تفسير سورة الجاثية

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ مِنَ ٱللَّهِ ﴾ (خبره) أي متعلق بمحذوف تقديره كائن. قوله: ﴿ ١٦٤٩; لْعَزِيزِ ﴾ (في ملكه) أي الغالب على أمره. قوله: ﴿ ٱلْحَكِيمِ ﴾ (في صنعه) أي الذي يضع الشيء في محله، فاقتضت حكمته تعالى أنزال أشرف الكتب وهو القرآن، على أشرف العبيد وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ إلخ، ذكر الله سبحانه وتعالى هنا من الدلائل ستة في ثلاثة فواصل، وختم الأولى بالمؤمنين، والثانية بيوقنون، والثالثة بيعقلون، ووجه التغاير، أن الإنسان إذا تأمل في السماوات والأرض، وأنه لا بد لهما من صانع آمن، وإذا نظر في خلق نفسه ونحوها ازداد يقيناً، وإذا نظر في سائر الحوادث، كمل عقله واستحكم علمه. قوله: (أي في خلقهما) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، يدل عليه التصريح به في سورة البقرة في قوله:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[البقرة: ١٦٤] وما في سورة آل عمران﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[آل عمران: ١٩٠].
قوله: ﴿ لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ بالنصب بالكسرة باتفاق القراء، لأنه اسم إن، وأما ما يأتي في قوله: ﴿ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ و ﴿ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ ففيه قراءتان سبعيتان، الرفع والنصب بالكسرة، فالرفع على أن قوله: ﴿ فِي خَلْقِكُمْ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ أيَٰتٍ ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة ﴿ إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ والنصب على أن ﴿ أيَٰتٍ ﴾ معطوف على آيات الأول، الذي هو اسم ﴿ إِنَّ ﴾ وقوله: ﴿ وَفِي خَلْقِكُمْ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الواقع خبراً لأن، فيه العطف على معمولي عامل واحد، وهو جائز باتفاق. قوله: ﴿ وَ ﴾ (خلق) ﴿ مَا يَبُثُّ ﴾ أشار بذلك إلى أنه معطوف على ﴿ خَلْقِكُمْ ﴾ المجرور بفي على حذف مضاف. قوله: (هي ما يدب) أي يتحرك. قوله: ﴿ وَ ﴾ (في) ﴿ ٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ ﴾ أي يبسها. قوله: (وباردة وحارة) لف ونشر مشوش وترك الصبا والدبور، فالرياح أربع. قوله: ﴿ تَلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ ﴾ مبتدأ وخبر، وجملة ﴿ نَتْلُوهَا ﴾ حال. قوله: (الآيات المذكورة) أي وهي السماوات والأرض وما بعدهما. قوله: (متعلق بنتلو) أي على أنه عامل فيه مع كونه حالاً، والياء للملابسة. قوله: (أي لا يؤمنون) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (كلمة عذاب) أي فيطلق على العذاب، ويطلق على واد في جهنم. قوله: (كذاب) أي كثير الكذب على الله وخلقه. قوله: (كثير الإثم) أي المعاصي. قوله: ﴿ يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ﴾ إما مستأنف أو حال من الضمير في ﴿ أَثِيمٍ ﴾ قوله: ﴿ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ﴾ حال من ﴿ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ﴾.
قوله: ﴿ ثُمَّ يُصِرُّ ﴾ (على كفره) ﴿ ثُمَّ ﴾ للترتيب الرتبي، والمعنى: أن إصراره على الكفر، حاصل بعد تقدير الأدلة المذكورة وسماعه إياها. قوله: ﴿ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ﴾ ﴿ كَأَن ﴾ مخففة على حذف منها ضمير الشأن، والجملة إما مستأنفة أو حال. قوله: ﴿ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ سماه بشارة تهكماً بهم، لأن البشارة هي الخبر السار.
قوله: ﴿ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً ﴾ أي إذا بلغه شيء وعلم أنه من آياتنا اتخذوها هزواً، إلخ، وذلك نحو قوله في الزقوم: إنه الزبد والتمر، وقوله في خزنة جهنم: إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي. قوله: ﴿ ٱتَّخَذَهَا هُزُواً ﴾ أنث الضمير مه أنه عائد على ﴿ شَيْئاً ﴾ وهو مذكر مراعاة لمعناه وهو الآية، ويصح عوده على ﴿ ءَايَٰتِنَا ﴾.
قوله: (أي الأفاكون) جمع باعتبار معنى الأفاكن وراعى أولاً لفظه فأفرد. قوله: (أي أمامهم) أشار بذلك إلى أن الوراء، كما يطلق على الخلف، يطلق على الإمام، كالجون يستعمل في الأبيض والأسود على سبيل الاشتراك. قوله: ﴿ مَّا كَسَبُواْ ﴾ ﴿ مَّا ﴾ إما مصدرية كسبهم، أو موصولة أي الذي كسبوه، وهذان الوجهان يجريان في قوله: ﴿ وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ ﴾ ومقتض عبارة المفسر أنها فيهما موصولة، حيث قال في الأول (من المال والفعال) وقال في الثاني (أي الأصنام). قوله: ﴿ هَـٰذَا هُدًى ﴾ أي لمن أذعن له واتبعه وهم المؤمنون، ووبال وخسران على الكفار، قال تعالى:﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ﴾[الإسراء: ٨٢].
قوله: ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ ﴾ أي حلواً وملحاً، والمعنى: ذلله وسهل لكم السير فيه، بأن جعله أملس الظاهر مستوياً شفافاً، يحمل السفن ولا يمنع الغوص فيه. قوله: (بإذنه) أي إرادته ومشيئتهن ولو شاء لم تجر. قوله: (بالتجارة) أي والحج والغزو، وغير ذلك من المصالح الدينية والدنيوية. قوله: ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي تصرفون النعم في مصارفها. قوله: (وغيره) أي كالملائكة فإنهم مسخرون لأهل الأرض، يدبرون معاشهم، وهذا سر قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ ﴾[الإسراء: ٧٠] الآية. قوله: (تأكيد) أي حال مؤكدة. قوله: (حال) أي من ما، ويصح أن يكون صفة لجميعاً، والمعنى الأول: سخر لكم هذه الأشياء كائنة منه أي مخلوقة له، وعلى الثاني: جميعاً كائناً منه تعالى. قوله: ﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي يتأملون في تلك الآيات.
قوله: ﴿ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ ﴾ إلخ، المراد بالغفر لهمن تحمل أذاهم وعدم مقابلتهم بمثل ما فعلوا، واختلف في هذه الآية، فقيل مدنية، وعليه فسبب نزولها كما قال ابن عباس: أنهم كانوا في غزوة بني المصطلق، نزلوا على بئر يقال له: المريسيع، فأرسل الله بن أبي غلامه يستقي الماء، فأبطأ عليه فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر، قعد على طرف البئر، فما ترك أحدً يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم، وقرب أبي بكر، فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء، إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك، فبلغ ذلك عمر، فاشتمل بسيفه يريد التوجه له، فنزلت هذه الآية، وقيل مكية، وعليه فسبب نزولها كما قال مقاتل: أن رجلاً من بني غفار شتم عمر بمكة، فهم عمر أن يبطش به، فنزلت، أو كما قال السدي: أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، كانوا في أذى كثير من المشركين، قبل أن يؤمروا بالجهاد، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذكره المفسر، فيه إشارة إلى هذا الأخير. قوله: ﴿ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ ﴾ أي لا يتوقعون وقائعه من قولهم أيام العرب، أي وقائعهم، وهذا ما مشى عليه المفسر، وقيل: إن الرجاء باق على معناه الأصلي، والمراد بالأيام مطلق الأوقات، والمعنى لا يؤملون الأوقات التي جعل الله فيها نصر المؤمنين وثوابهم. قوله: (أي اغفروا للكفار) أشار بذلك إلى أن مقول القول محذوف دل عليه قوله: ﴿ يَغْفِرُواْ ﴾ فهو مجزوم لكونه جواب أمر محذوف، والتقدير: قل لهم اغفروا يغفروا. قوله: (وهذا قبل الأمر بجهادهم) أي فهو منسوخ بآية القتال، وهذا على أنها مكية، وأما على أنها مدنية، فالكف عم المنافقين خوف أن يقول المشركون: إن محمداً يقتل أصحابه، حتى جاء الإذن بتمييزهم، وقيل: إنها ليست منسوخة، بل هي محمول على ترك المنازعة، والتجاوز فيما يصدر عنهم من الكلام المؤذي، قوله: ﴿ لِيَجْزِيَ قَوْماً ﴾ علة لما قبله، والقوم هم المؤمنون، وهو ما مشى عليه المفسر، وقيل: الكافرون، وقيل كل منهما، فالتنكير إما للتعظيم، أو التحقير، أو التنويع. قوله: (وفي قراءة بالنون) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (أذاهم) مفعول للغفر الواقع مصدراً. قوله: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ ﴾ جملة مستأنفة لبيان كيفية الجزاء. قوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ إلخ، المقصود من ذلك تسليته له صلى الله عليه وسلم كأنه قال: لا تحزن على كفر قومك، فإننا آتينا بني إسرائيل الكتاب والنعم العظيمة، فلم يشكروا بل أصروا على الكفر. قوله: (التوراة) إنما اقتصر عليها لكونها تغني عن غيرها من كتبهم، ولا يغني غيرها عنها، فإن فيها أحكام شرعهم، وإلا ففي الحقيقة كتب بني إسرائيل: التوراة والإنجيل والزبور. قوله: ﴿ وَٱلْحُكْمَ ﴾ أي الفصل بين الخصوم، وهذه نعم دينية، وقوله: ﴿ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾ نعم دنيوية فلم يشكروا عليها. قوله: (كالمن والسلوى) أي في أيام التيه. قوله: (العقلاء) تقدم ما فيه، وأن الأولى التعبير بالثقلين.
قوله: ﴿ وَآتَيْنَاهُم ﴾ أي بني إسرائيل في التوراة، والمعنى: بينا لهم فيه أمر الشريعة، وأمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم يؤمنون به إن ظهر بينهم، كما أشار له المفسر. قوله: ﴿ ٱخْتَلَفُوۤاْ ﴾ (في بعثته) إلخ، أي وقد كانوا قبل ذلك متفقين، فلما جاءهم العلم والشرع في كتابهم اختلفوا، وكان مقتضاه أن يدوم لهم الاتفاق. قوله: ﴿ يَقْضِي بِيْنَهُمْ ﴾ أي بالمؤاخذة والمجازاة. قوله: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ ﴾ الكاف مفعول أو لجعلنا، و ﴿ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ ﴾ هو المفعول الثاني، والشريعة تطلق على مورد الناس من الماء على المذهب والملة، والمراد هما ما شرعه الله لعباده من الدين، سمي شريعة لأنه يقصد ويلجأ إليه، كما يلجأ إلى الماء من العطش. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلأَمْرِ ﴾ يطلق على مقابل النهي وعلى الشأن، ويصح إرادة كل منهما هنا، والمعنى: ثم جعلناك على طريقة الدين، وهي ملة الإسلام التي كان عليها إبراهيم، ولا شك أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما التغاير في الفروع. قوله: ﴿ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي وهم رؤساء قريش حيث قالوا: ارجع إلى دين آبائك، فإنهم كانوا أفضل منك وأسن. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ ﴾ تعليل لما قبله، وقوله: ﴿ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ عطف على ما قبله من تتمة التعليل. قوله: ﴿ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ أي في الدنيا، والأولى لهم في الآخرة يزيل عنهم العقابز قوله: ﴿ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، لأنهم اتقوا الشرك. قوله: ﴿ هَـٰذَا بَصَائِرُ ﴾ مبتدأ وخبر، وجمع الخبر باعتبار أن المبتدأ مشار به إلى ما تقدم من الآيات، ولا شك أنه جمع. قوله: (معالم) جمع معلم، وهو في الأصل الأثر الذي يستدل به على الطريق، والمراد هنا أن تلك الآيات تبصر الناس في الأحكام وتدلهم عليها. قوله: ﴿ وَهُدًى ﴾ أي من الضلالة. قوله: ﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ أي إحساناً. قوله: ﴿ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ أي يطلبون اليقين، وأما الكفار فهو وبال وخسران عليهم.
قوله: ﴿ أَمْ ﴾ (بمعنى همزة الإنكار) أي فهي منقطعة، تقدر تارة بالهمزة وحدها، أو ببل وحدها، أو بهما معاً، والمراد انكار الحسبان أي الظن، والمعنى: لا ينبغي أن يكون، وإلا فالظن قد وقع بالفعل. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ فاعل حسب، وجملة ﴿ أَن نَّجْعَلَهُمْ ﴾ إلخ سادة مسد المفعولين، والمراد بالاجتراح الاكتساب كما قال المفسر، ومنه الجوارح، قال الكلبي الذين اجترحوا السيئات عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، والذين آمنوا وعملوا الصالحات، علي وحمزة وعبيدة بن الحرث رضي الله عنهم، حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم، وقيل: نزلت في يوم من المشركين قالوا إنهم يعطون في الآخرة خيراً مما اعطاه المؤمن، كما أخبر الله عنهم في قوله:﴿ وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ ﴾[فصلت: ٥٠].
قوله: ﴿ سَوَآءً ﴾ (خبر) أي على قراءة الرفع، وقرأ بعض السبعة بالنصب على الحال. قوله: (والجملة) أي من المبتدأ والخبر. قوله: (بدل من الكاف) أي الداخلة على الموصول. قوله: (أي ليس الأمر كذلك) أشار بذلك إلى أن همزة الإنكار للنفي، وكان المناسب للمفسر تقديم هذا على قوله: ﴿ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ فإنه مرتبط بما قبله، والمعنى: أم حسبوا أن نجعلهم كائنين مثلهم مستوياً، محياهم ومماتهم؟ كلا لا يستوون في شيء منها، فإن هؤلاء في عز الإيمان والطاعة، وشرفهما في المحيا، وفي رحمة الله ورضوانه في الممات، وأولئك في ظل الكفر والمعاصي، وهو أنهما في المحيا، وفي لعنة الله والعذاب المخلد في الممات، ولا يعتبر توسعة العيش في الدنيا، فإنها بحسب القسمة الأزلية، للمؤمن والكافر ولكل دابة. قوله: (أي بئس حكماً) إلخ، مقتضى هذا الحل أن ﴿ مَا ﴾ مميزة، وحينئذ فالفاعل مستتر، وهو ينافي كونها مصدرية، لأنها في تلك الحالة تكون فاعلاً، فالمناسب لجعلها مصدرية أن يقول: ساء الحكم حكمهم. قوله: ﴿ وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ إلخ، من تتمة قوله: ﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ إلخ وهو كالدليل له، كأنه قال: لا يستوي المؤمن والكافر، بدليل أن الله خلق السماوات والأرض بالحق، أي للعبر والاستدلال، ولم يترك العباد سدى، وجازى كل نفس بما كسبت، فلا يستوي جزاء المؤمن بجزاء الكافر. قوله: (متعلق بخلق) أي على أنه حال من الفاعل أو المفعول. قوله: (ليدل على قدرته) إلخ، قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ وَلِتُجْزَىٰ ﴾ عطف على علة محذوفة. قوله: ﴿ وَهُمْ ﴾ أي النفوس المدلول عليها بقوله: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ﴾.
قوله: ﴿ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ أي لا ينقص من ثواب المؤمن، ولا يزاد في العذاب على ما يستحقه الكافر. قوله: (أخبرني) تقدم أن فيه مجازين، حيث أطلق الرؤية وأراد الإخبار، ثم أطلق الاستفهام على الإخبار وأراد الأمر به.
وقوله: ﴿ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ ﴾ إلخ، مفعول أول لرأيت، والمعنى: ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى، فكأنه يعبده. قوله: (من حجر) أي وغيره كالشمس والقمر من كل معبود غير الله، عاقلاً أو غير عاقل، فالكفر هو العبادة، بأن يتقرب إلى غيره كالشمس والقمر من كل معبود غير الله، عاقلاً أو غير عاقل، فالكفر هو العبادة، بأن يتقرب إلى غيره كما يتقرب إليه، وأما زيارة الصالحين والأنبياء، والصلاة والسلام على الأنبياء، دعا للغير بذلك، ولا شك أن ذلك الغير ينتفع به، والمتسبب له مثله، لما ورد: أن الملك يقول له ولك مثل ذلك، فآل الأمر إلى أن زيارة الصالحين والتوسل بهم، من جملة طاعة الله، وصاحبها محبوب لله، لأن أحب عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده، وصدق عليهم أنهم يصلون ما أمر الله به أن يوصل، فليست معصية فضلاً عن كونها شركاً، كما اعتقد ذوو الجهل المركب والعقيدة الزائغة. قوله: (أي عالماً بأنه من أهل الضلالة) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ عَلَىٰ عِلْمٍ ﴾ من الفاعل، ويصح أن يكون حالاً من المفعول، والمعنى أضله في حال كونه عالماً بالحق غير جاهل به، فهو أشد قبحاً. قوله: ﴿ غِشَاوَةً ﴾ بكسر الغين أو بفتحها، مع سكون الشين وحذف الألف، قراءتان سبعيتان، وقرئ شذوذاً بفتح الغين وضمها، وإثبات الألف أو بكسر الغين وحذف الألف، أو بالعين المهملة. قوله: (وبقدر هنا المفعول الثاني) أي وإنما حذف لدلالة ﴿ فَمَن يَهْدِيهِ ﴾ عليه، ولا حاجةة للتقدير، إذ يصح أن تكون هي المفعول الثاني، وقد وصفهم الله تعالى بأربعة أوصاف: الأول قوله: ﴿ ٱتَّخَذَ ﴾ إلخ، الثاني قوله: ﴿ وَأَضَلَّهُ ﴾ إلخ، الثالث قوله: ﴿ وَخَتَمَ ﴾ إلخ، الرابع قوله: ﴿ وَجَعَلَ ﴾ إلخ، فكل وصف منها مقتض للضلالة، فلا يمكن إيصال الهدى إليه بوجه من الوجوه. قوله: (إحدى التاءين) أي الثانية. قوله: (أي الحياة) بيان لمرجع الضمير، ويقال لهذا الضمير ضمير قصة. قوله: (أي يموت بعض) إلخ، دفع بذلك ما يقال إن قولهم ﴿ نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾ فيه اعتراف بالحياة بعد الموت، مع أنهم ينكرونها، ويجاب أيضاً: بأن الآية فيها تقديم وتأخير، أي نحيا ونموت. قوله: (أي مرور الزمان) أي فكان الجاهلية يقولون: الدهر هو الذي يهلكنا، وهو الذي يحيينا ويميتنا، ولذلك رد عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم:" كان أهل الجاهلية يقولون: وما يهلكنا إلا الليل والنهار، وهو الذي يحيينا ويميتنا، فيسبون الدهر، فقال تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار "والحاصل أن فرقة من الكفار يسمونه الدهرية، ينسبون الفعل ضراً أو نفعاً للزمان، فرد عليهم بما تقدم. قوله: (المقول) أي وهو قولهم ﴿ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا ﴾ إلخ. قوله: (واضحات) أي ظاهرات. قوله: (حال) أي من ﴿ ءَايَٰتُنَا ﴾.
قوله: ﴿ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ ﴾ بالنصب خبر ﴿ كَانَ ﴾ وقوله: ﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ ﴾ اسمها، أي إلا قولهم، وتسميتها حجة على سبيل التهكم، أو على حسب زعمهم. قوله: ﴿ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ ﴾ أي الذين ماتوا قبلنا. قوله: ﴿ قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ﴾ رد لقولهم: ﴿ وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ ﴾.
قوله: (وهم) أي الأكثر، وجمع باعتبار المعنى.
قوله: ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ تعميم بعد تخصيص. قوله: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ ﴾ ظرف لقوله: ﴿ يَخْسَرُ ﴾ وقوله: ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ بدل من ﴿ يَوْمَ ﴾ قبله للتوكيد، والتنوين في ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ عوض عن جملة مقدرة، والتقدير: يومئذ تقوم الساعة، فهو بدل توكيدي. قوله: (أي يظهر خسرانهم) جواب عما يقال: إن خسرانهم متحتم في الأزل. قوله: ﴿ وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾ رأى بصرية و ﴿ كُلَّ ﴾ مفعولها و ﴿ جَاثِيَةً ﴾ حال، واختلف هل الجثي خاص بالكفار، وبه قال يحيى بن سلام، وقيل عام للمؤمن والكافر انتظاراً للحساب، ويؤيده ما ورد: إن في القيامة لساعة هي عشر سنين، يخرَّ الناس فيها جثاة على ركبهم، حتى إن إبراهيم عليه السلام ينادي: لا أسألك اليوم إلا نفسي، وذلك لأن الحضرة في ذلك اليوم حضرة جلال، فالجميع يعطونه حقه من الخوف والهية، إلا أن يحصل التمييز، والجثو وضع الركبتين بالأرض، وكل من المعنيين يدل على كونه مستوفزاً غير مطمئن، وقوله: (أي مجتمعة) أو لحكاية الخلاف، وقيل معناه متميزة: وقيل خاضعة. قوله: ﴿ كُلُّ أمَّةٍ ﴾ بالرفع في قراءة العامة مبتدأ، و ﴿ تُدْعَىٰ ﴾ خبرها. قوله: ﴿ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا ﴾ أضيف لهم الكتاب باعتبار أنه مشتمل على أعمالهم. قوله: (ويقال لهم) قدره إشارة إلى أن الجملة مقولة لقول محذوف، و ﴿ ٱلْيَوْمَ ﴾ معمول لتجزون، و ﴿ مَا كُنتُمْ ﴾ مفعوله الثاني، ونائب الفاعل مفعول أول. قوله: ﴿ ٰذَا كِتَابُنَا ﴾ قيل من قول الله لهم، وقيل من قول الملائكة لهم. قوله: ﴿ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ ﴾ أي يدل عليه لأنهم يقرؤونه، فيذكرهم بما فعلوه لقوله تعالى:﴿ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾[الكهف: ٤٩] قوله: ﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ قيل معناه أن الله ملائكة مطهرين، ينسخون من أم الكتاب في رمضان كل يوم ما يكون من أعمال بني آدم في العام كله، ويعرضونه على الحفظة كل خميس، فيجدون ما كتبه الحفظة على بني آدم موافقاً لما في أيديهم، وقيل إن الملائكة الحفظة، إذا رفعت أعمال العباد إلى الله عز وجل، أمر بأن يثبت عنده منها ما فيه ثواب أو عقاب، ويسقط ما لا ثواب فيه ولا عقاب. قوله: (نثبت ونحفظ) أي فالمراد بالنسخ الإثبات والنقل، إما من اللوح المحفوظ، أو من صحف الكتبة كما علمت. قوله: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ إلخ، تفصيل لما أجمل في قوله: ﴿ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ قوله: ﴿ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ أي مع السابقين، فلا ينافي أن المؤمن، وإن لم يعمل الصالحات يدخل الجنة، لكن مع السابقين، بل إما بعد الحساب، أو بعد الشفاعة، فلا يقال: إن التقييد بالعمل الصالح، يخرج من مات على الإيمان ولم يعمل صالحاً. قوله: (جنته) إنما فسر العام بالخاص، لأن الجنة أثر الرحمة التي تستقر الخلائق فيها، وتوصف بالدخول فيها دون غيرها من آثار الرحمة. قوله: ﴿ ٱلْفَوْزُ ﴾ أي بلوغ الآمال والظفر بالمقصود. قوله: ﴿ ٱلْمُبِينُ ﴾ أي الخالص من الشوائب. قوله: (فيقال لهم) قدره إشارة إلى أن جواب إما محذوف.
قوله: ﴿ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى ﴾ إلخ، الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة عليه، أي أتركتم الإيمان بالرسل فلم تكن إلخ. قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ﴾ هذا من جملة ما يقال لهم، وحينئذ فيصير المعنى: وكنتم إذا قيل لكم إن وعد الله حق، إلخ، قوله: ﴿ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ﴾ بكسر ﴿ إِنَّ ﴾ إن في قراءة العامة لحكايتها بالقول، وقرئ شذوذاً بفتحها، إجراء القول مجرى الظن في لغة سليم. قوله: (بالرفع والنصب) أي فهما قراءتان سبعيتان، فالرفع على الابتداء، وجملة ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهَا ﴾ خبره، والنصب عطفاً على اسم ﴿ إِنَّ ﴾.
قوله: ﴿ مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَةُ ﴾ هذا على سبيل الاستغراب والاستبعاد. قوله: (إن نظن إلا ظناً) إن قلت: ما الجمع بين ما هنا وما تقدم في قوله:﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا ﴾[المؤمنون: ٣٧] فإن ما تقدم أثبت أنهم جازمون بعدم البعث، وهنا أفاد أنهم شاكون فيه، ويمكن الجواب بأن الكفار لعلهم افترقوا فرقتين: فرقة جازمة بنفي البعث وفرقة متحيرة فيه. قوله: (قال المبدر) إلخ، جواب عما يقال: إن ظاهر الآية وقوع المفعول المطلق استثناء مفرغاً، مع أن المقرر في النحو، أنه يجوز تفريغ العامل لما بعده من جميع المعمولات، إلا المفعول المطلق، فلا يقال: ما ضربت إلا ضرباً لاتحاد مورد النفي والإثبات، لأنه يصير في قوة ما ضربت إلا ضربت، ولا فائدة في ذلك، فأجاب المفسر: بأن الآية مؤولة بأن مورد النفي محذوف تقديره ﴿ نَحْنُ ﴾، ومورد الإثبات كونه نظن ظناً، فكلمة ﴿ إِلاَّ ﴾ مؤخر من تقديم، والمعنى حصر أنفسهم في الظن ونفي ما عداه. قوله: ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ مبالغة في نفي ما عدا الظن عنهم. قوله: (أي جزاؤها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: (نترككم في النار) أشار بذلك إلى أن المراد من النسيان الترك مجازاً، لأن الترك مسبب على النسيان، فإن من نسي شيئاً تركه، فسمي السبب باسم المسبب، لاستحالة حقيقة النسيان عليه تعالى. قوله: (أي ترتكن العمل للقائه) أشار بذلك إلى أنه من اضافة المصدر إلى ظرفه على حد مكر الليل، وفي الكلام حذف قدره المفسر بقوله: (العمل) والمعنى: تركتم العمل للقاء الله في يومكم هذا، ولا يصح أن يكون من اضافة المصدر لمفعوله، لأن التوبيخ على نسيان ما في اليوم من الجزاء، لا على نفس اليوم.
قوله: ﴿ ذَلِكُم ﴾ أي العذاب الدائم. قوله: ﴿ بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ﴾ إلخ، أي بسبب اتخاذكم. قوله: ﴿ فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ ﴾ إلخ، فيه التفات من الخطاب للغيبة، ونكتته الإشارة إلى أنهم ساقطون عن رتبة الخطاب لهوانهم. قوله: (بالبناء للفاعل وللمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (لأنها لا تنفع يومئذ) أي وأما في الدنيا فالتوبة والطاعة نافعان، فالذي ينبغي للعاقل المبادرة لذلك قبل الفوات. قوله: (على وفاء وعده في المكذبين) أي وللمؤمنين، وإنما اقتصر على المكذبين، دفعاً لما يتوهم أنه تعالى إنما يحمد على الفضل، فأفاد أنه كما يحمد على الفضل، يحمد على العدل، لأن أوصافه تعالى جميلة. قوله: (ورب بدل) أي في المواضع الثلاثة، ويصح أن يكون نعتاً للفظ الجلالة. قوله: ﴿ وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ ﴾ أي آثارها، لأن وصف الكبرياء قائم بذاته تعالى، وإنما تظهر آثارها في السماوات والأرض من التصرف والقهر، فتصرفه سبحانه وتعالى في السماوات والأرض وما فيهما من آثار كبريائه سبحانه وتعالى، لا يعلم قدره غيره، ولا يبلغ الواصفون صفته. قوله: (حال) ويصح أن يتعلق بنفس الكبرياء لأنه مصدر. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ أي الغالب الذي يضع الشيء في محله.
Icon