تفسير سورة الرعد

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة الرّعد
مكيّة وآياتها ثلاث وأربعون ربّ يسّر وتمّم بالخير «١» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الاضافة بمعنى من وأراد بالكتاب السورة او القران وتلك اشارة الى آياتها- اى تلك الآيات آيات السورة الكاملة او القران وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى القران كله ومحله الجر عطفا على الكتاب عطف العام على الخاص ان كان المراد بالكتاب السورة- او عطف احدى الصفتين على الاخرى ان كان المراد به القرآن وقوله الْحَقُّ خبر مبتدا محذوف اى هو الحق لا ريب فيه- او محل الموصول الرفع بالابتداء والحق خبره- والجملة كالحجة على الجملة الاولى- فان قيل تعريف الخبر يدل على اختصاص المنزل بكونه حقّا- مع ان السنة والإجماع والقياس كل منها حق يفيد الحق- قلنا المراد بما انزل أعم من المنزل صريحا او ضمنا مما نطق المنزل بحسن اتباعه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) لاخلالهم النظر والتأمل فيه- قال مقاتل نزلت فى مشركى مكة حين قالوا ان محمّدا ﷺ تقوّله من تلقاء نفسه- فرد قولهم وبين دلائل توحيده-.
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ مبتدا وخبر- او الموصول صفة والخبر يدبر بِغَيْرِ عَمَدٍ جمع عماد كاهاب وأهب او عمود كاديم وآدم- يعنى أساطين حال من
(١) الخطبة من الناشر-
السموات تَرَوْنَها صفة لعمد او استيناف للاستشهاد برؤيتهم السموات- كذلك وهو دليل على وجود الصانع الحكيم- فان ارتفاعها على سائر الأجسام المتساوية لها فى الحقيقة الجسمية- واختصاصها بما يقتضى ذلك- لا بد ان يكون من مخصّص ليس بجسم ولا جسمانى- رجح بعض الممكنات على بعض بإرادته- وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وقد مر البحث عنه فى سورة يونس وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ اى ذلّلهما لما أراد منهما كالحركة المستمرة على حد من السرعة ينفع للحوادث اليومية كُلٌّ منهما يَجْرِي فى السماء الدنيا لِأَجَلٍ مُسَمًّى لمدة معينة يتم فيها أدواره- او لغاية معلومة وهو وقت فناء الدنيا يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى يقضى امر ملكوته من الإيجاد والاعدام والاحياء والاماتة وغير ذلك يُفَصِّلُ الْآياتِ ينزلها او يبينها مفصلة- او يحدث الدلائل واحدا بعد واحد لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) لكى تفكروا فيها وتعلموا كمال قدرته- فتعلموا ان من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قادر على الاعادة والجزاء.
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ بسطها ليثبت عليها الاقدام وينقلب عليها الحيوان وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ جمع راسية اى جبالا ثابتة من رسى الشيء إذا ثبت- والتاء للتأنيث على انها صفة اجبل او للمبالغة- قال ابن عباس كان ابو قبيس أول جبل وضع على الأرض وَأَنْهاراً ضمها الى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث ان الجبال اسباب لتولّدها وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلق بقوله جَعَلَ فِيها اى جعل فى الأرض جميع انواع الثمرات زَوْجَيْنِ صنفين اثْنَيْنِ الجيد والردى قلت يمكن ان يكون المراد بها تنوعها على اقسام شتّى أدناها اثنان يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ اى يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا ويصير مضيئا بعد ما كان مظلما- قرا حمزة والكسائي وابو بكر يغشّى بالتشديد إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) فيها فان تكوّنها وتخصيصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع حكيم دبر أمرها وهيّأ أسبابها-.
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ متقاربات بعضها طيبة وبعضها سبخة
213
وبعضها رخوة وبعضها صلبة- وبعضها يصلح للزرع دون الشجر وبعضها بالعكس- وبعضها قليلة الريع وبعضها كثيرة- ولولا تخصيص قادر يفعل ما يشاء على ما أراد لم يختلف لاشتراك تلك القطع فى طبيعة الأرض وما يلزمها ويعرض لها بتوسط الأسباب السماوية من حيث انها متضامة متشاركة فى النسب والأوضاع وَجَنَّاتٌ بساتين مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وحّدها لكونها مصدرا فى الأصل وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ اى نخلات أصولها واحد جمع صنو كقنوان جمع قنو- ولا فرق بين تثنيتهما وجمعهما الا بان النون فى التثنية مكسورة بلا تنوين وفى الجمع منونة- ومنه قوله ﷺ فى العباس ان عم الرجل صنو أبيه وَغَيْرُ صِنْوانٍ متفرقات مختلفة الأصول- قرا ابن كثير وابو عمرو وحفص زَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ برفع الاربعة عطفا على جنّت والباقون بجرها عطفا على أعناب يُسْقى قرا عاصم وابن عامر ويعقوب بالتاء «١» للتانيث لان الضمير راجعة الى الجمع والباقون بالياء على التذكير على تأويل ما ذكر بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ قرا حمزة والكسائي بالياء على الغيبة مطابقا بقوله يدبّر والباقون بالنون على التكلم بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ فى الثمر قدرا وطعما ورائحة ولونا- اخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابى هريرة عن النبي ﷺ قال الدقل والفارسي والحلو والحامض- وذلك ايضا مما يدل على الصانع الحكيم- فان اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون الّا بتخصيص قادر مختار- قال مجاهد كمثل بنى آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد- وقال الحسن هذا مثل ضرب الله لقلوب بنى آدم- كانت الأرض طينة واحدة فى يد الرّحمن فسطحها فصارت قطعا متجاورات- فانزل عليها الماء من السماء فاخرج من هذه زهرتها وشجرها وثمرها ومن هذه سبخها وملحها وخبثها- وكل تسقى بماء واحد- كذلك الناس خلقهم من آدم فانزل من السماء ذكره فرق قلوب وخشعت وقسى قلوب ولهت- قال الحسن والله ما جالس القران أحد إلا قام من عنده بزيادة او نقصان قال الله تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
(١) هذا من سباق قلم لانه قرا عاصم وابن عامر ويعقوب بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث- ابو محمّد
214
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) اى يستعملون عقولهم بالتفكر-.
وَإِنْ تَعْجَبْ يا محمّد من تكذيب المشركين إياك فى دعوى الرسالة بعد ما راوا الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة مع انهم يعبدون ما لا يضر ولا ينفع من الحجارة بلا دليل فَعَجَبٌ اى حقيق بان يتعجب منه قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً بعد الموت أَإِنَّا اختلف القراء فى الاستفهامين إذا اجتمعا نحو هذه الاية وقوله تعالى أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً «١»... أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ... - أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ... أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وشبهه وجملته أحد «٢» عشر موضعا فى القران- فقرا نافع والكسائي ويعقوب الاول استفهاما بهمزتين والثاني خبرا بهمزة واحدة- وابو جعفر وابن عامر بالعكس- والباقون استفهاما فيهما- الا ان نافعا قرا فى النمل والعنكبوت الاول منهما خبرا والثاني استفهاما- وكذا ابن كثير وحفص فى العنكبوت وابو جعفر يوافق نافعا فى أول الصّفات دون الثاني- وابن عامر فى النمل والنّزعت بعكس هذا وفى الواقعة بالاستفهام فيهما- ثم القراء عند اجتماع الهمزتين على أصولهم- فنافع وابن كثير- وابو عمرو يقرءون الاستفهام بهمزة وياء بعدها- فابن كثير لا يمد بعد الهمزة وابو عمرو يمد ويدخل قالون بينهما الفا وهشام يدخل بين الهمزتين المحققتين الفا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٥) والجملة الاستفهامية بدل من قولهم- او مفعول به له يعنى قولهم هذا المشعر بانكار البعث حقيق بالتعجب- فانهم ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عزّ وجلّ- وقد تقرر فى القلوب ان الاعادة أهون من الابتداء- والعامل فى إذا محذوف دل عليه أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ تقديره إن عدنا فى خلق جديد كما كنا قبل الموت إذا متنا وكنّا ترابا- او المعنى وان تعجب يا محمّد على انكارهم البعث بعد إقرارهم ببدء الخلق من الله تعالى فقولهم هذا حقيق بان يتعجب منه- فان من قدر على إنشاء ما قصّ عليك كانت الاعادة أيسر شيء عليه- والآيات المعدودة كما هى دالة على وجود المبدا دالة على إمكان الاعادة من حيث انها تدل على كمال قدرته وقبول المواد لانواع تصرفاته أُولئِكَ يعنى الذين ينكرون البعث هم الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لانهم كفروا بقدرته تعالى على البعث- والعاجز لا يصلح لكونه ربا وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ
(١) وفى القران تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا- ابو محمّد
(٢) رعد- بنى اسراءيل- مؤمنون- الم سجده- نمل- صّفّت- الواقعة- النّزعت- عنكبوت- منه رح
فِي أَعْناقِهِمْ يعنى هم مقيدون بالضلال لا يرجى خلاصهم- او هم يغلون يوم القيامة وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يوم القيامة دل تكرار أولئك على تعظيم الأمر هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) لا ينفكون عنها وتوسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفار كما هو مذهب اهل الحق خلافا للمعتزلة-.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ الاستعجال طلب الشيء عاجلا قبل وقته والمراد بالسيّئة هاهنا العقوبة وبالحسنة النعمة والعافية وذلك ان مشركى مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم يقولون اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ... وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها- ولم يجوزوا حلول مثلها عليهم- والمثلة بفتح الثاء وضمها كالصّدقة والصّدقة العقوبة- لانها مثل المعاقب عليه ومنه المثال للقصاص وامثلت الرجل من صاحبه إذا اقتصصته وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ اى مع ظلمهم على أنفسهم ومحله النصب على الحال والعامل فيه المغفرة- قلت الظاهر ان الاية فى منكرى البعث والمراد بالمغفرة الامهال يعنى ان الله حليم يمهل الكفار مع ظلمهم ولذلك لم يعذبهم وهم يستعجلون العقوبة وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) يعنى إذا يحل بهم العقوبة من الله تعالى لا يستطيع أحد دفعه- وقال السدىّ قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ فى حق المؤمنين خاصة- وهى أرجى اية فى كتاب الله حيث وعد المغفرة مع الظلم- ففيه دليل على جواز العفو بلا توبة- إذ التائب ليس على الظلم بل التائب من الذنب كمن لا ذنب له رواه ابن ماجة عن ابن مسعود مرفوعا وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ على الكفار- وقيل هما جميعا فى المؤمنين لكنه معلّق بالمشية فيهما اى يغفر لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ- اخرج ابن ابى حاتم والبيهقي والواحدي عن سعيد بن المسيب مرسلا عن النبي ﷺ انه قال لولا عفو الله وتجاوزه ما «١» هاهنا أحد يعيش- ولولا وعيده وعذابه لا تكل كل أحد-
(١) فى الأصل ما هنا أحدا العيش-[.....]
.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ اى على محمّد ﷺ آيَةٌ اى علامة وحجة على نبوته مِنْ رَبِّهِ لم يعتدوا بالآيات المنزلة على النبي صلى الله عليه وسلم- واقترحوا آيات اخر تعنتا وعنادا فقال الله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ يعنى ليس عليك الا الانذار والتبليغ- وما عليك إتيان الآيات المقترحة ولا حملهم على الهداية كرها وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) قرا ابن كثير هاد ووال وواق وما عند الله باق بالتنوين فى الوصل فاذا وقف وقف بالياء فى هذه الاحرف الاربعة حيث وقعت لا غير- والباقون يصلون بالتنوين ويقفون بغير ياء- والمعنى ان لكل قوم هاد اى قادر على هدايتهم وهو الله عز وجل يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ كذا قال سعيد بن جبير- وقال عكرمة الهادي محمّد ﷺ والمعنى أنت منذر وهاد اى داع الى سبيل الحق لكل قوم والهداية حينئذ بمعنى اراءة الطريق- وقيل معناه ولكل قوم نبى يهديهم اى يدعوهم الى الله بما يعطيهم من الآيات لا بما اقترحوا- قبح الله الرافضة يقولون كان فى التنزيل ولكل قوم هاد علىّ حذف عثمان رضى الله عنه حسدا لفظ علىّ- لعنهم الله انّى يؤفكون ينكرون قوله تعالى إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ- وعلى هذا يلزم فضل علىّ رضى الله عنه على النبي ﷺ فان معنى الاية على هذا انما أنت منذر ولست بهاد ولكن علىّ هاد لكل قوم ولا يخفى ما فيه- ثم اردف الله تعالى ذلك بما يدل على كمال علمه وقدرته وشمول قضائه وقدره تنبيها على انه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه- وانما لم ينزل لعلمه ان اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد- وانه قادر على هدايتهم وانما لم يهدهم لسبق قضائه عليهم بالكفر فقال.
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى اى حملها او ما تحملها من ذكر او أنثى سوىّ الخلق او ناقصه وواحدا او اكثر- وانه على اىّ حال هو من الأحوال الحاضرة والمترقبة وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ غاض وازداد جاء كل منهما لازما ومتعديا- فى القاموس غاض الماء غيضا ومغاضا قل ونقص كالغاض غاض الماء وثمن السلعة نقص- وغاض الماء وثمن السلعة نقضهما كاغاض- وازداد القوم على عشرة- ونزداد كيل بعير- فان جعلتهما لازمين فما حينئذ مصدرية والمعنى الله يعلم انتغاض الأرحام وازديادها- والاسناد الى الأرحام
217
مجازى فانهما لما فيهما يعنى ينتقص ما فى الأرحام فى الجثة والمدة والعدد ويزداد- وان جعلتهما متعديين فما يحتمل ان يكون موصولة وان يكون مصدرية والمعنى الله يعلم ما تنقصه الأرحام وما تزداده فى الجثة والمدة والعدد (مسئلة) اقل مدة الحمل ستة أشهر اتفاقا روى ان رجلا تزوج امراة فولدت لستة أشهر- فهمّ عثمان ان يرجمها- فقال ابن عباس لو خاصمتكم بكتاب الله تعالى لخصمتكم- قال الله تعالى وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً- وقال وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ فلم يبق للحمل الا ستة أشهر- فدرا عثمان عنها الحد- قال ابن همام التمسك بدرء عثمان مع عدم مخالفة أحد فكان اجماعا- وانه قد يولد بستة أشهر ويعيش- واكثر مدة الحمل سنتان عند ابى حنيفة رحمه الله- لما روى الدار قطنى والبيهقي فى سننهما من طريق ابن المبارك ثنا داود بن عبد الرّحمن عن ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت ما تزيد المرأة فى الحمل على سنتين قدر ما يتحول ظل عمود المغزل- وفى لفظ قالت لا يكون الحمل اكثر من سنتين ولو بظل مغزل- وعند الشافعي ومالك اكثر مدة الحمل اربع سنين- وقيل عند مالك خمس سنين- قال حماد بن سلمة انما سمى هرم بن حبان هرما لانه بقي فى بطن امه اربع سنين- وروى البيهقي عن الوليد بن مسلم قال قلت لمالك بن انس انّى حدّثت عن عائشة انها قالت لا تزيد المرأة فى حملها على سنتين قدر ظل مغزل- فقال سبحان الله من يقول هذا- هذه جارتنا امراة محمّد بن عجلان امراة صدوق وزوجها رجل صدوق حملت ثلاثة بطون فى اثنتي عشرة سنة كل بطن فى اربع سنين- قال ابن همام ولا يخفى ان قول عائشة مما لا يعرف الا سماعا فى حكم المرفوع- وهو مقدم على المحكي عن امراة ابن عجلان- لانه بعد صحة النسبة الى الشارع لا يتطرق اليه الخطأ بخلاف الحكاية- فانها بعد صحة نسبتها الى مالك والمرأة يحتمل الخطأ بها- فان يمامة الأمر أن يكون انقطع دمها اربع سنين ثم جاءت بولد وهذا ليس بقاطع فى ان الاربعة سنين بتمامها كانت حاملا فيها- لجواز انها امتدت «١» طهرها سنتين او اكثر ثم حبلت- ووجود الحركة مثلا فى البطن لو وجد ليس قاطعا للحمل لجواز كونه من غير الولد- ولقد أخبرنا عن امراة انها وجدت ذلك مدة تسعة أشهر من الحركة وانقطاع الدم وكبر البطن وادراك الطلق- وحين جلست القابلة تحتها أخذت فى الطلق وكلما طلقت اعتصرت ماء- وهكذا شيئا فشيئا الى ان انضم
(١) فى الأصل امتد
218
بطنها وقامت عن قابلتها من غير ولادة- وفى الجملة مثل هذه الحكايات لا تعارض الروايات وما روى ان عمر اثبت نسب ولد امراة غاب عنها زوجها سنين ثم قدم فوجدها حاملا فهمّ برجمها- فقال له معاذ ان كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما فى بطنها فتركها- حتّى ولدت ولدا قد نبتت ثنياه يشبه أباه- فلما راه الرجل قال ولدي ورب الكعبة انما هو لقيام الفراش ودعوى الرجل نسبه والله اعلم- (مسئلة) أعلى عدد الولد فى بطن لاحد له- وقيل نهاية ما عرف اربعة واليه ذهب ابو حنيفة رحمه الله- وقال الشافعي رحمه الله أخبرني شيخ باليمن ان امرأته ولدت بطونا فى كل بطن خمسة- قلت واشتهر فى ديار الهند ان امراة القاضي قدوه فى بلاد الشرق ولدت مائة فى مشيمة واحدة وعاشوا جميعا والله اعلم- قال البغوي قال اهل التفسير غيض الأرحام الحيض على الحمل- فاذا حاضت الحامل كان نقصانا فى الولد لان دم الحيض غذاء للولد فى الرحم- فاذا اهراقت الدم ينتقص الغذاء فينتقص الولد- وإذا لم تحض يزداد الولد فيتم- فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم والزيادة تمام خلقته باستمساك الدم- وقيل إذا حاضت تنقص الغذاء وتزداد مدة الحمل حتّى تستكمل تسعة أشهر طاهرا- فان رات خمسة ايام دما وضعت لتسعة أشهر وخمسة ايام فالنقصان فى الغذاء والزيادة فى المدة- وقال الحسن غيضها نقصانها من تسعة أشهر والزيادة زيادتها على تسعة أشهر- وقيل النقصان السقط والزيادة تمام الخلق وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) بتقدير الى حد معين فى علم الله تعالى لا يجاوز ولا ينقص عنه.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ قد شرحنا الغيب والشهادة فى سورة الجن الْكَبِيرُ الّذي كل شيء دونه الْمُتَعالِ (٩) المستعلى على كل شيء بقدرته او الّذي كبر عن نعت المخلوقين وتعالى عنه- قرا ابن كثير بإثبات الياء وصلا ووقفا والباقون يحذفونها فى الحالين.
سَواءٌ مِنْكُمْ فى علم الله مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ فى نفسه وَمَنْ جَهَرَ بِهِ لغيره وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ اى طالب لاخفاء نفسه بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بارز بِالنَّهارِ (١٠) يراه كل أحد من سرب سروبا إذا برز- وقيل معناه ذاهب فى سربه ظاهرا والسرب الطريق- وقال القتيبي سارِبٌ بِالنَّهارِ
متصرف فى حوائجه- عطف على من او على مستخف على ان من فى معنى الاثنين كانه قال سَواءٌ مِنْكُمْ اثنان مستخف وسارب- وقال ابن عباس فى هذه الاية هو صاحب زنيّة مستخف بالليل وإذا خرج بالنهار ارى الناس انه بريء من الإثم- فعلى هذا عطف على مستخف والمراد بمن واحد متصف بصفتين-.
لَهُ اى لمن اسر ومن جهر ومن هو مستخف وسارب او لله تعالى ملائكة مُعَقِّباتٌ جمع معقبة من عقّب مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه- او من اعتقب فادغمت التاء فى القاف والتاء للمبالغة- وقال البغوي واحده معقّب وجمعه معقّبة ثم جمع المعقبة على المعقّبات كما قيل انثاوات سعد ورجالات بكر- يعنى يتعاقبون فيكم بالليل والنهار إذا صعدت ملائكة الليل جاءت فى عقبها ملائكة النهار وإذا صعدت ملائكة النهار جاءت فى عقبها ملائكة الليل فيكتبون اعمال العباد ويحفظونهم عن الآفات «١» - روى البغوي بسند صحيح عن ابى هريرة ان النبي ﷺ قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يجتمعون فى صلوة الفجر وصلوة العصر- ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسئلهم ربهم وهو اعلم بهم كيف «٢» تركتم عبادى فيقولون تركناهم وهم يصلّون واتيناهم وهم يصلّون مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ صفة معقّبات اى كائنة من قدام المستخفى والسارب وَمِنْ خَلْفِهِ يعنى من جوانبه كلها يَحْفَظُونَهُ الضمير راجع الى من- اى يحفظون العبد من الآفات ما لم يأت القدر- فاذا جاء القدر خلوا عنه- قال مجاهد ما من عبد الا وله ملك مؤكل به يحفظه فى نومه ويقظته من
(١) عن كنانة العدوى قال دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك- قال ملك على يمينك على حسناتك وهو امير على الّذي على الشمال- إذا عملت حسنة كتب عشرا فاذا عملت سيئة قال الّذي على الشمال للذى على اليمين اكتب قال لعله يستغفر الله ويتوب فاذا قال ثلاثا قال نعم اكتبه أراحنا الله منه فبئس القرين- ما اقل مراقبته لله واقل استحياؤه منه- يقول الله ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ- وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ- وملك قابض على ناصيتك فاذا تواضعت لله رفعك وإذا تحبرت قصمك- وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك الا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم- وملك قائم على فيك لا تدع ان تدخل الحيّة فى فيك- وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة املاك على كل بنى آدم- ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار لان ملائكة الليل سوى ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل بنى آدم وإبليس بالنهار وولده بالليل ١٢ ازالة الخفا- منه رحمه الله تعالى
(٢) فى الأصل كيف تركتم عبدى-
220
الجن والانس والهوامّ- فما من شيء يأتيه يريده الا قال وراءك الا شيء يأذن الله فيه فيصيبه وقال كعب الأحبار لولا ان الله تعالى وكل بكم الملائكة يدنون عنكم فى مطعمكم ومشربكم وو عوراتكم لتخطفنّكم الجن- او المعنى يحفظون اعماله ان كان الاية فى الملكين القاعدين عن اليمين والشمال يكتبان الحسنات والسيّئات- كما قال الله تعالى إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ- قال ابن جريج اى يحفظون عليه اعماله مِنْ أَمْرِ اللَّهِ قيل هو صفة ثانية لمعقبات يعنى معقبات كائنة من امر الله- او ظرف لغو متعلق بقوله يحفظونه اى يحفظونه من أجل امر الله تعالى أتاهم بالحفظ- او المعنى يحفظونه من امر الله اى من بأسه متى أذنب بالاستمهال او الاستغفار له- وقيل من هاهنا بمعنى الباء اى يحفظونه بإذن الله- وقيل المعقبات الحرس حول السلطان يحفظونه فى توهمه من قضاء الله تعالى- قال البغوي وقيل الضمير فى قوله لَهُ مُعَقِّباتٌ راجع الى رسول الله ﷺ يعنى لمحمّد ﷺ معقبات اى حرّاس من الرّحمن مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
من شر الشياطين الجن والانس وطوارق الليل والنهار- وقال عبد الرّحمن بن زيد نزلت هذه الاية فى عامر بن الطفيل واربد بن ربيعة- وقصتهما على ما روى الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس- انها اقبل عامر بن الطفيل واربد ابن ربيعة وهما عامريّان يريد ان النبي صلى الله عليه وسلم- وهو جالس فى المسجد فى نفر من أصحابه فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان اعور وكان من أجمل الناس- فقال رجل يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد اقبل نحوك- فقال دعه فان يرد الله به خيرا يهده- فاقبل حتّى قام عليه- فقال يا محمّد مالى ان أسلمت- فقال لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين- قال تجعل لى الأمر بعدك- قال ليس ذلك الىّ انما ذلك الى الله عزّ وجلّ يجعله حيث يشاء- قال فتجعلنى على الوبر وأنت على المدر قال لا قال فماذا تجعل لى قال اجعل لك أعنّة الخيل تغزو عليها- قال او ليس ذلك لى الى اليوم- قم معى أكلمك فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان اوصى الى اربد ابن ربيعة إذا رايتنى أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف- فجعل يخاصم رسول الله
221
صلى الله عليه وسلم ويراجعه فدار اربد خلف النبي ﷺ ليضربه- فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله عنه ولم يقدر على سلّه- وجعل عامر يومى اليه فالتفت رسول الله ﷺ فراى اربد وما صنع بسيفه فقال اللهم اكفنيهما بما شئت فارسل الله تعالى على اربد صاعقة فى يوم صحو قائظ فاحرقته وولى عامر هاربا وقال يا محمّد دعوت ربك حتّى قتل اربد- والله لاملانها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا- فقال رسول الله ﷺ يمنعك الله من ذلك- وابنا قيلة يريد الأوس والخزرج فنزل عامر بيت امراة سلوليّة- فلما أصبح ضم عليه سلاحه وقد تغير لونه فجعل يركض فى الصحراء- ويقول ابرز يا ملك الموت- ويقول الشعر- ويقول واللات والعزى لان اضحى الى محمّد وصاحبه يعنى ملك الموت لانفذتهما برمحى- فارسل الله تعالى ملكا فلطمه بجناحه فاداره فى التراب- وخرجت على ركبته فى الوقت غدة عظيمة فعاد الى بيت السلوليّة- وهو يقول غدة كغدة البعير وموت فى بيت السلوليّة- ثم دعا بفرسه فركبه ثم أجراه حتّى مات على ظهره فاجاب الله تعالى دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم- فقتل بالطعن واربد بالصاعقة- وانزل الله تعالى فى هذه القصة قوله عز وجلّ سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ لَهُ يعنى لرسول الله ﷺ معقّبت من بين «١» يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله يعنى تلك المعقبات من امر الله وكذا اخرج الثعلبي- واخرج الطبراني عن ابن عباس ان اربد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال عامر يا محمّد ما تجعل لى ان أسلمت- قال لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم- قال أتجعل لى «٢» الأمر من
بعدك- قال ليس ذلك لك ولا لقومك- فقال عامر لاربد انى اشغل عنك وجه محمّد بالحديث فاضربه بالسيف- فرجعا فقال عامر يا محمّد قم معى فقام معه ووقف يكلمه وسلّ اربد السيف فلما وضع يده قائم السيف يبست- والتفت رسول الله ﷺ فراه فانصرف عنهما- فخرجا حتّى إذا كانا بالرقم أرسل الله على اربد صاعقة فقتله- فانزل الله تعالى اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى الى قوله شَدِيدُ الْمِحالِ-
(١) فى الأصل معقبت يحفظونه من بين يديه ومن... خلفه من امر الله
(٢) فى الأصل اتجعل الأمر إلخ-
222
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية والنعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا اى القوم ما بِأَنْفُسِهِمْ من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ بعد ما يغيروا ما بانفسهم سُوْءاً عذابا وهلاكا فَلا مَرَدَّ لَهُ مصدر بمعنى الفاعل يعنى لا رادّ له- والعامل فى إذا ما دل عليه الجواب وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) يلى أمرهم فيدفع عنهم السوء وفيه دليل على ان خلاف مراد الله محال.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من الصاعقة ومن ضرر المطر فى السفر وللزرع فى بعض الأحيان وبعض الامكنة وَطَمَعاً من الغيث حين ينفع للزرع او لدفع الحر- وانتصابهما على العلة بتقدير المضاف اى ارادة خوف او طمع- او بتأويل الاخافة والاطماع- او على الحال من البرق- او من المخاطبين بتقدير ذو- او اطلاق المصدر بمعنى المفعول او الفاعل مبالغة وَيُنْشِئُ السَّحابَ جمع سحابة وهو الغيم فانه ينسحب اى ينجر بالهواء فى الجو- وهو جمع سحابة كذا فى القاموس- وقال البيضاوي اسم فيه معنى الجمع ولذا وصف بقوله الثِّقالَ (١٢) جمع ثقيلة يعنى مملوّة بالمطر قال البغوي قال على رضى الله عنه السحاب غربال الماء-.
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ متلبسا بِحَمْدِهِ يعنى يقول سبحان الله والحمد لله- روى الترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس سئل رسول الله ﷺ عن الرعد- فقال ملك مؤكل بالسحاب معه مجاريق من نار يسوق بها السحاب وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ اى من خيفة الله وخشيته- قيل أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله له «١» أعوانا- فهم خائفون خاضعون طائعون- فالضمير حينئذ جاز ان يعود الى الرعد يعنى يسبح الملائكة من خيفة الرعد- قال ابن عباس من سمع صوت الرعد فقال سبحان الّذي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ... وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فان أصابته صاعقة فعلى دينه- وعن عبد الله بن الزبير انه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث- وقال سبحان من يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ- ويقول ان هذا الوعيد لاهل الأرض لشديد- وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس الرعد موكل بالسحاب يصرّفه الى حيث يؤمر- وانّ بحور الماء
(١) فى الأصل جعل الله أعوانا
223
فى نقرة إبهامه- وانه يسبح الله فاذا سبح لا يبقى ملك فى السماء الا رفع صوته بالتسبيح- فعندها ينزل القطر- وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ قال ربكم لو ان عبادى أطاعوني لاسقيتهم المطر بالليل ولاطلعت عليهم الشمس بالنهار ولما اسمعتهم صوت الرعد- رواه احمد بسند صحيح والحاكم وقال البيضاوي فى تفسير الاية وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ اى يسبح سامعوه»
متلبسين به فيصيحون سبحان الله والحمد لله- او يدل الرعد على وحدانيته تعالى وكمال قدرته متلبسا بالدلالة على فضله ونزول رحمته- قلت هذا على تقدير عدم ثبوت كون الرعد ملكا يسبح وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ جمع صاعقة وهى العذاب المهلك والمراد هاهنا نار ينزل من السماء ينزل من البرق فيحرق من يصيبه فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيهلكه وَهُمْ يُجادِلُونَ اى يخاصمون النبي ﷺ فِي اللَّهِ اى توحيده والإقرار بكمال علمه وقدرته وإعادة الناس ومجازاتهم- والجدال التشدد فى الخصومة من الجدل وهو القتل- والواو اما لعطف الجملة- على الجملة او للحال يعنى اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ويفعل كذا وكذا ويرسل الصّواعق- وهم ينكرون صفات كماله ولا يستدلون بما ذكر على وجوده تعالى وكمال قدرته ويخاصمون النبي ﷺ والمؤمنين وعلى تقدير نزول الاية فى قصة اربد بن ربيعة كما ذكرنا- فالظاهر ان الواو للحال والجملة حال من مفعول يشاء يعنى يصيب بها من يشاء أصابته وهو اربد بن ربيعة وأمثاله فى حال هم يجادلون فى الله فى تلك الحال- قال البغوي قال محمّد بن على الباقر الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب المسلم الذاكر- واخرج النسائي والبزار عن انس قال بعث رسول الله ﷺ رجلا من أصحابه الى رجل من عظماء الجاهلية يدعوه الى الله تعالى- فقال ايش ربك الّذي تدعونى اليه أمن حديد هو او من نحاس او من فضة او ذهب- فاتى النبي ﷺ فاخبره فاعاده الثانية والثالثة فارسل الله عليه صاعقة فاحرقته- ونزلت هذه الاية وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ الى آخرها- وقال البغوي نزلت فى شأن اربد بن ربيعة حيث قال للنبى ﷺ مم ربك أمن درام من ياقوت أم من ذهب فنزلت صاعقة من السماء
(١) فى الأصل ملتبسين-
224
فاحرقته- وقال سئل الحسن عن قوله تعالى وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ الاية فقال كان رجل من طواغيت العرب بعث اليه النبي ﷺ نفرا يدعونه الى الله والى رسوله فقال لهم أخبروني عن رب محمّد هذا الّذي تدعوننى اليه ممّ هو من ذهب او فضة او حديد او نحاس- فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا الى النبي صلى الله عليه وسلم- فقالوا يا رسول ما راينا رجلا اكفر قلبا ولا أعتى على الله منه فقال ارجعوا اليه- فرجعوا اليه فجعل يزيدهم على مثل مقالته الاولى وقال أجيب محمّدا الى رب لا أراه ولا أعرفه- فانصرفوا وقالوا يا رسول الله ما زادنا الا على مقالته وأخبث فقال ارجعوا- فرجعوا اليه فبينماهم عنده ينازعونه وهو يقول هذه المقالة إذا ارتفعت سحابة فكانت فوق رءوسهم- فرعدت «١» وبرقت ورمت بصاعقة فاحترق الكافر وهم جلوس فجاءوا يسعون ليخبروا رسول الله ﷺ فاستقبلهم قوم من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- وقالوا لهم احترق صاحبكم فقالوا من اين علمتم فقالوا اوحى الله الى النبي ﷺ ويرسل الصّواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون فى الله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) قال البغوي قال الحسن شديد الحقد وقال مجاهد شديد القوة- وقال ابو عبيدة شديد العقوبة- وقيل شديد المكر والمغالبة- قال فى القاموس المحال ككتاب الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك وهذه المعاني أكثرها يصح هاهنا فهو فعال من المحل- وقيل هو مفعل من الحول او الحيلة او الحيلولة اعل على غير قياس- فعلى هذا ما قال ابن عباس معناه شديد الحول وقال علىّ شديد الاخذ-.
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ اى الدعوة المجابة مختصة به تعالى دون غيره كما يدل عليه ما بعده- او المعنى له الدعاء الحق فانه الّذي يحق ان يعبد ويدعى الى عبادته ويسئل منه الحوائج دون غيره- او معناه له الدعاء بالإخلاص- والحق على هذه التأويلات ضد الباطل- والاضافة فى الظاهر اضافة والموصوف الى صفته- فيئوّل على طريقة مسجد الجامع- وجانب
(١) اخرج الترمذي وصحه واحمد والنسائي عن ابن عباس فقال أقبلت اليهود الى النبي ﷺ فقالوا أخبرنا من الرعد ما هو قال ملك من ملائكة السحاب يسوقه حيث امره الله فقالوا فما هذا الصوت نسمع قال صوته واخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد الله ان رسول الله ﷺ قال ان ملكا مؤكل بالسحاب يلم العاصية ويلم الدامية فى يده محراق فاذا رفع برقت وإذا زحرر عدت وإذا ضرب صعقت منه رحمه الله
225
الغربي ويقال دعوة المدعو الحق فان المدعو بدعوة الله سبحانه بالإخلاص يتحقق- او يقال اضافة الدعوة الى الحق لما بينهما من الملابسة كما يقال رجل صدق- وقيل الحق هو الله سبحانه وكل دعاء الله دعوة الحق- فان قيل هذا الحمل غير مفيد فان دعاء الله تعالى مختص به تعالى لا محالة كما ان دعاء غيره مختص بغيره قلنا فى ذكر الله تعالى بلفظ الحق اشعار بان دعاؤه حق لان دعاء الحق لا يكون الا حقا ودعاء الباطل لا يكون الا باطلا- فالمعنى على هذا التأويل يؤل الى ما سبق فهو بمنزلة الدعوى مع البرهان- قال البغوي قال على رضى الله عنه دعوة الحقّ التوحيد- وقال ابن عباس رضى الله عنهما شهادة ان لا اله الا الله- قلت التوحيد والشهادة ان كانا تفسيرين للحق فالاضافة حقيقية والمعنى لله الدعوة الى التوحيد والشهادة- والمراد بالجملتين ان كانت الاية فى عامر واربد ان هلاكهما من حيث لم يشعر انه محال من الله- واجابة لدعوة رسوله ﷺ ودالة على انه على الحق- وان كانت عامة فالمراد وعيد الكفرة على مجادلة رسول الله ﷺ بحلول محالة وتهديدهم بإجابة دعوة الرسول ﷺ عليهم او بيان ضلالهم وفساد رأيهم وَالَّذِينَ يَدْعُونَ أشياء كائنة مِنْ دُونِهِ يعنى يعبدون الأصنام ويذكرونهم ويسئلون منها حوائجهم فحذف المفعول لدلالة قوله مِنْ دُونِهِ عليه- او المعنى والذين يدعونهم المشركون كائنة من دون الله فحذف الراجع- والمراد بالموصول حينئذ الأصنام لا يَسْتَجِيبُونَ الضمير راجع الى الموصول على التقدير الثاني او الى محذوف موصوف عن دونه على التقدير الاول والمعنى لا يجيبون لَهُمْ اى للكفار بِشَيْءٍ يريدونه من نفع او دفع ضر إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ يعنى الا استجابة كاستجابة من بسط كفيه إِلَى الْماءِ وهو عطشان جالس على شفير البئر يمد يده الى البئر فلا يبلغ قعر البئر ويدعو الماء لِيَبْلُغَ فاهُ متعلق بباسط اى يطلب من الماء ان يبلغ فاه وَما هُوَ بِبالِغِهِ لانه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على اجابته والإتيان بغير ما جبل عليه- كذلك الهتهم لا يشعرون بدعائهم ولا يقدرون على اجابتهم فاضافة الاستجابة الى الباسط اضافة المصدر الى المفعول- هذا معنى قول مجاهد ومثله عن على رضى الله عنه وعطاء- وقيل شبهوا فى قلة جدوى دعائهم لها
226
بمن أراد ان يغرف الماء ليشربه فبسط كفيه ليقبض على الماء- والقابض على الماء لا يكون فى يده شيء ولا يبلغ الى فيه منه شيء- كذلك الّذي يدعو الأصنام وهى لا تضر ولا تنفع لا يكون بيده شيء وهذا التأويل مروى عن ابن عباس قال كالعطشان إذا بسط كفيه فى الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف بهما الماء ولا يبلغ فاه ما دام باسط كفيه- فهذا مثل ضربه لخيبة الكفار وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ أصنامهم اى عبادتهم لها وطلب حاجتهم منها إِلَّا فِي ضَلالٍ (١٤) فى ضياع وخسار وبطلان- وقال الضحاك عن ابن عباس وما دعاء الكفرين ربهم جلّ وعلى الا فى ضلال لان أصواتهم محجوبة عن الله تعالى بحجب الكفر والمعاصي والله اعلم-.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً يعنى الملائكة والمؤمنين وَكَرْهاً يعنى المنافقين والكافرين الّذين اكرهوا على السجود بالسيف- او انهم يسجدون حالة الشدة والضرورة مع كراهيتهم ذلك- وانتصاب طوعا وكرها بالحال او العلة وَظِلالُهُمْ يسجد معهم بالعرض- ويحتمل ان يراد بالسجود انقيادهم «١» لما اراده منهم شاءوا او كرهوا- وانقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد والتقليص- ويمكن ان يقال المراد بمن فى السّموت والأرض حقائق من فيها وأرواح الملائكة والمؤمنين وبظلالهم أشخاصهم وقوالبهم- كما عبر رسول الله ﷺ فى دعائه الظاهر بالسواد والباطن بالخيال- حيث قال فى سجوده سجد لك سوادى وخيالى- وهذا التأويل اولى مما سبق لان الظلال الّتي يرى فى ضح الشمس عبارة عن سواد موضع لم يصل اليه ضوء الشمس لحجاب جثة الشيء- وذلك امر عدمى لا وجود لها فكيف يسند إليها السجود بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) ظرف ليسجد والمراد بهما الدوم- والآصال جمع اصيل وهو ما بين العصر الى المغرب-.
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومدبرهما ومتولى أمرهما استفهام تقرير- فانهم كانوا يقولون بان الله خالقهم وخالق السموات والأرض قُلِ اللَّهُ يعنى ان لم يقولوه فاجب أنت عنهم- إذ لا جواب لهم سواه وهم يقولون بذلك- ولانه هو البين الّذي لا يحتمل الاختلاف او لقنهم الجواب به- قال البغوي روى انه لما قال رسول الله ﷺ للمشركين من ربّ السّموت والأرض- قالوا أجب أنت فقال الله تعالى قُلِ اللَّهُ- ثم
(١) فى الأصل ما اراده
227
قال فالزمهم بذلك وقُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ عطف على محذوف والاستفهام للانكار تقديرهء أقررتم بربوبيته تعالى للعالمين فاتخذتم أشياء كائنة مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ واتخذتموه ظهريا وهذا امر منكر بعيد عن مقتضى العقل- ثم اجرى على الأولياء وصفا بقوله لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا يعنى لا يقدرون على ان يجلبوا الى أنفسهم نفعا او يدفعوا عنها ضرّا فكيف يتولون أموركم وكيف يستطيعون إيصال الخير إليكم او دفع الضرّ عنكم- وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم فى اتخاذهم اولياء رجاء ان يشفعوا لهم قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى يعنى الّذي لا عقل له ولا بصيرة او لا يستعملها وَالْبَصِيرُ (٥) اى ذو بصيرة يدرك بها حقيقة العبادة والموجب لها- ويميّز من يستحق العبادة والولاية ممن لا يستحق ذلك- وقيل المراد بالأعمى المعبود الغافل منكم- وبالبصير المعبود المطلع على أحوالكم أَمْ هَلْ تَسْتَوِي قرا حمزة والكسائي وابو بكر بالياء التحتانية- والباقون بالتاء الفوقانية لتأنيث الفاعل لكنه غير حقيقى الظُّلُماتُ وَالنُّورُ (٥) يعنى الكفر والايمان لا أَمْ يعنى بل اجعلوا لله شركاء والاستفهام للانكار «١» وقوله خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صفة لشركاء داخلة فى حكم الإنكار فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ خلق الله وخلق الشركاء- والمعنى ما اتخذوا شركاء خالقين مثله حتّى يتشابه عليهم الخلق فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها- ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلا عما يقدر عليه الخالق قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يعنى كل ما يشاء من الأجسام والاعراض والأرواح المجردة لا خالق غير الله- ولا يتصور ممن لا يقتضى ذاته وجوده ان يوجد غيره فلا يجوز العبادة لغيره- ومن قال ان الله تعالى لم يخلق افعال العباد بل هم خلقوها فهو ممن تشابه الخلق عليهم وَهُوَ الْواحِدُ المتوحد بالربوبية واستحقاق العبادة- بل المتوحد بالوجود المتأصل لا موجود غيره الا بوجود هو ظل وجوده الْقَهَّارُ (١٦) الغالب
(١) عن ابن جريج فى قوله تعالى أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قال ابن جريج عن ليث عن ابى محمّد عن حذيفة عن ابى بكر عن النبي ﷺ انه قال الشرك فيكما خفى من دبيب النمل الا أخبرك بقول يذهب صغاره وكباره قال بلى قال يقول كل يوم ثلاث مرات اللهم انى أعوذ بك من ان أشرك بك وانا اعلم واستغفرك لما لا اعلم والشرك ان يقول أعطاني الله وفلان وان يقول لولا فلان لقتلنى فلان- وعن معقل بن يسار نحوه- منه رحمه الله تعالى-
228
على كل شيء لا يقاومه شيء- إذ لا يتصور من المعدوم فى نفسه الموجود بغيره مقاومة ذلك الغير الّذي هو الموجود المتأصل بوجوده-.
أَنْزَلَ الله الواحد القهار مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ جمع واد وهو الموضع الّذي يسيل فيه الماء بكثرة- فاتسع فيه واستعمل للماء الجاري فيه كقولك سال الميزاب- وتنكيرها لان المطر انما يأتى على طريق المتادبة بين البقاع فيسيل بعض اودية الماء دون بعض بِقَدَرِها اى بقدر الاودية فى الصغر والكبر فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ اى الماء السائل فى الاودية زَبَداً اى خبثا يظهر على وجه الماء رابِياً عاليا مرتفعا فوق الماء الصافي وَمِمَّا يُوقِدُونَ قرا حمزة والكسائي وحفص بالياء على ان الضمير للناس وإضماره للعلم به والباقون بالتاء على الخطاب- والإيقاد جعل النار تحت شيء ليذوب- ومن لابتداء الغاية اى منه ينشأ زبد مثل زبد الماء- او للتبعيض اى وبعض ما توقدون عَلَيْهِ فِي النَّارِ يعم الفلذات كالذهب والفضة والحديد والنحاس والصفر- والظرف حال من الضمير فى عليه ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ منصوب على الحال من فاعل يوقدون او على العلة- يعنى يوقدون مبتغين حلية او لابتغاء حلية اى زينة مثل الذهب- والفضة أَوْ مَتاعٍ اى ما يتمتع وينتفع به كالاوانى من النحاس والصفر وغيرها وآلات الحرب والحرث من الحديد- والمقصود من ذلك بيان منافعها زَبَدٌ مِثْلُهُ اى مثل زبد الماء وذلك خبثه الّذي ينفيه الكير- وزبد فاعل لقوله مِمَّا يُوقِدُونَ- او مبتدا وهو خبره المقدم عليه كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ مثل الْحَقَّ وَالْباطِلَ (٥) فان الحق يعنى العلم المنزل من السماء مثله فى افادته وانتفاع الناس به انواع المنافع الدنيوية والاخروية- واتساع القلوب إياه بقدرها وسعتها- وثباته الى يوم القيامة بل الى ابد الآبدين كمثل الماء الّذي ينزل من السماء فتسيل به الاودية على قدر الحاجة والمصلحة وعلى قدر صغر الوادي وكبرها- وينتفع به الناس انواع المنافع ويمكث فى الأرض بان يثبت بعضه فى منافعه ويسلك بعضه فى عروق الأرض الى العيون والقنى والآبار- وكمثل الفلذ الّذي ينتفع به الناس فى صوغ الحلي واتخاذ الامتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة- والباطل يعنى خرافات الكفار وهواجس النفس وخطرات الشيطان مثلها فى انتشارها وشهرتها وعدم الانتفاع
بها وعدم استقرارها كمثل الزبد المستعلى على الماء والفلز فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يجفى به اى ما يرمى به السيل او الفلز المذاب- يقال جفا الوادي واجفأ إذا القى غثاءه- وقيل جفاء اى متفرقا يقال جفات الريح القسم اى فرقته وانتصابه على الحال فالباطل يرميه الحق ويفرقه وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء والفلز وكذلك العلم النافع فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ اى يبقى ولا يذهب وينتفع به الناس كَذلِكَ اى كما ضرب الله المثل للحق والباطل يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧) لايضاح المشتبهات قيل هذه تسلّية للمؤمنين بزوال ظلمة الكفر وان كان فى الصورة عاليا مستعليا وبقاء نور الإسلام واستقراره الى يوم القيامة-.
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا اى أجابوا لِرَبِّهِمُ دعوته الى الإسلام وأطاعوه فيما أمرهم به الْحُسْنى صفة لمصدر يعنى الاستجابة الحسنى او مفعول به يعنى استجابوا لربهم الدعوة الحسنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ يعنى الكفار واللام متعلقة بيضرب على انه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما- وقيل للذين استجابوا خبر الحسنى وهى المثوبة الحسنى او الجنة والذين لم يستجيبوا مبتدا خبره لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ يوم القيامة لفكاك أنفسهم من النّار وعلى التأويل الثاني هذا كلام مبتدا لمال غير المستجيبين أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وهو ان يناقش فيه ولا يغفر من ذنبه شيء كذا قال ابراهيم النخعي وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) مهادهم وهو جهنم قال الله تعالى لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ-.
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو الْحَقُّ فيؤمن به ويعمل بمقتضاه كَمَنْ هُوَ أَعْمى القلب لا يستبصر ولا يدرك الحق من الباطل- والهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أيشتبه امر الفريقين بعد ما ضرب من المثل فمن يعلم يكون عند المخاطب كمن هو أعمى لا- قيل نزلت الاية فى حمزة او عمار وابى جهل فالاول حمزة او عمار والثاني ابو جهل إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) اى ذووا العقول السليمة المنزهة عن شائبة الانف ومعارضة الوهم.
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ اى ما عوهدوا على أنفسهم يوم الميثاق من الاعتراف بربوبيته حين قالوا بلى وما عاهد الله عليهم فى
كتبه من امتثال الأوامر والانتهاء عن المناهي وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) ما وثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبينهم وبين العباد فهو تعميم بعد تخصيص.
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ هذا لفظ عام مندرج فيه الايمان بجميع الكتب والرسل بحيث لا يفرق بين أحد منهم- وموالاة المؤمنين وصلة الرحم- وقال البغوي الأكثرون على ان المراد به صلة الرحم- عن عبد الرّحمن بن عوف قال سمعت رسول الله ﷺ يقول قال الله عزّ وجلّ انا الله وانا الرّحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتّته- رواه ابو داود وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ خلق الله الخلق- فلما فرغ منه قامت الرحم فاخذت بحقوى الرّحمن فقال مه- قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة- قال الا ترضين ان اصل من وصلك واقطع من قطعك- قالت بلى يا رب قال فذاك لك- متفق عليه وعن عبد الرّحمن بن عوف قال قال رسول الله ﷺ ثلاثة تحت العرش يوم القيامة القران يحاج العباد (له ظهر وبطن) والامانة والرحم تنادى الا من وصلني وصله الله ومن قطعنى قطعه الله- رواه البغوي والحكيم ومحمّد بن نصر وعن انس بن مالك ان رسول الله ﷺ قال من أحب ان يبسط الله فى رزقه وينسأله فى اثره فليصل رحمه- متفق عليه وعن ابى أيوب الأنصاري قال عرض أعرابي لرسول الله ﷺ فى منزله فقال أخبرني ما يقرّ بنى من الجنة ويباعدنى من النار- فقال عليه السلام تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتصل الرحم- رواه البغوي وعن عبد الله بن عمرو قال قال النبي ﷺ ليس الواصل المكافي ولكن الواصل إذا انقطعت رحمه وصلها- رواه البخاري وعن ابى هريرة قال قال رجل يا رسول الله من احقّ بحسن صحابتى- قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك وفى رواية أمك ثم أمك ثم أمك ثم «١» أبوك ثم أدناك وأدناك- متفق عليه وعن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ ان من ابرّ البرّ صلة الرجل اهل ودّ أبيه بعد ان يولّى- رواه مسلم وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ تعلموا من انسابكم ما تصلون به أرحامكم فى صلة الرحم محبة فى الأهل مثراة فى المال منساة فى الأثر- رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب
(١) فى الأصل ثم أباك
وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ اى وعيده عموما وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) خصوصا فيحاسبون أنفسهم قبل ان يحاسبوا-.
وَالَّذِينَ صَبَرُوا قال ابن عباس على ما أمروا به- وقال عطاء على المصائب والنوائب- وقيل عن الشهوات- وقيل عن المعاصي- والاولى ان يقدر على مخالفة الهوى فيعم جميع الأقوال ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ اى طلبا لمرضاته لا لغرض من اغراض الدنيا او رياء او سمعة وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة وما شاءوا من السنن والنوافل وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ اى بعضه فى الزكوة المفروضة والنفقات الواجبة والصدقات النافلة سِرًّا وَعَلانِيَةً السر أفضل فى النافلة والعلانية فى المفروضة نفيا للتهمة- وقدم السر على العلانية لان الغالب من حال المسلم الصدقة النافلة- وقلّ ما يجب على المسلم الزكوة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قال ابن عباس اى يدفعون بالصالح من العمل السيّء نظيره قوله تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ- عن ابى ذر عن النبي ﷺ انه قال إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمحها- رواه احمد بسند صحيح وروى ابن عساكر عن عمر ابن الأسود مرسلا ان رسول الله ﷺ قال إذا عملت عشر سيّئات فاعمل حسنة تحدرهن بها- وعن عقبة بن عامر قال قال رسول الله ﷺ ان مثل الّذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته- ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة فانفكت اخرى حتّى طرح الى الأرض- رواه الطبراني وقال ابن كيسان معنى الاية يدفعون الذنب بالتوبة- قال رسول الله ﷺ إذا عملت سيئة فاحدث عندها توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية- رواه احمد فى الزهد عن عطاء مرسلا وقيل معناه لا يكافؤن الشر بالشر ولكن يدفعون الشر بالخير- وقال السدىّ معناه إذا سفه عليهم حلموا- فالسفه السيئة والحلم الحسنة- وقال قتادة ردوا عليه معروفا- نظيره قوله تعالى وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً- قال الحسن إذا حرموا اعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا- عن ابى هريرة ان رجلا قال يا رسول الله ان لى قرابة أصلهم ويقطعونى واحسن إليهم ويسيئون الىّ واحلم عنهم ويجهلون علىّ- قال لئن كنت كما قلت فكانما تسفهم المل ولا يزال
منك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك- رواه مسلم قال عبد الله بن المبارك هذه ثمان خلال مشيرة الى ثمانية أبواب الجنة أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) العقبى جزاء الأمر وأعقبه جازاه كذا فى القاموس- سمى جزاء الفعل عقبى لانه يعقبه لكن العقبة والعقبى والعاقبة مختصة بالثواب وخير الجزاء على الحسنة- كما ان العقوبة والمعاقبة والعقاب مختصة بالعذاب وسوء الجزاء على السيئة- قال الله تعالى فى الثواب خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً وقال أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ- وفَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وقال وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ- وقال فى العذاب فَحَقَّ عِقابِ... شَدِيدُ الْعِقابِ وقال وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وقال وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ- لكن بالاضافة يستعمل العاقبة فى العقوبة ايضا قال الله تعالى ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى وفَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ- فهو اما مستعمل بالاشتراك او يكون استعارة من ضده كقوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ والمراد بالدار النشئة الاخرة فانها المستقر بخلاف الدنيا فانها معبر- واضافة العقبى الى الدار بمعنى فى كمصارع مصر- والمعنى أولئك لهم جزاء حسن فى الدار الاخرة- والجملة خبر للموصولات ان رفعت بالابتداء وان جعلت صفات لاولى الألباب فاستيناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات.
جَنَّاتُ «١» عَدْنٍ اى اقامة عطف بيان لعقبى الدار او مبتدا خبره يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على الضمير المرفوع فى يدخلون وساغ عند البصريين للفصل بالضمير المنصوب وقال الزجاج هو مفعول معه- والمراد بالصلاح نفس الايمان فحسب لاكمال الصلاح المراد بقوله أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بدليل العطف- فان العطف يقتضى المغائرة ولو كان المراد بالصلاح كما له لدخل المعطوف فى المعطوف عليه- فهذه الاية تدل على ان الله تعالى يعطى درجات الكاملين من لم يبلغ درجتهم ولم يعمل مثل أعمالهم من ابائهم وأزواجهم وذرياتهم تطييبا لقلوبهم وتعظيما لشأنهم بشرط ايمانهم- فان التقييد بالصلاح يفيد ان مجرد الأنساب لا تنفع بدون الايمان والأمهات تدخل فى حكم الآباء بدلالة النص- ويشكل على هذا قوله ﷺ كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة الا سببى ونسبى- رواه
(١) عن مجاهد قال قرا عمر على المنبر جنّت عدن فقال ايها الناس هل تدرون ما جنت عدن قصر فى الجنة له عشرة آلاف باب على كل باب خمسة وعشرون الفا من الحور العين لا يدخله الا نبى او صديق او شهيد- منه رحمه الله-
233
الطبراني والحاكم والبيهقي عن عمر بسند صحيح والطبراني عن ابن عباس وعن المسور بن مخرمة وروى ابن عساكر عن ابن عمر بسند صحيح بلفظ كل نسب وصهر ينقطع الا نسبى وصهرى- فان هذا الحديث يدل على ان قرابة غير النبي ﷺ لا يفيد يوم القيامة- وحل هذه الاشكال عندى ان المؤمنين كلهم أبناء لرسول الله ﷺ قال الله تعالى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ- وزاد أبيّ فى قراءته وهو اب لّهم- وقال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ- وقد ذكرنا فى تفسير سورة الكوثر ان العاص بن وائل حين قال فى النبي ﷺ دعوه فانه رجل ابتر لا عقب له- فانزل الله تعالى فيه إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ مع انه كان لعاص بن وائل عقب وهو عمرو هشام- وان تأويله ان عمرو هشاما أسلما فقد انقطعت بينه وبينهما حتّى لا يرثانه فهما من أبناء النبي صلى الله عليه وسلم- فعلى هذا معنى الحديث كل نسب وسبب منقطع الا سببى ونسبى ولو بواسطة يعنى نسبى ونسب ابنائى وان سقلوا وسببى ومن له منى سبب- فكانّ المراد ان قرابات الكفار وموالاتهم تنقطع دون قرابات المؤمنين وموالاتهم نظيره قوله تعالى- الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ...
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) من أبواب الجنة او من أبواب قصورهم او من أبواب الفتوح والتحف- قال مقاتل يدخلون عليهم فى مقدار يوم وليلة من ايام الدنيا ثلاث مرات معهم الهدايا والتحف قائلين.
سَلامٌ عَلَيْكُمْ فى موضع الحال بتقدير القول كما ذكرنا يعنى سلمكم الله من الآفات الّتي كنتم تخافونها ولا زوال لما أنعم الله عليكم بِما صَبَرْتُمْ متعلق بعليكم او بمحذوف اى هذا الثواب بما صبرتم عن المعاصي على الطاعات على خلاف الأهواء وعلى المصائب- وليس متعلقا بسلام فان الخبر فاصل والباء للسببية فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) عقباهم عن ابى امامة قال ان المؤمن ليكون على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سلطان من خدم- وعند طرف السماطين باب مبوّب- فيقبل الملك من ملائكة الله تعالى يستأذن فيقوم ادنى الخدم الى الباب فاذا هو بالملك يستأذن فيقول للذى يليه ملك يستأذن ويقول للذى يليه ايذنوا له كذلك حتّى يبلغ أقصاهم الّذي عند الباب- فيفتح له فيدخل فيسلم ثم ينصرف- رواه البغوي وعن ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال أول من يدخل الجنة من خلق الله فقراء
234
المهاجرين الذين تسربهم الثغور وتتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله لمن يشاء من ملائكته ايتوهم فحيوهم فيقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك فتأمرنا ان نأتى هؤلاء وسلم عليهم قال الله تعالى انهم كانوا عبادا يعبدوننى ولا يشركون بي شيئا وتسربهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء قال فتأتيهم الملائكة عند ذلك ف يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ يعنى مقابلى الأولين مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ اى بعد ما أوثقوه به من الإقرار والقبول وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ويفرقون بين الله ورسوله ويقطعون الأرحام وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يعملون بالمعاصي ويهلكون الحرث والنسل ويقطعون السبيل ويبغون بغير الحق- عن ابى بكرة عن النبي ﷺ قال ما من ذنب أحرى ان يعجل الله لصاحبه العقوبة فى الدنيا مع ما يدخر له فى الاخرة من البغي وقطيعة الرحم- رواه احمد والبخاري فى الأدب وابو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وابن حبان- وعن جبير بن مطعم قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لا يدخل الجنة قاطع رحم- متفق عليه وعن عبد الله بن ابى اوفى قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لا ينزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم- رواه البيهقي فى شعب الايمان وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مد من خمر- رواه النسائي والدارمي- أولئك لهم اللّعنة البعد من رحمة الله عزّ وجلّ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) يعنى الجزاء السوء فى الدار الاخرة وهو نار جهنم-.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ اى يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وَفَرِحُوا يعنى اهل مكة أشروا وبطروا بِالْحَياةِ الدُّنْيا اى بما بسط لهم من الرزق وغيره فى الدار الدنيا ولم يشكروا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي جنب الحيوة الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ (٢٦) اى متعة لا تدوم كعجالة الراكب وزاد الراعي-
لا يصلح نعيمها لان يقنع عليها ويهمل السعى للاخرة- ويفرح بها ويبطر بل ينبغى ان تصرف فيما يستوجبون به نعيم الاخرة-.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بعد ما راوا المعجزات الباهرة والآيات القاطعة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ اى على محمّد ﷺ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يشهد له يعنى اقترحوا الآيات عنادا وتعنتا قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ يعنى لا قصور فى نزول الآيات وقيام الشواهد لكن الآيات لا توجب الهداية- انما الهداية والضلالة بيد الله تعالى يضل من يشاء ممن كان على صفتكم فلا سبيل الى اهتدائهم وان أنزلت كل اية وَيَهْدِي إِلَيْهِ اى الى الايمان به وطاعته والترقي الى مدارج قربه والى جنته مَنْ أَنابَ (٢٧) يعنى من يشاء الله انابته فاناب يعنى اقبل اليه بقلبه ورجع عن العناد- فالله يهديه بما جئت به بل بأدنى منه من الآيات.
الَّذِينَ آمَنُوا بدل من قوله من أناب او خبر مبتدا محذوف وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ يعنى يستقر فيها الايمان واليقين ويزول عنه الريب والشك بذكر الله تعالى يعنى القران- فان الايمان طمانية والنفاق شك وريبة- او المعنى يزول وساوس الشيطان عن قلوب المؤمنين بذكر الله- قال رسول الله ﷺ ما من آدميّ الا ولقلبه بيتان- فى أحدهما الملك وفى الاخر الشيطان فاذا ذكر الله خنس وإذا لم يذكر الله وضع الشيطان منقاره فى قلبه فوسوس له- رواه ابن ابى شيبة فى المصنف عن عبد الله بن شقيق ورواه البخاري تعليقا عن ابن عباس مرفوعا بلفظ الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فاذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس- او المعنى ان القلوب الصافية للمؤمنين انما قوتهم ذكر الله تعالى فاذا ذكروا الله تطمئن قلوبهم أنسا به تعالى كاطمينان السمك فى الماء- وحيوان البر فى الهواء- والوحش فى الصحراء- وإذا غشيهم غاشية توجب الغفلة او ابتلوا بصحبة اهل الغفلة لحق قلوبهم اضطراب وقلق- كما يلحق الاضطراب للسمك خارج الماء ولحيوان البر فى الماء وللوحش فى القفص- وهذه الحالة بديهية من الوجدانيات لخدام الصوفية العلية- فالمراد بقوله الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ هم الصوفية أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) اى القلوب المزكّية قال البغوي فان قيل أليس قد قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
فكيف يكون الطمأنينة والوجل فى حالة واحدة- قيل الوجل عند ذكر الوعيد والعقاب والطمأنينة عند ذكر الوعد والثواب- فالقلب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه- وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وكرمه- وهذا الكلام يقتضى المنافاة بين الطمأنينة والوجل- وعندى لا منافاة بينهما فان الطمأنينة المبنية على الانس يجتمع مع الوجل- وايضا الخوف والرجاء يجتمعان فى حالة واحدة- عن انس قال دخل النبي ﷺ على شابّ وهو فى الموت- فقال كيف تجدك قال أرجو الله يا رسول الله وانى أخاف ذنوبى- فقال رسول الله ﷺ لا يجتمعان فى قلب عبد فى مثل هذا الموطن الا أعطاه الله ما يرجو وامنه مما يخاف- رواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حديث غريب-.
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ فعلى من الطيب مصدر طاب يطيب كبشرى وزلفى قلبت ياؤه واو الضمة ما قبلها- ومحله الرفع او النصب كقولك طيبا لك وطيب لك وسلاما عليك وسلام عليك- واللام فى لهم للبيان نحو سقيا لك- ومعناه على قول ابن عباس فرح لهم وقرة عين- وقال عكرمة نعم مالهم- وقال قتادة حسنى لهم- وقال معمر عن قتادة يقول الرجل طوبى لك إذا أصبت خيرا- وقال ابراهيم خير لهم وكرامة- وقال سعيد بن جبير طوبى اسم الجنة بالحبشية- وقال البغوي روى عن ابى امامة- وابى هريرة وابى الدرداء رضى الله عنهم قالوا طوبى شجرة «١» فى الجنة يظلّ الجنان كلها- وقال عبيد بن عمير هى شجرة فى جنة عدن أصلها فى دار النبي ﷺ وفى كل دار وغرفة غصن منها- لم يخلق الله لونا ولا زهرة الا وفيها منها الا السواد- ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة الا وفيها منها- ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل وقال مقاتل كل ورقة منها يظل امة- عليها ملك يسبح الله بانواع التسبيح- اخرج احمد وابن حبان والطبراني وابن مردوية والبيهقي عن عتبة ابن عبد الله السلمى قال قال أعرابي يا رسول الله فى الجنة فاكهة- قال نعم فيها شجرة طوبى يطابق الفردوس- قال اىّ شجرة ارضنا يشبه- قال ليس يشبه شيئا من شجر أرضك ولكن
(١) عن ابن عمر قال ذكر عند النبي ﷺ طوبى فقال النبي ﷺ يا أبا بكر هل بلغك ما طوبى قال الله ورسوله اعلم قال شجرة فى الجنة لا يعلم طولها الا الله فيسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا ورقها الحلل يقع عليها كامثال البخت قال ابو بكر ذلك الظّئر باعم قال أنعم منه من أكله وأنت منهم يا أبا بكر إنشاء الله- ازالة الخفا- منه رحمه الله
أتيت الشام قال لا- قال فانها تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد ثم ينشر أعلاها- قال ما عظم أصلها قال لو ارتحلت برمة من ابل أهلك ما أحطت بأصلها حتّى تنكسر ترقوتا هرما- قال فهل فيها عنب- قال نعم قال ما عظم العنقود منها- قال مسيرة شهر للغراب الا يقع قال ما عظم الجثة منها قال هل ذبح أبوك تيسا من غنمه عظيما قط- قال نعم قال فاسلخ إهابه فاعطى أمك فقال ادبغى هذا ثم افرى لنا منه دلوا نروى فيه ما شينا... قال فان تلك الحبة يشبعنى واهل بيتي قال نعم وعامة عشيرتك- وروى عن ابى سعيد الخدري رضى الله عنه قال ان رجلا سال النبي ﷺ ما طوبى قال شجرة فى الجنة مسيرة مائة سنة- ثياب اهل الجنة تخرج من أكمامها- رواه ابن حبان وعن معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه طوبى شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وان أغصانها ليرى من وراء سور الجنة- وروى البغوي بسنه عن ابى هريرة قال ان فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها مائة سنة لا يقطعها اقرءوا ان شئتم وظلّ مّمدود- متفق عليه وأخرجه احمد وزاد فى آخره وان ورقها ليخمر الجنة- واخرج البغوي وهناد بن سرى فى الزهد وزاد فى آخره فبلغ ذلك كعبا فقال صدق والّذي انزل التورية على موسى والقران على محمّد صلى الله عليه وسلم- لو ان رجلا ركب حقة او جذعة ثم أدار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتّى يسقط هرما- ان الله غرسها بيده ونفخ فيها من روحه وان أفنانها لمن وراء سور الجنة- ما فى الجنة نهر الا وهو يخرج من اصل تلك الشجرة- وعن ابى هريرة قال فى الجنة شجرة يقال لها طوبى يقول لها الله تعالى تفتقى لعبدى عما يشاء فتفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما يشاء- وتفتق له عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما يشاء- وعن الثياب- رواه ابن ابى الدنيا والبغوي واخرج ابن المبارك وابن جرير عن شهر بن حوشب قال طوبى شجرة فى الجنة كل شجرة الجنة من أغصانها من وراء سرر الجنة وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) اى حسن المنقلب-.
كَذلِكَ يعنى مثل ارسالنا الرسل قبلك أَرْسَلْناكَ يا محمّد فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أرسلوا إليهم فليس ارسالك امرا مبدعا لِتَتْلُوَا لتقرا عَلَيْهِمُ القران الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ
بِالرَّحْمنِ
وحالهم انهم يكفرون بالبليغ الرحمة الّذي أحاطت بهم نعمته ووسع كل شيء رحمته- فلم يشكروا نعمته خصوصا لم يشكروا ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم وإنزال القران الّذي هو مناطا لمنافع الدينية والدنياوية عليهم- قال البغوي قال قتادة ومقاتل وابن جريح نزلت الاية فى صلح الحديبية- وكذا اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن قتادة وذلك ان سهل بن عمرو لما جاء واتفقوا على ان يكتبوا كتاب الصلح كما ذكرنا القصة فى سورة الفتح- قال رسول الله ﷺ لعلىّ اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم- قالوا لا نعرف الرّحمن الا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب اكتب كما كنت تكتب باسمك اللهم- فهذا معنى قوله وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ- قال البغوي والمعروف ان الاية مكية وسبب نزولها ان أبا جهل سمع محمّدا ﷺ وهو فى الحجر يدعو يا الله يا رحمان فرجع الى المشركين فقال ان محمّدا يدعو الهين يدعو الله ويدعو الرّحمن ولا نعرف الرّحمن الا رحمان اليمامة- فنزلت هذه الاية ونزلت قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى - وروى الضحاك عن ابن عباس انها نزلت فى كفار قريش حين قال لهم النبي ﷺ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ... قُلْ يا محمّد هُوَ رَبِّي اى الرّحمن الّذي انكرتم معرفته هو خالقى ومتولى امرى لا إِلهَ لا يستحق العبادة إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ اعتمدت فى نصرتى عليكم وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) توبتى او اليه مرجعى فيثيبنى- قرا يعقوب متابى وعقابى ومابى بالياء فى الحالين والباقون يحذفونها- اخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال قالوا للنبى ﷺ ان كان كما تقول فارنا أشياخنا الاول نكلمهم من الموتى وافسح لنا هذه الجبال جبال مكة فنزلت.
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الاية واخرج ابن ابى حاتم وابن مردوية عن عطية العوفى قال قالوا للنبى ﷺ لو سيّرت جبال مكة حتّى يتسع فنحرث فيها او قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح وأحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه فانزل الله تعالى هذه الاية- وذكر البغوي مبسوطا ان الاية نزلت فى نفر من مشركى مكة منهم ابو جهل بن هشام وعبد الله بن امية جلسوا خلف الكعبة فارسلوا
239
الى النبي ﷺ فقال له عبد الله بن امية ان سرّك ان نتبعك فسيّر جبال مكة بالقران حتّى ينفسح فانها ارض ضيّقة لمزارعنا- واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا لنغرس فيها الأشجار ونزرع ونتخذ البساتين- فلست كما زعمت باهون على ربك من داود سخرت له الجبال تسبح معه- او سخّر لنا الريح فنركبها الى الشام لميرتنا وحوائجنا ونرجع فى يومنا- فقد سخرت الريح لسليمان كما زعمت ولست باهون على ربك من سليمان- واحيى لنا جدك قصيّا او من شئت من موتانا لنسئله عن أمرك أحق ما تقول أم باطل- فان عيسى كان يحى الموتى ولست باهون على الله منه- فانزل الله تعالى هذه الاية- واخرج ابو يعلى فى مسنده من حديث الزبير بن العوام بمعناه يعنى لو ثبت ان قرانا يعنى كتابا من الكتب السماوية سيرت به الْجِبالُ اى أزيلت عن مقارها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ فى السير بان يسخر الله الريح فيركبونها ويقطعون الأرض او شققت الأرض فجعلت أنهارا وعيونا أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى اى أحيا به الموتى حتّى تكلموا- تذكير كلّم خاصة لاشتمال الموتى على المذكر الحقيقي- بل المراد به قصىّ «١» وأمثاله- وجواب الشرط محذوف يعنى لكان هذا القران لانه الغاية فى الاعجاز لكن الله سبحانه لم يقدّر كذلك- او لما أمنوا نظيره قوله تعالى وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ «٢» الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا- وقيل الجواب مقدم وهو قوله وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ وما بينهما اعتراض- كانّه قال لو سيرت به الجبال لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا- لما كتبناه عليهم من الشقاء ولان مبادى تعيناتهم ظلال الاسم المضلّ فانى لهم الهداية بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً إضراب عن كلام مقدر يدل عليه معنى لو من نفى تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى- تقديره ليس ذلك النفي لكون الأمور المذكورة غير مقدورة لله تعالى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً فهو قادر على ما اقترحوا من الآيات وكل شيء سواه الا ان إرادته لم يتعلق بذلك لعلمه بانهم لا يؤمنون ولو يروا كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ- او لان الله تعالى لم يرد هدايتهم «٣» - قال البغوي ان اصحاب رسول الله ﷺ لما سمعوا هذا من المشركين طمعوا فى ان يفعل الله ما سالوا حتّى يؤمنوا فانزل الله تعالى أَفَلَمْ يَيْأَسِ قرا البزي بفتح الياء من غير همز الَّذِينَ آمَنُوا
(١) فى الأصل قصيّا-[.....]
(٢) فى الأصل عليهم-
(٣) فى الأصل سخر له
240
عن ايمانهم حتّى طمعوا ذلك مع ما راوا من أحوالهم انهم راوا من الآيات ما هو أعظم من ذلك فلم يؤمنوا الا ترى ان انشقاق القمر باشارة النبي ﷺ أشد اعجازا من تسيير الجبال وتقطيع الأرض- وتكليم الحصى أشد إعجازا من تكليم الموتى وغير ذلك ما لا يحصى أَنَّ مخففة من الثقيلة اى انه لَوْ يَشاءُ اللَّهُ متعلق بمحذوف تقديره أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا من ايمانهم علما منهم أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً او متعلق بامنوا وان مصدرية يعنى الذين آمنوا بان لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً- وقال اكثر المفسرين معنى افلم يايئس أفلم يعلم- قال الكلبي هى لغة النخع وقيل لغة هو اذن وأنكر الفراء ان يكون بمعنى العلم وزعم انه لم يسمع أحدا من العرب يقول يئست بمعنى علمت ويمكن ان يقال انه استعمل الإياس بمعنى العلم مجازا لانه مسبب عن العلم فان المأيوس عنه لا يكون الا معلوما ولذلك علقه بقوله أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ اى انه لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً والسبب لهذا القول ما اخرج ابن جرير عن علىّ وابو عبيدة وسعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس انهما قرا افلم يتبيّن الّذين آمنوا ان لّو يشاء الله لهدى النّاس جميعا فكانه تفسير لقوله (افلم «١» يياسوا) والله اعلم- وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من الكفر والأعمال الخبيثة قارِعَةٌ اى داهية تقرعهم من انواع البلاء أحيانا بالجدب وأحيانا بالسلب وأحيانا بالقتل والاسر- قال ابن عباس أراد بالقارعة السرايا الّتي كان رسول الله ﷺ يبعتهم إليهم أَوْ تَحُلُّ يعنى القارعة من السرايا وغير ذلك قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فيقرعون منها ويتطاء إليهم شررها- وقيل معناه او تحل أنت يا محمّد بنفسك الكريمة قريبا من دارهم وقد حلّ بالحديبية والاية على هذا وعلى ما قال ابن عباس فى كفار مكة حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ اى الموت او القيامة ان كانت الاية عامة او فتح مكة ان كانت فى كفار مكة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) لامتناع الكذب والخلف فى كلامه ولمّا كان الكفار يسئلون هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء انزل الله تعالى تسلّية للنبى صلى الله عليه وسلم.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما يستهزءون بك فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الملوة المدة الطويلة من الدهر ومنه الملوان الليل والنهار
(١) فى الأصل هكذا وفى الاية أَفَلَمْ يَيْأَسِ-
باعتبار امتدادهما- وليست الملوان حقيقة الليل والنهار بدليل قول الشاعر نهار وليل دائم ملوهما «١» على كل حال المرء يختلفان- فلو كانا الليل والنهار لما أضيف الى ضميرهما فمعنى فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا تركتهم فى مدة من الدهر من غير تعذيب وأمهلتهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعقوبة فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) عقابى إياهم اى هو واقع موقعه فكذلك افعل بمن استهزا بك.
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ رقيب عليه بِما كَسَبَتْ من خير وشر لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ولا يفوت عنده شيء من جزائهم والخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك- والاستفهام للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أتشركون بالله أصناما فتجعلون من هو قائم على كلّ نفس لمن ليس كذلك وهو جماد عاجز عن نفسه يعنى ليس كذلك فلا تشركوا به وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ استيناف او لطف على كسبت ان جعل ما مصدرية- او على مقدر تقديره لم يوحدوه وجعلوا لله شركاء- ويكون الظاهر فيه موضع الضمير للتنبيه على انه المستحق للعبادة قُلْ سَمُّوهُمْ يعنى صفوهم فانظروا هل هم يستحقون العبادة ويستأهلون الشركة أَمْ تُنَبِّئُونَهُ اى بل أتخبرون الله بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ اى بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم الله- او بصفات للاصنام يستحقون العبادة لاجلها لا يعلمها الله- وهو العالم بكل ما هو كائن أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أم تسمونها شركاء بظاهر من القول مسموع ليس لها مصداق أصلا- كتسمية الزنجي كافورا- وقيل معناه بباطل من القول قال الشاعر
وعيرنى الواشون الى أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عاريها
- اى باطل بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعنى زين لهم الشيطان مَكْرُهُمْ اى كيدهم وتمويهم فتخيلوا أباطيل او كيدهم للاسلام بشركهم وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ قرا الكوفيون بضم الصاد هاهنا وفى حم المؤمن اى صرفوا عن الدين صرفهم الله تعالى وأضلهم الشيطان- وقرا الباقون بالفتح اى صدوا الناس عن الايمان وطريق الهدى وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بخذ لانه إياه فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) يوفقه للهدى.
لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالقتل والاسر وضرب الجزية وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
أشد وأدوم منه
(١) فى الأصل ملوها-
وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
اى من عذابه- او من رحمته مِنْ واقٍ
(٣٤) حافظ-.
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ اى صفتها الّتي هى مثل فى الحسن والغرابة- مبتدا خبره محذوف عند سيبويه- اى فيما يقص عليكم وما بعده حال من العائد المحذوف من الصلة- وقيل خبره تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ على طريقة قولك صفة زيد اسمه- او على حذف الموصوف اى مَثَلُ الْجَنَّةِ جنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ- او يقال لفظ المثل زائد والمعنى (الجنّة الّتي وعد المتّقون تجرى من تحتها الانهر أكلها) اى ثمرها دائِمٌ لا ينقطع- اخرج البزار والطبراني عن ثوبان انه سمع رسول الله ﷺ يقول لا ينزع رجل من اهل الجنة ثمرها الا أعيد فى مكانها مثلها- وفى هذه الاية والحديث رد على الجهمية حيث قالوا ان نعيم الجنة يفنى وَظِلُّها اى وظلها كذلك لا ينسخ كما ينسخ فى الدنيا بالشمس- اخرج البيهقي عن شعيب بن الجيحان قال خرجت انا وابو العالية الرياحي قبل طلوع الشمس فقال نبّئت ان الجنة هكذا ثم تلا وَظِلٍّ مَمْدُودٍ... تِلْكَ اى الجنة الموصوفة بما ذكرنا عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا اى جزاؤهم او مالهم ومنتهى أمرهم وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) ان كان العقبى بمعنى الجزاء فاستعماله هاهنا على سبيل الاستعارة- كما فى قوله تعالى.
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ «١» - وفَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعنى اصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم- او مؤمنوا اهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه ومن أمن من النصارى من اهل الحبشة وغيرهم يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القران لموافقته ما عندهم وَمِنَ الْأَحْزابِ يعنى الكفار الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم- او الذين كفروا من اليهود والنصارى ككعب بن الأشرف وأصحابه- والسيد والعاقب وأمثالهما مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وهو ما يخالف أهواءهم- او ما يخالف شرائعهم من شريعتنا ونبوة محمّد صلى الله عليه وسلم- قال البغوي قال جماعة كان ذكر الرّحمن قليلا فى القران فى الابتداء- فلمّا اسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره فى القران مع كثرة ذكره فى التورية
(١) فى الأصل يعملون-
فلما كرر الله ذكره فى القران فرحوا به- فانزل الله تعالى هذه الاية- وقيل المراد بقوله ومن الأحزاب من ينكر بعضه يعنى مشركى مكة حين كتب رسول الله ﷺ فى كتاب الصلح بسم الله الرّحمن الرّحيم- قالوا لا نعرف الرّحمن الا رحمان اليمامة يعنى مسيلمة الكذّاب فانزل الله وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ... - وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ- وانما قال بَعْضَهُ لانهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرّحمن قُلْ يا محمّد إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ اى بان أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ الاية ان كان فى جواب منكرى اهل الكتاب فالمعنى قل لهم انى أمرت فيما انزل الىّ ان اعبد الله واوحّده- وهو العمدة فى الدين ولا سبيل لكم الى إنكاره- واما ما تنكرونه مما يخالف شرائعكم من الاحكام فليس ببدع- فان الشرائع والكتب السماوية ينسخ بعضها بعضا فى جزئيات الاحكام- وان كان فى عامة الكفار فالمعنى انى أمرت ان اعبد الله وحده- وذكره بأسماء كثيرة من الله والرّحمن والرّحيم لا ينافى التوحيد فانكاركم على اسم الرّحمن لا معنى له- ولعل انكارهم ذكر الرّحمن مبنى على ان استعدادهم يأبى عن رحمة الله تعالى إِلَيْهِ أَدْعُوا الناس لا الى غيره وَإِلَيْهِ لا الى غيره مَآبِ (٣٦) مرجعى ولا سبيل الى انكار ذلك.
وَكَذلِكَ اى مثل انزالنا الكتب السابقة بلغات من أرسل إليهم أَنْزَلْناهُ اى القران عليك حُكْماً فى القضايا والوقائع والحلّ والحرمة وغيرها على ما يقتضيه الحكمة عَرَبِيًّا مترجما بلسان قومك العرب ليسهل لك ولقومك فهمه وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فيما أنكروا عليك فرضا بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) يعنى ناصر وحافظ يقيك ويمنع العقاب عنك روى ان اليهود قالوا ان هذا الرجل ليس له همة الا فى النساء فانزل الله تعالى.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ بشرا مثلك لا ملائكة وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً اى نساء وأولادا كما هى لك وَما كانَ لِرَسُولٍ اى ما صح له ولم يكن فى وسع أحد منهم أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ يقترح عليه وحكم يلتمس منه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لانهم عبيد مربوبون لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) اى لكل أمد- ولوقت كل شيء كتاب كتب الله
فى الأزل بدايته ونهايته- يعنى كتب الله فى الأزل انّ زيدا يولد فى وقت كذا ويبقى منذ كذا كافرا ويسلم فى وقت كذا ونحو ذلك- وكذا لنزول اية من القران او معجزة قضى وجوده وقت مكتوب عند الله لا يتقدمه ولا يتاخر وان استعجل الناس- وجاز ان يكون هذا متعلقا بقوله تعالى وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ على ان يكون تلك الاية فى انكار اهل الكتاب على احكام يخالف احكام التورية يقول الله لكل أمد ووقت حكم يكتب على العباد على ما يقتضى استصلاحهم-.
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قرا ابن كثير وابو عمرو ويعقوب وعاصم يثبت بالتخفيف من الافعال- والباقون بالتشديد من التفعيل- واختلفوا فى معنى الاية قال سعيد بن جبير وقتادة يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من الفرائض والشرائع فينسخه ويبدّله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه- وهذا يناسب التأويل الثاني للاية المتقدمة عليها- وقال ابن عباس يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ يعنى مما كان فى اللوح- فما كان مكتوبا قابلا للمحو يسمى بالقضاء المعلق- يمحوه الله تعالى بايجاد ما علق محوه به- سواء كان ذلك التعليق مكتوبا فى اللوح او مضمرا فى علم الله تعالى- وما ليس قابلا للمحو يسمى بالقضاء المبرم- وذلك القضاء لا يرد قال ابن عباس يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ الا الرزق والاجل والسعادة والشقاوة يعنى انها «١» لا تمحى- قال البغوي روينا عن حذيفة بن أسيد عن النبي ﷺ انه قال يدخل الملك على النطفة بعد ما يستقر فى الرحم بأربعين او خمسة وأربعين ليلة- فيقول يا رب أشقى أم سعيد فيكتبان- فيقول اى رب اذكر أم أنثى فيكتبان- ويكتب عمله واثره واجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص- وفى الصحيحين عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة- ثم تكون علقة مثل ذلك- لم تكون مضغة مثل ذلك- ثم يبعث الله اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأحله ورزقه وشقى او سعيد- ثم
(١) واخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عمر سمعت رسول الله ﷺ يقول يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ الا الشقاوة والسعادة والحياة والموت- واخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد الله عن رباب عن النبي ﷺ قال يمحوا من الرزق ويزيد فيه ويمحوا من الاجل ويزيد فيه- واخرج ابن مردوية عن ابن عباس ان النبي ﷺ سئل عن قوله تعالى يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال ذلك كل ليلة القدر يرفع ويجير ويرزق غير الحيوة والموت والشقاوة والسعادة فان ذلك لا يبدل- منه رحمه الله
245
ينفخ فيه الروح الحديث- وقال البغوي وعن عمرو ابن مسعود انهما قالا يمحو السعادة والشقاوة ايضا ويمحو الرزق والاجل ويثبت ما يشاء- وروى عن عمر انه كان يطوف بالبيت وهو يبكى ويقول اللهم ان كنت كتبتنى فى اهل السعادة فاثبتنى فيها- وان كنت كتبت علىّ الشقاوة فامحنى وأثبتني فى اهل السعادة والمغفرة فانك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب- ومثله عن ابن مسعود وفى بعض الآثار ان الرجل قد يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيرد الى ثلاثة ايام- والرجل قد يكون قد بقي له من عمره ثلاثة ايام فيصل رحمه فيمد الى ثلاثين سنة- ثم روى البغوي بسنده الى ابى الدرداء رضى الله عنه قال رسول الله ﷺ ينزل الله فى اخر ثلاث ساعات يبقين من الليل- فينظر فى الساعة الاولى منهن فى الكتاب الّذي لا ينظر فيه أحد غيره- فيمحو ما يشاء ويثبت- اخرج ابن مردوية عن علىّ انه سال رسول الله ﷺ عن هذه الاية فقال لا قرن عينك بتفسيرها ولا قرن عين أمتي من بعدي بتفسيرها- الصدقة على وجهها وبر الوالدين واصناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة ويزيد فى العمر- قلت ويوافق مذهب عمر وابن مسعود رضى الله عنهما ما ذكر فى المقامات المجددية ان المجدد رضى الله عنه نظر ببصيرة الكشف مكتوبا فى ناصية ملا طاهر اللاهورى شقى- وكان ملا طاهر معلما لابنيه الكريمين محمّد سعيد ومحمّد معصوم رضى الله عنهما- فذكر المجدد رضى الله عنه ما ابصر لولديه الشريفين- فالتمسا منه رضى الله عنهم ان يدعو الله سبحانه ان يمحو عنه الشقاوة ويثبت مكانه السعادة- فقال المجدد رضى الله عنه نظرت فى اللوح المحفوظ فاذا فيه انه قضاء مبرم لا يمكن رده- فالجا ولداه الكريمان فى الدعاء لما التمسا منه- فقال المجدد رضى الله عنه تذكرت ما قال غوث الثقلين السيد السند محى الدين عبد القادر الجيلي رضى الله عنه ان القضاء المبرم ايضا يرد يدعونى- فدعوت الله سبحانه وقلت اللهم رحمتك واسعة وفضلك غير مقتصر على أحد- ارجوك وأسئلك من فضلك العميم ان تجيب دعوتى فى محو كتاب الشقاء من ناصية ملا طاهر- واثبات السعادة مكانه- كما أجبت دعوة سيد السند رضى الله عنه- قال فكانى انظر الى ناصية ملا طاهر انه محيى منها كلمة شقى وكتب مكانه سعيد
246
وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ- ثم أشكل علىّ هذا الأمر وقلت ما معنى رد القضاء المبرم بدعاء أحد فانه لا مرد لقضائه تعالى المبرم بوجه من الوجوه- والا لا يكون المبرم مبرما- وهذا خلف او يلزم المحال- فالهمنى الله تعالى حل ذلك الاشكال ان القضاء المعلق نوعان- أحدهما ما كتب فى اللوح المحفوظ تعليقه وكتب ان رد هذا القضاء معلق بامر كذا- وثانيهما ما لم يكتب تعليقه فى اللوح- فهو فى اللوح على صورة المبرم ومعلق محوه وإثباته فى علم الله تعالى- فما قال السيد السند رضى الله عنه ان القضاء المبرم يرد بدعوتي- فذلك القضاء هو الّذي فى اللوح فى صورة المبرم وليس مبرما فى علم الله تعالى- وكان شقاوة ملا طاهر من هذا القبيل مبرما فى اللوح معلقا محوه بدعاء المجدد رضى الله عنه فى علم الله تعالى والله اعلم وقال الضحاك والكلبي معنى الاية ان الحفظة يكتبون جميع اعمال ابن آدم وأقواله فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب- مثل قوله أكلت وشربت دخلت وخرجت ونحوها من كلام هو صادق فيه- ويثبت ما فيه ثواب او عقاب- قال الكلبي يكتب القول كله حتّى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيها ثواب ولا عقاب- وقال عطية عن ابن عباس رضى الله عنهما هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود يعصيه فيموت على ضلاله فهو الّذي يمحو- ورجل يعمل بطاعة الله فيموت وهو فى طاعته فهو الّذي يثبت- روى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلب واحد يصرّفه كيف يشاء- ثم قال رسول الله ﷺ اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك- وقال الحسن يمحو ما يشاء اى من جاء اجله يذهب به ويثبت من لم
يجئ اجله الى اجله- وعن سعيد بن جبير قال يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها- وقال عكرمة يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة ويثبت بدل الذنوب حسنات- كما قال فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ- روى مسلم عن ابى ذر قال قال رسول الله ﷺ يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغائر ذنوبه فيعرض عليه صغائرها وتخبأ عنه كبائرها- فيقال عملت يوم كذا كذا وكذا وهو يقرّ وليس ينكر وهو مشفق من الكبائر ان تخيى- فقال أعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول ان لى ذنوبا
247
لا أراها هاهنا- فلقد رايت رسول الله ﷺ ضحك حتّى بدت نواجذه- قلت ولعل هذا فى من انغمس فى بحار المحبوبية الصرفة من الصوفية العلية- وقال السدى يمحو الله ما يشاء يعنى القمر ويثبت يعنى الشمس بيانه قوله تعالى فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً- وقال الربيع هذا فى الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم- فمن أراد موته محاه فامسكه ومن أراد بقاءه أثبته ورده الى صاحبه- بيانه قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها الاية- وقيل معناه يمحو من كتاب الحفظة من اعمال العباد ما عمل رياء وسمعة ويثبت ما عمل لوجه الله خالصا- وقيل يحو قوما ويثبت قوما وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) اى اصل الكتاب وهو علم الله- كذا قال كعب حين ساله ابن عباس عن أم الكتاب- وقال عكرمة عن ابن عباس هنا كتابان كتاب سوى أم الكتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت وأم الكتاب الّذي لا يغير منه شيء- قال البغوي اللوح المحفوظ الّذي لا يبدل ولا يغير- وعن عطاء عن ابن عباس قال ان لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت- لله فيه كل يوم ثلاثمائة وثلاثون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت-.
وَإِنْ ما فيه ادغام نون ان الشرطية فى ما الزائدة نُرِيَنَّكَ قبل موتك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من تعذيبهم ومغلوبيّتهم فى الدنيا واستيلاء اهل الإسلام كما أراه «١» ﷺ هزيمتهم وقتلهم واسرهم يوم بدر- الموعود بقوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ- وجواب الشرط محذوف اى فذك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل حلول ما نعدهم ثم نعذبهم فلا تغتم باعراضهم ولا تستعجل بعذابهم فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ لا غير وقد أتيت به وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) والجزاء يوم القيامة فنجازيهم إذا صاروا إلينا ليس ذلك عليك.
أَوَلَمْ يَرَوْا يعنى كفار مكة أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها قال البغوي اكثر المفسرين على ان المراد منه فتح ديار الشرك- فان ما زاد فى ديار الإسلام فقد نقص من ديار الشرك- وتقدير الكلام على هذا ينكرون ما نعدهم بانهم سينفقون أموالهم ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ-... أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ اى نقصد ارض الكفرة نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بما نفتحه على المسلمين منها أرضا بعد ارض حوالى ارضهم فلا يعتبرون- هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة وفيه تسلية للنبى ﷺ حتّى لا يهتم ويعلم ان الله يتم ما وعده من الظفر- وقال قوم هو خراب الأرض ومعناه الا يخافون ان نهلكهم ونخرب ديارهم وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ فنخريها ونهلك أهلها ومثل
(١) فى الأصل راه-
ذلك قال مجاهد والشعبي وَاللَّهُ يَحْكُمُ فى خلقه ما يشاء لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ يعنى لا راد لقضائه ولا ناقض لحكمه- والمعقّب الّذي يعقّب الشيء ويكر عليه بالابطال- والمعنى انه تعالى حكم للاسلام بالإقبال وعلى الكفر بالادبار وذلك كائن لا مرد له- ومحل لا مع المنفي «١» النصب على الحال اى يحكم نافذا حكمه وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) فيحاسبهم فى الاخرة بعد ما يعذبهم بالقتل والاسر والاجلاء فى الدنيا.
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ اى قبل مشركى مكة مكر كفار الأمم السابقة بانبيائهم والمؤمنين منهم كما مكر هؤلاء لك- والمكر إيصال المكروه الى أحد من حيث لا يشعر فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً اى عند الله جزاء مكرهم وقيل معناه ان الله خالق مكرهم جميعا بيده الخير والشر ومن عنده النفع والضرّ فلا يضر مكر أحد أحدا الا باذنه فمكرهم كلا مكر يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فيجازيه على حسب عمله فهذا هو المكر كله لانه يأتيهم من حيث لا يشعرون وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ قرا ابن عامر والكوفيون بصيغة الجمع واهل الحجاز وابو عمرو الكفر على التوحيد بارادة الجنس لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) اى لمن جزاء الحسنات فى الدار الاخرة من الفئتين- حين يأتيهم العذاب المعهود وهم فى غفلة منه والمؤمنون يدخلون الجنة- وهذا كالتفسير لمكر الله بهم.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى كفار مكة وقيل رءوساء اليهود لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ يا محمّد كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً الباء زائدة دخلت على الفاعل وشهيدا تميز من النسبة والمعنى كفى شهادة الله تعالى بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على صدقى فانه اظهر من الادلة على رسالتى ما يغنى عن شاهد يشهد عليها- وانه تعالى هو الحاكم يوم الجزاء فلا يكون لهم عند الله عذر يومئذ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣) عطف على الله والمراد مؤمنوا اهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله- يعنى ويشهد ايضا المؤمنون من أحبار اليهود ولا يضر انكار الكافرين منهم- لان اقرار من أقر منهم لا تهمة فيه أصلا- واما انكار الكفار منهم فمبنى على الحسد والعناد لاجل المال والجاه- ولاجل هذا التأويل قيل هذه الاية من هذه السورة مدنية وان كانت سائرها مكية وأنكر الشعبي وابو بشر هذا التأويل- قالا السورة مكية وعبد الله بن سلام اسلم بالمدينة- قلت لو سلمنا كون الاية مكية فلا مانع ان يكون المراد بالموصول اهل الكتاب- كانّه ارشاد لكفار مكة بانه ان لم يستيقنوا برسالة محمّد ﷺ فاسئلوا اهل الكتاب سيشهد لكم ثقات منهم- وقال الحسن ومجاهد وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ هو الله تعالى والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ والمعنى كفى شهيدا الّذي يستحق العبادة- ومن لا يعلم ما فى اللوح الا هو فتجزى الكاذب منّا- ويؤيده قراءة الحسن وسعيد بن جبير من عنده بكسر الميم والدال على ان من جارة وعلم الكتب على صيغة الفعل الماضي المجهول والله اعلم تمت تفسير سورة الرعد عاشر ربيع الثاني سنة الف ومائتين واثنين سنة ١٢٠٢ وسيتلوها سورة ابراهيم عليه السلام ان شاء الله تعالى-
(١) فى الأصل مع النفي-
249
فهرس سورة ابراهيم عليه السلام من التفسير المظهرى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مضمون صفحة حديث الناس تبع لقريش فى الخير والشر ٣ حديث من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة ٤ حديث الناس تبع لكم يا اهل المدينة فى العلم ٤ حديث الشيخ فى اهله كالنبى فى أمته ٤ حديث العلماء ورثة الأنبياء ٤ حديث ان الناس لكم تبع ٤ صبار شكور عنوان المؤمن ٥ ما ورد من الأحاديث فى الصبر والشكر ٥ ما ورد فى فضل التسبيح والتحميد والتهليل ١٧ فى تفسير الكلمة الطيبة ١٧ حديث الشجرة الطيبة النخلة ١٧ حديث ان من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وانها مثل المسلم ١٧ حديث من قال سبحان الله العظيم غرست له نخلة فى الجنة ١٧ ما ورد فى سوال المنكر والنكير والثواب والعذاب فى القبر- ١٨ ما ورد فى الايمان بالقدر ٢٠ ما ورد فى مذمة بنى مغيرة وبنى امية وكفر يزيد- ٢١ حديث ان هذا البلد يعنى مكة حرمه الله يوم خلق السموات والأرض- ٢٥ قصة هاجر أم إسماعيل عليه السلام ٢٥ وإسكانهما بمكة وصيرورتها بلدا ٢٥ حديث الدعاء هو العبادة الدعاء مخ العبادة- ٢٩ قصة نمرود وطيرانه الى السماء فى تابوت على النسور- ٣٢ ما ورد فى تبدل الأرض والسموات ٣٤ حديث ما بين بيتي ومنبرى روضة من رياض الجنة- ٣٧ يحاسب جميع الخلائق فى قدر نصف النهار- ٣٨ تمّت
250
Icon