ﰡ
مكّيّة وهى مائة واثنان وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) اقسم بالملائكة الذين يصفون فى مقام العبودية كصفوف المصلين عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها قال يتمون الصفوف ويتراصون فى الصف- كذا قال ابن عباس والحسن وقتادة وقيل هم الملائكة تصف بأجنحتها فى الهواء واقفة حتى يأمر الله بما يريد وقيل هى الطير قال الله تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ....
فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) يعنى الملائكة تزجر السحاب وتسوقه وقيل الملائكة تزجر الناس عن المعاصي بإلهام الخير او الشياطين عن التعرض لهم. وقال قتادة هى زواجر القران تنهى وتزجر عن القبيح.
فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) هم الملائكة الذين يتلون ذكر الله او آيات من الكتب السماوية على الأنبياء وذكرا منصوب على المفعولية وجاز نصبه على المصدرية من معنى التاليات. او اقسم بنفوس العلماء الصافّين أقدامهم فى الصلاة الزاجرين عن الكفر والسيئات بالحجج والنصيحات التالين آيات ربهم رفيع الدرجات- او بنفوس الغزاة المقاتلين فى سبيل الله صفّا كانّهم بنيان مرصوص الزاجرين الخيل والعدو التالين لذكر الله لا يشغلهم مبارزة العدو عن ذكر الله- والعطف لاختلاف الدوات او الصفات والفاء لترتيب الوجود فان الصف كمال والزجر تكميل بالمنع عن الشر او الاساقة الى الخير والتلاوة افاضة او الرتبة كما فى قوله تعالى ثمّ كان من الّذين أمنوا- ادغم حمزة التاءات فيما يليها لتقاربها فانها من طرف اللسان واصول الثنايا وابو عمر وعلى أصله فى الإدغام الكبير. جواب القسم.
إِنَّ إِلهَكُمْ يا اهل مكة لَواحِدٌ (٤) رد لما قال كفار مكة اجعل الالهة الها وّاحد لانّ هذا لشئ عجاب.
رَبُّ السَّماواتِ
(٥) خبر بعد خبر لانّ او خبر مبتدا محذوف اى هو والمراد بالمشارق مشارق الكواكب كلها او مشارق الشمس فى السنة فانها ثلاث مائة وخمس وستون تطلع كل يوم من واحد وبحسبها يختلف المغارب ولذلك اكتفى بذكرها مع ان الشرق أدلّ على القدرة وابلغ فى النعمة..
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا اى القربى منكم فيه التفات من الغيبة الى التكلم بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) قرأ الجمهور بالاضافة وهى بيانية اى بزينة هى الكواكب او اضافة المصدر الى المفعول اى بان زينا الكواكب فانها كما جاءت اسما كالليقة جاء مصدرا كالنسبة او الى الفاعل اى بان زينها الكواكب وقرأ حمزة ويعقوب وحفص «لا بل هو كالجمهور- ابو محمد» بتنوين زينة وجر الكواكب على ابدا لها منه اى بزينة هى الكواكب او بزينة هى لها كاضوائها وأوضاعها قال ابن عباس اى بضوء الكواكب وهذه القراءة يؤيد كون الاضافة فى قراءة الجمهور بيانية وقرأ ابو بكر بتنوين زينة ونصب الكواكب على المفعولية فيؤيد كون الاضافة الى المفعول او منصوب بتقدير اعنى او على البدل من محل زينة.
وَحِفْظاً منصوب على المصدرية بإضمار فعله اى وحفظناها حفظا او بالعطف على زينة بحسب المعنى كانّه قال انا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا اى لاجل الحفظ مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) خارج من الطاعة برمى الشهب من الكواكب وهذه الاية تفيد ان الكواكب كلها فى السماء الدنيا وقول البيضاوي ان كون الثوابت فى الكرة الثامنة وما عدا القمر من السيارات فى الست المتوسطة بينها وبين سماء الدنيا ان تحقق لم يقدح فى ذلك فان اهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلالية على سطحها الأزرق باشكال مختلفة مبنى على تجويز قول الفلاسفة والحق ان قول الفلاسفة باطل بالكتاب والسنة والإجماع فان كون السماوات سبعا منصوص عليه بالكتاب فلا يجوز القول بالكرة الثامنة وتسميتها باسم غير السماء لا يفيد كتسمية الخمر بغير اسمها لا يفيد الحل وايضا الدّنيا صفة للسماء ومفهوم الصفة يقتضى حصر زينتها فى السماء الدنيا ولولا ذلك الحصر لما وجه لتقييد السماء بالدنيا وايضا قوله تعالى وحفظا من كلّ شيطان مارد يرد القول بكون الكواكب فى سماء غير سماء الدنيا
لا يَسَّمَّعُونَ قرأ حفص وحمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» بتشديد السين والميم أصله يتسمّعون فادغمت التاء فى السين والمعنى يطلبون السماع وفيه مبالغة فى نفى السماع والباقون بسكون السين وتخفيف الميم من المجرد- وهذا كلام مبتدا لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم ولا يجوز جعله صفة لكلّ شيطان فانه يقتضى حفظها من الشياطين الذين لا يسمعون ولا علة للحفظ على حذف اللام كما فى جئتك ان تكرمنى ثم حذف ان واهدار عملها فان اجتماع ذلك منكر إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى متعلق بلا يسمعون بتضمين معنى الاصفاء مبالغة لنفيه وتهويلا لما يمنعهم عنه والمراد بالملا الأعلى الملائكة او اشرافهم مدبرات الأمور وَيُقْذَفُونَ اى يرمون عطف على لا يسمعون مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) اى من آفاق سماء الدنيا بالشهب إذا قصدوا المكث والإصغاء.
دُحُوراً مصدر بمعنى الطرد منصوب على المصدرية لان القذف والدحور متقاربان او على الحال بمعنى مدحورين او بنزع الخافض اى بدحور وهو ما يطرد به وَلَهُمْ عَذابٌ اخر واصِبٌ (٩) اى دائم او شديد وهو عذاب الاخرة وقال مقاتل لهم عذاب فى الدنيا دائم الى النفخة الاولى يحرقون.
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء من فاعل لا يسمعون وبدل منه وقيل استثناء منقطع والخطفة الاختلاس يعنى من اختلس كلمة من كلام الملائكة مسارقة ولذلك عرّف الخطفة فَأَتْبَعَهُ اتبع بمعنى تبعه اى لحقه شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) وهو ما يرى كانّ كوكبا انقض وهو شعلة تخرج من كوكب لرجم مسترقى السمع من الشياطين.
وليس كما قالت الفلاسفة انه بخار يصعد الى الأثير ويشتعل فان هذا قول باطل مبنى على الظن والتخمين وانّ الظّنّ لا يغنى من الحقّ شيئا وهذا كقولهم فى المطر انه بخار يصعد من الأرض ويصل الى الطبقة الزمهريرية من الهواء فيجمد ويكون غماما ثم يصل اليه الحرارة من الشمس فيذوب ويقطر ماء وهذه الأقوال الباطلة التي لا دليل عليها يأباه
فَاسْتَفْتِهِمْ الضمير المنصوب لمشركى مكة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ممن خلقناهم أَمْ مَنْ خَلَقْنا هم أشد خلقا منهم والمراد بمن خلقنا ما سبق ذكره من السماوات والأرض وما بينهما من الخلائق والمشارق والمغارب والكواكب والشهب الثواقب ومن لتغليب العقلاء والاستفهام للتقرير- وقيل المعنى أم من خلقنا من غيرهم من الأمم السالفة كعاد وثمود قد أهلكناهم بذنوبهم فما لكم تأمنون من العذاب والتأويل الاول يوافق قوله تعالىء أنتم «١» أشدّ خلقا أم السّماء ويدل على إطلاقه قوله تعالى إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ
(١١) اى لاصق يتعلق باليد وقال مجاهد والضحاك اى منتن فانه فارق بين خلقهم وخلق السماوات والأرض فان خلقها بلا مادة سبق وهذه الجملة متضمنة للسوال المذكور على طريقة عن النّبإ العظيم بعد قوله عمّ يتسآءلون والغرض من هذا الكلام الرد على منكر البعث فانه شهادة عليهم بالضعف لان ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة فمن قدر على خلق السماوات وغيرها قادر البتة على ما لا يعتد به بالاضافة إليها واحتجاج عليهم بان خلقهم الاول من الطين اللازب فمن اين ينكرون ان يخلقوا ثانيا من تراب حيث قالوا أإذا كنّا ترابا أإنّا لفى خلق جديد وان الطين اللازب يحصل بضم الجزء المائى الى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام والفاعل لا تغير فى قدرته فعلى ما ينكرون..
بَلْ ابتدائية للانتقال من غرض الى اخر وهو الاخبار بحاله وحالهم وليست للاضراب عَجِبْتَ العجب حالة يعترى للانسان عند رؤية امر لم يعهد مثله فيعبر عن تلك الحالة بقوله عجبت وبصيغة التعجب منه قوله ﷺ عجب ربك من قوم يساقون الى الجنة فى السلاسل- وقوله سبحانه ما أعظم شأنه ويطلق ايضا على الشيء الذي لم يعهد
وَإِذا ذُكِّرُوا اى وعظوا بالقران لا يَذْكُرُونَ (١٣) لا يتعظون او المعنى إذا ذكرهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرتهم.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً معجزة تدل على صدق الرسول ﷺ قال ابن عباس ومقاتل هو انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) يبالغون فى السخرية او يستدعى بعضهم بعضا ان يسخر منها.
وَقالُوا اى ويقولون إِنْ هذا يعنون ما يرونه من المعجزة إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) ظاهر سحريته وقالوا.
أَإِذا مِتْنا قرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر «١» الميم وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أصله أنبعث إذا متنا فبدل الفعلية بالاسمية وقدم الظرف وكرر الهمزة مبالغة في الإنكار واشعارا بان البعث مستنكر فى نفسه وفى هذا الحال اولى بالإنكار فهذا ابلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الاولى وقراءة نافع والكسائي ويعقوب «وابى جعفر- ابو محمد» بطرح الثانية.
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) عطف على محل اسم ان بعد مضى الخبر او على الضمير فى مبعوثون فانه مفصول عنه بهمزة الاستفهام والاستفهام لانكار الجمع بين بعثهم وبعث ابائهم لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم- وسكن نافع «اى قالون عنه والاصبهانى عن ورش وابو جعفر وابو محمد» وابن عامر الواو على معنى الترديد وعلى هذه «٢» القراءة لا يجوز العطف قل يا محمد.
نَعَمْ تبعثون أنتم وآباؤكم قرأ الكسائي بالكسر وهو لغة فيه وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) الدخور أشد الصغار حال من فاعل المقدر.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ جواب شرط مقدر يعنى إذا كانت البعث فانّما هى اى البعثة وقيل هى ضمير مبهم موضحها خبرها يعنى زجرة واحِدَةٌ اى صيحة واحدة اى نفخة الثانية والزجر الطرد والمنع بالصوت يقال زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها وأمرها فى الاعادة كما امر فى الإبداء ولذلك
(٢) وفى الأصل هذا القراءة
وَقالُوا يا للتنبيه وَيْلَنا اى هلاكنا مصدر لا فعل له من لفظه وجملة قالوا عطف على ينظرون ويقولون يا ويلنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) اى يوم نجازى فيه بأعمالنا.
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ اى يوم القضاء او الفرق بين المحسن والمسيء الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) قيل هذا جواب الملائكة وقد تم كلامهم على يوم الدّين وقيل هذا ايضا من كلامهم بعضهم لبعض- فحينئذ يقول الله سبحانه للملائكة.
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى أشركوا فانّ الشّرك لظلم عظيم يعنى اجمعوهم الى الموقف للحساب والجزاء وَأَزْواجَهُمْ يعنى نظراءهم وأشياعهم واتباعهم اخرج البيهقي من طريق النعمان بن بشير قال سمعت عمر بن الخطاب يقول احشروا الّذين ظلموا وأزواجهم يعنى ضرباءهم الذين هم مثلهم يجيئ اصحاب الربوا مع اصحاب الربوا واصحاب الزنى مع اصحاب الزنى واصحاب الخمر مع اصحاب الخمر ازواج فى الجنة وازواج فى النار- واخرج البيهقي عن ابن عباس يعنى أشباههم- وقال البغوي قال قتادة والكلبي يعنى من عمل مثل عملهم فاهل الخمر مع اهل الخمر واهل الربوا مع اهل الربوا وقال الضحاك قرناؤهم من الشياطين كل كافر مع شيطانه فى سلسلة وقال الحسن أزواجهم من المشركات وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فى الدنيا يعنى الأوثان والطواغيت وقال مقاتل يعنى إبليس واحتج بقوله ان لا تعبدوا الشّيطان واللفظ مخصوص بقوله تعالى انّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون.
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) قال ابن عباس دلوهم الى طريق النار وقال ابن كيسان قدموهم الى النار والعرب يسمى السائق هاديا.
وَقِفُوهُمْ اى احبسوهم قال المفسرون لمّا سيقوا الى النار حبسوا عند الصراط فيقول الله تعالى قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) تعليل بقفوا قال ابن عباس يسئلون عن جميع أفعالهم وأقوالهم وروى عنه عن لا اله الا الله اخرج
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) اى يقال لهم توبيخا ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا تحريض على التناصر والغرض منه التهكم والتعجيز.
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) قال ابن عباس اى خاضعون وقال الحسن منقادون يقال استسلم لشئ إذا انقاده وخضع-.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعنى الرؤساء والاتباع او الكفرة والقرناء يَتَساءَلُونَ (٢٧) حال من الفاعل والمفعول يعنى يسئل بعضهم بعضا توبيخا ولذلك فسر بقوله يتلاومون ويتخاصمون.
قالُوا اى يقول الاتباع للرؤساء او الكفرة للقرناء إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) اى عن أقوى الوجوه وأيمنها او عن الدين او عن الخير كذا قال الضحاك ومجاهد مستعار عن يمين الإنسان الذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما ولذلك سمى يمينا- وقال بعضهم المراد باليمين الحلف يعنى كنتم تحلفون ان ما تدعوننا اليه من الدين هو الحق- وقيل معناه القوة
قالُوا اى يقول الرؤساء او الشياطين ما اضللناكم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) يعنى كنتم كافرين ضآلين باختياركم.
وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من قهر وغلبة تقرير لما سبق بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) اى مختارين الطغيان.
فَحَقَّ اى وجب عَلَيْنا عطف على محذوف مفهوم ممّا سبق تقديره كنتم قوما طاغين كما كنا طاغين فحقّ علينا جميعا قَوْلُ رَبِّنا لاملانّ جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) العذاب.
فَأَغْوَيْناكُمْ اضللناكم عن الهدى ودعوناكم الى ما كنا عليه عطف على فحقّ علينا إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) ضالين يعنون ان ضلال الفريقين ووقوعهم فى العذاب كان امرا مقضيا علينا وانه غاية ما فعلنا بكم انا دعونا الى الغيّ لانا كنا على الغى فاحببنا ان تكونوا مثلنا قال الله تعالى.
فَإِنَّهُمْ الفا للسببية يعنى لمّا كان كلهم من الرؤساء والاتباع والكفرة والقرناء على الغى فهم يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ انا مبتدا والجملة خبر وكذلك فى محل النصب على المصدرية اى فعلا مثل ما نفعل بهؤلاء نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) اى بكل مشرك والمجرم هو المشرك لقوله تعالى.
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ عطف على يستكبرون أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) يعنون النبي ﷺ قال الله تعالى ردّا عليهم.
بَلْ جاءَ النبي ﷺ بِالْحَقِّ اى التوحيد الذي قام عليه البرهان وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) يعنى ليس هذا دعوى مبتدعا بل ادعاه الأولون من الرسل وهذا يصدقهم ويطابق دعواه دعواهم.
إِنَّكُمْ ايها المجرمون فيه التفات من الغيبة الى الخطاب لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) بالإشراف وتكذيب المرسلين.
وَما تُجْزَوْنَ جزاء إِلَّا جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) فى الدنيا من الشرك.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) الموحدين استثناء منقطع الا ان يكون الضمير
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) خصائصه من الدوام وتمحض اللذة ولذلك فسره بقوله.
فَواكِهُ جمع فاكهة بدل او بيان للرزق وهى ما يقصد به التلذذ دون التغذي والقوت ما يقصد به التغذي دون التلذذ والرزق يعمهما واهل الجنة لمّا كان خلقهم محفوظة عن التحلل كان أرزاقهم فواكه خالصة وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فى نيله يصل إليهم من غير تعب وسوال بخلاف أرزاق الدنيا الجملة عطف على الجملة او حال او خبر بعد خبر.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) متعلق بالظرف المستقر يعنى لهم رزق معلوم فى جنت ليس فيها الا النعيم او متعلق بمكرمون او حال من المستكن فيه او خبر اخر لاولئك.
عَلى سُرُرٍ يحتمل الحال والخبر فيكون مُتَقابِلِينَ (٤٤) حالا من المستكن فيه او فى مكرمون ويحتمل ان يتعلق على سرر بمتقابلين فيكون متقابلين حالا من ضمير مكرمون.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ اى باناء فيه خمر او خمر كقول الشاعر وكأس شربت على لذة. وعن الأخفش كل كأس فى القرآن فهى الخمر والجملة حال او خبر مِنْ مَعِينٍ (٤٥) اى خمر جارية فى الأنهار ظاهرة تراها العيون او خارج من العيون وهو صفة الماء من عان الماء إذا نبع وصف به خمر الجنة لانها تجرى كالماء او للاشعار بان ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من انواع الاشربة لكمال اللذة.
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) بخلاف خمر الدنيا فانها كريهة عند الشرب وبيضاء ولذّة صفتان لكأس قال الحسن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن ووصفها بلذة للمبالغة او لانها تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب ووزنه فعل-.
لا فِيها غَوْلٌ اى غائلة من غاله يغوله إذا أفسده ومنه الغول يعنى ليس فيها شىء من انواع الفساد كما فى خمر الدنيا من المفاسد من ذهاب العقل ووجع البطن والصداع والقيء والبول وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) قرأ حمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» بكسر الزاء من الانزاف ووافقها حفص فى الواقعة والباقون بفتح الزاء فيهما ولا خلاف
وَعِنْدَهُمْ عطف او حال قاصِراتُ الطَّرْفِ اى ازواج قصرن عيونهن على أزواجهن لا ينظرن الى غيرهم لحسنهم عندهن عِينٌ (٤٠) خبر مبتدا محذوف اى هن عين اى حسان الأعين يقال رجل أعين وامراة عيناء ورجال ونساء عين.
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ للنعام اخرج ابن جرير عن أم سلمة عنه ﷺ العين الضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر وعنه ﷺ فى قوله تعالى كانّهنّ بيض مكنون قال رقتهن كرقة الجلدة فى داخل البيضة التي على القشر مَكْنُونٌ (٤٩) بريشه لا يصل اليه غبار والبيض جمع بيضة لعوده على لفظه قال الحسن شبههن ببيض النعامة لانها تكفها بريشها من الريح والغبار فلونها ابيض فى صفرة ويقال هذا احسن ألوان النساء ان يكون بيضاء بصفرة والعرب تشبهها ببيض النعامة-.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ اى بعض اهل الجنة عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) عما مضى عليه فى الدنيا حال والجملة معطوفة على يطاف عليهم اى يشربون فيتحادثون على الشراب قال الشاعر وما بقيت من اللذات الا أحاديث الكرام على المدام.
فانه ألذ تلك اللذات الى العقل والتعبير بالماضي للتأكيد.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ اى من اهل الجنة بيان للتساؤل إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) فى الدنيا ينكر البعث قال مجاهد كان شيطانا وقال الآخرون كان من الانس وقال مقاتل كانا أخوين وقال الباقون كانا شريكين أحدهما كافر اسمه مطروس والاخر مؤمن اسمه يهودا وهما الذان قص الله خبرهما فى سورة الكهف واضرب لهم مثل الرجلين.
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) البعث استفهام للتوبيخ.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) مجزيون بعد البعث كرر الاستفهام لغاية الاستبعاد والإنكار.
قالَ
فَاطَّلَعَ هذا المؤمن على اهل النار فَرَآهُ اى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) اى وسطه يسمى وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه اخرج هنا وعن ابن مسعود فى الاية قال فاطّلع ثم التفت الى أصحابه فقال رايت جماجم القوم تغلى «الجمجمة كاسه سر- منه ره».
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) قرأ يعقوب بإثبات الياء فى الحالين وورش وصلا فقط والباقون بحذفها فى الحالين يعنى كدتّ لتهلكنى بالإغواء ان مخففة من الثقيلة واللام فارقة.
وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي بالهداية والعصمة لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) معك فى النار.
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى يعنى لسنا ممن شأنه الموت الا التي كانت فى الدنيا فالمستثنى مفرغ منصوب على المصدرية من اسم الفاعل او المعنى فما نحن نموت ابدا الا التي كانت فى الدنيا فالاستثناء منقطع والفاء للعطف على محذوف تقديره أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين والاستفهام للتقرير اى حمل المخاطب على اقرار ما كان ينكره فى الدنيا بقوله اإنّا لمدينون وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) وذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له وجاز ان يكون هذا معاودة الى كلامه مع جلسائه تحدثا بنعمة الله وتعجبا منها وتعريضا للقرين بالتوبيخ وقال بعضهم يقول اهل الجنة للملائكة حين تذبح الموت استبشارا وتبجحا أفما نحن بميّتين فيقول الملائكة لا فيقولون.
إِنَّ هذا الخلود فى النعيم لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) ويحتمل ان يكون هذا من كلام الله كقوله تعالى.
لِمِثْلِ هذا المنزل او لمثل هذا النعيم لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام سريعة الزوال فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١).
أَذلِكَ الذي ذكر لاهل الجنة خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) التي هى نزل اهل النار وهى شجرة مرة خبيثة كريهة الطعم يكره اهل النار على تناولها يزقّمونه على أشد كراهية ومنه قولهم تزقّم الطعام إذا تناوله على كره ومشقة وانتصاب نزلا على التميز
إِنَّا جَعَلْناها اى شجرة الزقوم فِتْنَةً اى محنة وعذابا فى الاخرة او ابتلاء فى الدنيا لِلظَّالِمِينَ (٦٣) اى الكافرين كانوا يقولون كيف يكون فى النار شجرة والنار تحرق الشجر وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش ان محمدا يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان بربر الزبد والتمر فادخله ابو جهل فى بيته وقال يا جارية زقّمينا فاتتهم بالزبد والتمر فقال تزقموا هذا ما يوعدكم به محمد واخرج ابن جرير عن قتادة قال قال ابو جهل زعم صاحبكم هذا ان فى النار شجرة والنار تأكل الشجر وانّا والله ما نعلم الزقوم الا التمر والزبد فانزل الله حين عجبوا ان يكون فى النار شجرة.
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) اى قعر النار واخرج نحوه عن السدى قال الحسن أصلها فى قعر جهنم وأغصانها ترفع الى دركاتها.
طَلْعُها اى ثمرها سمى طلعا لطلوعه كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) قال ابن عباس هم الشياطين بأعيانهم شبّه بها لقبحه فان الناس إذا وضعوا شيئا بغاية القبح قالوا كانه شيطان وان كانت الشياطين لا ترى لان قبح صورتها يتصور فى النفس وقال بعضهم الشياطين حيات هائلة قبيحة المنظر لها اعراف ولعلها سميت بها لذلك وقيل هى شجرة قبيحة مرة منتنة تكون فى البوادي تسميها العرب رؤس الشياطين.
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها اى من الشجرة او من طلعها الفاء للسببية تعليل لكونه فتنة فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) لغلبة الجوع او الإكراه على أكلها والملأ حشو الإناء بما لا يحتمل المزيد عليه.
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها اى على أكلها بعد ما ملئوا بطونهم وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم ويجوز ان يكون ثم لما فى شرابهم من مزيد الكراهة لَشَوْباً خلطا ومزجا مِنْ حَمِيمٍ
(٦٧) متعلق
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) قال البغوي وذلك انهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج من الجحيم كما يورد الإبل الى الماء ثم يردّون الى الجحيم يدل عليه قوله تعالى يطوفون بينها وبين حميم ان وقرأ ابن مسعود انّ مقيلهم لالى الجحيم-.
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا اى وجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) اى يسرعون الجملة فى مقام التعليل اى استحقوا تلك الشدائد تقليدا للاباء فى الضلال مسرعين من غير نظر وبحث.
وَلَقَدْ ضَلَّ عطف على انّهم الفوا قَبْلَهُمْ اى قبل مشركى مكة أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) من الأمم الخالية.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) اى أنبياء انذروهم من العواقب.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) الاستفهام للتعجب والاستعظام والجملة الاستفهامية بتأويل المفرد مفعول لانظر والغرض منه التحقيق اى كان عاقبتهم العذاب فى الدنيا والاخرة.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) استثناء من مضمون الجملة السابقة اى الا الذين تنبهوا بانذارهم فاخلصوا دينهم لله فانهم نجوا من العذاب وقرئ بالفتح اى الذين أخلصهم لدينه- والخطاب مع الرسول ﷺ والمقصود خطاب قومه فانهم ايضا سمعوا اخبارهم وراوا اثارهم- ثم شرع فى تفصيل القصص بعد اجمالها فقال.
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ عطف على قوله ولقد أرسلنا فيهم منذرين من قبيل ذكر الخاص بعد العام يعنى ولقد ضلّ قبلهم قوم نوح فارسلنا فيهم نوحا منذرا فدعاهم الى الإسلام فلم يؤمنوا حتى ايئس من إسلامهم واوحى اليه انّه لن يؤمن من قومك الّا من قدا من فنادانا اى دعانا باهلاك قومه فاجبناه احسن الاجابة فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) اى فو الله لنعم المجيبون نحن فحذف ما حذف لقيام ما يدل عليه.
وَنَجَّيْناهُ عطف على فاجبناه المقدر وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) اى من أذى قومه.
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) يعنى لم يبق لاحد من قومه ذرية الا لنوح اخرج الترمذي وغيره عن سمرة
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) من الأمم هذا الكلام.
سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) جيء به على الحكاية والمعنى يسلمون عليه تسليما ويقولون هذا القول وقيل هو سلام من الله ومفعول تركنا محذوف تقديره تركنا عليه الثناء والذكر الجميل وفى العالمين متعلق بالظرف المستقر اى عليه.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) يعنى انا نجزى كل محسن جزاء كذلك الجزاء او الذي جزينا نوحا بإبقاء الذكر الجميل والسلام قولا من ربّ العلمين.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) يعنى انما جزيناه ذلك الجزاء بايمانه وإحسانه وفيه بشارة للمحسنين من امة محمد صلى عليه وسلم.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) يعنى غير المحسنين من قومه عطف على نجّينا-
.
إِذْ جاءَ رَبَّهُ يعنى توجه اليه والظرف متعلق بما فى الشيعة من معنى المشائعة يعنى تابعه وقت مجيئه او بمحذوف وهو اذكر بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٣) من الاشتغال بغير الله تعالى خاليا عن الغير وحبه كما يدل عليه قصة ذبح ابنه لامتثال امر ربه.
إِذْ قالَ بدل من إذ السابقة او ظرف لجاء او لسليم لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) استفهام توبيخ على عبادة الحجارة.
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) هذا الاستفهام ايضا توبيخ بعد توبيخ الهة مفعول به لتريدون ودون الله صفة لالهة وإفكا مفعول له قدم المفعول على الفعل للعناية وقدم عليه المفعول له لان الأهم ان يقرر ان مبنى أمرهم على الافك والباطل وجاز ان يكون إفكا مفعولا به والهة بدل منه على انها افك فى أنفسها مبالغة وان يكون إفكا حالا بمعنى افكين.
فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) اى بمن هو حقيق لكونه ربّا للعالمين حتى تركتم عبادته او أشركتم به غيره ءامنتم من عذابه والمعنى انكار ما يوجب الظن فضلا عن موجب القطع الذي يصد عن عبادته او يجوّز الإشراك به او يقضى الامن من عقابه على طريقة الإكرام وهو كالحجة على ما قبله..
فَنَظَرَ عطف على قال نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) اى فى مواقعها واتصالاتها او فى علمها او فى كتابها وهذا يدل على ان النظر فى علم النجوم وتعليمه وتعلمه كان جائزا فى شريعته لكن صار منسوخا فى شريعتنا حيث قال رسول الله ﷺ من اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد- رواه احمد وابو داود وابن ماجة من حديث ابن عباس ورواه رزين وزاد المنجم كاهن والكاهن ساحر والساحر كافر والمعنى ان ثلاثتهم فى الكفر بمنزلة واحدة ويمكن ان يقال انما يحرم النظر فى علم النجوم إذا أسند الحوادث الى الكواكب واما إذا أسندها الى الله سبحانه وجعل اتصالات النجوم علامات حسب جرى عادة الله على خلق بعض الأشياء عند تلك الاتصالات كما ان الله تعالى يخلق الشفاء غالبا عند شرب الدواء
ومن زعم ان علم النجوم باطل لا اصل له قال ان هذا القول من ابراهيم كان إيهاما منه قال ابن عباس كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروها عليه. وذلك انه أراد ان يكايدهم فى أصنامهم ليلزم الحجة عليهم فى انها غير مستحقة للعبادة وكان لهم من الغد عيد ومجمع فكانوا يدخلون على أصنامهم ويفرشون لهم الفراش ويضعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم الى عيدهم زعموا التبرك عليه فاذا انصرفوا من عيدهم أكلوه وقالوا لابراهيم تخرج غدا هنا الى عيدنا فنظر نظرة فى النّجوم.
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) قال ابن عباس اى مطعون وكانوا يفرون من الطاعون وقال الحسن اى مريض وقال مقاتل وجع فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ لم يكذب ابراهيم الا ثلاث كذبات ثنتين منه فى ذات الله قوله انّى سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا الحديث. وذكر الثالث قوله لسارة أختي وقد مر الحديث فى سورة الأنبياء والمراد بالكذبات التعريضات والتّورية قال الضحاك معناه ساسقم وقيل تأويله ان من فى عنقه الموت سقيم ومنه ما قيل ان رجلا مات فجاءة فقالوا مات وهو صحيح فقال أعرابي اصحيح من الموت فى عنقه وقيل أراد إنى سقيم النفس لكفركم وقد ذكرنا تأويلات قوله بل فعله كبيرهم فى سورة الأنبياء.
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠)
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ اى دخل عليها خفية من روغه الثعلب وأصله الميل بحيلة قال البغوي لا يقال راغ حتى يكون صاحبه مخفيا لذهابه ومجيئه فَقالَ ابراهيم استهزاء أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) الطعام الذي بين ايديكم.
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) بجوابى حال والعامل فيه معنى الفعل فى ما لكم اى ما تصنعون حال كونكم غير ناطقين.
فَراغَ عَلَيْهِمْ اى مال عليهم مستخفيّا والتعدية بعلى للاستعلاء ولان المراد الميل المكروه ضَرْباً منصوب على المصدرية لان فى راغ معنى ضرب او بفعل محذوف اى فضرب ضربا بِالْيَمِينِ (٩٣) اى بيد اليمنى لانه أقوى من اليسار وقيل أراد به القسم الذي سبق منه وهو قوله تالله لاكيدنّ أصنامكم بعد ان تولّوا مدبرين-.
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يعنى اقبل قوم ابراهيم اليه بعد ما رجعوا وراوا أصنامهم مكسورة وسالوا عن كاسرها بقولهم من فعل هذا بآلهتنا انّه لمن الظّالمين وظنوا انه هو حيث قالوا سمعنا فتى يّذكرهم يقال له ابراهيم يَزِفُّونَ (٩٤) قرأ الأعمش وحمزة بضم الياء والباقون بفتحها قيل هما لغتان والمعنى يسرعون وقيل معنى يزفّون بالضم يحملون على الزفيف يعنى كان يحمل بعضهم بعضا على الاسراع.
قالَ ابراهيم أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) اى ما تنحتونه عن الأصنام استفهام للانكار والتوبيخ.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) الجملة حال من فاعل تعبدون والتقيد بالحال انكار بعد الإنكار والظاهر ان ما مصدرية يعنى والحال ان الله خلقكم وخلق أعمالكم فما لكم تتركون عبادة الخالق وتؤثرون عبادة المحتاج إليكم فهذه الاية حجة لنا على ان افعال العباد مخلوقة لله تعالى- وقالت المعتزلة ما موصولة والمعنى خلقكم وما تعملونه يعنى الأصنام فان جوهرها بخلقه تعالى وشكلها وان كان بفعلهم (ولذلك جعل من أعمالهم) فباقداره إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه من الدواعي والعدد او مصدرية والمعنى عملكم بمعنى معمولكم ليطابق ما تنحتون- قلنا الوجه هو الاول لان الأخيرين يقتضى الحذف والمجاز ولا شك ان معمولهم ليس الا الشكل دون جوهر الأصنام وعلى التأويلين الأخيرين ايضا يثبت ان الشكل مخلوق لله تعالى ومعمول اى مكسوب للعباد وهو المقصود.
فَأَرادُوا بِهِ اى بإبراهيم عليه السلام كَيْداً اى شرّا وهو ان يحرّقوه كيلا يظهر عجزهم للعامة فطرحوه فيها موثقا يداه ورجلاه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) اى الأذلين بابطال كيدهم وجعله برهانا واضحا على علو شانه حيث جعل النار عليه بردا وسلاما ولم يحرق منه الا وثاقه وكان ذلك بأرض بابل في زمن نمرود الجبار..
وَقالَ ابراهيم حين خرج من النار سالما ولم يؤمنوا به إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي يعنى اهجر دار الكفر واذهب الى حيث اتجرد فيه بعبادة ربى سَيَهْدِينِ (٩٩) عطف على ما يفهم من قوله فجعلناهم الأسفلين يعنى خرج من النار سالما وقال انّى ذاهب الى ربّى سيهدين الى ما فيه صلاح دينى او الى مقصد قصدته حيث أمرني ربى وهو الشام وحينئذ فرّ ابراهيم هاربا مع سارة من ارض بابل من خوف نمرود وكانت سارة من أجمل نساء عصرها ومرّ بحدود مصر وفرعونها يومئذ صادف بن صادف وفى شرح البخاري لابن الملقن اسمه سنان بن علوان أخو الضحاك وقيل اسمه عمرو بن امرأ القيس فغصب سارة من ابراهيم فحمل صادف الجبار سارة الى قصره وجعل الله الجدر والستور لابراهيم كقشر البيضة ينظر إليها كيلا يقيد قلبه إليها وكان رجلا غيورا- فلمّا همّ بها زلزل القصر فلم يدران ذلك من أجلها فتحول الى القصر الثاني فزلزل به فتحول الى القصر الثالث فزلزل به فقالت سارة هذا من الى ابراهيم رد اليه امرأته. وفى رواية فلمّا مدّيده إليها شلت يده فاستغاث صادف بسارة وطلب الدعاء فدعت سارة فعادت اليد كما كانت فمديده إليها ثانية فصارت مشلولة فطلب الدعاء منها ثانيا وعهد ان لا يفعل لهذا الفعل فدعت السارة فمد يده إليها ثالثة
قلت وذلك حين دعا ابراهيم ربه وقال.
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) اى هب لى ولدا كائنا من الصالحين قال مقاتل لما قدم الأرض المقدسة سال ربه الولد..
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) يعنى ذا إناءة وعقل كذا فى القاموس يعنى إسماعيل عليه السلام وهو الصحيح واليه ذهب ابن عمر وهو قول سعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ومجاهد والربيع بن انس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وهو رواية عن عطاء بن ابى رباح ويوسف بن مامك عن ابن عباس قال المفدى إسماعيل- واخرج الواقدي وابن عساكر من طريق عامر بن سعيد عن أبيه انه كانت سارة تحت ابراهيم فمكثت عنده دهرا لا يرزق ولدا فلمّا رات ذلك وهبت له هاجر امة قبطية فولدت له إسماعيل فغارت من ذلك سارة وقد
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ عطف على جملة محذوفة تقديره فولد له الغلام فلمّا بلغ معه السّعى اى بلغ ان يسعى معه فى اعماله ويعينه وقال الكلبي يعنى العمل لله وهو قول الحسن ومقاتل بن حبان وابن زيد قالوا هو العبادة وقال ابن عباس وقتادة لما بلغ ان يسعى الى الجبل معه وقال مجاهد عن ابن عباس يعنى انه شبّ حتى بلغ سعيه سعى ابراهيم قيل كان سنه ثلاث عشرة سنة وقيل سبع سنين- والظرف اعنى معه متعلق بمحذوف دل عليه السعى لا به لان صلة المصدر لا يتقدمه ولا ببلغ فان بلوغهما لم يكن معا كانّه قال فلمّا بلغ السعى فقيل مع من فقيل معه كذا قيل والاولى ان يقال انه ظرف مستقر حال من السعى قالَ يا بُنَيَّ قرأ حفص بفتح الياء إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل انه راى ذلك ويحتمل انه راى ما هو تعبيره قال محمد بن إسحاق كان ابراهيم إذا زاد هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت بالشام حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعى وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته امر فى المنام ان يذبحه وذلك انه راى ليلة التروية كانّ قائلا يقول له ان الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلمّا أصبح روّى فى نفسه اى فكر من الصباح الى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمى يوم التروية فلما امسى راى فى المنام ثانيا
فَلَمَّا أَسْلَما اى استسلما وانقادا وخضعا لامر الله وقال قتادة اى اسلم ابراهيم ابنه واسلم ابنه نفسه وَتَلَّهُ اى صرعه على الأرض لِلْجَبِينِ (١٠٣) قال ابن عباس
وَنادَيْناهُ قال البغوي الواو زائدة ونادينه جواب لمّا وقال البيضاوي جواب لمّا محذوف تقديره كان ما كان فما ينطق به الحال ولا يحيط به المقال من استبشارهما وشكرهما لله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق بما لم يوفق غيرهما لمثله واظهار فضلهما به على العالمين مع إحراز الثواب الجزيل الى غير ذلك قلت وجاز ان يكون الواو للعطف على جواب لمّا المحذوف تقديره فلمّا أسلما وتلّه للجبين منعنا عنه الذبح وناديناه أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) ان مفسرة لنا دينا.
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا حيث أتيت من الفعل ما كان مقدورا لك والمطلوب من التكليف والابتلاء هو الإتيان بالمقدور لا غير وقيل كان راى فى المنام معالجة الذبح ولم ير اراقة الدم وقد فعل فى اليقظة ما راى فى النوم وعلى هذا قد صدّقت الرّؤيا حقيقة فى معناه وعلى الاول مجاز فان قيل على التقدير الثالث الم يكن ذبح الولد عليه واجبا وانما كان الواجب عليه معالجة اسباب الذبح فما معنى قوله وفديناه فان الفداء لا يتصور الا بعد الوجوب قلنا على التقدير الثاني إذا كان معالجة الذبح واجبا أصالة صار الذبح واجبا دلالة لكونه لازما له
إِنَّ هذا اى الأمر بتذبيح ابنه لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) اى الاختبار الظاهر الذي به يتبين المخلص من غيره او المحنة والصعوبة البينة فانه لا أصعب منها وقيل المراد بالبلاء هو النعمة وهى ان فدى ابنه بالكبش-.
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عطف على نادينا روى انه لمّا سمع ابراهيم النداء نظر الى السماء فاذا هو بجبرئيل ومعه كبش أملح اقرن وقال هذا فداء لابنك فاذبحه دونه فكبر جبرئيل وكبر الكبش وكبر ابراهيم وكبر ابنه فاخذ ابراهيم الكبش واتى المنحر من منى فذبحه والفادي على الحقيقة ابراهيم وانما قال وفديناه لانه المعطى له والأمر به على التجوز فى الفداء او الاسناد عَظِيمٍ (١٠٧) اى عظيم الجثة سمين او عظيم القدر فى الثواب وقال الحسين بن الفضل لانه كان من عند الله قال سعيد بن جبير حق له ان يكون عظيما وقال مجاهد سماه عظيما لانه متقبل- قال البغوي قال اكثر المفسرين كان ذلك فى الجنة أربعين خريفا وأخرجه ابن ابى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وروى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان الكبش الذي ذبحه ابراهيم هو الذي كان قربه ابن آدم هابيل- استدل الحنفية بهذه الاية على انه من نذر بذبح ولده لزمه ذبح شاة قال البيضاوي وليس فيها ما يدل عليه قلت قد ذكرنا المسألة فى سورة الحج فى تفسير قوله تعالى وليوفوا نذورهم «١» وذكرنا ان القياس يقتضى ان لا يلزمه شىء لانه نذر بالمعصية وبه قال ابو يوسف لكن استحسن ابو حنيفة انه يلزمه شاة لان الحقيقة إذا كانت مهجورة شرعا تعين المجاز فلما نذر بذبح الولد مملناه على التزامه بدله اعنى الشاة بدليل هذه الاية حيث جعل الله تعالى كبشا فداء لابن ابراهيم عليهما السلام وبه افتى ابن عباس كما ذكرنا هناك.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ اى على ابراهيم عطف على صدر القصة يعنى جاء ربّه بقلب سليم
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) بتقدير هذا القول مفعولا لتركنا.
كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) تعليل للسلام ولعله طرح عنه انا اكتفاء بذكره مرة فى هذه القصة.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ اى بان نهب لك ولذلك سمى إسحاق نَبِيًّا اى مقضيا نبوته مقدرا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا يقدح فيه عدم المبشر به وقت البشارة فان وجود ذى الحال ليس بشرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار المعنى بالحال فلا حاجة الى تقدير المضاف يجعل عاملا فيهما مثل وبشّرناه بوجود إسحاق اى بان يوجد إسحاق نبيّا من الصالحين ومع ذلك لا يصير نظير قوله تعالى فادخلوها خالدين فان الداخلين مقدرون خلودهم وقت الدخول وإسحاق لم يكن مقدّرا نبوة نفسه وصلاحه حيث ما يوجد- وفى ذكر الصلاح بعد النبوة ثناء عليه وتعظيم لشأنه وايماء بانه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإطلاق.
وَبارَكْنا عَلَيْهِ اى أفضنا بركات الدين والدنيا عليه وقيل باركنا اى على ابراهيم فى أولاده وَعَلى إِسْحاقَ بكون الف بنى من نسله أولهم يعقوب وآخرهم عيسى وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ فى عمله او على نفسه بالايمان والطاعة وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر والمعاصي مُبِينٌ (١١٣) ظاهر ظلمه وفى ذلك تنبيه على ان النسب لا اثر له فى الهدى والضلال وان الظلم فى اعقابهما لا يضرهما-.
وَلَقَدْ مَنَنَّا أنعمنا بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) عطف على ولقد نادينا نوح وبينهما معترضات.
وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما بنى إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) اى من فرعون يسومهم سوء العذاب وقيل من الغرق.
وَنَصَرْناهُمْ يعنى موسى وقومه فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) على فرعون وقومه.
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ اى التوراة الْمُسْتَبِينَ (١١٧) البالغ فى بيان احكام الله وشرائعه.
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) الطريق
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) سبق مثل ذلك-.
وَإِنَّ إِلْياسَ قرأ ابن ذكوان برواية النقاش عن الأخفش بحذف الهمزة والباقون بتحقيقها لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) عطف على ولقد مننّا روى عن عبد الله ابن مسعود قال الياس هو الادريس وفى مصحفه انّ إدريس لمن المرسلين وهذا قول عكرمة وقال الآخرون هو نبى من أنبياء بنى إسرائيل قال ابن عباس هو ابن عم اليسع وقال محمد بن إسحاق هو الياس بن بشر بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران عليه السلام وقال ايضا محمد بن إسحاق والعلماء من اصحاب الاخبار لمّا قبض الله عزّ وجلّ قبله نبيّا عظمت الأحداث فى بنى إسرائيل وظهر الشرك ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله فبعث الله إليهم الياس نبيّا وكانت الأنبياء من بنى إسرائيل يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة- وبنوا إسرائيل كانوا متفرقين فى ارض الشام وكان سبب ذلك ان يوشع بن نون لمّا فتح الشام بوأها بنى إسرائيل وقسمها بينهم فاحل سبطا منهم بعلبك ونواحيها وهم الذين كان منهم الياس فبعثه الله إليهم نبيّا وعليهم يومئذ ملك يقال له أجب فداخل قومه واجبرهم على عبادة الأصنام وكان يعبد صنما يقال له بعل وكان طوله عشرون ذراعا ولها اربعة وجوه- فجعل الياس يدعوهم الى عبادة الله عزّ وجلّ وهم لا يسمعون منه شيئا الا ما كان من امر الملك فانه صدقه وأمن به فكان الياس يقوّم امره ويسدّده ويرشده- وكانت لاجب امراة يقال لها ازبيل فكان يستخلفها على رعيته إذا كان غائبا فى غزاة وغيرها وكانت تبرز وتقضى للناس وكانت قتّالة للانبياء يقال هى التي قتل يحيى بن زكريا عليهما السلام- وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتم إيمانه وكان قد خلص من يدها ثلاث مائة نبى كانت تريد قتل كل واحد منهم إذا بعث سوى الذين قتلتهم وكانت فى نفسها غير محصنة وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بنى إسرائيل وقتلت كلهم بالاغتيال وكانت معمرة يقال انها ولدت سبعين ولدا
الملك الى عبادة البعل وارتقى الياس الى أصعب جبل وأشمخه «الشامخ العالي- منه ره» فدخل مغارة فيه يقال انه بقي
يظهر لهم فالهمه الله التوقف والدعاء فقال اللهم ان كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لى فى البروز إليهم وان كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم فما استتم قوله حتى حصبوا بالنار «اى رموا بها- منه ره» من فوقهم فاحترقوا أجمعين قال فبلغ أجب وقومه الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء «اى لم يكف ولم يرد- منه ره» واحتال ثانيا فى امر الياس وقيض اليه فئة اخرى مثل عددهم أولئك أقوى منهم وأمكن فى الحيلة والرأى فاقبلوا حتى توقلوا «اى صعدوا» قلل الجبال متفرقين وجعلوا ينادون يا نبى الله انّا نعوذ بالله بك من غضب الله وسطواته «السطوة البطش والقهر قاموس منه ره» انا لسنا كالذين أتوك قبلنا وان أولئك فرقة نافقوا
فلمّا طال الأمر على الياس ومد الكون فى الجبال واشتاق الى الناس نزل من الجبل وانطلق حتى نزل بامراة من بنى إسرائيل وهى أم يونس بن متى ذى النون استخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود مرضع فكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها «اى تخدمه بما لها- منه ره» - ثم ان الياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال فاحب اللحوق بالجبل فخرج وعاد الى مكانه فجزعت أم يونس لفراقه وأوحشها فقده ثم لم تلبث الا يسيرا حتى مات ابنها يونس حين فطمته فعظمت مصيبتها فخرجت فى طلب الياس ولم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ووجدته وقالت له انى قد فجعت بعدك بموت ابني فعظمت فيه مصيبتى واشتد لفقده بلائي وليس لى ولد غيره فارحمنى وادع الله جلّ جلاله ليحيى لى ابني وانى تركته مسبّحى لم ادفنه قد أخفيت مكانه- فقال لها الياس ليس هذا مما أمرت به وانّما انا عبد مأمورا عمل بما يأمرنى ربى فجزعت المرأة وتضرعت واعطف الله قلب الياس إليها فقال لها متى مات ابنك قالت مند سبعة ايام فانطلق الياس معها وسار سبعة ايام اخرى حتى انتهى الى منزلها فوجد ابنها ميتا له اربعة عشر يوما
ثم ان الله تعالى اوحى الى الياس انك قد أهلكت كثيرا من الخلق فمن لم يعص من البهائم والدوابّ والطير والهوام لحبس المطر- فيزعمون والله اعلم ان الياس قال يا رب دعنى أكون انا الذي ادعو لهم وآتاهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم ان يرجعوا او ينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك فقيل له نعم- فجاء الياس الى بنى إسرائيل فقال انكم قد هلكتم جوعا وجهدا وهلكت البهائم والطير والدوابّ والهوام والشجر بخطاياكم وانكم على باطل فان كنتم تحبون ان تعلموا ذلك فاخرجوا باصنامكم علىّ فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون وان هى لم تفعل علمتم انكم على باطل فنزعتم ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قالوا أنصفت فخرجوا باوثانهم فدعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ثم قالوا لالياس انا قد أهلكنا فادع الله لنا فدعا لهم الياس ومعه اليسع بالفرج فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون فاقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله عليهم المطر فاغاثهم وحييت بلادهم فلمّا كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد ولم ينزعوا عن كفرهم فاقاموا على أخبث ما كانوا.
فلمّا راى ذلك الياس دعا ربه تعالى ان يريحه منهم فقيل له فيما يزعمون انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه الى موضع كذا وكذا فما جاءك من شىء فاركبه ولا تهبه فخرج الياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي امر به اقبل فرس من نار وقيل لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فوثب عليه الياس فانطلق به الفرس- فناداه اليسع يا الياس ما تأمرنى به فقذف اليه الياس بكسائه من الجوّ الأعلى وكان ذلك علامة استخلافه إياه على بنى إسرائيل فكان ذلك اخر العهد به ورفع الله اليأس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسيا ملكيّا سماويّا ارضيّا وسلط الله على أجب الملك وقومه عدو الهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم فقتل أجب وامرأته ازبيل فى بستان مزدكى فلم يزل جيفتاهما ملقاتين فى تلك الجنينة
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) عذاب الله.
أَتَدْعُونَ تعبدون بَعْلًا اسم صنم كانوا يعبدونها سميت بها مدينتهم بعلبك وقال مجاهد وعكرمة وقتادة البعل الرب بلغة اهل اليمن وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) فلا تعبدونه وجملة اتدعون الى آخره بيان او بدل لما قبله.
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص «وخلف- ابو محمد» بالنصب على البدل والباقون بالرفع على الاستئناف.
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) فى العذاب وانما اطلق اكتفاء بالقرينة او لان الإحضار المطلق مخصوص بالشرّ عرفا.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) مستثنى من فاعل كذّبوه لا من المحضرين لفساد المعنى وقيل استثناء منقطع او متصل من المحضرين ان كان المحضرين من قبيل توصيف الكل بوصف البعض كما فى قوله تعالى ايّتها العير انّكم لسارقون فحينئذ يكون شاملا للمستثنى منه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) لغة فى الياس كسيناء وسينين وإسماعيل وسمعين وميكائيل وميكائين وقال الفراء هو جمع أراد الياس واتباعه من المؤمنين فيكون بمنزلة الأشعريين والأعجمين بالتخفيف لكن فيه ان العلم إذا جمع يجب تعريفه باللام وقرا نافع وابن عامر «ويعقوب- وابو محمد» ال ياسين بفتح الهمزة شبعة وكسر اللام مقطوعة لانها فى المصحف مفصولة فيكون ياسين أبا الياس وجاز ان يكون ياسين اسما لالياس والمراد بال ياسين هو واتباعه- وما قيل ان ياسين محمد ﷺ او القران او غيره من الكتب السماوية لا يناسب نظم سائر القصص وما قبله وما بعده من قوله.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) من العذاب الذي نزل على قومه.
إِلَّا عَجُوزاً وهى امرأته كائنة فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) الباقين فى العذاب.
ثُمَّ دَمَّرْنَا
أهلكنا الْآخَرِينَ
(١٣٦) من قومه.
وَإِنَّكُمْ
يا اهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
اى على منازلهم فى اسفاركم الى الشام فان سدوم فى طريقه مُصْبِحِينَ
(١٣٧) داخلين فى الصباح.
وَبِاللَّيْلِ
او مساءً والمعنى نهارا او ليلا ولعلها وقعت قريبا من موضع النزول فيمر المرتحل عنه صباحا والقاصد لها مساءً ان كان السير نهارا او بالعكس ان كان السير ليلا أَفَلا تَعْقِلُونَ
(١٣٨) يعنى ألستم ذوى العقول فتعتبروا والجملة معترضة-.
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ
اى هرب وأصله هرب العبد من السيد لكن لمّا كان هربه من قومه بلا اذن ربه حسن إطلاقه عليه إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
(١٤٠) اخرج عبد الرزاق واحمد فى الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر عن طاؤس انه لمّا وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم (يعنى لمّا تأخر عنهم العذاب) قبل ان يأمره الله به فركب السفينة فوقفت فقال الملاحون هاهنا عبد ابق فاقترعوا فخرجت عليه فقال انا الآبق ورمى بنفسه فى الماء وذكر البغوي قول ابن عباس ووهب نحوه وذكر انهم اقترعوا ثلاثا فوقعت القرعة على يونس- قال البغوي وروى انه لمّا وصل الى البحر كانت معه امرأته وابنان له فجاء مركب وأراد ان يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه وبين المركب ثم جاءت موجة اخرى وأخذت ابنه الأكبر وجاء ذئب وأخذ ابن الأصغر فبقى فريدا فجاء مركب اخر فركبه فقعد ناحية من القوم فلمّا مرت السفينة فى البحر ركدت فاقترعوا- وقد ذكرنا القصة فى سورة يونس فذلك قوله تعالى.
فَساهَمَ
فقارع والمساهمة إلقاء السهام على جهة القرعة فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
(١٤١) فصار من المغلوبين بالقرعة وأصله المزلق عن مقام الظفر.
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ اى اخذه
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) قال ابن عباس من المصلين وقال وهب من العابدين قال الحسن ما كانت له صلوة فى بطن الحوت ولكنه قدم عملا صالحا قال الضحاك شكر الله له طاعته القديمة- قلت ويمكن ان يكون هو مصليّا فى بطن الحوت بالاشارة لكونه حيّا مفيقا والاولى ان يقال ولولا انه كان من المسبحين فى بطن الحوت يعنى ذاكرا له بقوله لا اله الّا أنت سبحانك انّى كنت من الظّالمين كما نطق به القران.
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) يعنى لمات فى بطنه وصار له قبرا فيبقى اجزاؤه مختلطا بأجزاء الحوت حيثما كان فى علم الله الى يوم القيامة.
فَنَبَذْناهُ بان حملنا الحوت على لفظه بِالْعَراءِ اى المكان الخالي مما يغطيه من الشجر ونحوه وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) كالفرخ الممعط وقيل كان قد بلى لحمه ورق عظمه ولم يبق له قوة واختلفوا فى مدة لبثه فى بطن الحوت قال البغوي قال مقاتل بن حبان ثلاثة ايام وكذا اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة وقال البغوي قال عطاء سبعة أيام كذا اخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير وقال البغوي قال الضحاك عشرين يوما وقال السدىّ والكلبي ومقاتل بن سليمان أربعين يوما كذا اخرج الحاكم عن ابن عباس وابن ابى شيبة واحمد فى الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن ابى مالك وعبد الرزاق وابن مردوية عن ابن جريج وعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة واخرج عبد بن حميد فى زوائد الزهد انه بعض يوم واخرج ابن ابى حاتم والحاكم والبغوي عن الشعبي انه التقمه ضحى ولفظه عشية.
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ اى فوقه مظلة شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) قال البغوي قال الحسن ومقاتل كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض ليس له ساق ولا يبقى على الشتاء نحو القرع والقثاء والبطيخ فهو يقطين وقال كان ذلك اليقطين بساق على خلاف العادة انتهى وهو يفعيل من قطن بالمكان إذا قام به قلت وكان قرعا تغطه من أوراقها
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ قال البغوي قال قتادة أرسل الى نينوى من ارض الموصل قبل ان يصيبه ما أصابه وكذا اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عنه وعن الحسن والمعنى وقد أرسلناه الى مائة الف وقيل معناه أرسلناه إليهم ثانيا بعد خروجه من بطن الحوت وقيل الى قوم آخرين أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) قال مقاتل والكلبي معناه بل يزيدون وقال ابن عباس معناه ويزيدون او بمعنى الواو كقوله تعالى عذرا او نذرا وقال الزجاج او هاهنا على أصله معناه او يزيدون على تقديركم وظنكم كالرجل يرى قوما فيقول هؤلاء الف او يزيدون فالشك على تقدير المخلوقين واختلفوا فى مبلغ تلك الزيادة فقال ابن عباس ومقاتل كانوا عشرين الفا رواه الترمذي عن أبيّ بن كعب عن رسول الله ﷺ قال يزيدون عشرون الفا وقال الحسن بضعا وثلاثين الفا وقال سعيد بن جبير سبعين الفا.
فَآمَنُوا يعنى الذين أرسل إليهم يونس أمنوا به بعد معائنة العذاب فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) الى أجلهم المسمى ولعله انما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص تفرقة بينهما وبين اصحاب الشرائع الكبر واولى العزم من الرسل او اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور فى اخر السورة-.
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) عطف على قوله فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا امر رسول الله ﷺ اولا عن وجه انكارهم
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) فيه استهزاء واشعار بانهم لفرط جهلهم يحكمون به كانهم شاهدوا خلقهم.
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ اى كذبهم الذي هو ظاهر البطلان وينفيه البرهان لَيَقُولُونَ (١٥١).
وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) عند جميع العقلاء قطعا.
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) قرأ ابو جعفر بهمزة الوصل المكسورة عند الابتداء وإسقاطها فى الدرج وهى رواية عن نافع اما على حذف همزة الاستفهام من اللفظ او على الاخبار بتقدير قالوا يعنى انّهم لكاذبون حيث قالوا اصطفى البنات وقرأ العامة بهمزة مفتوحة للاستفهام داخلة على همزة الوصل إنكارا واستبعادا بتقدير يقال لهم اصطفى البنات على البنين.
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) ان لله البنات ولكم البنين والاصطفاء أخذ صفوة الشيء والبنات اخس الصنفين.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) عطف على محذوف تقديره أفلا تتفكرون فلا تتذكّرون انه تعالى منزه عن ذلك حذفت احدى التاءين.
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) حجة واضحة نزلت عليكم من الله تعالى بان الملائكة
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي منزل من الله مخبر بان الملائكة بناته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(١٥٧) فى دعواكم-.
وَجَعَلُوا حال من الضمير المنصوب فى استفتهم بتقدير قد اى استفتهم وقد جعلوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً اخرج جويبر عن ابن عباس انه قال نزلت هذه الاية فى ثلاثة احياء قريش سليم وخزاعة وجهينة قال مجاهد وقتادة أراد بالجنّة الملائكة سموها جنّة لاجتنانهم عن الابصار قلت ذكرهم بهذا الاسم تحقيرا لشأنهم عن مرتبة البنوة لله سبحانه وقال ابن عباس حيى من الملائكة يقال لهم الجن ومنهم إبليس قالوا هم بنات الله وقال الكلبي قالوا (لعنهم الله) ان الله تزوج من الجن فخرج منها الملائكة تعالى الله عن ذلك وقال بعض قريش ان الملائكة بنات الله فقال ابو بكر الصديق فمن أمهاتهم قالوا سروات الجن كذا اخرج البيهقي فى شعب الايمان عن مجاهد وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ جملة معترضة إِنَّهُمْ اى قائلى هذا القول او الانس مطلقا او الجنة بمعنى يعم الملائكة وغيرهم لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) فى النار.
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) اى عما يصفونه به من الولد والنسب جملة معترضة اخرى.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) استثناء متصل من ضمير انهم ان أريد به ما يعم المؤمن والكافر او منقطع ان أراد به القائلون بالولد.
فَإِنَّكُمْ يا اهل مكة التفات من الغيبة الى الخطاب والفاء قيل جزائية
ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ اى على الله متعلق بقوله بِفاتِنِينَ (١٦٢) اى بمضلين الناس بالإغواء أحدا.
إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) فى علم الله يعنى من سبق لهم فما علم الله القديم الشقاوة-.
وَما مِنَّا معشر الملائكة أحد إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) هذه الجملة بتقدير القول معطوف على قوله تعالى ولقد علمت الجنّة تقديره وقالت ما منّا الّا له مقام معلوم فى العبودية او فى السماوات يعبد الله فيه قال رسول الله ﷺ أطت «١» السماء وحق لها ان تاط والذي نفسى بيده ما فيها موضع اربعة أصابع الا وملك واضع جبهته ساجدا لله- رواه البغوي او مقام معلوم فى مراتب القرب لا يتجاوز عنه وكذا قال السدى الّا له مقام معلوم فى القربة والمشاهدة وقال ابو بكر الوراق الّا له مقام معلوم يعبد الله عليه كالخوف والرجاء والمحبة والرضاء- قلت واما الانس فلا يزال يرتقى على معارج القرب قال رسول الله ﷺ حكاية عن الله سبحانه ما يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته الحديث. رواه البخاري عن ابى هريرة واما الملائكة فلا يتجاوزون عن مقاماتهم عن زرارة بن ابى اوفى ان رسول الله ﷺ قال لجبرئيل هل رايت ربّك فانتفض جبرئيل وقال يا محمد ان بينى وبينه سبعين حجابا من نور لو دنوت من بعضها لاحترقت هكذا فى المصابيح ورواه ابو نعيم فى الحلية عن انس الا انه لم يذكر فانتفض جبرئيل عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ ان الله خلق اسرافيل منذ يوم خلقه صافا قدميه لا يرفع بصره بينه وبين الرب تبارك وتعالى سبعون نورا ما منها من نور يدنو منه الا احترق- رواه الترمذي وصححه وهذه الاية رد على عابدى الملائكة نظيره قوله تعالى لقد كفر الّذين قالوا انّ الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربّى وربّكم انّه من يّشرك بالله
وَإِنَّا معشر الملائكة لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) اخرج ابن ابى حاتم عن يزيد بن مالك قال كان الناس يصلون متبدين فانزل الله وانّا لنحن الصّافّون فامرهم ان يصفوا- واخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه قال الكلبي صفوف الملائكة فى السماء للعبادة كصفوف الناس فى الأرض يعنى فى الصلاة روى مسلم عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله ﷺ الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الاولى وينراصون فى الصف- والمعنى وانا لنحن صافون أقدامنا فى أداء الطاعة.
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) اى المنزهون عما لا يليق به كاتخاذ الولد ونحو ذلك- وما فى انّ واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص انما هو للرد على من زعم انهم بنات الله والحصر إضافي بالنسبة الى الكفار يعنى لسنا كهيئة الكفار مشركين مصنعين فى العبادة والتسبيح.
وَإِنْ كانُوا وانهم يعنى كفار مكة كانوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
لَوْ ثبت أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) اى كتابا من الكتب التي أنزلت عليهم.
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) يعنى لاخلصنا له العبادة ولم نخالف.
فَكَفَرُوا بِهِ اى بالذكر الذي هو اشرف الاذكار لمّا جاءهم فَسَوْفَ الفاء للسببية فان الكفر سبب للوعيد يَعْلَمُونَ (١٧٠) عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الانتقام ان مخففة للمثقلة واللام هى فارقة وفى ذلك ايماء بانهم كانوا يقولون مؤكدين للقول جازمين فيه فكم بين أولهم وآخرهم.
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) بيان للكلمة ولذلك لم يعطف عليه قلت وانما يظهر التخلف لاجل شوم العصيان قال الله تعالى انّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا وقال الله تعالى.
إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ اى اعرض عنهم حَتَّى حِينٍ (١٧٤) قال ابن عباس يعنى الموت وقيل يوم يأتيهم العذاب فى الدنيا وقال مجاهد يوم بدر وكذا اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم
وَأَبْصِرْهُمْ مغلوبا مقتولا معذّبا- فيه دلالة على انه كائن قريب كانّه قدامه فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) ما قضينا لك من التأييد والنصرة فى الدنيا والثواب فى الاخرة وما يحل بهم فى الدارين وسوف للوعيد لا للتبعيد- اخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى الله عنهما انه متى نزل فسوف يبصرون قالوا متى هذا العذاب واخرج جويبر عنه نحوه فنزل.
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) استفهام للانكار والتوبيخ والفاء للعطف على محذوف تقديره أيجهلون شأننا فبعذابنا يستعجلون.
فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ بفنائهم قال الفراء العرب يكتفى بذكر الساحة من القوم- او المعنى إذ نزل الرسول ﷺ مع جيشه بساحة الكفار فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) اى صباحهم مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب ولما كثرت الهجوم والغارة فى الصباح عادة سموا الغارة صباحا وان وقعت فى وقت اخر عن انس بن مالك رضى الله عنه ان رسول الله ﷺ حين خرج الى خيبر أتاها ليلا وكان إذا جاء قوما بليل لم يغز حتى يصبح- قال فلمّا أصبح خرجت يهود خيبر بمساحيها «١» ومكاتلها «المكتل الزنبيل الكبير- نهاية منه ره» فلمّا راوه قالوا محمد والله والخميس فقال رسول الله ﷺ الله اكبر خربت خيبر انا إذا نزلنا بساحتهم فسآء صباح المنذرين رواه البغوي وفى الصحيحين عن انس ان النبي ﷺ كان إذا غزابنا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر إليهم فان سمع اذانا كفّ عنهم وان لم يسمع اذانا أغار عليهم فخرجنا الى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلمّا أصبح ولم يسمع اذانا ركب وركبت خلف ابى طلحة وان قدمى لتمس قدم نبي الله ﷺ قال فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم فلمّا راوا النبي ﷺ قالوا محمد والله محمد والخميس فلجاءوا الى الحصن فلمّا راهم رسول الله ﷺ قال الله اكبر الله اكبر خربت خيبر انا إذا نزلنا بساحة قوم فسآء صباح المنذرين ثم كرر الله سبحانه تأكيد الوعيد العذاب فقال.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ العذاب إذا نزل بهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) فيه اطلاق بعد تقييد للاشعار
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ اى الغلبة والقوة أضاف الرب الى العزة لاختصاص به إذ لا عزة الا له او لمن انتسب اليه رسوله والمؤمنون به- وفيه اشعار بان صفاته تعالى مقتضيات لذاته- واجبات بالغير اى بذاته تعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) اى عما يصفونه به المشركون ممّا حكى فى السورة وقد أدرج فيه جملة صفاته السلبية والثبوتية مع الاشعار بالتوحيد.
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) الذين وصفوه على ما هو عليه وهذا تعميم للرسل بالتسليم.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢) على ما هدى المؤمنين الى معرفة ذاته وصفاته بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصرة الأنبياء وتدمير الأعداء عن على كرم الله وجهه انه قال من أحب ان يكتال بالمكيال الاوفى من الاجر يوم القيامة فليكن اخر كلامه من مجلسه سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين- رواه البغوي فى تفسيره وعبد بن رنجوية فى ترغيبه والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله تعالى وسلم على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى اصل طاعته أجمعين تمت تفسير سورة الصّافّات من التفسير المظهرى (ويتلوه ان شاء الله تعالى تفسير سورة ص) فى يوم السبت الثامن والعشرين من الجمادى اوّل من السنة السابعة بعد الف سنة ١٢٠٧ ومائتين بتصحيح مولانا غلام نبى تونسوى الراجي الى مغفرة ربه القوى.