهُ إنَّهُ يُوجَدُ رَجُلٌ يُضِلُّ النَّاسَ، وَيَصْرِفُهُمْ عَنْ طَاعَةِ المَلِكِ، وَيُفْسِدُ الرَّعيَّةَ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الأب وَابْنِهِ، فَبَعَثَ ثُلَّةً مِنَ الجُنْدِ لأخْذِهِ وَصَلْبِهِ، فَلَمَّا أحَاطَ الجُنْدُ بِالبَيْتِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ ظَفِرُوا بِهِ نَجَّاهُ اللهُ، واشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ فِي ظُلْمِةِ اللَّيْلِ ظَنُّوهُ المَسِيحَ فَأخَذُوهُ وَصَلَبُوهُ.
(وَيُقَالُ إنَّ هذا الشَّخْصَ هُوَ الذِي وَشَى بِالمَسِيحِ وَأرَادَ الدَّلاَلَةَ عَلَيهِ) أمَّا المَسِيحُ فَقَدْ رَفَعَهُ اللهُ إليه وَنَجَّاهُ. وَهكَذا مَكَرَ اللهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَبْطَلَ مَكْرَهُمْ وَكَيْدَهُمْ وَتَدِبِيرَهُمْ.
المَكْرُ - التَّدْبِيرُ المُحْكَمُ الخَفِيُّ - وَغَلَبَ اسْتِعمَالُهُ فِي التَّدْبِيرِ السَّيِّىءِ.
(٥٥) - وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ فِيمَا تَقُصُّهُ عَلَيْهِمْ إذْ بَشَّرَ اللهُ تَعَالَى عِيسَى بِأَنَّهُ سَيُنَجِّيهِ مِنْ مَكْرِ اليَهُودِ، وَأنَّهُ سَيَسْتَوفِي أجَلَهُ، وَأنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوا مِنْهُ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ بِمَكْرِهِمْ وَخُبْثِهِمْ، وَأنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَ المَوْتِ فِي مَكَانٍ رَفيعٍ عِنْدَ اللهِ، وَأنَّّهُ سَيَجْعَلُ الذِينَ آمَنُوا بِأنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه، وَصَدَّقُوهُ فِي قَوْلِهِ ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَد﴾ ثُمَّ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَرِسَالَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، ظَاهِرِينَ بِالقُوَّةِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى الذِينَ مَكَرُوا بِهِ وَكَذَّبُوهُ، مِنَ اليَهودِ، وَمَنْ سَارُوا بِسيرَتِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهُدَى عِيسَى، وَسَيَسْتَمِرُّ هَذَا الظُّهُورُ وَالسُّلْطَانُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ. ثُمَّ يَصيرُ الجَمِيعُ إلى اللهِ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أمُورِ الدِّينِ.
مُتَوفِّيكَ - مُمِيتُكَ - آخِذُكَ وَافياً بِرُوحِكَ وَجَسَدِكَ.
(٥٦) - فَأمَّا الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرِسَالةِ المَسِيحِ فَإنَّ اللهَ سَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً، فِي الدُّنيا بِالقَتْلِ وَالسَّبْي، وَأخْذِ الأمْوَالِ، وَزَوَالِ المُلْكِ، وَتَسْلِيطِ الأُمَمِ عَليهِمْ، وَسَيُعَذِّبُهُمْ فِي الآخِرَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَا لَهُمْ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأْسِهِ.
(٥٧) - وَأمَّا المُهْتَدُونَ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَيُثِيبُهُمْ ثَوَاباً وَافِياً عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فِي الدُّنيا بِالنَّصْرِ والظَّفَرِ، وَفِي الآخِرَةِ بِالخُلُودِ فِي جَنَّتِهِ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المُتَجَاوِزِينَ لِحُدُودِهِ، وَلاَ يَرْفَعُ لَهُمْ قَدْراً.
(٥٨) - مَا قَصَصْنَاهُ عَلَيكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أمْرِ عِيسَى، وَأمِّهِ مَرْيَمَ، وَأمِّها امْرَأَةِ عِمْرَانَ، وَمَبْدَأ وِلاَدةَ عِيسَى، وَتَفْصِيلِ أَمْرِهِ، وأَمْرِ زَكَرِيّا وَيَحْيَى، وَمَا قَصَصْنَاهُ عَليكَ مِنْ أمْرِ الحَوَارِيينَ وَاليَهُودِ.. إنَّما هُوَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ ألْقَاهُ إليكَ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ، وَهُوَ مِنَ القرآنِ وَالحِكْمَةِ، يُبَيِّنُ وُجُوهَ العِبَرِ عَلَى مَنْ حَاجَّكَ مِنْ وَفْدِ نَجْرَانَ، وَيَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الذِينَ كَذَّبُوكَ، وَكَذَّبُوكَ، وَكَذَّبُوا بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الحَقِّ.
(٥٩) - إنَّ مَثَلَ عِيسَى فِي قُدْرَةِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ دُونِ أبٍ، كَمَثَلِ آدَمَ فِي خَلْقِهِ مِنْ تُرابٍ (مِنْ دُونِ أبٍ وَلاَ أمٍّ)، وَإنَّما أنْشَأهُ بَشَراً بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، فَكَانَ كَمَا أمَرَ اللهُ.
مَثَلَ عِيسَى - حَالَهُ وَصِفَتَهُ العَجِيبَةَ.
المُمْتَرِينَ - المُتَشَكِّكِينَ.
(٦١) - قَدِمَ وَفْدٌ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ فِيهِ سُتُّونَ رَاكِباً أخَذُوا يُحَاجُّونَ الرَّسُولَ ﷺ، وَيَقُولُونَ فِي المَسِيحِ عَليهِ السَّلاَمُ: إنَّهُ اللهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ ابْنُ اللهِ، وَقَالَ آخَرُونَ إنَّهُ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ.. وَلمَّا طَالَ الجَدَلُ أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ الآيَاتِ المُتَعَلَّقَةَ بِعِيسَى وَمَرْيَمَ، وَأمَرَهُ بِدَعْوَتِهِمْ إلى المُبَاهَلَةِ، بِأنْ يَدْعُوَ كُلُّ فَرِيقٍ أبْنَاءَهُ وَنِسَاءَهُ وَنَفْسَهُ ثُمَّ يَضْرَعُونَ إلى اللهِ بِأنْ يَجْعَلَ غَضَبَهُ وَنَقْمَتَهُ عَلَى مَنْ كَذَّبَ فِي أَمْرِ عِيسَى مِنْ كَوْنِهِ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أبٍ، وَأنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَلَيسَ إلهاً.
فَتَشَاوَرَ أعْضَاءُ الوَفْدِ فِي أمْرِهِمْ فَرَأوا أنْ لا يُلاَعِنُوا النَّبِيَّ خَوْفاً مِنَ العَاقِبَةِ.
(وَفِي هَذِهِ الآيَةِ يُكَذِّبُ اللهُ اليَهُودَ فِيمَا رَمَوْا بِهِ السَّيِّدَةَ البَتُولَ مَرْيَمَ مِنَ الإِفْكِ وَالبُهْتَانِ، وَفِي تَكْذِيبِهِمْ عِيسَى، وَيُكَذِّبُ مَنْ زَعَمَ مِنَ النَّصَارَى أنَّ المَسِيحَ إلهٌ).
(المُبَاهَلَةُ هِيَ أنْ يَجْتَمِعَ فَرِيقَانِ يَخْتَلِفَانِ فِي أمْرٍ ثُمَّ يَبْتَهِلاَنِ إلى اللهِ بِأنْ يَجْعَلَ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبينَ).
(وَهَذا الطَّلَبُ يَدُلّ عَلَى قُوَّةِ يِقِينِ صَاحِبِهِ، وَثِقَتِهِ بِمَا يَقُولُ).
حَاجَّكَ - جَادَلَكَ.
تَعَالَوْا - هَلُمُّوا وَأقْبِلُوا.
نَبْتَهِلْ - نَدْعُ بِاللَّعْنَةِ عَلَى الكَاذِبِ مِنَّا.
القَصَصُ - تَتَبُّعُ الأثَرِ. ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الحَدِيثِ.
(٦٤) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لأَهْلِ الكِتَابِ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى: أنَا وَأنْتُمْ نَعْتَقِدُ أنَّ العَالَمَ مِنْ صُنْعِ إلهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ خَالِقُهُ وَمدَبِّرُهُ، وَهُوَ الذِي يُرْسِلُ الأنْبِياءَ لِيُبَلِّغُوا عَنْهُ مَا يُرِيدُ، فَتَعَالوا إلى عِبَارَةٍ، أوْ جُمْلَةِ عَدْلٍ وَإنْصَافٍ (سَوَاءٍ)، نَسْتَوِي نَحْنُ وَإيَّاكُمْ فِيها، وَاتَّفَقَتْ عَلَيها جَمِيعُ الرُّسُلِ وَالكُتُبِ التِي أنْزِلَتْ إلَيْهِمْ، وَهِيَ ألاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ وَحْدَهُ، لَهُ السُّلْطَةُ المُطْلَقَةُ فِي التَّشْرِيعْ وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، وَلاَ نُشْرِك بِهِ شَيْئاً (لاَ وَثَناً وَلا صَنَماً وَلاَ صَلِيباً وَلاَ طَاغُوتاً) وَهَذِهِ هِيَ دَعْوَةُ جَميعِ الرُّسُلِ، وَلا يُطِيع بَعْضُنا بَعْضاً فِي مَعْصِيَةِ اللهِ. فَإنْ رَفَضُوا الاسْتِجَابَةَ لِهَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَتَوَلَّوْا عَنْهَا، وَأبَوْا إلاًّ أنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللهِ، وَاتَّخَذَوا الشُّرَكَاءَ وَالوُسَطَاءَ وَالأرْبَابَ الذِينَ يُحَلِّلُونَ وَيُحَرِّمُونَ، فَقُولُوا لَهُمْ - أنْتَ وَالمُسْلِمُونَ مَعَكَ -: اشْهَدُوا عَلينَا بِأنَّنَا مُقِيمُونَ عَلَى دِينِ الإسْلاَمِ الذِي شَرَعَهُ اللهُ لَنَا، وَنَحْنُ مُخْلِصُونَ لَهُ لاَ نَعْبُدُ مَعَ اللهِ أحداً غَيْرَهُ.
الرَّبُّ - السَّيِّدُ المُرَبِّي الذِي يُطَاعُ فِي أمْرِهِ وَنَهيهِ.
مُسْلِمُونَ - مُنْقَادُونَ إليهِ.
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ - كَلِمَةِ عَدْلٍ وَإِنْصَافٍ، لاَ تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ.
(٦٥) - يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ادّعَاءَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِأنَّ إبراهِيمَ كَانَ مِنْهُمْ، وَعَلَى دِينِهِمْ، فَقَدِ اجْتَمَعَ وَفْدٌ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَأحْبَارِ يَهُودِ المَدِينَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَتَنَازَعُوا حَوْلَ إبراهِيمَ. فَأنْزَلَ اللهُ الآيةَ مُسْتَنْكِراً ادَّعَاءَاتِهِمْ لأنَّ إبراهيمَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، وَقَبْلَ نُزُولِ الإِنْجِيلِ. وَلَمْ يَكُنْ إبراهِيمُ عَلى شَيءٍ مِنْ تَقَالِيدِ اليَهُودِ وَلا النَّصَارَى، وَإنَّمَا كَانَ عَلَى الإِسْلاَمِ الذي يَدْعُوا إليهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَكَيفَ يَقُولُونَ قَوْلاً عَلَى جَهْلِهِمْ، وَقِصَرِ عُقُولِهِمْ؟
حَاجَّ - جَادَلَ.
(٦٦) - لَقَدْ جَادَلْتُمْ وَحَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ - عَلَى مَا تَزْعُمُونَ - مِنْ أمْرِ عِيسَى، وَإذْ قَامَتْ عَلَيكُمُ الحَجَّةُ، وَتَبَيَّنَ أنَّ مِنْكُمْ مَنْ غَلاَ وَأفْرَطَ وَادَّعَى ألُوهِيَّتَهُ، وَمِنْكُمْ مَنْ فَرَّطَ وَقَالَ: إنَّهُ دَعِيٌّ كَذَّابٌ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُكُمْ بِمَانِعٍ لَكُمْ مِنَ الخَطَأ، فَلِمَاذَا تَحَاجُّونَ فِي أمْرِ إبراهِيمَ، وَلَيَسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَلاَ لِدِينِهِ ذِكْرٌ فِي كُتُبِكُمْ، فَمِنْ أيْنَ أتَاكُم أنَّهُ كَانَ يَهودِيّاً أوْ نَصْرَانِيّاً؟ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا غَابَ عَنْكُمْ وَلَمْ تُشَاهِدُوهُ، وَلَمْ تَأتِكُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أمْرِ إبراهِيمَ وَغَيْرِهِ مِمَّا تُجَادِلُونَ فِيهِ، وَأنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ إلاَّ مُا عَايَنْتُمْ وَشَاهَدْتُمْ وَأدْرَكْتُمْ عِلْمَهُ بِالسَّمَاعِ.
(٦٧) - إنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى الذِينَ جَادَلُوا فِي إبراهِيم وَمِلَّتِهِ، وَقَالُوا: إنَّهُ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِمْ وَدِينِهِمْ، هُمْ كَاذِبُونَ فِي دَعْوَاهُمْ، وَإنَّ الصَّادِقَ هُمْ أهْلُ الإسْلامِ، فَإنَّهُمْ وَحْدَهُمْ أهْلُ دِينهِ، وَعَلَى مِنْهَاجِهِ وَشَرِيعَتِهِ، دُونَ سَائِرِ المِلَلِ، فَقَدْ كَانَ إبراهِيمُ مطيعاً للهِ، مُقِيماً عَلَى مَحَجَّةِ الهُدَى التِي أمِرَ بِلُزُومِهَا، خَاشِعاً للهِ، مُتَذَلِّلَ القَلْبِ، مُذْعِناً لِمَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيهِ، وَألْزَمَهُ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ المُشْرِكينَ.
الحَنِيفُ - المُنْحَرِفُ عَنِ الشِّرْكِ وَالعَقَائِدِ الزَّائِفَةِ.
مُسْلِماً - موَحِّداً أوْ مُنْقَاداً للهٍ مُطِيعاً.
(٦٨) - إنَّ أحَقَّ النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ وَنُصْرَتِهِ وَوِلاَيتِهِ، هُمُ الذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلَى دِينِهِ، وَسَلَكُوا طَرِيقَهُ وَمِنْهَاجَهُ في عَصْرِهِ، فَوَحَّدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَكَانظثوا حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ، ثُمَّ هذا النَّبِيُّ (يَعْنِي مُحَمَّداً ﷺ)، وَالذِينَ آمَنُوا مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأنْصَارِ، وَمَنِ تَبِعَهُمْ بَعْدَهُمْ، فَهؤُلاءِ هُمْ أهْلُ التَّوْحِيدِ الخَالِصِ، وَهُمْ المُخْلِصُونَ للهِ فِي أعْمَالِهِمْ وعِبَادَتِهِمْ، دُونَ شِرْكٍ وَلاَ رِيَاءٍ، وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنينَ.
أوْلى النَّاس - أحَقَّ النَّاسِ.
وَلِيُّ المُؤْمِنينَ - نَاصِرُهُمْ وَمُجَازِيهِمْ بِالحُسْنَى.
(٦٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَسَدِ اليَهُودِ لِلْمُؤْمِنينَ، وَرَغْبَتِهِمْ في إضْلالِهِمْ، وَصَرْفِهِمْ عَنِ الإِيمَانِ، فَقَالَ: إنَّ طَائِفَةً مِنْ أَحْبَارِ اليَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ أحَبُّوا أنْ يُوقِعُوكُمْ فِي الضَّلاَلَةِ بإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ التِي تُشَكِّكُكُمْ في دِينِكُمْ، وَتَرُدُّكُمْ إلى مَا كُنْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ، وَلكِنَّهُمْ فِي الحَقِيقَةِ يُضِلُّونَ أنْفُسَهُمْ، وَيُفْسِدُونَ فِطْرَتَهُمْ بِاخْتِيارِهِمْ، لأنَّهُمْ يَشْغَلُونَ أنْفُسَهُمْ فِب البَحْثِ عَنْ وَسِيلةٍ لإِضْلاَلِكُمْ فَيَصْرِفُونَ أنْفُسَهُمْ عَنِ النَّظَرِ في طُرُقِ الهِدَايَةِ، وَلاَ يَشْعُرُونَ أنَّ مَكْرَهُمْ مُحِيقٌ بِهِمْ، وَانَّ عَاقِبَةَ سَعْيِهِمْ لاَ تَضُرُّ المُؤْمِنينَ.
وَدَّتْ - تَمَنَّتْ.
الطَّائِفَةُ - الجَمَاعَةُ.
(٧٠) - يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى اليَهُودِ كُفْرَهُمْ بِآيَاتِ اللهِ، وَبَرَاهِينِهِ، الوَاضِحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَهُمء يَعْلَمُونَ أنَّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَكُتُبُهُمْ تَشْهَدُ بِصِحَّتِهَا، وَقَدْ جَاءَتْ فِيها البِشَارَةُ بِهِ، وَبَيَّنَتْ أوْصَافَهُ، وَهِيَ لاَ تَنْطَبِقُ إلاَّ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.
(٧١) - يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى اليَهُودِ كُفْرَهُمْ، وَخَلْطَهُمُ الحَقَّ الذِي جَاءَ بِهِ الأنْبِياءُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الكُتُبُ، بِالشُّبُهَاتِ الوَاهِيَةِ، والتَّأوِيلاتِ البَاطِلَةِ، وَعَدَمَ إذاعَتِهِم الحَقَّ صَرِيحاً وَاضِحاً بَعِيداً عَنِ التَّخْلِيطِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنَّ عِقَابَ اللهِ عَظِيمٌ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الأعْمَالِ.
تَلْبِسُونَ - تَخْلِطُونَ وَتُمَوِّهُونَ أوْ تَسْتُرُونَ.
(٧٢) - اقْتَرَحَتْ طَائِفَةٌ مِنَ اليَهُودِ: هُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ الصَّيْفِ، وَعَدِسُّ بْنُ زَيْدٍ، وَالحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ عَلَى إخْوَانِهِم اليَهُودِ أنْ يَكِيدُوا لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ أمْرَهُمْ، وَذَلِكَ بِأنْ يُؤْمِنَ فَرِيقٌ مِنَ اليَهُودِ بالإِسْلاَمِ أوَّلَ النَّهَارِ (وَجْهَ النَّهَارِ)، ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَرْتَدُّونَ عَنْهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، لِيَظُنَّ الجَهَلَةُ مِنَ المُسْلِمِينَ أنَّهُمْ إنَّما رَدَّهُمْ إلى دِينِهِمْ اطّلاَعُهُمْ عَلَى نَقِيصَةٍ وَعَيْبٍ فِي دِينِ الإسْلامِ، فَيَرْتَدُّونَ هُمْ أيْضاً.
وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ مِنْ هَؤلاءِ، وَأطْلَعَهُ عَلَى سِرِّهِمْ وَمَكْرِهِمْ، حَتَّى لاَ تُؤثِّرَ هَذِهِ الحِيَلُ فِي قُلُوبِ ضُعَفَاءِ الإِيمَانِ.
(وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: صَلَّتِ اليَهُودُ مَعَ مُحَمَّدٍ ﷺ صَلاَةً الصُّبْحِ، وَكَفَرُوا آخِرَ النَّهَارِ مَكْراً مِنْهُمْ لِيُرُوا النَّاسَ أنَّهُ قَدْ بَدَتْ لَهُمْ الضَّلاَلَةُ مِنْهُ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا اتَّبَعُوهُ).
وَجْهَ النَّهَارِ - أوَّلَهُ.
(٧٣) - وَتَقُول هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ: لاَ تَطْمَئِنُّوا وَلا تُظْهِروا أسْرَارَ دِينكُمْ، وَمَا عِنْدَكُمْ إلاَّ لِمُتَّبِعِي دِينِكُمْ، وَلاَ تُظْهِرُوا شَيْئاً مِمَّا عِنْدَكُمْ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَتَعَلَّمُوا، وَيُسَاوُوكُمْ بِهِ، وَيَحْتَجُّوا بِهِ عَلَيْكُمْ.
وَقَالُوا: لاَ تَعْتَرِفُوا أمَامَ العَرَبِ، أوْ غَيْرِهِمْ أنَّكُمْ تَعْتَقِدُونَ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُبْعَثَ نَبِيٌّ مِنْ غَيْرِ بَنِي إسْرَائِيلَ.
وَرَدَّ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: إنَّ الرِّسَالَةَ فَضْلٌ مِنَ اللهِ، وَهوَ تَعَالَى العَلِيمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ فَيُعْطِيهِ، وَإنَّ اللهَ هُوَ الذِي يَهْدِي القُلُوبَ إلى الإيمَانِ الكَامِلِ، بِمَا يُنْزِلُ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ مِنَ الآيَاتِ، وَالدَّلاَئِلِ، وَالحُجَجِ الوَاضِحَاتِ. وَإذا كُنْتُمْ يَا أيُّها اليَهُودُ تَكْتُمُونَ صِفَة َ مُحَمَّدٍ المُبَيَّنَةَ فِي كُتُبِكُمْ، وَوَصَلَتْكُمْ مِنْ أَنْبِيَائِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ أعْلَمَ بِهَا رَسُولَهُ. وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ الفَضْلَ وَالأمُورَ كُلَّها بِيدِ اللهِ، وَهُوَ المُعْطِي وَالمَانِعُ، يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ بالإيمَانِ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ وَاسِعُ العِلْمِ وَالفَضْلِ.
آمَنَ لَهُ - صَدَّقَهُ وَسَلَّمَ بِمَا يَقُولُ.
الفَضْلَ - هُنَا النُّبُوَّةَ. وَفي الأصْلِ الزِّيَادَةُ.
وَاسِعٌ - مَغْفِرَتُهُ وَاسِعَةٌ.
(٧٥) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ خِيَانَةِ اليهُودِ، وَيُحَذِّرُ المُؤْمِنِينَ مِنَ الاغْتِرَارِ بِهِمْ، فَمِنْهُمْ جَمَاعَةٌ أُمَنَاءُ يُؤَدُّونَ مَا ائْتُمِنُوا عَلَيْهِ، حَتًّى وَلَو كَانَ قِنْطَاراً مِنَ المَالِ. وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ فِي الأَمَانَةِ، فَلاَ يُؤَدُّونَ مَا ائْتُمِنُوا عَلَيْهِ، إلاَّ بِالمُلاَزَمَةِ وَالإِلْحَاحِ، لاسْتِخْلاَصِ الحَقِّ مِنْهُمْ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ دِينَاراً وَاحِداً. وَالذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لاَ حَرَجَ عَلَيهِمْ فِي أَكْلِ أَمْوَالِ العَرَبِ (الأُمِّيِّينَ)، وَاعْتِقَادُهُمْ بِأَنَّ اللهَ أَحَلَّ لَهُمْ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسَ مِمَنْ هُمْ عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ بِأيَّةِ طَرِيقَةٍ كَانَتْ، بِالحِقِّ أوْ بِالبَاطِلِ. وَقَوْلُهُمْ هَذا كَذِبٌ، واعْتِقَادُهُمْ بَاطِلٌ، لأنَّ اللهَ حَرَّمَ أَكْلَ الأَمْوَالِ إلاَّ بِحَقِهَا، وَإِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ بُهْتٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَ قَوْلِهِمْ هَذا، كَمَا يَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ حَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسَ بِالبَاطِلِ.
(وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أنَّ جَمَاعَةً مِنَ المُسْلِمِينَ بَاعُوا إلَى اليَهُودِ بَعْضَ السِّلَعِ فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَا أَسْلَمُوا وَتَقَاضَوْهُمُ الثَّمَنَ قَالُوا: لَيْسَ لَكُمْ عَلَينَا أَمَانَةً، وَلاَ قَضَاءَ لَكُمْ عِنْدَنَا، لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ الذِي كُنْتُمْ عَلَيهِ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ).
تَأمَنْهُ - تَأتَمِنْهُ مِنَ الأمَانَةِ.
الأمِّيُّونَ - العَرَبُ لأَنَّهُمْ لا يَقْرَؤُونَ وَلاَ يَكْتُبُونَ.
السَّبِيلُ - المُؤَاخَذَةُ أو الإِثْمُ أوِ الجُرْمُ.
عَلَيهِ قَائِماً - مُلاَزِماً لَهُ تُطَالِبُهُ وَتُقَاضِيهِ.
(٧٧) - أخَذَ اللهُ المِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أنْ يُؤْمِنُوا بِكُلِّ نَبيٍِّ يُرْسِلُهُ، وَأنْ يُؤَيِّدُوهُ، وَألاَّ يَكْتُمُوا شَيْئاً مِمَّا شَرَعَ اللهُ، وَألْزَمَهُمْ شَرْعُهُمْ بِالصِّدْقِ وَالوَفَاءِ بِمَا يَتَعَاهَدُونَ عَلَيهِن وَبِمَا يَتَعَاقَدُونَ، وَبِأنْ يُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إلى أهْلِهَا، وَأنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، فَخَالَفُوا عَنْ أمْرِ اللهِ، وَكَفَرُوا بِعِيسَى وَبِمُحَمَّدٍ، وَبِغَيْرِهِمَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ. وَقَتَلُوا النَّبِيِّنَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَتَمُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَاتِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، وَمِنَ التَّبْشِيرِ بِهِمَا، خَوْفاً عَلَى نُفُودِهِمْ مِنْ أنْ يَزُولَ، وَعَلَى مَوَارِدِهِمْ مِنْ أنْ تَقِلًّ، إذا بَيَّنُوا لِلنَّاسِ شَرْعَ اللهِ، لِذَلِكَ فَإِنَّهمْ قَدْ خَالَفُوا عَهْدض اللهِ وَمِيثَاقَهُ وَكَأنَّهُمْ اشْتَرَوا بِهِذا العَهْدِ قَلِيلاً مِنْ حَطَامِ الدُّنيا الفَانِيَةِ، فَهؤُلاءِ لاَ نَصِيبَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ولاَ حَظَّ، وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمِ، وَإنَّما يَتَلَقَاهُمْ وَهُوَ عَلَيهِمْ غَضْبَانُ، وَيَأمُرُ بِإِلْقَائِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ لِيَنَالُوا العَذَابَ الألِيمَ الذِي يَسْتَحِقُونَهُ.
(وَهَذِهِ الآيَةُ تَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَحْلِفُ يَمِيناً كَاذِباً لِيَأكُلَ بِهَا مَالَ النًّاسِ بِالبَاطِلِ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسم مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَليهِ غَضْبَانُ، وَقَرَأ رَسُولُ اللهِ هَذِهِ الآيَةِ).
يَشْتَرُونَ - يَسْتَبْدِلُونَ.
لاَ يُزَكِّيهِمْ - لاَ يُثْنِي عَلَيْهِمء وَلاَ يَمْدَحُهُمْ.
العَهْدُ - عَهْدُ اللهِ إلَى النَّاسِ بِأنْ يَلْتَزِمُوا الصِّدْقَ وَالوفَاءَ بِمَا يَتَعَاهَدُونَ عَلَيهِ.
الأَيْمَانُ - يُقْصَدُ بِهَا هُنَا الأَيْمَانُ الكَاذِبَةُ.
الخَلاَقُ - النَّصِيبُ وَالحَظُّ.
(٧٨) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ أنَّ فَرِيقاً مِنَ اليَهُودِ (مِثْلَ كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ وَأضْرَابِهِمَا) يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَيَتَأوَّلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَهُمْ يَنْسُبُونَهُ إلى اللهِ، وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى اللهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ إنهم لَكَاذِبُونَ.
ليُّ اللِّسَانِ بِالكِتَابِ - فَتْلُهُ لِلْكَلاَمِ، أوْ تَحْرِيفُهُ بِصَرْفِهِ عَنْ مَعْنَاهُ إلى مَعْنىً آخَرَ.
(٧٩) - مَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ آتَأهُ اللهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ أنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ اعْبُدُونِي مِنْ دُونِ اللهِ، وَلَكِنَّ الرَّسُولَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: اعْبُدُوا اللهَ، وَكُونُوا أهْلَ عِبَادَةٍ للهِ وَتَقْوىً (رَبَّانِيِّينَ)، وَكُونُوا فُقَهَاءً تَفْهَمُونَ شَرَائِعَ دِينِهِ، وَتَحْفَظُونَها، وَتَدْرُسُونَ كُتُبَهُ وَتَعْمَلُونَ بِهَا.
الرَّبَّانِيُّ - المَنْسُوبُ إلى الرَّبِّ، لأنَّهُ عَالِمٌ بِهِ، قَائِمٌ بِطَاعَتِهِ.
تَدْرُسُونَ - تَقْرَؤُونَ الكِتَابَ.
الحُكْمَ - الحِكْمَةَ أوِ الفَهْمَ وَالعِلْمَ.
(٨٠) - وَلاَ يَأمُرُكُمُ النَّبِيُّ أنْ تَعْبُدُوا أحَداً غَيْرَ اللهِ، لا نَبِيّاً مُرْسَلاً وَلاَ مَلَكاً مُقَرَّباً، لأنًَّ عِبَادَةَ غَيرِ اللهِ كُفْرٌ. وَمَنْ دَعَا إلى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ فَقَدْ دَعَا إِلى الكُفْرِ. وَالأنْبِيَاءُ إِنَّمَا يَأْمُرُونَ بِالإِيْمَانِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَبإِخْلاصِ العِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ مِنَ المَعْقُولِ أنْ يَدْعُوَ النَّبِيُّ النَّاسَ إلى الكُفْرِ، بَعْدَ أنْ أَسْلَمُوا وُجُوَهَهُمْ للهِ مُؤْمِنينَ مُطِيعِينَ.
(٨١) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَ المِيثَاقَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ مِنْ لَدُنء آدَمَ، أَنَّه مَهْمَا آتَى أَحَدَهُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، وَبَلَغَ أيَّ مَبْلَغٍ، ثُمَّ جَاءَ رَسُولٌ بَعْدَهُ فَإِنَّ عَلَيهِ أنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيَنْصُرَهُ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مَا هُوَ عَلَيهِ مِنَ العِلْمش وَالنُّبُوَّةِ مِنِ اتِّباعِ مَنْ بُعِثَ بَعْدَهُ، وَمِنْ نُصْرَتِهِ.
وَقَالَ اللهُ لِلأنْبِيَاءِ: أأقْرَرْتُمْ بِذلِكَ، وَعَاهَدْتُمُونِي عَهْداً وَثِيقاً مُؤَكَّداً؟ قَالُوا: أقْرَرْنا. قَالَ اللهُ تَعَالَى للأنْبِيَاءِ: فَاشْهَدُوا وَأنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَقَدْ أبْلَغَ الأنْبيَاءُ، صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، أُمَمَهُمْ بِهَذَا العَهْدِ، فَوَجَبَ عَلَى أُمَمِهِمْ أنْ يُؤْمِنُوا بِالنَّبِيِّ الذِي يَبْعَثُهُ اللهُ، وَيَنْصُرُوهُ، وَفَاءً وَاتِّبَاعاً بِمَا الْتَزَمَ بِهِ أنْبِياؤُهُمْ.
المِيثَاقُ - العَهْدُ المُوثَّقُ بِالأيْمَانِ.
الإصْرُ - العَهْدُ المُؤَكَّدُ المُغَلَّظُ.
أخَذْتُمْ - قَبِلْتُمْ.
(٨٢) - فَمَنْ تَخَلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذا العَهْدِ وَالمِيثَاقِ، وَاتَّخَذَ الدِّينَ وَسِيلَةً لِلتَّفْرِيقِ وَالعُدْوانِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ المُتَأخِّرِ المُصَدِّقِ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ، وَلَمْ يَنْصُرْهُ، فَأولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ الجَاحِدُونَ الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ. فَأهْلُ الكِتَابِ الذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، هُمْ خَارِجُونَ عَنْ مِيثَاقِ اللهِ، نَاقِضُونَ لِعَهْدِهِ، وَلَيْسُوا عَلَى الدِّينِ الحَقِّ.
(٨٣) - يُنكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنِ ابْتَغَى دِيناً غَيْرَ دِينِ اللهِ الذِي أَنْزَلَهُ فِي كُتُبِهِ، وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَهُوَ دِينُ الإِسلامِ، الذِي يَدْعُو إلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيكَ لَهُ، الذِي اسْتَسْلَمَ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ، طَوْعاً كَمَا يَفْعَلُ المُؤْمِنُونَ، وَكَرْهاً كَمَا اسْتَسْلَمَ الكَافِرُونَ، فَإِنَّهُمْ جَمِيعا تَحْتَ سُلْطَانِ اللهِ العَظِيمِ الذِي لاَ يُعَارَضُ وَلاَ يُرَدُّ، وَإليهِ يُرْجَعُونَ جَمِيعاً يَوْمَ الحَشْرِ وَالمَعَادِ، فَيُجَازِي كُلاًّ بعَمَلِهِ.
(٨٤) - قُلْ: آمَنَّا، أنَا وَمَنْ مَعِي، بِوُجُودِ اللهِ، وَبِوَاحْدَانِيَّتِهِ، وَبِالقُرآنِ الذِي أُنْزِلَ عَلَينا، وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّينَ مِنَ الصُّحُفِ وَالوَحْيِ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى مِنَ التَّورَاةِ، وَعَلَى عِيسَى مِنَ الإِنْجِيلَ وَالمُعْجِزَاتِ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّينَ مَنْ وَحْيٍ مِنْ رَبِّهِمْ (وَهَذا يَعُمُّ وَيَشْمَلُ جَمِيعَ الأنْبِيَاءِ) فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِهِمْ جَمِيعاً وَبِمَا أنزِلَ عَليهِمْ، وَلاَ نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ، وَلاَ نُمَيِّزُ أحَداً مِنْهُمْ عَلَى أحَدٍ، وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ وُجُوهَنَا للهِ، لاَ نَبْتَغِي بِذَلِكَ إلاَّ التَّقَرُّبَ إلَيهِ.
السِّبْطُ - وَلَدُ الوَلَدِ - وَالأسْبَاطُ هُنْا أحْفَادُ يَعْقُوبَ.
(٨٥) - مَنِ ابْتَغَى دِيناً لاَ يَقُودُهُُ إلَى الإسْلاَمِ الكَامِلِ للهِ، وَالخُضُوعِ التَّامِّ لَهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، فَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ هَذا الدِّينُ، وَيَكُونُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ، لأنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَلَكَ طَريقاً غَيْرَ مَا شَرَعَهُ اللهُ. وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ: " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ).
الخَاسِرُ - مَنْ أضَاعَ رَأسَ مَالِهِ.
الإسْلامُ - التَّوْحِيدُ أوْ دِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ.
(٨٦) - أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ، ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إلَى قَوْمِهِ أنْ اسْأَلُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا فَعَادَ إلى الإِسْلاَمِ.
فَالذِينَ يَرْتَدُّونَ عَنِ الإِسْلاَمِ بَعْدَ أنَ تَبَّينَ لَهُمْ هُدَاهُ، وَقَامَتَ لَدَيْهِمِ البَرَاهِينُ عَلَى صِدْقِهِ، وَصِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ، كَيْفَ يَسْتَحِقُونَ الهِدَايَةَ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَالِمِينَ أنْفُسَهُمْ، الجَانِينَ عَلَيهَا، لأَنَّهُمْ تَنَكَّبُوا عَنِ الطَّرِيقِ القَوِيمِ، وَتَرَكُوا هِدَايَةَ العَقْلِ، بَعْدَ أنْ ظَهَرَ نُورُ النُّبُوَّةِ، وَعَرَفُوهُ بِالبَيِّنَاتِ.
(٨٧) - وَهَؤُلاَءِ يَسْتَحِقُونَ سَخَطَ اللهِ وَغَضَبَهُ، وَسَخَطَ المَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ جَمِيعاً، إِذْ أَنَّهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ لَعَنُوهُمْ.
(٨٨) - وَمَنْ لَعَنَهُمُ اللهُ تَعَالَى كَانَ جَزَاؤُهُمُ العَذَابَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ، وَيَبْقَوْنَ خَالِدِينَ فِي اللَّعْنَةِ وَالعَذَابِ مَسْخُوطاً عَلَيْهِمْ إلَى الأبَدِ. وَلاَ يُفَتَّر عَنْهُمُ العَذَابُ، وَلاَ يُخَفَّفُ سَاعَةً وَاحِدَةً، وَلاَ يُمْهَلُونَ لِمَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُونَ بِهَا.
لاَ يُنظَرُونَ - لاَ يُؤَخَّرُونَ عَنِ العَذَابِ لَحْظَةً.
(٩٠) - وَقَبُولُ التَّوبَةِ مُنوطٌ بالاسْتِمْرَارِ عَلَى الإيمَانِ، فَالذِينَ يَكْفُرُونَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَيَزْدَادُونَ فِي كُفْرِهِمْ طُغْيَاناً وَفَسَاداً، وَإِيذَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَسْتَمِرُّونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى مَمَاتِهِمْ فإنَّ اللهَ لَنْ يَقْبَلَ التَّوْبَةَ التِي يُحْدِثُونَها وَقْتَ المَوْتِ لأَنَّها لَيْسَتْ تَوْبَةً خَالِصَةً، وَهُؤلاءِ هُمْ أَهْلُ الضَّلاَلَةِ.
نَالَ الشَّيءَ - حَصَلَ عَلَيهِ.
البِرَّ - مَا يَكُونُ بِهِ الإِنْسَانُ بَارّاً وَهُوَ الإِحْسَانُ وَالخَيْرُ.
(٩٣) - جَاءَ وَفْدٌ مِنَ اليَهُودِ إلَى الرَّسُولِ ﷺ يَسْأَلُونَهُ عَمَّا حَرَّمَ يَعْقُوبُُ عَلَى نَفْسِهِ (إِسْرَائِيلُ) فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ مَرِضَ مَرَضاً شَدِيداً، فَنَذَرَ إنْ عَافَاهُ اللهُ أَنْ يُقْلِعَ عَنْ أَكْلِ أحَبِّ الطَّعَامِ إليهِ، وَهُوَ لَحْمُ الإِبْلِ، وَألذِّ الشَرَّابِ إليهِ وَهُوَ ألْبَانُها، فَحَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ شِفَائِهِ، وَتَابَعَهُ بَنُوهُ اقْتِدَاءً بِهِ.
(وَيُرْوَى أَيْضاً: أنَّ اليَهُودَ جَاؤُوا إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَدَّعِي أَنَّكَ عَلَى مِلْةِ إِبْْرَاهِيمَ، فَكَيْفَ تَأْكُلُ لُحُومَ الإِبْلِ، وَتَشْرَبُ أَلْبَانَهَا مَعَ أنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّماً فِي مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَأَنْتَ قَدْ اسْتَحْلَلْتَ مَا كَانَ مُحَرَّماً. فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِم بِهَذِهِ الآيَة).
ثُمَّ ارْتَكَبَ اليَهُودُ جَرَائِمَ وَمُخَالَفَاتٍ دِينِيَّة فَعَاقَبَهُمُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ كَانَتْ حَلاَلاً عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَتِ التَّورَاةُ هَذِهِ المُحَرَّمَاتِ عَلَى اليَهُودِ. وَقَدْ أكَّدَ اللهُ هَذا الوَاقِعَ بِقَولِهِ في القُرْآن:
﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ وَهَذِهِ هِيَ التَّوْرَاةُ تَشْهَدُ بِصِدْقِ مَا نَقُولُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ يَرُدُّ بِهَا عَلَى هَؤُلاَءِ المُفْتَرِينَ الكَذِبَ عَلَى اللهِ، وَقَالَ لَهُمْ إِنَّ التَّوْرَاةَ أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، وَمُوسَى مِنْ أَنْسَالِ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى مِئَاتُ السِّنِينَ وَلِذَلِكَ فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ المُنْزَّلَةِ عَلَى مُوسَى دَلِيلاً عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ شَرْعُ إِبْرَاهِيمَ.
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنَ اليَهُودِ بِأَنْ يَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ لِيَقْرَؤُوهَا، وَيَرَوْا صِدْقَ مَا أَوْحَى اللهُ بِهِ إِلَيْهِ.
(٩٤) - فَمَنِ افْتَرَى الكَذِبَ عَلَى اللهِ، وَاخْتَرَعَهُ، وَزَعَمَ أنَّ التَّحْرِيمَ كَانَ نَزَلَ عَلَى الأَنْبِياءِ السَّابِقِينَ، قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، فَهَؤُلاَءِ هُمُ الظَّالِمُونَ المُسْتَحِقُّونَ عَذَابَ اللهِ، لأنَّهُمْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا أشْيَاعَهُمْ بِإصْرَارِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ البَاطِلِ، وَعَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ رَسُولَ اللهِ.
(٩٥) - بَعْدَ أنْ أثْبَتَ اللهُ تَعَالَى عَجْزَ اليَهُودِ عَنِ الإِتْيَانِ بِدَليلٍ مِنَ التَّورَاةِ عَلَى صِدْقِ مَا يَدَّعُونَ مِنْ أنَّ مَا يُحَرِّمُونَهُ كَانَ حَرَاماً في شَرْعِ إبراهِيمَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: صَدَقَ اللهُ فِيما أَخْبَرَ بِهِ، بِأَنَّ سَائِرَ الأَطْعِمَةِ كَانَتْ حَلاَلاً لِبَني إِسْرَائِيلَ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، وَأنا لَمْ أَكُنْ أعْرِفُ ذَلِكَ لَوْلاَ وَحْيُ اللهِ الذِي أعْلَمَنِي بِهِ، وَبِذَلِكَ ثَبَتَ أنِّي مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ، فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهِيمَ التِي شَرَعَهَا اللهُ، وَبَيَّنَها فِي القُرآنِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ؛ وَكَانَتْ مِلَّةُ إبراهِيمَ حَنِيفيَّةً سَمْحَةً، فَهِيَ المِلَّةُ التِي لَمْ يَأْتِ نَبِيٌ بِأكْمَلَ مِنْهَا وَلاَ أبْيَنَ، وَلَمْ يَكُنْ إبرَاهِيمَ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ مُسْلِماً مُنْحَرِفاً عَنِ الشِّرْكِ.
حَنِيفاً - مُنْحَرِفاً عَنِ الشِّرْكِ.
(٩٦) - وَمِنِ اتِّبَاعِ مِلَّةِ إبرَاهِيمَ الاتِّجَاهُ في الصَّلاَةِ إلى البَيْتِ الذِي بَنَاهُ، وَالحَجُّ إليهِ فَإِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ (أيْ لِعِبَادَةِ النَّاسِ) هُوَ البَيْتُ الحَرَامُ (الكَعْبَةُ) المَوْجُودَةُ فِي مَكَّةَ.
(وَتُسَمَّى مَكَّةَ أيْضاً بَكَّةَ، وَإبْدَالُ المِيمِ بَاءً كَثِيرُ الاسْتِعْمَالِ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، فَيَقُولُونَ دَائِمٌ وَدَائِبٌ).
وَهَذا البَيْتُ قَدْ بَنَاهُ إِبراهِيمُ، عَلَيهِ السَّلامُ، أمَّا بَيْتُ المَقْدِسِ فَقَدْ بُنِيَ بَعْدَهُ بِزَمَنٍ (وَقِيلَ إنَّ الذِي بَنَاهُ هُوَ سُلَيْمَانُ سَنَةَ ١٠٠٥ قَبْلَ المِيلادِ).
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ البَيْتَ الحَرَامَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلنَّاسِ.
البَرَكَةُ - تُطْلَقُ فِي العَرَبِيَّةِ عَلَى مَعْنَيينِ:
- الزِّيَادَةِ وَالنمَاءِ.
- البَقَاءِ وَالدَّوَامِ.
- بَكَّةَ - مَكَّةَ.
(٩٧) - وَفيهِ دَلاَلاَتٌ ظَاهِرَاتٌ عَلَى أنَّ إبْرَاهِيمَ الخَلِيلَ هُوَ الذِي بَنَاهُ، وَهَذِهِ الدَّلاَلاَتُ هِيَ مَقَاُم إبراهِيمَ. إذْ أنَّ إبرَاهِيمَ لَمّا ارْتَفَعَ بِنَاءُ البَيْتِ، اتْخَذَ لَهُ مَقَاماً يَقِفُ عَلَيْهِ، وَإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ مَوَادَّ البِنَاءِ، (وَكَانَ المَقَامُ مُلْتَصِقاً بِجِدَارِ الكَعْبَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أخرَّهُ إلى حَيْثُ يَقُومُ الآنَ لِيَتَمكَّنَ النَّاسُ مِنَ الصَّلاَةِ عِنْدَهُ دُونَ إزْعَاجِ الطَّائِفِينَ بِالبَيْتِ، وَكَانَ إبراهِيمُ يَتَّخِذُهُ مَوْضِعاً لِصَلاتِهِ وَعِبَادَتِهِ). وَقَدْ اتَّفَقَ العَرَبُ جَمِيعاً عَلَى احْتِرامِ البَيْتِِ وَتَعْظِيمِهِ، لِذَلِكَ كَانَ مَنْ دَخَلَهُ يُصْبِحُ آمِناً مِمَّا يُخِيفُهُ.
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ يَفْرِضُ اللهُ تَعَالَى الحَجَّ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَبِذَلِكَ أَصْبَحَ أَحَدَ أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ، وَأَصْبَحَ فَرْضاًً عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَ الحَجَّ مِنْ نَفَقَةٍ وَقُدْرَةٍ.
وَمَنْ جَحَدَ فَرِيضَةَ الحَجِّ فَقَدْ كَفَرَ وَاللهُ غَنِيٌّ عَنْهُ (وَقِيلَ المُرَادُ بِالكُفْرِ هُوَ جُحُودُ كَوْنِ البَيْتِ الحَرَامِ أَوْلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ النَّاسِ).
(٩٨) - يُعَنِّف اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الكِتَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ، وَصَدِّهِمِ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى صَنِيعِهِمْ بِمَا خَالَفُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ كُتُبِ الأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ مُجَازِيهِمْ عَلَيهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ ألاّ يَجْتَرِئُُوا عَلَى الكُفْرِ بِاللهِ وَبِآيَاتِهِ.
آيَاتِ اللهِ - هِيَ الآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
شهيدٌ - شَاهِدٌ.
(٩٩) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لأهْلِ الكِتَابِ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى: لِمَ تَمْنَعُونَ المُؤْمِنِينَ مِنْ سُلُوكِ طَرِيقِ الإِيمَانِ المُسْتَقِيمِ المُوصِلِ إلى اللهِ، وَتُكَّذِبُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَرِسَالَتِهِ، كُفْراً وَعِنَاداً، وَكِبْراً وَحَسَداً، وَتُلْقُونَ الشُّبُهَاتِ البَاطِلَةَ فِي قُلُوبِ الضُّعَفَاءِ مِنَ المُسْلِمِينَ بَغْياً وَكَيْداً لِلنَّبِيِّ؟ هَلْ تُرِيْدُونَ اعْوِجَاجَ الأمُورِ، وَسِيَادَةَ الشَّرِّ وَالفَسَادِ فِي الأرْضِ؟ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ عَلَى صِحَّةِ مَا أقُولُ، وَعَلَى صِدْقِ مَا جَاءَنِي مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ لاَ يَغِيبُ عَنْ عِلْمِ اللهِ شَيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ مِنْ صَدٍّ وَكُفْرٍ وَبَغْيٍ.
صَدُّهُ - صَرْفُهُ.
تَبْغُونَها - تُرِيدُونَها.
السَّبِيلُ - الطَّرِيقُ.
العِوَجُ - الاعْوِجَاجُ، وَهُوَ ضِدُّ الاسْتِقَامَة.
(١٠٠) - يُحَذِّرُ اللهَ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ إطَاعَةِ اليَهُودِ الذِينَ يَحْسُدُونَ المُؤْمِنينَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَمَا مَنَحَهُمْ مِنْ إِرْسَالِ رَسُولٍ إلَيْهِمْ، لأنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي بِهِمْ إلَى الكُفْرِ.
وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي اثْنَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ. فَيُروَى أنَّ الأوْسَ وَالخَزْرَجَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ حُرُوبٌ شَدِيدَةٌ، وَعَدَاوَاتٌ مُسْتَحْكِمَةٌ، وَلَمَّا دَخَلُوا فِي الإِسْلاَمِ ألَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْبَحُوا إخْوَةً فِي الإِسْلاَمِ. وَمَرَّ يَهُودِيٌّ فَرَأى الأوْسَ وَالخَزْرَجَ مُجْتَمِعِينَ وَهُمْ أكْثَرُ مَا يَكُونُونَ تَوادّاً وَصَفَاءً، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَدَسَّ يَهُودِياً يُذَكِّرُهُمْ بِأيَّامِ الحُرُوبِ بَيْنَهُمْ، وَبِمَا كَانُوا يُفَاخِرُونَ بِهِ مِنْ أشْعَارٍ، فَفَعَلَ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأوْسِ وَآخَرُ مِنَ الخَزْرَجِ فَتَلاسَنَا، وَأَثَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَمَاعَتَهُ، وَدَعَاهُمْ بِدَعْوَةِ الجَاهِلِيّةِ، وَتَسَلَّحَ النَّاسُ وَخَرَجُوا لِلْقِتَالِ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ وَخَطَبَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِإِيمَانِهِمْ فَسَكَنُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَالتِي قَبْلَهَا.
(١٠١) - وََيَسْتَبْعِدُ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُسْلِمِينَ أنْ يَكْفُروا، وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ)، فَآيَاتُ اللهِ تُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِهِ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَهُوَ يَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ، وَيُبَلِّغُهَا إليْهِمْ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ يَلْتَفِتُوا إلى قَوْلِ هَؤُلاءِ الأعْدَاءِ، بَلِ الوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أنْ يََرْجِعُوا، عِنْدَ كُلِّ شُبْهَةٍ يَسْمَعُونَها مِنْ هَؤُلاءِ اليَهُودِ، إلى الرَّسُولِ ﷺ حَتَّى يَكْشِفَ لَهُمْ عَنْهَا، وَيُزِيلَ مَا عَلِقَ بِقُلُوبِهِمْ مِنْهَا.
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ، وَيَتَوَكَّلْ عَلَيهِ فَإنَّ ذَلِكَ يُبْعِدُهُ عَنِ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ، وَيُوصِلُهُ إلى الهِدَايَةِ وَالرَّشَادِ، وَطَرِيقِ السَّدَادِ.
اعْتَصَمَ بِالشَّيءِ - تَمَسَّكَ بِهِ فَمَنَعَ نَفْسَهُ مِنَ الوُقُوعِ فِي الهَلاَكِ.
(١٠٢) - يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَذَلِكَ بِأنْ يُطاعَ فَلاَ يُعْصَى، وَأنْ يُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ، وَأنْ يُذْكَرَ فَلا يُنْسَى، وَيَقُولُ لَهُمْ: حَافِظُوا عَلَى الإِسْلاَمِ في حَيَاتِكُمْ لِتَمُوتُوا عَلَيهِ، فَمَنْ مَاتَ عَلَى شَيءٍ بُعِثَ عَلَيهِ.
التُّقَاةُ - التَّقْوى. وَحَقَّ تُقَاتِهِ يَعْنِي اتِّقَاءً حَقاً.
(١٠٣) - يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالتَّمَسُّكِ بِحَبْلِ اللهِ، أيْ بِعَهْدِهِ وَدِينِهِ وَذِمَّتِهِ وَقُرْآنِهِ، وَمَا أمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الإِلْفَةِ وَالمَحَبَّةِ وَالاجْتِمَاعِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ، وَيَطْلُبُ إلَيْهِمْ أنْ يَذْكُرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيهِمْ إذْ ألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَآخَى بَيْنَهُم بَعْدَ العَدَاوَةِ المُسْتَحْكِمَةِ، وَالفُرْقَةِ التِي كَانَتْ بَيْنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ شَفِيرِ النَّارِ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَضَلاَلِهِمْ وَاقْتِتَالِهِمْ، فَهَدَاهُمُ اللهُ وَأَنْقَذَهُمْ.
وَكَمَا بَيَّنَ لَهُمْ رَبُّهُمْ، فِي هَذِهِ الآيَاتِ، مَا يُضْمِرُهُ لَهُمُ اليَهُودُ مِنْ شَرٍّ وَخِدَاعٍ وَغِشٍّ، وَمَا كَانُوا عَلَيهِ فِي حَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنْ كُفْرٍ وَفُرْقَةٍ وَاقْتِتَالٍ، وَمَا صَارُوا إليهِ بِفَضْلِ الإِسْلاَمِ مِنْ وَحْدَةٍ وَإِخَاءٍ، كَذَلِكَ يُبَيِّن سَائِرَ حُجَجِهِ فِي تَنْزِيلِهِ عَلَى رَسُولِهِ، لِيُعِدَّهُمْ لِلاهْتِدَاءِ الدَّائِمِ، حَتَّى لا يَعُودُوا إلى عَمَلِ أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالعَدَاوَةِ وَالاقْتِتَالِ.
حَبْلُ اللهِ - يَعْنِي هُنَا كِتَابَهُ.
شَفَا الحُفْرَةِ وَشَفِيرُهَا - طَرَفُهَا وَحَافَّتُهَا.
(١٠٤) - لِتَكُنْ مِنَ المُؤْمِنِينَ جَمَاعَةٌ مُتَخَصِّصَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَعْرِفُ أَسْرَارَ الأَحْكَامِ، وَحِكْمَةَ التَّشْرِيعِ وَفِقْهَهُ، تَتَولَّى القِيَامَ بِالدَّعْوَةِ إلى الدِّين، وَتَأمُرُ بِالمَعْروفِ، وَتُحَارِبُ المُنْكَرَ، وَتَنْهَى عَنْهُ، وَمِنْ وَاجِبِ كُلِّ مُسْلِمِ أنْ يُحَارِبَ المُنْكَرَ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ، وَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
الأمَّةُ - الجَمَاعَةُ.
المَعْرُوفُ - مَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّرْعُ وَالعَقْلُ.
المُنْكَرِ - مَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ.
(١٠٥) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ عَنْ أنْ يَكُونُوا كَأهْلِ الكِتَابِ الذِينَ تَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ، وَكَانُوا شِيعاً تَذْهَبُ كُل شِيعَةٍ مِنْهَا مَذْهَباً تَدْعُو إليهِ، وَتُخَطِّئُ غَيْرَها، وَلِذَلِكَ تَعَادَوْا وَاقْتَتَلُوا.
وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ جَمَاعَةٌ تَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ، وَتَتَّجِهُ إلى غَايَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمَا تَفَرَّقُوا، وَلَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَهَؤُلاءِ المُخْتَلِفُونَ المُتَفَرِّقُونَ لَهُمْ عَذَابٌ وَخُسْرَانٌ فِي الدُّنيا، وَعَذَابٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ.
(١٠٦) - وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ تَبْيَضُ وُجُوهُ المُؤْمِنِينَ، وَيُسَرُّونَ لِمَا يَعْمَلُونَهُ مِنْ حُسْنِ العَاقِبَةِ. وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أهْلِ الكُفْرِ وَالضَّلاَلَةِ وَالاخْتِلافِ، لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ سُوءِ العَاقِبَةِ، وَمَا يَحِلُّ بِهَا مِنَ النَّكَالِ وَالوَبَالِ. وَيَسْألُ الذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ أهْلِ النِّفَاقِ وَالاخْتِلاَفِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ بِاللهِ، وَخَالَفْتُمْ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ الاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ، وَبِالوِفَاقِ وَاتِّحَادِ الكَلِمَةِ؟ فَذُوقُوا العَذَابَ الذِي تَسْتَحِقُونَهُ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ.
اسْوِدَادُ الوَجْهِ - تَعْبِيرٌ يُقَصْدُ بِهِ المَسَاءَةُ.
(١٠٧) - وَأَمَّا المُؤْمِنُونَ الذِينَ ابْيضَّتْ وُجُوهُهُمْ بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَباتِّحَادِ الكَلِمَةِ، وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ، فَيَكُونُونَ فِي الدُّنيا فِي نَعِيمٍ، مَا دَامُوا عَلى تِلْكَ الحَالِ، وَيَكُونُونَ فِي الآخِرَةِ فِي رَحْمَةِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ، وَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ لِيَكُونُوا فِيهَا خَالِدِينَ أبَداً.
(١٠٨) - وَهَذِهِ آيَاتُ اللهِ وَحُجَجُهُ وَبَيِّنَاتُهُ نَتْلُوهَا عَلَيك، يَا مُحَمَّدُ، مُقَرِّرَةً مَا هُوَ الحَقُّ الذِي لاَ مَجَالَ لِلشُّبْهَةِ فِيهِ (بِالحَقِّ)، لِتَعْرِفَ أَمْرَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ حَاكِمٌ عَادِلٌ لاَ يُرِيدُ ظُلْماً بِالعِبَادِ، لأنَّهُ قَادِرٌ قَاهِرٌ لاَ يَحْتَاجُ إلَى ظُلْمِ مُخَالِفي أمْرِهِ.
بِالحَقِّ - عَلَى الوَجْهِ الثَّابِتِ المُتَحَقِّقِ.
(١٠٩) - جَميعُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَبيدٌ للهِ، وَهُمْ مُلْكٌ لَهُ، يَتَصَّرفُ فِي شُؤُونِهِمْ بِحَسَب سُنَنهِ الحَكِيمَةِ التِي لاَ تَغْيِيرَ فِيها وَلاَ تَبْدِيلَ، وَهُوَ الحَاكِمُ المُتَصَرِّفُ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ، وَإليهِ تَصيرُ أمُورُ الخَلْقِ جَميعاً فَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
(١١٠) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ فِي الوُجُودِ، لأنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِيمَاناً صَادِقاً بِاللهِ، وَيَظْهَرُ أثَرُهُ فِي نُفُوسِهِمْ، فَيَنْزِعُهُمْ عَنِ الشَّرِّ، وَيَصْرِفُهُمْ إلَى الخَيْرِ، فَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرَاتِ وَمَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالبَغْي.
وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتَابِ إِيمَاناً صَحِيحاً يَسْتَوْلي عَلَى النُّفُوسِ، وَيَمْلِكُ أَزِمَّةِ القُلُوبِ فَيَكُونُ مَصْدَرَ الفَضَائِلِ وَالأَخْلاَقِ الحَسَنَةِ، كَمَا تُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ، أَيُّها المُسْلِمُونَ، لَكَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ مِمَّا يَدَّعُونَهُ مِنْ إِيمَانٍ لاَ يَزَعُ النُّفُوسَ عَنِ الشُّرُورِ، وَلا يُبْعِدُهَا عَنِ الرَّذَائِلِ. وَبَيْنَ أهْلِ الكِتَابِ جَمَاعَةٌ مُؤْمِنُونَ مُخْلِصُونَ فِي إيمَانِهِمْ، وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ فَاسِقُونَ عَنْ دِينِهِمْ، مُتَمَرِّدُونَ فِي الكُفْرِ.
كُنْتُمْ - وُجِدْتُم وَخُلِقْتُمْ.
أُخْرِجَتْ - أُظْهِرَتْ.
الفُسُوقُ - الخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ.
(١١١) - لَنْ يَضُرَّ هَؤُلاءِ الفَاسِقُونَ، مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، المُؤْمِنِينَ ضَرَراً بَلِيغاً يُصِيبُ أَصْلَ العَقِيدَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ، وَلَنْ يُؤثِّرُوا فِي وُجُودِ الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ فِي الأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ضَرَرُهُمْ عَرَضيّاً كَالإِيذَاءِ بِالهِجَاءِ القَبِيحِ، وَالطَّعْنِ فِي الدِّينِ، وَإِلقَاءِ الشُّبُهَاتِ، وَتَحْرِيفِ النُّصُوصِ.. وَحِينَ يُرِيدُونَ قِتَالَ المُسْلِمِينَ، وَيَشْتَبِكُونَ مَعَهُمْ فِي الحَرْبِ، فَالهَزِيمَةُ مَكْتُوبَةُ عَلَيهمْ، وَالنَّصْرُ لِلْمُؤْمِنينَ فِي النِّهَايَةِ، وَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَبَأْسِ المُؤْمِنينَ.
يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ - يَنْهَزِمُونَ.
الأذَى - الإِيذَاءُ وَالضَّرَرُ العَارِضُ اليَسِيرُ.
(١١٢) - ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الذِّلَّةَ وَألْزَمَهُمْ بِها، وَجَعَلَهَا لَهُمْ مَصِيراً أَيْنَمَا وُجِدُوا. وَلاَ يَعْصِمُهُمْ مِنْ بَأسِ المُسْلِمِينَ إِلاَّ دُخُولُهُمْ فِي ذِمَّتِهِمْ، فَيَعْصِمُ ذَلِكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاّ بِحَقِّهَا، أَيْ إنَّهُمْ لاَ تَعْصِمُهُمْ مِنْ بَأْسِ المُسْلِمِينَ إِلاَّ ذِمَّةُ اللهِ، وَذِمَّةُ المُسْلِمِينَ. وَرَجَعَ هَذَا الفَرِيقُ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ، مِنْ عِدَائِهِمْ لِلإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ، يَحْمِلُونَ غَضَبَ اللهِ، وَيَسْتَوْجِبُونَ سَخَطَهُ. وَأَلْزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالاسْتِكَانَةِ وَالخُضُوعِ لِغَيْرِهِمْ؛ لأَنَّهُمْ عَصَوْا وَاعْتَدَوْا فِي دِينِهِ عَلَى الحُرُمَاتِ: فَقَدْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَاعْتَدَوْا عَلَى حُدُودِ اللهِ، وَقَتَلُوا الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَتَلُوا الذِينَ يَأْمُرُونَ بِالعَدْلِ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا مَا يَجْعَلُهُمْ أَهْلاً لِلْعَذابِ، وَلِمَا فَرَضَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالمَسْكَنَةِ.
بَاءَ - حَمَلَ أَوْ لَبِثَ وَحَلَّ.
ثَقِفَ - وَجَدَ وَأَدْرَكَ.
المَسْكَنَةُ - فَْقُر النَّفْسِ وَشُحُّهَا.
حَبْلٌ مِنَ اللهِ - عَهْدٌ مِنَ اللهِ وَهُوَ الإِسْلاَمُ.
ضُرِبَتْ عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ - فُرِضَتْ عَلَيهِمْ وَألْزِمُوا بِهَا.
(١١٣) - وَيَسْتَثْنِي اللهُ تَعَالَى بَعْضَ أهْلِ الكِتَابِ مِنْ الكُفْرِ وَالعِصْيَانِ، فَيَقُولُ: إنَّ مِنْهُمْ جَمَاعَةً مُهْتَدِيةً، آمَنُوا إيمَاناً صَادِقاً، وَأقَامُوا عَلَى أمْرِ اللهِ لَمْ يَنْزَعُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَتْرُكُوهُ، وَانْضَمُّوا إلى الصَّفِّ المُسْلِمِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَيَسْجُدُونَ للهِ.
(وَيَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ المُرَادَ بِهَذِهِ الأمَّةِ جَمَاعَةٌ مِنَ اليَهُودِ أَسْلَمُوا كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلاّمٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعِيدٍ).
لَيْسُوا سَواءً - لَيْسُوا مُتَسَاوِينَ.
قَائِمَةٌ - مُسْتَقِيمَةٌ عَادِلَةٌ.
(١١٤) - وَقَدْ آمَنُوا بِاللهِ، وَبِالَيْومِ الآخِرِ، إيمَاناً صَادِقاً، وَنَهَضُوا بِتَكَالِيفِ الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ، فَأمَرُوا بِالمَعْرُوفِ، وَنَهُوا عَنِ المُنْكَرِ، وَعَمِلُوا الخَيْرَ، فَجَعَلَهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الصَّالِحِينَ، وَشَهِدَ لَهُمْ بِهَذَا الصَّلاَحِ.
لَنْ يُكْفَرُوهُ - لَنْ يُحْرَمُوا ثَوَابَهُ.
(١١٦) - الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الكُفَّارِ، الذِينَ كَانُوا يُعَيِّرونَ مُحَمَّداً وَصَحْبَهُ بِالفَقْرِ، وَيَقُولُونَ لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَى الحَقِّ لَمَا تَرَكَهُ رَبُّهُ فِي هَذا الفَقْرِ، وَيَتَفَاخَرُونَ بِكَثْرَةِ الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ لَنْ تَنْفَعَهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ شَيئاً يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَنْ يَمْنَعَهُمْ شَيءٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ. وَهَؤُلاءِ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ يَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً.
لَنْ تُغْنِيَ - لَنْ تَجْزِيَ وَلَنْ تَنْفَعَ.
(١١٧) - وَالكَافِرُونَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا، فِي الصَّدَقَاتِ وَالقُرُبَاتِ، وَفِي اكْتِسَابِ الشُّهْرَةِ وَالثَّنَاءِ... وَلَكِنَّ هَذا الإِنْفَاقَ ضَائِعٌ، وَلَنِ يَنْتَفِعُوا مِنْهُ فِي الآخِرَةِ شَيْئاً. وَقَدْ شَبَّهَ اللهُ تَعَالَى حَالَهُم هَذا بِحَالِ زَرْع قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالكُفْرِ وَالمَعَاصِي، أصَابَتْهُ رِيحٌ فِيها بَرْدٌ شَدِيدٌ فَأهْلَكَتْهُ عُقُوبةً لَهُمْ. وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ بِضَيَاعِ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالكُُفْرِ وَالبَغْيِ، وَارْتِكَابِ المَعَاصِي.
فِيها صِرٌّ - بَرْدٌ شَدِيدٌ (أَوْ سُمُومٌ حَارَّةٌ).
(١١٨) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الكُفَّارِ وَاليَهُودِ وَالمُنَافِقِينَ بِطَانَةً وَخَوَاصَّ لَهُمْ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ، يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سِرِّهِمْ، وَمَا يُضْمِرُونَ لأعْدَائِهِمْ. لأنَّ هَؤُلاءِ لاَ يَألُونَ جُهْداً، وَلاَ يَتَأَخَّرُونَ عَنْ عَمَلٍ فِيهِ إِيْذَاءٌ وَإِضْرَارٌ بِالمُؤْمِنِينَ، فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ وُقُوعَ المُؤْمِنينَ فِي الضِّيقِ وَالمَشَقَّةِ. وَلَقَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ وَالعَدَاوَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بِمَا يَظْهَرُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ كَلِمَاتِ الحِقْدِ، وَصُدُورُهُمْ تُخْفِي حِقْداً أَكْبَرَ، وَبُغْضاً أَعْظَمَ للإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ، وَهُوَ أمْرٌ لاَ يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى الدَّلاَلاَتِ الوَاضِحَةَ التِي يُعْرَفُ يِهَا الوَلِيُّ مِنَ العّدُوِّ.
بِطَانَةُ الرَّجُلِ - خَاصَّتُهُ.
مِنْ دُونِكُمْ - مِنْ غَيْرِكُمْ.
لاَ يَأْلُونَكُمْ - لاَ يُقَصِّرُونَ.
مَا عَنِتُّمْ - مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ.
الخَبَالُ - النُّقْصَانُ.
(١١٩) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنينَ: إِنَّكُمْ تُحِبُّونَ هَؤُلاءِ الكُفَّارِ الذِينَ هُمْ أشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً لَكُمْ، وَلاَ يُقَصِّرُونَ فِي إفْسَادِ أَمْرِكُمْ، وَتَمَنَّي عَنَتِكُمْ. وَيُظْهِرُونَ لَكُمُ العَدَاوَةَ وَالغِشَّ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ رَيْبَ المَنُونِ، فَكَيْفَ تُوادُّونَهُمْ وَتُواصِلُونَهُمْ، وَهُمْ لاَ يُحِبُّونَكُمْ لا ظَاهِراً وَلاَ بَاطِناً، وَتُؤْمِنُونَ بِالكِتَابِ الذِي أنْزِلَ عَلَيْكُمْ، وَبِالكُتُبِ التِي أُنْزِلَتْ قَبْلَهُ، وَلَيْسَ لَدَيْكُمْ شَيءٌ مِنَ الشَّكِّ فِي شَيءٍ مِنْهَا، وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ، وَعِنْدَهُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ شَكٌّ وَحَيرَةٌ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِبُغْضِهِمْ مِنْهُمْ لَكُمْ، فَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا: آمَنَّا إِرْضَاءً لَكُمْ، وَحَذَراً مِنْهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ مِنْكُمْ. وَإِذَا فَارَقُوكُمْ، وَاخْتَلَوا بِأَنْفُسِهِمْ، عَضُّوا عَلَيْكُمْ أَطْرَافَ أصَابِعِهِمْ مِنْ غَيْظِهِمْ مِنْكُمْ، فَقُلْ لَهُمْ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ فَلَنْ يَضُرَّنَا ذَلِكَ شَيئاً، وَاللهُ مُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَاللهُ هُوَ الذِي يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ البَغْضَاءِ وَالحَسَدِ وَالغِلِّ لِلْمُؤْمِنينَ.
البَغْضَاءُ - شِدَّةُ البُغْضِ.
عَضُّوا عَلَيكُمُ الأَنَامِلَ - كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الغَيْظِ.
خَلَوْا - مَضَوا وانْفَرَدَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ.
تَمْسَسْكُمْ - تُصِيبُكُمْ.
(١٢١) - وَهُنَا يَتَحَدَّثُ اللهُ تَعَالَى عَنْ مَعْرَكَةِ أحُدٍ حِينَما خَرَجَ الرَّسُولُ ﷺ مُبَكِّراً مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ لِحَرْبِ قُرَيشٍ، وَإنْزَالِهِ الصَّحَابَةَ فِي مَرَاكِزِ القِتَالِ. فَلَمَّا وَصَلَ الرَّسُولُ ﷺ إلى مَكَانِ المَعْرَكَةِ نَزَلَ بِأَصْحَابِهِ فِي الشِّعْبِ مِنْ أحُدٍ، فِي عُدْوَةِ الوَادِي، وَجَعَلَ ظَهْرَ عَسْكَرِهِ إلى أحُدٍ، وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ لاَ يُقَاتِلَنَّ أحَدٌ حَتَّى نَأمُرَهُ. وَأقَامَ خِمْسِينَ رَامياً، عَلَيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبِيْرٍ، عَلَى تَلٍّ، وَأمَرَهُمْ بِأنْ يَنْضَحُوا الخَيْلَ عَنِ المُسْلِمِينَ، وَأنْ لاَ يَتْرُكُوا مَكَانَهُمْ أَبَداً، حَتَّى وَلَوْ دَارَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى المُسْلِمِينَ.
غَدَا يَغْدُو - أنْطَلَقَ فِي الغَدَاةِ - مَا بَيْنَ طُلُوعِ الفَجْرِ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ.
تُبَوِّئُ - تُهَيِّئُ، وَتُنْزِلُ.
(١٢٢) - وَكَانَتْ فِي الأنْصَارِ طَائِفَتَانِ (هُمَا بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلمَةَ) قَدْ أَثَّرَتْ فِيهِمَا حَرَكَةُ انْسِحَابِ ابْنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، وَعَوْدَتِهِ إلَى المَدِينَةِ، فَكَادَتَا أنْ تَفْشَلا، وَتَرْجِعَا إلى المَدِينَةِ، وَلَكِنَّ عِنَايَةَ اللهِ تَدَارَكَتْهُمَا وَثَبَّتَتْهُمَا، وَأَيَّدَتْهُمَا بِوِلاَيَتِهِ. وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوكَّلِ المُؤْمِنُونَ، فَلَيْسَ لَهُمْ سَنَدٌ غَيْرُهُ.
الهَمُّ - حَدِيثُ النَّفْسِ، وَتَوَجُّهُها إلَى الشَّيءِ.
(لَقَدْ كَانَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ ٣١٧ رَجُلاً، بَيْنَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَ ٩٠٠ و ١٠٠٠ رَجُلٍ).
أَذِلَّةٌ - ذَلِيلُونَ لاَ مَنْعَةَ لَكُمْ.
(١٢٤) - إِذْ كُنْتَ تَقُولُ لِلْمُؤمِنِينَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ: إنَّ اللهَ سَيُمدُّكٌم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ، ألاَ يَكْفِيكُمْ هَذَا العَدَدُ؟ (وَكَانَ المُسْلِمُونَ قَدْ بَلَغَهُمْ، يَوْمَ بَدْرٍ، أنَّ كَرَزَ بْنَ جَابِرٍ المُحَارِبيُّ يُريدُ أنْ يَمدَّ قُرَيْشاً، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ تَثْبِيتاً لِقُلُوبِهِمْ).
(وَيَجْمِعُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ المَلاَئِكَةَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَّهُمْ شَارَكُوا فِي قِتَالِ الكُفَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ تُقَاتِلِ المَلاَئِكَةُ سِوَى يَوْمَ بَدْرٍ).
الإِمدَادُ - تَقْدِيمُ المَدَدِ لِلْجَيْشِ مِنْ عُدَّةٍ وَسِلاَحٍ وَرِجَالٍ.
(١٢٥) - فَإنْ تَصْبِرُوا فِي المَعْرَكَةِ عَلَى لِقَاءِ عَدُوِّكُمْ، وَتَتَّقُوا رَبَّكُمْ، وَتُطِيعُوا أَمْرَهُ، حِينَما يَطْلَعُ المُشْرِكُونَ عَلَى الفَوْرِ، يُمدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ يَمْتَازُونَ بِعَلاَمَاتٍ يَضَعُونَها (مُسَوِّمين)، لِيُعَجِّلَ نَصْرَكُمْ، وَيُسَهِّلَ فَتْحَكُمْ.
مِنْ فَوْرِهِمْ - مِنْ سَاعَتِهِمْ وَبِلا إبْطَاءٍ.
مُسَوِّمِينَ - ذَوِي سِمَةٍ وَعَلاَمَةٍ.
(١٢٦) - وَمَا جَعَلَ اللهُ وَعْدَهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إِمْدَادِهِمْ بِالمَلاَئِكَةِ فِي المَعْرَكَةِ إلاّ بُشْرَى لِلْمُؤْمِنينَ، وَتَثْبيتاً لِقُلُوبِهِمُ التي تَطَرَّقَ إليها الخَوْفُ مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِ الكُفَّارِ، وَقُوّةِ اسْتِعْدَادِهِمْ. وَلَيْسَ النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أنْ يَنْصُرَ المُسْلِمِينَ دُونَ اشْتِرَاكِهِمْ فِي القِتَالِ.
(١٢٧) - لَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ بِالجِهَادِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الحِكْمَةِ التِي يَرَاهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ لِيُسَهِّلَ إِهْلاَكَ طَائِفَةٍ مِنَ الكَافِرِينَ، فَيُنْقِصَ عَدَدَهُمْ بِالقَتْلِ، أَوْ يُنْقِصَ مِنْ سُلْطَانِهِمْ بِالقَهْرِ، أوْ يُنْقِصَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِالغَنِيمَةِ، أَوْ يُنْقِصَ مِنْ تَأْثِيرِهِمْ فِي الأَرْضِ بِالهَزِيمَةِ، أَوْ يَصْرِفَهُمْ مَهْزُومِينَ أَذْلاَّءَ فَيَعُودُوا خَائِبِينَ مَقْهُورِينَ لاَ أَمَلَ لَهُمْ فِي نَصْرٍ.
لِيَقْطَعَ - لِيفْنِيَ وَيُهْلِكَ.
طَرَفاً - جَمَاعَةً وَطَائِفَةً.
الكَبْتُ - شِدَّةُ الغَيْظِ، أوِ الهَوْنُ وَالضَّعْفُ.
انْقَلَبَ - رَجَعَ إلى أهْلِهِ.
(١٢٨) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ إلَى أنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ، وَلَيْسَ لِلنَّبِيِّ شَيْءٌ مِنَ الحُكْمِ وَالتَّصَرُّفِ فِي أمْرِ العِبَادِ، غَيْرَ مَا أمَرَهُ مِنْ إِبْلاَغِهِمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، وَهُوَ تَعَالَى إمَّا أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مِمّا هُمْ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ، فَيَهْدِيَهُمْ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ، وَإِمَّا أنْ يُعَذِّبَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ، وَيَكْبِتَهُمْ وَيُذِلَّهُمْ لأنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ.
(١٢٩) - واللهُ يَمْلِكُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأَهْلُهُمَا عَبيدٌ لَهُ، وَهُوَ المُتَصَرِّفُ المُطْلَقُ فِي الوُجُودِ كُلِّهِ، وَلاَ مُعَقِّبَ عَلَى حُكْمِهِ، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
(١٣٠) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ أَكْلِ الرِّبَا، وَالتَّعَامُلِ بِهِ، بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ، وَهُدَى اللهِ لَهُمْ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، إذْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلمَدِينِ إذَا حَلَّ أجَلُ الدَّيْنِ: إمّا أنْ تَقْضِيَ دَيْنَكَ وَإمَّا أنْ تُرٍبيَ. فَإِنْ قَضَاهُ فِبِهَا، وَإلاَّ زَادَهُ فِي المُدَّةِ وَزَادَهُ فِي المِقْدارِ، وَهَكَذَا كُلَّ عَامٍ، فَرُبَّما تَضَاعَفَ القَلِيلُ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيراً مُضَاعَفاً. وَيَأمُرُ اللهُ عِبَادَهُ بِالتَّقْوَى لَعَلَّهُمْ يُفْلِحُونَ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ.
اتَّقُوا اللهَ - خَافُوهُ وَاجْعَلُوا لأَنْفُسِكُمْ وِقَايَةً مِنْ عَذَابِهِ.
(١٣١) - وَيَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالتَّقْوَى، وَبِالابْتِعَادِ عَنْ مُتَابَعَةِ المُرَابِينَ، وَتَعَاطِي مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أَكْلِ الرِّبا، الذِي يُفْضِي بِهِمْ إِلى دُخُولِ النَّارِ التِي أعَدَّهَا اللهُ لِلْكَافِرِينَ.
(١٣٣) - وَيَنْدُبُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ إلَى القِيَامِ بِالأَعْمِالِ الصَّالِحَةِ، وَإلى المُسَارَعَةِ فِي فِعْلِ الخَيْرَاتِ، لِيَنَالُوا مَغْفِرَةَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ، وَجَنَّتَهُ الوَاسِعَةَ العَرِيضَةَ التِي أَعَدَّهَا اللهُ لِعِبَادِهِ المُتَّقِينَ، الذِينَ يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ.
(١٣٤) - يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ صِفَاتِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَقُولُ: إِنَّهُمُ الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ، فِي الرَّخَاءِ (السَّرَاءِ)، وَفِي الشِّدَّةِ (الضَرَّاءِ)، وَفِي الصِّحَّةِ وَالمَرَضِ، وَفِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، لاَ يَشْغَلُهُمْ أَمْرٌ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَالإِنْفَاقِ فِي سَبيلِ مَرْضَاتِهِ، وَإِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ غَيْظَهُمْ إذَا ثَارَ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيهِمْ. وَاللهُ يُحِبُّ الذِينَ يَتَفَضَّلُونَ عَلَى عِبَادِهِ البَائِسِينَ، وَيُوَاسُونَهُمْ شُكْراً للهِ عَلَى جَزِيلِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ. (وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ مَلأَ اللهُ جَوْفَهُ أَمْناً وَإِيمَاناً ").
كَظَمَ غَيْظَهُ - كَتَمَ غَيْظَهُ فِي نَفْسِهِ وَأَخْفَاهُ.
كَظَمَهُ الغَيْظُ - أَخَذَ بِنَفْسِهِ - فَهُو كَظِيمٌ.
السَّرَّاءَ - الحَالَةُ التِي تَسُرُّ (اليُسْرِ).
الضَّرَّاء - الحَالَةُ التِي تَضُرُّ (العُسْرِ).
(١٣٥) - وَمِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنَّهُمْ إذَا صَدَرَ عَنْهُمْ فِعْلَ قَبيحٌ يَتَعَدَّى أثرُهُ إلَى غَيْرِهِمْ (كَغَيبَةِ إِنْسَانٍ)، أَو صَدَرَ عَنْهُمْ ذَنْبٌ يَكُونُ مُقْتَصِراً عَلَيْهِمْ (كَشُرْبِ خَمْرٍ وَنَحْوَهُ)، ذَكَرُوا اللهَ تَعَالَى وَوَعِيدَهُ، وَعَظَمَتَهُ وَجَلاَلَهُ، فَرَجَعُوا إلَى اللهِ تَائِبِينَ، طَالِبِينَ مَغْفِرَتَهُ، وَلَمْ يُقِيمُوا عَلى القَبِيحِ مِنْ غَيْرِ اسْتِغْفَارٍ، لِعِلْمِهِمْ أنَّ اللهَ هُوَ الذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى الذَّنْبِ، لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أنَّ مَنْ تَابَ إلَى اللهِ، تَابَ اللهُ عَلَيهِ، وَغَفَرَ لَهُ.
الفَاحِشَةُ - الفَعْلَةُ الشَّنِيعَةُ.
ظُلْمُ النَّفْسِ - ارْتِكَابُ الذَّنْبِ الذِي يَقْتَصِر أثَرُهُ عَلَى الفَاعِلِ كَشُرْبِ إنْسَانٍ الخَمْرَ مُسْتَتِراً.
الإِصْرَارُ - الإِقَامَةُ عَلَى الفِعْلِ.
(١٣٦) - وَالمُتَّقُونَ المُتَمَتِّعُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ سَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ عَلَيهَا بِالمَغْفِرَةِ، وَبِالأَمْرِ مِنَ العِقَابِ، وَلَهُمْ ثَوَابٌ عَظِيمٌ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَداً، وَالجَنَّةُ خَيْرُ مَا يُكَافَأُ بِهِ المُؤْمِنُونَ العَامِلُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَاتِ.
(١٣٧) - يُخَاطِبُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَصَابِهِمْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ فَيَقُولُ لَهُمْ:
لَقَدْ جَرَى عَلَى أَتْبَاعِ الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مِنَ الأُمَمِ الغَابِرَةِ نَحُوٌ مِمَّا جَرَى لَكُمْ يَوْمَ أحُدٍ، فَأُصِيبُوا وَقُتِلُوا وَهُزِمُوا.. وَلَكِنَّ العَاقِبَةَ كَانَتْ لَهُمْ، وَالدَّائِرَةَ كَانَتْ عَلَى الكَافِرِينَ... وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ مَا التَقَى الإِيمَانُ وَالشِّرْكُ إلاّ نَصَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ، وَأَعْلَى رَايَةَ الإِيْمَانِ، وَهَزَمَ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ، وَنَكَّسَ أَعْلاَمَهُ. وَأَجْدَرُ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ الحَقِيقَةِ هُمُ المُؤْمِنُونَ فَسِيرُوا يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَمَّلُوا فِيمَا حَلَّ بِالأُمَمِ السَّابِقَةِ.
السُنَنُ - جَمْعُ سُنّةٍ - الطَّرِيقَةُ وَالسِّيرَةُ.
خَلَتْ - مَضَتْ.
العَاقِبَةُ - النِّهَايَةُ وَالمَصِيرُ.
وَهَذَا البَيَانُ هُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، لأَنَّهُمْ هُمُ الذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فَيَعْتَبِرُونَ.
هُدًى - إِرْشَادٌ إلَى الطَّرِيقِ القَوِيمِ.
الوَهْنُ - الضَّعْفُ.
(١٤٠) - إنْ كُنْتُمْ قَدْ أَصَابَتْكُمْ جِرَاحٌ، وَقُتِلَ مِنْكُمْ رِجَالٌ يَوْمَ أحُدٍ، فَقَدْ أَصَابَ أَعْدَاءَكُمْ قَرِيبٌ مِمَّا أَصَابَكُمْ، فَلاَ يَنْبَغِي لَكُمْ أنْ تَقْعُدُوا وَتَتَقَاعَسُوا عَنِ الجِهَادِ بِسَبَبِ مَا أَصَابَكُمْ، فَالمُشْرِكُونَ قَدْ سَبَقَ أنْ أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِثْلَ مَا أَصَابَكُمْ أَنْتُمْ فِي أحُدٍ، فَلَمْ يَتَقَاعَسُوا، وَلَمْ يَقْعُدُوا عَنِ الإِعْدَادِ لِلْحَرْبِ وَمُبَاشَرَتِهَا، وَهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ، فَكَيْفَ تَتَرَدَّدُونَ وَأَنْتُمْ عَلَى حَقٍّ، وَاللهُ وَعَدَكُمْ نَصْرَهُ، وَجَعَلَ العَاقِبَةَ لَكُمْ؟ وَمِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى مُدَاوَلَةُ الأَيَّامِ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَرَّةً تَكُونُ الغَلبَةُ لِلْبَاطِلِ عَلَى الحَقِّ، إذَا أَعَدَّ لَهُ أَهْلُهُ وَاحْتَاطُوا، وَتَرَاخَى أَهْلُ الحَقِّ، وَمَرَّةً تَكُونُ الغَلَبَةُ لِلْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ. وَلَكِنَّ العَاقِبَةَ تَكُونُ دَائِماً لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ. وَاللهُ تَعَالَى يَبْتَلِي المُؤْمِنينَ لِيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ، وَلِيَتّخِذَ مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالاً يُكْرِمُهُمْ بِالشَّهَادَةِ.
إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ - إنْ يُصِبْكُمْ جِرَاحٌ.
نُدَاوِلُهَا - نُصَرِّفُها، فَنُدِيلُ تَارَةً لِهؤلاءِ وَتَارَةً لِهَؤلاءِ، وَالمُدَاوَلَةُ نَقْلُ الشَّيءِ مِنْ شَخْصٍ إلى شَخْصٍ.
(١٤١) - وَيُدَاوِلُ اللهُ الأيَّامَ بَيْنَ النَّاسِ لِيَمِيزَ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، مِنَ المُنَافِقِينَ، وَلِتَطْهُرَ نُفُوسُ بَعْضِ ضُعَفَاءِ المُؤْمِنِينَ مِن كُدُورَتِهَا، فَتَصْفُوَ مِمَّا شَابَهَا وَخَالَطَهَا، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إلا بِالتَّجَارِبِ الكَثِيرَةِ، وَالامْتِحَانِ بِالشَّدَائِدِ، وَلِيَكُونَ الجِهَادُ وَالحَرْبُ فِي سَبيلِ اللهِ وَسِيلةً لِتَدْمِيرِ الكَافِرِينَ الذِينَ إذا ظَفِرُوا بَغَوا وَبَطِرُوا.
التَّمْحِيصُ - التَّنْقِيَةُُ مِنَ الشَّوَائِبِ.
المَحْقُ - النُّقْصَانُ، وَأصْلُهُ المُحْوُ وَالإِبَادَةُ.
(١٤٢) - وَلاَ تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَبِرَكُمُ اللهُ تَعَالَى وَيُمَحِّصَكُمْ فِي الشَّدَائِدِ وَالجِهَادِ لِيَرَى صِدْقَ إيمَانِكُمْ، وَيَرَى مَنْ يَسْتَجِيبُ للهِ، وَيُخْلِصُ فِي طَاعَتِهِ، وَقِتَالِ أًَعْدَائِهِ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَكَارِهِ الحُرُوبِ.
جَاهَدَ - احْتَمَلَ المَشَقَّةَ فِي مُكَابَدَةِ الشَّدَائِدِ، وَيُقْصَدُ بِالجِهَادِ هُنَا الدِّفَاعُ عَنِ الدِّينِ وَأهْلِهِ.
(١٤٤) - لَمَّا انْهَزَمَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أحُدٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، أُشِيعَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدْ قُتِلَ، فَحَصَلَ ضَعْفٌ فِي صُفُوفِ المُسْلِمِينَ، وَتَأَخُّرٌ عَنِ القِتَالِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيةَ، وَفِيهَا يُذَكِّرُ المُسْلِمِينَ بِأَنَّ مُحَمَّداً بَشَرٌ قَدْ سَبَقَتُهُ رُسُلٌ، مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، ثُمَّ يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ، حِينَ سَمَاعِ إِشَاعَةِ قَتْلِ الرَّسُولِ، ضَعْفَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَفَإِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ، أوْ قُتِلَ، تَرَاجَعْتُمْ وَنَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟ وَمَنْ يَتَرَاجَعُ وَيَنْكُصْ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيئاً، لأنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ العَالَمِينَ، أمّا الذِينَ امْتَثَلُوا لأمْرِ اللهِ، وَقَاتَلُوا عَنْ دِينِهِ، وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الشَّاكِرُونَ، وَسَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ - رَجَعَ إلَى الوَرَاءِ، وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ.
(١٤٥) - لاَ يَمُوتُ أحَدٌ إلاَّ بِقَدَرِ اللهِ، وَحَتَّى يَسْتَوْفِيَ المُدَّةَ التِي جَعَلَهَا اللهُ لَهُ أَجَلاً (كِتَاباً مُؤَجَّلاً)، فَلاَ يَتَقَدَّمُ عَنْهُ وَلاَ يَتَأَخَّرُ. وَإِذَا كَانَ مَحْيَا الإِنْسَانِ وَمَمَاتُهُ بِإِذْنِ اللهِ فَلاَ مَحَلَّ لِلْخَوْفِ وَالجُبْنِ، وَلاَ عُذْرَ فِي الوَهَنِ وَالضَّعْفِ.
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ تَشْجِيعٌ لِلْجُبَنَاءِ عَلَى القِتَالِ. فَإِنَّ الإِقدَامَ وَالإِحْجَامَ لاَ يُنْقِصَانِ مِنْ عُمْرِ الإِنْسَانِ، وَلاَ يَزِيْدَانِ فِيهِ. وَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ لِلْدُّنيا فَقَطْ نَالَهُ مِنَها مَا قَدَّرَهُ اللهُ لَهُ مِنْ ثَوَابِها، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصْيبٌ. وَمَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ ثَوَابَ الآخِرَةِ أَعْطَاهُ اللهُ مِنْ ثَوَابِهَا، وَأَعْطَاهُ مَعَها مَا قَسَمَهُ لَهُ فِي الدُّنيا مِنْ نَصِيبٍ. وَاللهُ يَجْزِي الشَّاكِرِينَ الذِينَ يَعْرِفُونَ أنْعُمَ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فَي الأَعْمِالِ الصَّالِحَةِ. وَيُعْطِيهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ بِمِقْدَارِ شُكْرِهِمْ وَعَمَلِهِمْ.
المُؤَجَّلُ - ذُو الأَجَلِ أوِ المُدَّةِ.
(١٤٦) - فِي هَذِهِ الآيَةِ يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَمَّا وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ يَوْمَ أحُدٍ، فَقَالَ لَهُمْ: كَمْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ وَهُوَ يُقَاتِلُ، وَكَانَ مَعَه جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٌ (رِبِّيُّونَ) مِمَّنْ آمَنُوا بِهِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، فَمَا وَهِنُوا، وَمَا ضَعُفُوا بَعْدَ قَتْلِ النَّبِيِّ، وَمَا اسْتَكَانُوا، وَمَا اسَتَذَلُّوا لِمَا أصَابَهُمْ فِي الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَفِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ دِينِهِ، وَإِنَّمَا صَبَرُوا عَلَى قِتَالِ الأَعْدَاءِ، وَلَمْ يَهْرُبُوا مُوَلِّينَ الأَدْبَارَ، لأنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ فِي سَبِيلِ نَبِيِّهِمْ، فَعَلَيْكُمْ أيُّهَا المُسْلِمُونَ أنْ تَعْتَبِرُوا بِأولَئِكَ الرِّبِّيِّينَ، وَتَصْبِرُوا كَمَا صَبَرُوا فَإنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ، وَسُنَّتَهُ فِي خَلْقِهِ وَاحِدَةٌ.
رِبِّيُّونَ - جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ.
الوَهْنُ - ضَعْفٌ يَلْحَقُ النَّفْسَ.
الضَّعْفُ - اخْتِلاَلُ قُوَّةِ الجِسْمِ.
الاسْتِكَانَةُ - الخُضُوعُ لِلْخَصْمِ.
(١٤٧) - فَاحْتَسَبَ هَؤُلاءِ المُؤْمِنُونَ (الرِّبِّيُّونَ) اللهَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الخَطْبِ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ قَوْلٍ عِنْدَ نُزُولِ الكَوَارِث إلاَ الدُّعَاءُ إلَى اللهِ أنْ يَغْفِرَ لَهُمْ بِجِهَادِهِمْ مَا كَانُوا ألمُّوا بِهِ مِنْ ذنُوبٍ، وَتَجَاوُزَوا فِيهِ حُدُودَ الشَّرائعِ، وَأن يُثَبِّتَ أقْدَامَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ القَوِيمِ، حَتَّى لا تُزَحْزِحَهُم الفِتَنُ، وَلاَ يَعْرُوهُمُ الفَشَلُ حِينَ مُقَابَلَةِ الأعْدَاءِ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ.
الإِسْرَافُ - مُجَاوَزَةُ الحَدِّ.
(١٤٨) - فَآتَاهُمُ اللهُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَهُمَا ثَوَابُ الدُّنْيا، وَجَمَعَ لَهُمْ، إلَى ذَلِكَ الظَّفَرِ، حُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ، وَهُوَ الفَوْزُ بِرُضْوَانِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، وَاللهُ يُحِبُّ الذِينَ يُحْسِنُونَ العَمَلَ، لأَنَّهُمْ يُقِيمُونَ سُنَّتَهُ فِي أَرْضِهِ، وَيُظْهِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِخِلاَفَةِ اللهِ فِيهَا.
(١٤٩) - يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ مِنْ إِطَاعَةِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ، الذِينَ حَاوَلُوا إِلْقَاءَ الشُّبُهَاتِ فِي قُلُوبِ ضِعَافِ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيّاً حَقّاً لانْتَصَرَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمٌ وَعَلِيهِ يَوْمٌ. (وَهَؤُلاَءِ هُمْ أبُو سُفْيَانُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ) لأَنَّ إِطَاعَتَهُمْ تُورِثُ البَوَارَ فِي الدُّنْيا، بِخُضُوعِهِمْ لِسُلْطَانِهِمْ، وَذِلَّتِهِمْ بَيْنَهُمْ، وَفِي الآخِرَةِ فِيمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ العَذَابِ الأَبَدِيِّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَجَهَنَّمُ بِئْسَ المَصِيرُ وَالمُسْتَقَرُّ.
(١٥٠) - يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ، وَمُوَالاَتِهِ، وَالاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ وَحْدَهُ، لأَنَّهُ خَيْرُ نَاصِرٍ لِعِبَادِهِ المُخْلِصِينَ. أمَّا رُؤُوسُ الكُفْرِ وَالضّلاَلَةِ وَالنِّفَاقِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ، وَلاَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ.
(١٥١) - يُبَشِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ سَيُلْقِي فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِم الرُّعْبَ لأنَّهُمْ كَفَرُوا وَأَشْرَكُوا بِاللهِ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ، قَدْ جَعَلَ نُفُوسَ المُشْرِكِينَ مُضْطَرِبَةً، وَقُلُوبَهُمْ مُمْتَلِئَةً رُعْباً وَهَلَعاً مِنَ المُؤْمِنِينَ، حِينَما يَلْتَقُونَ بِهِمْ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ، وَأنَّهُ سَيَدَّخِرُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابَ النَّارِ وَنَكَالَها. وَالنَّارُ بِئْسَ المَثْوَى وَالنِّهَايَةُ لِلظَّالِمِينَ الكَافِرِينَ.
المَثْوَى - المَقَرُّ وَالمَأوَى.
سُلْطاناً - حُجَّةً وَبُرْهَاناً.
مَثْوَى الظَّالِمِينَ - مَأوَاهُمْ وَمُقَامُهُمْ.
(١٥٢) - لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ وَالمُسْلِمُونَ إلَى المَدِينَةِ بَعْدَ مَعْرَكَةِ أحُدٍ قَالَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ: مِنْ أَيْنََ أَصَابَنَا هَذا وَقَدْ وَعَدَنَا اللهُ تَعَالَى النَّصْرَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَفِيها يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: إِنَّهُ صَدَقَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ بِهِ مِنْ نَصْر، فَكُنْتُمْ تَقْتُلُونَهُمْ قَتْلاً ذَرِيعاً بِإذْنِ اللهِ، وَسَلَّطَكُمْ عَلَيهِمْ، حَتَّى إذَا أَصَابَكُمُ الضَّعْفُ وَالفَشَلُ، وَعَصَيْتُمْ أمْرَ الرَّسُولِ، وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ، (وَهُوَ مَا وَقَع لِلرُّمَاةِ الذِينَ أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ أنْ يَلْزَمُوا مَوَاقِعَهُمْ فَتَخَلَّوا عَنْهَا)، وَكَانَ اللهُ قَدْ أَرَاكُمُ الظَّفَرَ، وَهُوَ مَا تُحِبُّونَهُ، فَكَانَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنيا، وَيَطْمَعُ فِي المَغْنَمِ، حِينَ رَأَوْا هَزِيمَةَ المُشْرِكِينَ، فَتَرَكُوا مَوَاقِعَهُمْ عَلَى الجَبَلِ، وَمِنْكُمْ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الآخِرَةَ فِي قِتَالِهِ المُشْرِكِينَ لاَ يَلْتَفِتُ إلَى المَغْنَمِ، فَثَبَتَ مَكَانَهُ وَقَاتَلَ، ثُمَّ أدَالَ اللهُ المُشْرِكِينَ عَلَيكُمْ، وَجَعَلَ لَهُمُ الغَلَبَةَ عَلَيْكُمْ لِيَخْتَبِرَكُمْ، وَيَمْتَحِنَ ثَبَاتَكُمْ عَلَى الإِيمَانِ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكُمْ ذَلِكَ الفِعْلَ، وَهُوَ عِصْيَانُ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَالهَرَبُ مِنَ المَعْرَكَةِ، وَمَحَا أَثَرَهُ مِنْ نُفُوسِكُمْ، حِينَمَا أَظْهَرْتُمُ النَّدَمَ، وَرَجَعْتُمْ إلَى اللهِ، حَتَّى صِرْتُمْ وَكَأَنَّكُمْ لَمْ تَفُشَلُوا. وَلَمْ يَسْمَحِ اللهُ باسْتِئْصَالِكُمْ لأَنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ.
تَحُسُّونَهُمْ - تَقْتُلُونَهُمْ، وَمِنَها سَنَةٌ حَسُوسٌ إذَا أَتَتْ عَلَى كُلِّ شَيءٍ.
الفَشَلُ - عَدَمُ النَّجَاحِ - وَهُوَ الضَّعْفُ.
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ - كَفَّكُمْ عَنْهُمْ.
لِيَبْتَلِيَكم - لِيَخْتَبِرَكُم.
(١٥٣) - فَقَدْ صَرَفَكُمُ اللهُ عَنِ المُشْرِكِينَ فَأخَذْتُمْ فِي الهَرَبِ مِنْ أَعْدَائِكُمْ فِي الجِبَالِ، لاَ تَلْتَفِتُونَ إلَى أَحَدٍ مِنَ الدَهَشِ وَالخَوْفِ، وَقَدْ خَلَّفْتُمُ الرَّسُولَ وَرَاءَكُمْ وَهُوَ يَدْعُوكُمْ إلَى العَوْدَةِ إلى القِتَالِ، وَيَقُولُ: هَلُمَّ عِبَادَ اللهِ أنَا رَسُولُ اللهِ، مَنْ يَكِرُّ فَلَهُ الجَنَّةُ، فَجَزَاكُمُ اللهُ ﷺ لِفِرَارِكُمْ، بِغَمٍّ يَمْلأُ نُفُوسَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ، وَعَلَى تَرْكِكُمْ رَسُولَ اللهِ يُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُ، وَهُوَ ثَابِتٌ دُونَكُمْ، وَذَلِكَ لِكَيْلاَ تَهْتَمُّوا وَتَحْفَلُوا بِشَيءٍ فَاتَكُمْ، وَلا بِأَذًى أَصَابَكُمْ، وَلِتَمْرُنُوا عَلَى تَجَرُّعِ الغُمُومِ، وَاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ، إذْ كَانَ مَا أَصَابَ النَّبِيِّ، وَمَا لَحِقَ بِنُفُوسِكُمْ مِنَ النَّدَمَ، وَهُوَ أَكْبَرُ عِنْدَكُمْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ: أَكْبَرُ مِنَ الجِرَاحِ وَالقَتْلِ وَضَيَاعِ المَغْنَمِ. وَاللهُ خَبِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ وَمَقَاصِدِكُمْ، وَقَادِرٌ عَلَى مُجَازَاتِكُمْ عَلَيْهَا.
تُصْعِدُونَ - تَذْهَبُونَ فِي الأَرْضِ، تَبْتَعِدُونَ.
لاَ تَلْوُونَ - لاَ تَلْتَفِتُونَ إلَى شَيءٍ مِنْ شِدَّةِ الخَوْفِ وَالهَلَعِ.
فِي أُخْرَاكُمْ - فِي آخِرِكُمْ وَمُؤَخَّرَتِكُمْ.
أَثَابَكُمْ - جَازَاكُمْ وَعَاقَبَكُمْ.
الغَمُّ - الضِّيقُ مِمَّا يُحسُّ بِهِ الإِنْسَانُ.
غَمّاً بِغَمٍّ - غَمّاً مُتّصِلاً بِغَمٍّ.
(١٥٤) - أصْبَحَ المُسْلِمُونَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ فَرِيقَيْنِ:
١- فَرِيقاً ذَكُرُوا مَا أَصَابَهُمْ فَعَرَفوا أنَّهُ كَانَ بِتَقْصِيرٍ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَذَكَرُوا وَعْدَ اللهِ بِنَصْرِهِمْ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَوَثِقُوا بِوَعْدِ رَبِّهِمْ، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ إنْ غُلِبُوا فِي هَذِهِ المَرَّةِ، بِسَبَبِ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ وَعِصْيَانِ الرَّسُولِ فِيمَا أَمَرَ، فِإنَّ اللهَ سَيَنْصُرُهُمْ بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً، حَتَّى يَسْتَرِدُّوا مَا فَقَدُوا مِنْ قُوَّةٍ وَأمْنٍ، وَلِيَذْهَبَ عَنْهُمْ مَا لَحِقَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
٢- وَفَرِيقاً أَذْهَلَهُمُ الخُوْفُ حَتَّى صَارُوا مَشْغُولِينَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُمْ إذِ الوُثُوقُ بِوَعْدِ اللهِ، وَوَعْدِ رَسُولِهِ، لَمْ يَصِلْ إلَى قَرَارَةِ نُفُوسِهِمْ، لأَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ حَقّاً، فَعَظُمَ الخَوْفُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى ظَنُّوا بِاللهِ غَيْرَ الظَّنِّ الحَقِّ، إذْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيّاً حَقّاً لَمَا نَصَرَ اللهُ الكُفَّارَ عَلَيهِ، وَهَذَا مَقَالٌ لاَ يَقُولُهُ إلاَّ أَهْلُ الشِّرْكِ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ عَلَى سَبِيلِ الإِنْكَارِ: هَلْ لَنَا مِنَ النَّصْرِ وَالفَتْحِ والظَّفْرِ نَصِيبٌ؟ ﴿هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ﴾، وَهُمْ يَعْنُونَ أنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ، وَكَانَ مَا حَدَثَ فِي ذَلِِكَ اليَوْمِ دَلِيلاً، فِي نَظَرِهِمْ، عَلَى أنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ لَيْسَ بِحَقٍّ. وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ قَائِلاً: إنَّ كُلَّ مَا يَجْرِي هُوَ بِقَدَرِ اللهِ، وَبِحَسَبِ سُنَنِهِ فِي الخَلِيقَةِ وَلِذَلِكَ فَلاَ أَمْرَ لأَحَدٍ غَيْرَ اللهِ.
ثُمَّ يَكْشِفُ تَعَالَى عَنْ خَبِيئَةِ نُفُوسِ هَؤُلاَءِ فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ، فَنُفُوسُهُمْ مَلأى بِالوَسَاوِسِ وَالهَوَاجِسِ، وَالاعْتِرَاضَاتِ، وَيَقُولُونَ لَوْ كَانَ أَمْرُ النَّصْرِ وَالظَّفْرِ بَأَيْدِينَا كَمَا ادَّعَى مُحَمَّدٌ: (وَهُوَ أنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ وَلأَوْلِيائِهِ وَأَنَّهُمْ هُمُ الغَالِبُونَ) لَمَا غُلِبْنَا، وَلَمَا قُتِلَ مِنَ المُسْلِمِينَ مَنْ قُتِلَ فِي هَذِهِ المَعْرَكَةِ، فَهُمْ يَظُنُّونَ أنَّ خِطَّةَ القِيَادَةِ هِيَ التِي أَوْصَلَتْهُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ.
وَيَقُولُ تَعَالَى مُصَحِحاً قَوْلَ هَؤُلاءِ وَاعْتِقَادَهُمْ، قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إنَّ قَدَرَ اللهِ سَيَقَعُ لاَ مَحَالَةَ، وَلَوْ كَانَ الذِينَ كُتِبَ عَلَيهِم القَتْلُ مَوْجُودِينَ فِي بُيُوتِهِمْ لَخَرَجُوا، دُونَ دَعْوَةٍ مِنْ أَحَدٍ إلَى حَيْثُ قُدِّرَ لَهُمْ أنْ يُقَتْلُوا، لِيُقَتْلُوا. فَهُنَاكَ أَجَلٌ مَكْتُوبٌ لاَ يَسْتَقْدِمُ وَلاَ يَسْتَأْخِرُ، وَجَعَلَ الله الأَمْرَ كُلَّهُ ابْتِلاءً مِنْهُ، واخْتِبَاراً لِمَا فِي صُدُورِ المُؤْمِنِينَ وَقُلُوبِهِمْ، وَتَمْحِيصاً لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ وَتَطْهِيراً. وَلَيْسَ كَالحَقِّ كَاشِفٌ لِلنُّفُوسِ وَالحَقَائِقِ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، ، وَبِالأسْرَارِ الخَفِيَّةِ.
الأَمِنَةُ - الأَمْنُ.
يَغْشَى - يَُغَطِّي وَيَسْتُرُ، أيْ يَسْتَولي عَلَيهِم النُّعَاسُ.
لَبَرَزَ - لَخَرَجَ.
لِيُمَحِّصَ - لِيُنَقِّيَ وَيَكْشِفَ.
ذَاتِ الصُّدُورِ - السَّرَائِرِ.
(١٥٥) - إنَّ الرُمَاةَ الذِينَ أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ بِأَنْ يَثْبُتُوا فِي مَوَاقِعِهِمْ لِيَدْفَعُوا المُشْرِكِينَ عَنْ ظُهُورِ المُؤْمِنِينَ، إنَّمَا تَرَكُوا مَوَاقِعَهُمْ لأنَّ الشَّيْطَانَ اسْتَدرَجَهُمْ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ الزَّلَلِ.. وَالخَطِيئَةُ الصَّغِيرَةُ إذَا تَرَخَّصَ فِيها الإِنسَانُ سَهَّلَتِ اسْتِيلاءَ الشَّيْطَانِ عَلَى نَفْسِهِ. فَهُمْ إِنَّمَا انْْحَرَفُوا عَنْ أَمَاكِنَهُمْ بِتَأوُّلٍ مِنْهُمْ، وَظَنّاً مِنْهُمْ أنْ لَنْ تَكُونَ لِلْمُشْرِكِينَ كَرَّةٌ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَهَابِهِمْ وَرَاءَ المَغَانِمِ فَوَاتَ مَنْفَعَةٍ، وَلاَ وُقُوعَ ضَرَرٍ. وَلَكِنَّ هَذَا التَّأوُّلَ كَانَ سَبَباً فِيمَا جَرَى مِنَ المَصَائِبِ، وَقَدْ عَفَا اللهُ عَمَّا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الذُنُوبِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، وَجَعَلَ عُقُوبَتَهُمْ فِي الدُّنيا تَرْبِيَّةً وَتَمْحِيصاً، وَاللهُ يَغْفِرُ الذُنُوبَ جَمِيعَهَا صَغيرَها وَكبِيرَها.
اسْتَزَلهُم - أَوْقَعَهُمْ فِي الزَّلَلِ وَالخَطِيئَةِ.
بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا - بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ.
(١٥٦) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ مُشَابَهَةِ المُنَافِقِينَ (الكَافِرِينَ) فِي اعْتِقَادِهِمُ الفَاسِدِ، إذْ يَقُولُونَ عَنْ إِخْوَانِهِمِ الذِينَ قُتِلُوا فِي الحُرُوبِ (كَانُوا غُزًّى)، أوْ مَاتُوا وَهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ سَعْياً وَرَاءَ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ (ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ) : لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقَامُوا، وَتَرَكُوا ذَلِكَ لَمَا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الاعْتِقَادِ فِي نُفُوسِهِمْ لِيَزْدَادُوا أَلَماً وَحَسْرَةً عَلَى مَوْتَاهُمْ، يَزيدَانِهِم ضَعْفاً، وَيُورِثَانِهُم نَدَماً عَلَى تَمكِينِهِمْ إيَّاهُمْ مِنَ التَّعَرُّضِ لِمَا ظَنُّوهُ سَبَباً ضَرُورِياً لِلْمَوتِ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَيهِمْ قَائِلاً: إنَّ المَوْتَ وَالحَيَاةَ بِيَدِ اللهِ، وَإلَيهِ يَرْجِعُ الأمْرُ، وَعِلْمُهُ وَبَصَرُهُ نَافِذَانِ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ، فَعَلَى المُؤْمِنِينَ أنْ لاَ يَكُونُوا مِثْلَ هَؤُلاءِ فِي قَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، وَإلاَّ أَصَابَهُمُ الضَّعْفُ وَالوَهَنُ وَالفَشَلُ؛ وَالإيمَانُ الصَّادِقُ يَزِيدُ صَاحِبَهُ إيقَاناً وَتَسْلِيماً بِكُلِّ مَا يَجْرِي بِهِ القَضَاءُ، وَأنَّ مَا وَقَعَ كَانَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنَ أنْ يَقَعَ.
غُزًّى - غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ.
الضَّرْبُ فِي الأَرْضِ - السَّفَرُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَالتِّجَارَةِ.
(١٥٧) - فَالَّذِينَ يُقْتَلُونَ وَهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَنَصْرِ دِينِهِ، أَوْ يَمُوتُونَ فِي أَثْنَاءِ الجِهَادِ، سَيَجِدُونَ عِنْدَ رَبِهِمْ مَغْفِرَةً تَمْحُو مَا كَانَ مْنْ ذُنُوبِهِمْ، وَرَحْمَةً وَرِضْوَاناً خَيْراً مِنْ جَمِيعِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الكُفَّارُ مِنَ المَالِ وَالمَتَاعِ فِي هَذِهِ الدُّنيا الفَانِيةِ، فَهَذَا ظِلٌّ زَائِلٌ، وَذَاكَ نَعِيمٌ خَالِدٌ.
(١٥٨) - وَبِأيِّ سَبَبٍ كَانَ هَلاَكُكُمْ، فَإِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إلى اللهِ لِيَجْزِيَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَ، فَآثِرُوا مَا يُقَرِّبُكُمْ إلَى رَبِّكُمْ، وَيُحَقِّقُ لَكَ رِضَاهُ، فَعَلَيْكُمْ بِطَاعَةِ اللهِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ. فَإذا شَاوَرْتَهُمْ فِي الأَمْرِ، وَعَزَمْتَ عَلَى إِنْفَاذِهِ، فَتَوكَّلْ عَلَى اللهِ فِيهِ، لأنَّ اللهَ يُحِبُّ مَنْ يَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، وَيَثِقُ بِنَصْرِهِ.
فَبِمَا رَحْمَةٍ - فَبِسَبَبِ رَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ رُكِّبَتْ فِيكَ.
الفَظُّ - الخَشِنُ أوِ الشَّرِسُ الأَخْلاَقِ.
الغَلِيظُ - القَاسِي.
انْفَضَّ القَوْمُ - تَفَرَّقُوا.
فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ - فَلاَ قَاهِرَ.
(١٦١) - يُنَزِّهُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيةِ رَسُولَهُ الكَرِيمَ عَنْ أخْذِ شَيءٍ مِنَ المَغْنَمِ خِلْسَةً (عَنِ الغُلُولِ)، وَعَنِ الخِيَانَةِ فِي أَدَاءِ الأَمَانَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: مَا يَنْبَغِي لِنَبيٍّ أنْ يَغُلَّ لأنَّ اللهَ عَصَمَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى مِنْ يَغُلُّ بأنَّهُ سَيَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَهُوَ يَحْمِلُ مَا غَلَّ لِيُحَاسَبَ عَلَيهِ، وَاللهُ لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ.
(هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ المَغْنَمِ، فَقَالَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ لَعَلَّ رَسُولَ اللهِ أَخَذَهَا).
الغُلُولُ - الخِيانَةُ فِي المَغْنَمِ وَأخْذُ شَيءٍ مِنْهُ خِلْسَةً.
(١٦٢) - لاَ يَسْتَوي مَنِ اتَّبَعَ أمْرَ اللهِ فِيمَا شَرَعَهُ، وَتَرَكَ الغُلُولَ وَغَيْرَهُ مِنَ الفَوَاحِشِ وَالمُنْكَرَاتِ، حَتَّى زَكَتُ نَفْسُهُ، فَاسْتَحَقَّ رِضْوَانَ اللهِ، وَجَزيلَ ثَوَابِهِ، مَعَ مَنِ اسْتَحَقَّ غَضَبَ اللهِ بِفِعْلِ الخَطَايا، وَارْتِكَابِ الذُّنُوبِ: مِنْ سَرِقَةٍ، وَخِيَانَةِ أَمَانَةٍ، وَغُلُولِ، وَقَتْلٍ، وَسَلْبٍ.. فَكَانَ جَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً.
بَاءَ بِسَخَطٍ - رَجَعَ مُتَلَبِّساً بِغَضَبٍ شَدِيدٍ.
(١٦٣) - يُخَبِّرُ اللهُ تَعَالَى أنَّ أهْلَ الخَيْرِ الذِينَ اسْتَحَقُّوا رِضْوَانَ اللهِ، وَأهَلَ الشَّرِّ الذِينَ بَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ، مُتَفَاوِتُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، وَاللهُ بَصِيرٌ عَالِمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ، وَسَيُوَفِّيهِمْ أَعْمَالَهُمْ، وَلا يَظْلِمُهُمْ خَيْراً فَعلُوهُ، وَلاَ يَزيدُهُمْ شَرّاً لَمْ يَفْعَلُوهُ.
(١٦٤) - مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى المُؤْمِنِينَ أنْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ جِنْسِهِمْ، وَمِنْ أهْلِ بَلَدِهِمْ وَلُغَتِهِمْ (مَنْ أنْفُسِهِمْ)، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ مُخَاطَبَتِهِ وَمُجَالَسَتِهِ، وَالانْتِفَاعِ بِصُحْبَتِهِ وَسُؤَالِهِ عَمَّا سَيْتَشْكِلُ عَلَيْهِمْ فِي أمُوِر دِينِهِمْ، وَيَتْلُو عَلَيهِم القُرآنَ (آياتِ اللهِ) وَيَأمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ، لِتَزْكُوَ أنْفُسُهُم، وَتَطْهُرَ مِنْ أرْجَاسِ الجَاهِليَّةِ، وَيُعَلِّمُهُمُ القُرآنَ (الكِتَابَ) وَالسُّنَّةَ (الحِكْمَةَ) فَقَدْ كَانُوا قَبْلَ هَذا الرَّسُولِ فِي غَيٍّ وَجَهَالَةٍ (ضَلاَلٍ) ظَاهِرَيْنِ لِكُلِّ أحَدٍ.
مِنْ أنْفُسِهِمْ - مِنْ جَنْسِهِمْ وَلُغَتِهِمْ وَقَوْمِهِمْ.
الضَّلاَلَةُ - الجَهَالَةُ.
يُزَكِّيهِمْ يُطَهِّرُهُمْ مِنْ أرْجَاسِ الجَاهِلِيَّةِ.
(١٦٥) - لاَ تَعْجَبُوا يَا أيُّهَا المُؤْمِنُونَ مِمَّا حَلَّ بِكُمْ فِي مَعْرَكَةِ أحُدٍ، فإنَ خِذْلاَنَكُمْ فيها لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ ظَفَرِكُمْ فِي بَدْرٍ، فَقد كَانَ ظَفَرُكُمْ فِي بَدْرٍ ضِعْفَيْ نَصْرِهِم في أحُدٍ، فَقَدْ قُتِلَ مِنْكُمْ سَبْعُونَ رجلاً في أحُدٍ، وَقَتَلْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ سَبْعِينَ رَجُلاً فِي بَدْرٍ وَأسَرْتُمْ سَبْعِينَ رَجلاً، أيْ مِثْلَي مَا أضَعْتُم، وَأنتم الآنَ تَتَسَاءَلُونَ كَيْفَ حَدَثَ هذا؟ فَأنْتُمْ تُدَافِعُونَ عَنِ الإِسلامِ، وَهُمْ يُدَافِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ. فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إنَّ مَا حَدَثَ كَانَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ، إذَ كَانَ سَبَبَهُ فَشَلُكُمْ، وَتَنَازُعُكُمْ فِي الأمْرِ، وَمُخَالَفَتُكُمْ أمْرَ رَسُولِكُمْ، فَقَدْ كَانَ مِنْ رَأي الرَّسُولِ ﷺ عَدَمُ الخُرُوجِ مِنَ المَدِينَةِ، فَإذا جَاءَ المُشْرِكُونَ إلَيْكُمْ قَاتَلْتُمُوهُمْ عَلَى أبْوَابِها، وَظُهُورُكُمْ مَحْمِيَّةٌ، فَطَالَبَ بَعْضُكُمْ بِالخُرُوجِ، وَرَجَعَ ثُلْثُ الجَيْشِ الإِسْلاَمِيِّ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، وَهَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا. ثُمَّ إنَّ الرَّسُولَ ﷺ أَمَرَ الرُّمَاةَ بِلُزُومِ أمَاكِنِهِمْ، وَبِعَدَمِ تَرْكِهَا مَهْمَا كَانَتْ نَتِيجَةُ المَعْرَكَةِ، فَتَرَكُوهَا حِينَما لاَحَتْ بَشَائِرُ النَّصْرِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ هُجُومُ فُرْسَانِ المُشْرِكِينَ مِنَ الخَلْفِ، فَتَبَدَّلَ نَصْرُ المُسْلِمِينَ إلَى هَزِيمَةٍ. وَاللهُ قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، وَهُوَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَلاَ مُعَقِّبَ عَلَى حُكْمِهِ، فَهُوَ القَادِرُ عَلَى نَصْرِكُمْ، إنْ أطَعْتُمْ وَثَبَتُّمْ وَصَبَرتُمْ، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى التَّخَلِّي عَنْكُمْ إنْ خَالَفْتُمْ وَعَصَيْتُمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ رَبَطَ المُسَبباتِ بِالأسْبَابِ، وَلاَ يَشُذُّ عَنْ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ وَلاَ كَافِرٌ.
المُرَادُ بِالمُصِيبَةِ - مَا أَصَابَ المُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ.
مِثْلَيْهَا - ضِعْفَيهَا.
مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ - بِشُؤْمِ مَعْصِيَتِكُمْ، وَسُوءِ تَصَرُّفِكُمْ.
أنَّى هَذَا - مِنْ أَيْنَ لَنَا هَذَا الخِذْلاَنُ.
(١٦٦) - مَا أَصَابَكُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ يَوْمَ أحُدٍ، حِينَمَا التَقَيْتُمْ بِعَدوكُمْ فِي مَيْدَانِ المَعْرَكَةِ، وَمَا حَلَّ بِكُمْ مِنْ هَزِيمَةٍ وَقَتْلٍ، إنَّمَا كَانَ بِإِذْنِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ السَّابِقِ، الذِي جَعَلَ المُسَببَاتِ نَتَائِجَ لأسْبَابِهَا، فَكُلُّ عَسْكَرٍ يَعْصِي قَائِدَهُ، وَيَكْشِفُ ظَهْرَهُ لِعَدُوِّهِ يُصَابُ بِمِثْلِ مَا أُصِبْتُمْ بِهِ، وَأَكْثَر مِنْهُ، وَللهِ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ فِي ذَلِكَ، لأنَّ الشَّدَائِدَ تَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ صَبَرُوا وَثَبَتُوا، وَلَمْ يَتَزَلْزَلُوا أَمَام العَدُوِّ.
الجَمْعَانِ - هُمَا جَيْشَا المُؤْمِنِينَ وَالمُشْرِكِينَ يَوْمَ أحُدٍ.
بِإِذْنِ اللهِ - بِإرَادَتِهِ الأزَلِيَّةِ.
(١٦٧) - وَالشَّدَائِدُ تُظهِرُ المَُاَفِقِينَ الذِينَ تَبَطَّنُوا بِالكُفْرِ، وَأَظْهَرُوا الإِيمَانَ، مِنْ جَمَاعَةِ ابْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، الذِينَ رَجَعُوا إلَى المَدِينَةِ قَبْلَ المَعْرَكَةِ، فَلَحِقَ بِهِمْ رِجَالٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ يَدْعُونَهُمْ لِلْعَوْدَةِ إلَى الصَّفِّ، وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى القِتَالِ وَمُسَاعَدَةِ المُسْلِمِينَ، وَإكْثَارِ عَدَدِهِمْ أمَامَ المُشْرِكِينَ (أو ادْفَعُوا)، فَرَدُّوا مُتَعَلِّلِينَ: لَوْ نَعْلَمُ أنَّكُمْ سَتَلْقَونَ حَرْباً لاتَّبَعْنَاكُمْ، وَلَكِنَّنَا فِي قُلُوبِهِمْ يَعْتَقِدُونَ غَيْرَهُ. وَهُمْ حِينَما قَالُوا هَذَا القَوْل كَانُوا فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ أقرْبَ لِلْكُفْرِ مِنْهُمْ إلَى الإِيمَانِ، وَاللهُ أعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ فِي قُلُوبِهِمْ وَفِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الكُفْرِ وَالكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَسَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيهِ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
(١٦٨) - وَهَؤُلاءِ المُنَافِقُونَ الذِين قَعَدُوا عَنِ الجِهَادِ، هُمُ الذِينَ قَالُوا عَنْ إِخْوَانِهِم الذِينَ قُتِلُوا فِي المَعْرَكَةِ: لَوْ سَمِعُوا مَشُورَتَنَا فِي القُعُودِ، وَعَدَمِ الخُرُوجِ لَمَا قُتِلُوا مَعَ مَنْ قُتِلَ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ مُسْتَنْكِراً قَوْلَهُمْ هَذَا: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: لَوْ كَانَ القُعُودُ يَسْلَمُ بِهِ الشَّخْصُ مِنَ القَتْلِ وَالمَوْتِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْكُمْ إلاَّ تَمُوتُوا. وَلَكِنَّ المَوْتَ آتٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ، فَادْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ.
ادْرَؤُوا - ادْفَعُوا.
(١٦٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ الشُّهَدَاءِ بِأَنَّهُمْ قُتِلُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَلَكِنَّ أَرْوَاحَهُمْ حَيَّةٌ تُرْزَقُ عِنْدَ اللهِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ، لَهَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أنْ تَرْجِعَ إلى الدُّنْيا إلا الشَّهِيدُ، فَإنَّهُ يَسُرُّهُ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنيا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى مِمَّا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ ".
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ: عَلَيهِمْ ألاَّ يَنْخَدِعُوا بِمَا يَقُولُهُ المُنَافِقُونَ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ، فَهُمْ يُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنيا عَلَى الآخِرَةِ، لارْتِيَابِهِمْ فِي البَعْثِ وَالحِسَابِ فِي الآخِرَةِ، فَالشُّهَدَاءُ أحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ رِزْقاً حَسَناً يَعْلَمُهُ هُوَ.
(١٧٠) - وَيَكُونُ الشُّهَدَاءِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَرِحِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالغَبْطَةِ، التِي مَنَّ اللهُ بِهَا عَلَيهِمْ، مُسْتَبْشِرِينَ بِإِخْوانِهِمْ الذِينَ يُقْتَلُونَ بَعْدَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَنَّهُمْ يَقْدَمُونَ عَلَيْهِمْ حِينَمَا يَسْتَشْهِدُونَ، لاَ يَخَافُونَ مِمَّا أَمَامَهُمْ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا تَرَكُوهُ فِي الدُّنيا.
الاسْتِبْشَارِ - السُّرُورُ الحَاصِلُ بِالبِشَارَةِ.
الذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ - البَاقُونَ عَلَى قَيْدِ الحَيَّاةِ.
وَعَلِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِذَلِكَ، فَنَدَبَ المُسْلِمِينَ لِلْخُرُوجِ وَرَاءَ المُشْرِكِينَ لِيَثْنِيَهُمْ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي العَوْدَةِ، وَأمَرَ بِألاَّ يَخْرُجَ مَعَهُ إلاَّ مَنْ شَهِدَ أحُداً، فَتَسَارَعَ النَّاسُ إلَى الخُرُوجِ مَعَهُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيهِ مِنْ جِرَاحٍ.
وَقَدْ وَعَدَ اللهُ مَنْ أحْسَنَ مِنْ هَؤُلاءِ المُسْتَجِيبِينَ لِلْرَسُولِ ﷺ وَاتَّقَى أجْراً عَظِيماً.
القَرْحُ - الجِرَاحُ.
الإِحْسَانُ - القِيَامُ بِالعَمَلِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ.
(١٧٣) - وَخَافَتْ قُرَيشٌ أنْ يَجْمَعَ رَسُولُ الله ﷺ أهْلَ المَدِينَةِ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي المَعْرَكَةِ، وَيَخْرُجَ وَرَاءَهُمْ، فَأَرْسَلُوا إلَيهِ بَعْضَ نَاقِلِي الأخْبَارِ لِيُهَوِّلُوا عَلَيهِ، لِيَكُفَّ عَنِ اللِّحَاقِ بِهِمْ، وَقَالَ نَاقِلُوا الأَخْبَار لِلْمُسْلِمِينَ: إنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ (النَّاسَ) قَدْ حَشَدُوا لَكُمْ، وَجَمَعُوا قُوَاهُمْ، فَاحْذَرُوهُمْ، وَاخْشَوْهُمْ، فَلَمْ يَزِدْ هَذَا القَوْلُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ - الذِينَ اسْتَجَابُوا لِلْرَسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ وَخَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ مُلَبِّينَ دَعْوَتَهُ، رَاغِبِينَ فِي نَيْلِ رِضْوَانِ رَبِّهِمْ وَنَصْرِهِ - إلاَّ إِيمَاناً بِرَبِهِمْ، وَثِقَةً بِوَعْدِهِ وَنَصْرِهِ وَأجْرِهِ، وَرَدُّوا عَلَى مُخَاطِبِيِهِمْ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ، وَهُوَ حَسْبُهُمْ.
جَمَعُوا لَكُمْ - حَشَدُوا لَكُمْ قُوَاهُمْ.
(١٧٤) - فَلَمَّا تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ كَفَاهُمُ اللهُ مَا أَهَمَّهُمْ وَأَغَمَّهُمْ، وَرَدَّ عَنْهُمْ بَأسَ النَّاسِ (الكَافِرِينَ)، فَرَجَعُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ، وَقَدْ فَازُوا بِرِضْوَانِ اللهِ، وَعَظِيمِ فَضْلِهِ، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ
(خَرَجَ المُسْلِمُونَ مَعَ الرَّسُولِ إلى مَوْقِعٍ يُعْرَفُ بِحَمْراءِ الأَسَدِ، وَأرْسَلَ إلى المُشْرِكِينَ رُسُلاً يُحَذِّرُونَهُمْ، فَخَافَتْ قُرَيْشٌ وَتَابَعَتْ سَيْرَهَا نَحْوَ مَكَّةَ).
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ وَاعَدَ َرسُولَ اللهِ ﷺ بَدْراً مِنَ العَامِ القَابِلِ، فَخَرَجَ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِالْمُسْلِمِينَ إلَى بَدْرٍ فِي المَوْعِدِ المُحَدَّدِ، وَتَخَلَّفَتْ قُرَيْشٌ، فَاشْتَرَى رَسُولَ اللهِ عِيْراً مَرَّتْ بِهِمْ فِي المَوْسِمِ، ثُمَّ بَاعَهَا فَرَبِحَ، وَوَزَّعَ الرِّبْحَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَانْقَلَبُوا مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الثَّانِيَةِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَنَالُوا رِضْوَانَ اللهِ، وَحَصَلُوا عَلَى فَضْلِهِ فِي الرِّبْحِ. وَاللهُ عَظِيمُ الفَضْلِ عَلَى عِبَادِهِ.
انْقَلَبُوا - رَجَعُوا.
الفَضْلُ - هُوَ هُنَا الرِّبْحُ فِي التِّجَارَةِ.
(١٧٥) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ، أنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الذِي يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ المُشْرِكِينَ، وَيُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ ذَوُو بَأْسٍ وَقُوَّةٍ، وَهُوَ الذِي قَالَ لَكُمْ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَلاَ تَخَافُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ، وَالْجَؤُوا إِلَيهِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقّاً، فَإِنَّهُ كَافِيكُمْ إِيَّاهُمْ، وَنَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ. وَخَافُوهُ هُوَ فَهُوَ القَادِرُ عَلَى النَّصْرِ وَعَلَى الخُذْلاَنِ، وَعَلَى الضَّرِّ وَالنَّفْعِ.
يُخَوِّفُ أوْلِيَاءَه - يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أنْصَارِهِ المُشْرِكِينَ.
(١٧٦) - لاَ يُحْزِنْكَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، مُسَارَعَةَ المُنَافِقِينَ وَاليَهُودِ إلَى نُصْرَةِ المُشْرِكِينَ، وَاهْتِمَامُهُمْ بِهِمْ، وَمُحَاوَلَةُ تَثْبِيطِ عَزَائِمِ المُؤْمِنِينَ عَنْ حَرْبِهِمْ وَمُقَاوَمَتِهِمْ، وَذَلِكَ لأَنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا أَوْلِيَاءَ اللهِ شَيْئاً (وَهُمْ النَّبِيُّ وَأتْبَاعُهُ). وَعَاقِبَةُ مُسَارَعَتِهِمْ فِي الكُفْرِ سَتَكُونَ وَبَالاً عَلَيْهِمْ، لاَ عَلَيْكَ، وَلاَ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يُحَارِبُونَكَ، وَإٍنَّمَا يُحَارِبُونَ اللهَ، وَهُمْ أَعْجَزُ مِنْ أنْ يُحَارِبُوا اللهَ، وَلِذَلِكَ فَإنَّهُمْ لاَ يَضُرُّونَ إلاَّ أَنْفُسَهُمْ، وَاللهُ يَمُدُّ لَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ لأَنَّهُ قَضَى بِأنْ يَحْرِمَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الآخِرَةِ وَثَوَابِهَا، وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً عَظِيماً.
لاَ يَحْزُنْكَ - لاَ يَحْمِلْكَ تَصَرُّفُهُمْ عَلَى الحُزْنِ.
يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ - يُسَارِعُونَ فِي نُصْرَةِ الكَافِرِينَ.
(١٧٧) - وَالذِينَ اسْتَبْدَلُوا (اشْتَرَوا) الكُفْرَ بِالإِيمَانِ، رَغْبَةً مِنْهُمْ فِي الكُفْرِ، وَإِعْرَاضاً مِنْهُمْ عَنِ الإِيمَانِ، لَنْ يُلْحِقُوا ضَرَراً بِاللهِ، وَإنَّمَا يَضُرُّونَ أنْفُسَهُمْ، وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ ألِيمٌ.
اشْتَرَوا - اسْتَبْدَلُوا.
مُهِينٌ - مُذِلٌّ.
أَمْلَى لِفَرَسِهِ - أَرْخَى لَهَا الطِّوَلَ لِتَرْعَى، وَهُنَا مَعْنَاهُ الإِمْهَالُ.
(١٧٩) - مَا كَانَ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي عِبَادِهِ أنْ يَذَرَ المُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ امْتِحَانٍ وَتَمْحِيصٍ، لِيَظْهَرَ لَهُ المُؤْمِنُ الصَابِرُ، وَيَنْكَشِفَ المُنْافِقُ الفَاجِرُ، وَيَبِينَ وَليُّ اللهِ، وَيَفْتَضِحَ عَدُوُّهُ، فَامْتَحَنَهُمُ اللهُ يَوْمَ أحُدٍ، فَظَهَرَ المُؤْمِنُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِمْ، وَهَتَكَ أَسْتَارَ المُنَافِقِينَ، بِإِظْهَارِ مُخَالَفَتِهِمْ، وَنُكُولِهِمْ عَنِ الجِهَادِ، وَخِيَانَتِهِمْ لِلْرَّسُولِ، فَعَرَفَهُمُ المُؤْمِنُونَ، وَأخَذُوا يَحْذَرُونَهُمْ. وَأنْتُمْ أيُّها المُؤْمِنُونَ لاَ تَعْلَمُونَ غَيْبَ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى أنْ يُطْلِعَ عَامَّةَ خَلْقِهِ عَلَى غَيْبِهِ. وَلِذَلِكَ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أنْ تَكُونَ هُنَاكَ وَسِيلَةٌ تُمَيِّزُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَالمُؤْمِنَ مِنَ المُنَافِقِ، وَهَذِهِ الوَسِيلَةُ تَبْتَدِئُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، فَيُؤْمِنُ مَنْ يُؤْمِنُ بِالرُّسُلِ، وَيَكْفُرَ مَنْ يَكْفُرُ، ثُمَ يَقُومُ الرُّسُلِ بِالجِهادِ فَيَبْتَلِي الرُسُلُ أَصْحَابَهُمْ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَتمُّ أمْرُ اللهِ وَيَتَمَيَّزُ الخَبيثُ مِنَ الطَّيِّبِ، وَتَطْهَرُ القُلُوبُ وَالنُّفُوسُ. ثُمَّ يَدْعُو اللهُ تَعَالَى النَّاسَ إلَى الإِيمَانِ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ - وَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ ﷺ - وَمَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ فَقَدْ آمَنَ بِالرُّسُلِ السَّابِقِينَ جَمِيعاً، لأَنَّهُ جَاءَ مُصَدِّقاً الرُّسُلَ السَّابِقِينَ.
مَيَّزْتُ الشَّيءَ بعضَهُ عَنْ بَعْضٍ - فَرَزْتُهُ وَأَزَلْتُهُ.
اجْتَبَى - اصْطَفَى وَاخْتَارَ.
(١٨٠) - وَلاَ يَظُنَّنَّ أحَدٌ أنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَنِعَمِهِ، (كَمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَعَدَمِ البَذْلِ حِينَمَا تَتَعرَّضُ الأُمَّةُ لِلَمَكَارِهِ..) هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مَضَرَّةٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وُدُنْيَاهِمْ، لأنَّ العَبْدَ مُطَالَبٌ بِشُكْرِ اللهِ عَلَى نِعَمِهِ، وَالبُخْلُ كُفْرَانلإ لاَ يَنْبَغِي أنْ يَصْدُرَ عَنْ عَاقِلٍ. وَحِينَمَا يَتَهَدَّدُ الخَطَرُ الأمَّةُ، وَيَقْتَضِي الأمْرُ مِنَ المُؤْمِنِينَ البَذْلَ، فَعَلَيهِمْ أنْ لاَ يَبْخَلُوا لأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ النَّفْسِ وَالمَالِ؛ وَالبُخْلِ وَالامْتِنَاعِ عَنِ البَذْلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الظُرُوفِ شَرٌّ لَهُمْ فِي دُنيَاهُمْ أمَّا فِي دِينِهِمْ فَإنَّ اللهَ يَتَهَدَّدُهُمْ بِأنَّهُمْ سُيُطَوَّقُونَ بِالمَالِ الذِي بَخِلُوا بِهِ، وَيَلْزَمُهُمُ الإِثْمُ وَالذَنْبُ، وَلاَ يَجِدُونَ إلَى دَفْعِهِ سَبِيلاً.
وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي يَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَالمَالَ كُلُّهُ صَائِرٌ إلَيهِ، فَمَا لِهَؤلاءِ يَبْخَلُونَ عَلَيهِ بِمَالِهِ، وَلاَ يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ لاَ تَخْفَى عَلِيهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَعْمَالِ العِبَادِ؟
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا - سَيُلْزَمُونَ إثْمَهُ فِي الآخِرَةِ كَمَا يَلزَمُ الطَّوقٌ الرَّقَبَةُ.
مِيراثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ - مَا يَتَوارَثُهُ أهْلُهُمَا مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ.
وَيَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى اليَهُودَ بِأنَّهُ سَمِعَ مَا قَالُوا، وَسَيَكْتُبُهُ وَيُسَجِّلُهُ عَلَيْهِمْ، وَسَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيهِ، كَمَا سَيُحَاسِبُهُمِ عَلَى رِضَاهُمْ بِمَا قَامَ بِهِ أَسْلافُهُمْ مِنْ قَتْلِهِم الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَسَيَجْزِيهِم اللهُ عَلَيهِ شَرَّ الجَزَاءِ. وَيَقُولُ لَهُمْ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ: ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ.
عَذَابَ الحَرِيقِ - العَذَابَ المُحْرِقَ.
العَبِيدُ - العِبَادُ.
(١٨٣) - لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ اليَهُودَ إلى الإِسْلاَمِ، رَدَّ عَليهِ بَعْضُ رُؤَسَائِهِمْ (مِثْلُ كَعَبِ بْنِ الأشرَفِ، وَمَالِكِ بْنِ الصَّيفِ، وَفَنْحَاسِ بْنِ عَازُورَاءَ) قَائِلِينَ: إنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ أنْ لاَ يُؤْمِنُوا لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَ بِمُعْجِزَةٍ، مِنْهَا أنْ يَكُونَ إذا قَرَّبَ قُرْبَاناً إلى اللهِ، (أيْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ) فَتُقُبِّلَ مِنْهُ، تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَحْرُقُ القُرْبَانَ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مُكَذِّباً مَقَالَتَهُمْ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ الكَرِيمِ، قُلْ لَهُمْ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ قَبْْلِي بِالحُجَجِ وَالبَرَاهِينِ، وَبِنَارٍ تَأْكُلُ القَرَابِينَ المُتَقَبَّلَةَ (وَهُوَ الذِي قَالُوهُ وَطَلَبُوهُ) فَلِمَاذَا قَتَلْتُمُوهُمْ، وَكَذَّبْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟
القُرْبَانُ - مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلى اللهِ مِنْ حَيَوانٍ وَغَيْرِهِ.
البَيِّنَاتِ - المُعْجِزَاتِ الوَاضِحَةِ.
(١٨٤) - وَيُعَزِّي اللهُ رَسُولَهُ قَائِلاً: إنْ كَذَّبَكَ هَؤُلاءِ فَلاَ يَهِمَنَّكَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَلَكَ أسْوَةٌ بِمَنْ جَاءَ قَبْلَكَ مِنَ الرُسُلِ، الذِينَ جَاؤُوا المُكَذِبِينَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ بِالبَيِّنَاتِ وَالحِجَجِ وَالبَرَاهِينِ القَاطِعَةِ، وَالكُتُبِ المُنْزَلَةِ مِنَ السَّمَاءِ (الزُّبُرِ) وَالكِتَابِ الوَاضِحِ الجَلِيِّ (الكِتَابِ المُنِيرِ)، َوَأتَوا بِالقُرْآنِ الذِي تَأْكُلُهُ النَّارُ.. فَقُوبِلُوا مِنْهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالمُعَانَدَةِ، وَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ كَزَكَرِيّا وَيَحْيَى، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَومٌ غِلاظُ الأَكْبَادِ، قُسَاةُ القُلُوبِ، لاَ يُقِيمُونَ الحَقَّ، وَلا يُذْعِنُونَ لَهُ.
الزُبُرِ - كُتُبِ المَوَاعِظِ وَالزَّوَاجِرِ.
(١٨٥) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ سَتَذُوقُ طَعْمَ المَوْتِ، وَتُحِسُّ بِمُفَارَقَةِ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ. وَاسْتَدَّلَ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى أنَّ الأَرْوَاحَ لاَ تَمُوتُ بِمَوتِ البَدَنِ، لأنَّ الذَّوْقَ شُعُورٌ لاَ يُحِسُ بِهِ إلاَّ الحَيُّ، وَهُوَ تَعَالَى وُحْدَهُ الحَيُّ الذِي لاَ يَمُوتُ. وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُحْشَرُ النَّاسُ إلى الله، وَتُوفَّى كُلُّ نَفْسٍ أجُورَهَا عَمَّا اكْتَسَبَتْهُ مِنْ أَعْمَالٍ، فَمِنْ جُنِّبَ النَّارَ، وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ، فَقَدْ فَازَ كُلَّ الفَوْزِ.
وَالحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ إلاَّ مَتَاعاً تَافِهاً زَائِلاً، صَاحِبُهُ مَغْرُورٌ مَخْدُوعٌ، وَهُوَ مَتَاعٌ مَتْرُوكٌ يُوشِكُ أنْ يَضْمَحِلَّ عَنْ أهْلِهِ.
تُوَفَّوْنَ أجُورَكُمْ - تَسْتَوفُونَهَا غَيْرَ مَنْقُوصَةٍ.
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ - نُحِّي عَنْهَا.
المَتَاعُ - مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ مِمَّا يُبَاعُ وَيُشْرَى.
(١٨٦) - يُسَلّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ، وَيَقُولُ لَهُ: إنَّهُ وَأصْحَابَهُ سَيَلْقَوْنَ مِنَ الكُفْارِ أَذًى كَثِيراً فِي النَّفْسِ وَالمَالِ، كَمَا لَقُوهُ مِنْهُمْ مِنْ أَذًى يَوْمَ أحُدٍ، وَعَلَى المُؤْمِنِينَ أنْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ، إذْ لاَ بُدَّ مِنْ أنْ يَبْتَلِيَ اللهُ المُؤْمِنَ فِي شَيءٍ مِنْ مَالِهِ، أوْ نَفْسِهِ أو وَلَدِهِ أوْ أَهْلِهِ... وَابْتَلاءُ المُؤْمِنِ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإنْ كَانَ فِيهِ صَلاَبَةٌ فِي دِينِهِ زِيدَ فِي بَلاَئِهِ. وَنَبَّهَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمُ وَالمُؤْمِنِينَ عِنْدَ مَقْدَمِهِمْ إلَى المَدِينَةِ (وَقَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ) إلَى أَنَّهُمْ سَيَسْمَعُونَ مِنَ اليَهُودِ وَمِنَ المُشْرِكِينَ أَذًى كَثِيراً: مِنَ التَّقَوُّلِ وَالإِرْجَافِ، وَنَقْضِ العُهُودِ وَبَثِّ الشَّائِعَاتِ، وَمُحَاوَلَةِ الإِيذَاءِ... وَيَأمر اللهُ نَبِيَّهُ وَالمُؤْمِنينَ بِالصَّفْحِ وَالصَّبْرِ وَالعَفْوِ حَتَّى يُفَرِّجَ اللهُ، وَلا يَصْبِرُ عَلَى احْتِمَالِ ذَلِكَ إلاَّ أولُو العَزْمِ الأَقْويَاءُ.
مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ - مَا يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أنْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ، وَيَأْخُذَ نَفُسَهُ بِتَنْفِيذِهِ.
لَتُبْلَوُنَّ - لَتُخْتَبَرُنَّ وَتُمْتَحَنُنَّ بِالمِحَنِ.
(١٨٧) - أخَذَ اللهُ تَعَالَى العَهْدَ وَالمِيثَاقَ عَلَى أهْلِ الكِتَابِ عَلَى ألْسِنَةِ أنْبِيَائِهِمْ، بِأنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ مَا جَاءَ فِي كُتُبِهِمْ غَيرَ كَاتِمِينَ مِنْهُ شَيْئاً، وَبِأنْ يُوَضِّحُوا مَعَانِيَهُ كَمَا هِيَ دُونَ تَأوِيلٍ أَوْ تَحْرِيفٍ، وَبِأنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ أن كُتُبَهُمْ أَشَارَتْ إلى بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، لِيَكُونَ النَّاسُ عَلَى أهْبَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ حَتَّى إذَا بَعَثَهُ اللهُ رَسُولاَ لِلْخَلْقِ تَابَعُوهُ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الكِتَابِ كَتَمُوا ذَلِكَ، واعْتَاضُوا بِحُطَامِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ (ثَمناً قَلِيلاً) عَنِ الأَجْرِ الذِي وَعَدَهُم اللهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَقَدْ وَبَّخَهُم اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ العَمَلِ، تَوْبيخاً شَدِيداً فِي أكْثَر مِنْ مَوْضِعٍ مِنَ القُرآنِ، وَقَالَ لَهُمْ: بِئْسَتِ البَيْعَةُ بَيْعَتُهُمْ.
(وَوَاجِبُ أهْلِ الكِتَابِ فِي شَرْحِ مَعَانِي كُتُبِ اللهِ لِلنَّاسِ وَبَيَانِ أَحْكَامِهَا، يَنْطَبِقُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَيْضاً).
المِيثَاقُ - العَهْدُ المُؤَكَّدُ.
لَتُبَيِّنُنَّهُ - لَتُظْهِرُنَّ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ الأَحْكَامِ.
نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ - طَرَحُوهُ وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِهِ.
وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا نَقِيضَهُ، إذْ حَوَّلُوهُ مِنَ الهِدَايَّةِ إلى مَا يُوافِقُ أهْواءَ الحُكَّامِ وَالعَامَّةِ.
(وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي اليَهُودِ إذْ سَأَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ شَيءٍ فِي كِتَابِهِمْ، فَكَتَمُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قَدْ أرَوْهُ أنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوهُ بِذَلِكَ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوا مِنْ كِتْمَانِ مَا سَألَهُمْ عَنْهُ).
(وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَعْضِ المُنَافِقِينَ الذِينَ كَانُوا يَتَخَلُّفُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ إذا غَزَا، فَإذا عَادَ مِنَ الغَزْوِ اعْتَذَرُوا إليهِ، وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفُْعَلُوا).
وَيَقُولُ تَعَالَى إنَّ هَؤُلاءِ الذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَيْسُوا نَاجِينَ مِنَ العَذَابِ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ عَذَاباً أَلِيماً.
بِمَفَازَةٍ مِنَ العَذَابِ - بِمُنَجَاةٍ مِنْهُ.
أنْ يُحْمَدُوا - أَنْ يَحْمِدَهُمُ النَّاسُ.
(١٨٩) - لاَ تَحْزَنُوا يَا أيُّهَا المُؤْمِنُونَ، وَلاَ تَضْعُفُوا، وَبَيِّنُوا الحَقَّ، وَلاَ تَكْتُمُوا مِنْهُ شَيْئاً، وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً، وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا عَمِلْتُمْ، فَإنَّ اللهَ يَكْفِيكُم مَا أهَمَّكُمْ وَأَغَمَّكُمْ، وَيُغْنِيكُمْ عَنْ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ التِي نُهِيتُمْ عَنْهَا، لأنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَادِرٌ، لاَ يَعُزُّ عَلَيهِ نَصْرُكُمْ عَلَى مَنْ يُؤِْيكُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ.
(١٩٠) - إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، وَمَا فِيها مِنْ مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ، وَكَوَاكِبَ وَسَيَّارَاتٍ، وَفِي خَلْقِ الأَرْضِ، وَمَا فِيها مِنْ بِحَارٍ، وَأَنْهَارٍ وَجِبَالٍ وَأَشْجِارٍ وَنَبَاتْ، وَفِي تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَقَارُضِهِمَا الطُّولَ وَالقِصَرَ، وَيَطُولُ هَذا تَارةً، وَيَطُولُ الآخَرَ تَارَةً أخْرَى... لآيَاتٍ وَبَرَاهِينَ وَحُجَجَاً وَدَلائِل عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَعَظِيمَ قُدْرَتِهِ، لأهْلِ العُقُولِ وَالأَلْبَابِ الزّكِيَّةِ.
اخْتِلافُ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ - تَعَاقُبُهُما وَمَجِيءُ أَحَدِهِمَا خَلْفَ الآخَرِ.
(١٩١) - وَيَصِفُ اللهُ تَعَالَى أُوْلِي الأَلْبَابِ فَيَقُولُ عَنْهُمْ: إِنَّهُمُ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قَائِمِينَ وَقَاعِدِينَ وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَلاَ يَقْطَعُونَ ذِكْرَ اللهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، بِسَرَائِرِهِمْ، وَأَلْسِنَتِهِمْ... وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لِيَفْهَمُوا مَا فِيهَا مِنْ أَسْرَارِ خَلِيقَتِهِ، وَمِنْ حِكَمٍ وَعِبَرٍ وَعِظَاتٍ، تَدُلُ عَلَى الخَالِقِ، وَقُدْرَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَكَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا الخَلْقَ عَبَثاً وَبَاطِلاً، رَبَّنَا تَنَزَّهْتَ عَنِ العَبَثِ وَالبَاطِلِ، وَإنَّمَا خَلَقْتَهُ بِالحَقِّ، وَالإِنْسَانِ مِنْ بَعْضِ خَلْقِكَ لَمْ تَخْلُقْهُ عَبَثاً، وَإِنَّمَا خَلَقْتَهُ لِحِكْمَةٍ. وَمَتَى حُشِرَ الخَلْقُ إلَيكَ حَاسَبْتَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَتَجْزِي الذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا، وَتَجْزِي الذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. ثُمَّ يُتِمُّونَ دُعَاءَهُمْ سَائِلِينَ رَبَّهُمْ أنْ يَقِيَهُمْ عَذابَ النَّارِ.
بَاطِلاً - عَبَثاً لاَ فَائِدَةَ فِيهِ.
فَقِنَا - جَنِّبْنا وَاحْفَظْنَا.
(١٩٢) - ثُمَّ يُتَابِعُونَ دُعَائَهُمْ وَرَجَاءَهُمْ لِرَبِّهِمْ قََائِلِينَ: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلَهُ النَّارَ فَقَدْ أَهَنْتَهُ وَأَذْلَلْتَهُ، وَأَظْهَرْتَ خِزْيَهُ لأَهْلِ الجَمْعِ يَوْمَ القِيَامَةَ، وَالظَّالِمُونَ لاَ يَجِدُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللهِ.
أَخْزَيْتَهُ - أَذْلَلْتَهُ وَأهَنْتَهُ.
(١٩٣) - وَبَعْدَ أَنْ عَرَفُوا اللهَ حَقَّ المَعْرِفَةِ بِالذِّكْرِ وَالفِكْرِ، عَبَّرُوا عَنْ وُصُولِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لِدَعْوَتِهِ سِرَاعاً، فَقَالُوا: رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا دَاعِياً يَدْعُو النَّاسَ إلَى الإِيمَانِ بِكَ (وَهُوَ الرَّسُولُ)، وَيَقُولُ: آمِنُوا بِرَبِّكُمْ، فآمَنَّا مُسْتَجِيبِينَ لَهُ، رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَتَجاوَزْ عَنْ سَيِئَاتِنَا، فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارَ الصَّالِحِينَ وَأَلْحِقْنَا بِهِمْ.
الأَبْرَارَ - المُحْسِنِينَ فِي عَمَلِهِمْ.
مُنَادِياً - الرُّسُولَ أوِ القُرْآنَ.
كَفِّرْ عَنَّا - أَزِلْ عَنّا صَغَائِرَ ذُنُوبِنَا.
(١٩٤) - رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِكَ، وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ أَمَامَ الخَلْقِ، إنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيْعَادَ الذِي أَخْبَرَ عَنْهُ رُسُلُكَ الكِرَامُ، وَهُوَ قِيَامُ الخَلْقِ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَإنَّكَ تَجْزِي العَامِلِينَ الصَّالِحِينَ بِالخَيْرِ وَالحُسْنَى، وَتَجْزِي الذِينَ أسَاؤُوا بِمَا يَسْتَحِقُونَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.
عَلَى رُسُلِكَ - عَلى لِسَانِ رُسُلِكَ.
المِيعَاد - الموعد.
(١٩٥) - لَمَّا سَأَلَ المُؤْمِنُونَ ذَوُو الأَلْبَابِ رَبَّهُمْ مَا سَأَلُوا فِي الآياتِ السَّابِقَاتِ، اسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ لِصِدْقِهِمْ فِي إيمَانِهِمْ، وَذِكْرِهِمْ وَتَفَكُّرِهِمْ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَتَنْزِيهِهِمْ رَبَّهُمْ عَنِ العَبَثِ، وَتَصْدِيقِهِمْ رُسُلَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: إنَّهُ لاَ يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْهُمْ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى، وَإنَّهُ سَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ أَجْرَهُ، وَجَمِيعُهُمْ لَدَيهِ سَوَاءٌ فِي الثَّوَابِ (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)، فَالذِينَ هَاجَرُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ وَأَتَوا إلى دَارِ الإِيمَانِ، وَضَايَقَهُمُ المُشْرِكُونَ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إلى الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَمُفَارَقَةِ أَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، لاَ لِشَيءٍ إلاَّ أنْ يَقُولُوا رَبَّنَا اللهُ، وَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيُقْتَلُونَ صَابِرِينَ مُحْتَسَبِينَ... فَهؤُلاءِ جَمِيعاً سَيُكَّفِرُ اللهُ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ، وَسَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا، وَيُنِيلُهُمْ ذَلِكَ جَزَاءً لَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَثَوَاباً جَزِيلاً مِنْهُ، لأنَّ اللهَ عَظِيمٌ، وَالعَظِيمُ لاَ يُعْطِي إلاَّ جَزِيلاً. وَلِلْعِبَادِ الصَّالِحِينَ عِنْدَ اللهِ خَيْرُ الجَزَاءِ وَالثَّوابِ.
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ - جَمِيعُهُمْ سَواءٌ لَدَيهِ فِي الثَّوابِ.
لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ - لاَ أتْرُكُ ثَوَابَ عَمَلٍ عَمِلَهُ عَامِلٌ إلاًَّ جَزَيْتُهُ بِهِ.
(١٩٦) - لاَ تَنْظُرْ إلَى مَا أتْرِفَ فِيهِ هَؤُلاءِ الكُفَّارُ مِنَ النِّعْمَةِ وَالغَبْطَةِ وَالسُّرُورِ. وَلاَ تَعْجَبْ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي الأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّكَسُّبِ ثُمَّ عَوْدَتِهُمْ سَالِمِينَ إلَى أَهْلِيهِمْ وَدِيَارِهِمْ.
(١٩٧) - فَإنَّهُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ زَائِلٌ، يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا، ثمَّ يَكُونُ مَصِيرُهُمْ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المُسْتَقَرُّ وَالمَهْدُ.
مَتَاعٌ قًَلِيلٌ - ذَلِكَ الكَسْبُ وَالرِّبْحُ هُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ.
(١٩٨) - أمَّا المُتَّقُونَ فَلَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا، وَخِلاَلَ أَشْجَارِهَا، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ أَبَداً، مُنَزَّلِينَ فِيهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَمَا عِنْدَ اللهِ مِنْ جَزَاءٍ وَثَوَابٍ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ الذِينَ يَبرُّونَ وَالِدَيْهِمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.
النُّزُلِ - مَا يُهَيَّأ لِلضَّيْفِ النَّازِلِ مِنَ الضِّيَافَةِ.
(١٩٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ حَقَّ الإِيمَانِ، وَيُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ، مَعَ إيمَانِهِمْ بِمَا فِي الكُتبِ المُتَقَدِّمَةِ، وَأنَّهُمْ خَاشِعُونَ مُطِيعُونَ للهِ، لاَ يَكْتُمُونَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ البِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَصِفَتِهِ وَنَعْتِهِ وَمَبْعَثِهِ لِقَاءَ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا زَائِلٍ. ﴿لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً﴾.
وَهَؤُلاَءِ لَهُمْ أَجْرَهُمْ، وَسَيُلاَقُونَهُ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ (وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشَةِ إذْ صَلَّى عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ صَلاَةَ الغَائِبِ، فَقَالَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ أيَأمُرُنَا أنْ نُصَلِّي عَلَى عِلْجٍ مَاتَ فِي الحَبَشَةِ؟).
(٢٠٠) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ أنْ يَصْبِرُوا عَلَى دِينِهِمُ الذِي ارْتَضَاهُ اللهُ لَهُمْ، وَهُوَ الإِسْلاَمُ، فَلاَ يَدَعُونَهُ لِشِدَّةٍ وِلاَ لِرَخَاءٍ، حَتَّى يَمُوتُوا مُسْلِمِينَ. وَالمُرَابَطَةِ هِيَ المَرَابَطَةِ فِي الثُّغُورِ لِلْغَزْوِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ " رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا وَمَا عَلَيهَا ".
(وَقِيلَ إنَّ المُرَابَطَةَ المَقْصُودَةَ هُنَا هِيَ الانْتِظَارُ فِي المَسَاجِدِ لأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ حِينَمَا تَحِينُ أَوْقَاتُها، أيْ رَابِطُوا فِي المَسَاجِدِ، وَاتَّقُوا اللهَ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
صَابِرُوا - غَالِبُوا الأَعْدَاءَ بِالصَّبْرِ.
رَابِطُوا - أَقِيمُوا فِي الثُّغُورِ مُتَأهِّبِينَ لِلْجِهَادِ.