سماع " بسم الله " يوجب انزعاج القلوب وعنده يحصل داء جنونهم، وسماع " الرحمن الرحيم " يوجب ابتهاج القلوب وبه يحصل شفاء فتونهم، فعودة فتونهم في لطف جماله كما أن موجب جنونهم في كشف جلاله.
ﰡ
والتقوى هي التحرز والاتقاء وتجنب المحظورات. وتجنب المحظورات فَرْضٌ، وتجنب الفضلات والشواغل - وإن كان من جملة المباحات - نَفْلٌ، فثوابُ الأول أكثر ولكنه مؤجَّل، وثوابُ النَّفْلِ أقلُّ ولكنه مُعَجَّل.
ويقال خوَّفهم بقوله :﴿ اتَّقُوا ﴾ ثم سكَّن ما بهم من الخوف بقوله :﴿ رَبَّكُمْ ﴾ فإنَّ سماعَ الربوبية يوجب الاستدامة وجميل الكفاية.
قوله :﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ ﴾ : وتسمية المعدوم " شيئاً " توَسُّعٌ، بدليل أنه ليس في العدم زلزلة بالاتفاق وإن كان مُطْلَقُ اللفظِ يقتضيه، وكذلك القول في تسميته " شيئاً " هو توسُّع.
كذلك فَسُكْرُهم اليومَ مختلفٌ ؛ فمنهم من سكره سكر الشراب، ومنهم من سكره سكر المحاب. وشتَّان بين سُكْرٍ وسُكْر ؛ سُكْرٌ هو سُكْرُ أهلِ الغفلة، وسُكْرٌ هو سُكْرُ أهل الوصلة.
واحتجَّ عليهم في جواز البعث بما أقروا به في الابتداء أن الله خَلَقَهم وأنه ينقلهم من حال إلى حال أخرى ؛ فبدأهم من نطفة إلى علقة ومنها ومنها. . . إلى أَنْ نَقَلَهم من حال شبابهم إلى زمان شَيْبهم، ومن ذلك الزمان إلى حين وفاتهم.
واحتجَّ أيضاً عليهم بما أشهدهم كيف أنه يحيي الأرض - في حال الربيع - بعد موتها، فتعود إلى ما كانت عليه في الربيع من الخضرة والحياة. والذي يَقْدِرُ على هذه الأشياء يقدر على خَلْق الحياة في الرِّمة البالية والعظام النخرة.
قوله :﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ ﴾ [ الحج : ٥ ] : زمان الفترة بعد المجاهدة، وحال الحجبة عقب المشاهدة.
ويقال أرذل العمر السعي للحظوظ بعد القيام بالحقوق.
ويقال أرذل العمر الزلة في زمان المشيب.
ويقال أرذل العمر الإقامة في منازل العصيان.
ويقال أرذل العمر التعريج في أوطان المذلة.
ويقال أرذل العمر العِشْرَةُ مع الاضداد.
ويقال أرذل العمر عَيْشُ المرءِ بحيث لا يُعْرَفُ قَدْرُه.
ويقال أرذل العمر بأن يُوكَل إلى نَفْسِه.
ويقال أرذل العمر التطوح في أودية الحسبان أن شيئاً بغير الله.
ويقال أرذل العمر الإخلاد إلى تدبير النَّفْس، والعَمَى عن شهود تقدير الحق.
﴿ وَأَنَّهُ يُحِى المَوْتَى ﴾ أي الأرض التي أصابتها وَحْشَةُ الشتاء يحييها وقتَ الربيع.
ويقال يحيي النفوسَ بتوفيق العبادات، ويحيي القلوبَ بأنوار المشاهدات.
ويقال يحيي أحوال المريدين بحسن إقباله عليهم.
ويقال حياة الأوقات بموافقة الأمر، ثم بجميلِ الرضا وسكونِ الجأش عند جريان التقدير.
ثم قال :﴿ لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ ﴾ أي مذلة وهوان، وفي الآخرة عذاب الحريق.
ويقال الإيمان انتسام الحق في السِّرِّ.
ويقال الإيمان ما يوجب الأمان، ففي الحال يجب الإيمان وفي المآل يوجب الأمان، فمُعَجَّلُ الإيمان من (. . . ) المسلمين، مؤجَّلُه الخلاصُ من صحبة الكافرين الفاسقين.
قوله :﴿ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ : العمل الصالح ما يصلح للقبول، ويصلح للثواب، وهو أن يكون على الوجه الذي تعلَّق به الإيمان.
والجنان التي يدخل المؤمنين فيها مؤجلة ومعجلة، فالمُؤَجَّلَة ثواب وتوبة، والمعَجَّلةُ أحوال وقربة، قال تعالى :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمن : ٤٦ ].
إنْ كنتَ لا ترضى بما قد ترى | فدونَكَ الحَبْلَ به فاخْنق |
ثم قد يكون آيات في الأسرار، هي خطابُ الحقِّ ومحادثةٌ معه، كما في الخبر :
" لقد كان في الأمم مُحَدَّثون فإن يك في أمتي فعمر ".
ثم يقال الآيات ظاهرِةٌ، والحجج زاهرة، ولكن الشأن فيمن يستبصر.
وفي كل شيءٍ له آيةٌ | تَدُلُّ على أنه واحدُ ؟ |
أمَّا أصحابُ الإيمانِ فلِباسُهم اليومَ التقوى، وتنقسم إلى اجتناب الشِّرْكِ ثم مجانبة المخالفة، ثم مباينة الغفلة، ثم مجانبة السكونِ إلى غير الله والاستبشار إلى ما سوى الله وفي الآخرة لِباسُهم فيها حريرٌ، وآخرون لباسهم صدار المحبة، وآخرون لباسهم الانفراد به، وآخرون هم أصحاب التجريد ؛ فلا حالَ ولا مقامَ ولا منزلةَ ولا محل وهم الغُرَبَاءُ، وهم الطبقة العليا، وهم أحرار من رِقِّ كل ما لَحِقهُ التكوين.
وإذا الدُرُّ زَانَ حُسْنَ وجوهٍ | كان للدُّرِّ حُسْنُ وَجْهِكَ زَيْنَا |
ويقال الطيب من القول ما يكون وعظاً للمسترشدين، ويقال الطيبُ من القول هو إرشاد المريدين إلى الله.
ويقال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويقال الدعاء للمسلمين.
ويقال كلمة حقٍ عند من يُخَافُ ويُرْجَى.
ويقال الشهادتان عن قلبٍ مخلص.
ويقال ما كان قائله فيه مغفوراً وهو مُسْتَنْطَقٌ.
ويقال هو بيان الاستغفار والعبد برئٌ من الذنوب.
ويقال الإقرار بقوله :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾ { الأعراف : ٢٣ ].
ويقال أَنْ تَدْعُوَ للمسلمين بما لا يكون لَكَ فيه نصيب.
وأَمَّا ﴿ صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾ : فالإضافة فيه كالإضافة عند قولهم : مسجد الجامع أي المسجد الجامع والصراط الحميد : الطريق المرضي وهو ما شهدت له الشريعة بالصحة، وليس للحقيقة عليه نكير.
ويقال الصراط الحميد : ما كان طريق الاتباع دون الابتداع.
قوله :﴿ سَوَآءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبادِ ﴾ وإنما يعتبر فيه السبق والتقدم.
ومشهد الكِرَام يستوي فيه الإقدام، فَمَنْ وَصلَ إلى تلك العقوة فلا ترتيبَ ولا ردَّ، وبعد الوصول فلا زَجْرَ ولا صدَّ، أمَّا في الطريق فربما يعتبر التقدم والتأخر ؛ قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَئْخِرِينَ ﴾ ولكن في الوصول فلا تفاوتَ ولا تباين، ثم إذا اجتمعت النفوسُ فالموضع الواحد يجمعهم، ولكنْ لكلِّ حالٌ ينفرد بها.
﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِىَ. . . . ﴾ يعني الكعبة - وذلك على لسان العلم، وعلى بيان الإشارة فَرِّغَ قَلبَكَ عن الأشياء كلَّها سوى ذِكْرِه - سبحانه.
وفي بعض الكتب :" أوحى الله إلى بعض الأنبياء فَرِّغ لي بيتاً أسكنه، فقال ذلك الرسول : إلهي. . . أي بيت تشغل ؟ فأوحى الله إليه : ذلك قلب عبدي المؤمن ". والمراد منه ذكر الله تعالى ؛ فالإشارة أن يفِّرِّغ قلبه لذكر الله. وتفريغ القلب على أقسام : أوله نم الغفلة ثم مِنْ توهُّم شيءٍ من الحدثان من غير الله.
ويقال قد تكون المطالبة على قوم بِصَوْنِ القلب عن ملاحظة العمل، وتكون المطالبة على الآخرين بحراسة القلب عن المساكنة إلى الأحوال.
ويقال :﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِىَ ﴾ : أي قَلبكَ عن التطلع والاختيار ؛ بألا يكون لك عند الله حظٌّ في الدنيا أو في الآخرة حتى تكون عبداً له بكمال قيامك بحقائق العبودية.
ويقال ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِىَ ﴾ : أي بإخراج كل نصيب لك في الدنيا والآخرة من تطلعِ إكرام، أو تَطَلُّبِ إنعام، أو إرادة مقام، أو سبب من الاختيار والاستقبال.
ويقال طَهِّرْ قلبك للطائفين فيه من موارد الأحوال على ما يختاره الحق. ﴿ والقَآئِمِينَ ﴾ وهي الأشياء المقيمة من مستودعات العرفان في القلب من الأمور المُغْنِيةِ عن البرهان، ويتطلع بما هو حقائق البيان التي هي كالعيان كما في الخبر :" كأنك تراه ".
﴿ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ : هي أركان الأحوال المتوالية من الرغبة والرهبة، والرجاء والمخافة، والقبض والبسط، وفي معناه أنشدوا :
لست من جملة المحبين إن لم | أجعل القلبَ بيتَه والمقاما |
وطوافي إجالةُ السِّرِّ فيه | وهو ركني إذا أردتُ استلاما |
ويقال هو شهود البيت دون الاستغراق في شهود ربِّ البيت.
وقدَّم الرَّجالةَ على الركبان لأنَّ الحَمْلَ على المركوب أكثر.
ولتلك الجِمالِ على الجمال خصوصية لأنها مركب الأحباب، وفي قريبٍ من معناه أنشدوا :
وإنَّ جِمالاً قد علاها جَمَالُكُم | - وإن قُطِّعَتْ أكبادنا - لحبائب |
وكم قَدْرُ مسافةِ الدنيا بجملتها ! ؟ ولكنْ لأَِجْلِ قَدْرِ أفعالهم وتعظيمِ صنيعِهم يقول ذلك إظهاراً لفضله وكرمه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ معْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾.
لأقوامٍ عند التقرُّب بقرابينهم وسوق هَدْيِهم. وآخرون يذكرون اسمه عند ذَبْحهِم أمانيهم واختيارهم بسكاكين اليأس. . حتى يقوموا بالله لله بِمَحَوِ ما سوى الله.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَآئِسَ الفَقِيرِ ﴾.
شاركُوا الفقراءَ في الأكل من ذبيحتكم - الذي ليس بواجب - لتلحقكم بركاتُ الفقراء. والإشارة فيه أن ينزلوا ساحةَ الخضوع والتواضع، ومجانبة الزَّهْوِ والتكبُّر.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَليَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ ﴾.
الإشارة في الطواف إلى أنه يطوف بنَفْسه حولَ البيت، وبقلبه في ملكوت السماء، وبِسِرِّه في ساحات الملكوت.
ويقال من طلب الرضا بغير رضى الله لم يبارك له فيما آثره ومن هواه على رضى مولاه، ولا محالةَ سيلقى سريعاً غِبَّه.
ويقال تعظيم حرماته بالغيرة على إيمانه وما فَجَرَ صاحبُ حُرْمَةٍ قط.
ويقال ترك الخدمة يوجب العقوبة، وترك الحرمة يوجِبُ الفُرْقة.
ويقال كلُّ شيءٍ من المخالفات فللعفو فيه مساغ وللأمل إِليه طريق، وتَرْكُ الحرمة على خَطَر ألا يُغْفَر. . . وذلك بأن يؤدي ثبوتُه بصاحبه إلى أَنْ يختَلَّ دِينُه وتوحيدُه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾.
فالخنزير من جملة المحرمات، كذلك النطيحة والموقوذة، وما يجيء تفصيله في نَصَّ الشرع.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾.
" من " ها هنا للجِنس لا للتبغيض، وهوى كلِّ من اتبعه معبودُه، وصنمُ كلِّ أحدٍ نَفْسُه.
قوله جلّ ذكره :﴿ واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ : ومن جملة ذلك قول اللسان بما لا يساعده قولُ القلب ونطقه، ومَنْ عاهد اللَّهَ بقلبه ثم لا يفي بذلك فهو من جملة قول الزور.
﴿ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾ : الشِّركُ جَلِيٌّ وخَفِيٌ.
قوله ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا. . . ﴾ كيف لا. . . وهو يهوي في جهنم وتتجاذبه ملائكة العذاب ؟ أو تهوى به الريح من مكان سحيق. . . وكذلك غداً في صفة قوم يقول الله تعالى :﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٦٧ ].
ومنَ الفَرْقِ بين ما يكون طريقه العلم وما طريقه من الحق أن الذي طريقه العلم يعلم صاحبُه أولاً ثم يعمل مختاراً، وما كان من الحق يجري ويحصل ثم بعده يعلم مَنْ جرى عليه ذلك معناه، ولا يكون الذي يجْرِي عليه ما يُجْرَى مضطراً إلى ما يُجْرَى. وليس يمكن أن يقال إنه ليس له اختيار، بل يكون مختاراً ولكنَّ سببَه عليه مشكلٌ، والعجب من هذا أن العبارة عنه كالبعيد.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِرِ المُخْبِتِينَ ﴾.
أي اسْتَسلموا لِحُكمه بلا تعبيسٍ ولا استكراهٍ من داخل القلب.
والإسلام يكون بمعنى الإخلاص، والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات، ثم تصفية الأخلاق من الكدورات، ثم تصفية الأحوال، ثم تصفية الأنفاس. ﴿ وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ ﴾ : الإخبات استدامة الطاعة بشرط الاستقامة بقدر الاستطاعة. ومنْ أماراتِ الإخباتِ كمالُ الخضوع بشرط دوام الخشوع، وذلك بإطراق السريرة.
ويقال الوجَلُ على حسب تجلي الحق للقلب ؛ فإِن القلوب في حال المطالعةِ والتجلي تكون بوصف الوجل والهيبة.
ويقال وَجلٌ له سبب وجل بلا سبب ؛ فالأول مخافةٌ من تقصير، والثاني معدودٌ في جملة الهيبة.
ويقال الوَجَلُ خوفُ المَكْرِ والاستدراج، وَأقربُهم من الله قلباً أكثرهُم من الله - على هذا الوجه - خوفاً.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ ﴾.
أي خامدين تحت جريان الحكم من غير استكراهٍ ولا تمني خَرْجةٍ، ولا زَوْمِ فُرْجةٍ بل يستَسلِمُ طوعاً :
ويقال الصابرين على ما أصابهم. أي الحافظين معه أسرارهم، لا يطلبون السلوةَ بإطلاعِ الخْلق على أحوالهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَالمُقِيمِى الصَّلاَةِ ﴾.
أي إذا اشتدت بهم البلوى فزعوا إلى الوقوف في محلِّ النجوى :
إذا ما تمنَّى الناسُ رَوْحاً وراحةً | تمنَّيْتُ أن أشكو إليك فَتَسمَعَا |
عند المعاملة من أموالهم، وفي قضايا المنازلة بالاستسلام، وتسليم النفس وكل ما منك وبك لطوارق التقدير ؛ فينفقون أبدانَهم على تحمل مطالبات الشريعة، وينفقون قلوبَهم على التسليم والخمود تحت جريان الأحكام بمطالبات الحقيقة.
﴿ فَإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ﴾ : أي سقطت على وجه الأرض في حال النَّحْرِ فأطعموا القانع الذي ألقى جلباب الحياء وأظهر فقره للناس، والمُعْتَرَّ الذي هو في تَحَمَّله مُتَحَمِّلٌ، ولمواضِع فاقته كاتم.
ويقال التقوى شهودُ الحقِّ بِنَعْتِ التفرُّدِ ؛ فلا يُشَابُ تَقَرُّبُكَ بملاحظةِ أحدٍ، ولا تأخذ عِوَضاً على عملٍ من بَشَرٍ.
﴿ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ : أي هداكم وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع.
﴿ وَبَشِّر المُحْسِنِينَ ﴾ : والإحسان كما في الخبر :" أن تعبد الله كأنك تراه. . ".
وأمارةْ صحته سقوطُ التعب بالقلبِ عن صاحبهِ، فلا يستثقلُ شيئاً. ولا يتبرم بشيءٍ.
والخيانةُ على أقسام : خيانةٌ في الأموال تفصيلها في المسائل الشرعية، وخيانة في الأعمال، وخيانة في الأحوال ؛ فخيانة الأعمال بالرياء والتصنع، وخيانة الأحوال بالملاحظة والإعجاب والمساكنة، وشرُّها الإعجابُ، ثم المساكنةُ وأخفاها الملاحظة.
ويقال خيانة الزاهدين عزوفهم عن الدنيا على طلب الأعواض ليجدوا في الآخرة حُسْنَ المآل. . . وهذا إخلاص الصالحين. ولكنه عند خواص الزهاد خيانة ؛ لأنهم تركوا دنياهم لا لله ولكن لوجود العِوَض على تركهم ذلك مِنْ قِبَلِ الله.
وخيانةُ العابدين أن يَدَعُوا شهواتِهم ثم يرجعون إلى الرُّخَص، فلو صدقوا في مرماهم لَمَا انحطُّوا إلى الرخص بعد ترقيهم عنها.
وخيانة العارفين جنوحهم إلى وجود مقام، وتطلعهم لمنال منزلة وإكرام من الحق ونوع تقريب.
وخيانة المحبين روم فرحة مما يمسهم من برحاء المواجيد، وابتغاء خرجه مما يَشْتَدُّ عليهم من استيلاء صَدِّ، أو غلبات شوقٍ، أو تمادي أيامِ هَجْرٍ.
وخيانة أربابِ التوحيد أن يتحرك لهم للاختيارِ عِرْقٌ، وروجوعُهم - بعد امتحائِهم عنهم - إلى شظية من أحكام الفَرْقِ، اللهم إلا أن يكونَ ذلك منهم موجوداً، وهم عنه مفقودون.
[ النمل : ٥٢ ]. وقد يجري من النَّفْسِ وهواجِسها على القلوبِ لبعضِ الأولياءِ وأهل القصةِ - ظُلْمٌ، ويَحْصُلُ لِسُكَّانِ القلوب من الأحوال الصافية عنها جلاءٌ، وتستولي غَاغَةُ النَّفْس، فتعمل في القلوب بالفساد بسبب استيطانِ الغفلة حتى تتداعى القلوبُ للخراب من طوارق الحقائق وشوارق الأحوال، كما قال قائلهم :
أنعي إليكَ قلوباً طالما هَطَلَتْ *** سحائبُ الجودِ فيها أَبْحُرَ الحِكَم
فَيَهْزِمُ الحقُّ - سبحانه - بجنودِ الإقبال أرَاذِلَ الهواجسِ، وينصرُ عَسْكَرَ التحقيق ِ بأَمْدَادِ الكشوفات. ويَتَجَدَّدُ دارسُ العهد، وتطْلُعُ شموسُ السَّعْدِ في ليالي الستر، وتُكْنَسُ القلوبُ وتتطهر من آثارِ ظُلْمَةِ النَّفْسِ، كما قيل :
أطلالُ سُعْدَى باللِّوى تَتَجَدَّدُ ***. . .
فإذا هبَّتْ على تلك القلوب رياحُ العناية، وزال عنها وهج النسيان سقاها الله صَوْبَ التجلِّي، وأنبت فيها أزهارَ البَسْط فيتضح فيها نهارُ الوَصْلِ، ثم يوجد فيها نسيم القرب إلى أن تطلع شموس التوحيد.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَوْلاَ دَفْعَُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلِيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ﴾.
يتجاوز عن الأصاغر لِقَدْرِ الأكابر، ويعفو عن العوام لاحترام الكرام. . وتلك سُنَّةٌ أجراها الله لاستنقاء منازل العبادة، واستصفاء مناهل العرفان. ولا تحويل لِسُنَّتهِ، ولا تبديل لكريم عادته.
وقوله :﴿ أَقَامُوا الصَّلاَةَ ﴾ في الظاهر، واستداموا المواصلات في الباطن.
ويقال إقامة الصلاة الوفاء بأدائها ؛ فتَعْلمَ - بين يدي الله - مَنْ أنت، ومَنْ تناجي، وَمنْ الرقيب عليك، ومن القريب منك.
وقوله :﴿ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ ﴾ : الأغنياء منهم يوفون بزكاة أموالهم، وفقراؤهم يُؤْتُون زكاةَ أحوالهم ؛ فزكاة الأموال عن كل مائتين خَمْسَة للفقراء والباقي لهم، وزكاة الأحوال أن يكون من مائتي نَفَسٍ تسعة وتسعون ونصف جزء ومائة لله، ونصف جزء من نًفَسٍ - من المائتين - لَكَ. . . . وذلك أيضاً عِلَّةٌ.
قوله :﴿ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ ﴾ : يبتدئون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأَنْفُسِهم ثم بأغيارهم، فإذا أخذوا في ذلك لم يتفرغوا من أنفسهم إلى غيرهم.
ويقال " الأمر بالمعروف " حفظ الحواس عن مخالفة أمره، ومراعاة الأنفاس معه إجلالاً لِقَدْرِه.
ويقال الأمر بالمعروف على نَفْسك، ثم إذا فَرَغْتَ من ذلك تأخذ في نهيها عن المكر. ومنْ وجوهِ المكرِ الرياءُ والإعجابُ والمساكنةُ والملاحظةُ.
ويقال خراب منازل الظلمة ربما يتأخر وربما يتعجل. وخراب نفوسهم في تعطلها عن العبادات لشؤم ظلمهم، وخراب قلوبهم باستيلاء الغفلة عليهم خصوصا في أوقات صلواتهم وأوان خلواتهم. . نقد غير مستأخر.
قوله جل ذكره :﴿ وبئر معطلة وقصر مشيد ﴾.
الإشارة في ﴿ وبئر معطلة ﴾ : إلى العيون المتفجرة التي كانت في بواطنهم، وكانوا يستقون منها، وفي ذلك الاستقاء حياة أوقاتهم من غلبات الإرادة وقوة المواجيد، فإذا اتصفوا بظلمهم غلب غثاؤها وانقطع ماؤها بانسداد عيونها.
والإشارة في ﴿ وقصر مشيد ﴾ إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها من الهيبة والأنس، وخلوا أرواحهم من أنوار المحاب، وسلطان الاشتياق، وصنوف المواجيد.
لا تُنْكِرَنْ جُحْدِي هَوَاكَ فإنما | ذاك الجحودُ عليكَ سِتْرَ مُسْبَلُ |
﴿ والرزق الكريم ﴾ ما يكون من وجه الحلال. ويقال ما يكون من حيث لا يَحْتَسِب العبدُ.
ويقال هو الذي يبدو - من غير ارتقابٍ - على رِفْقٍ في وقت الحاجة إليه.
ويقال هو ما يَحْمِلُ المرزوقَ على صَرْفهِ في وَجْهِ القربة. ويقال ما فيه البركة.
ويقال الرزق الكريم الذي يُنال من غير تعب، ولا يتقلد مِنَّةً مخلوق.
وفي الآخرة ما سيلقون من أليم العقوبة على حسب الإجرام.
وإنما الشياطين تخييلٌ وتسويل من التضليل. وكان لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - سَكَتَاتٌ في خلال قراءة القرآن عند انقضاء الآيات، فيتلَفَّظ الشيطانُ ببعض الألفاظ، فَمَنْ لم يكن له تحصيلٌ تَوَهَّّمَ أنه كان من ألفاظِ الرسولِ - عليه الصلاة والسلام وصار فتنةً لقومٍ.
أما - الذين أيدهم بقوة العصمة، وأدركتهم العناية فقد استبصروا ولم يُضِرْهُم ذلك.
﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾
﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾
﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾
وللأسرار دوام الشهود.
ويقال كما أنه غنيٌّ عن الأجانب ممن أثبتهم في شواهد الأعداء فهو غنيٌّ عن الأكابر وجميع الأولياء.
ويقال إذا كان الغيُّ حميداً فمعنى ذلك أنه يُعْطِي حتى يُشْكَر.
ويقال الغنيُّ الحميد المستحِقُّ للحمد : أعطى أو لم يُعْطِ ؛ فإن أَعْطى استحقَّ الحمدَّ الذي هو الشكر، وإنْ لم يُعْطِ استحق الحمد الذي هو المدح.
وأمَّا السفينة. . فإلهامُ العبد بصنعها ووجوه الانتفاع بها ؛ بالحَمْل فيها وركوبها فَمِنْ أعظم إحسان الله وإرفاقه بالعبد، ثم ما يحصل بها من قَطْع المسافات البعيدة، والتوصل بها إلى المضارب النائية، والتمكن من وجوه الانتفاع ففي ذلك أعظمُ نعمة، وأكملُ عافية.
وجعل الأرضَ قراراً للخَلْقِ من غير أن تميد، وجعل السماءَ بناء من غير وقوع، وجعل فيها من الكواكب ما يحصل به الاهتداء في الظلام، ثم هي زينة السماء - وفي ذلك من الأدلة ما يوجب ثَلَجَ الصدر وبَرْدَ اليقين.
أموتُ إذا ذكرتُك ثم أحيا | فكم أحيا عليكَ وكم أموتُ |
ويقال هذه صفة العوام منهم، فأمَّا الأفاضل فحياتُهم مسرمدة وانتعاشهم مؤبَّدّ. وأنَّى يحيا غيرُه وفي وجوده - سبحانه - غُنْيَةٌ وخَلَفٌ عن كل فائت ؟
وجعل لكلِّ مقام سُكَّانَه، ولكلَّ محلِّ قُطَّانَه، فقد ربط كُلاً بما هو أهلٌ له، وأوصل كلاًّ إلى ما جعله محلاًّ له ؛ فبِساط التَّعَبُّدِ موطوءٌ بأَقدامِ العابدين، ومشاهد الاجتهاد معمورةٌ بأصحاب التكلف من المجتهدين، ومجالسُ أصحابِ المعارفِ مأنوسةٌ بلزوم العارفين، ومنازلُ المحبين مأهولةٌ بحضور الواجدين.
قوله :﴿ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ في الأَمْرِ. . . ﴾ اشْهَدْ تصاريفَ الأقدار، واعمل بموجِب التكليف، وانتِه دون ما أُذِنْتْ له من المناهل.
﴿ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾ يحكم بينهم فيسأل عن أعماله جميعَ خصمائه، ويأمر بإرضاء جميع غُرَمَائِه.
ثم أخبر أنَّ الذي هم بصَدَدِه في الآخرةِ من أليم العقوبةِ شرٌّ بكل وجهٍ لهم مِمَّا يعود إلى الرائين لهم عند شهودهم. وإنّ المناظِرَ الوضيئة للرائين مُبْهِجةٌ، والمناظِرَ المُنْكَرَة للناظرين إليها موحِشَة.
ثم بيَّنَ المعنى فقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ أي وتسمونها آلهة أنها للعبادة مستحقة لن يخلقوا بأجمعهم مذباباً، ولا دونَ ذلك. وإنْ يسلبهم الذبابُ شيئاً بأن يقع على طعام لهم فليس في وسعهم استنقاذهم ذلك منه، ومَنْ كان بهذه الصفة فَسَاءَ المَثَلُ مَثلُهم، وضَعُفَ وصفُهم، وقَلَّ خَطَرُهم.
ويقال إن الذي لا يقاوم ذباباً فيصير به مغلوباً فأَهْوِنِ بِقَدْرِه !
ويقال العوامُ اجتهادُهم في رَفْضِهم الأعمالَ الخبيثَةَ خوفاً من الله، والخواص جهدهم في نَقْضِ عقيدتهم للأوصافِ التي تَجِلُّ عنها الصمدية، وبينهما (. . . . ) بعيد.
﴿ إنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ﴾ : قوي أي قادر على أن يُخلقَ مَنْ هو فوقهم في التحصيل وكمال العقول. ﴿ عَزِيزٌ ﴾ : أي لا يُقَدِّرُ أحدٌ قَدْرَه - إلا بما يليق بصفة البشر - بِقَدرٍ من العرفان.
ويقال مَنْ وَجَدَ السبيلَ إليه فليس النعت له إلا بوصفِ القُصُور، ولكنْ كلٌّ بِوَجْدِه مربوطٌ، وبحدِّه في همته موقوف، والحق سبحانه عزيز.
ثم بعضهم فوق بعضٍ درجاتٍ ؛ فالفضيلةُ بحقِّ المُرْسِلِ، لا لخصوصيةٍ في الخِلْقةِ في المُرْسَلِ.
ويقال لَوَّنَ عليهم العبادةَ، وأَمَرَهم بها، ثم جميعُها عبادةٌ واحدةٌ، ووَعَدَ عليها من الثوابِ الكثيرِ ما تقْصُرُ عن عِلْمه البصائر.
ويقال عَلِمَ أَنَّ الأحبابَ يُحِبُّون سماعَ كلامِه فَطَّولَ عليهم القولَ إلى آخر الآية ؛ ليزدادوا عند سماع ذلك أُنَسَاً على أُنسٍ، ورَوْحَاً على روْح، ومُعَادُ خطابِ الأحبابِ وهو رَوْحُ رُوحهم وكمالُ راحتهم.
ثم قال بعد هذا :﴿ وَافْعَلُوا الخَيْرَ ﴾ فأدخل فيه جميعَ أنواع القُرَبِ.
ويقال المجاهدة على أقسام : مجاهدةٌ بالنَّفْسِ، ومجاهدةٌ بالقلبِ، ومجاهدةٌ بالمال. فالمجاهدةُ بالنفس ألا يَدَّخِرَ العبدُ ميسوراً إلا بَذَلَه في الطاعة بتحمل المشاق، ولا يطلب الرخص والإرفاق. والمجاهدةُ بالقلب صَوْنُه عن الخواطرِ الرديئةِ مثل الغفلة، والعزمُ على المخالفات، وتذكرُ ما سَلَفَ أيام الفترة والبطالات. والمجاهدة بالمال بالبذل والسخاء ثم بالجود والإيثار.
ويقال حق الجهاد الأخذ بالأشق، وتقديم الأشق على الأسهل- وإنْ كان في الأَخَفِّ أيضاً حق.
ويقال حق الجهاد ألا يَفْتُرَ العبدُ عن مجاهدةِ النَّفْس لحظةً، قال قائلُهم :
يا رَبِّ إِنَّ جهادي غيرُ مُنْقَطِعٍ | فكلُّ أرضٍ لي ثَغْر طرسوس |
يحتمل أن يقول من حق اجتبائه إياكم أَنْ تُعَظمُّوا أَمْرَ مولاكم.
ويحتمل أن يقال هو الذي اجتباكم، ولولا أنه اجتباكم لَمَا جَاهَدْتُم، فلاجتبائه إياك وَفَّقَكَ حتى جاهدتَ.
ويقال عَلَم ما كنت تفعله قبل أَنْ خَلَقَكَ ولم يمنعه ذلك مِنْ أَنْ يَجْتَبِيَكَ، وكذلك إِنْ رأى ما فَعَلْتَ فلا يمنعه ذلك أَنْ يتجاوزَ عنك ولا يعاقبك.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾.
الشرع مبناه على السهولة، والذي به تصل إلى رضوانه وتستوجِب جزيلَ فضله وإحسانه، وتتخلَّص به من أليم عقابه وامتحانه - يسيرٌ من الأمر لا يستغرق كُنْه إمكانك ؛ بمعنى أَنَّك إٍن أَرَدْتَ فِعْلَه لَقَدَرْتَ عليه، وإنْ لم توصَفْ في الحال بأنَّك مستطيعٌ ما ليس بموجودٍ فيك.
قوله جلّ ذكره :﴿ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾.
أي اتَّبِعوا والزَمُوا مِلَّةَ أبيكم إبراهيم عليه السلام في البَذْلِ والسخاء والجود والخلة والإحسان.
قوله جلّ ذكره :﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ﴾ اللَّهُ هو الذي اجتباكم، وهو الذي بالإسلام والعرفان سَمَّاكم المسلمين. وقيل إبراهيم هو الذي سماكم المسلمين بقوله :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ [ البقرة : ١٢٨ ] قوله :﴿ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ﴾، نَصَبَ الرسولَ بالشهادة علينا، وأمره بالشفاعة لأمته، وإنما يشهد علينا بمقدار ما يُبْقى للشفاعة موضعاً ومحلاً.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ ﴾.
وتلك الشهادة إنما نؤديها لله، ومَنْ كانت له شهادة عند أحد - وهو كريم - فلا يجرح شاهده، بل يسعى بما يعود إلى تزكية شهوده.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾.
أقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ بحكم الإتمام، ونعت الاستدامة، وجميل الاستقامة.
والاعتصامُ بالله التبري من الحول والقوة والنهوض بعبادة الله بالله لله يقال الاعتصام بالله التمسكُ بالكتاب والسنة. ويقال الاعتصامُ بالله حُسْنُ الاستقامة بدوام الاستعانة.
﴿ هُوَ مَوْلاَكُمْ ﴾ : سيدكم وناصركم والذي لا خلف عنه.
﴿ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ نِعْمَ المولى : إخبارُ عن عظمته، ونعم النصير : إخبارُ عن رحمته.
ويقال إن قال لأيوب :﴿ نِعْمَ العَبْدُ ﴾ [ ص : ٤٤ ] ولسليمان :﴿ نِعْمَ العَبْدُ ﴾ [ ص : ٣٠ ] فلقد قال لنا :﴿ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾، ومدحه لِنفسه أعزُّ وأجلُّ من مدحه لك.
ويقال :﴿ نِعْمَ المَوْلَى ﴾ : بَدَأَكَ بالمحبة قبل أنْ أحببتَه، وقبل أن عَرَفْتَه أو طَلَبْتَه أو عَبَدته.
﴿ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ : إذا انصرف عنكَ جمع مَنْ لَكَ فلا يدخل القبرَ معك أحدٌ كان ناصِرَك، ولا عند السؤال أو عند الصراط.