تفسير سورة الصافات

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

٣٧- سورة الصافّات
نزولها: مكية.. باتفاق عدد آياتها: مائة واثنتان وثمانون آية..
عدد كلماتها: ثمانمائة واثنتان وستون.. كلمة عدد حروفها: ثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «يس» بقوله تعالى: «فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
وبدئت سورة الصافات بهذا القسم الذي يقسم به- سبحانه- على تلك الحقيقة، وهى وحدانية الألوهية، التي هى من مقتضى ملكية الله لكلّ شىء.. فإذا كان الله هو مالك لكل شىء، كان من مقتضى هذا أن ينفرد بالألوهية، وألا يشاركه فى هذا الوجود أحد، وإلا كانت ملكينه له غير تامة.. وأما وملكيته سبحانه ملكية مطلقة لهذا الوجود، فهو- وحده سبحانه- صاحب الأمر فيه، وإليه وحده يكون ولاء كل موجود.

بسم الله الرحمن الرّحيم

الآيات: (١- ١٠) [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
960
قوله تعالى:
«وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً».
اختلف فى المراد بالصافات.. فقيل هم الملائكة باعتبارهم جماعات وفرقا..
وقيل هم جماعات المؤمنين، الصّافين فى الصلاة.. بمعنى أنهم قائمون صفوفا ساجية ساكنة، خاشعة فى الصلاة..
وقيل هى جماعات الطير تسبح فى جوّ السماء صافة أجنحتها، أي باسطة لها من غير حركة، وأن الزاجرات هى جماعة الملائكة التي تنزل بالمهلكات، وأن التاليات ذكرا، هن جماعات المؤمنين فى الصلاة.. وعلى هذا التأويل يكون القسم بثلاثة أصناف، لا بصنف واحد، له ثلاثة أوصاف..
والذي يقول بأن الصافات هم جماعة الملائكة، يقول كذلك إن الزاجرات، والتاليات هم جماعات الملائكة فى أحوال غير أحوالهم وهم صافّون، أو هم جماعات غير تلك الجماعة الصافة.. فالزاجرات زجرا، هى جماعات الملائكة التي تحمل نذر الهلاك إلى المكذبين بالله، والتاليات ذكرا، هى جماعات الملائكة التي تحمل إلى رسل الله آياته وكلماته..
والذي يقول إن المراد بالصافات صفّا، هم جماعة المؤمنين فى مواقف الصلاة- يقول إن الزاجرات زجرا، هنّ الآيات التي يتلوها المصلون فى صلاة الجهر، والتاليات ذكرا هن الآيات التي تتلى فى صلاة السرّ..
والذي نرجحه من هذه الآراء هو- والله أعلم- القول بأن هذه الأوصاف هى للملائكة.. وذلك:
961
أولا: أن الله سبحانه ذكر فى أول سورة «فاطر» قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ»..
وفى هذا إشارة إلى أن الملائكة يصفّون كما تصف الطير بأجنحتها.
وثانيا: أن الله سبحانه ذكر فى آخر هذه السورة «الصافات» قول الملائكة:
«وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ». (١٦٥- ١٦٦)
والقرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، وتقوم دلالات بعض آياته شواهد على بعض..
فالصافات صفّا، جماعات الملائكة، الذين يصفون أجنحتهم فى ولاء وخشوع دائم، وفى عبادة متصلة لله رب العالمين..
والزاجرات زجرا.. جماعات من الملائكة، يسلطهم الله على أعدائه فى الدنيا والآخرة، يرجمونهم بالمهلكات..
والتاليات ذكرا، جماعات من الملائكة، هم حملة كلمات الله إلى عباده..
يتلونها على رسله، لينذروا بها أقوامهم..
قوله تعالى:
«إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ».. هو جواب القسم، «والصافات»، وهو يقرر هذه الحقيقة ويؤكدها،.. تلك الحقيقة التي يشهد بها كل موجود، وهى أن إله الموجودات جميعها، إله واحد، هو الذي أوجدها، وهو الذي قام بسلطانه عليها..
قوله تعالى:
«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ».
فهذا الإله الواحد، هو رب السموات والأرض، وما بين السموات
962
والأرض، وما فى السموات والأرض.. إنه ربّ كلّ شىء وبيده ملكوت كل شىء، وله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله.. وهو رب المشارق..
والمشارق، يمكن أن يكون معناها، المنازل التي تنزلها الشمس فى شروقها..
فهى تطلع كل يوم من مطلع غير الذي طلعت منه، على مدار السنة.. وكذلك الشأن فى مغربها.. كما هو معروف فى علم الفلك، وكما هو ظاهر للعين من مطلع الشمس ومشرقها فى الفصول الأربعة، وفى فصلى الصيف والشتاء بخاصة..
ويمكن أن تكون المشارق، والمغارب مشارق الأرض ومغاربها، أي جهة الشرق والغرب فيها،. ويكون المراد بذلك، هو لفت الأنظار إلى اتساع آفاق الأرض، وأنه كلما اتجه الإنسان فى هذين الاتجاهين- الشرق والغرب- وجد مشارق ومغارب، وقد أصبح الشرق اليوم- فى التقسيم السياسى والجغرافى للعالم- شرقا أدنى، وشرقا أوسط، وشرقا أقصى.. وإلى هذا المعنى- وهو اتساع آفاق الأرض- يشير قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها» (١٣٧: الأعراف).
وقد جاء فى القرآن الكريم: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» (١٧: الرحمن) وجاء فى القرآن الكريم كذلك: «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» (٩: المزمل)..
وعلى كلا المعنيين يمكن أن يحمل تأويل كل من الآيتين.. وهذا ظاهر..
واختص المشارق بالذكر، لأنها هى مطلع النور، ومن الشرق تطلع الشمس، التي هى مصدر النور، والدفء والحياة!.
قوله تعالى:
«إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ».
963
الكواكب: بدل من زينة.. والتقدير إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب..
والكواكب، جمع كوكب.. والكواكب غير النجوم فى اصطلاح علماء الفلك.. إذ أن الكواكب متحركة تدور حول النجوم، على حين أن النجوم ثابتة تدور حول نفسها.. وكل نجم له مجموعة كواكب تدور حوله..
كالشمس، والكواكب السيارة التي تدور حولها، ومنها الأرض والقمر، والمشرق وزحل، والمريخ، وعطارد، والزهرة..
والسماء الدنيا، هى أقرب السموات إلينا، وأدناها من عالمنا الأرضى، وهى هذه السماء التي تطل علينا منها الشمس، والقمر، والنجوم.. وهناك سموات أخرى فوق هذه السماء، لم يبلغها علمنا، ولا تصل إليها أدوات الرصد التي نرصد بها ما فى السماء الدنيا من كواكب ونجوم.. وأن هذه السماء الدنيا، وما فيها من نجوم يصل ضوءها إلى الأرض فى أكثر من مليون سنة ضوئية- هذه السماء وما فيها من نجوم وكواكب، ليست إلا سطرا فى كتاب الوجود الذي لا نهاية له.. فما أعظم قدرة الخالق، وما أروع ما أبدع وصور..! وما أضأل شأن هذا الإنسان، وما أصغر قدره إلى هذه الوجود العظيم، الذي لا يعدو أن يكون هذا الإنسان فيه، هباءة سابحة فى الهواء، لا تراها عين، ولا تمسك بها يد..
لقد طارت الإنسانية طربا، واهتزت زهوا وغرورا، أن وصلت بمراكبها إلى القمر، وأن مشت بأقدامها فوقه!!.
وما القمر هذا؟ وما مكانه فى هذا الوجود؟ إنه ليس إلا ذرة من رمل فى السماء الدنيا! فكيف بالقمر هذا فى مواجهة الوجود كله، وسمواته جميعها؟
إن الإنسان لم يقطع من صفحة السماء الدنيا، فى رحلته هذه إلى القمر، إلا كما تقطع النملة رحلة العمر، من جذر شجرة إلى ورقة من أوراقها! إنه انتصار للنملة
964
لا شك، ولكنه نصر محسوب بحسابها، مقدور بقدرها..
قوله تعالى:
«وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» - معطوف على قوله تعالى زينا، أي زيناها بالكواكب وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد.
والمارد، والمريد، هو المجرد من كل خير.. وشجرة مرداء، لا ورق ولا ثمر عليها..
قوله تعالى:
«لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ».
أي إن هؤلاء الشياطين المردة، وقد حفظت السماء من أن يقربوا منها، أو يطوفوا بها- لا يستطيعون أن يصغوا إلى الملأ الأعلى، وما يجرى فيه، فإذا حاولوا ذلك قذفوا من كل جانب بالشهب، ورموا من كل مكان بالرجوم، فيرجعون مدحورين مقهورين، لم يحصلوا على شىء.. «وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» أي خالص وتام، كما فى قوله تعالى: «وَلَهُ الدِّينُ واصِباً» (٢٥: النحل).
قوله تعالى:
«إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» - هو استثناء من الفاعل فى قوله تعالى «لا يَسَّمَّعُونَ».. أي إن هؤلاء الشياطين لا يسمعون إلى الملأ الأعلى إلا خطفا من بعضهم، ممن يلقى بنفسه منهم فى سبيل ذلك إلى التهلكة، حيث يرمى بشهاب راصد لكل من حام حول هذا الحمى..
965
ويسّمّعون: أصله يتسمعون.. وقد ضمن معنى الفعل يصغون أو يدنون، ولهذا عدّى بحرف الجر «إلى».. أي لا يستطيعون أن يتسمعوا إلى الملأ الأعلى، وهم فى إصغاء شديد حالة التسمع.
والآية الكريمة، ترد على المشركين معتقدهم الفاسد، فى أن الشياطين يعلمون الغيب، وأنهم يتلقون ذلك باتصالهم بالملأ الأعلى، واستماعهم إلى ما يدور بين الملائكة هناك، مما يتصل بالعالم الأرضى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً»..
(٦: الجن)..
والحديث عن الجن والشياطين، وإن كان ينكره الماديون، ويعدّونه ضربا من الخرافات، قد أصبح اليوم من مقررات العلم الذي يقوم على التجربة والاختبار، حتى إن كثيرا من الماديين الذين كانو ينكرون عالم «الروح» لم يجدوا أمام الشواهد الكثيرة الملموسة، إلا أن يعترفوا به.. ولسوف يكشف العلم لهم يوما أن الجن والشياطين، هى من تلك الأرواح التي تسكن هذا العالم الأرضى، وتعيش مع الإنسان فيه.. فهذا مما تحدث به القرآن، وما حديث القرآن إلا الحقّ المطلق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..
الآيات: (١١- ٢٦) [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١ الى ٢٦]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥)
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
966
التفسير:
قوله تعالى:
«فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ».
الحديث هنا إلى المشركين.. والحديث إليهم هو لطلب الجواب منهم على هذا السؤال، وهو: أهم أشد خلقا أم من خلق الله فى السموات والأرض، من ملائكة وإنس وجن وشياطين؟ إنهم قد اتخذوا الشياطين أولياء، ينصرونهم من دون الله، كما اتخذوا الملائكة شفعاء لهم عند الله.. وهذا يعنى أنهم يضعون أنفسهم فى منزلة التابع للسيد، والعبد للرب..
وهؤلاء المخلوقون، من جن وملائكة، هم عبيد لله، وقد خلقهم، وإنّ من يخرج منهم عن واجب الولاء والعبودية، يلقى عذابا ونكالا فى الدنيا والآخرة، كما فعل ذلك بالجن الذين أرادوا التسمّع إلى الملأ الأعلى، فرماهم الله بالصواعق المهلكة، وأعد لهم فى الآخرة عذابا أليما..
وإذن فهؤلاء المشركون ليسوا أشدّ من الجن بأسا، ولا أقوى قوة، وإنه ليس يعصمهم عاصم من بأس الله إن جاءهم..
967
- وفى قوله تعالى «فاستفتهم» بدلا من «فاسألهم» - إشارة إلى أن الأمر الذي يسألون فيه ليس امتحانا لهم.. وإنما هو مجرد طلب الرأى فيه، وكأنه أمر لا شأن لهم به، وفى هذا دعوة لهم إلى أن يقولوا الحق فيما يستفتون فيه، وألا يميلوا مع هواهم، إذ لا مصلحة لهم- فى ظاهر الأمر- فى أن يقولوا غير الحق، فى أمر لا شأن لهم فيه..!
وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، فى الإمساك بمقود الضالين المتكبرين المعاندين، بهذا الأسلوب الحكيم، الذي يستأنس نفار هذه النفوس الوحشية!.
- وقوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ»..
الطين اللازب، هو اللزج، وهو الزبد الذي يتكون على شواطىء البحار والأنهار..
فهذه هى مادة خلق الإنسان.. حيث تطوّر هذا الطين وتنقل فى أطوار كثيرة، ومراحل شتى.. من النبات، إلى الحيوان، إلى الإنسان.. وقد أشرنا إلى هذا فى مبحث خاص، من الكتاب الأول فى هذا التفسير «سورة البقرة» أما الجن، فقد خلق من النار.. والنار- فى ظاهر الأمر- أفوى من الطين قوة، وأشد أثرا..
قوله تعالى:
«بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ».
الخطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم، الذي استفتاهم- كما أمره الله سبحانه- بقوله: «فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً»..
وعجب النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هو من أن يستفتى قوما
968
لا يؤمنون بالله، ولا يستمعون لرسوله.. فكيف يستفتيهم؟ وكيف يتلقّى كلمة الحق منهم، وهم لم يقولوا الحق أبدا؟.
وعجب النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ليس إنكارا- وحاشاه- لأمر ربه، وإنما هى مشاعر تقع فى نفسه- صلوات الله وسلامه عليه- من هذا الموقف الذي يلقى فيه المشركين مستفتيا.. إنه أمر عجيب.. ولكنه أمر الله!..
- وقوله تعالى: «ويسخرون».. هو معطوف على قوله تعالى: «عجبت».
فقد كان من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من هذا الموقف، عجب، وكان من المشركين سخرية!! إن هؤلاء الضالين، وقد دعوا إلى أن يجلسوا مجلس الفتيا، وهم ليسوا أهلا لها، حتى لقد عجب النبىّ من أن يدعى المشركون إلى هذا المقام- هؤلاء الضالون لم يقبلوا هذه الكرامة، وأبوا إلا أن يكونوا فى ملعب الصبيان يصخبون، ويسخرون! - وقوله تعالى: «وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ» معطوف على قوله تعالى «ويسخرون» أي ومن صفات المشركين وأحوالهم، أنهم إذا جاءهم من يذكرهم بما هم فيه من ضلال، لا يتذكرون، ولا يقبلون نصحا..
- وقوله تعالى: «وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ» ومن صفاتهم كذلك أنهم إذا رأوا آية من آيات الله الكونية، أو سمعوا آية من آياته القرآنية، «يستسخرون» أي يبالغون فى السخرية، ويستكثرون منها، ويجتمعون جماعات على مجالسها..
وفى قوله تعالى: «وَإِذا رَأَوْا آيَةً» - إشارة إلى تلك الآيات التي عرضتها
969
الآيات السابقة.. مثل قوله تعالى: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ.. إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ.. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ.. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ.. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ».. فهذه كلها آيات كونية، يرى فيها ذوو الأبصار دلائل ناطقة بقدرة الله، وبسطة سلطانه.. ولكن المشركين يتخذون منها مادة للهزء والاستسخار!.
قوله تعالى:
«وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ»..
الإشارة هنا إلى أمر البعث، وما حدّثوا به من منكر القول فى هذا المثل الذي ضربوه بقولهم: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ».. فالحديث عن البعث متصل لم ينقطع بين سورتى يس، والصافات.. ويجوز أن تكون الإشارة إلى مقول قولهم فى الآية التالية..
وهم هنا ينفون نفيا قاطعا أن يكون هناك بعث، فإن كان فهو من شىء لا واقع له، وإنما هو من حيل السّحر، وألاعيب السّحرة! «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ..»
قوله تعالى:
«أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟».
استفهام إنكارى لأن تعود الحياة مرة أخرى إلى الأموات.. إذ كيف ترجع هذه الأجسام التي صارت ترابا، أو تلك التي ما تزال عظاما- كيف ترجع إليها الحياة مرة أخرى؟ كيف هذا، والإنسان إذا فسد عضو من أعضائه وهو حىّ- لا يمكن إصلاحه.. فكيف بهذه الأعضاء- وهى الإنسان
970
كلّه- وقد صارت ترابا، وعظاما؟ أيقوم منها هذا الإنسان إلى الحياة مرة أخرى؟.
وقوله تعالى:
«أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» ! أي وهل إذا صحّ- فرضا- أن يبعث الموتى الذين ماتوا من إخوانهم، أو أبنائهم، أو آبائهم الأقربين، أيصح- ولو فرضا- أن يبعث آباؤهم الأولون الذين ماتوا منذ مئات السنين؟ أهذا مما يعقل؟.
قوله تعالى:
«قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ»..
هو جواب على أسئلتهم تلك المكذبة، المنكرة..
إنه تحدّ لهذا الإنكار، وإهدار له.. ولهذا كان الجواب «نعم» وكأنه جواب عن سؤال يريد به صاحبه أن يعرف الحقيقة، وينشد المعرفة..
وقوله تعالى: «وَأَنْتُمْ داخِرُونَ» جملة حالية من نائب فاعل فعل محذوف، تقديره: نعم، تبعثون.. «وَأَنْتُمْ داخِرُونَ» أي صاغرون، مقهورون، لا تملكون من أمركم شيئا..
قوله تعالى:
«فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ».
الزجرة: الصيحة المفزعة.. وهى صوت البعث الذي يفزع له أهل الكفر والشرك، الذين كانوا ينكرون البعث.
وقوله تعالى: «فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ».. إذا للمفاجأة، وهى تدل على وقوع الحدث فجأة وعلى غير انتظار وتوقّع له.
971
وقوله تعالى: «ينظرون» - كناية عن يقظتهم، وتنبههم لما حولهم، حين يدعون من قبورهم..
قوله تعالى:
«وَقالُوا يا وَيْلَنا.. هذا يَوْمُ الدِّينِ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ»..
وإنهم إذ يقومون من مرقدهم، وتأخذهم هذه المفاجأة غير المنتظرة- لا يجدون إلا صرخات الوبل، تقطع سكون هذا الصمت الرهيب، الذي اشتمل عليهم.. «يا ويلنا» أي يا هلاكنا وضياعنا!!.
وقوله تعالى: «هذا يَوْمُ الدِّينِ» هو الخبر الذي يطلع عليهم، وهم ينادون بالويل، ولا يدرون أين هم، ولا ماذا يراد بهم؟.. إنه يوم الدين، يوم الحساب والجزاء.. إنه يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون!.
قوله تعالى:
«احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ».
إنه أمر إلى الملائكة، أن يسوقوا هؤلاء المشركين إلى المحشر، وأن يحشروا معهم أزواجهم الذين كانوا على شاكلتهم، وأن يحشروا كذلك معهم ما كانوا يعبدون من دون الله.. ثم ليتجهوا بهم جميعا إلى الطريق المؤدى إلى الجحيم..
وفى قوله تعالى: «فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ» - إشارة إلى أنهم وقد أبوا أن يقبلوا الهدى إلى الحق، والخير، فى الدنيا، فإنهم سيقبلون الهدى
972
فى الآخرة، ولكنه الهدى إلى عذاب الجحيم.. حيث يسوقهم الملائكة سوقا إلى هذا المورد الوبيل..
قوله تعالى:
«وَقِفُوهُمْ.. إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ»..
أي احبسوهم هناك على طريق الجحيم، قبل أن تفتح لهم أبواب جهنم، ويلقوا فيها.. إذ لا بد قبل ذلك أن يحاسبوا، وأن يسألوا عما أجرموا.. وهو حساب عسير.. لا يقلّ هولا عن عذاب الجحيم..
قوله تعالى:
«ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ؟»..
ومما يسأله هؤلاء الظالمون يومئذ، إذلالا لهم، واستهزاء بهم- هذا السؤال: «ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ؟» أي ما بالكم هكذا مستسلمين، لا ينصر بعضكم بعضا، ولا يستنصر بعضكم ببعض؟ أين آلهتكم الذين كنتم تعبدون من دون الله؟ أين شفاعة الشافعين منهم؟.
قوله تعالى:
«بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ».. ولا يجد الظالمون جوابا.. إنهم جميعا- العابدين والمعبودين- مستسلمون.. صاغرون.. أذلاء..
لا يملكون شيئا..
الآيات: (٢٧- ٣٩) [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٧ الى ٣٩]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)
973
التفسير:
قوله تعالى:
«وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ».
هو من حديث أهل الضلال والكفر فيما بينهم، وهو حديث ملاحاة وتجريم، واتهام.. إنها حرب كلامية، يرمى بها الظالمون بعضهم بعضا، ويخدش بها بعضهم وجه بعض..
قوله تعالى:
«قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ».
هو بدل من قوله تعالى: «يَتَساءَلُونَ».. فهذا بعض تساؤلهم..
والقائلون هنا، هم الأتباع، الذين استجابوا لإغواء من أغواهم وأضلّهم من الضالين الغاوين..
- وقولهم: «إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ» - إشارة إلى أن قادتهم
974
هؤلاء، كانوا يأتونهم من جهة اليمين، أي من جهة الهدى، فيحولون بينهم وبين سلوك هذا الطريق، ويدفعون بهم إلى طرق الضلال.. ومثل هذا قوله تعالى، على لسان إبليس- لعنه الله-:
«ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» (١٧: الأعراف) ويجوز أن يكون الإتيان عن اليمين، كناية عن جهة النصح والإرشاد، حيث كانت جهة اليمين جهة اليمن والاستبشار، ولكنه نصح إلى ضلال، وإرشاد إلى هلاك.
قوله تعالى:
«قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ».
هو ردّ المتبوعين على تابعيهم.. وفيه دفع لهذا الاتهام الذي اتهموهم به..
«لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»، أي لم نجدكم مؤمنين حتى صرفناكم عن الإيمان..
ثم إننا لم نحملكم حملا على الكفر، ولم نقهركم عليه بسلطان لنا عليكم..
فإنه لا سلطان لأحد على القلوب والضمائر، حيث هى مستقرّ الإيمان، ومستودعه.. بل إنكم كنتم منحرفين بطبيعتكم عن طريق الحق، وأهل بغى، وعدوان، وطغيان..
قوله تعالى:
«فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ».
أي وجب علينا قضاء ربنا فينا أن نكون من أصحاب النار، وأن نذوق عذابها. فهذا حكم الله علينا، وإرادته فينا.. وإنه لا مفرّ لنا من هذا المصير..
975
فإذا كنا أغويناكم، ودفعنا بكم إلى الضلال، فإننا أهل غواية وضلال، وذلك ليحقّ علينا قول ربنا، وتنفذ فينا مشيئته..
وإنهم بهذا ليقولون حقا.. فقد انكشف لهم قضاء الله فيهم، وما صار إليه أمرهم..
فالتسليم بالقدر بعد وقوع الأمر.. هو حقّ، وهو إيمان.. وأما تعليق الأمور على القدر قبل أن يقع المقدور، فهو ضلال، ومكر بالله..
كما يقول المشركون: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا» (٣٥: النحل).
إنهم هنا ضالون زائغون.. إن عليهم أن يطلبوا ما يرونه حقا وخيرا، وأن يعملوا له.. فإن كان الله قد أراد لهم الخير، التقت إرادتهم مع إرادة الله، وتحقق لهم ما أرادوا.. وإن لم يكن الله قد أراد بهم خيرا، نفذت إرادة الله فيهم، وبطلت إرادتهم.. وهذا موقف غير موقف من يركب الشرّ بإرادته، ثم يقول: لو أراد الله بي الخير لفعل.. فهذا حق، وباطل معا!! وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص.. من هذا التفسير «١»، وفى كتابنا:
«القضاء والقدر».
قوله تعالى:
«فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ»..
أي إن هذه الملاحاة التي تدور بين أهل الضلال، لا تغنى عنهم شيئا..
(١) الكتاب الثامن: ص ٦٧٢.
976
فهم جميعا مشتركون فى هذا العذاب المحيط بهم.. وهذا جزاء كل من أجرم، وكفر بالله، وضلّ عن سواء السبيل..
قوله تعالى:
«إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ»..
أي إن هؤلاء المجرمين الذي نعذبهم هذا العذاب الأليم- إنما نفعل بهم هذا، لأنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان بالله، وإلى أن يعبدوه وحده، أبوا أن يستجيبوا لهذا الداعي الذين يدعوهم، واستكبروا أن يتلقوا كلمة التوحيد منه.. ويقولون، أنتبع هذا الشاعر المجنون، ونترك آلهتنا؟.
قوله تعالى:
«بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ» - هو إضراب على اتهامهم للنبىّ الكريم بأنه شاعر ومجنون.. إنه ليس بشاعر ولا مجنون، بل جاءهم بالحق من ربّهم وصدّق المرسلين الذين أرسلوا من قبله، إذ دعا إلى توحيد الله، كما كان ذلك دعوة كل رسول من رسل الله..
وفى وصف الرسول الكريم، بأنه مصدّق للمرسلين، إشارة إلى أنه صلوات الله وسلامه عليه- الشاهد الأمين، الذي يشهد لهم على الزمن، بصدق ما جاءوا به، فهو المجدد لدعوتهم، المصحح لما دخل عليها من شبهات وضلالات من أهلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» (٤٥- ٤٦: الأحزاب)..
وكما هو- صلوات الله وسلامه عليه- مصدق للرسل، فإن القرآن الذي تلقاه وحيا من ربه، مصدق للتوراة والإنجيل، كما يقول سبحانه:
977
«وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (٤٨: المائدة).. وهكذا كل رسول، مصدق للرسل الذين سبقوه.. وما معه من كتاب، هو مصدّق لما نزل عليهم من كتب، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (٦: الصف).
وإذا كان الرسول الكريم، هو خاتم الرسل، وكتابه جامعة الكتب، فهو بهذا مصدّق لإخوانه الرسل من قبله، وكتابه مصدق لما نزل عليهم من كتب.
قوله تعالى:
«إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
هو خطاب للمشركين، الذين شهدوا- وهم فى هذه الدنيا- مشاهد الآخرة، ثم ووجهوا بما كانوا يقولون فى الرسول الكريم: «أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ».
وهذا الخبر المؤكد، هو وعيد لهم بالعذاب الأليم، الذي سيلقونه يوم القيامة فعلا.. وهذا العذاب الأليم، هو الجزاء العادل، لما كانوا يعملون..
ليس فيه عدوان عليهم، ولا ظلم لهم، وإن كان أليما، بالغ الغاية فى الإيلام..
الآيات: (٤٠- ٦١) [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٤٠ الى ٦١]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
978
التفسير:
بعد أن عرضت الآيات السابقة، موقف الحساب، والمساءلة لأهل الكفر والضلال، وسوقهم إلى الجحيم، وتجرعهم غصص العذاب- جاءت هذه الآيات لتعرض أصحاب الجنة، أهل الإيمان والعمل الصالح، وما يلقون من نعيم ورضوان..
قوله تعالى:
«إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» - هو استثناء من الاسم الموصول فى قوله تعالى:
979
«وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».. ويكون الضمير فى تجزون للناس جميعا.. أي ما يجزى الناس إلا بما كان لهم من عمل، إلا عباد الله المخلصين، فإنهم يجزون أضعاف ما عملوا، فيقبل الله منهم حسناتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، فضلا منه وإحسانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا» (٣٧ سبأ).. أما أصحاب النار، فإنهم يجزون بما عملوا.. كيلا بكيل. ومثقالا بمثقال..
والمخلصون من عباد الله، هم الذين أخلصوا دينهم لله، فلم يشركوا به شيئا، ولم يجعلوا ولاءهم لغيره..
قوله تعالى:
«أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» هو بعض ما يجزى به عباد الله المخلصون:
«لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ» أي معدّ وحاضر لهم.. «فَواكِهُ».. هى بعض هذا الرزق.. وخصّت بالذكر، لأنها مما يتفكه به بعد الطعام، إذ هى مما يناله المترفون فى حياتهم، بعد أن يأخذوا حاجتهم من الطعام.. «وَهُمْ مُكْرَمُونَ» أي أنهم ينالون هذا الرزق، وهم فى موضع الاحتفاء والتكريم..
«فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» متعلق بمكرمون.. أي أن منزل إكرامهم والاحتفاء بهم، هو جنات النعيم.. «عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» حال أخرى من أحوالهم، وهم فى هذا المنزل الكريم.. إنهم على سرر، يواجه فيها بعضهم بعضا، ويأنس بعضهم إلى بعض، كما يقول سبحانه: «عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٥- ١٦ الواقعة).
والسّرر: جمع سرير، والسّرير، المقعد المنضّد..
وقوله تعالى:
980
«يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ».. أي ومما يطرف به أصحاب الجنة، أنّه يطوف عليهم السّقاة بكئوس صافية الأديم، كأنها الماء يتفجر من «معين» أي من عيون.. والطائفون، هم غلمان مخلدون، كما يقول سبحانه: «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ» (١٦- ١٧ الواقعة)..
- وقوله تعالى: «بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» وصفان للكأس، فهى بيضاء صافية، وهى ببياضها وصفائها، تلذّ الناظر إليها، وتملأ عينه بهجة وحبورا.
وقوله تعالى: «لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ» أي ليس فى الشراب الذي تحمله هذه الكأس، مما يغتال العقول، ويذهب بصوابها، كما تفعل الخمر برأس شاربها.. «وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ» أي لا يصدّون عنها، ولا يزهدون فيها، لأنها لا تستنزف لذتهم منها، بل تظلّ هكذا لذة دائمة موصولة.. وقد جاء فى قوله تعالى: «لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ» (١٩: الواقعة) جاء بكسر الزاى، بنسبة الفعل إليهم، على حين جاء فى الآية السابقة بفتح الزاى «ينزفون» بنسبة الفعل المسلّط عليهم إلى غيرهم..
وذلك ليجمع بين صفتهم، وصفة الخمر التي يشربونها.. فهى من شأنها أن تمسك شاربها عليها، لطيبها وحسنها، ولذتها.. وهم- بما أودع الله فيهم من قوّى- يتقبلون هذا النعيم، فلا يزهدون فيه أبدا..
قوله تعالى:
«وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ».
أي وعند أصحاب الجنة، وبين أيديهم، فتيات «قاصِراتُ الطَّرْفِ»..
والطرف، هى العين، وقصر الطرف، كسره، حياء وخفرا.. وهذا كناية
981
عن صغرهن، وأنهن لم يلقين الرجال، ولم يتصلن بهم.. «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ». (٥٦: الرحمن) والعين، جمع عيناء، وهى واسعة العينين، فى كمال وجمال.. وفى هذا احتراس مما قد يفهم من وصفهن بأنهن قاصرات الطرف، أن هذا القصر عن داء بهذه العيون، وأن خلقتها هكذا مغلقة، أو متكسرة..
وكلّا، فإنها فى حقيقها عيناء.. ولكنه الحياء، والخفر، قد أمسكا بها عن أن تمتلىء بالنظر الحادّ، إلى الرجال!.
- وقوله تعالى: «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ» وصف لألوانهن، وأنهن بيضاوات، كأنهن البيض المكنون، أي المحفوظ من الشمس، والغبار..
تحت أجنحة الطير.. فهو باق على بياضه ونقائه..
وفى تشبيه لون بشرة المرأة بالبيض المكنون، إعجاز من إعجاز القرآن فى دقة الوصف، وصدقه.. فالبيض المكنون تحت أجنحة الطير، يضم فى كيانه حياة يغتذى منها قشر البيض نفسه، كما تغتذى بشرة الجلد فى جسد الكائن الحىّ.. ثم إن هذا البيض يحمل فى كيانه الحياة فى مطلع نموها، واكتمالها..
فهى إذن ليست حياة مولية، وإنما هى حياة مقبلة، كتلك الحياة التي فى كيان هؤلاء الفتيات من حور الجنة.. فالقشرة التي تحتوى البيضة، تشير إلى ما فى كيانها من حيوية متدفقة.. تماما كتلك البشرة التي تحتوى جسد الشباب المتدفق حياة وقوة!.
قوله تعالى «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ».
الفاء فى «فأقبل» للسببية، أي أنهم وقد جلسوا على سررهم، متقابلين،
982
وطعموا ما اشتهوا من طعام، وشربوا ما طاف عليهم من كئوس الشراب- لم تبق عندهم إلا لذة الحديث، فأقبل بعضهم على بعض، يتساءلون، ويتسامرون..
وكما أقبل أصحاب النار بعضهم على بعض يتساءلون، كذلك أقبل أصحاب الجنة بعضهم على بعض يتساءلون.. ولكن شتان بين تساؤل وتساؤل، وحديث وحديث.. إنه هناك- كما رأينا- كان اختصاما، وكان اتهاما، وكان تراميا بالشناعات واللعنات..!
أما هنا، فهو حديث الأحبّاء الأصفياء.. يتساقون به كئوس المودة والإخاء..
قوله تعالى:
«قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ».
وهذا من بعض ما يتحدث به أهل الجنة بعضهم إلى بعض.. فقال أحدهم: إنى كان لى فى الدنيا قرين.. أي صاحب قد جمعتنا الصحبة فى قرن واحد.
ويصغى أهل المجلس إلى هذا الحديث، وما كان من شأن هذا الصاحب مع صاحبهم هذا!.
«يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ»..
أي أن هذا الصاحب، كان مما يحدّث به صاحبهم هذا، أن يشككه فى أمر البعث، وأن يكشف له عن استحالته بما يضرب له من أمثال، فى هذه العظام البالية، وهذا التراب الذي صارت، إليه العظام، وأن لبسها الحياة بعد
983
هذا، أمر لا يصدقه عقل، ولا يقبله عاقل..!! إنه كان يراود صاحبه على أن يترك هذا المعتقد الذي يعتقده فى البعث، والحساب والجزاء، ويقول له ما كان يتردد على ألسنة أهل الشرك:
حياة، ثم موت، ثم بعث؟ حديث خرافة يا أمّ عمرو!
فهذا الاستفهام الذي كان يلقى به هذا المشرك إلى صاحبهم هذا- هو استفهام المنكر، الساخر..
وقوله: «أَإِنَّا لَمَدِينُونَ» أي أإنا لمحاسبون، والدينونة، هى الحساب.
أي أنحيا بعد أن نصير ترابا وعظاما، ثم نحاسب، وندان، ونعذب فى النار كما يقول «محمد» بهذا؟.
وطبيعى أن صاحبهم هذا لم يستجب لهذا الضلال، ولم ينخدع لصاحبه المشرك.. ولهذا كان معهم فى هذا المنزل الكريم.. وطبيعى أيضا أن صاحبه قد أخذ طريقه إلى جهنم..
«قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ».
أي هل أنتم أيها الصحاب الكرام، ناظرون إلى أين استقر المقام بصاحبى هذا؟ إنه هناك فى جهنم! ها هو ذا فانظروا إليه، وإلى ما هو فيه!! «فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ..
وألقى بنظرة إلى حيث النار وأهلها.. فرأى صاحبه فى «سَواءِ الْجَحِيمِ»
أي وسط الجحيم، يأخذ مكانا متمكنا منها.. فلقد كان داعية من دعاة السوء، ورأسا من رءوس الكفر..
984
«قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ»..
ولا يجد صاحبهم ما يقوله لصاحبه، إلا أن يتبرأ منه فى الآخرة، كما تبرأ منه فى الدنيا.. إنه ينظر إليه غير راحم، إذ كان- لولا رحمة الله به، وإحسانه إليه- لو اتبعه، وأخذ طريقه معه، أن يكون قرينه فى هذا البلاء الذي يعانيه، وهذا العذاب الذي يكتوى بناره!.
«أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».
وإنه، وقد أمسك بهذا النعيم العظيم، الذي يخيل إليه- من عظمته، وطيبه- أنه فى حلم يخشى أن يستيقظ منه إنه ليسأل أصحابه هذا السؤال الذي يريد أن يعرف به، هل هو فى حقيقة أم فى حلم: «أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ؟» أحقا لا نموت بعد هذا ولا نفارق هذا النعيم الذي نحن فيه؟ إنه ليعلم هذا يقينا، ولكن يريد علما يثبّت علمه، ويقينا يؤكد يقينه..
وفى قوله: «إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى» هو استثناء داخل فى عموم المستفهم عنه، وهو الموت.. أي أفما نموت إلا هذه الموتة الأولى التي بعثنا منها؟ ألا يكون بعد هذا البعث موت.. ثم بعث.. ؟ ثم إذا كانت هذه الموتة هى آخر موتة، وكان هذا البعث آخر بعث- فهل نظلّ على حالنا هذه من النعيم الذي نحن فيه؟ ألا تتغير بنا الأحوال، كما كان شأننا فى الحياة الدنيا؟ ألا يمكن أن تتبدل حالنا، فنعذب كما يعذّب هؤلاء المعذّبون فى النار؟
إن هذا كلّه يكشف عن أمرين:
أولهما: ما يجد أصحاب الجنّة من نعيم عظيم، لم يقع فى تصوراتهم، ولم يطف بخيالهم.. فهم يحرصون عليه أشدّ الحرص، ويتمنّون الخلود فيه، وقد
985
وعدهم الله الخلود فى جنات النعيم.. كما يقول سبحانه: «خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا».
وثانيهما: ما يراه أصحاب الجنة أيضا، من هذا العذاب الذي يلقاه أصحاب النار.
فهم لهذا يفزعون منه، ويخشون أن يكون لهم نصيب منه.. وقد أمّنهم الله شرّ هذه الخواطر المزعجة.. فكانت تحيتهم من الملائكة دائمة موصولة، بقولهم: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» (٧٣ الزمر).. «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» (٢٣- ٢٤: الرعد).
قوله تعالى:
«إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».
هو الجواب الذي يجيب به هذا المتحدث إلى أصحابه، على ما كان يسألهم هو عنه فى قوله: «أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» ؟
إنه تجاهل العارف لما يعرف، ليزداد يقينا بما عرف، واستيقانا منه.. ولهذا فهو يسأل، وهو يجيب: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».. فأى فوز أعظم من الظفر برضا الله، والخلود فى جنّاته؟
جعلنا الله من أهل الفوز برضاه، والخلود فى جنات النعيم..
قوله تعالى:
«لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ».
هو تعقيب على هذا الحديث الذي كان بين أصحاب الجنة، وما تكشف
986
منه من هذا المقام الكريم، وهذا المنزل الطيب الذي ينزله المؤمنون بالله واليوم الآخر..
فلمثل هذا المقام يسعى الساعون، ولمثل هذا المنزل يعمل العاملون..
وكل سعى إلى غير هذا المقام، هو سعى باطل، وكل عمل لغير هذا المنزل هو عمل لا يعقب إلا الحسرة والندامة..
الآيات: (٦٢- ٧٤) [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٢ الى ٧٤]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ». ؟
هو خطاب للمشركين، وأهل الكفر والضلال.. والمشار إليه هو هذا النعيم الذي ينعم فيه أصحاب الجنة.. أي أىّ خير: أهذا المنزل الكريم، والنعيم العظيم الذي يلقاه أهل الجنة.. أم شجرة الزّقوم هذه، التي هى طعام
987
أهل الشرك والضلال؟.. وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ»، طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» (٤٣- ٤٦ الدخان).
قوله تعالى:
«إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ» أي إنا جعلنا ذكرها والحديث عنها فى القرآن، فتنة لأهل الظلم والعناد من هؤلاء المشركين، وكانت- لو عقلوا- مزدجرا لهم، وطلبا للنجاة منها..
ولكنهم اتخذوها مادة للتفكه والسخرية، وقال قائلهم: انظروا إلى ما يحدّث به محمد!! إنه يعدنا بشجرة تنبت فى النار، وتطلع وسط اللهب! أرأيتم شجرا تقوم أصوله وفروعه فى النار، فيكون منها ريّه، ونماؤه، ويطلع فى أحشائها زهره وثمره؟ وهكذا يظلّون فى هذا اللغو من القول، غير ملتفتين إلى مالله سبحانه وتعالى من قدرة لا يعجزها شىء، وغير واقفين عند ما لفتهم الله إليه فى قوله تعالى: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» ! أو ليس الذي جعل من الشجر الأخضر نارا، بقادر على أن يجعل من النار شجرا أخضر؟ أليس هذا من ذاك؟
قوله تعالى:
«إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ».
أصل الجحيم: قراره- والطلع: الزهر الذي ينعقد عليه الثمر..
وفى تشبيه هذا الطلع برءوس الشياطين، إشارة إلى بشاعتها مظهرا، الذي ينمّ عن مخبر هو أشد منه بشاعة..
والشياطين، وإن لم يكن لها صورة حقيقية تعرف بها، إلا أن لها صورة متوهمة فى خيالات الناس وتصوراتهم، وهى صورة بشعة مخيفة.. وإذا
988
كانت رأس الشيء هى أظهر ما فيه، وأدل شىء على حسنه أو قبحه، فقد اختير من الشياطين رءوسها التي تتجمع فيها بشاعة الشياطين وقبحها..
قوله تعالى:
«فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ» الفاء للتفريع.. أي وينبنى على وجود هذه الشجرة فى أصل الجحيم، أن يأكل منها هؤلاء المجرمون، حتى لكأنّ هذه الشجرة ما غرست ونبتت فى الجحيم، إلا ليكون منها طعامهم.
وامتلاء بطونهم منها، ليس عن شهوة أو رغبة، وإنما هو عن قهر وقسر..
إمعانا فى عذابهم، والتنكيل بهم..
قوله تعالى:
«ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ».
الشوب: المختلط بغيره من كل شىء، ومنه الشائبة، وهى ما يعلق بالإنسان من أمور لا تليق به، والحميم: السائل الذي اشتد غليانه.
ومع كل طعام شراب.. وإذا كان طعام هؤلاء الأشقياء هو من ثمر تلك الشجرة الجهنمية، فإن شرابهم كذلك هو مما ينبع من عيون هذا الجحيم..
وفى قوله تعالى: «عَلَيْها» إشارة إلى أن مورد الحميم، هو قائم عند هذه الشجرة.. والمعنى، أن لهم عند وردهم على هذه الشجرة، وأكلهم منها، شوبا من حميم، أي أخلاطا من سوائل تغلى وتفور..
ويجوز أن يكون «على» بمعنى «فوق» أي أن لهم فوق هذا الطعام الذي طعموه من شجرة الزقوم- لهم فوق هذا، شراب من حميم، وكأن
989
ذلك مبالغة فى إكرامهم، على سبيل السخرية والاستهزاء، والمبالغة فى النكال والعذاب؟.
قوله تعالى:
«ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ».
أي ثم يقادون بعد أن يأكلوا ويشربوا، إلى حيث مربطهم، ومنزلهم..
فالشجرة التي يطعم منها الآثمون قائمة فى قعر جهنم، فيساق إليها هؤلاء الآثمون، حتى إذا أكلوا من ثمرها، وشربوا من الحميم الذي يجرى تحت أصولها، أعيدوا إلى حيث كانوا.. وهكذا يغدون ويروحون فى أودية جهنم! قوله تعالى:
«إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ».
هو تعليل لما فيه هؤلاء الآثمون الخاطئون، من عذاب عظيم، وبلاء مقيم..
إنهم ضلّوا عن سواء السبيل، ولم يستمعوا إلى ما جاءهم من نذر، ولم يقبلوا ما دعوا إليه من هدى.. بل إنهم وجدوا آباءهم على ضلال، فمشوا على آثارهم، واتبعوا خطوهم، وقالوا: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» (٢٢: الزخرف).
ويهرعون: أي يسرعون من غير توقف.. إذ لم يكن لهم عقول يرجعون إليها، ويعرضون ما يعرض لهم من أمور عليها..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ».
هو عزاء كريم للنبى الكريم، ومواساة له فى الضالين من قومه. إنهم
990
ليسوا أول الضّالين، ولا آخرهم.. فلقد ضلّ قبلهم أكثر النّاس، وقليل هم المؤمنون «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (١٠٣: يوسف).
قوله تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ».
هو تطمين لقلب النبىّ.. وأن الله سيدفع عنه كيد هؤلاء الضالين، كما فعل بالمرسلين من قبله، إذ نجاهم والمؤمنين معهم. من كيد الكافرين، الذين أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
وفى قوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ».. تهديد لهؤلاء المشركين، وجمع بينهم وبين من أهلكهم الله من المكذّبين برسل الله، على مورد الهلاك، وسوق لهم جميعا إلى عذاب الجحيم..
قوله تعالى:
«إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ».
هو استثناء من «المنذرين» فى قوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ».. أي فلقد أهلكناهم، إلا عباد الله المخلصين، والذين استجابوا لرسل الله، وأخلصوا دينهم لله.. ووقع الفعل على المنذرين جميعا، إذ كانوا هم الكثرة الغالبة الذين أهلكهم الله..
أما المؤمنون، فهم قلة قليلة مستثناة من هذا الطوفان الكبير..
والمخلص: هو من اختاره الله للهدى من بين هذا الركام، وصفّاه من شوائب الضلال الضارب بجرانه على القوم.
الآيات: (٧٥- ٩٨) [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٥ الى ٩٨]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤)
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤)
قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)
991
التفسير:
قوله تعالى.
«وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ».
فى هذه الآية والآيات التي بعدها، تفصيل لما أجملته الآيتان السابقتان عليها، وهما قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ».
فهذا نوح عليه السلام، قد أرسله الله سبحانه، نذيرا إلى قومه، كما يقول سبحانه: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١: نوح).
992
ولقد أنذر نوح قومه، وبالغ فى إنذارهم، فلم يستمعوا له، ولم يقبلوا منه قولا.. فلما يئس منهم لجأ إلى ربه شاكيا: «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» (٥- ٧: نوح).
فلما بلغ به اليأس مداه، دعا ربه أن يأخذهم بعاجل ذنوبهم: «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (٢٦- ٢٧: نوح).
وقد استجاب الله لنوح، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ» أي نادانا نوح مستغيثا بنا، فأجبناه.. فنعم المجيبون نحن، حيث يجد من يجيبه إلى طلبه.. ويمنحه نصرا عزيزا وفتحا مبينا.
فتباركت يا الله وتعاليت.. وخاب من طرق بابا غير بابك، ووجه وجها إلى غير وجهك!.
«وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ».
معطوف على قوله تعالى: «وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ» أي دعانا نوح، فاستجبنا له، «وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» أي من البلاء العظيم، الذي أخذ الظالمين، وهو الطوفان!.
«وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ».
وإذ كان المؤمنون هم أهله، وهم الذين نجوا من هذا الطوفان، فقد كان منهم ذريته التي بقي بها نسله، جيلا بعد جيل..
993
«وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ».
أي وتركنا عليه ثناء طيبا، باقيا فى الأجيال من بعده..
«سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ».
هو سلام من الله سبحانه وتعالى على نوح فى مجتمعات الإنسانية كلها، يردده كل مؤمن بالله، وبرسل الله..
«إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ».
أي بمثل هذا الجزاء الحسن نجزى أهل الإحسان من عبادنا، الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات..
«ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ».
أي بعد أن نجينا نوحا ومن معه، أغرقنا الذين حق عليهم القول منّا..
وقدّم نجاة نوح ومن معه، إظهارا للعناية به وبالمؤمنين.. إذ المطلوب أولا هو نجاتهم من هذا الكرب العظم..
هذا، والطوفان الذي أهلك به قوم نوح، ليس طوفانا عامّا شمل الدنيا كلها، وغطى وجه الأرض، كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين..
وإنما هو- كما قلنا- طوفان إقليمى محدود.. وقد عرضنا لهذا الأمر بالتفصيل فى سورة «هود»..
وهذا إبراهيم- عليه السلام- يجىء منذرا قومه..
فيقول سبحانه:
«وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ».
أي أن من شيعة نوح وأنصاره، والقائمين على دعوته من بعده، إبراهيم
994
وشيعة المرء، أولياؤه وأنصاره..
وحسب إبراهيم- عليه السلام- من شيعة نوح، لأنه كان على الإيمان، بفطرته، فلم تستحب فطرته لعبادة صنم.. فكأنه بهذا كان ممن آمن مع نوح، وركب معه السفينة، وكان من الناجين.. ثم إن إبراهيم قد اعتزل قومه، وتركهم لضلالهم يتخبطون فيه حتى يهلكوا، كما فعل نوح باعتزاله قومه بركوب السفينة تاركا إياهم للبلاء الذي حلّ بهم.. ولهذا كان إبراهيم أمة وحده، كما يقول الله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (١٢٠: النحل).
«إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».
أي أن إبراهيم كان على نهج نوح وطريقته، حين جاء ربه، أي أقبل على ربه «بقلب سليم» أي قلب قد سلم من آفات الشرك والضلال، فلم تعلق بفطرته شائبة، بل ظل على الفطرة التي فطره الله عليها، لم يدخل عليها شىء من غبار الشّرك، الذي كان يسدّ وجه الأرض..
«إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ» - بدل من قول الله تعالى:
«إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».. أي أن إبراهيم كان شبيها بنوح، حين قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟ أي منكرا عليهم تلك المعبودات التي يعبدونها من دون الله.. فهو ونوح على طريق سواء..
«أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ».
الإفك: الباطل والمفترى من الأمور..
وآلهة: بدل من «إفكا»..
995
والاستفهام إنكارى، أي أتطلبون آلهة من واردات الإفك والافتراء، بدلا من الله رب العالمين؟ أليس ذلك سفها وجهلا، وكفرا؟.
«فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ».
أي فما معتقدكم فى رب العالمين؟ وما تصوركم له؟ وما حسابه عندكم؟
أهو واحد من آلهتكم تلك؟ أم هو على هيئة ملك أو أمير، أو سيد من ساداتكم؟..
«وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ».
(٢٣: فصلت).
فالله سبحانه وتعالى: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (١٠٣: الأنعام).. إن الله- سبحانه- هو مبدع هذا الوجود، وهو القائم عليه، وبيده ملكوت كل شىء.. فكيف تعبدون إلها غيره؟ وكيف ترضون لعقولكم أن تقبل هذه الأحجار آلهة، تتعامل معها، وتتخاضع بين يديها، وتجعلها شريكة لله فى الملك والتدبير؟.
«فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ».
النظرة التي نظرها إبراهيم فى النجوم، هى، ما أشار إليه سبحانه فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ
996
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(٧٥- ٧٩: الأنعام).
وسقم إبراهيم هنا، هو سقم نفسى، لما اعتراه من حيرة خلال تلك التجربة التي عاناها مع هذه الكواكب، التي ظل يرصدها ليلة بعد ليلة، ويرعى مسيرتها، ويتأمل وجهها مشرقة وغاربة.. فإذا أشرق واحد منها لقيه حفيّا به، راجيا أن يكون الوجه الذي يرى فيه ربه الذي يعبده، ثم إذا رآه يغرب خاب ظنه فيه، فنفض يديه منه، كما ينفض المرء يديه من ميت دفنه فى التراب.. وهكذا ظل إبراهيم يستقبل وجوه الكواكب، كوكبا كوكبا، ويدفنها واحدا واحدا، وهكذا أيقن- بفطرته، وتجربته- أن إلهه ليس من عالم المنظور فى الأرض أو فى السماء.. إنه- سبحانه- القوة القائمة على هذا الوجود، والسلطان المتصرف فيه، والإله الذي لا يتحول ولا يتبدل، ولا يقع فى حدود النظر.
وهذه النظرة التي نظر بها إبراهيم إلى النجوم هنا، غير تلك النظرة التي جاء ذكرها فى الآيات السابقة، والتي كانت نظرة متسائلة متطلعة، سأل فيها النجم والقمر والشمس، وإنما كانت نظرته هنا نظرة مذكرة له بما كان منه وهو فى سبيل البحث عن الله، قبل أن تأتيه الرسالة، وكأنه يدعو بهذه النظرة قومه إلى أن يسلكوا الطريق الذي سلك، وأن يهتدوا إلى الله بعقولهم كما اهتدى، إن كانوا يستنكفون من اتباعه، والأخذ بما يدعوهم إليه.. ولكن لم تكن لهم عقول تعقل، ولا آذان تسمع.. فولّوا عنه مدبرين.
وقد أقام أكثر المفسرين تأويلهم، لقوله تعالى: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» على أن ذلك النظر كان فى مواجهة قومه، وفى معرض
997
حديثه إليهم حين جاء يدعوهم إلى عبادة الله، وترك ما يعبدون من أصنام..
والذي أقام المفسرين على هذا الرأى- فى نظرنا- هو هذا العطف بالفاءات، المتلاحقة.. «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ. فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ».. ولأن فاء العطف تفيد الترتيب والتعقيب- هكذا يقول النحاة- فقد جعلوا هذه الأحداث، حدثا واحدا، يضمها مجلس واحد، ويحتويها ظرف واحد من الزمان، لا تتخلله أحداث!.
ولو نظر المفسرون إلى أبعد من مقررات القواعد النحوية الضيقة، لرأوا أن بين الحدث والحدث هنا أزمانا ممتدة، قد تكون أياما، وقد تكون سنين.. فالتعقيب هنا ليس هو التعقيب الفوري، ولو كان ذلك لكانت رؤية إبراهيم للنجم، وللقمر، وللشمس، فى ليلة واحدة، مع أن هذا غير وارد ولا معقول.. فقد يكون إبراهيم رأى النجم، ورصد تحركاته ليالى كثيرة، ثم تركه وصحب القمر أياما وشهورا.. وكذلك الشمس.. حتى وصل إلى هذا الحكم الذي قضى به فى شأنها جميعا..
قوله تعالى:
«فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ».
ليس التولّي هنا، بعد نظرة إبراهيم نظرته فى النجوم- كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين- وإنما كان توليهم عنه هو نهاية المطاف فى دعوته لهم، ومحاجّتهم له.. فقد انتهى الأمر بينه وبين قومه إلى اليأس منهم أن يؤمنوا، وإلى اليأس منه أن يعبد ما يعبدون.. «فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ».
998
قوله تعالى:
«فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟».
أي تسلل إلى آلهتهم، ودخل عليها بيتها المعدّ لها، من غير أن يراه أحد.. ثم رأى بين يدى تلك الآلهة كثيرا من صنوف المأكولات والمشروبات، وألوان الهدايا التي كان يتقرب بها القوم إليها، فقال ساخرا هازئا: «أَلا تَأْكُلُونَ» ؟ فلما لم يسمع جوابا قال متابعا سخريته:
«ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ» ؟
قوله تعالى:
«فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ».
أي فنزل عليهم يضربهم بيده اليمنى، ويحطمهم حطما «فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً.. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ» (٥٨: الأنبياء).
والتعبير بقوله تعالى «فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً» بدلا من: فأقبل عليهم ضربا للإشارة إلى أنه كان يفعل ما يفعل فى حذر، وفى غير جلبة، حتى لا يحدث صوتا يكشف للقوم عما يجرى هنا!.
فالروغ، والرّوغان، ضرب من العمل، فى ذكاء وحذر.
وقوله: «بِالْيَمِينِ» إشارة إلى الإرادة القوية التي كان يعمل بها فى تحطيم هذه الأصنام، إذ كانت اليد اليمنى هى القوة العاملة فى تنفيذ هذه الإرادة.
قوله تعالى:
«فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ».
999
أي حين رأى القوم ما حل بآلهتهم، ووقع ما وقع من اضطراب وبلبلة، وانتهى الأمر بينهم إلى أن إبراهيم هو الذي فعل هذه الفعلة بآلهتهم- أقبلوا إليه مسرعين، فى خفة وطيش، ليمسكوا به، وليحاسبوه الحساب العسير على هذا الجرم العظيم!..
والزفيف: هو الصوت الذي تحدثه النعامة بجناحيها، حين تنطلق مسرعة من وجه خطر يتهددها، فتزّف بجناحيها..
وفى وصف القوم بهذا، تشبيه لهم بالنعامة فى جبنها الذي يطير معه صوابها، حين ترى، أو تتوهم أنها ترى، خطرا، فتنطلق إلى حيث ترمى بها أرجلها، لا إلى حيث يدعوها عقلها، إذ كانت ولا عقل لها، ولا حيلة عندها، حتى إذا دهمها الخطر، دفنت رأسها فى الرمل، وكأنها بذلك قد دخلت مأمنها!! وهكذا القوم فى تصريف أمورهم.. إنهم نعام طائش لا عقل لهم، ولا تدبير عندهم..
قوله تعالى:
«قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟».
وقد كان لقاء القوم لإبراهيم، لقاء عاصفا مزمجرا، كثرت فيه الرميات بالوعيد والتهديد.. وقد ضرب القرآن الكريم هنا صفحا عن كل ما حدث، إذ كان لهذه القصة حديث فى غير موضع منه.. واكتفى القرآن هنا بالإمساك بكلمة الفصل فى هذه القضية:
«أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟».
فهذه هى القضية.. وهذا هو السؤال الذي يحسم الأمر فيها..
1000
قوله تعالى:
«وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ»..
أي أن الله خلقكم وخلق الذي تعملون من أصنام وغيرها..
كيف تعبدون ما تنحتون بأيديكم؟ أليس هذا الذي تنحتونه هو من مخلوقات الله؟.
إن هذه الأصنام التي تخلقونها بأيديكم هى من مادة خلقها الله قبل أن تخلقوها.. فكيف تعبدون ما تخلقون؟ أيعبد الخالق ما خلق؟ هذا وضع مقلوب!.
هذا، وقد كثر الخلاف فى تأويل هذه الآية بين المعتزلة والجبرية، وأهل السنة، على اعتبار أن «ما» هنا مصدرية، وعلى هذا يكون المعنى أن الله خلقهم، وخلق أعمالهم..
وقد ترتب على هذا أن قال الجبرية- إن الله خالق أفعال العباد، والله سبحانه لا يخلق القبيح، وعلى هذا فالأفعال كلّها حسنة، ليس فيها قبيح..
وتعددت فى هذا مذاهبهم، واختلفت مقولاتهم..
وقد أنكر المعتزلة هذا التأويل للآية، واعتبروا «ما» موصولة لا مصدرية، وقالوا إن العبد خالق أفعاله، الحسن منها والقبيح.. ففى الأفعال الحسن والقبيح، ومن ينكر هذا فإنما يكابر فى بدهيات الأمور..
وقال «الأشعري» - من أهل السنة، وممثل رأيهم هنا: إن العبد مكتسب أفعاله، والله خالقها!!..
وهذه قضية استنفدت جهد العلماء.. وليس هنا مجال عرضها، وقد
1001
عرضنا جانبا من هذه القضية فى مبحث خاص من هذا التفسير تحت عنوان:
«مشيئة الله ومشيئة الإنسان» - كما عرضنا هذه القضية بالتفصيل فى كتابنا.
«القضاء والقدر»..
وبقي أن نقول إن «ما» فى هذه الآية موصولة لا مصدرية، لأنها لو كانت مصدرية لكان قول إبراهيم لقومه: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ» - لكان قوله ذلك حجة عليه لا له..
قوله تعالى:
«قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ»..
هذا هو الحكم الذي انتهى إليه رأى القوم فى إبراهيم، وهو أن يموت حرقا بالنار، جزاء له على ما فعل بآلهتهم، فليس لمن يفعل هذا إلا أن يلقى هذا العذاب الأليم.. إن إبراهيم كان يحذّرهم نار الآخرة التي يعذب بها الله سبحانه الذين يعبدون هذه الأصنام..
وهاهى ذى الأصنام تعذّب بالنار من يعبد غيرها!! أليست آلهة؟ وأليس للإله أن يعذّب بالنار من يكفر به، ويتعدّى حدوده؟..
قوله تعالى:
«فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ»..
أي أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم، وأن يأخذوه بهذا العذاب، فنجى الله إبراهيم من النار- كما نجى نوحا من الطوفان- وجعلهم هم الأسفلين، كما جعل قوم نوح فى قرار الطوفان، وجعل نوحا فوق الطوفان بسفينته..
1002
الآيات: (٩٩- ١١٣) [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩٩ الى ١١٣]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨)
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ».
لقد نجّى الله إبراهيم من النار، وأغرق قومه فى لجج الكفر والضلال، فتركهم إبراهيم يتخبطون فى هذا البحر اللجّى من الضلال، وقال: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» أي إنى متجه إلى ربى، معتزل إياكم، متخذ دارا غير داركم، وموطنا غير موطنكم.. ولا أدرى إلى أين سأذهب.. ولكنى موقن أن الله سيهدينى إلى خير دار، وأطيب مقام، هذا هو ظنى بربي الذي أعبده وأسلم أمرى له..
1003
«رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» وهنا يجد إبراهيم نفسه وحده، بعيدا عن الأهل والوطن.. وقد خلا قلبه من الاشتغال بأمر قومه، فالتفت إلى نفسه، ووجد أن لا ولد له، يؤنسه فى وحدته، ويشد ظهره فى غربته، فسأل ربه أن يرزقه ولدا صالحا، تقربه عينه حين يراه مؤمنا بربه، لا تختلف بينه وبينه السبل، كما اختلفت من قبل بينه وبين أبيه، هو.
«فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» واستجاب الله لإبراهيم دعاءه، وجاءته البشرى من الله سبحانه بهذا الولد الذي طلبه، وأنه «غلام حليم».. رزين العقل، راجح الرأى، يستدل بعقله على مواقع الحق فى كل أمر يعرض.. وحسب المرء- كمالا، وصلاحا- أن يكون معه عقل سليم، وإدراك صحيح.. والحلم ضد الجهل..
قال الشاعر.
أحلامنا تزن الجبال رزانة وتخالنا جنّا إذا ما نجهل
والجهل من واردات العقل السقيم، والإدراك القاصر.
هذا، ولم يرد فى القرآن الكريم أن وصف الله أحدا بالحلم غير إبراهيم، وهذا الولد الذي بشر به، وهو إسماعيل عليه السلام.. فقال تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» (٧٥: هود) وهذا يعنى أن هذا الغلام، هو على صورة أبيه إبراهيم، فى كمال عقله، وسلامة إدراكه.
«فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى؟ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»
1004
قيل إن إبراهيم- عليه السلام- حين تلقى هذه البشرى من ربه، رأى أن يكون شكره لله، على هذا الإحسان، وهذا اللطف، بالمبادرة بالاستجابة لما طلب- رأى أن يكون شكره لله أن يقدم هذا الولد قربانا لله.. وكانت تلك عادة أهل هذا الزمن، فى المبالغة فى التقرب إلى الله..
فلما رزق إبراهيم إسماعيل، وهو على نية التقرب به إلى ربه، متى بلغ مبلغ الرجال- رأى فى منامه وهو على تلك النية التي لم يحدد لها يوما معينا- رأى فى منامه أن يذبح هذا الابن، وكان قد بلغ معه السعى، أي صار قادرا على أن يعمل مع أبيه، وأن يسعى له فى بعض حاجاته.. فعرف إبراهيم من هذه الرؤيا أنها تذكير من الله سبحانه بالوفاء بما نذر، وأن يوم الوفاء قد جاء.. فكان هذا الحديث الذي جرى بين الأب وابنه..
«يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ.. فَانْظُرْ ماذا تَرى؟» إن الأمر أمر الله.. وإن لك فى هذا الأمر مثل الذي لى.. فإن رأيت أن تطيع أمر الله أطعت أنا أمر الله فيك، فما ذبحك بيدي بأقل ابتلاء لى من ابتلائك! فهل أنت مطيع لأمر الله؟ إن الأمر إليك فى هذا.. «فَانْظُرْ ماذا تَرى!» ؟
وماذا يرى الولد- وهو صورة من أبيه- إلا الامتثال لأمر الله، والطاعة المطلقة لحكمه فيه.. ؟
«قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» إنه جواب المؤمن بالله، إيمانا لا يرى معه لنفسه حقّا إلى جانب ما لله فيه من حق.. إنه كلّه ملك لله، وللمالك أن يتصرف كما يشاء فيما ملك..
1005
قيل: إن قول إسماعيل حين قرن مشيئة لله بما سيكون عليه من صبر مضاف إلى صبر الصابرين- قد كان سببا فى أن وفّاه الله جزاء الصابرين كاملا، فنجاه من هذا البلاء، وفداه بالذبح العظيم، على حين أن موسى عليه السلام، إذ قرن مشيئة الله بما وعد به العبد الصالح من الصبر، وخص بهذا الصبر نفسه فقال:
«سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً» - لم يعط الصبر الذي ينال به ما طلب من صاحبه، من علم، بل تفرقت بينهما سبل بعد ثلاث مراحل على هذا الطريق الذي سلكاه معا..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» أسلما: أي استسلما لأمر الله، ورضيا حكمه فيهما.
تلّه للجبين: أي طرحه على التلّ: والتلّ: المكان المرتفع، كهضبة أو نحوها.. والجبين. الجبهة.. والمعنى: أنه لما أن امتثل الولد ما دعاه إليه أبوه، وأسلما أمرهما إلى الله، وأسلم وجه ابنه للتلّ، أي وضع وجهه عليه، حتى لا يرى بعينيه عملية ذبحه، ناداه ربّه: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا- لما حدث كلّ هذا، قبلنا نذره، وتقبلنا قربانه، وجزيناه الجزاء الأوفى.. «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» - أي فمثل هذا الجزاء العظيم نجزى أهل الإحسان..
فجواب «لمّا» فى قوله تعالى: «فَلَمَّا أَسْلَما» محذوف، دلّ عليه قوله تعالى «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»..
وعلى هذا يكون قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» واقعا فى حيّز «لمّا» وهذا الذي ذهبنا إليه يخالف الرأى الذي عليه المفسرون، وهو أن جواب «لمّا» واقع تقديرا بعد «أسلما».. ويكون قوله تعالى: «وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ»
1006
كلام مستأنف، وما بعده معطوف عليه.. أو أن الجواب هو قوله تعالى:
«وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» وأن «الواو» زائدة!! قوله تعالى:
«إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ» هو تعقيب على هذا الحدث العظيم، وعلى هذا الامتحان الذي امتحن الله به عبدين من عباده المؤمنين..
وفى هذا التعقيب تنويه من الله سبحانه وتعالى بهذين النبيين الكريمين، وبوثاقة إيمانهما، وأنهما كانا أهلا لهذا الامتحان العظيم..
قوله تعالى:
«وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» الفداء: هو افتداء شىء بشىء، وإحلاله محلّه فى مقام البذل، والإحسان..
وفى هذا يقول النابغة الذبياني
مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمّر من مال ومن ولد
والذبح: ما يذبح من الحيوان..
ومن الجزاء الحسن الذي جازى الله به إبراهيم، أنه سبحانه تقبل قربانه إلى الله بولده، دون أن يصاب هذا الولد بسوء.. ثم ضاعف هذا الإحسان بعد أن تولى سبحانه فداء هذا الولد بهذا الذبح العظيم الذي قدمه لإبراهيم.. فإبراهيم أراد أن يقدم قربانا لله، فقدم الله سبحانه له قربانا من فضله وإحسانه. وهذا ما يشير إليه وصف الذبح بأنه عظيم.. لأنه مقدّم من عند الله الذي تقدم إليه القربات!! فما أعظم هذا الإحسان، وما أكرم هذا العطاء، الذي لا يستقلّ بحمده الوجود كله!
1007
وليس الشأن فى هذا الذّبح، أكان كبشا نزل من الجنة، أو أخذ من الأرض.. وإنما الشأن فى أنه كان رمزا لرضا الله، وتبادله الإحسان مع خليله إبراهيم.
قوله تعالى:
«وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ».
ومن إحسان الله تعالى على خليله إبراهيم، أن جعل له ذكرا باقيا بعده إلى يوم الدين، وجعل فى ذريته النبوة والكتاب..
قوله تعالى:
«سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ»..
هو سلام من الله عليه، وسلام من المؤمنين بالله، على من سلّم لله عليه..
وهذا من الذكر الحسن، الباقي على الزمن،. فعلى لسان كل مؤمن، ثناء وسلام على إبراهيم إلى يوم الدين..
قوله تعالى:
«كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ».
أي بمثل هذا الجزاء الحسن، وهو الذكر المتجدد بالثناء، نجزى المحسنين من عبادنا، فنبقى لهم فى الناس ذكرا طيبا، ونجعل فيهم الأسوة الحسنة لكل من يريد الإحسان..
قوله تعالى:
«إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ»..
هو تعليل لهذا الإحسان العظيم الذي أفاضه سبحانه وتعالى على خليله،
1008
وأن الإيمان بالله، هو الذي سلك به هذا المسلك، ورفعه إلى هذا المقام..
وأن من أراد أن يكون فى عباد الله المحسنين، فليكن أولا من عباد الله المؤمنين.. فإنه لا إحسان إلا على أساس متين من الإيمان..
قوله تعالى:
«وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ»..
أي ومن الجزاء الحسن كذلك لإبراهيم أن بشره الله سبحانه بولد آخر إلى جانب هذا الولد، الذي أراد ذبحه وتقديمه قربانا لله..
قوله تعالى:
«وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ»..
أي وجعلنا البركة مشتملة عليه وعلى إسحق، وذلك بتكثير نسلهما، وجعل النبوة والكتاب فى ذريتهما..
وفى قوله تعالى: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ» إشارة إلى أن هذه البركة- لا تنال ذريتهما جميعا.. بل ينالها من أراد الله سبحانه وتعالى به الخير والإحسان من ذريتهما.. فمن ذريتهما سيكون المؤمن المحسن، ومن ذريتهما سيكون الكافر الظالم.. وهذا ما يشير إليه وصف الظلم بأنه مبين.. إذ أنه لا ظلم أعظم من الكفر والشرك بالله، كما يقول سبحانه:
«إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» «١٣: لقمان».
وقد يسأل سائل: لماذا لم تكن هذه البركة عامة شاملة فى ذرية هذين النبيين المباركين، إلى يوم الدين؟..
والجواب: أن ذلك- لو كان- لرفع التكليف عن كل من ولد
1009
لهذين النبيين، وعمن ولد لذريتهما، وذرية ذريتهما.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
وهذا ما لا يدخل على حكمة الله، فيما قضى به فى عباده من ابتلاء.
ليميز الله الخبيث من الطيب.
وهكذا خرج إبراهيم من هذا الابتلاء بهذا الفيض الغدق من فضل الله وإحسانه..
فأولا: حفظ الله سبحانه له ابنه، وعافاه من الذبح..: «يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا»..
وثانيا: قدم الله سبحانه له قربانا..: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»..
وثالثا: أبقى الله سبحانه له ذكرا حسنا، فى المؤمنين إلى يوم الدين:
«وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ»..
ورابعا: جعل الله سبحانه الدعاء له بالصلاة والسلام، قربانا يتقرب به المؤمنون إلى الله: «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ».
وخامسا: وهب الله سبحانه وتعالى له ولدا آخر إلى هذا الولد الذي لم يكن له غيره: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ».
وسادسا: بارك الله سبحانه على إبراهيم، وبارك على إسحق تكريما لأبيه وإحسانا إليه..
[من الذبيح؟ إسماعيل أم إسحق؟] وهنا أمر نحب أن نقف عنده، وهو: من الذبيح؟ إسماعيل.. أم إسحق؟ وهو أمر ما كان يجوز أن نثير حوله جدلا، إذ كان- فى
1010
رأينا- أوضح من أن يجادل فيه، وهو أن الذبيح- على يقين- هو إسماعيل عليه السلام.
ولكن أصابع اليهود قد لعبت فى هذا النسج المحكم، ونسجت حوله خيوطا من الكذب والتضليل، كان لها تأثير فى تفكير بعض المسلمين، الذين لهم مقامهم فى المسلمين، ومكانتهم فى الإسلام، حتى لقد وقف بعضهم موقف الشكّ والتوقف.. وحتى لقد تجاوز بعضهم هذا، فرجّح القول بأن الذبيح هو «إسحاق» لا «إسماعيل» !!.
ونحبّ أن ننبّه هنا إلى أننا لا نفاضل بين هذين النبيين الكريمين..
فكلاهما، فى مقامه العظيم عند الله، وفى مكانه المكين من قلوب المسلمين جميعا.. فالمسلمون جميعا يختمون كل صلاة بهذا الدعاء: «اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم».. وإسماعيل وإسحاق- عليهما السلام- هما رأس آل إبراهيم، وفرعا شجرتها المباركة.
وإنما الذي يدعونا إلى هذا، هو حمل الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر هذا الحديث، على غير ما ينطلق به مدلول ألفاظها، حتى تستجيب للقول الذي دسه اليهود على المسلمين، بأن إسحق هو الذبيح.. وهذا- فى رأينا- عدوان على القرآن الكريم، يبلغ حد التبديل، وتحريف الكلم عن مواضعه! وقبل أن ننظر فى آيات الله التي تحدث بهذا الحديث، يحسن أن نكشف عن وجه «اليهود» فى هذا المقام، وعن المدخل الذي دخلوا على المسلمين منه..
وقبل أن نواجه اليهود بهذه الفرية التي افتروها، بحسن كذلك أن نذكر ما لليهود من جرأة على الكتاب الذي فى أيديهم، وعلى العبث به، وإلقاء أهوائهم وضلالاتهم عليه، دون تحرج أو تأثم.. وفى هذا يقول الله سبحانه
1011
وتعالى فيهم: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (٧٩: البقرة) ويقول سبحانه فيهم أيضا: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً» (٩١: الأنعام) فاليهود- كما وصفهم القرآن- قد بدلوا كثيرا وحرفوا كثيرا فى التوراة، ولم يحترموا كلمة الله، ولم يقفوا عند منطوقها أو مفهومها.. وقد كادوا للإسلام بهذا كثيرا، ورفعوا من التوراة كل ما كان فيها من دلائل وإشارات على بعثة النبي العربي، كما رفعوا منها كثيرا من الأحكام التي جاء الإسلام يدينهم بها كما جاءت فى شريعتهم.. ولم يقفوا عند هذا فى الكيد للإسلام.. بل راحوا يدسون على المسلمين أحاديث ينسبونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقيمون لها سندا ينتظم فى سلسلته عددا من الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، وخاصة من كثرت روايات الحديث عنهم كأبى هريرة وابن عباس- رضى الله عنهما- وغيرهما.
وأكثر من هذا، فإن بعضا من اليهود دخل الإسلام، لا عن عقيدة، ولكن ليكيد له.. وقد كشف بعضهم عن ظاهر، انخدع به المسلمون، بما رأوا فيهم من مظاهر الاستقامة، والزهد، والغيرة على الدين، حتى اطمأنوا إليهم، وقبلوا كل ما يأتى من جهتهم..
وحسبنا أن نذكر هنا بولس «الرسول» الذي كان من أشد اليهود عداوة للمسيح- عليه السلام- وملاحقة له بالأذى، هو وأتباعه.. ثم رأى أن يكيد للمسيحية كيدا أبلغ من هذا، فدخل فى دين المسيحية، ثم ما لبث أن أخذ مكان القيادة فيها، وأصبح الداعية الأول بعد المسيح.. وبهذا أمكنه أن يحدث ما أحدث فى المسيحية من تثليث، لم يكن أحد من أتباع المسيح وحوارييه
1012
يعرف شيئا عنه.. حتى أن الأناجيل الأربعة المعتمدة الآن- على رغم ما حدث فيها من تحريف- لم تجىء فيها إشارة واحدة إلى ألوهية المسيح، وإلى جعله أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن وروح القدس.. «١»
نقول هذا لنقيم منه شاهدا على أن هذا النص الذي جاء فى التوراة عن أن إسحق هو الذبيح- هذا النص هو من مفتريات اليهود على الله، ومن تبديلهم لكلمات الله.. ومثل كل مجرم، فى أنه لا بد أن يترك على جريمته أثرا ينمّ عنه، وشاهدا يشهد عليه، مهما اجتهد فى أخذ الحذر والحيطة، ومهما بلغ من مكر وخبث ودهاء، فقد ترك اليهود على هذا النص الذي حرفوه، ما يشير بأكثر من إصبع، وينطق بأكثر من فم، بأنهم كاذبون مفترون! تقول التوراة التي فى أيدى اليهود (فى الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين) :«وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له:
«يا إبراهيم، فقال هأنذا.. فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إلى أرض المريّا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال التي أقول لك..»

والتلفيق واضح فى هذا النص، لا يحتاج الكشف عن زيفه إلى اجتهاد، إذ يكاد يكون الحكم على زيفه نصّا منطوقا.. وإنه لا اجتهاد مع النص..
فإذا كان إسحق هو الابن الوحيد لإبراهيم، فلا داعى لأن يحدّده الله له بالاسم، فيقول له: ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق.. وكان يكفى أن يقال له:
ابنك، أو وحيدك، أو إسحق..
ومن جهة أخرى، فإن التوراة تذكر أنه قد ولد لإبراهيم ابن من زوجه هاجر، اسمه إسماعيل، وأنه ولد قبل إسحق بأربعة عشر عاما.. فكيف
(١) وقد عرضنا لهذه القضية فى دراسة مفصلة فى كتابنا (المسيح فى القرآن والتوراة والإنجيل).
1013
يكون إسحق الابن الوحيد لإبراهيم؟ وهل إسماعيل ليس ابنا لإبراهيم حتى يكون إسحق هو الابن الوحيد له؟ ولو قالت التوراة هذا لما كان هناك تضارب فى أقوالها.. ولكن التوراة تقول عن إسماعيل إنه ابن إبراهيم..
تقول التوراة: «فولدت هاجر لأبرام (إبراهيم) ابنا، ودعا أبرام اسم ابنه الذي ولدته هاجر إسماعيل» (الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين).
وإذا كنا نعذر اليهود فى هذا التقوّل على الله، إذ كان ذلك طبيعة فيهم وشأنا غالبا عليهم، وإذ كانوا إنما يبغون بهذا مصلحة خاصة لهم، وكيدا للإسلام، وتلبيسا على المسلمين.. وإذا كنا نعذر العلماء والدارسين من غير المسلمين، أن يأخذوا بما فى التوراة، مما يخالف القرآن الكريم، وأن يرجحوا نصوصها على نصوص القرآن- فإننا لا نجد وجها للعذر فيما كان من بعض المسلمين- وفيهم العلماء الأعلام- من التوقف فى نصوص القرآن، إزاء هذا النصّ الذي جاءت به التوراة، أو الأخذ به، وإقامة تأويل الآيات القرآنية عليه.. إن ذلك- كما قلنا- يكاد يكون تبديلا لآيات الله، وتحريفا للكلم عن مواضعه..
ومن عجب أن نجد عالما فقيها مفسّرا كالإمام ابن جرير الطبري، يرجّح القول بأن إسحق هو الذبيح.. ومن عجب أيضا أن نجد عالما جليلا، كابن عياض، يذهب إلى هذا المذهب ويقول به، فى كتابه: «الشفا فى التعريف بحقوق المصطفى».. ومن عجب- ولا عجب- أن نرى رجلا كالجاحظ يجعل هذه المقولة من المسلّمات عنده، فيتحدث فى كتابه البيان والتبيين، عن إسحق، ويضيف إليه تلك الصفة، وهى أنه الذبيح..
وأكثر من هذا، فإن هناك أحاديث كثيرة تنسب إلى أصحاب رسول الله كابن عباس، وابن مسعود وأبى هريرة وغيرهم، وفيها أن إسحق هو الذبيح..
1014
وفى تفسير ابن كثير مقولات كثيرة فى هذا المقام، تضاف إلى صحابة رسول الله، لتقع من النفوس موقع القبول والتسليم.. وقد فضحها ابن كثير رضى الله عنه، وكشف عن المصدر الذي جاءت منه.. يقول ابن كثير:
«وهذه الأقوال- والله أعلم- كلها مأخوذة عن «كعب الأحبار» فإنه لما أسلم فى الدولة العمريّة، جعل يحدث عمر رضى الله عنه، عن كتبه قديما، فربما استمع له عمر، فترخص الناس فى استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة- والله أعلم- حاجة إلى حرف واحد مما عنده».
ولا نجد حجة أبلغ ولا أقوى من تلك الحجج الدامغة التي قدمها الإمام ابن تيمية- نضر الله وجهه- فى دفع تلك الفرية، وفضح هذه الدسيسة التي دسها اليهود على هذه الحادثة..
ولا يستمدّ ابن تيمية حججه من نصوص الكتاب الكريم وحده، إذ أن الذين لا يدينون بالإسلام، لا يأخذون أنفسهم بنصوص كتابه، ولهذا يعمد ابن تيمية إلى الواقع التأريخي لإبراهيم وذريته، وللظروف التي عاش فيها مع زوجيه- سارة وهاجر- ومع ولديه- إسماعيل وإسحق..
ويقيم على ذلك شواهد من التوراة نفسها، ثم يعمد إلى هذا النصّ الذي تصرح فيه التوراة بأن إسحق هو الذبيح فيكشف عن زيفه وباطله..
يقول ابن تيمية رحمه الله.
«وهذا القول- أي القول بأن إسحق هو الذبيح- متلقّى من أهل الكتاب (يعنى اليهود) مع أنه باطل بنصّ كتابهم: فإن فيه: «إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه، بكره» ولا يشكّ أهل الكتاب مع المسلمين أن «إسماعيل» هو بكر أولاده.
1015
«والذي غرّ أصحاب هذا القول- أي القول بان الذبيح هو إسحق- أن فى التوراة التي بأيديهم: «ادع ابنك إسحاق».. وهذه زيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: «ادع ابنك ووحيدك».
«ولكن اليهود حسدت بنى إسماعيل على هذا الشرف، وأحبّوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختاروه لأنفسهم دون العرب، وأبى الله أن يجعل هذا إلّا لأهله..
ثم يمضى ابن تيمية فيقول:
«وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحق، والله تعالى، قد بشّر أم إسحق به، وبابنه يعقوب.. فقال تعالى عن الملائكة، إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: «لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ»
(٧٠- ٧١: هود) فمحال أن يبشرها الله بأن يكون لها ولد، ثم يأمر بذبحه؟.. ولا ريب أن يعقوب عليه السلام- داخل فى البشارة، فتتناول البشارة إسحق، ويعقوب فى لفظ واحد، وهذا ظاهر الكلام وسياقه..» ؟
يريد ابن تيمية أن يقول هنا، إن البشرى التي تلقتها سارة فى مواجهة إبراهيم، كانت بأن يولد لها ولد، هو إسحق، وأن يولد لإسحق ولد هو يعقوب.. وهذا يقطع بأن إسحق لن يموت حتى يولد له يعقوب.. وهذا يقطع أيضا بألا يكون إسحق هو القربان الذي يتقرب به إبراهيم إلى ربّه..
إذ لا بد- بحكم هذه البشرى- أن يعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال، ويتزوج، ويولد له.. فى حين أن الذي يذبح- عادة- يكون غلاما حدثا.. وهذا ما كان فى شأن الولد الذي قدمه إبراهيم للذبح، كما يقول الله تعالى: «فَلَمَّا
1016
بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ»
.. وهذا يكون فى سن لا تتجاوز العاشرة..
ثم يقول ابن تيمية:
«ويقال أيضا: إن الله سبحانه لمّا ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح فى سورة الصافات قال: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ..» ثم قال تعالى: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ».. فهذه بشارة من الله تعالى، له، شكرا على صبره على ما أمر به.. وهذا ظاهر جدا فى أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنصّ فيه..
«فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته.. لمّا صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر ربه، جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوّة- قيل: البشارة وقعت على المجموع، على ذاته ووجوده، وأن يكون نبيا، ولهذا نصب «نبيا» على الحال المقدر، أي مقدرا نبوّته، فلا يمكن إخراج البشارة من أن تقع على الأصل، ثم تخصّ بالحال الجارية مجرى الفضيلة.. هذا محال من الكلام.. بل إذا وقعت البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى..».
ثم يمضى ابن تيمية فيقول:
«وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى، سمّى الذبيح حليما.. يشير إلى قوله تعالى: «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح، طاعة لربه.. ولما ذكر إسحق سماه «عليما».. فقال تعالى: «وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» (٢٨: الذاريات).
1017
«وأيضا.. فإنهما.. أي إبراهيم وسارة.. بشرا به (يعنى إسحق) على الكبر، واليأس من الولد وهذا بخلاف إسماعيل، فإنه ولد قبل ذلك (كما تصرح بذلك التوراة)..
هذا بعض ما ساقه ابن تيمية من أدلة على أن إسماعيل هو الذبيح.. وإذا كان لنا أن نضيف إلى هذا شيئا، وهو مستغن بذاته عن كل إضافة..
فإنا نقول:
أولا: إن الله سبحانه ذكر عن إسماعيل قوله: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا»
(٥٤: مريم).
وصدق الوعد، هو صفة كاشفة لما كان من إمضاء إسماعيل ما وعد به أباه فى قوله: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ.. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» وقد وجده كما وعد، لم تختلج فيه خالجة تردّد، أو رجوع عن هذا الوعد.
بل مضى به إلى غابتة صابرا، مستسلما لأمر الله، منقادا ليد أبيه، حتى أضجعه مضجع الذّبح، وبدأ يجرى السكّين على رقبته! وقد تكرر فى القرآن وصف إسماعيل بالصير، وجمعه مع الكرام الصابرين من رسل الله، فقال تعالى: «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» (٨٢- ٨٥: الأنبياء) هذا، على حين لم يجر القرآن ذكرا خاصا لإسحق، وإنما كان دائما فى سباق الحديث عن ذريّة أبيه من الأنبياء..
فاختصاص إسماعيل بهذا الذكر المنفرد، ووصفه بتلك الصفة التي هى من
1018
ألزم الصفات لمن يدخل فى هذا الامتحان، ويخرج منه سليما معافى- يقطع بأنه الذبيح.
وثانيا: إسماعيل- عليه السلام- كان بكر إبراهيم، يشهد بذلك التاريخ، وتحدث به التوراة.. والعادة التي كانت جارية فى التضحية بالأبناء، وتقديمهم قربانا لله- هى أن يكون الولد البكر، هو القربان الذي يتقرب به إلى الله.. ولهذا أضاف اليهود بأيديهم الآثمة وصف «البكر» إلى إسحق مع أنه لم يكن بكرا، وذلك ليسوّدوا وجه الباطل بهذه الفعلة البلهاء، التي كشفت عن زيفهم، إذ ما كان لهم أن يقولوا: إن إسحق هو الذبيح، حتى يكون بكر أبيه، وتلك هى عادتهم التي جروا عليها فى التضحية بالأبناء، كما تحدث بذلك التوراة فى مواضع كثيرة منها.. حيث كان الولد البكر هو المتخير للتضحية، والمنذور للقربان، كما كان الولد البكر، هو الوارث لكل ما كان لأبيه..
وثالثا: أن إسماعيل، كان دعوة مستجابة من الله سبحانه لأبيه إبراهيم، إذ قال: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» فكان أن بشره الله سبحانه بقوله «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ».
أما إسحق، فقد كان بشرى غير منتظرة، بشر الله بها امرأة إبراهيم، على يأس من أن يكون لها ولد، إذ يقول الله تعالى: «وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» (٧١- ٧٢: هود).
وهذا يعنى أنه لو أراد إبراهيم أن يقدم ابنا من أبنائه قربانا لله، لكان الحقّ يقتضيه أن يقدم الولد الذي طلبه، واستجاب الله له فيه، لا أن يقدم
1019
الابن الذي وهب الله إياه امرأته.. إن ذلك مما يدخل الضيم على هذه الهبة العظيمة من الله، الواهب المنان.
ولا يعترض على هذا، بأن القرآن الكريم قد ذكر أن الله سبحانه بشر إبراهيم بإسحاق فى قوله تعالى: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ».. فإنه إذ كانت البشرى لامرأته بالولد، فإنها فى الوقت نفسه بشرى له.. وخصّت هى بالبشرى، إذ كانت ولا ولد لها، على حين كان لإبراهيم ولد من امرأته «هاجر» وهو إسماعيل..
الآيات: (١١٤- ١٣٢) [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٤ الى ١٣٢]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
1020
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ».
هو استئناف لقصة أخرى من قصص أنبياء الله، وما أفاض عليهم الله سبحانه وتعالى، من جزيل عطاياه، وسابغ أفضاله.. وقد ذكرت الآيات السابقة قصة نوح وإبراهيم..
وهنا فى هذه الآيات تذكر قصة موسى وهرون، ثم قصة إلياس، كما سنرى..
والمنّ: فى الأصل تذكير المحسن للمحسن إليه بالإحسان، فى شىء من الاستعلاء، الذي يجرح العواطف ويؤذى الشعور. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (١٧: الحجرات).
ومنّ الله سبحانه وتعالى على عباده بتذكيرهم بنعمه وإحسانه إليهم- ليس فيه شىء مما يكون بين الناس والناس من منّ.. بل هو الشرف الذي لا ينال، والعزة التي لا تطاول، أن يكون الإنسان بموضع الإحسان من ربه..
إنه إحسان من مالك الإحسان، وفضل من رب الفضل، وجود من صاحب الجود.. فمن أصابه شىء من عطاء ربه وإحسانه، فهو تاج شرف يزين به جبينه، وثوب فخار وعزة يمشى به فى الناس..
فمن يستحى أن يمد يده إلى الله سائلا متضرعا؟
ومن يجد فى صدره حرجا- من أمير أو صغير- أن يسأل رب الأرباب، وسيد الملوك والأمراء؟
1021
روى أن لبيدا الشاعر، تلقّى من أحد الأمراء عطاء جزلا، وكان قد حرّم على نفسه أن يقول شعرا بعد أن أسلم، فقال لابنته- وكانت شاعرة- أجيبى عنى الأمير، فمدحته بقصيدة ختمتها بقولها:
فعد إنّ الكريم له معاد وظنى بابن أروى أن يعودا
فقال لها أبوها أحسنت يا بنية، لولا أنك سألت!! فقالت: إن الملوك لا يستحى من مسألتهم! فقال لها أبوها، وأنت فى هذا أشعر!! فالمنّ إنما يستقبح حين يكون بين الأنداد، أو المتقاربين منزلة..
أما حين يكون المنّ من عظيم لصغير، فهو تنويه به، وهو مدح له، وهو ثناء، عليه..
فقوله تعالى: «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ» - هو تنويه بشأنهما، ورفع لقدرهما عند الله، وأنهما أهل لفضله وإحسانه..
قوله تعالى:
«وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ».
الكرب العظيم: هو ما كان فيه بنو إسرائيل من محنة قاسية تحت يد فرعون، كما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ» (٣٠- ٣١: الدخان).
فهذا من منن الله سبحانه وتعالى على عبديه، موسى وهرون، وعلى قومهما، إذ نجاهما من هذا البلاء المبين، الذي كانوا فيه تحت يد فرعون.
قوله تعالى:
«وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ»..
1022
والنصر والغلب، هو ما كان من نجاة بنى إسرائيل، وغرق فرعون..
إذ كانت هناك معركة قائمة فعلا بين الفريقين.. حيث كان موسى وبنو إسرائيل جادين فى الهرب، وكان فرعون من ورائهما بجنوده يريد اللحاق بهم.. ولو لحق بهم لأهلكهم جميعا.
قوله تعالى:
«وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ».
المستبين: أي الواضح البين.. وهو التوراة..
وقد نسب الكتاب إلى موسى وهرون، مع أن الكتاب كتاب موسى، لأن هرون كان يبشر فى قومه بهذا الكتاب، وإن لم يكن تلقاه من ربه.!
فهو شريك فى الرسالة، وشريك فى الكتاب بهذا الاعتبار!.
قوله تعالى:
«وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ».
هذه الآيات، تعدد النعم التي أنعم الله بها على هذين النبيين الكريمين.
وهذا هو جزاء المحسنين من عباد الله.. وقد شرحنا فى آيات سابقة المعاني التي ضمت عليها هذه الآيات..
قوله تعالى:
«وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ».
اختلفت أقوال المفسرين فى إلياس عليه السلام
1023
والذي لا شك فيه هو أن «إلياس» عليه السلام كان معروفا عند العرب، فيما يحدثهم به اليهود عن أنبيائهم..
وإلياس، هو المذكور فى التوراة باسم إيليا بن متى.. وهو من أنبياء بنى إسرائيل، الذين سبقوا زكريا ويحيى عليهما السلام..
وقد كان اليهود، لجفاء طبعهم، وبلادة حسهم، وكلب أنانيتهم- ينظرون إلى الله نظرا قاصرا محدودا، فيرونه إله إسرائيل، لا إله العالمين، ومن ثمّ جعلوه قائد جيوشهم، وسموه «رب الجنود» ثم تمادوا فى هذا التصور الخاطئ لجلال الله وعظمته، فتصوروه رجلا شديد البأس، مثل فرعون الذي كانوا يرون فيه أقصى ما يمكن أن يتصوروا من قوة، حتى لقد امتلأت التوراة بالحديث عن الله، بأنه «رجل حرب». وحتى إنهم ليتحدثون إليه على لسان أنبيائهم كحديثهم مع واحد منهم..
فكانت دعوة إلياس- عليه السلام- إلى اليهود، هى أن يصححوا هذا الفهم القاصر الجهول، لله، وأن يقيموا وجوههم إليه على أنه ربّ العالمين! فقوله: «أَتَدْعُونَ بَعْلًا؟» إنكار عليهم أن يدعوا الله بعلا.. والبعل هو الرجل، كما فى قوله تعالى: «أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ» (٧٢: هود).
وقوله: «وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» ؟
أي أتدعون الله رجلا، وتلبسونه صفات الرجال، وتتركون دعوته بالصفات اللائقة به، وهو أحسن الخالقين، ورب العالمين؟.
قوله تعالى:
«فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ».
1024
أي أنّهم إذ لم يأخذوا بنصحه، ولم يقبلوا ما دعاهم إليه من تصحيح معتقدهم فى الله- «فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ» أي فهم لهذا سيساقون إلى الحساب والجزاء بين يدى الله يوم القيامة، وسيجزون جزاء المكذبين الضالين..
«إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» ويستثنى من هذا الجزاء عباد الله الذين أخلصوا دينهم لله، ولم يلبسوا إيمانهم بالضلالات والأباطيل..
قوله تعالى:
«وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ».
مضى تفسير أمثال هذه الآيات.
والياسين: هو إلياس الذي جاء ذكره فى قوله تعالى: «وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».
الآيات: (١٣٣- ١٤٨) [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٣ الى ١٤٨]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
1025
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ» الظرف «إذ» هو قيد لنجاة لوط وأهله بسبب أنه كان من المرسلين، الذين اختارهم الله لحمل الله رسالته إلى عباده، فدخل بهذا فى الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» (٥١: غافر).
وقوله تعالى: «إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ» - إشارة إلى امرأة لوط، التي كانت من الضالين، الذين لم يستجيبوا لدعوته، فأهلكها الله فيمن أهلك من قوم لوط، وقد ضربها الله سبحانه وتعالى مثلا لنبتة السوء تنبت فى الأرض الطيّبة، فقال تعالى فيها وفى امرأة نوح: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» (١٠: التحريم).
والعابرون: هم من عبروا، وهلكوا، وعلتهم غيرة التراب. وقوله تعالى:
«ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ»
- إشارة إلى قوم لوط الذين أهلكهم الله، بعد أن نجّى لوطا وأهله، إلا امرأته، التي هلكت مع الهالكين
1026
قوله تعالى:
«وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ».
الخطاب للمشركين من قريش، وأنهم يمرون على أطلال هؤلاء القوم الهالكين، ويرون ما حل بهم من غضب الله ونقمته.. يرون ذلك فى وضح النهار، ويرونه بالليل، وذلك فى طريق تجاراتهم إلى الشام..
وفى قيد المرور بالصباح وبالليل، إشارة إلى أن آثار القوم الهالكين قائمة فى مكانها، يراها كل من يمر بها فى أي وقت.. إنها فى معرض النظر دائما..
وفى هذا تهديد لهؤلاء المشركين، أن يفعل الله بهم ما فعل بإخوان لهم من قبل، خالفوا رسولهم، وكذبوه، وتهددوه بالأذى.. فلو أنه كان لهؤلاء المشركين عقول، لكان لهم فى مصارع الظالمين عبرة ومزدجر! قوله تعالى:
«وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ».
يونس- عليه السلام- هو نبى من أنبياء الله، ورسول من رسله إلى قرية من قرى الشام، اسمها «نينوى».
وهو إذ أبق إلى الفلك المشحون، كان من المرسلين، أي لم تنزع عنه صفة الرسالة.
وأبق: أي هرب، وهروبه كان من الرسالة التي حملها إلى قومه، حيث لم يصبر طويلا على أذاهم، فسمى آبقا، أي هاربا، كما يأبق العبد من سيده. وسيد يونس، هو الله سبحانه وتعالى..
1027
والفلك المشحون: أي الممتلئ بالناس والأمتعة..
وقوله تعالى: «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ».
ساهم: أي اقترع، وأخذ سهما.. والمدحضين: المغلوبين، الساقطين، الذين خاب سهمهم.. ومنه حجة داحضة: أي ساقطة، غير مقبولة.. وأرض دحض: أي زلق، لا يثبت من يمشى عليها..
أي أن يونس، حين فر من قومه، وزايل المكان الذي يجب أن يكون فيه، ليؤدى رسالة ربه- ركب مركبا مشحونا، ثم حين سارت السفينة واحتواها البحر، ماجت واضطربت، وكادت تغرق.. وكان من تدبير ركاب السفينة أن يتخففوا من أمتعتهم، فألقوها فى اليم، ثم لمّا لم يجد ذلك شيئا، رأوا أن يلقوا ببعض ركابها فى الماء، حتى يسلم الباقون من الغرق، ثم إنه لكى يكونوا جميعا على سواء فى هذا الأمر، اقترعوا على من يخرج من السفينة منهم، فأصابت القرعة- فيمن أصابت- «يونس».. «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»
..
قوله تعالى:
«فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ».
أي حين وقعت القرعة على يونس، وألقى به فى الماء- التقمه الحوت..!!
وفى تعريف «الحوت» - إشارة إلى أنه حوت مرصود لهذه الغاية، وأنه مسوق بقدرة الله إلى تلك المهمة، وهى ابتلاع يونس!.
وقوله تعالى: «وَهُوَ مُلِيمٌ» جملة حالية، أي ابتلعه الحوت،
1028
وهو ملوم على ما كان منه من فرار من قومه..
و «مليم» اسم فاعل من الفعل ألام، أي أتى ما يستحق اللوم عليه..
قوله تعالى:
«فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ».
أي لولا أن يونس حين التقمه الحوت، ذكر ربه، واستغفر لذنبه، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانه: «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» - لولا هذا، لما خرج من بطن الحوت، ولما عاد إلى الحياة إلى يوم البعث.. ولبثه فى بطن الحوت إلى يوم البعث، أي موته فى بطنه، ثم قبره فيه.. إلى أن يموت الحوت، فإذا مات الحوت، كان البحر قبرهما معا..
والسؤال هنا هو: ماذا لو لم يكن يونس من المسبحين؟ أكان يلبث فى بطن الحوت إلى يوم البعث؟.
والجواب بلا تردد: نعم، فقد قرن الله سبحانه الأسباب بالمسببات، وجعل المسببات رهنا بأسبابها..
وحيث أن الله سبحانه وتعالى، قد جعل نجاة يونس قدرا من قدره، وحيث أنه سبحانه، قد جعل نفاذ هذا القدر متعلقا بوقوع التسبيح من يونس- فإنه كان من الحتم المقضىّ، أن يسبّح يونس حين التقمه الحوت، وأن ينجو بسبب هذا التسبيح.
فتسبيح يونس قدر من قدر الله.. تماما، كنجاته من بطن الحوت..
وعلى هذا فإنا إذا أعدنا السؤال بصورة أخرى، وهو:
1029
أما وقد نجا يونس من الموت فى بطن الحوت.. فهل لو لم يسبح أكان ينجو؟..
والجواب هنا هو: إنّ فرض عدم التسبيح أمر مستحيل، ما دامت النجاة قد تمت، وما دامت النجاة مشروطة بالتسبيح.. وفى الأصول الفقهية: أن ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب!.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما أدوية نتداوى بها.. أتردّ من قدر الله شيئا؟.
فقال- صلوات الله وسلامه عليه-: «هى من قدر الله..» !
فالقدر ليس حكما مستقلا بذاته، منعزلا عن أحداث الوجود.. بل إن كل قدر هو مقدور لأقدار سابقة، كما أنه- وهو مقدور- هو قدر لأقدار لاحقة..
قوله تعالى:
«فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ».
نبذناه. أي طرحناه، ونبذ الشيء: لفظه وطرحه..
والعراء: الخلاء..
واليقطين: اختلف فيه.. أهو الدّباء، أي القرع، أم الطّلح، وهو الموز.. ؟
وفى قوله تعالى: «فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ» - إشارة إلى أن يونس عليه السلام، ما يزال واقعا تحت اللائمة من ربه سبحانه وتعالى، وأنه لم ينل الرضا بعد،
1030
وإن كان فى الطريق إلى هذه الغاية، بما أخذ به من تربية وتأديب من ربّه!..
فلقد نبذه الله سبحانه بالعراء، ولو شاء سبحانه، لكساه سندسا وحريرا..
ولكن هكذا كانت إرادة الله فيه، أن يخرجه من الدنيا عاريا، كما خرج من قومه هاربا.. ولقد أظلّه- سبحانه- بشجرة من تلك الأشجار التي تنبسط أوراقها على سطح الأرض، فيضطر المستظل بها إلى أن يضع خذه على الأرض!.
وهذا كلّه أدب سماوى لعبد من عباد الله المكرمين.. وهو أدب فيه معاناة ذاتية، وتعمل لها أجهزة الإنسان كلها، من جسمية وعقلية، وروحية..
ولو شاء سبحانه- لما أدخل عبده يونس فى هذه التجربة، ولكنه- سبحانه- قضت إرادته- جلّ وعلا- أن يقوم كل كائن بما أودع فيه من قوّى..
ففى ذلك تحقيق لذاته، وإثبات لوجوده.. والإنسان من بين الكائنات كلها، النصيب الأوفى فى هذا المجال، فذلك من مقتضى الأمانة التي حملها الإنسان، والتي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها!.
قوله تعالى:
«وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ»..
وهذا الإرسال، هو بعد تلك التجربة، فهو إرسال متجدد، بعد أن ليس يونس عزما جديدا، ومشاعر جديدة.. وكأنه بهذا يبدأ الرسالة من جديد!.
وقوله تعالى: «إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» - هو التحديد الحق، الذي يضبط أعداد تلك الجماعة.. فهى ليست مائة ألف، بل إنها نزيد على مائة
1031
ألف، أما هذه الزيادة على مائة الألف، فلا يمكن ضبطها إلا للحظة لا تتجاوز غمضة عين، إذ كانت مواليد هذه الجماعة مستمرة، ونموها مستمرا فى كل لحظة، وإن أي قول يضبط به عددها ضبطا كاملا، لا يمكن أن يقع موقع الصدق الذي يمثل الواقع، حيث أنه ما يكاد المحصى الذي يحصى هذه الأعداد- ما يكاد ينطق بما أحصى، حتى تكون الحياة قد ألقت إلى هذه الأعداد بأعداد.. فإذا قال إنها مائة ألف ومائتان وعشرون مثلا، تغير هذا العدد بمجرد تلفظه به، فزاد واحدا أو اثنين.. أو عشرة، أو أكثر..
والذي يلفت النظر أيضا من هذا التعبير القرآنى، هو لفظ «يزيدون»..
فهذا اللفظ لا يتغير أبدا، وحكمه ملازم لهذه الجماعة ما دامت على الحياة، فهى فى زيادة، وليست فى نقص، إذا أن هذا هو شأن الكائنات الحية.. إنها فى زيادة..
حيث أن مواليدها أكثر من أمواتها..
قوله تعالى:
«فَآمَنُوا.. فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ».
وفى العطف بالفاء، دليل على سرعة استجابة القوم لرسولهم.. وهذا ما يكشف عن أنهم كانوا على استعداد للإيمان، وإن توقفوا شيئا ما، عند دعوة يونس لهم أول الأمر.. ولو أنه صبر قليلا على خلافهم له، لآمنوا..
وهذا التلبث والانتظار فى عدم قبول الدعوة، هو حق لهم، إذ أن من حق الإنسان أن يلقى الأمور بعقله، وأن يأخذ الوقت الكافي للنظر والبحث، حتى يعرف ما هو مدعو إليه، وهل هو حق أو باطل؟.
وفى هذه القصة، إشارة إلى أن الإنسان- من حيث هو إنسان-
1032
ليس شرّا خالصا، وأنه يشتمل على قدر كبير من الخير، وأنه كما فى الناس الأشرار الذين يغلب شرّهم خيرهم، ويغتال ما فيهم من فطرة، فإن فى الناس من يغلب خيرهم شرّهم، وأنهم مستعدون لتلقّى الخير.. وفى هذا إشارة أيضا إلى أنه ليس كلّ النّاس على شاكلة هؤلاء المشركين من قريش، الذين جمدت عقولهم على هذا الضلال الذي أمسك بها.. ثم إن فى هذا إشارة ثالثة إلى أنه ليس للرسول أن تقوم له الحجة على قومه، إلا بعد أن يبلغ رسالته إليهم كاملة، وأن يحتمل فى سبيلها كلّ جهد، وأن يبذل لها كل قدرة ممكنة لديه، وإلا كان فى موضع اللوم والعتب، كما أن المرسل إليهم يكونون تحت طائلة اللوم والعقاب، لو أنهم دعوا وأبوا أن يستجيبوا.. وهكذا يسوّى حساب الناس عند الله. كلّ يأخذ حقّه كاملا، يستوى فى هذا الحساب، الرسل ومن أرسلوا إليهم.. إنهم جميعا عباد الله.. وإنه لا محاباة ولا مجاملة.
ولا شك أن هذه اللّفتة السماوية إلى الإنسان- من حيث هو إنسان- جديرة بأن تفتح عيونا أعماها الضّلال، إلى ما لله سبحانه على الإنسان من فضل وإحسان، وأنه لن تخفّ موازينه عند الله- حتى مع أنبيائه وسفرائه إلى خلقه- إلا إذا استخفّ الإنسان بميزانه، واستهان بوجوده، وقبل أن ينزل راضيا، عن هذا المقام الكريم الذي أحلّه الله فيه، فزهد فى عقله، وأبى أن يوجهه ليرتاد له مواقع الخير.
فهل وقف المشركون من قريش، وغير قريش، عند هذا؟ وهل أخذوا بحقّهم الإنسانى فى هذا الوجود؟ وهل هم مستعدّون لأن يثبتوا أنهم أهل لهذا المقام الكريم، الذي سوّى الله سبحانه وتعالى فيه بين عباد الله، وبين رسل الله، فى موقف الحساب والمساءلة؟ ذلك ما يكشف عنه الزمن منهم، وذلك ما ينجلى عنه الموقف بينهم وبين هذا الرسول الكريم الذي لا يزال معهم.
1033
الآيات: (١٤٩- ١٧٠) [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٩ الى ١٧٠]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَاسْتَفْتِهِمْ.. أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟».
مناسبة هذه الآية والآيات التي بعدها، للآيات التي قبلها، والتي عرضت قصّة يونس مع قومه- أنها دعوة، مجدّدة إلى هؤلاء المشركين، ومقابلة- ربما تكون أخيرة- بين هؤلاء المشركين وبين رسول الله إليهم،
1034
إنها أشبه بذلك اللقاء الجديد الذي كان بين يونس وقومه.. وقد آمن قوم يونس.. فهل يؤمن هؤلاء المشركون، بعد هذا اللقاء الجديد بينهم وبين رسول الله؟
وفى هذا اللقاء بين رسول الله وبين المشركين، يدعوهم الرسول إلى أن يستحضروا عقولهم، وإلى أن يفتوه فيما يستفتيهم فيه.. إنهم هنا فى مقام الفتيا، ذلك المقام الذي لا يقوم فيه إلا أصحاب العلم والعقل، وإلا أهل الرأى والفهم.
فهل هم أهل لهذا؟ وهل هم مستعدّون لأن يفتوا فيما يستفتون فيه؟ وإن الذي يستفتون فيه ليس إلّا بديهة من بدهيّات العقل عند العقلاء.. فهل يخطئون وجه الصواب فى هذه البديهيّات؟
- «أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟».
هذه هى القضية التي يطلب إليهم الرأى فيها: - إذا كان هناك فى المخلوقات بنات وبنون.. ثم كانت هناك قسمة بينهم وبين الله.. فأىّ تكون له البنات، وأىّ يكون له البنون؟
لا شكّ أن البنات عندهم أنزل درجة من البنين.. فهل يقضى العقل- عندهم- أن يكون لله البنات، ويكون لهم البنون؟ أهذه قسمة عادلة؟
أيكون للإله الخالق دون ما لهم؟ إن ذلك جور فى الحكومة، وخرق فى الرأى، وضلال فى الفتيا.. ولهذا نقض الله عليهم رأيهم هذا، وردّ قسمتهم تلك الجائرة.. فقال تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» (٢١، ٢٢: النجم).
قوله تعالى:
«أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ» ؟.
1035
إنهم كانوا يقولون عن الملائكة: إنهم بنات الله.. وقد جعلوهم إناثا..
وهذا الحكم على الله بأنه لا يلد إلا البنات- تعالى الله عن أن يلد أو يولد- فيه عدوان عظيم على الله.. فهو فوق أنه عدوان بنسبة الولد إلى الله تعالى هو عدوان آخر بجعل هذا الولد من صنف الإناث لا الذكور.. فلو أنه كان لله أن يتخذ ولدا، أفيتخذه أنثى؟ إنهم لا يرضون أن تولد لهم البنات.
فإذا ولدت لهم بنت- ضاقوا بها، بل خجلوا أن يظهروا فى الناس ولهم بنات ينتسبن إليهم..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» (٥٨- ٥٩: النحل).
وقوله تعالى: «وَهُمْ شاهِدُونَ» جملة حالية، ينكر بها عليهم أنهم لم يشهدوا خلق هؤلاء الملائكة، ولم يشاركوا فيه، حتى يكون لهم قول فى هذا الأمر.. إنهم يحكمون بلا علم، ويقضون بغير حجة..
قوله تعالى:
«أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟».
فى هذه الآيات عرض لمقولتهم فى تلك الفتيا التي استفتوا فيها. وتسفيه لهذا القول الأحمق الجهول الذي قالوه..
إنهم يقولون.. إفكا وبهتانا «وَلَدَ اللَّهُ» أي أن الله يلد ولدا..
1036
وهذا إفك وضلال، سواء كان هذا الولد ذكرا أم أنثى.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. «وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».
ثم إنهم ليقولون- إفكا وبهتانا- إن مواليد الله إناث، وليسوا ذكورا..
- «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟» فما لكم إذن لا ترضون بأن يولد لكم الإناث؟..
- «ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» أهذا حكم يستقيم حتى مع منطقكم أنتم؟ «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ؟ أفلا تصححون هذا التناقض الذي وقعتم فيه، أيها المستفتون؟..
قوله تعالى:
«أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».
وإذا لم تكن لكم عقول تعقل، وتقيم لكم على هذا الذي تقولونه حجة- فهل معكم بهذا «سلطان مبين» أي كتاب من عند الله ينطق بهذا؟
«فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ»
هذا «إن كنتم صادقين» !.
قوله تعالى:
«وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ»..
أي ومن مفترياتهم على الله سبحانه، أن جعلوا بينه- سبحانه- وبين «الجنّة» أي العالم الخفي، غير المنظور لهم، وهو عالم الملائكة والجن- جعلوا بين الله وبين هذه المخلوقات الخفية، نسبا وقرابة، حيث نسبوا إليه
1037
- سبحانه- الولد، والولد لا يكون إلا من زواج، ولا يكون زواج إلا بين متناسبين، متقاربين فى الصورة، والطبيعة..
وهذا العالم الخفي، الذي يرهبه المشركون، ويتخذون منه أربابا يعبدونها من دون الله، لاعتقادهم- الفاسد- أن بينهم وبين الله قرابة ونسبا- هذا العالم يعلمون أنهم محضرون بين يدى الله، ومحاسبون على ما كان منهم..
إنهم خلق الله، ولن يخرجوا عن سلطان الله.. فسبحان الله، وتنزيها له عما يصفه به هؤلاء المشركون، ذلك الوصف الذي يسوون فيه بين الخالق والمخلوق!..
والمراد بالجنة هنا، هم الشياطين.. وإحضارهم، هو للحساب، والجزاء..
وقوله تعالى: «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» هو استثناء من قوله تعالى:
«لَمُحْضَرُونَ»..
أي أن هذا العالم الخفي، يعلم أنه معبود لله، وأنه محاسب بين يديه، وأنهم سيلقون العذاب الأليم، إلا عباد الله المخلصين منهم، وهم الملائكة..
فإنهم- وإن كانوا من الجنة، أي العالم الخفي- عباد مخلصون، أي ممحّضون للخير، مفطورون على الطاعة، لا يقع منهم مالا يرضاه الخالق، جلّ وعلا..
والجنة: جمع جن.. وهم المخلوقات غير المنظورة من ملائكة، وجن..
وأصله من الخفاء وعدم الظهور، ومنه الجنبن، الذي فى رحم الأم، ومنه الجنون، لأنه يستر العقل ويغطى عليه، ومنه المجنّ، وهو الترس، الذي يستر به المحارب مواطن القتل منه، عن عدوه..
1038
قوله تعالى:
«فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ»..
الخطاب هنا للمشركين، الذين عبدوا القوى الخفية، من ملائكة وجنّ والفاتن: من يجىء بالفتنة، ليخدع بها غيره، ويغرر من يستجيب له..
وفى الآية الكريمة، استخفاف بشأن المشركين، وبما يعبدون من شياطين، فإنهم وما يعبدون، لا يملكون من أمر الله شيئا، وإنهم لا يستطيعون أن يفتنوا أحدا من عباد الله، إلا من كان من أهل الضلال، ومن سبقت إرادة الله فيه أنه من أصحاب الجحيم.. كما يقول الله تعالى لإبليس- لعنه الله:
«إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» (٤٢: الحجر).
والصّالى: المصطلى بالنار، المستدفئ بها، والصّالون للجحيم، هم المعذبون بالنار..
قوله تعالى:
«وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ»..
هذا هو لسان حال الملائكة، تتردد أصدؤه من الملأ الأعلى، ليملأ أسماع العالمين، مؤمنهم وكافرهم جميعا.
إن كل ملك منهم، له مكانه الذي أقامه لله فيه، وله منزلته بين إخوانه.
1039
فهم ليسوا على درجة واحدة، بل هم- فى منازل الكرامة والإحسان- درجات عند الله، كما أن الناس درجات، فلا يستوى المؤمنون والكافرون، ولا يستوى مؤمن ومؤمن، ولا كافر وكافر.. فلكلّ مكانه، ولكل درجته، وليس لأحد منهم أن ينتقل من حال إلى حال، أو يتحول من مكان إلى مكان.. بل هو أبدا، حيث أقامه الله سبحانه..
وفى قولهم: «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» - إشارة إلى أن الملائكة- وهم فى هذه المنزلة العالية عند ربهم- هم «الصافون» أي القائمون صفوفا يعبدون الله، وهم «المسبحون» بحمده.. كما يقول سبحانه فيهم: «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» (٢٠: الأنبياء).. فكيف يعبد من يعبد؟ أفليس معبوده أولى بالعبادة منه؟..
قوله تعالى:
«وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ»..
هو حكاية لمقولة من مقولات المشركين، كانوا يرددونها قبل مبعث لنبى إليهم.. إنهم كانوا يتمنون أن يكون عندهم ذكر من الأولين.. أي كتاب من عند الله، تلقاه آباؤهم من قبلهم، ويتلقونه هم عن آبائهم، كما كان ذلك شأن أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، الذين يعيشون بينهم..
إنه لو كان لهم ذلك لكانوا- كما يدّعون- من عباد الله القائمين على طريق الحق، الذين لا يدخل عليهم شىء من الباطل والضلال..
و «إن» هنا هى المخففة من الثقيلة «إنّ».. واسمها ضمير محذوف، أي إنهم.. وخبرها جملة «كانُوا لَيَقُولُونَ»..
1040
قوله تعالى:
«فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».
معطوف على محذوف، تقديره، ولقد جاءهم الذكر، الذي كانوا يتمنونه، فكفروا به..
وقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» - تهديد لهم، ووعيد.. إنهم جهلوا أو تجاهلوا ما يجر عليهم موقفهم هذا الذي يقفونه من الذكر الذي جاءهم، وسوف يجىء اليوم الذي يعلمون فيه ما جهلوا أو تجاهلوا، ولن يكون حينئذ بين أيديهم إلا الحسرة والندم..
الآيات: (١٧١- ١٨٢) [سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧١ الى ١٨٢]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ».
1041
فى هذه الآيات تهديد للكافرين، وإنذار لهم بهذا الوعد الكريم، الذي وعد الله به رسله بالنصر والغلب..
فهذا الصراع الدائر بينهم وبين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- سينتهى آخر الأمر بنصر الله للنبى وللمؤمنين معه، على هؤلاء المشركين..
فتلك سنة الله فيما بين الرسل وأقوامهم.. وكلمة الله التي سبقت، هى ما أشار إليه سبحانه فى قوله: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (٢١: المجادلة).
وفى قوله تعالى: َ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ»
- إشارة إلى أن المؤمنين هم جند الله، وان الله لن يتخلّى عن جنده الذين يقاتلون فى سبيله، ويدافعون عن دينه، وما نزل من الحق..
قوله تعالى:
«فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ».
هو دعوة إلى النبي من ربه سبحانه، أن يدع هؤلاء المشركين وما هم فيه من شرك، وذلك إلى وقت قريب، سيلقاهم فيه، وسيرون تحقيق هذا الوعد الذي وعد الله رسله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله..
وفى قوله تعالى: «وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» وعيد للمشركين بما ينتظرهم من مصير مشئوم، يرونه بأعينهم فيما يصابون به فى أنفسهم، يوم يلتقى الجمعان، يوم بدر..
وفي حذف المفعول فى «يبصرون» إشارة إلى أن هذا الذي سيبصرونه، هو مما سيطلع عليهم من عالم الغيب، من حيث لا يقدّرون، ولا يتوقعون..
1042
قوله تعالى:
«أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ» ؟.
هو تهديد للمشركين، ووعيد لهم على شركهم، وعلى استخفافهم بوعيد الله، وتكذيبهم له.. ولهذا فهم يتحدّون النبي بأن يأتيهم بهذا العذاب، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (٣٢: الأنفال).
قوله تعالى:
«فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ».
أي أن هذا العذاب الذي يستخفون به، ويطلبون- متحدّين- تعجيله لهم- هذا العذاب إذا نزل بهم فيالسوء حالهم وما يلقون منه..
وفى إسناد السوء إلى صباحهم، لا إليهم، إشارة إلى أنه صباح مشئوم، يطلع عليهم بالمساءات كلها، لأنه كلّه صباح سوء بالإضافة إليهم..
وفى توقيت العذاب بالصباح، إشارة أخرى إلى أن العذاب الذي سينزل بهم، هو صباح يوم من أيام السوء عليهم، وهذا ما كان فى صباح يوم بدر..
ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.
قوله تعالى:
«وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ».
دعوة أخرى إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، بعد أن يرى بعينيه فى هذه الدنيا هزيمة المشركين- أن يتولى عنهم إلى يوم الدين.. فمن
1043
آمن منهم، فقد نجا، ومن أمسك بالشرك الذي انعقد عليه قلبه، فهو فى الخاسرين..
وقوله تعالى: «وَأَبْصِرْ» أي انظر ماذا يلقون فى هذا اليوم، يوم القيامة، «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» هم هذا المصير الذي سيصبرون إليه.
قوله تعالى:
«سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»..
بهذه الآيات الثلاث تختم السورة،. وبهذا التنزيه لله عن الشريك والولد، والتسبيح بحمده، والتمجيد لعزته، والسلام على رسله، والحمد لله على ما أفاض على الناس من نعم، وما بعث فيهم من رسل- بهذا كله تعمر القلوب، وتلهج الألسنة..
1044
٣٨- سورة ص
نزولها: مكية عدد آياتها: ثمان وثمانون آية.
عدد كلماتها: سبعمائة واثنتان وثلاثون.. كلمة عدد حروفها: ثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كان من الآيات التي ختمت بها سورة الصافات قوله تعالى عن المشركين:
«وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» - وكان بدء سورة ص ردّا على هؤلاء المشركين، وعلى ادعائهم هذا.. فهذا هو القرآن ذو الذكر قد جاءهم..
فماذا كان منهم؟ لقد كذبوا به، «وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» !!.
كذلك كان مما ختمت به السورة السابقة قوله تعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ».
فجاء فى هذه السورة- سورة ص- «جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ» - جاء إخبارا بالغيب، بما سيحل بهؤلاء المشركين، وبما ينزل بهم من هزيمة هم وما يجمعون من جنود الباطل لحرب النبىّ..
وهكذا يصفح ختام سورة الصافات، بدء سورة (ص) مصافحة لقاء، لا سلام مودّع.
1045
Icon