ﰡ
ويقال لها سورة الغرف مكية، إلّا آيتين نزلتا بالمدينة إحداهما: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ والأخرى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية، خمس وسبعون آية، ألف ومائة واثنتان وتسعون كلمة، أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)، أي هذه السورة تنزيل الكتاب من الله إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي ملتبسا بكل ما فيه حق لا ريب فيه موجب للعمل به حتما، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢)، أي فاعبده تعالى ممحضا له الدين من شوائب الشرك والرياء.
وقرأ ابن أبي عبلة برفع الدين على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي ألا هو الذي يجب أن يخص بإخلاص الطاعة له لأنه المنفرد بصفات الألوهية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى، والموصول مبتدأ وهو عبارة عن المشركين وخبره محذوف، والوقف على «زلفى» كاف، كما قاله أبو عمرو. وقيل: تام أي والمشركون الذي عبدوا من غير الله أربابا ملائكة وعيسى وعزيرا، والأصنام، والشمس، والقمر، والنجوم يقولون: ما نعبدهم إلّا ليقربونا إلى الله في المنزلة، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
وقرئ «ما نعبدكم إلّا لتقربونا» حكاية لما خاطبوا له آلهتهم، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي لا يوفق للاهتداء إلى الحق مَنْ هُوَ كاذِبٌ في وصفهم لغير الله بأنهم آلهة مستحقة للعبادة كَفَّارٌ (٣) لاعتقادهم في غير الله بالإلهية ولكفرانهم نعمة المنعم، وهو الله تعالى فإن العبادة نهاية التعظيم، وهي لا تليق إلّا بمن يصدر عنه غاية الإنعام لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً من الملائكة والآدميين كما قالت اليهود والنصارى، وبنو مليح لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ إذ كل موجود سواه مخلوق له، لكن اتخاذ الولد من خلقه باطل لاستحالة كون المخلوق من جنس الخالق، ولأن كونه منه يستلزم حدوث الخالق، وهو ممتنع عقلا ونقلا سُبْحانَهُ أي تنزيها له عن اتخاذ الولد هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)، أي إن كون الله إلها واجب الوجود لذاته يوجب
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر، وعاصم، وحمزة بضم الهاء مختلسة.
وقرأ أبو عمرو وحمزة في بعض الروايات ساكنة الهاء للتخفيف. وقرأ نافع في بعض الروايات وابن عامر والكسائي، وابن ذكوان، والدوري مضمومة الهاء مشبعة. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى، فكل مأخوذ بذنبه. وهذا بيان
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
«١». وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ، أي الكافر كعتبة بن ربيعة وأبي جهل ضُرٌّ في جسمه، أو ماله، أو أهله، أو ولده دَعا رَبَّهُ أي استجار به مُنِيباً إِلَيْهِ أي مقبلا إليه بالنداء في إزالة ذلك الضر، ولم يؤمل فيه سواه، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي أعطاه نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، أي ترك دعاء ربه الذي يتضرع إليه من قبل إعطاء النعمة، كأنه لم يفزع إليه ونسي أن لا إله سواه، فعاد إلى اتخاذ الشركاء مع الله تعالى كما قال تعالى: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً أي أعدالا في العبادة لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بعد لام العاقبة، أي ليثبت على الضلال عن دين الإسلام والباقون بضمها أي ليضل غيره عنه. قُلْ للكافر: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أي عش في كفرك في هذه الدنيا بقية عمرك وهذا الأمر زجر عن الكفر وتعريف لقلة تمتعه في الدنيا. إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أي من المعذبين في النار على الدوام، وفي هذا إقناط للكافر من النجاة أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ.
وقرأ نافع وابن كثير وحمزة «أمن» بتخفيف الميم والهمزة «إما» للاستفهام التقريري ومقابله محذوف تقديره «أمن» هو قائم بما يجب عليه من الطاعة في ساعات الليل حالتي السراء والضراء، كمن جعل لله أندادا ودعا عند مساس الضر فقط، أو للنداء، أي يا من هو قائم في ساعات الليل قل: كيت وكيت أنت من أهل الجنة. وقرأ الباقون بتشديد الميم ف «أم» داخلة على «من» الموصولة وهي إما متصلة ومعادلها محذوف تقديره الكافر خير، أم من هو قائم بأداء وظائف العبادات. أو منفصلة تقدر ب «بل» والهمزة، أي بل أمن هو مطيع لله كالكافر المقول له تمتع بكفرك ساجِداً وَقائِماً حال من ضمير قانت.
وقرئ بالرفع على أنه خبر بعد خبر، يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي يخاف عذاب الآخرة وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ، أي جنة ربه فينجو مما يخافه، ويفوز بما يرجوه. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ توحيد الله وأمره ونهيه وهو أبو بكر وأصحابه، وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك- وهو أبو جهل وأصحابه- ويجوز أن يراد هذا سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون
القلوب النيرة. وقيل لبعض العلماء: إنكم تقولون: العلم أفضل من المال، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء، فأجاب بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم، لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه. قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي قل لهم ربكم يقول: أطيعوا ربكم في الصغير والكبير من الأمور لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ، والجار والمجرور إما صلة لأحسنوا والمعنى للذين عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة في الآخرة، وهي الجنة. وإما صلة لحسنة. والمعنى: الذين أحسنوا في هذه الدنيا أمن وصحة وكفاية وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ، أي فإن لم يتمكنوا من صرف الهمم إلى الإحسان في بلادهم فقل لهم: فإن أرض الله واسعة فلتهاجروا من تلك البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالعبادات، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا طاعة إلى طاعتهم، لأنه لا عذر ألبتة للمقصرين في الإحسان إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مفارقة أوطانهم وعشائرهم، واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)، أي بغير نهاية بهنداز ونحوه.
قُلْ يا أشرف الرسل لكفار قريش- حيث قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما حملك على هذا الدين الذي أتيتنا به، ألا أنتظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك، يعبدون اللات والعزى، فتأخذ بها-: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) أي العبادة عن شوائب الشرك والرياء وغير ذلك، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) أي وأمرت بأن أكون أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها، فإني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعا فيه، وأكثرهم مداومة عليه، والعبادة لها ركنان: عمل القلب، وعمل الجوارح. فعمل القلب: هو الإخلاص، وعمل الجوارح: هو الإسلام. وهذا فائدة إتيان الأمر مرتين، ثم بيّن الله أن هذا الأمر للوجوب فقال: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) ومعنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤)، أي لا أعبد أحدا سوى الله. والأول إخبار بأنه صلّى الله عليه وسلّم مأمور من جهة الله تعالى بالإتيان بالعبادة وإخلاص القلب له تعالى. وهذا إخبار بأنه صلّى الله عليه وسلّم أمر أن لا يعبد أحدا غير الله، وإخبار بامتثاله صلّى الله عليه وسلّم بالأمر على أبلغ وجه، فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ أن تعبدوه مِنْ دُونِهِ تعالى. وفي هذا دلالة على شدة الغضب عليهم. قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أي حين يدخلون النار حيث أوقعوهما في هلكة لا هلكة وراءها، أَلا أي تنبهوا لهذه الخسرة العظيمة، ذلِكَ أي الأمر العظيم هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)، فلا خسران وراءه، فكل خسران يصير في مقابلته كلا خسران،
وعن ابن عباس أن المراد من هذا الرجل يجلس مع القوم، ويسمع الحديث في ذلك المجلس محاسن ومساوئ، فيحدث بأحسن ما سمع، ويترك ما سواه.
وقرأ السوسي «عبادي» بياء مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف. والباقون بغير الياء.
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ للصواب ولمحاسن الأمور وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أي هم ذوو العقول السليمة عن منازعة الهوى، أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) أي أفمن ثبت عليه كلمة العذاب أفأنت تهدي من هو منغمس في الضلال بدعائك له إلى الإيمان فتنقذه من النار. وهذا تنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحرص على إيمان قوم، وقد سبقت لهم من الله الشقاوة، فنزلت هذه الآية.
قال ابن عباس: نزلت في حق أبي لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإيمان. لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بأن أطاعوه لَهُمْ غُرَفٌ أي منازل في الجنة رفيعة مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ أي من فوق تلك المنازل منازل أرفع منها مَبْنِيَّةٌ أي قوية كبناء المنازل المبنية على الأرض في الأحكام بخلاف منازل الدنيا، فالفوقاني فضيلته الارتفاع ونقصانه السخافة، والتحتاني فضيلته القوة ونقصانه التسفل. أما منازل الجنة فهي مستجمعة للفضائل، فهي مرتفعة قوية وقوله تعالى: لكِنِ إضراب عن قصة إلى قصة مخالفة للأولى، وليست للاستدراك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تجري من تحت تلك الغرف الفوقانية والتحتانية الأنهار المختلفة من غير تفاوت بين العلو والسفل وَعْدَ اللَّهِ أي وعدهم الله بذلك وعدا، وهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة أن الله لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠) أي وعده للمؤمنين. وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى لم يذكر في آيات الوعيد ألبتة مثل هذا التأكيد، وذلك يدل على أن جانب الوعد من جانب الوعيد. أما قوله تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: ٢٩] ليس تصريحا بجانب الوعيد بل هو كلام
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ؟ أي ألم تعلم أن الله أنزل من السماء مطرا إلى بعض المواضع، ثم يقسمه فيدخله في مجاري في خلال الأرض كالعروق في الأجساد. ويقال:
فيدخل ذلك المطر في خلال الأرض حال كونه مياها نابعة في الأرض، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أي ينبت بالمطر زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي أصنافه من بر وشعير وسمسم وغيرها، وصفاته من طعوم وألوان خضرة، وحمرة، وصفرة، وبياض وغير ذلك. ثُمَّ يَهِيجُ أي يتم جفافه فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد خضرته.
وقرئ مصفارا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي منكسرة إِنَّ فِي ذلِكَ أي المذكور من الأفعال الخمسة لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)، أي لتذكيرا عظيما لأصحاب العقول الصافية يتذكرون بذلك أن حال الحياة الدنيا في سرعة الانصرام كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام، فلا يغترون ببهجتها، ويجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء وإجرائه في عيون الأرض قادر على إجراء الأنهار من تحت الغرف في الجنة، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ! أي أكل الناس سواء فمن جعله مستعدا للإسلام فهو على هداية من ربه ف «من» شرطية وخبرها ما بعدها. وقيل: اسم موصول مبتدأ خبره محذوف والتقدير: أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى فهو على لطف إلهي فائض عليه كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته! فَوَيْلٌ، أي عذاب وخسران لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أي من أجل ذكر الله، فإذا سمعوه نفروا وازدادوا قسوة، ولما نزل قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: ١٢]
وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب وإنسان آخر، فلما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قوله تعالى:
ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: ١٤] قال كل واحد من القوم فتبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب فهكذا أنزلت» «١». فازداد عمر إيمانا على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفرا على كفر.
وقرئ «عن ذكر الله»، أي عن قبول ذكر الله أُولئِكَ أي الذين قست قلوبهم فِي ضَلالٍ أي بعد عن الحق مُبِينٍ (٢٢)، أي ظاهر كونه ضلالا لكل أحد قيل: نزلت هذه الآية في حمزة وعلي رضي الله عنهما، وأبي لهب وولده. وقيل: في عمار بن ياسر، وأبي جهل وأصحابه. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ بحسب لفظه لفصاحته وجزالته وبحسب معناه لاشتماله
وقرأ ابن كثير بإثبات الياء في الوقف. أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) ! والهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء عاطفة على جملة مقدر، و «من» اسم موصول مبتدأ وخبره محذوف. وقيل: معطوف على «يتقي». وتقدير الكلام: أكل الناس سواء فمن يجعل وجهه قائما مقام الدرقة يقي به وجهه العذاب الشديد يوم القيامة وتقول لهم خزنة النار: ذوقوا عذاب ما كنتم تكسبونه في الدنيا، كمن هو آمن من العذاب! قيل: يلقى الكافر في النار مغلوبة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشتعل النار فيها وهي في عنقه فحرها على وجهه لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه. قيل: نزلت هذه الآية في حق أبي جهل وأصحابه. كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل قومك من الأمم السالفة، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ المقدر لكل أمة منهم مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥)، أي من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أي الذل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، أي فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أعظم من ذلك الذي وقع، لَوْ كانُوا
(٢٦) عذاب الآخرة ما كذبوا رسلهم، ولكن لا علم لهم أصلا، وَلَقَدْ ضَرَبْنا بيّنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي وجه يحتاج إليه الناظر في أمور دينه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧)، أي كي يتعظوا به قُرْآناً عَرَبِيًّا، أي أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي بريئا عن التناقض.
وقيل: أي غير مخالف لسائر الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور بالتوحيد. وقال السدي:
أي غير مخلوق. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) أي لكي يتقوا بالقرآن عما نهاهم الله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا ف «مثلا». مفعول ثان ل «ضرب» و «رجلا» مفعوله الأول. فِيهِ شُرَكاءُ أي سادات مُتَشاكِسُونَ أي متخالفون، سيئة أخلاقهم وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ، أي ورجلا خالصا لسيد واحد.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو «سالما» بالألف وكسر اللام. والباقون بفتح السين واللام بغير الألف.
وقرئ «سلما» بفتح السين وكسرها مع سكون اللام. وقرئ «ورجل سالم» بالرفع على الابتداء، أي وهناك رجل سالم لرجل هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي صفة، أي هل يستوي حالاهما وصفتاهما. والمعنى اضرب يا أشرف الرسل لقومك مثلا وقل: ما تقولون في رجل مملوك قد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع، فكل واحد منهم يدّعي أنه عبده، فهم يتجاذبون في حوائجهم، وهو متحيّر في أمره، فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون، وإذا احتاج في مهم إليهم، فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فهو يبقى متحيرا لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه، وأيهم يعينه في حاجاته فهو بهذا السبب يلقى منهم التعب العظيم، وفي رجل آخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك السيد يعينه على حاجاته، فإن أطاعه عرف له وإن أخطأ صفح عن خطأه فأيّ هذين العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا، وأقل تعبا وهذا مثل ضربه الله الكافر الذي يعبد آلهة شتى، والمؤمن الذي يعبد الله وحده. الْحَمْدُ لِلَّهِ أي لما بطل القول بإثبات الشركاء وثبت أنه لا إله إلّا الله الواحد الأحد ثبت أن الحمد له لا لغيره، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) أن الحمد له تعالى لا لغيره وأن المستحق للعبادة هو الله لا غيره، ويقال: لا يعلمون أمثال القرآن إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ أي كفار مكة مَيِّتُونَ (٣٠) أي إنك وإياهم، وإن كنتم أحياء في أعداد الموتى
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) أي تتكلمون أنتم ورؤساء الكفار بالحجة. والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا، فلا تبال يا أشرف الرسل بهذا، فإنك ستموت وهم سيموتون أيضا، ثم تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى، والعادل الحق يحكم بينكم، فيوصل إلى كل واحد ما هو حقه وحينئذ يتميز الحق من الباطل، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أي لا أحد أظلم ممن أثبتوا لله ولدا.
وقيل: المراد من الموصول كل من جاء بالصدق، وهم الأنبياء والذي صدق به الأتباع، ويؤيد هذا القول قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، والذي جاءوا بالصدق وصدقوا به.
وقرئ «وصدق به» بتخفيف الدال، أي صدق الرسول بذلك الصدق الذي هو بمعنى القرآن الناس، ولم يكذبهم بأن أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف.
وقيل: صار الرسول صادقا بسبب الصدق الذي هو القرآن، لأنه معجزة، وهي تصديق من الله تعالى، فيصير المدعي للرسالة صادقا بسبب تلك المعجزة.
وقرئ وصدق به على البناء للمفعول، أي صدق الرسول بالقرآن، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي لهم كل ما يشاءونه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاءونه من تكفير السيئات والأمن من الفزع الأكبر، وسائر أهوال القيامة، إنما يقع قبل دخول الجنة، ذلِكَ أي حصول ما يشاءونه جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) أي الذين أحسنوا أعمالهم لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا أي أقبح أعمالهم دفعا لمضارهم وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أي بإحسانهم، إعطاء لمنافعهم. والمراد أنهم إذا صدقوا الأنبياء عليهم السلام فيما أتوا فإن الله يكفر عنهم أسوأ أعمالهم- وهو الكفر السابق على ذلك الإيمان- ويوصل إليهم أحسن أنواع الثواب. وقوله تعالى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ بمتعلق بقوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ، باعتبار فحواه حيث كان إخبارا بما سيثبت لهم فيما سيأتي، وهو في معنى الوعد كأنه قيل وعدهم الله جميع ما يشاءونه من زوال المضار وحصول المسار، ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا إلخ. أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم- كما قال السدي- ويقال: هو خالد بن الوليد مما يريدون به.
وقرأ حمزة والكسائي «عباده»، وهم الأنبياء عليهم السلام، فإن قومهم قصدوهم بسوء لقوله تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ [غافر: ٥] ودخول همزة الإنكار على
كلمة النفي تفيد معنى إثبات الكفاية، أي هو كاف عبده وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ تعالى، وهم اللات والعزى ومناة أي إن قريشا يقولون لك: يا محمد لا تشتمها ولا تعبها فتخبلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقرأ أبو عمرو بتنوين «كاشفات» و «ممسكات» ونصب «ضره» و «رحمته». وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما سألهم قالوا: لا، أي لا تكشف ولا تمسك فنزل قوله تعالى: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨). أي قل لهم: إذا كان الأمر كذلك كانت عبادة الله كافية، وكان الاعتماد عليه كافيا، فثقتي في جميع أموري من إصابة الخير، ودفع الشر بالله تعالى، وبه تعالى يثق الواثقون لا على غيره أصلا، لعلمهم بأن كل ما سواه تعالى تحت ملكوته تعالى. قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على حالتكم، وهي الكفر والعناد.
وقرأ شعبة «مكاناتكم» بالجمع. وهو مروي عن عاصم أيضا إِنِّي عامِلٌ على حالتي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي يهلكه في الدنيا وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)، أي ومن ينزل عليه عذاب دائم هو عذاب النار، و «من» موصولة مفعول «تعلمون»، والأمر للتهديد أي أنتم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة، فاجتهدوا في أنواع كيدكم، فإني عامل في تقرير ديني، فسوف تعلمون أن الخزي في الدنيا بالجوع والسيف، والعذاب الدائم في الآخرة يصيبني أو يصيبكم.
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ أي لنفع الناس ولاهتدائهم به، بِالْحَقِّ أي مقرونا بالحق، وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله، فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أي فمن عمل بما فيه فنفعه يعود إلى نفسه، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي ومن لم يعمل بما فيه فضير ضلاله يعود إلى نفسه، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) أي إنك لست مأمورا بأن تجبرهم على الإيمان والهدى، وما وظيفتك إلّا البلاغ، فالهداية والضلال لا يحصلان إلّا من الله تعالى، ومن عرف هذه الحقيقة فقد عرف سر الله في القدر ومن عرف سر الله في القدر هانت
وقرأ حمزة والكسائي «قضى» على البناء للمفعول ورفع الموت، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي يزيل الحابس عن النائمة، فتعود عند التيقظ كما كانت إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت النفخة الثانية في الممسوكة، ووقت الموت في المرسلة، فالجار والمجرور متعلق بكل من «يمسك» و «يرسل».
قال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
وقال علي رضي الله عنه: فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها فهي الرؤيا الكاذبة، لأنها من إلقاء الشيطان. إِنَّ فِي ذلِكَ أي التوفي على الوجهين والإمساك في أحدهما والإرسال في الآخر لَآياتٍ عجيبة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته، لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) في كيفية تعلق الأرواح بالأبدان، وقبضها عنها تارة بالكلية كما عند الموت، وحبسها عن التصرف تارة أخرى كما عند النوم، وإزالة حبسها عنه حينا بعد حين إلى انقضاء آجالها، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أي إن الكفار قالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله تعالى، فأجاب الله تعالى بقوله: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ تشفع لهم عنده تعالى قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) أي قل لهم أيشفعون في حال كونهم لا يملكون شيئا من الأشياء، وفي حال كونهم لا يعقلونه؟ قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي أن هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا في تلك الشفاعة من هذه الأصنام، أو من أولئك العلماء الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لهم، فهذه الأصنام لا تملك شيئا ولا تعقله، فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها ولا يملك أحد من العلماء وغيرهم شيئا؟ ولا يقدر أحد على الشفاعة إلّا بإذن الله؟! فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله لأنه الذي يأذن في الشفاعة، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له ملكها، وما فيهما من المخلوقات، لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه تعالى ورضاه، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) يوم القيامة فيفعل يومئذ ما يريد وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ
وعن أبي سلمة قال: سألت عائشة رضي الله عنها بم كان يفتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته بالليل؟ قالت: كان يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»
«١».
أي فما دفع عنهم ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا، ويجمعون منه شيئا من عذاب الله،
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي بل أصابهم جزاء أعمالهم من العذاب، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا بالعتو مِنْ هؤُلاءِ أي من مشركي قومك سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي عقوبات ما عملوا كما أصاب الأمم، وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أي هم لا يعجزونني في الدنيا
فلا السعد يقضي به المشتري... ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السما... وقاضي القضاة تعالى وجل
إِنَّ فِي ذلِكَ أي البسط والتضييق لَآياتٍ دالة على أن الحوادث كلها من الله تعالى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) إذ هم المستدلون بها على مدلولاتها. قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، أي أفرطوا في الجناية عليها بالمعاصي.
وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي بسكون الياء وسقوطها في الوصل. والباقون بفتحها وكلهم يقفون بإثبات الياء إلا في بعض روايات أبي بكر عن عاصم، فإنه يقف بغير ياء. لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لا تيأسوا من مغفرة الله وتفضله، أي واقلعوا عن ذنوبكم فإنها قاطعة عن الخير مبعدة عن الكمال، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، أي بالتوبة إذا صحت توبته، ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فيه، فإن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه، ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته. فالتوبة واجبة في كل واحد وخوف العقاب قائم. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) لمن تاب من الكفر وآمن بالله.
قيل: إن هذه الآية نزلت في أهل مكة فإنهم قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا فكيف نسلم؟ وعن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نرى ليس شيء من حسناتنا إلّا وهي مقبولة حتى نزلت: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ [محمد: ٣٣] فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقيل لنا:
الكبائر والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب منها شيئا خفنا عليه، ومن لم يصب منها شيئا رجونا له. فأنزل الله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ، أي أقبلوا إلى ربكم بالتوبة من الكفر، وَأَسْلِمُوا لَهُ أي أطيعوا الله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ إن لم تتوبوا، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) أي لا تمنعون من عذاب الله- نزلت هذه الآية في وحشي وأصحابه- وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن لقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً.
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه تعالى كاتخاذه تعالى الولد. وكقولهم: إن الله تعالى حرم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وبأن وصفوا الأصنام بالآلهة. وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ سوادا مخالفا لسائر أنواع السواد وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) ؟ أي منزل للمتكبرين عن الإيمان والطاعة.
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ.
وقرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «بمفازاتهم» بالجمع، أي ينجي الله الذين بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه تعالى من منزل المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم الذي هو الجنة، فكما وقاهم الله في الدنيا من المخالفات حماهم في الآخرة من العقوبات، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي العذاب، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) على فائت، لأنه لا يفوت لهم شيء أصلا.
وقيل: المعنى أن النجاة في القيامة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات، ثم فسرت تلك النجاة بقوله تعالى: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ إلخ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خير وشر وإيمان وكفر بمباشرة الكاسب لأسبابها، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) أي إن الأشياء كلها موكولة إليه تعالى، فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير منازع ولا مشارك، فيتولى التصرف فيها كيفما يشاء لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أي له تعالى مفاتيحها لا يتمكن من التصرف فيها غيره.
وقيل: سأل عثمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تفسير قوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال: «يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلّا الله، والله أكبر، سبحان الله، وبحمده، أستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده
«١». والمعنى أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد بيده وهي مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلم بها من المتقين أصابه. وقال قتادة ومقاتل: له مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة. وقال الكلبي: له خزائن المطر والنبات. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي الناطقة بكونه تعالى خالقا للأشياء كلها وكونه مالكا مقاليد السموات والأرض بأسرها، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) خسرانا لا خسار وراءه.
قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة- حيث قالوا له: أسلم ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك-: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) ؟! أي بعد مشاهدة الآيات الدالة على انفراده تعالى أعبد غيره تعالى بأمركم. و «غير الله» منصوب ب «أعبد»، و «تأمروني» اعتراض. وقيل: «أن أعبد» معمول ل «تأمروني» على إضمار «أن» المصدرية، فلما حذفت بطل عملها وجاز تقديم معمول صلة «أن» على الموصول ب «أن» المحذوفة، والأصل: أتأمروني بأن أعبد غير الله ويؤيد هذا القول قراءة «أعبد» بالنصب. وقرأ نافع «تأمروني» بنون واحدة مخففة مع فتح الياء، وهي نون الرفع كسرت للمناسبة. وابن كثير بنون مشددة وفتح الياء وابن عامر بنونين ساكنة الياء والباقون بنون واحدة مشددة وسكون الياء. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ من الرسل عليهم السلام: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥). وهذه قضية شرطية، والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزأيها كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢]، ولم يلزم من هذا صدق أن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ. وهذا رد لما أمروه صلّى الله عليه وسلّم به من الإسلام ببعض آلهتهم كأنه صلّى الله عليه وسلّم قال: إنكم تأمرونني بأن لا أعبد إلّا غير الله، وكأنه
تعالى قال: فلا تعبد إلّا الله. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) لله على ما هداك إلى أنه لا يجوز إلّا عبادة الإله القادر العليم الحكيم، وعلى ما أرشدك إلى أنه يجب الإعراض عن عبادة كل ما سوى الله تعالى، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي وما عظموا الله حق تعظيمه، أي تعظيما لائقا به تعالى بل أنزلوه عن قدره ومنزلته، إذ زعموا أن له شركاء، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى. والحال أن الأرض جميعا مقدورته تعالى يوم القيامة والسموات مطويات بقدرته تعالى، أو ما عرفوا الله حق معرفته حيث وصفوه بما لا يليق بشئونه الجليلة، حيث قالوا: يد الله مغلولة. وقالوا: إن الله فقير يطلب منا القرض إلخ، ومقصود هذه الآية إشارة إلى أن المتولي لإبقاء السموات والأرض في هذه الدار هو المتولي لتخريبهما يوم القيامة، وذلك يدل على قدرته التامة على الإيجاد والإعدام، فإذا حاول تخريب الأرض يزيلها، فكأنه يقبض قبضة صغيرة ويريد إفناءها، وذلك يدل على كمال الاستغناء.
قال كعب الأحبار: هم اثنا عشر جبريل وميكائيل وإسرافيل، وملك الموت، وحملة العرش، وهم ثمانية. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أي الصور بعد أربعين سنة نفخة أُخْرى - وهي نفخة البعث- تمطر السماء كنطف الرجال، فَإِذا هُمْ قِيامٌ من قبورهم يَنْظُرُونَ (٦٨)، أي يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين، و «ينظرون» حال من ضمير «قيام» وقرئ «قياما» بالنصب على الحال من ضمير «ينظرون»، فهو حينئذ خبر المبتدأ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي وأضاءت الأرض الجديدة التي يوجدها الله في ذلك الوقت لتحشر الناس فيها بعدل ربها، وَوُضِعَ الْكِتابُ أي صحائف الأعمال وهي ديوان الحفظة في أيدي العمال، وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ، أي الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن الملائكة الحفظة، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين العباد بِالْحَقِّ أي بالعدل، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ، أي وفيت كل نفس برة وفاجرة جزاء ما عملته من خير وشر، وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) ولا حاجة به تعالى إلى كتاب ولا إلى شاهد ومع ذلك تشهد الكتب والشهود إلزاما للحجة.
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ بالعنف والدفع، زُمَراً أي أفواجا متفرقة بعضها عقب بعض على حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة، حَتَّى إِذا جاؤُها أي جهنم فُتِحَتْ أَبْوابُها أي طرقها لهم ولم تكن قبل ذلك مفتوحة، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها- وهم الزبانية- تقريعا وتوبيخا: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم؟ وقرئ «نذر منكم» ؟ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ من القرآن وغيره، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، أي لقاء وقتكم هذا هو وقت دخولهم النار؟ قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) أي بلى قد أتونا وتلوا علينا وأنذرونا، ولكن ثبتت علينا كلمة العذاب، ومن وجبت عليه كلمة العذاب فكيف يمكنه الخلاص من العذاب؟ قِيلَ ادْخُلُوا أي ثم إن الملائكة إذا سمعوا منهم هذا الكلام قالوا لهم: ادخلوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي مقدرا خلودكم فيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) أي على الأنبياء جهنم، أي أنهم دخلوا النار، لأنهم تعظموا عن الإيمان بالرسل ولم يقبلوا قولهم، ولم يلتفتوا إلى دلائلهم. وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ مساق إعزاز وتشريف للإسراع بهم إلى دار الكرامة، ولأن بعضهم قالوا: لا ندخلها حتى يدخلها
الحمد لله رب العالمين على قضائه بيننا بالحق، وهم ما حمدوه تعالى لأجل ذلك القضاء بل حمدوه تعالى بصفته تعالى الواجبة له، وهي كونه تعالى ربا للعالمين، فإن من حمد المنعم لأجل أن إنعامه وصل إليه فهو في الحقيقة ما حمد المنعم، وإنما حمد الإنعام ويقال: إن هذا من بقية شرح ثواب المؤمنين فيقال: في التقرير كما أن حرفة المتقين في الجنة الاشتغال بهذا التحميد والتمجيد، فكذلك حرفة الملائكة الاشتغال بالتحميد والتسبيح، ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة، فالمؤمنون والملائكة يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله وتمجيده وتسبيحه، فكان ذلك سببا لمزيد التذاذهم. وقال تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين البشر بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي إنهم يقدمون التسبيح، فالتسبيح عبارة عن إقرارهم بتنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به وهو صفات الجلال والتحميد عبارة عن إقرارهم بكونه تعالى موصوفا بصفات الإكرام، ثم إن الله تعالى لم يبين ذلك القائل. والمقصود من هذا الإبهام التنبيه على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة ذي الجلال والكبرياء ليس إلّا أن يقولوا الحمد لله رب العالمين.