تفسير سورة مريم

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة مريم من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

[سورة مريم عليها السّلام]

فاتحة سورة مريم عليها السّلام
لا يخفى على من انكشف بوحدة الوجود وتحقق دونه امتداده وسريانه على جميع الموجودات حسب اقتضاء الصفات الذاتية الإلهية فان اقتضاء بعض المظاهر الإلهية شيأ من الكمالات اللائقة له واستدعائه إياه انما هو باعتبار صفة من الصفات الإلهية المندمجة فيه باطنا سيما إذا صدر من النفوس الزكية المقدسة عن الكدورات البشرية المنزهة عن العلائق الناسوتية المتخلقة بالأخلاق الملكية المنتخبة لتحمل أعباء الرسالة المستخلفة عن الذات الإلهية النائبة عنها فيما يتعلق بالمظاهر الارضية ولا شك ان زكريا صلاة الرّحمن على نبينا وعليه من جملة المنتخبين للخلافة والنيابة المنزهين عن غوائل الشيطان وتسويلاته الغالبة في نشأة زكريا عليه السّلام وبالجملة ما حداه وما بعثه وهداه الى طلب الولد الا الصفة الإلهية التي تقتضي الظهور والنزول عن الغيب الذاتي الى عالم الشهادة ولما كان ظهوره موقوفا على طلب زكريا وتحننه لحكمة ومصلحة قد استأثر الله بها لا يطلع عليها الا من خصه بالاطلاع لذلك ناجى زكريا بوحي من الله اليه به وناداه نداء مؤمل صريع على وجه قد انكشف به تحقق مأموله وإنجاح مسئوله حين جذبه الحق عن نفسه وأخرجه عن قيود تعلقاته مطلقا مع انه كان في نفسه قنوطا عن حصول الولد منه ومن امرأته لانقضاء أوانه منها وعقرها الأصلي ثم لما كان صلى الله عليه وسلّم مبدأ جميع مراتب الأنبياء ومجمعها اخبر سبحانه له ما ناجى معه عبده زكريا من استدعاء الولد الذي يخلفه ويحيي به اسمه مع انه من غرائب صنع الله وبدائع مخترعاته التي قد صدر عنه على سبيل خرق العادة إذ لا استعداد لزكريا ولا قابلية لزوجته بحصول الولد منها لانقضاء أوان التوالد من كلا الجانبين فقال سبحانه متيمنا باسمه العلى مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم بِسْمِ اللَّهِ الذي قد تجلى على أنبيائه ورسله ببدائع الكمالات الخارقة للعادات الرَّحْمنِ لهم ان يفتح عليهم أبواب المرادات بأسباب السعادات الرَّحِيمِ لهم حيث يوصلهم الى أقصى المقامات وأعلى الدرجات بأنواع الكرامات
[الآيات]
كهيعص يا كافى مهمات مهام عموم الأنام وهاديهم الى دار السّلام بيمن العزيمة العلية وبصدق الهمة الصادقة الصافية عن الكدورات البشرية الصادرة عنك نيابة عنا هذه السورة
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ الذي رباك كافيا هاديا للمضلين ينبوعا للعلوم الصحيحة الصافية اللدنية الجارية من قلبك على لسانك بمقتضى الوحى الإلهي والهاماته الغيبية عَبْدَهُ زَكَرِيَّا المتوجه نحوه في السراء والضراء المسترجع اليه عند هجوم عموم البلاء وحلول اصناف العناء اذكر يا أكرم الرسل وقت
إِذْ نادى رَبَّهُ نداء مؤمل صريع وناجى معه مناجاة مأيوس فجيع نِداءً خَفِيًّا متمنيا متحسرا مسرا مخفيا في ندائه ليأسه وقنوطه لانقضاء مدة الحمل ووقت حصول الولد ولئلا يلام عند الناس بطلبه هذا وقت الهرم من كلا الجانبين
حيث قالَ مشتكيا الى الله باثا شكواه عنده سبحانه في فحواه رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم إِنِّي من غاية ضعفى ونهاية هزالي ونحولى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وقد ضعف دعائم جسمي وقوائم بدني وأشرفت على الانهدام والانصرام وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً اى اشتعل شيب رأسى وذهب سواده بالكلية وانقلب الى البياض المشعر بالانقضاء والزوال مثل ابيضاض النباتات وقت الخريف وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ اى لم أكن انا بدعائى إياك في كل حال يا رَبِّ شَقِيًّا خائبا خاسرا مردودا بل قد عودتني أنت بفضلك وجودك بالاجابة والإنجاح وهذا الدعاء وان كان ابعد
بحسب العادة من الاجابة الا انه بالنسبة الى قدرتك وجودك اقرب وبجنب حولك وقوتك أسهل وأيسر سيما أنت ألهمتني ووفقتني على إظهاره
وبالجملة وَإِنِّي يا ربي قد خِفْتُ الْمَوالِيَ من أبناء اعمامى وهم الذين يترصدون الولاية والحبورة مِنْ وَرائِي ومن بعد انقراضى وانقضائى ان يغيروها ويضيعوها ويحرفوا معالم الدين وشعائر الإسلام بين المسلمين إذ لا يرجى منهم الرشد والفلاح والخير والصلاح وأنت اعلم بهم منى يا ربي وليس لي ولد صالح لهذا الأمر يخلفني بعدي ولم يبق لي قوة الإيلاد لهرمى وضعفى وَمع ذلك قد كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً عقيما اصليا لم تلد قط فلا مرجع لي في امرى هذا سوى بدائع صنعك وغرائب قدرتك فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
بمقتضى فضلك وجودك لا على طريق جرى العادة ومقتضى الأسباب الصورية ولدا وَلِيًّا عنى يتولى امر ديني بين أمتي
بحيث يَرِثُنِي وينوب عنى به في نبوتي وحبورتى وولايتي وجميع ما أنزلت علىّ خاصة من مقتضيات إحسانك الىّ وإنعامك بي يا ربي وَيَرِثُ ايضا مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وما بقي منهم من شعائر الدين ومراسم الهدى واليقين قيل كان زكريا أخا يعقوب بن اسحق وَبالجملة اجْعَلْهُ رَبِّ حسب كرمك وجودك رَضِيًّا راضيا عنك بجميع ما جرى عليه من قضائك صابرا على نزول عموم بلائك شاكرا على جميع نعمائك مرضيا عندك وعند عموم عبادك ثم لما اشتكى عليه السّلام عنده سبحانه بما اشتكى ودعا بما دعا أجاب سبحانه دعاءه واسرع اجابته مناديا له على سبيل الترحم والتفضل
يا زَكَرِيَّا المتضرع المناجى إلينا المستدعى منا خلفا يخلفك ويحيي اسمك إِنَّا من مقام عظيم جودنا إليك نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ يلد منك ومن زوجتك العجوز العقيمة العاقرة اسْمُهُ يَحْيى ليحيى مراسم شرعك ودينك وحبورتك مع انه لَمْ نَجْعَلْ لَهُ ولم نخلق مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا بهذا الاسم بل هو أول من سمى به
ثم لما سمع زكريا البشارة من قبل الحق قالَ على طريق الفرح وبسط الكلام معه سبحانه وان كان عموم أحواله حاصلا عنده سبحانه على التفصيل حاضرا لديه مستبعدا مستغربا يا رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ومن اين يحصل لي سيما في سنى هذا وضعفى ونحولى هذا وَقد كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً جبليا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ والهرم وفرط الكهولة عِتِيًّا يابسا جافا بحيث لا يبقى على رطوبة أصلا لا في مفاصلي ولا في اركان بدني وقوائم جسمي
قالَ سبحانه يا زكريا لا تستبعد من قدرتنا أمثال هذا المقدور بل كَذلِكَ ومثل ذلك قد قدرنا لك ابنا بان تكون أنت باقيا على كبرك وهرمك وزوجتك ايضا باقية على عقرها وهرمها نوجد منكما الولد إظهارا لقدرتنا الغالبة الكاملة وأمثال هذا وان عسر عادة الا انه في جنب قدرتنا سهل يسير وبالجملة كذلك قالَ رَبُّكَ يا زكريا هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ اى إخراج الولد منك ومن زوجتك على سهل يسير وفي جنب حولي وقوتي امر حقير وَكيف لا يكون هذا سهلا بالنسبة الى حولي وقوتي وكمال قدرتي انى قَدْ خَلَقْتُكَ وقدرت وجودك مِنْ قَبْلُ فيما مضى وَلَمْ تَكُ أنت بنفسك شَيْئاً ولا مسبوقا بشيء بل أوجدتك إيجادا إبداعيا وأظهرتك من كتم العدم إظهارا اختراعيا بلا سبق مادة ومدة وسبب عادى وبالجملة هذا هين بالنسبة الى ذلك
ثم لما تفطن زكريا بإنجاح مطلوبه أخذ يسئل الامارة والعلامة لحمل امرأته وحبلها حيث قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي بفضلك آيَةً وعلامة تدل على حمل امرأتى قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ولا تقدر أنت على المقاولة والمكالمة ثَلاثَ لَيالٍ مع
نهارها لا عن عروض عارضة ولحوق مرض وخرس بل قد كنت ح سَوِيًّا صحيحا سالما عن جميع الأسقام غير ان اشتغالك بالحق قد شغلك عن الخلق بحيث لا تطيق التكلم معهم في المدة المذكورة الا رمزا اشارة وإيماء
ثم لما دنى وقت الحمل لاحت إمارته فَخَرَجَ صبيحة يوم عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ اى الحجرة التي هو فيها من خلوته للصلاة على عادته المستمرة وقد كان من عادته انه يأمرهم في كل صبيحة خرج عليهم بالصلوة والدعاء والتوجه والخشوع فَأَوْحى اومأ وأشار إِلَيْهِمْ بلا نطق وتكلم أَنْ سَبِّحُوا ربكم ونزهوه عما لا يليق بشأنه بُكْرَةً وَعَشِيًّا اى في الصبيحة التي أنتم فيها والبكرة التي ستجيء الى العشى الآتي والى الصبيحة الآتية بعده أوصاهم كل يوم بذلك على الدوام وفي تلك المدة ما قدر على التكلم معهم لذلك أشار
ثم لما سوينا خلقة يحيي وأخرجناه من بطن امه صحيحا سويا قلنا له تربية وتكريما يا يَحْيى الموهوب من لدنا المؤيد من عندنا خُذِ الْكِتابَ اى التوراة واشرع في ضبطها وحفظها بِقُوَّةٍ اى بنية خالصة وعزيمة صحيحة صادقة وَانما أمرناه بحفظها وضبطها إذ قد آتَيْناهُ الْحُكْمَ يعنى الحكمة المندرجة فيها وأعطيناه فهمها واستنباط الاحكام منها حال كونه صَبِيًّا لم يبلغ الحلم
وَانما آتيناه وأعطيناه في حال صغره فهم التورية ليكون حَناناً ترحما وتعطفا مِنْ لَدُنَّا إياه تكريما له ولأبيه وَزَكاةً طهارة له عن مطلق الخبائث والآثام وَلهذا قد كانَ في مدة حياته من أوان صباه الى موته تَقِيًّا حذرا من عموم المناهي والمنكرات خائفا عن جملة المعاصي والمحظورات
وَ
لنجابة طينته قد ألقينا في قلبه بَرًّا
وإحسانا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ
في وقت من أوقاته وحالاته جَبَّاراً
عاقا لهما مستنكفا عن أمرهما عَصِيًّا
تاركا أمرهما وحكمهما
وَ
لسلامته عن عموم الآثام وطهارته عن جميع الخبائث والمعاصي سَلامٌ
حفظ وتسليم وتكريم نازل منا عَلَيْهِ
على الدوام يَوْمَ وُلِدَ
قد كنا نحفظه من شر الشيطان وَيَوْمَ يَمُوتُ
نحفظه من زوال الايمان وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
نصونه عن الخيبة والخسران وعن لحوق الحسرة والخذلان
وَاذْكُرْ
يا أكمل الرسل فِي الْكِتابِ
اى القرآن المنزل إليك سيدة النساء مَرْيَمَ
عليها السّلام اى قصتها العجيبة الشان التي هي اعجب واغرب من قصة ولد زكريا عليه السّلام اذكر وقت إِذِ انْتَبَذَتْ
اى اعتزلت وتباعدت مِنْ أَهْلِها
حين حاضت وطهرت وأرادت الاغتسال حسب طهارتها الفطرية ونجابتها الجبلية فاختارت للخلوة والستر مَكاناً شَرْقِيًّا
اى مشرق بيت المقدس ومع كونه مكانا بعيدا خاليا عن الناس
فَاتَّخَذَتْ
وأسدلت لغاية الاحتياط في التحفظ والتستر مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
يسترها ويحفظها عن أعين الناس ان وصلوا بغتة ثم لما تجردت عن لباسها واشتغلت لان تغتسل فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
وحامل وحينا وهو جبريل عليه السّلام إظهارا لكمال قدرتنا وحكمتنا وانفاذا لحكمنا الذي قد حكمنا به في سابق علمنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
شابا صبيحا امرد قططا مجعد الشعر لئلا تستوحش ومع ذلك قد استوحشت وارتهبت رهبة شديدة ومن شدة خوفها منه واضطرابها
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ
والوذ بِالرَّحْمنِ
الذي كفى لحفظ عباده من مطلق الشرور سيما مِنْكَ
اى من شرك ومن شر امثالك فادفع أنت بنفسك عنى إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
خائفا من الله حذرا عن بطشه وانتقامه ثم لما رأى جبرائيل عليه السّلام من كمال عفتها وعصمتها ما رأى
قالَ
مستحييا معتذرا من جنس الملك إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
قد أرسلني إليك يا سيدة النساء
لِأَهَبَ لَكِ
انا باذن الله إياي غُلاماً زَكِيًّا
طاهرا من عموم الرذائل والآثام مرتقيا في فنون الفضائل والكمالات الى أقصى الغايات مظهرا لانواع المعجزات والكرامات واصناف الارهاصات الخارقة للعادات
ثم لما سمعت عليها السّلام مقالته وتفطنت بنور الولاية انه امر الهى نازل من قبل الله قالَتْ متعجبة مشتكية أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ومن اين يحصل لي ولد وَلم يجر على أسبابه إذ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قط بالنكاح مساس مواقعة موجبة للحمل والحبل وَلَمْ أَكُ انا في مدة حياتي عاصية لله فاسقة خارجة عن مقتضى حدوده لأكون بَغِيًّا فاحشة زانية يولد منى ولد الزنا
قالَ جبرائيل عليه السّلام كَذلِكِ قد جرى حكم ربك وقد امضى عليه في سابق قضائه لا تستبعدى ولا تستعسرى إذ قد قالَ رَبُّكِ الذي رباك على العصمة والعفاف هُوَ اى إيجاد الولد لك بلا مساس البشر وسبق الأسباب العادية عَلَيَّ هَيِّنٌ سهل يسير إذ لا يعسر علينا شيء ولا يعجز قدرتنا عن مقدور بل إذا أردنا شيأ نقول له كن فيكون بلا سبق سبب وعلة وَانما نظهره ونوجده لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ دالة على كمال قدرتنا وبدائع صنعتنا وحكمتنا وَرَحْمَةً نازلة مِنَّا على كافة عبادنا سيما عليك يا مريم وَبالجملة قد كانَ خلق عيسى وظهوره بلا أب في العالم وعروجه الى السماء أَمْراً مَقْضِيًّا محكوما به كائنا مثبتا في لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي ثم لما سمعت مريم ما سمعت قد نفخ جبرائيل عليه السّلام نفخة في درعها فوصلت أثرها الى جوفها فحبلت
فَحَمَلَتْهُ وصارت حاملة بعيسى فجاءة وكبر الولد في بطنها في تلك الساعة وبعد ما ظهر عليها من امارات الطلق ما ظهر فَانْتَبَذَتْ بِهِ اعتزلت لسبب حدوث هذا الأمر وتباعدت منفردة واختارت مَكاناً قَصِيًّا بعيدا عن العمران استحياء من أهلها ومن لوم الناس إياها وتعييرهم عليها بولادتها بلا زوج
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ وظهر امارات الولادة فالجأتها لان تشبث إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ اليابسة لتعتمد عليها عند الولادة وتستتر بها عن الناس قالَتْ حينئذ من شدة حزنها وكأبتها ووفور ضجرتها من ألم الملامة والفضاحة متمنية موتها يا لَيْتَنِي مِتُّ وعدمت قَبْلَ هذا اللوم والفضيحة وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا متروكا معدوما بحيث لا التفات لاحد الى أصلا
ثم لما وضعت حملها واشتدت الآلام عليها فَناداها اى نادى الوليد امه مِنْ تَحْتِها بالهام الله إياه تسلية لامه وتنشيطا لها عليك أَلَّا تَحْزَنِي يا أمي ولا يشتد عليك الأمر بسبب ولادتي وظهوري بلا أب واعلمي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ ولدا سَرِيًّا سيدا مطيعا لله تقيا سجيا سخيا ذا إرهاصات كثيرة وكرامات كبيرة ومعجزات باهرة ظاهرة من جملتها انه قد ظهر لك من تحت رجلك نهر جار لدفع عطشك ولتطهير الفضلات عن بدنك وثيابك
وَلدفع جوعتك هُزِّي إِلَيْكِ حركي على نفسك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ التي أخذت أنت بيدك تُساقِطْ اى تتساقط منها ثمارها عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا بالغا في النضج والصلاح غايته وحان وقت اجتنائه قيل قد كانت تلك النخلة يابسة لا رأس لها والوقت وقت الشتاء فتغصنت في تلك الحالة واثمرت ونضجت ثمارها كرامة لعيسى وإرهاصا لامه صلوات الرّحمن عليهما
فَكُلِي يا أمي من النخلة وَاشْرَبِي من النهر وَقَرِّي عَيْناً اى نوري عينيك بولدك وطيبي نفسك به فَإِمَّا تَرَيِنَّ وان رأيت مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً يسألك عن حالك وولدك فَقُولِي في جوابه يعنى اشيرى اليه وافهميه إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً سكوتا وصمتا عن التكلم مدة فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا اى إنسانا والحكمة في الهام الله إياها بالصمت والسكوت
حتى لا تجادل مع سفهاء الأنام ولان ولدها يكفى مؤنة جوابها ثم لما ظهر امر ولادتها وشاع بين الأنام قصتها فمكثت مدة نفاسها في غار كان هناك وبعد ما انقضت وطهرت
فَأَتَتْ بِهِ اى بولدها قَوْمَها تَحْمِلُهُ اى ولدها على صدرها فلما رأوها معها أخذوا في لومها وتقريعها حيث قالُوا معيرين عليها منادين لها على سبيل التوبيخ والتلويم يا مَرْيَمُ الصالحة العفيفة المشهورة بالعصمة في بيت المقدس لَقَدْ جِئْتِ بالآخرة شَيْئاً فَرِيًّا منكرا بديعا شنيعا من غاية الشناعة والفضاحة
يا أُخْتَ هارُونَ هو رجل صالح او طالح نسبوها اليه تهكما وقيل هي من أولاد هارون أخ موسى نسبوها اليه وان تطاولت المدة بينهما ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ منسوب الى الفواحش والزنا والخروج عن الحدود وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا زانية فاجرة بل كلاهما من أصلح القوم وأزكاهم عن الفواحش والفسوق فكيف أنت ومن اين اكتسبت هذا وبعد ما تمادى تعييرهم وتشنيعهم
فَأَشارَتْ مريم إِلَيْهِ اى الى ولدها بان قل لهم في جوابهم ما يفحمون به ويسكنون بل يتحيرون ويبهتون ولما رأوا اشارتها اليه وتفويضها الجواب نحوه قالُوا على سبيل الاستهزاء كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا رضيعا لم يعهد من مثله التكلم قد خجلت أنت واستحييت أنت تدفعيننا بهذا الرضيع مع انه معصوم لا ذنب له
ثم لما رأى عيسى اشتداد اللائمين على امه بالتقريع والتشنيع واضطرار أمه واضطرابها من لومهم أخذ في الجواب بالهام الله إياه حيث قالَ مفصحا معربا على وجه الفصاحة والبلاغة الكاملة قولا مشتملا على الحكمة البالغة لا تعيروا ايها الجاهلون عن امرى وعلو شأني أمي العفيفة الكاملة المتناهية في العصمة والعفة ولا ترموها بما لا يليق بشأنها وبجلالة قدرها ومكانها عند الله إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ الحكيم المتقن في أفعاله المستقل في حكمه وآثاره قد خصنى بفضله بالنبوة والرسالة وأيدني بأنواع الكرامات والمعجزات الخارقة للعادات وابدعنى من محض جوده من روحه وأرسلني نحو عباده بالهداية والإرشاد الى توحيده لذلك آتانِيَ الْكِتابَ اى الإنجيل النازل من عنده على لترويج رسالتي وإرشادي وتتميم تكميلى وهدايتي وَبالجملة قد جَعَلَنِي نَبِيًّا مثل سائر الأنبياء
وَايضا جَعَلَنِي مُبارَكاً نفاعا كثير الخير والبركة لأهل الصلاح من البرية أَيْنَ ما كُنْتُ وحيثما توطنت وجلست معهم يصل خيرى ونفعي إليهم وَمن كمال تربية الله وتزكيته إياي قد أَوْصانِي وأمرني بِالصَّلاةِ والميل التام والتوجه الكامل نحوه بعموم الجوارح والأركان وَالزَّكاةِ اى التخلية والتطهير عن جميع الرذائل والخبائث المتعلقة للنفوس البشرية المنغمسة بالعلائق الدنيوية المبعدة عن صفاء الوحدة الذاتية ما دُمْتُ حَيًّا بروح الله الذي قد ابدعنى منه خالصا صافيا عن جميع الكدورات وأوصاني بما أوصاني عناية منه لأكون باقيا على صفائى وطهارة لاهوتي بلا كدر من خبائث الناسوت
وَقد جعلني ايضا بَرًّا بارا محسنا بِوالِدَتِي ممتثلا بأمرها قائما بخدمتها خافضا جناح الذل من الرحمة إياها والحمد لوليه الذي رباني سعيدا على الطهارة الكاملة والصلاح التام وانواع الكرامة والفلاح والتذلل والتواضع مع عموم عباده وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً متكبرا متجبرا على الناس شَقِيًّا بعيدا عن روح الله مستجلبا لعذابه
وَمتى سلمني الله وطهرني عن جميع ما يعوقنى عن مقتضى صرافة الوحدة الذاتية الإلهية المعبرة عنها بروح الله قد عاد ورجع السَّلامُ عَلَيَّ اى سلام الله وحفظه دائما على من لدنه يَوْمَ وُلِدْتُ عن أمي بان حفظت عن مس الشيطان بي وَيَوْمَ أَمُوتُ سيحفظنى من شره ووسته ايضا وَيَوْمَ أُبْعَثُ للحشر
أكون حَيًّا بحياة الله وروحه كما كنت قبل هذا ثم لما سمعوا من عيسى عليه السّلام ما سمعوا تاهوا وتحيروا في امره وصاروا حيارى متعجبين من علو شأنه وشأن والدته وجلالة قدرهما فاختلفوا حينئذ وتفرقوا فرقا وأحزابا فرقة منهم قالت بألوهيته وفرقة قالت بابنيته لله وفرقة قالت بالأقانيم ومنهم من رماه وامه بما لا يليق بشأنهما
لذلك اخبر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما هو الواقع في الواقع والحق الصريح فقال ذلِكَ اى القائل بهذه الكلمات والموصوف بهذه الصفات المذكورة هو عبدنا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لا ما قالته غلاة النصارى ولا ما قالته طغاة اليهود بل قَوْلَ الْحَقِّ هذا الَّذِي ذكرنا لك يا أكمل الرسل وهم فِيهِ يَمْتَرُونَ ويترددون مع انه لا ريب فيه لا ما قالته النصارى بانه ابن الله
إذ ما كانَ اى ما صح وما جاز لِلَّهِ ولا يليق بعلو شأنه سبحانه أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ وهو منزه في ذاته عن الأهل والولد إذ لا تليق بذاته المعاونة والاستظهار بهما تعالى عن ذلك بل من حكمه وشأنه انه سبحانه إِذا قَضى وأراد أَمْراً من الأمور الكائنة في عالم الأمر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ حين تعلقت ارادته بتكوينه كُنْ بلا ترتب في السمع بتقديم الكاف على النون إذ كلامه القائم بنفسه سبحانه نفسي ذاتى لا يتوهم فيه الحروف والأصوات ومقاطعها ليتصور الترتيب بالتقدم والتأخر كما يتوهم في الألفاظ الصادرة عنا بل يخلق سبحانه بقدرته الكاملة في لساننا لفظا معجزا لا من جنس الفاظنا ليسع لنا التعبير حكاية عن كلامه النفسي وقت ارادة نفوذ قضائه وهو لفظة كن وعن حصول المقضى بلفظ فَيَكُونُ ايضا بلا تراخ وتعقيب يفهم من الفاء ومن كان شأنه هكذا من اين يكون له حاجة الى الأهل والولد واحبال المرأة ووقاعها تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا بل هو سبحانه واحد احد فرد وتر صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا هذا اى من قوله ذلك عيسى ابن مريم الى هنا كلام قد وقع في البين.
ثم قال سبحانه حكاية عن عيسى من جملة ما اوصى اليه وَبعد ما بالغ عيسى في بيان طهارته وعصمة امه وتكلمه في غير أوان التكلم بكلام عجيب غريب قد علم بنور النبوة ونجابة الفطرة والفطنة ان بعضهم قد يغلون في شأنه وشأن امه ويتخذونهما الهين أورد كلاما نافيا لظنونهم وجهالاتهم دافعا لها رادعا إياها فقال إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر الذي قد أوجدني وابدعنى بلا أب هو رَبِّي الذي رباني وأمي بأنواع الكرامة وأظهرني من كتم العدم بمقتضى قدرته وَهو سبحانه رَبُّكُمْ ايضا قد أوجدكم وأظهركم مثلي إيجادا إبداعيا فَاعْبُدُوهُ ووحدوه ولا تشركوا معه شيأ من مخلوقاته وتوجهوا نحوه بالتذلل التام والانكسار المفرط إذ هو المستحق للعبادة لا معبود سواه ولا اله الا هو هذا الذي قد بينت لكم صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وطريق واضح سوى موصل الى معرفة الحق وتوحيده فاتبعوه ان كنتم مؤمنين موقنين بتوحيده وبعد ما نبههم صلوات الرّحمن عليه بالطريق الأبين الأوضح
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ اى فرق النصارى واليهود في شأنه وشأن امه اختلافا ناشئا مِنْ بَيْنِهِمْ بلا سند شرعي او عقلي فأفرطت النصارى باتخاذه الها او ابن اله وأفرطت اليهود بنسبته وامه الى ما لا يليق بشأنهما وبالجملة فاستحق كلا الفريقين باشد العذاب وأسوء العقاب فَوَيْلٌ عظيم وعذاب شديد اليم لِلَّذِينَ كَفَرُوا ستروا ما هو الحق في شأنه وعدلوا عنه الى الباطل بلا حجة وبرهان مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ اى من شهود يوم القيمة وظهوره وحضوره وهم يسحبون فيه على وجوههم نحو النار ويكبون عليها صاغرين مضطرين
أَسْمِعْ ايها المسمع بِهِمْ اى بأنينهم وحنينهم في النار
وَأَبْصِرْ ايها المبصر باغلالهم وسلاسلهم يَوْمَ يَأْتُونَنا للعرض والحساب مضطرين مسحوبين لكِنِ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى أوامرنا ونواهينا الْيَوْمَ اى في النشأة الاولى فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وجهل عظيم من اهوال يوم القيمة وافزاعه
وَأَنْذِرْهُمْ يا أكمل الرسل من عندك يَوْمَ الْحَسْرَةِ المعدة للجزاء بحيث لا يمكن فيها التلافي والتدارك على ما فات سوى الحسرة والندامة الغير المفيدة إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ونزل العذاب وقد مضى زمان امتثال المأمور به وَالحال انه هُمْ فِي غَفْلَةٍ وغرور عن مضيه وَبالجملة هُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولا يصدقون بإتيان هذا اليوم الموعود على ألسنة الرسل والكتب كيف لا يصدقون هذا اليوم أولئك الكاذبون المكذبون المستغرقون في بحر الغفلة والضلال التائهون في تيه الغرور
إِنَّا من مقام قهرنا وجلالنا نَحْنُ بانفرادنا ووحدتنا نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها بعد انقهارها واضمحلال اجزائها وتشتت أركانها بمقتضى القدرة الغالبة بحيث قد صار كل من عليها فانيا ولم يبق سوى وجهنا الكريم وصفاتنا القديمة فانقلبت تجلياتنا المتشعشعة المتجددة عن هذا النمط البديع الى نمط أبدع منه وأكمل إذ نحن في كل يوم وآن في شأن ولا يشغلنا شأن عن شأن وَكيف لا نرث من على ارض الوجود وفضاء الشهود إذ الكل إِلَيْنا يُرْجَعُونَ رجوع الظل الى ذي الظل والأمواج الى البحر والأضواء والاظلال الى الشمس وبعد رجوع الكل إلينا أنادي من وراء سرادقات عزنا وجلالنا لمن الملك اليوم وأجيب ايضا من ورائها إذ لا مجيب في الوجود سوانا لله الواحد القهار للاظلال والأغيار
وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل فِي الْكِتابِ المتلو عليك المنزل إليك جدك إِبْراهِيمَ ومحامد أخلاقه ومحاسن شيمه وأطواره لتنتفع بها أنت ومن تبعك من المؤمنين وتمتثل بأخلاقه أنت وهم إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً صدوقا مبالغا في الصدق والصداقة وتصديق الحق وتوحيده نَبِيًّا من خلص الأنبياء اذكر أوان انكشافه وايقاظه من منام الغفلة التي هي عبادة الأوثان والأصنام
وقت إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
مستنكرا عليه متعجبا من امره مناديا له رجاء ان يتفطن ويتنبه بما تنبه به هو يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ
وتطيع ما لا يَسْمَعُ
اى شيأ لا يقدر على السمع وَلا يُبْصِرُ
وايضا لا يقدر على الأبصار والمعبود لا بد من ان يرى ويسمع احوال عباده ويعلم حاجاتهم ومناجاتهم
وَإذا لم يسمع ولم يبصر لا يُغْنِي
ولا يدفع عَنْكَ شَيْئاً
من مكروهاتك ولا يعينك فلا يصلح إذ للالوهية والربوبية فلم عبدت وأطعت له مع انك قد نحته بيدك وأظهرت أنت هيكله وشكله والعجب منك كل العجب انه مصنوعك وقد أخذته الها صانعا لك معبودا مستحقا للعبادة مع انك قد كنت من ذوى الرشد والعلم وهو جماد فلا شعور له أصلا
يا أَبَتِ إِنِّي وان كنت ابنك أصغر منك لكن قَدْ جاءَنِي ونزل على مِنَ الْعِلْمِ من قبل الحق مع صغر سنى ما لَمْ يَأْتِكَ مع كبرك إذ الفضل بيد الله وبمقتضى ارادته يؤتيه من يشاء فَاتَّبِعْنِي اى اتبع أنت بما نزل على من قبل ربي من خلوص الاعتقاد أَهْدِكَ انا بتوفيق الله وإرشاده صِراطاً سَوِيًّا موصلا الى المعبود بالحق وتوحيده
يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ بعبادة هذه التماثيل الباطلة والهياكل العاطلة إذ ما هي الا باغوائه وتضليله إذ هو عدو لك ولأبينا من قبلك عداوة مستمرة إِنَّ الشَّيْطانَ المغوى المضل عن طريق الحق قد كانَ من الأزل الى الأبد لِلرَّحْمنِ المفيض لأصناف الخيرات وانواع السعادات سيما الايمان والعرفان المنجى من انواع الحرمان والخذلان عند لقاء الحنان المنان عَصِيًّا قد عصى هو بنفسه وانتظر لعصيان غيره وسعى بإضلاله وتسويلاته
ليضل به عموم اهل الحق عن طريقه
يا أَبَتِ إِنِّي من كمال اشفاقى وعطفي أَخافُ عليك أَنْ يَمَسَّكَ وينزل عليك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ المنتقم لأصحاب الضلال والطغيان بدل الثواب والغفران فَتَكُونَ حينئذ بشقاوتك وطغيانك لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا صديقا وللرحمن عدوا ببغيك وعصيانك له سبحانه ومتابعتك لعدوه
ثم لما تمادى مكالمة ابراهيم مع أبيه ومحاورته على سبيل النصح والتذكير قالَ له أبوه مقرعا عليه مهددا له مضللا إياه أَراغِبٌ معرض برئ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي ومعبوداتى مع ان عبادتهم اولى وأليق بحالك يا إِبْراهِيمُ ان خير الأولادان يتسع إياه في الدين سيما قد سلف أجدادك على هذا وأنت قد استنكفت عن عبادة آلهتنا انته عن اعتقادك هذا والله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ولم تمتنع عن اعتقادك لَأَرْجُمَنَّكَ واقتلنك بالأحجار على رءوس الاشهاد فمع من عندي وَاهْجُرْنِي واتركني مَلِيًّا زمانا طويلا بلا ابن وولد فان عدمك خير من وجودك بهذا الاعتقاد فان ندمت عن اعتقادك هذا ورجعت الى ما كنا عليه من قبل يعنى عبادة الأصنام فارجع إلي تائبا من هذياناتك والا فاذهب لا علاقة بيني وبينك فانا برئ منك ثم لما رأى ابراهيم عليه السّلام شدة عبه وضلاله ورسوخ جهله وطغيانه
قالَ مسترجعا الى الله مودعا عليه مسلما سَلامٌ عَلَيْكَ اى سلامى عليك يا ابى اهجرك باجازتك بي الا انى سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ينقدك من أوزار الشرك ويوصلك الى مرتبة توحيده شكرا لابوتك لي ورعاية لحضانتك على والتجئ نحو الحق والود به من الشرك الذي قد هددتنى به إِنَّهُ سبحانه قد كانَ بِي حَفِيًّا مشفقا رحيما يحفظني من شرّك ومن شر عموم من عاداني
وَمتى لم يفد لك نصحى ولم ينفع لك تذكيري ووعظي أَعْتَزِلُكُمْ اترككم على ما أنتم عليه وَايضا اترك ما تَدْعُونَ وتعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ اتبرأ منهم وَأَدْعُوا رَبِّي الذي رباني بفضله بالإيمان وأوصلني بلطفه الى فضاء التوحيد والعرفان واعبد إياه وأطيعه في عموم الأوقات والأحيان عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي والتوجه نحوه والتحنن اليه شَقِيًّا خائبا خاسرا عن رحمته ذا شقاوة جالبة لسخط الله وغضبه
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وبعد عنهم واختار الغربة والفرار من بينهم وَترك عبادة ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأوثان والأصنام وَهَبْنا لَهُ من مقام جودنا وفضلنا إياه إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ليؤانس بهما ويدفع كربة الغربة بصحبتهما وَلنجابة طينتهما وكرامة فطرتهما كُلًّا منهما قد جَعَلْنا نَبِيًّا مهبطا للوحى والإلهام من لدنا مثل أبيهما وسائر الأنبياء
وَبالجملة قد وَهَبْنا لَهُمْ اى لإبراهيم وولديه مِنْ سعة رَحْمَتِنا ووفور جودنا للأموال والأولاد والجاه والثروة الى ان صاروا مرجع الأنام وحاكميهم في عموم الاحكام الى يوم القيمة وَايضا قد جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ اى جعلنا ثناءهم ومدحهم العائد إليهم عن ألسنة عموم البرايا ثناء صدق وتحقيق لا مجرد خطابة وتحنن كثناء سائر الملوك والجبابرة لذلك قد صار ثناؤهم عَلِيًّا مظهرا لعلو مرتبتهم وشأنهم الى انقراض النشأة الاولى كل ذلك ببركة دعاء أبيهم ابراهيم عليه السّلام وباجابة الحق له حيث قال في مناجاته مع ربه واجعل لي لسان صدق في الآخرين
وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل فِي الْكِتابِ المنزل عليك مُوسى الكليم وقصة انكشافه من الشجرة المباركة إِنَّهُ من كمال انكشافه وشهوده بوحدة الحق إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قد خلص حسب لاهوته للتوحيد وصفا عن إكدار ناسوته مطلقا وَبالجملة قد كانَ رَسُولًا مرسلا الى بنى إسرائيل للإرشاد والتكميل مؤيدا بالكتاب وانواع المعجزات نَبِيًّا ايضا
بالوحي والإلهام والرؤيا
وَلكمال إخلاصه ومزيد اختصاصه بنا نادَيْناهُ بعد المجاهدة الكثيرة والرياضات البليغة مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ذي اليمن والبركة وانواع السعادة والكرامة وَبعد ما انكشف بالنداء بما انكشف وشهد ما شهد قد قَرَّبْناهُ بنا الى ان صار نَجِيًّا مناجيا إلينا متكلما معنا إذ قد كنا حينئذ سمعه وبصره وجميع قواه فبنا يسمع وبنا يبصر وبنا يبطش وبنا يتكلم
وَمع ذلك قد وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا وفضلنا إياه تأييدا له وتعضيدا أَخاهُ هارُونَ ليؤيده ويقويه في تنفيذ احكام النبوة والرسالة وجعلناه نَبِيًّا ايضا ليكون على عزيمة صادقة وقصد خالص في اجراء الاحكام الإلهية
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ ايضا جدك إِسْماعِيلَ ذبيح الله الراضي من الله بجميع القضاء المرضى عنده إِنَّهُ من كمال وثوقه واعتماده على الله وتفويضه الأمور كلها اليه سبحانه قد كانَ صادِقَ الْوَعْدِ والعهد عند الله وافيا لميثاقه صابرا على مصائبه وبلائه شاكرا لآلائه ونعمائه وَقد كانَ ايضا كابيه واخوته رَسُولًا نَبِيًّا وان لم ينزل عليه الشرع المخصوص إذ بعض أولاد ابراهيم صلوات الرّحمن على نبينا وعليه وعليهم قد كانوا أنبياء مرسلين مع انهم كانوا جارين على ملة أبيه وشرعه
وَمن خصائله الجميلة انه قد كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ أولا لأنهم اولى بالإرشاد والتكميل وأحق من غيرهم بِالصَّلاةِ التي هي عبارة عن التوجه نحو الحق بعموم الجوارح والأركان والتقرب اليه عن ظهر القلب ومحض الجنان وَالزَّكاةِ التي هي عبارة عن تصفية النية وتخلية الطوية عن الميل الى مزخرفات الدنيا الدنية وحطامها الزائلة الذاهبة وَقد كانَ من كمال تنزهه عن العلائق والعوائق العائقة عن التوجه الخالص نحو الحق عِنْدَ رَبِّهِ الذي رباه على كمال الرضاء والتسليم مَرْضِيًّا لوفائه الوعد واستقامته، فيه وصبره على عموم ما جرى عليه من البلوى
وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل فِي الْكِتابِ ايضا إِدْرِيسَ صاحب دراسة التوحيد والعرفان وقالع اهوية النفس وأمانيها بارتكاب شدائد الرياضات والمجاهدات في مسالك التصديق والإيقان من كمال رشده وحكمته إِنَّهُ قد كانَ صِدِّيقاً مبالغا في الصدق والتصديق والتحقيق نَبِيًّا مبعوثا الى الناس كسائر الأنبياء للهداية والتكميل
وَلعلو شأنه وسمو برهانه وكمال تصفيته وتزكيته عن لوازم البشرية قد رَفَعْناهُ تلطفا معه وتفضلا عليه مَكاناً عَلِيًّا وهو أعلى درجات المعارف واليقين وقيل الى السماء الرابعة او السادسة
وبالجملة أُولئِكَ المذكورون من زكريا الى إدريس كلهم أنبياء الله وامناؤه في ارضه إذ هم بأجمعهم هم الَّذِينَ قد أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأنواع النعم الظاهرة والباطنة واصطفاهم من بينهم للهداية والتكميل وهم مِنَ النَّبِيِّينَ المنتشئين مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السفينة حين ظهر الطوفان على وجه الأرض وَبعضهم مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَابنه يعقوب الملقب من عند الله إِسْرائِيلَ وَقد كان كل منهم مِمَّنْ هَدَيْنا الى توحيدنا وَاجْتَبَيْنا من بين البرايا للتكميل والتشريع ووضع الاحكام بين الأنام وكلهم من كمال يقينهم وعرفانهم وتمكنهم في مقر التوحيد قد صاروا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ ودلائل توحيده وتجريده قد خَرُّوا خرور تواضع ورهبة سُجَّداً متذللين واضعين جباهم على تراب المذلة والهوان وراجين من سعة رحمته بمقتضى لطفه وجماله وَبُكِيًّا باكين خائفين من خشيته وجلاله فان المؤمن لا بد ان يكون في عموم أحواله بين الخوف والرجاء ثم لما ظهر على الأرض التي هي محل الشرور والفتن وانواع الفسادات ما ظهر من انواع المكروهات والمنكرات وهم قد كانوا عند ظهورها واشتهارها
قد بذلوا غاية جهدهم في تنفيذ الاحكام الشرعية المنزلة على مقتضى زمان كل منهم فكملوا وارشدوا مقدار جهدهم وطاقتهم
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ واستعقبهم خَلْفٌ مخالف سوء بالسكون لا خلف جيد صدق بالحركة كلهم قد أَضاعُوا وأبطلوا الصَّلاةَ المقربة نحو الحق مع انها من أقوى اسباب الايمان وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ النفسانية المبعدة عنه سبحانه الجالبة لانواع العذاب والنكال وقد اباحوها لنفوسهم وأصروا على اباحتها فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ في النشأة الاخرى غَيًّا شرا وخسرانا عذابا ونيرانا يترتب على شهواتهم ولذاتهم الفانية
إِلَّا مَنْ تابَ ورجع عنها نادما ولم يرجع إليها أصلا وَآمَنَ وصدق حرمتها وَبعد التوبة والرجوع قد عَمِلَ عملا صالِحاً ليصلح ما أفسده بمتابعة الهوى فَأُولئِكَ التائبون الآئبون النادمون عن عموم ما صدر عنهم من متابعة الهوى باغواء الشيطان واغرائه يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مثل سائر المؤمنين المطيعين وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً اى لا ينقصون شيأ من درجات المؤمنين الغير العاصين ومثوباتهم، ان كانت توبتهم على وجه الإخلاص والندامة الكاملة بل لهم كسائر عباد الله
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي قد وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ تفضلا عليهم وجزاء لاعمالهم وايمانهم بِالْغَيْبِ وبلوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي يصلون إليها ويتمكنون فيها إِنَّهُ سبحانه من كمال عطفه ورحمته لعباده قد كانَ وَعْدُهُ إياهم مَأْتِيًّا حاصلا بلا ريب وتردد ومتى دخلوا في دار السلامة والسّلام
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وفضولا من الكلام إِلَّا قولا سَلاماً سلاما من كل جانب تحية وتكريما وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ الصوري والمعنوي معدا مهيئا فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا مستوعبا لجميع الأوقات إذ أكلها دائم
وبالجملة تِلْكَ الْجَنَّةُ الموصوفة الموعودة الَّتِي نُورِثُ نوطن ونمكن مِنْ عِبادِنا فيها مِنْ منهم كانَ تَقِيًّا متصفا بالتقوى محترزا عن الهوى مائلا نحو المولى
وَبعد ما قد ابطأ الوحى على رسول الله حين سئله المشركون عن قصة اصحاب الكهف وعن الروح وقصة ذي القرنين وقد وعد لهم الجواب صلّى الله عليه وسلّم ولم يستثن وانقطع الوحى خمسة عشر يوما وقيل أربعين عيروه واستهزؤا به حيث قالوا قد ودعه ربه وقلاه ثم لما نزل جبريل عليه السّلام واستبطأ صلّى الله عليه وسلّم نزوله قال جبريل عليه السّلام في جوابه نحن معاشر الملائكة وسدنة حضرة اللاهوت ما نَتَنَزَّلُ ونوحي الى احد إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وبانزاله وإرساله إذ لَهُ الحكم والتصرف في ما بَيْنَ أَيْدِينا اى عندنا وفي علتنا وَما خَلْفَنا وفي سرائرنا واستعداداتنا وعموم ما غاب عنا وخفى علينا وَكذا ما بَيْنَ ذلِكَ الطرفين المذكورين وبالجملة هو سبحانه مستوعب بنا محيط بعموم أحوالنا بلا فوت شيء وغيبته عنه بل الكل حاضر عنده غير غائب عنه مطلقا وَبالجملة ما كانَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل نَسِيًّا تعالى شأنه عن ذلك حتى ينسب إبطاء الوحى الى نسيانه
وكيف يتصور منه سبحانه هذا إذ هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما محيط بالكل شهيد عليه حاضر عنده بحيث لا يعزب عن حضرة علمه الحضوري شيء منها لمحة وإذا تحققت ما تلونا عليك يا أكمل الرسل وتأملت في معناه حق التأمل والتدبر فَاعْبُدْهُ راجيا منه العناية والتوفيق على العبادة وجزاء الخير وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ وتحمل متاعبها واثبت عليها ولا تعجل بوحي ما قصدت وأحببت نزوله ولا تقنط ايضا إذ الكل موكول اليه سبحانه مرهون بوقته موقوف على تعلق مشيئته سبحانه وبالجملة لا تعجل بالوحي
ولا تضطرب من استهزاء الكفرة وسخريتهم وكيف لا تصطبر ولا تصبر هَلْ تَعْلَمُ وتسمع لَهُ سَمِيًّا باسم الإله مسمى به مثلا له مستحقا للعبودية والتوجه لإنجاح المطلوب سواه سبحانه حتى ترجع أنت نحوه عند توجه الخطوب وإلمام الملمات عليك وبالجملة ما عليك الا العبادة والاصطبار وترك الاضطراب والاستعجال وتفويض عموم الأمور الى الكبير المتعال
وَمن غاية الجهل ونهاية الغفلة عن ربوبيته سبحانه يَقُولُ الْإِنْسانُ المجبول على الكفران والنسيان بنعم الله وبإنكار قدرته على اعادة المعدوم وحشر الأموات أَإِذا ما مِتُّ وقد صرت عظاما ورفاتا لَسَوْفَ أُخْرَجُ من الأرض حَيًّا سويا معادا كلا وحاشا ما هذا الا محال باطل وضلال ظاهر
أَينكر المنكر على قدرتنا ويصر على الإنكار وَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ المكابر المعاند أَنَّا قد خَلَقْناهُ واوجدناه إيجادا إبداعيا مِنْ قَبْلُ وَالحال انه لَمْ يَكُ شَيْئاً مما يطلق عليه اسم الشيء إذ هو معدوم صرف وعدم محض والمعدوم ليس بشيء ولا مسبوق بشيء فقدرنا على إيجاده وإظهاره من العدم الصرف ولم لم نقدر على إعادته سيما بعد سبق اجزائه وان كان الإعادة والإبداء عندنا وفي جنب قدرتنا على السواء الا ان الإعادة بالنسبة الى فهمهم أسهل وأيسر من الإبداء والإبداع عن لا شيء
فَوَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل الذي هو أعظم أسمائه وأشملها وبعزته وجلاله لَنَحْشُرَنَّهُمْ أولئك الضالين وَالشَّياطِينَ المضلين لهم معهم منخرطين في سلسلتهم ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ مقيدين مغلولين حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا باركين على الركب قائمين على أطراف الأصابع بلا تمكن لهم واطمئنان مثل الجاني الخائف عند الحاكم القاهر القادر على انواع الانتقام
ثُمَّ بعد حشرهم وإحضارهم حول النار كذلك لَنَنْزِعَنَّ ننتخبن ونخرجن مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ فئة وفرقة قد شاعت منهم موجبات العذاب والنكال ونميزن منهم ايضا أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ المفيض لهم انواع الخيرات والبركات عِتِيًّا جرأة على العصيان له وعلى ترك أوامره وارتكاب نواهيه حتى يطرح أولا على قعر النار ثم الا مثل فالأمثل الى ان يطرح الكل فيها على تفاوت طبقاتهم ودرجاتهم في افتراق موجباتها قوة وضعفا
ثُمَّ بعد ما انتزعنا وانتخبنا لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى وأحق بِها اى بدخول النار صِلِيًّا اى دخولا وطرحا أوليا سابقا على الكل ألا وهم الرؤساء الضالون المضلون إذ يضاعف عذابهم بضلالهم واضلالهم. ثم قال سبحانه مخاطبا لبنى آدم بأجمعهم لا تغتروا بدنياكم وبلذاتها وشهواتها فإنها توقعكم في النار
وَإِنْ مِنْكُمْ ايها المتلذذون بزخرفة الدنيا المائلون الى أمتعتها وما احد من المتمتعين بها إِلَّا وارِدُها اى وارد النار وواقعها قد ذاق كل منكم مقدار ما تلذذ بحطام الدنيا اما المؤمنون المطيعون المتقون الذين يقنعون من الدنيا ومن أمتعتها بسد جوعة ولبس خرقة وكن ضرورة فيمرون عنها ويردون عليها وهي حينئذ خامدة منطفية وانما يردون ويوردون عليها عبرة لهم منها واعتبارا وشكرا لنعمة النجاة عنها واما المؤمنون العاصون التائبون فيذوقون من عذابها مقدار تلذذهم بالمعاصي ثم يخرجون بمقتضى عدله سبحانه واما اصحاب الكبائر من المؤمنين المصرين عليها الخارجين من الدنيا وهم عليها بلا توبة وكذا. عموم الكفرة والمشركين فهم هم الواردون المقصورون على الورود فيها الا ان المؤمنين تلحقهم الشفاعة واما الكفرة فهم الخالدون المخلدون لا نجاة لهم منها أصلا وبالجملة لا تترددوا ايها السامعون ولا تشكوا فيما ذكر من الورود المذكور إذ قد كانَ هذا من جملة الاحكام المحكمة المبرمة الإلهية التي قد وجبت عَلى رَبِّكَ يا أكمل الرسل بإيجابه على نفسه وجوبا حَتْماً مَقْضِيًّا محققا بلا
شبهة وتخلف إذ قد أوجبها سبحانه على نفسه لحكمة ومصالح خص بها سبحانه ولم يفش سرها على احد
ثُمَّ بعد الورود والوصول نُنَجِّي ونخلص الَّذِينَ اتَّقَوْا عن محارمنا في النشأة الاولى اتقاء من سخطنا وطلبا لمرضاتنا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات أوامرنا ونواهينا خالدين فِيها جِثِيًّا لا يمكنهم الخروج والتجاوز عنها أصلا بل صاروا مزدحمين فيها مضيقين معذبين بأنواع العذاب ابد الآباد
وَكيف لا يخلدون في النار أولئك الهالكون وهم قد كانوا من غاية غيهم وضلالهم ونهاية غفلتهم وقسوتهم إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ في نشأة الاختبار آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمال قدرتنا على الانعام والانتقام مع كونها بَيِّناتٍ واضحات في الاعجاز بلا ريب وتردد قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بعد ما عجزوا عن معارضتها وأفحموا عن المقابلة معها لِلَّذِينَ آمَنُوا متشبثين بما عندهم من المال والجاه والثروة والرياسة مفتخرين بها قائلين على سبيل التهكم أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أنحن الأغنياء المتلذذون بأنواع الذات المتمكنون بعموم الآمال والمرادات أم أنتم ايها الفقراء المحتاجون بما تقتاتون في يومكم هذا خَيْرٌ مَقاماً واشرف مرتبة وأعلى مكانا عند الله وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مجلسا ومنزلا عنده ولولا انا أفضل وأخير منكم عند الله لما أعطانا ولما منع عنكم ثم لما افتخروا وتفضلوا على المؤمنين بما عندهم من حطام الدنيا وزخرفتها رد عليهم سبحانه وهددهم على الوجه الأبلغ الأتم
فقال على سبيل العبرة وَكَمْ اى كثيرا أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ اهل قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ واكثر من هؤلاء المفتخرين المعاندين أَثاثاً امتعة دنياوية وما يترتب عليها من الجاه والثروة والكبر والخيلاء وَاحسن رِءْياً زينة وبهاء ثم لما لم يتذكروا بالآيات والنذر ولم يتفطنوا منها الى توحيد الحق وصفاته ولم يشكروا نعمه بل قد أصروا واستكبروا بما عندهم من المزخرفات الفانية فهلكوا واستؤصلوا
قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا كلاما ناشئا عن محض الحكمة المتقنة مَنْ كانَ منكم منغمسا منهمكا فِي الضَّلالَةِ مجبولا عليها فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ وليمهله مَدًّا مهلا طويلا وليمتعهم تمتيعا كثيرا رغدا وسيما حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ على ألسنة الرسل والكتب إِمَّا الْعَذابَ العاجل لهم في النشأة الاولى بان قد غلب المسلمون عليهم فقتلوهم واسروهم وضربوا الجزية عليهم مهانين صاغرين وَإِمَّا السَّاعَةَ بان تأتيهم بغتة فَسَيَعْلَمُونَ إذا بالعيان والمشاهدة مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً درجة ومقاما عند الله وَأَضْعَفُ جُنْداً واقل ناصرا ومعينا
وَبعد ما صار مآل الكفار وبالا عليهم ومنا لهم نكالا لهم يَزِيدُ اللَّهُ الهادي لعباده المؤمنين الَّذِينَ اهْتَدَوْا الى زلال عرفانه وتوحيده هُدىً هداية ورشدا باقيا ازلا وابدا بدل ما نقص عنهم من حطام الدنيا الفانية ومتاعها الزائلة الذاهبة وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ المقربة الى الله المستتبعة لانواع الفضل والثواب خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل ثَواباً عائدة وَفائدة خَيْرٌ مَرَدًّا اى منقلبا ومآبا إذ مآل المال والجاه والثروة والسيادة الى الحسرة والخسران وانواع الخيبة والخذلان. ومآل العبادة الى الجنة والغفران والرحمة والرضوان.
ثم قال سبحانه وتعالى على سبيل التوبيخ والتقريع للكافر المستكبر أَفَرَأَيْتَ ايها المعتبر الرائي الطاغي الَّذِي كَفَرَ أنكر واعرض واستكبر بِآياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وَقالَ مقسما مبالغا على سبيل الاستهزاء والسخرية والله لَأُوتَيَنَّ أعطين في النشأة الاخرى ايضا ان فرض وجودها مالًا وَوَلَداً مثل ما أعطيت في هذه النشأة هذا من
غاية اغتراره وذهوله ونهاية غفلته وغروره واعتقاده كبرا وخيلاء انه حقيق بهذه المرتبة حيثما كان فرد الله سبحانه عليه على ابلغ الوجوه
وآكدها بقوله أَطَّلَعَ الْغَيْبَ اى أيدعي هذا الطاغي التائه في تيه الجهل والغفلة علم الغيب واطلاع السرائر والخفايا أَمِ اتَّخَذَ وأخذ عِنْدَ الرَّحْمنِ اى من عنده على لسان نبي من أنبيائه او ملك من ملائكته عَهْداً ليعطيه في الآخرة مالا وولدا إذ لا معنى للجزم بهذه الدعوى سيما ان يؤكد بالحلف الا بأحد هذين الطريقين
كَلَّا وحاشا ليس لهذا الجاهل الكذاب لا هذا ولا ذاك بل سَنَكْتُبُ نأمر الحفظة ان يكتبوا ما يَقُولُ هذا المسرف المغرور اغترارا بماله وجاهه وَنَمُدُّ لَهُ نزيد عليه يوم الجزاء مِنَ الْعَذابِ مَدًّا اى عذابا فوق العذاب أضعافا وآلافا بكفره وإصراره واغتراره على كفره وعتوه على اهل الايمان واستهزائه بهم
وَبعد ما نهلكه ونميته نَرِثُهُ ما يَقُولُ ويفتخر به من الأموال والأولاد وغيرها ونرث وننزعها عنه ونجرده منها بحيث لا يبقى معه شيء منها وَبالجملة يَأْتِينا يوم العرض والجزاء فَرْداً صفرا خاليا بلا اهل ولا مال ولا ايمان ولا عمل وَمن غاية جهلهم بالله ونهاية غفلتهم عن حق قدره وقدر وحدته واستيلائه واستقلاله
قد اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً من تلقاء أنفسهم وعلى مقتضى اهويتهم الفاسدة لِيَكُونُوا اى آلهتهم لَهُمْ عِزًّا اى سببا لعزهم وتوقيرهم عند الله يشفعون لهم او يخففون عنهم عذابهم
كَلَّا ردع لهم عما اعتقدوا من الفوائد العائدة لهم من عبادة الأوثان والأصنام من الوصلة والوسيلة والشفاعة والتسبب للنجاة بل سَيَكْفُرُونَ وينكرون أولئك المعبودون يومئذ بِعِبادَتِهِمْ اى بعبادة الكفرة المشركين إياهم وَكيف يشفعون لهم حينئذ بل يَكُونُونَ اى معبوداتهم عَلَيْهِمْ ضِدًّا يضادون معهم يعادون بل يريدون مقتهم وازدياد عذابهم ثم لما تعجب صلّى الله عليه وسلّم من قسوة قلوب الكفرة وشدة عمههم وسكرتهم في الغفلة ومن عدم تفطنهم وتنبههم بحقيقة آيات التوحيد مع وضوحها وسطوعها مع انهم من زمرة العقلاء المجبولين على فطرة المعرفة والإيقان سيما بعد ظهور الحق وعلو شأنه وارتفاع قدره برسالته صلّى الله عليه وسلّم ونزول القرآن له واختتام امر البعثة والتشريع بظهوره وهم بعد منكرون مكابرون معاندون أشار سبحانه الى سبب غيهم وضلالهم وتماديهم فيه على وجه يزيح تعجبه صلّى الله عليه وسلّم
فقال سبحانه مخاطبا له أَلَمْ تَرَ يا أكمل الرسل ولم تتفطن أَنَّا بمقتضى اسمنا المضل المذل قد أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ المضلين عَلَى الْكافِرِينَ الذين أردنا اضلالهم وإذلالهم في سابق علمنا ولوح قضائنا وسلطناهم عليهم بحيث تَؤُزُّهُمْ تهزهم وتحركهم وتغريهم بتسويلاتهم نحو المعاصي والآثام وتوقعهم بأنواع الفتن والاجرام وتحبب عليهم الشهوات واللذات النفسانية المستلزمة المستجلبة لانواع العقوبات المبعدة عن مطلق المثوبات وعن الفوز بعموم المرادات الاخروية أَزًّا تحريكا دائما بحيث صار قلوبهم المعدة بحسب الفطرة الاصلية للمعرفة والتوحيد مطبوعة بغشاوة عظيمة وغطاء كثيف لا يرجى انجلاؤها وصفاؤها أصلا لذلك لم يتفطنوا بظهور الحق بلوائح آياته ولوامع علاماته مع كمال وضوحها وانجلائها وشعشعتها
وبالجملة فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ يا أكمل الرسل بعد ما علمت حالهم بإهلاكنا إياهم وانتقامنا عنهم ولا تيأس من امهالنا وتأخيرنا إهلاكهم ان نمهل أخذهم وانتقامهم بل إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ بامهالنا إياهم أيام اجالهم وأوقاتها عَدًّا متى وصل وقتها وحل أخذناهم واستأصلناهم
بحيث قد أمنت أنت ومن معك من شرورهم وفسادهم اذكر لهم يا أكمل الرسل
يَوْمَ الحسرة والضجرة للكافرين وقت إذ نَحْشُرُ ونجمع فيه الْمُتَّقِينَ اى المؤمنين الذين يحفظون نفوسهم عن مطلق المناهي والمحظورات الموردة في الكتب الإلهية المنزلة على الرسل المبينين لها إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وافدين فرقة بعد فرقة ليجازوا بالرحمة والمغفرة ويستغرقوا بها جزاء ايمانهم وتقويهم ويتفضلوا بالرضوان تفضلا عليهم وزيادة كرامة لهم
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ يومئذ سوق البهائم المجرمة الجانية نحو المحبس والسجن بالقهر والغضب التام والزجر المفرط إِلى جَهَنَّمَ التي هي أسوأ الأماكن واظلمها وأعمقها وِرْداً ورود البهائم الى المحابس والأودية والاغوار بزجر تام من الضرب المؤلم والتصويت الشديد وغيرها وهم في تلك الحالة حيارى مضطرين مضطربين لا ينفعهم لا أعمالهم ولا معبوداتهم الباطلة ولا يشفعون لهم ولا ينقذونهم من النار كما زعموا
وكيف يشفعون لهم إذ هم يومئذ لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ لأنفسهم ليخففوا العذاب عنها متى أرادوا بل لا شفاعة لهم مطلقا إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ وحصل له عِنْدَ الرَّحْمنِ اى من عنده عَهْداً إذنا بالشفاعة لمن أراد سبحانه إنقاذه بشفاعة ذلك الشفيع كشفاعة بعض الأنبياء لعصاة أممهم ان اذن لهم الرّحمن المستعان
وَكيف يحصل لهؤلاء الهالكين النجاة من نيران الحرمان والخلاص من سعير الخذلان والخسران مع جرمهم الذي هو أعظم الجرائم عند الله وأفحشها قالُوا مفرطين مفرطين في حق الله من غاية انهماكهم في الغفلة عنه وعن قدره ورتبته قد اتَّخَذَ الرَّحْمنُ المنزه عن وصمة الكثرة وشين النقصان المقدس عن سمة الحدوث والإمكان وَلَداً مع انه هو من أقوى امارات الإمكان وعلامات الاستكمال والنقصان والله ايها المفترون على الله
لَقَدْ جِئْتُمْ بإثبات الولد له سبحانه شَيْئاً إِدًّا منكرا عظيما جدا ومفترى شنيعا فظيعا
الى حيث تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ ويتشققن مع متانة قوائمها وشدة التيامها مِنْهُ اى من سماع قولكم هذا ونسبتكم هذه هولا ورهبة من صولة قهر الله وسطوة غضبه وحلول عذابه وَكذا تَنْشَقُّ الْأَرْضُ خوفا ورهبة وَكذا تَخِرُّ وتسقط الْجِبالُ خرور خشية وهول هَدًّا خرورا وسقوطا وأصلا الى حد التفتت والتشتت والاندكاك التام بالمرة بحيث اضمحلت رسومها مطلقا كل ذلك من خوف سطوة صفاته الجلالية ومقتضيات أسمائه القهرية المنبعثة من الغيرة الإلهية الناشئة منه سبحانه وما ذلك الا بواسطة
أَنْ دَعَوْا واثبتوا لِلرَّحْمنِ المقدس المبرى ذاته عن لوازم الحدوث والإمكان
وَلَداً وَما يَنْبَغِي وما يحق ولا يليق لِلرَّحْمنِ المتجلى في كل آن وشأن ولا يشغله شأن عن شأن أَنْ يَتَّخِذَ زوجة ويتسبب بها ليظهر وَلَداً يستخلفه او يستظهر به ويستعين تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
بل إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وما كل من الملائكة السماويين المهيمين المستغرقين بمطالعة جمال الله المستوحشين عن سطوة قهره وجلاله وَالْأَرْضِ اى ما كل من في عالم الطبيعة والهيولى من النفوس المتوجهة نحو مبدعها طوعا إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ الممهد الممد عليهم اظلال أسمائه وأوصافه العظمى المفيض عليهم من رشحات بحر وجوده بمقتضى فضله وجوده عَبْداً متذللا مقهورا تحت تصرفه مصروفا حسب قدرته وارادته محاطا تحت حيطة حضرة علمه ولوح قضائه
الى حيث لَقَدْ أَحْصاهُمْ وفصلهم لا يشذ شيء من أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم وجميع حالاتهم حتى اللمحة واللحظة والطرفة والخطرة من حيطة حضرة علمه وقبضة قدرته واختياره بل وَعَدَّهُمْ عَدًّا فردا
فردا وشخصا شخصا مع جميع العوارض المتعلقة بكل فرد وشخص ما داموا في هذه النشأة
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً منفردا مفروزا عن عموم الأعوان والأنصار وجميع الأصحاب والخلان.
ثم قال سبحانه إِنَّ المؤمنين المنتخبين الَّذِينَ آمَنُوا بالله وأيقنوا بوحدة ذاته واطاعوا لرسله المؤيدين من عنده وامتثلوا بعموم ما جاءوا به من الأوامر والنواهي المبينة في الكتب الإلهية المنزلة عليهم وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الفرائض والنوافل المقربة نحو الحق طلبا لمرضاته وابتغاء لوجهه الكريم سَيَجْعَلُ ويحدث لَهُمُ الرَّحْمنُ المتكفل لجزائهم واثابتهم حسب سعة رحمته وجوده ووفور لطفه ومرحمته وُدًّا مودة ومحبة في قلوب عموم المؤمنين حتى يحبوهم ويتخنوا نحوهم بلا سبق الوسائل والأسباب العادية الموجبة لمودة البعض للبعض من الانعام والإحسان وانواع العطية والإكرام مثل محبة عموم عباد الله للبدلاء المنسلخين عن مقتضيات اللوازم البشرية مطلقا جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم. ثم قال سبحانه امتنانا على حبيبه صلى الله عليه وسلّم واشارة الى عظم رتبة القرآن الجامع لجميع المعارف والاحكام بعد ما بين في هذه السورة من معظمات مهام الدين من العبر والتذكيرات والأخلاق والآداب
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ اى القرآن بِلِسانِكَ يا أكمل الرسل وسهلناه لك وأنزلناه على لغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم. عن مخالفة ما أمروا ونهوا عنه بشارة عظيمة عناية من الله إياهم وفضلا الا وهي تحققهم بمقام الرضاء والفوز بشرف اللقاء وَتُنْذِرَ بِهِ اى بوعيداته وبأنواع العذاب المذكورة فيه على العصاة المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية قَوْماً لُدًّا لدودا لجوجا مفرطين في اللداد والعناد مصرين على ما هم عليه من الفسق والفساد وَلا تبال يا أكرم الرسل بتماديهم في لددهم وعنادهم ولا تحزن من عتوهم وفسادهم
إذ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ اى قد أهلكنا كثيرا من الأقوام الماضية قد كانوا متمادين أمثالهم في الغي والضلال مصرين على المراء والجدال وبالجملة تأمل يا أكرم الرسل والتفت هَلْ تُحِسُّ وتشعر مِنْهُمْ اى من الأمم الهالكة مِنْ أَحَدٍ قد نجا وبقي سالما عن قبضة قدرتنا وسطوة قهرنا وغضبنا أَوْ هل تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً صوتا خفيا منهم تسمع أنت عن قبورهم ومدافنهم بل كلهم كأن لم يكونوا أصلا وبالجملة ما ذلك وأمثاله علينا بعزيز رب اختم عواقب أمورنا بالحسنى
خاتمة سورة مريم عليها السّلام
عليك ايها السالك المدبر المتأمل في الأسماء الحسنى الإلهية والمستكشف عن رموز صفاته الثبوتية والسلبية والجمالية والجلالية واللطفية والقهرية وجميع الأوصاف المتقابلة والمتماثلة الإلهية ان تتعمق وتتأمل في معنى اسم الرّحمن الذي قد كرره سبحانه في هذه السورة مرارا كثيرة وتتدبر فيه كي تصل وتنكشف الى ان مبدء عموم ما ظهر وما بطن وكان ويكون انما هو هذا الاسم المشير الى سعة رحمة الله ووفور فضله وجوده على مظاهره ومصنوعاته إذ به استوى سبحانه على عروش عموم الكوائن والفواسد وبه ظهر الجميع من كتم العدم وبالجملة ما من موجود محقق محسوس او مقدر مخطور الا وهو في حيطة هذا الاسم وتحت تربيته وتصرفه بحيث لو انقطع إمداده عن العالم طرفة عين لم يبق للعالم ظهور ووجود أصلا ومتى تحققت معنى هذا الاسم العظيم وتيقنت بشموله واحاطته بجميع المظاهر شمول عطف ولطف فزت بحقيقة قوله سبحانه ان كل من في السموات والأرض
Icon