ﰡ
ذكر أن سورة النجم مَكِّيَّة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (١٦) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (١٧) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (١٨)قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١).
قيل: المراد: هو النجوم أنفسها، فأقسم بها على أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما ضل وما غوى؛ على ما قاله الكفرة؛ وبه يقول الأصم.
وقيل: أراد بقوله: (وَالنَّجْمِ): نزول القرآن نجما فنجما، على التفاريق أقسم بالقرآن: إنه لم يضل، ولم يغو.
وقال مجاهد: أقسم بالثريا إذا غاب، والعرب تسمي الثريا -وهي ستة أنجم ظاهرة-: نجما.
وقال أبو عبيد: أقسم بالنجم إذا سقط في الغور؛ فكأنه لم يخص الثريا دون غيره. فإن كان التأويل هو الأول فهو لما جعل اللَّه تعالى للنجوم محلاًّ في قلوب الخلق وأعلاما يستخرجون بها جميع ما ينزل بالخلق، وما يكون لهم من المنافع والمضار من كثرة الأنزال والسعة والضيق، وما ينزل بهم من المصائب والشدائد، وما يكون من انقلاب الأمور، وما جعل فيها من المنافع من معرفة القبلة، وطرق الأمكنة النائية، ومعرفة الأوقات وغيرها مما يكثر عدها، فأقسم بنفسها، أو بالذي أنشأ النجوم، وما جعل فيها من المنافع: أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما ضل وما غوى.
وإن كان النجم هو النجوم التي أنزل القرآن فيها نجوما على التفاريق، فالقسم بالذي أنزل القرآن على التفاريق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا هَوَى)؛ أي: سقطت، كقوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ
والأشبه: أن يكون قوله: (إِذَا هَوَى) أي: إذا سارت سيرًا دائمًا في سيرها؛ لأنها أبدا تكون في السير، وفي سيرها منافع الخلق من الاهتداء للطرق وغيرها، ولما ليس في مساقط النجوم وغيبوبتها كثير حكمة حتى يقسم بذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢).
يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: ما ضل عما نزل به القرآن، وعما أمر به؛ لأنهم كانوا يدعون عليه الضلال: أن خالف دينهم ودين آبائهم، فقال: ما ضل هو عما أمر به، وما غوى.
والثاني: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)؛ إذ ليس بساحر؛ ولا شاعر؛ لأنهم كانوا يقولون: إنه شاعر وإنه ساحر، فقال: ليس هو كذلك ما ضل بالسحر، وما غوى بالشعر؛ على ما قال (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ)، بل رشد واهتدى، وهو ما قال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) أي: ما ينطق عما يهوي به نفسه؛ بل إنما ينطق عن الوحي بقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) وإلَّا جائز أن يصرف قوله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) إلى اللَّه تعالى؛ إذ اللَّه تعالى قد أضاف تعليمه إلى نفسه بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ)، لكن أبان بقوله: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) أن المراد غيره؛ إذ هو لا يوصف بأنه (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى)، وهو جبريل - عليه السلام - على ما قال أهل التأويل.
ثم أضاف التعليم مرة إلى جبريل - عليه السلام - ومرة إلى نفسه، فالإضافة إلى جبريل - صلوات اللَّه عليه - لما منه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتلقف.
والإضافة إلى اللَّه تعالى تخرج على وجهين:
أحدهما: أضاف إلى نفسه؛ لما أنه هو الباعث لجبريل إليه، والآمر له بالتعليم، والخالق لفعل التعليم من جبريل، عليه السلام.
والثاني: لما يكون من اللَّه - سبحانه وتعالى - من اللطف الذي يحصل به العلم عند التعليم؛ ولهذا يختلف المتعلمون في حصول العلم مع التساوي في التعليم؛ لاختلافهم في آثار اللطف، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى...) الآية.
قال أهل التأويل: (ذُو مِرَّةٍ) أي: ذو قوة.
وإلا جائز أن يُصرَف قوله تعالى :﴿ علّمه شديد القُوى ﴾ إلى الله تعالى، إذ الله تعالى قد أضاف تعليمه إلى نفسه بقوله عز وجل :﴿ الرحمن ﴾ ﴿ علّم القرآن ﴾ [ الرحمن : ١ و٢ ].
لكن أبان قوله :﴿ ذو مِرّة فاستوى ﴾ أن المراد غيره، إذ هو لا يوصف بأنه ﴿ ذو مِرّة فاستوى ﴾ وهو جبرائيل عليه السلام على ما قال أهل التأويل.
ثم أضاف التعليم مرة إلى جبرائيل عليه السلام ومرة إلى نفسه : فالإضافة إلى جبرائيل، صلوات الله عليه، لما منه سمِع النبي عليه السلام وتلقّف. والإضافة إلى الله تعالى تخرّج على وجهين :
أحدهما : أضاف إلى نفسه سبحانه وتعالى لما أنه هو الباعث لجبرائيل إليه والآمِر له بالتعليم، والخالق لفعل التعليم من جبرائيل عليه السلام.
والثاني : لما يكون من الله سبحانه وتعالى من اللّطف الذي يحصل به العلم عند التعليم ولهذا يختلف المتعلّمون في حصول العلم مع التساوي في التعليم لاختلافهم في آثار اللطف، والله الموفّق.
وقوله تعالى :﴿ ذو مِرّة فاستوى ﴾ قال أهل التأويل :﴿ ذو مِرّة ﴾ أي ذو إحكامٍ. وأصله من قِوى الحبل، وهي طاقته، والواحدة قوّة، وأصل المِرّة الفَتْلُ.
وقوله تعالى :﴿ فاستوى ﴾ يحتمل استوى أي محمد صلى الله عليه وسلم لنزول الوحي إليه.
وقيل : استوى أي جبرائيل عليه السلام على صورته لما ذُكر أنه صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يُُريَه جبرائيل عليه السلام على صورته، فاستوى جبرائيل على صورته، فرآه كذلك.
وقوله: (فَاسْتَوَى) يحتمل (فَاسْتَوَى)، أي: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لنزول الوحي إليه.
وقيل: (فَاسْتَوَى)، أي جبريل - عليه السلام - على صورته؛ لما ذكر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سأل ربه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يريه جبريل - عليه السلام - على صورته فاستوى جبريل على صورته، فرآه كذلك، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (٧) ثم يحتمل (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) أي: أفق السماء.
ويحتمل أن يكون الأفق الأعلى مكان الملائكة ومسكنهم، فأخبر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأى جبريل على صورته في مكانه.
وجائز أن يكون الأفق ما ذكر في الخبر: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يرى جبريل في صورته، فسأله أن يراه، فقال: إن الأرض لا تسعني، ولكن انظر إلى الأفق الأعلى، فنظر فرآه.
وفي بعض الأخبار: إنك لا تقدر أن تراني في صورتي، ولكن انظر إلى الأفق الأعلى. ثم جائز أن يكون ما ذكر من النظر إلى الأفق الأعلى؛ لما أن بصره كان لا يحتمل النظر إليه من قرب، ويحتمل ذلك من البعد، وذلك معروف فيما بين الخلق: أن الشيء إذا كان له شعاع أو نور أو بياض شديد: أن البصر لا يحتمل النظر إليه من القرب في أول ملاقاته، ويحتمل إذا كان يبعد منه؛ وعلى هذا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) يحتمل: دنا منه جبريل - عليه الصلاة السلام - شيئًا بعد شيء، وقرب منه كذلك ليحتمله؛ إذ جبل الإنسان على طبيعة يحتمل الأشياء إذا انتهت إليه على التفاريق ما لو أتته بدفعة واحدة في وقت واحد، لما احتملتها الأنفس؛ كالحر يأتي الخلق بعد شدة البرد شيئًا فشيئًا، وكذلك البرد بعد شدة الحر شيئًا فشيئًا حتى يشتد ما لو أتيا بدفعة واحدة إذا كان قريبا منه.
ويحتمل من البعد، ثم يقرب ويدنو قليلًا قليلًا حتى يحتمل من القرب، واللَّه أعلم.
ثم من الناس من يقول: إن قوله تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) على التقديم والتأخير؛ أي: تدلى قربا؛ لأنه يكون التدلي أولًا ثم الدنو منه.
ومنهم من قال: بل هو على ما قال، وهما سواء -أعني: التدلي والدنو- بمنزلة القرب والدنو، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: القاب: هو صدر القوس؛ أي: فكان قدر صدر القوس من الوتر مرتين.
[ فعلى ذلك جائز ألا يحتمل البصر رؤية الشيء بدفعة واحدة ]٣ إذا كان قريبا منه، ويحتمله من البُعد، ثم يقرُب، ويدنو قليلا قليلا، حتى يحتمله من القرب، والله أعلم.
ثم من الناس من يقول : إن قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلّى ﴾ على التقديم والتأخير، أي تدلّى، فدنا، لأنه يكون التدلّي أولا ثم الدُّنوُّ منه.
ومنهم من قال : بل هو على ما قال، وهما سواء ؛ أعني : التّدلّي والدُّنوّ بمنزلة القُرب٤، والله أعلم.
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٤ أدرج بعدها في الأصل وم: والدنو..
قال بعضهم : القاب هو صدر القوس أي كان قدر صدر القوس من الوَتَر مرتين، وقال بعضهم : أي قدر قوسين حقيقة.
وقال القتبيّ :﴿ قاب ﴾ قدر ﴿ قوسين ﴾ عربيّتين. وقال أبو عوسجة : القاب قدر الطّول، وقيل : القوس الذراع ههنا، أي كان قدر ما بينهما ذراعين ؛ قال : والأول [ أقرب إليّ لما ]١ رُوي عن النبي عليه السلام [ أنه ]٢ قال :( لَقابُ قوس أحدكم من الجنة أو موضع قدّه خير من الدنيا وما فيها ) [ البخاري ٢٧٩٦ ] والقِدّ السّوط.
فتقول : أي الوجوه كان ففيه دليل أنه لم يكن جبرائيل عليه السلام يبعُد من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا يحيط به لأن الشيء إذا بَعُد عن البصر يعرفه بالاجتهاد، ولا يدركه حقيقة، وكذلك إذا قرُب منه حتى إذا ماسّه، والتصق به، قصُر البصر عن إدراكه، وإذا كان بين البُعد والقُرب أحاط به، وأدركه، فيُخبر الله تعالى أنه أحاط به علما، وأدركه حقيقة، لا أن كانت معرفته إياه بطريق الاجتهاد، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ أو أدنى ﴾ قال أهل التأويل : حرف أو حرف شكٍّ. وذلك غير محتمل من الله تعالى، ولكن معناه على الإيجاب، أي بل أدنى.
وقال بعضهم :﴿ أو أدنى ﴾ في اجتهادكم ووهمِكم، لو نظرتم إليهما لقُلتم : إنهما بالقُرب والدُّنوّ قدر قوسين أو أدنى.
٢ ساقطة من الأصل وم..
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قاب: قدر قوسين عربيين.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: القاب: قدر الطول.
وقيل القوس: الذراع هاهنا؛ أي: كان قدر ما بينهما ذراعين.
قال: والأول أعجب إليَّ؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لقاب قوس أحدكم -أي: موضع قده- خير من الدنيا وما فيها " والقد: السوط.
فنقول: أيّ الوجوه كان ففيه دليل: أنه لم يكن جبريل - عليه السلام - يبعد من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بحيث لا يحيط به؛ لأن الشيء إذا بعد عن البصر لعرفه بالاجتهاد، ولا يدركه حقيقة، وكذلك إذا قرب منه، حتى ماسه والتصق به، قصر البصر عن إدراكه، وإذا كان بين البعد والقرب، أحاط به وأدركه، فيخبر اللَّه - تعالى - أنه أحاط به علمًا، وأدركه حقيقة، لا أن كان معرفته إياه بطريق الاجتهاد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ أَدْنَى).
قال أهل التأويل: حرف " أو " شك، وذلك غير محتمل من اللَّه تعالى، لكن معناه على الإيجاب؛ أي: بل أدنى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَوْ أَدْنَى) في اجتهادكم ووهمكم، لو نظرتم إليهما، لقلتم: إنهما بالقرب والدنو قدر قوسين أو أدنى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على التقديم والتأخير، أي: فأوحى جبريل ما أوحي إليه إلى مُحَمَّد عبده ورسوله، عليهما السلام.
والثاني: فأوحى اللَّه - جل وعلا - إلى عبده جبريل ما أوحى هو إلى مُحَمَّد عليهما الصلاة والسلام.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١).
قرئ: (كَذَبَ) مخفف الذال ومشدده؛ فمن قرأ بالتخفيف، أي: ما كذب عبده فيما رأى؛ أي: ما رأى حق.
ومن قرأ بالتشديد، أي: لم يجعل الفؤاد رؤية العين كذبا.
وعندنا: أي: ما رد الفؤاد ما رأى البصر، وأصله: أن الفؤاد مما يوعى به، يقول: قد وعى به ما رأى لم يتركه، ولم يضيعه.
وقيل: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)؛ أي: ما علم، والرؤية: كناية عن العلم، لكن لو كان المراد منه: العلم فلا يحتمل ما ذكر (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)، ولا يتصور أن يعلم مرتين؛ وكذا ذكر أنه رأى ربه مرتين، ولا يحتمل العلم مرتين؛ فدل أن الحمل على العلم لا يصح.
وأصله عندنا: ما كذب الفؤاد ما رأى من الآيات؛ دليله ما ذكر في آخره: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) وقال: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى).
وعن الحسن: أي: رأى عظمة من عظمة اللَّه، وأمرا من أمره.
وعن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " رأى جبريل - عليه السلام - على صورته مرتين "، أي: ما كذب الفؤاد ما رأى البصر جبريل - عليه السلام - ولقد رآه أيضًا مرة أخرى عند سدرة المنتهى.
ومنهم من قال: إنه رأى ربه على العيان بعينه، فهو خلاف ما ثبت من وعد الرؤية في الآخرة بالكتاب والسنة المتواترة، ولأنه لو رأى ربه تعالى على ما قالوا، لكان لا يحتاج إلى أن يرى آياته الكبرى؛ لأن رؤية الآيات إنما يحتاج إليها عندما يعرف الشيء بالاجتهاد، فأما عند المشاهدة وارتفاع الموانع، لا حاجة تقع إليها، إلا أن يقال برؤية القلب على ما ذكر في الخبر: أنه سئل عن ذلك، فقيل: هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: " رأيته مرتين بقلبي ".
وفي بعض الأخبار قال: " أما بعيني فلا، وأما بفؤادي، فقد رأيته مرتين ".
ويفسرون رؤية القلب بالعلم، ولكن الإشكال عليه ما ذكرنا؛ فإن ثبت الحديث فهو
ومن قرأ بالتشديد أي لم يجعل الفؤاد رؤية العين كذِباً.
وعندنا أي ما ردّ الفؤاد ما رأى البصر. وأصله أن الفؤاد مما يوعى به يكون٢ قد وعى به، يقول : وعى ما رأى، لم يتركه، ولم يضيّعه. وقيل :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ أي ما علم. والرؤية كناية عن العلم. لكن لو كان المراد منه العلم لا يُحتمل ما ذكر :﴿ ولقد رآه نزلةً أخرى ﴾ [ الآية : ١٣ ] ولا يُتصوّر أن يُعلَّم مرّتين، وقد٣ ذكر أنه رأى ربه مرّتين، ولا يحتمل العلم مرّتين. فدلّ أن الحمل على العلم لا يصح.
وأصله عندنا :﴿ ما كَذَب الفؤاد ما رأى ﴾ من الآيات. دليله :﴿ لقد رأى من آيات ربه الكبرى ﴾ [ الآية : ١٨ ] وقال :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ [ الآية : ١٣ ].
وعن الحسن [ أنه قال :]٤ رأى عظمة من عظمات٥ الله وأمرا من أموره٦، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : رأى جبرائيل عليه السلام على صورته مرّتين، أي ما كذَب ما رأى البصر جبرائيل عليه السلام ولقد رآه أيضا مرة أخرى ﴿ عند سِدرة المنتهى ﴾ [ الآية : ١٤ ].
ومنهم من قال : إنه رأى ربه على العِيان بعينه، فه خلاف ما ثبت من وعد الرؤية في الآخرة بالكتاب والسّنة المتواترة، ولأنه لو رأى ربه تعالى ما قالوا لكان لا يحتاج إلى أن يرى آياته الكبرى [ الآية : ١٨ ] لأن رؤية الآيات إنما يحتاج إليها عندما يعرف الشيء عند الاجتهاد.
فأما عند المشاهد وارتفاع الموانع فلا حاجة يقع إليها إلا أن يقال برؤية القلب ما ذُكر من الخبر أنه سُئل عن ذلك، فقيل :( هل رأيت ربك ؟ فقال : رأيته مرّتين بقلبي ). وفي بعض الأخبار [ أنه ]٧ قال :( أما بعيني فلا، وأما بفؤادي فقد رأيته مرّتين ) [ السيوطي في الدر المنثور ٧/٦٤٨ ] ويفسّرون رؤية القلب بالعلم، ولكن الإشكال عليه ما ذكرنا. فإن ثبت الحديث فهو على ما كان واردا، لا يفسّره ذلك. وكذلك قول من يقول في قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلّى ﴾ ﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ [ الآيتان : ٨ و٩ ] : إنه دنا من ربه قول وحش، فيه إثبات المكان والتّشبيه، تعالى الله عن ذلك.
ولكنّ المراد ما ذكرنا أن رسول الله تعالى دنا من جبرائيل عليه السلام على ما ذكرنا.
ثم في قوله تعالى :﴿ ما كذَب الفؤاد ما رأى ﴾ [ الآية : ١١ ] وقوله تعالى :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ ﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ [ الآيتان : ١٣ و١٤ ] إلى آخره ذكر خصوصية رسولنا صلى الله عليه وسلم من بين غيره من الخلائق : منها رؤية جبرائيل عليه السلام على صورته، ورؤية الربّ تعالى بقلبه، إن ثبت الحديث عنه : وبُلوغه سدرة المنتهى، إذ لم يُذكر لأحد من رُسُل الله تعالى أنه بلغ هذا المبلغ سواه.
٢ في الأصل وم: يقول..
٣ في الأصل وم: وكذا..
٤ في الأصل وم: أي..
٥ في الأصل وم: عظمة..
٦ في الأصل وم: أمره..
٧ في الأصل وم: وارد..
ثم في قوله تعالى: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى...) إلى آخره ذكر خصوصية رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بين غيره من الخلائق، منها: رؤية جبريل - عليه السلام - على صورته، ورؤية الرب تعالى بقلبه؛ إن ثبت الحديث عنه، وبلوغه إلى سدرة المنتهى؛ إذ لم يذكر لأحد من رسل اللَّه تعالى: أنه بلغ هذا المبلغ سواه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢).
عن ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنهما قرآ مفتوحة التاء بغير ألف، ومعناه: أفتجحدونه؟!.
وعن الحسن بالألف مضمومة التاء، وقال: معناه: أفتجادلونه؟!
وعن شريح مثله.
قال أبو عبيد: فالأولى أن يقرأ بمعنى الجحود؛ وذلك أن المشركين إنما كان شأنهم الجحود فيما يأتيهم من الخبر السماوي، وهو أكبر من المماراة والمجادلة.
وقيل: (أَفَتُمَارُونَهُ) أي: تشككونه على ما يرى؟
وقال أبو بكر الأصم: لا تصح القراءة بغير ألف ولا تأويله، إنما القراءة بالألف، وتأويله: أفتجادلونه؟!
ونحن نقول بأن تأويل ما ذكر من الجحود والقراءة صحيح، وتأويل من قال: أفتجادلونه على ما يرى؟! لا يحتمل؛ لأن مجادلتهم لا تكون فيما يرى، لكن يجادلونه على ما يخبر أنه يرى، إذ في الخبر يقع التكذيب، وبه يجادلونه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣).
فهو على ما ذكرنا من اختلاف الناس أن ما أيش هو؟ واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤).
قيل: سمي ذلك الموضع سدرة المنتهى، لما انتهى إليه علم الخلق؛ فلا يجاوزه.
ثم جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبرائيل عليه السلام أولا عند سدرة المنتهى من الأرض إما برفع الحُجُب عنه وإما بزيادة قوة وضِعَت في بصره، ثم رآه مرة أخرى هنالك أيضا بعد ما رُفع صلى الله عليه وسلم إلى سِدرة المنتهى، والله أعلم.
وقيل: السدرة: الشجر، ويروون في ذلك خبرًا مرفوعا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رأيت جبريل - عليه السلام - عند سدرة المنتهى، عليه كذا كذا من جناح ".
وقيل: سميت سدرة المنتهى؛ لما ينتهي إليها أرواح الشهداء.
ثم جائز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأى جبريل - عليه السلام - أولًا عند سدرة المنتهى من الأرض: إما برفع الحجب عنه، وإما بزيادة قوة وضعت في بصره، ثم رآه مرة أخرى هنالك أيضًا بعدما رفع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى سدرة المنتهى، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (١٥).
قرئت بنصب الجيم وخفضه.
روي أنه قيل لسعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن فلانا يقرأ بالخفض (عندها جِنة المأوى)، فقال سعد: ما كذا جنة اللَّه، وقرأ بالفتح.
وعن الأعمش قال: قال: من قرأ (جِنة المأوى)، فأجَنَّه اللَّه.
وعن أبي العالية قال: سئل عنها ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال لي: كيف تقرؤها يا أبا العالية؟ فقلت: (جَنَّةُ الْمَأْوَى) بفتح الجيم، فقال: صدقت، وهي مثل الأخرى: [(فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى)].
[وعن الحسن أنه قرأ] [(جَنَّةُ الْمَأْوَى)]، وقال: إنها من الجنان، وتصديقها، حديث الإسراء: أنه أُرِيَ الجنة، وأدخلها.
قال: ودلت الآية: أن الجنة التي يأوي إليها المؤمنون في السماء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (١٦).
قال عامة أهل التأويل: يغشاها فراش من ذهب.
وكذا ذكر في خبر مرفوع " غشاها فراشا من ذهب ".
ولكن لا نفسر ما الذي يغشى السدرة؛ بل نبهم كما أبهم اللَّه تعالى إلا بحديث ثبت عن
وقال بعضهم في قوله تعالى :﴿ إذ يغشى السّدرة ما يغشى ﴾ من أمر الله، ويروُون خبرا من أنس بن مالك ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لما انتهيت إلى السّدرة رأيت ورقها أمثال أذان الفِيَلة، ورأيت نبقها أمثال القِلالِ، فلما غشِيَها من أمر الله ما غشِيها تحوّلت ياقوتا وزُمرّدا ] [ أحمد ٣/١٢٨ ] إن ثبت هذا الخبر ففيه دليل أن السّدرة شجرة ؛ إذ ذكر ورقها، وفيه أن الذي يغشاها أمر الله تعالى.
وعن ابن عباس رضي الله عنه إذ تغشى الملائكة، والله أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى): أي: ما يغشى من أمر الله تعالى، ويروون خبرا عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لما انتهيت إلى السدرة رأيت ورقها أمثال آذان الفيلة؛ ورأيت نبقها أمثال القلال، فلما غشيها من أمر اللَّه ما غشيها، تحولت ياقوتًا " إن ثبت هذا الخبر، ففيه دليل: أن السدرة: شجرة، إذ ذكر ورقها، وفيه أن الذي يغشاها أمر اللَّه تعالى.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى): الملائكة، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (١٧).
قال أبو بكر: أي: ما قصر البصر عن الحد الذي أمر وجعل له، وما طغى وما جاوز عنه، أو كلام نحوه.
ويحتمل (مَا زَاغَ) أي: ما مال وما عدل يمينًا وشمالاً، (وَمَا طَغَى): وما جاوز.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ)، أي: ما مال، (وَمَا طَغَى) من الارتفاع؛ طغى الماء: إذا ارتفع، يطغى طغيانا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (١٨).
جائز أن تكون آيات ربه التي ذكر أنه رأى: هو جبريل - عليه السلام - حيث رآه بصورته، وكذلك روي عن عمد اللَّه بن مسعود: أنه رآه بصورته مرتين، وتأول الآية، ويحتمل غيره من الآيات، ولكن لا نفسرها، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (٢٣).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى.) الآية.
يخرج تأويل هذه الآية على وجوه، وإلا ليس في هذا الموضع لظاهر قوله - عز وجل -: (وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) - جوابٌ، ولا لقوله: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى).
٢ أدرج بعدها في الأصل وم: وتأويل الآية..
٣ في الأصل وم: غيره..
أحدها : أن يقول : أهؤلاء الذين تعبدونهم من اللاّت والعُزّى ومَناة أخبروكم، وقالوا لكم : إنه اصطفى لنفسه البنات ولكم البنين، وإن الملائكة بنات الله ونحوه. أأخذتم ذلك منها ؟ أو ممّن أخذتم ذلك ؟ وأنتم قوم لا تؤمنون بالرسل والكتب، وقد عرفوا أنها لم تخبرهم بذلك، [ فيُذكر ]٢ بذلك سفههم.
[ والثاني : أن ]٣ يقول :﴿ أفرأيتم اللاّت والعزّى ﴾ ﴿ ومناة /٥٣٦-ب/ الثالثة الأخرى ﴾ التي سمّيتموها آلهة، وعبدتموها دون الله، ونسبتُم البنات إليه والبنين إلى أنفسكم. ثم لم يذكر جوابها : أنه من أمرهم بذلك ؟ ومن اختار لهم ذلك ؟ أو ممّن أخذوا ذلك ؟.
ثم قوله٤ تعالى :﴿ إن هي إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان ﴾ الآية [ ٢٣ ] كأنه يقول، والله أعلم : إنكم إنما سمّيتموها آلهة، واخترتُم البنين، وله البنات بلا سلطان ولا حجة لكم ؛ إنما هي أسماء سمّيتموها أنتم وآبائكم بلا حجة ولا سلطان، إنما هو هوى النفس، والظّن.
[ والثالث ]٥ يحتمل أن يقول :﴿ أفرأيتم اللاّت والعُزّى ﴾ ﴿ ومَناة الثالثة الأخرى ﴾ أأمرتكم٦ بصرف شكر ما أنعم الله تعالى عليكم وقبول ما وهب لكم من البنات على ما أخبر أنهما من مواهب الله تعالى بقوله تعالى :﴿ يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ﴾ [ الشورى : ٤٩ ] وبردّ مواهبه ودفنها حيّات ودسّها في التراب وبصرف العبادة إلى غير المُنعِم وقسمة البنين لأنفسكم والبنات له.
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل وم: و..
٤ في الأصل وم: قال..
٥ في الأصل وم: و..
٦ في الأصل وم: أمركم..
أحدها : أن يقول : أهؤلاء الذين تعبدونهم من اللاّت والعُزّى ومَناة أخبروكم، وقالوا لكم : إنه اصطفى لنفسه البنات ولكم البنين، وإن الملائكة بنات الله ونحوه. أأخذتم ذلك منها ؟ أو ممّن أخذتم ذلك ؟ وأنتم قوم لا تؤمنون بالرسل والكتب، وقد عرفوا أنها لم تخبرهم بذلك، [ فيُذكر ]٢ بذلك سفههم.
[ والثاني : أن ]٣ يقول :﴿ أفرأيتم اللاّت والعزّى ﴾ ﴿ ومناة /٥٣٦-ب/ الثالثة الأخرى ﴾ التي سمّيتموها آلهة، وعبدتموها دون الله، ونسبتُم البنات إليه والبنين إلى أنفسكم. ثم لم يذكر جوابها : أنه من أمرهم بذلك ؟ ومن اختار لهم ذلك ؟ أو ممّن أخذوا ذلك ؟.
ثم قوله٤ تعالى :﴿ إن هي إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان ﴾ الآية [ ٢٣ ] كأنه يقول، والله أعلم : إنكم إنما سمّيتموها آلهة، واخترتُم البنين، وله البنات بلا سلطان ولا حجة لكم ؛ إنما هي أسماء سمّيتموها أنتم وآبائكم بلا حجة ولا سلطان، إنما هو هوى النفس، والظّن.
[ والثالث ]٥ يحتمل أن يقول :﴿ أفرأيتم اللاّت والعُزّى ﴾ ﴿ ومَناة الثالثة الأخرى ﴾ أأمرتكم٦ بصرف شكر ما أنعم الله تعالى عليكم وقبول ما وهب لكم من البنات على ما أخبر أنهما من مواهب الله تعالى بقوله تعالى :﴿ يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ﴾ [ الشورى : ٤٩ ] وبردّ مواهبه ودفنها حيّات ودسّها في التراب وبصرف العبادة إلى غير المُنعِم وقسمة البنين لأنفسكم والبنات له.
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل وم: و..
٤ في الأصل وم: قال..
٥ في الأصل وم: و..
٦ في الأصل وم: أمركم..
أحدها : أن يقول : أهؤلاء الذين تعبدونهم من اللاّت والعُزّى ومَناة أخبروكم، وقالوا لكم : إنه اصطفى لنفسه البنات ولكم البنين، وإن الملائكة بنات الله ونحوه. أأخذتم ذلك منها ؟ أو ممّن أخذتم ذلك ؟ وأنتم قوم لا تؤمنون بالرسل والكتب، وقد عرفوا أنها لم تخبرهم بذلك، [ فيُذكر ]٢ بذلك سفههم.
[ والثاني : أن ]٣ يقول :﴿ أفرأيتم اللاّت والعزّى ﴾ ﴿ ومناة /٥٣٦-ب/ الثالثة الأخرى ﴾ التي سمّيتموها آلهة، وعبدتموها دون الله، ونسبتُم البنات إليه والبنين إلى أنفسكم. ثم لم يذكر جوابها : أنه من أمرهم بذلك ؟ ومن اختار لهم ذلك ؟ أو ممّن أخذوا ذلك ؟.
ثم قوله٤ تعالى :﴿ إن هي إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان ﴾ الآية [ ٢٣ ] كأنه يقول، والله أعلم : إنكم إنما سمّيتموها آلهة، واخترتُم البنين، وله البنات بلا سلطان ولا حجة لكم ؛ إنما هي أسماء سمّيتموها أنتم وآبائكم بلا حجة ولا سلطان، إنما هو هوى النفس، والظّن.
[ والثالث ]٥ يحتمل أن يقول :﴿ أفرأيتم اللاّت والعُزّى ﴾ ﴿ ومَناة الثالثة الأخرى ﴾ أأمرتكم٦ بصرف شكر ما أنعم الله تعالى عليكم وقبول ما وهب لكم من البنات على ما أخبر أنهما من مواهب الله تعالى بقوله تعالى :﴿ يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ﴾ [ الشورى : ٤٩ ] وبردّ مواهبه ودفنها حيّات ودسّها في التراب وبصرف العبادة إلى غير المُنعِم وقسمة البنين لأنفسكم والبنات له.
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل وم: و..
٤ في الأصل وم: قال..
٥ في الأصل وم: و..
٦ في الأصل وم: أمركم..
ثم قال: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ...) الآية؛ كأنه يقول واللَّه أعلم: إنكم سميتموها: آلهة، واخترتم لأنفسكم البنين وله البنات بلا سلطان ولا حجة لكم، إنما هي أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم بلا حجة ولا سلطان، إنما هو هوى النفس والظن.
ويحتمل أن يقول: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)، أمروكم بصرف شكر ما أنعم اللَّه تعالى عليكم، وقبول ما وهب لكم من البنات؛ على ما أخبر أنها من مواهب اللَّه بقوله تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)، وبرد مواهبه، ودفنها حيات، ودسها في التراب، وبصرف العبادة إلى غير المنعم، وقسمة البنين لأنفسكم والبنات له.
ثم أخبر، وقال: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) أي: تلك قسمة جور وظلم؛ أي: صرف شكر المنعم إلى غير المنعم، وتوجيه العبادة إلى من لا يستحقها، ورد مواهبه.
على هذه الوجوه يشبه أن تخرج الآية، وإلا فلا ندري بظاهرها: ما تأويلها؟ وما جواب هذا الحرف؛ واللَّه أعلم.
ثم قوله: (اللَّاتَ) قرأ مجاهد وغيره مشدد التاء، فقالوا: هو رجل كان يقوم على آلهتهم، ويلت لها السويق بالزيت، فيطعمه الناس.
[وروى ابن الجوزي] (١) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " كان يلت السويق للحاج ".
ومن قرأه مخفف التاء جعله اسم الصنم؛ مثل: العزى، ومناة، وهي آلهة كانوا يعبدونها؛ ذكر قتادة في تفسيره: كان اللات بالطائف، والعزى ببطن نخلة، ومناة
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى).
قَالَ الْقُتَبِيُّ: هي في الأصل " ضَيزَى " على وزن " فَعْلَى "، فكسرت الضاد للياء، وليس في النعوت " فِعْلى "؛ أي: قسمة جائرة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ضِيزَى) أي: غير منصفة، والضيز في الأصل: الجور.
وقال أبو عبيدة: ناقصة.
وقال بعض الناس: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما تلا قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) ألقى الشيطان على لسانه: " تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى، ومثلهن لا تنسى ".
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: الغرانيق العلا: الملائكة.
وقال بعصهم: الأصنام التي يعبدونها على رجاء الشفاعة لهم بقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ).
لكن لا يحتمل أن يقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو يجري على لسانه ما ذكر، واللَّه - تعالى - قال: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)، ولو جاز أن يجري على لسانه، لتوهم منه التقول، وذلك بعيد، وقال في آية أخرى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ)، ولو جاز ذلك، لجاز أن يجري الله الكذب على لسانه؛ فلا يكون فيمن وجد من الحرج في قضائه ما ذكر، وهو الكفر؛ دل أن ما ذكروه فاسد، فإن ثبت ما ذكر: أنه جرى على لسانه تلك الكلمات، أو ألقى الشيطان في فمه يريد بذلك: الغرانيق العلا شفاعتهن لترتجى عندهم وفي زعمهم، وهو كقول موسى - عليه السلام -: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا)، أي: إلى إلهك الذي هو عندك إله، وإلا لا يحتمل أن يكون موسى - عليه السلام - يسمي العجل: إلها، وكقوله - تعالى -: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، أي: إلى آلهة عندهم، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، أنها شركائي، فقد ذكرنا هذا على التمام في سورة الحج في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ...) الآية، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ)، أي: يتبعون هوى النفس، فالنفس ما تعرف إلا المنافع الحاضرة والمضار الحاضرة، فأما ما غاب عنها فلا يعرف، وإنما يعرف ذلك بالتفكر والنظر، وهي لا تعرف؛ لما تكره النظر والتفكر، ولا ترغب في الشدائد، ولا فيما يثقل عليها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى).
أي: جاءهم من ربهم ما لو تفكروا ونظروا لاهتدوا، ولو اتبعوا الحق والهدى، لعرفوه.
* * *
قوله تعالى: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (٢٧) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٢٩) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (٣٠) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (٣٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى).
أي: للإنسي ما تمنى.
ثم يحتمل تمنيهم شفاعة ما عبدوه.
أو ما اختاروا من البنين لأنفسهم والبنات لله تعالى.
يقول : ليس للإنسان ما تمنى أن يكون له [ ما ]١ يجعل الله الذي له في الدنيا والآخرة. وذلك قوله تعالى :﴿ فللّه الآخرة والأولى ﴾.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (٢٦).
يخرج هذا على وجهين:
أحدهما: أي: كم ملك له شفاعة لا تنفع شفاعته وإن يشفع إلا لمن ذكر. والثاني: أي: كم من ملك في السماوات لا شفاعة له، ولا يشفع إلا لمن يشاء الله ويرضى أن يشفع، وهو كقوله - تعالى -: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) و، أي: ليست لهم شفاعة تنفع.
وقال أبو بكر الأصم: إنما يشفعون في الآخرة لمن شفعوا في الدنيا واستغفروا لهم؛ كقوله تعالى: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ)، وقوله - تعالى -: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا...) الآية، وقولهم: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ)، وقد ذكرنا فيما تقدم الوجه في ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (٢٧) وإنما يسمي ذلك فُؤُم، وقد أضاف ذلك إلى الكل في الظاهر؛ لأن الذين يسمون الملائكة تسمية الأنثى، واللَّه أعلم.
ويجوز أن يذكر الكل، ويراد به البعض في اللغة، ومثله في القرآن كثير، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٢٨) أي: ما لهم بما يسمون الملائكة تسمية الأنثى من علم؛ لأن العلم بمعرفة الأنثى من الذكر بطريقين:
أحدهما: المشاهدة، يشاهد ويعاين فيعرف الأنثى من الذكر، وهم لم يشاهدوا الملائكة، فكيف يعرفون ذلك؟
والثاني: خبر الرسول المؤيد بالمعجزة، وهَؤُلَاءِ قوم لا يؤمنون بالرسل.
ولا يعرف بالاستدلال وطرق العلم الثلاثة التي ذكرنا، فإذا كان حصل قولهم بلا علم، ولكن على الظن، وذلك قوله تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)، أي: ما يتبعون في قولهم الذي قالوا إلا الظن، ووجه ظنهم ما ذكرنا.
ثم أخبر أن ظنهم لا يغنيهم من الحق شيئًا، فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: أن الظن الذي ظنوا لا يدفع عنهم ما عليهم من اتباع الحق ولزومه.
أحدهما : أي كم من مَلَكٍ، له شفاعته، وإن يشع إلا لمن ذكر.
والثاني : أي كم من ملَكٍ في السماوات، لا شفاعة له، ولا يشفع إلا لمن يشاء الله، ويرضى أن يشفع، وهو كقوله تعالى :﴿ فما تنفعهم شفاعة الشافعين ﴾ [ المدثر : ٤٨ ] أي ليست لهم شفاعة، تنفع لهم.
وقال أبو بكر الأصمّ : إنما يشفعون في الآخرة لمن شفعوا في الدنيا، واستغفروا لهم كقوله تعالى :﴿ ويستغفرون لمن في الأرض ﴾ [ الشورى : ٥ ] وقوله تعالى :﴿ ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسِعْت كل شيء رحمة وعلمًا فاغفر للذين تابوا ﴾ الآية [ غافر : ٧ ] وقولهم :﴿ ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ﴾ [ غافر : ٨ ] وقد ذكرنا١ في ما تقدم الوجه في ذلك.
ويجوز أن يُذكر الكل، ويراد به البعض في اللغة، ومثله في القرآن كثير، والله أعلم.
أحدهما : المشاهدة :[ يشاهد ]١ ويعاين، فتُعرَف الأنثى من الذّكر، وهم لم يشاهدوا الملائكة، فكيف يعرفون ذلك ؟
والثاني : خبر الرسول المؤيَّد بالمعجزة، وهؤلاء قوم لا يؤمنون بالرسل، ولا يعرفون٢ بالاستدلال طُرق العلم الثلاثة التي ذكرنا.
فإن كان حصل قولهم بلا علم، ولكن على الظن، وذلك قوله تعالى :﴿ إن يتّبعون إلا الظن ﴾ [ النجم : ٢٣ ] أي ما يتّبعون في قولهم الذي قالوا إلا الظن، ووجه ظنّهم ما ذكرنا.
ثم أخبر أن ظنّهم ﴿ لا يُغني من الحق شيئا ﴾ فهو يخرّج على وجهين :
أحدهما : أن الظن الذي /٥٣٧-أ/ ظنوا لا يدفع عنهم ما عليهم من اتّباع الحق ولزومه.
والثاني : أن ظنهم الذي ظنوا في الدنيا لا يدفع عنهم ما لزمهم من العذاب في الآخرة.
٢ في الأصل وم: يعرف..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا... (٢٩).
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على ترك مكافأتهم؛ أي: لا تكافئهم لصنيعهم وأذاهم.
والثاني: يخرج على الإياس له من إيمانهم؛ أي: لا تشتغل بهم؛ فإنهم لا يؤمنون أبدًا؛ فهو في قوم خاص علم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم لا يؤمنون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا).
يحتمل أنهم كانوا لا يؤمنون بالآخرة، فلم يريدوا بحسناتهم التي عملوا إلا الحياة الدنيا؛ لأنهم كانوا يتصدقون ويصلون الأرحام، لكن لم يريدوا بذلك إلا ما ذكر في الحياة الدنيا.
وجائز أن تكون الإرادة هاهنا كناية عن العمل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا).
أي: لم يعمل للآخرة رأسا؛ يخبر عنهم أنهم يعملون للدنيا، لا للآخرة، وهو كقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)، وقوله - عز وجل -: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ...) الآية، ونحو ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ... (٣٠) بألا يؤمنوا بالآخرة، ولا يعملوا لها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي: ذلك مبلغ رأيهم من العلم: أن الملائكة بنات اللَّه، وأنها تشفع لهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى).
مثل هذا الكلام إنما يخرج على أثر خصومات كانت من أُولَئِكَ الكفرة مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، كأن أُولَئِكَ الكفرة قالوا: نحن على الهدى، وأنتم على الضلال، فقال عند ذلك: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا)، ثم قال: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى)، أي: هو أعلم بمن ضل عن سبيله؛ فيجزيه جزاء ضلاله في الآخرة، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) فيجزيه جزاء الهدى، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، وهو غني عن عبادتكم، وإنَّمَا يأمركم وينهاكم؛ ليجزيكم بأعمالكم، لا لمنافع ترجع إليه.
وقوله تعالى :﴿ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ﴾ أي ﴿ هو أعلم بمن ضل عن سبيله ﴾ فيجزيه جزاء ضلاله في الآخرة ﴿ وهو أعلم بمن اهتدى ﴾ فيجزيه جزاء الهدى، والله أعلم.
أحدهما :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ وهو غنيّ عن عبادتكم، وإنما يأمركم، ليجزيكم بأعمالكم لا لمنافع ترجع إليه.
والثاني :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي إنما أنشأ أهل السماوات والأرض ليمتحنهم بالأمر والنهي، ثم ليجزي الذين أساؤوا جزاء الإساءة والذين أحسنوا جزاء الإحسان.
ولو كان على ما قال أولئك الكفرة : أن لا بعث، ولا جزاء، لكان خلقُهم وخلق ما ذكر عبثا باطلا. وفي الحكمة التفريق بين المُسيء والمحسن، وفي الدنيا تحقّقت التّسوية بينهما، فدلّ ذلك على دار أخرى، يُفرَّق بينهما فيها.
ثم يحتمل جزاء إساءة أولئك في الدنيا والآخرة : في الدنيا القهر والدّبرة والهزيمة، وفي الآخرة النار، وجزاء المحسن في الدنيا النصر والظّفر، وفي الآخرة الجنة.
ثم يحتمل جزاء إساءة أُولَئِكَ في الدنيا والآخرة: في الدنيا: القهر، والدَّبرة، والهزيمة، وفي الآخرة: النار، وجزاء المحسن في الدنيا: النصر والظفر، وفي الآخرة: الجنة.
ثم نعت الذين أحسنوا الحسنى - وهو التوحيد - فقال: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (٣٢).
ثم يحتمل أن تكون الكبائر ما يعرفها كل أحد: أنها كبيرة، والفاحشة: ما يعرفها كل أحد أنها فاحشة، واللمم -على هذا- يجيء أن تكون من تلك الكبائر والفواحش؛ لأنه استثناها؛ فيجب أن تكون من جنسها، لكنه استثناها وعفا عنها؛ لما يقعون فيها عن غفلة وسهو، أو عن غلبة شهوة، ونحوها، وهو الأشبه بتأويل الآية.
وقال أهل التأويل: الكبائر والفواحش هي التي ذكر فيها الحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة، واللمم التي لم يذكر لها حد في الدنيا، ولا عقوبة في الآخرة.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " زنا العين: النظر، وزنا الشفتين: التقبيل، وزنا اليدين: البطش، وزنا الرجلين المشي، ويصدق ذلك ويكذبه الفرج، فإن تقدم فهو زنا، وإلا فهو لمم "، وفي رواية: " إن تقدم كان زنا، وإن تأخر كان لممًا ".
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة؛ فزنا العينين: النظر، وزنا اللسان: النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه ".
وعن أبي هريرة أنه النظرة، والغمزة، والقبلة، والمباشرة.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: اللمم: لمم الجاهلية؛ كقوله - تعالى -: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو أن يلم المرَّة.
وقيل: اللمم: الهمُّ بالخطيئة من جهة حديث النفس شيئًا من غير عزم.
وقيل: إن اللمم: مقاربة الشيء من غير دخول فيه.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لَاهُمَّ إن تغفر تغفر جمَّا، وأي عبد لك لا ألما؟! ".
وقيل: اللمم: الصغير من الذنوب؛ لقوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ...) الآية.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: اللمم: الصغار من الذنوب، وهو من ألم بالشيء: إذا لم يتعمق فيه، ولم يلزمه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: اللمم: ما بين الحدين: حد الدنيا، وحد الآخرة؛ وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذلك يحتمل، والأول أقرب.
وقال أبو بكر الأصم: اللمم: التي يتوب عنها؛ فإنهم إذا تابوا عنها يتجاوز عنهم؛ فهو يجعل اللمم من تلك الكبائر والفواحش، لكنه يقول: إنما استثنى؛ لما يتوب عنها؛ لما يقعون فيها على السهو والغفلة، أو لغلبة شهوة على حسن الظن بربه؛ فيغفر له، أو يتوب عليه؛ فيعفو عنها.
وعلى تأويل أهل التأويل: اللمم: ما دون الكبائر والفواحش.
وجائز أن تكون الكبائر والفواحش التي ذكر كبائر الشرك وفواحشه؛ كقوله - عز وجل -: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً...) الآية، وقوله - تعالى -: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا)؛ فيكون اللمم -على هذا-: ما دون الشرك فهو في مشيئة اللَّه - تعالى -: إن شاء عفا عنها، وإن شاء عذب عليها؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ).
أي: هو أعلم بكم، وبأحوالكم، ووقوعكم فيها على السهو والغفلة، عفا عنكم؛ أي: عن اللمم.
وعلى قول أبي بكر: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) لمن تاب عنها، و (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) أنكم تتوبون عنها.
وعندنا: أن ربك هو واسع المغفرة لمن شاء، تاب عنها أو لم يتب.
ثم إن كانت المغفرة هي الستر، فهي تعم المؤمن والكافر في الدنيا، وإن كانت التجاوز فهي للمؤمنين خاصة، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) عندنا: هو أعلم بكم بأنكم تعملون وتقعون فيها عن السهو والغفلة.
أو هو أعلم بأحوالكم وأفعالكم، وما يكون منكم، (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) ما لو اجتمع حكماء البشر ما أدركوا معنى الإنسان في ذلك، ولا أدركوا معنى تصوير اليدين، والعينين، وغيرها من الجوارح وقت كونكم أجنة في بطون أمهاتكم.
ثم نسبتنا إلى الأرض بقوله - تعالى -: (مِنَ الْأَرْضِ) تحتمل وجهين:
إما لخلق أصلنا من الأرض؛ كقوله: (أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، ونحوه.
أو لجعل أقواتنا منها؛ لقوله - تعالى -: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا)؛ إذ لا قوام لنا إلا بذلك الغذاء والقوت الذي يخرج من الأرض، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) في ظاهر الآية نهى عن التزكية، وأمر في آية أخرى بالتزكية ورغب فيها؛ حيث قال: (وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، لكن فيما أمر بالتزكية أمر بإصلاح أنفسهم في أنفسهم وتزكيتها فعلا، وفيما نهى عن التزكية نهى عن أن يصفوا أنفسهم بالتزكية والصلاح والتقى والبراءة، لعل ذلك ليس بتزكية في الحقيقة.
أو يكون فيهم من الفساد ما لا يستحق التزكية والوصف بالبراءة، واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: إن اللَّه - تعالى - لما نهانا عن التزكية، فكيف جاز لنا أن نقول لأنفسنا: إنا مؤمنون ومسلمون؛ إذ ذلك مدح وتزكية.
قيل: إنا أمرنا بقول الإيمان والإسلام ابتداء حيث قال: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ..) الآية
والثاني: أن ليس في نفس الإيمان تزكية؛ لأن كل أهل الأديان مؤمنون بشيء، كافرون بشيء، بقوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ)، وقول أُولَئِكَ: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ)، وقوله: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)، وفي نفس التقى والصلاح تزكية.
وقيل: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أي: لا تزكوا أهل دينكم ومذهبكم، وذلك متعارف في الناس: أنهم يزكون أهل مذهبهم وإن كانوا لا يعرفون صلاحهم وتقواهم، ويذمون أهل خلافهم في مذهبهم وإن لم يعرفوا منهم الشر وما به تجب المذمة، وذلك محتمل يحتمل ما ذكرنا أنه نهى كُلًّا في نفسه أن يزكي، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) أي: اتقى محارم اللَّه ومناهيه.
ويحتمل: أي: اتقى الكفر باللَّه والشرك به.
* * *
قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (٤١) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (٥٠) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (٥٣) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٦).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى. وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أفرأيت الذي تولى كبراء الكفرة وعظماءهم، وأعطى قليلا من المال لضعفة أهل الإيمان؛ ليرجعوا عن الإيمان بمُحَمَّد والتصديق له، ويكذبوا عليه.
وقوله: (وَأَكْدَى) أي: قطع عنهم في وقت أيضًا.
وكذا قَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَأَكْدَى) أي: قطع، وهو من كدية الركيَّة، وهي الصلابة فيها إذا بلغها الحافر يئس من حفرها؛ فقطع الحفر.
أحدهما :﴿ أفرأيت الذي تولّى ﴾ ﴿ وأعطى قليلا ﴾ من كبّر الكفرة وعظماءهم، وأعطى قليلا من المال الضّعَفَة أهل الإيمان ليرجِعوا عن الإيمان بمحمد والتصديق به، ويكذبوا عليه ﴿ وأكدى ﴾ أي قطع عنهم في وقت أيضا. وكذا قال القتبيّ :﴿ وأكدى ﴾ أي قطع، وهو من كُديَة الرَّكيّة، وهي الصلابة فيها، إذا بلغها الحافر يئس من حفرها١، فقطع الحفر.
[ والثاني ]٢ : قيل لكل من طلب شيئا، فلم يبلُغ، أو أعطى، فلم يُتمِّم : أكدى. وقال أبو عوسجة : أكدى بخِل، ورجل مُكْدٍ بخيل.
٢ في الأصل وم: و..
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أكدى: بخل، ورجل مكدٍ: بخيل.
وقوله: (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (٣٥) فهو - واللَّه أعلم -: أعنده علم الغيب؛ فيأمر بتكذيب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويأذن له بالتولي عنه، وإعطاء المال على التكذيب له؛ أي: ليس عنده علم الغيب؛ لأنهم قوم لا يؤمنون بالرسل والكتب، وأسباب العلم هذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) كأن هذا مقطوع من الأول؛ كان أُولَئِكَ الكفرة يقولون لأتباعهم: إنا نتحمل عنكم الظلم والوزر؛ فلا تأتوا محمدًا ولا تصدقوه؛ كقوله - تعالى - حكاية عنهم: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ)، فقال عند ذلك: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، أي: قد بينا في صحفهما: ألا تزر وازرة وزر أخرى.
ولحيل: إنما سمي: وفيًّا؛ لأنه بلغ ما أمر بتبليغه.
وقيل: لأنه كان يصلي أربع ركعات عند الضحى، وعلى ذلك يروون خبرا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أتدرون ما وفَّى؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: " وَفَّى أربع ركعات عند الضحى ".
فإن ثبت هذا اكتفي عن أي تأويل آخر، وأصله: أنه سماه: وفيًّا؛ لما قام بوفاء ما أمر به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فيه أن هذا في الكتب كلها: في صحف إبراهيم، وموسى، وغيرهما من الكتب: ألا يحمل أحد وزر آخر، إنما يحمل وزر نفسه.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: لا يؤخذ الرجل بذنب غيره.
وعن عمرو بن أوس قال: كان الرجل يؤخذ في الجاهلية بذنب غيره حتى نزلت الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩).
يشبه أن يكون قوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) أي: ليس على الإنسان إلا ما
وعلى ذلك يروون خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى بأربع ركعات كما يصلّيهن من أول النهار، وزعم أنها صلاة الضحى ) [ الطبري في تفسيره : ٢٧/٧٣ ] فإن ثبت هذا اكتُفي عن تأويل آخر. وأصله أنه سمّاه وفيًّا لما قام بوفاء ما أمر.
وعلى ذلك يروون خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى بأربع ركعات كما يصلّيهن من أول النهار، وزعم أنها صلاة الضحى ) [ الطبري في تفسيره : ٢٧/٧٣ ] فإن ثبت هذا اكتُفي عن تأويل آخر. وأصله أنه سمّاه وفيًّا لما قام بوفاء ما أمر.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : قال [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ]١ :( لا يُؤخذ الرجل بذنب غيره ) [ الطبري في تفسيره : ٢٧/٧٢ ].
وعن عمر وابن أوسٍ [ أنه ]٢ قال : كان الرجل يُؤخذ في الجاهلية بذنب غيره حتى نزلت الآية.
٢ ساقطة من الأصل وم..
ويحتمل أن تكون الآية في أولئك الكافرين الذين نزل فيهم قوله تعالى :﴿ ألاّ تزِر وازرة وِزر أخرى ﴾ يقول : ليس لذلك الإنسان إلا ما سعى.
وجائز أن يكون " له " بمعنى " عليه " في اللغة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، أي: فعليها.
ويحتمل أن تكون الآية في أُولَئِكَ الكافرين الذين نزل فيهم قوله - تعالى -: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) يقول: ليس لذلك الإنسان إلا ما سعى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠) وحرف (سَوفَ) من اللَّه - سبحانه وتعالى - على التحقيق والإيجاب؛ كحرف " لعل " و " عسى "؛ فيكون قوله - تعالى -: (سَوفَ يُرَى) أي: يرى جزاء عمله لا محالة.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (٤١) جزاء الآخرة على الوفاء، لا نقصان فيه، خيرا كان أو شرًّا.
ويحتمل أن يكون ذلك للكافر يجزى جزاء الشرك وجميع ما يعمل من السوء، فأما المؤمن، فإنه يكفر سيئاته، ويجزى جزاء الخيرات؛ كقوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (٤٣) سمى الآخرة: منتهى، ومصيرًا، ورجوعا.
ويحتمل: أي: إلى جزاء ربك يُنْتهى.
وقوله: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) بين اللَّه - جل وعلا - قدرته وسلطانه في إنشاء أنفسهم، وأحوالهم، وأفعالهم:
أما بيان قدرته في أنفسهم حيث قال: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ).
وأما بيان قدرته في أحوالهم ما ذكر من قوله - تعالى - (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى)، (وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا).
وأما في أفعالهم قوله: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) يذكر قدرته وسلطانه بما ذكر؛ ليعلموا أنه لا يعجزه شيء.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) يخرج على وجهين:
أما بيان قدرته في أنفسهم فحين قال :﴿ هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجِنة في بطون أمهاتكم ﴾ [ الآية : ٣٢ ].
وأما بيان قدرته في أحوالهم فما ذكر من قوله تعالى :﴿ وأنه هو أغنى وأقنى ﴾ [ الآية : ٤٨ ] ﴿ وأنه هو أمات وأحيا ﴾ [ الآية : ٤٤ ].
وأما في أفعالهم فقوله :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ﴾.
يذكر قدرته وسلطانه بما ذكر ليعلموا أنه لا يُعجزه شيء.
ثم قوله عز وجل :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ﴾ يخرّج على وجهين :
أحدهما : على الكناية والاستعارة ؛ جعل الضحك كناية عن السرور، والبكاء كناية عن الحُزن. وكذا العُرف في الناس أنه إذا اشتدّ بهم السرور ضحكوا، وإذا اشتد بهم الحزن بكوا.
والثاني : على حقيقة الضحك والبكاء، فهو على وجهين :
أحدهما : أي أنشأهم بحيث يضحكون، ويبكون.
والثاني : يخلُق منهم فعل الضحك والبكاء ؛ فهو أشبه التأويلين عندنا.
والثاني: على حقيقة الضحك والبكاء؛ فهو على وجهين:
أحدهما: أي: أنشأهم بحيث يضحكون ويبكون.
والثاني: يخلق منهم فعل الضحك والبكاء؛ فهو أشبه التأويلين عندنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (٤٤).
قوله: (أَمَاتَ) يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: جعلهم بحيث يموتون، وبحيث يحيون.
والثاني: أمات بإخراج روحهم، وأحيا بإدخال الروح فيهم، وهو كقوله - تعالى - (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)؛ فيحتمل إماتتهم في الدنيا وإحياءهم في الآخرة، وأصل ذلك: أنه يفعل بهم كل ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٤٥) اسم الزوج يحتمل الشكل، ويحتمل المقابل؛ أي: يجعل أحدهما شكلا للآخر وإن كانا ضدين؛ يقول: جعلهم بحيث يتزاوجون ويتشاكلون، أو يتقابلون ويتضادون، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (٤٦) أي: تقذف.
قال الأصم: دل قوله: (نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى): أنها إذا لم تقذف تصير: مذيا، وإنما تقذف التي تخرج على شهوة، فأما التي تخرج لا على شهوة فإنه يكون مذيا، ولا يوجب الاغتسال، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (٤٧) أي: في الحكمة عليه النشأة الأخرى؛ لأنه لو لم تكن النشأة الأخرى، كانت النشأة الأولى باطلا، عبثا، غير حكمة.
أو يقول: إن عليه النشأة الأخرى؛ ليعلم أن له قدرة عليها كما له القدرة على الأولى؛ لأن أُولَئِكَ الكفرة كانوا مقرين بالأولى والقدرة عليها، وينكرون الأخرى؛ فيخبر أن له القدرة عليهما، وباللَّه التوفيق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (٤٨).
يحتمل قوله: [(أَغْنَى)]، أي: وسع عليهم (وَأَقْنَى)، أي: سيَّر لهم ما يقتنون من الخدم وغيرها؛ فيكون الإغناء هو التوسيع بأنواع الأموال، والإقناء هو إعطاء القنية من الخادم وما يحتاج إليه للمهنة؛ فيكون في جعل الخدم له فضل حاجة، لا غناء، وذلك
أو يقول :﴿ وأن عليه النشأة الأخرى ﴾ /٥٣٨-أ/ ليُعلم أن له قدرة عليها كما له القدرة على الأولى، لأن أولئك الكفرة كانوا مقرّين بالأولى والقدرة عليها، وينكرون الأخرى، فيُخبِر أن له القدرة عليهما، وبالله التوفيق.
وقيل :﴿ أغنى ﴾ أي أعطى ما يُغنيه، ويستغني به ﴿ وأقنى ﴾ أي أقنعه، وأرضاه، وقيل على العكس :﴿ أغنى ﴾ أي أرضى ﴿ وأقنى ﴾ أي أُخدم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه :﴿ أغنى وأقنى ﴾ أي أكثر، وقال : يا ابن آدم، هو أغناك، وأقناك، أي أعطاك الخدم، على ما ذكرنا.
وقال القتبيّ : هو من القِنْية والسَّيب، يقال : أقنيته كذا.
وقال أبو عوسجة : هو من القَنْو، قَنَاهُ٢، أعطاه مالا، يَقْنى قَنْوًا.
٢ في الأصل وم: قنى..
وقيل: (أَغْنَى) أي: أعطى ما يغنيه ويستغني به، (وَأَقْنَى) أي: أقنعه، وأرضاه.
وقيل على العكس: أغنى، أي: أرضى، وأقنى: أي: أخدم.
[وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَغْنَى)]، أي: أكثر.
وقال عطاء: ابنَ آدم، هو أغناك وأقناك؛ أي: أعطاك الخدم؛ على ما ذكرنا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: هو من القنية، وهي الكسب؛ يقال: أقنيته كذا.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من القنو؛ قنى: -أعطاه مالًا- يقنى قنوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (٤٩) قيل: إن الشعرى: اسم كوكب كان يعبده بعض العرب؛ فكأنهم ظنوا أن ما في ذلك الكوكب من الحسن والجمال؛ لِقَدْرٍ له عند الله ومنزلة، وأن تدبيرهم يرجع إليه؛ فعبدوه لذلك.
ويحتمل أنهم عبدوه؛ لما لم يروا لأنفسهم أهلية لعبادة الرب - تعالى - فعبدوه من دونه؛ رجاء التقرب إليه؛ على ما يخدم المرء المتصلين بملوك الأرض.
ولكن هذا فاسد؛ لأن من خدم المتصلين بملوك الأرض إنما يخدم لما لم يسبق لهم إليهم من خدمة متصلة، ولا الإذن بعبادة أنفسهم وخدمتهم، فأما اللَّه - تعالى - قد أمرهم بعبادة نفسه، ونهاهم عن عبادة غيره؛ فلم يسع لهم بعد الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره عبادة من دونه.
ذكر سفههم في عبادتهم الشِّعْرَى وأمثالها؛ أي: اعبدوا رب الشعرى؛ فإن ما فيه من الحسن والجمال هو الذي فعل، فإليه اصرفوا العبادة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (٥٠) قرئ: (عَادًا الْأُولَى) بإظهار التنوين والهمزة، وبغير الهمزة ولا إظهار التنوين؛ حتى تصير كأنها لام مثقلة.
ثم هذا ليس نوع ما ذكر من قبل، إنما ذكر هذا لهم؛ لينزجروا عن صنيعهم؛ أي: إذ أهلك عادا وهم أشد منكم قوة، وأكثر عددًا وأموالًا، فلما لم ينزجروا بمواعظ الرب - تعالى - أهلكهم؛ فعلى ذلك يفعل بكم يا أهل مكة؛ إن لم تتعظوا.
أو إنه أهلك عادا فلم يتهيأ لهم القيام بدفع عذاب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مع قوتهم، فكيف أنتم يا أهل مكة؟!
ثم هذا ليس نوع ما ذكر من قبل، إنما ذكر هذا لهم لينزجِروا عن صنيعهم، أي إذا أهلك عادا، وهم أشد منكم قوة، وأكثر عددا وأموالا. فلمّا لم ينزجروا بمواعظ الرب تعالى أهلكهم. فعلى ذلك نفعل بكم يا أهل مكة إن لم تتّعظوا.
أو إنه أهلك عادا فلم يتهيأ لهم القيام بدفع عذاب الله عز وجل مع قوتهم، فكيف أنتم يا أهل مكة ؟
ثم اختُلف في قوله :﴿ عادًا الأولى ﴾ منهم من قال : كانوا عادين : أحدهما : قوم هود، وهم٢ أوّل، فأُهلكوا بالريح، وكانت أخرى في زمن فارس الأول. ومنهم من قال :﴿ عادا الأولى ﴾ الذين أُهلكوا من قبل من الأمم، وأهل مكة وهؤلاء عاد أخرى.
٢ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: وهو..
أحدهما: قوم هود، وهم أول، فأهلكوا بالريح، وكانت أخرى في زمن فارس الأول.
ومنهم من قال: عادا الأولى: الذين أهلكوا من قبل من الأمم، وأهل مكة وهَؤُلَاءِ عاد أخرى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (٥١) أي: أهلك ثمودًا أيضًا.
وقوله: (فَمَا أَبْقَى) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: استأصلهم لم يبق منهم أحدًا؛ أي: ما أبقى لهم نسلا يذكرون بذلك بعد هلاكهم، كما أبقى الأنبياء والرسل - عليهم السلام - من النسل.
أو ما لهم من آثار الخير شيئًا كما أبقى للرسل وأتباعهم إلى آخر الأبد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (٥٢) أي: كانوا أفحش ظلما، وأكثر طغيانا؛ لأن نوحا - عليه الصلاة والسلام - دعاهم إلى توحيد اللَّه ألف سنة إلا خمسين عامًا، فما زادهم إلا نفورا واستكبارا؛ على ما أخبر: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (٥٣) قيل: قريات لوط - عليه السلام - أي: أهلكها أيضًا.
وقوله: (أَهْوَى) قيل: أي: أهوى إلى النار.
وقيل: أي: أهوى من السماء إلى الأرض؛ على ما ذكر أن جبريل - عليه السلام - رفعها إلى السماء وأرسلها إلى الأرض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤).
قيل: غشاها بالحجارة بعد ذلك، فسواها بالأرض.
وقيل: غشى بالحجارة مسافريهم ومن غاب عنهم.
وقيل: المؤتفكة: المكذبة؛ من الإفك وهو الكذب.
وقيل: المنقلبة؛ ائتفكت: أي: انقلبت، (فَغَشَّاهَا) أي: غشى قريات لوط - عليه
٢ ساقطة من الأصل وم..
وقال أبو عبيدة: المؤتفكة: المخسوفة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥) فظاهر هذا وظاهر قوله - تعالى -: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، مشكل؛ لأنه ذكر آلاء، ولو عرف أنها آلاء ربه، لكان لا يكذبه، لكن يخرج على وجوه: على التقديم والتأخير والإضمار؛ كأنه يقول: فبأي آلاء من آلاء ربكم شاهدتموه وعاينتموه تتمارون، وكذلك: فبأي آلاء ربكما الذي أقررتم ْبه تكذبوني.
أو يقول: فبأي آلائه وإحسانه تتمارى، فكيف أنكرتم إحسانه بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؟!
أو كيف صرفتم شكر نعمه إلى غيره.
أو تكون الآلاء هاهنا هي الحجج؛ يقول: فبأي حجة من حجج ربك تنكر رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو تتمارى فيها؛ أي: لا حجة لك في تكذيبك إياه أو إنكارك رسالته.
وقوله: (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٦) أي: الذي يدعوكم وينبئكم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من النذر الأولى التي أنبأها الرسل الأولون، وأوعدوا قومه؛ فيكون صلة قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى...) إلى آخره.
وقيل: (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى) أي: الرسل الأولى، وتمام هذا التأويل: أي: هذا نذير من البشر كالذين كانوا من قبل.
وقيل: هذا الذي ينذر مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو من النذر التي في اللوح المحفوظ، أي: مما ينذر به، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ. أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي: قربت القيامة؛ سمى اللَّه - سبحانه وتعالى - القيامة بأسماء مختلفة: مرة الآزفة، ومرة: الساعة، ومرة: القيامة؛ فسماها: آزفة؛ لقربها إلى الخلق ووقوعها عليهم، وكذلك الساعة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (٥٨) دلت الآية على أن اللَّه - تعالى - لم يؤت علم قيام الساعة ووقوعها أحدًا، وهو كقوله تعالى: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، وللباطنية أدنى تعلق في هاتين الآيتين؛ لأنهم قالوا: إن الآخرة للحال كائنة، لكنها مختفية مستترة، تظهر وتكشف عند فناء هذه الأجسام، وذهاب هذه الأبدان؛ ويستدلون بقوله - تعالى - (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، وبقوله - تعالى -
وقيل :﴿ هذا نذير من النّذر الأولى ﴾ أي [ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ من النّذر الأولى ﴾ أي ]١ الرسل الأولى، وتمام هذا التأويل، أي هذا نذير من البشر كالذين كانوا من قبل.
وقيل : هذا الذي يُنذر محمد صلى الله عليه وسلم هو من النّذر التي في اللوح المحفوظ، أي مما يُنذر به، والله أعلم.
وللباطنية أدنى تعلّق في هاتين الآيتين لأنهم قالوا : إن الآخرة للحال كائنة، لكنها مختفية مستترة، تُظهَر، وتُكشَف عند فناء هذه الأجسام وذهاب هذه الأبدان. ويستدلّون بقوله تعالى :﴿ لا يُجلّيها لوقتها إلا هو ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] وبقوله تعالى :﴿ ليس لها من دون الله كاشِفة ﴾ ويقولون : إن لفظ التجلي والكشف إنما يستعملون في ما هو كائن ثابت، يظهر عند ارتفاع التواتر، لا يخفيها إلا في الإنشاء ابتداءً.
ولكن عندنا أن حرف الكشف والتجلّي يُستعمل في ابتداء الإحداث والإنشاء وفي إظهار ما كان كامنا خافيا. فإذا كان كذلك بطل استدلالهم بذلك، وهو كقوله تعالى :﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ [ الأنعام : ٧٣ و. . . ] هو عالم بما كان خفيًّا بحق الخَلق وما هو شاهد ظاهر وعالم بما يكون وبما هو كائن للحال، والله الموفّق.
ولكن عندنا: أن حرف الكشف والتجلي يستعمل في ابتداء الإحداث والإنشاء، وفي إظهار ما كان كامنا خفيًّا، فإذا كان كذلك، بطل استدلالهم بذلك، وهو كقوله - تعالى -: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)، هو عالم بما كان خفيًّا بحق الخلق وما هو شاهد ظاهر، وعالم بما يكون وبما هو كائن للحال، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ) كانوا تعَجَّبوا من أمرين:
أحدهما: من بعث الرسل؛ كقوله - تعالى -: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ).
ومن البعث بعدما يفنون ويتلفون؛ كقوله - تعالى - (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَضْحَكُونَ... (٦٠) الضحك - هاهنا - كناية عن الاستهزاء، ليس على حقيقة الضحك.
أو يكون الضحك كناية عن السرور؛ أي: تسرون على ما أنتم عليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَبْكُونَ) أيضًا ليس على حقيقة البكاء، ولكن كناية عن الحزن، أي: ولا تحزنون على ما فرط منكم من الأعمال وسوء الصنيع والمعاملة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١) أي: لاهون، معرضون.
وعن الحسن وسعيد بن جبير: سامدون: غافلون.
وقيل: سامدون: حزنون على رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وغائظون على ما أنزل عليه.
وعن عكرمة، عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله - تعالى - (وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) وقال: هو الغناء بلغة اليمن؛ يقول اليماني: اسمد لنا: أي: غن لنا؛ قال: كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢) أي: اخضعوا لله، واستسلموا له؛ إذ الأمر بالسجود عند التلاوة في غير سجود الصلاة، أمر بالخشوع له والاستسلام، والأمر بالسجود - هاهنا - للتلاوة؛ للأحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن الصحابة والتابعين، رضوان
روى الأسود عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ سورة النجم، فسجد فيها، ولم يبق معه أحد إلا سجد، إلا شيخ من قريش؛ فإنه أخذ كفًّا من حصا، فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا، قال ابن مسعود: فلقد رأيته بَعْدُ قُتِلَ كافرًا.
وروى أبو هريرة والمطلب بن أبي وداعة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سجد فيها.
وروي عن عمر وعثمان - رضي اللَّه عنهما - أنهما سجدا فيها.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " عزائم السجود أربع: تنزيل السجدة، وحم السجدة، والنجم، واقرأ باسم ربك ".
وما روي عن زيد بن ثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأها فلم يسجد، يحتمل أن تكون التلاوة واقعة في وقت يكره السجود، والحديث حكاية فعل لا عموم له، واللَّه أعلم بحقيقة ما أراد، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
* * *
أحدهما : من بعث الرسل كقوله تعالى :﴿ بل عجِبوا أن جاءهم مُنذر منهم ﴾ [ ق : ٢ ].
[ والثاني ]١ : من البعث بعد ما يفنَون، ويبلَون، كقوله تعالى :﴿ وإن تعجب فعجبٌ قولهم أإذا كنا ترابا ﴾ الآية [ الرعد : ٥ ].
وقوله تعالى :﴿ وتضحكون ﴾ الضحك /٥٣٨-ب/ ههنا كناية عن الاستهزاء، ليس على حقيقة الضحك، ويكون الضحك كناية عن السرور، أي تُسَرّون على ما أنتم عليه.
وقوله تعالى :﴿ ولا تبكون ﴾ أيضا ليس على حقيقة البكاء، ولكن كناية عن الحزن، أي ولا تحزنون على ما فرط منكم من الأعمال وسوء الصنيع والمعاملات.
وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى :﴿ وأنتم سامدون ﴾ [ أنه ]١ قال : هو [ من ]٢ الغناء بلغة اليمن ؛ يقول اليمانيُّ : اسمُدْ لنا، أي غنّ لنا، قال : كانوا إذا سمعوا القرآن تغنّوا، ولعبوا.
٢ ساقطة من الأصل وم..
روى الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة النجم، فسجد فيها، ولم يبق معه أحد إلا سجد إلا شيخ من قريش، فإنه أخذ كفّا من حصى، فرفعه إلى جبهته.
وروى أبو هريرة والمطّلب ابن أبي وداعة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها.
ورُوي عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما سجدا فيها، وعن علي رضي الله عنه أنه قال : عزائم السجود أربع :﴿ تنزيل ﴾ السجدة [ و﴿ حم ﴾ السجدة ]١ ﴿ والنجم ﴾ و﴿ اقرأ باسم ربك ﴾.
وما رُوي عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها، فلم يسجد، ويحتمل أن تكون التلاوة واقعة في وقت يُكره السجود حكاية فعل، لا عموم له، والله أعلم بحقيقة ما أراد [ والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين ]٢.
٢ في م، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب..