تفسير سورة ص

الدر المصون
تفسير سورة سورة ص من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

قرأ العامَّةُ بسكونِ الدالِ مِنْ «صادْ» كسائرِ حروف التهجِّي في أوائلِ السُور. وقد مرَّ ما فيه. وقرأ أُبَيٌّ والحسنُ وابنُ أبي إسحاق وابنُ أبي عبلة وأبو السَّمَّال بكسرِ الدال مِنْ غير تنوينٍ. وفيها وجهان، أحدُهما: أنه كَسْرٌ لالتقاءِ الساكنين، وهذا أقربُ. والثاني: أنه أمرٌ من المصاداة وهي المعارَضَةُ ومنه صَوْتُ الصَّدى لمعارضتِه لصوتِك وذلك في الأماكن الصلبةِ الخاليةِ والمعنى: عارِضِ القرآنَ بعملك، فاعمَلْ بأوامرِه وانتهِ عن نواهيه. قاله الحسن. وعنه أيضاً: أنه مِنْ صادَيْتُ أي: حادَثْتُ. والمعنى: حادِثِ الناسَ بالقرآن.
وقرأ ابن أبي إسحاق كذلك، إلاَّ أنه نَوَّنَه وذلك على أنَّه مجرورٌ بحرفِ قَسَمٍ مقدرٍ، حُذِفَ وبقي عَمَلُه كقولِهم: «اللَّهِ لأفعلَنَّ» بالجرِّ. إلاَّ أنَّ الجرَّ يَقِلُّ في غيرِ الجلالة، وإنما صَرَفه ذهاباً به إلى معنى الكتاب والتنزيل. وعن الحسنِ
343
أيضاً وابن السَّمَيْفَعِ وهارون الأعور صادُ بالضمِّ من غيرِ تنوينٍ، على أنه اسمٌ للسورةِ، وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذه صاد. ومُنِعَ من الصرف للعَلميَّة والتأنيث، وكذلك قرأ ابن السَّمَيْفَع وهارون: قاف ونون بالضمِّ على ما تقَّدمَ.
وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةِ محبوب «صادَ» بالفتح مِنْ غير تنوينٍ. وهي تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ. البناءَ على الفتح تخفيفاً ك أين وكيف، والجرَّ بحرفِ القسمِ المقدرِ، وإنما مُنع من الصرف للعلميَّةِ والتأنيثِ كما تقدَّم، والنصبَ بإضمارِ فِعْل أو على حذفِ حَرْفِ القَسم نحوَ قولِه:
٣٨٢٩ -.......................... فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثريدُ
وامتنعَتْ من الصرف لِما تقدَّم، وكذلك قرآ: «قاف» و «نون» بالفتح فيهما، وهما كما تقدَّم، ولم أحفَظْ التنوينَ مع الفتح والضم.
قوله: «والقرآنِ» قد تقدَّم مثلُه في ﴿يس والقرآن﴾ [يس: ١-٢]، وجوابُ القسم فيه أقوالٌ كثيرةٌ، أحدها: أنه قولُه: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ﴾ [ص: ٦٤]، قاله الزجاج والكوفيون غيرَ الفراءِ. قال الفراء: «لا نجده مستقيماً لتأخيره جداً عن قولِه:» والقرآن «. الثاني: أنه قولُه:» كم أهلَكْنا «والأصلُ: لكم أهلَكْنا، فحذف اللامَ كما حَذَفها
344
في قولِه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشمس: ٩] بعد قولِه: ﴿والشمس﴾ لَمَّا طال الكلام. قاله ثعلبٌ والفراء. الثالث: أنه قولُه: ﴿إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل﴾ [ص: ١٤] قاله الأخفش. الرابع: أنه قولُه:» صاد «؛ لأنَّ المعنى: والقرآنِ لقد صدق محمد. قاله الفراء وثعلب أيضاً. وهذا بناءً منهما على جوازِ تقديمِ جوابِ القسم، وأنَّ هذا الحرفَ مُقْتَطَعٌ مِنْ جملةٍ هو دالٌّ عليها. وكلاهما ضعيفٌ. الخامس: أنه محذوفٌ. واختلفوا في تقديره، فقال الحوفي: / تقديرُه: لقد جاءَكم الحقُّ، ونحوُه. وقَدَّره ابن عطية: ما الأمرُ كما يَزْعمون. والزمخشري: إنه لَمُعْجِزٌ.
والشيخ: إنَّك لمن المُرْسَلين. قال: «لأنه نظيرُ ﴿يس * والقرآن الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ [يس: ١-٣] وللزمخشري هنا عبارةٌ بشعةٌ جداً. وهي:»
فإنْ قلتَ: قولُه: ص والقرآنِ ذي الذكر بل الذين كفروا في عِزَّةٍ وشِقاقٍ كلامٌ ظاهرُه متنافٍ غيرُ منتظِمٍ. فما وجهُ انتظامِه؟ قلت: فيه وجهان، أَنْ يكونَ قد ذكر اسمَ هذا الحرفِ من حروفِ المعجمِ على سبيلِ التحدِّي والتنبيه على الإِعجازِ كما مَرَّ في أَول الكتاب، ثم أتبعه القسمَ محذوفَ الجواب
345
لدلالةِ التحدِّي عليه، كأنه قال: والقرآنِ ذي الذِّكْرِ إنه لَكلامٌ مُعْجِزٌ. والثاني: أَنْ يكونَ «صاد» خبرَ مبتدأ محذوفٍ على أنها اسمٌ للسورةِ كأنه قال: هذه صاد. يعني هذه السورةَ التي أعْجَزَتِ العربَ والقرآنِ ذي الذِّكْر، كما تقول: «هذا حاتِمٌ واللَّهِ» تريد: هو المشهورُ بالسَّخاءِ واللَّهِ، وكذلك إذا أقسمَ بها كأنَّه قال: أَقْسَمْتُ بصاد والقرآنِ ذي الذِّكْر إنه لَمُعْجِزٌ. ثم قال: بل الذين كفروا في عِزَّةٍ واستكبارٍ عن الإِذعانِ لذلك والاعترافِ، وشِقاقٍ لله ورسوله، وإذا جَعَلْتَها مُقْسَمَاً بها، وعَطَفْتَ عليها ﴿والقرآن ذِي الذكر﴾ جازَ لك أَنْ تريدَ بالقرآنِ التنزيلَ كلَّه، وأَنْ تريدَ السورةَ بعينِها. ومعناه: أُقْسِمُ بالسورةِ الشريفة: والقرآنِ ذي الذِّكْر كما تقولُ: مَرَرْتُ بالرجلِ الكريم والنَّسْمَةِ المباركة، ولا تريد بالنَّسْمَةِ غيرَ الرجلِ «.
346
قوله: ﴿بَلِ الذين كَفَرُواْ﴾ : إضْرابُ انتقالٍ من قصةٍ إلى أخرى. وقرأ الكسائيُّ في روايةِ سَوْرة وحماد بن الزبرقان وأبو جعفر والجحدري «في غِرَّةٍ» بالغَيْن معجمةً والراءِ. وقد رُوي أن حماداً الراوية قرأها كذلك تصحيفاً، فلمَّا رُدَّتْ عليه قال: «ما ظنَنْتُ أنَّ الكافرين في عِزَّة» وهو وهمٌ منه؛ لأن العِزَّةَ المُشارَ إليها حَمِيَّةُ الجاهلية. والتنكيرُ في «عزَّة وشِقاق» دلالةً على شِدَّتِهما وتَفاقُمهما.
قوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ :«كم» مفعولُ «أهلَكْنا»، و «مِنْ قَرْنٍ» تمييزٌ، و «مِنْ قبلِهم» لابتداء الغاية.
346
قوله: «ولات حين» هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل «نادَوْا» أي: استغاثوا، والحالُ أنه لا مَهْرَبَ ولا مَنْجى.
وقرأ العامَّةُ «لاتَ» بفتح التاء و «حينَ» بالنصبِ، وفيها أوجهٌ، أحدها: - وهو مذهبُ سيبويه - أنَّ «لا» نافيةٌ بمعنى ليس، والتاءُ مزيدةٌ فيها كزيادتِها في رُبَّ وثَمَّ، ولا تعملُ إلاَّ في الأزمان خاصةً نحو: لاتَ حينَ، ولات أوان، كقوله:
٣٨٣٠ - طلبُوا صُلْحَنا ولاتَ أَوانٍ فَأَجَبْنا أنْ ليسَ حينَ بقاءِ
وقول الآخر:
٣٨٣١ - نَدِمَ البُغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ والبَغيُ مَرْتَعٌ مُبْتَغِيْه وخيمُ
والأكثرُ حينئذٍ حَذْفُ مرفوعِها تقديرُه: ولات الحينُ حينَ مناصٍ. وقد يُحْذَفُ المنصوبُ ويبقى المرفوعُ. وقد قرأ هنا بذلك بعضُهم كقوله:
347
٣٨٣٢ - مَنْ صَدَّ عَنْ نيرانِها فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَراحُ
أي: لا براحٌ لي. ولا تعملُ في غيرِ الأحيان على المشهور، وقد تُمُسِّك بإعمالها في غير الأحيان بقولِه:
٣٨٣٣ - حَنَّتْ نَوارُ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ وبدا الذي كانَتْ نَوارُ أجَنَّتِ
فإنَّ «هَنَّا» مِنْ ظروفِ الأمكنةِ. وفيه شذوذٌ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ، أحدها: عَمَلُها في اسمِ الإِشارةِ وهو معرفةٌ ولا تعملُ إلاَّ في النكراتِ. الثاني: كونُه لا يَتَصَرَّفُ. الثالث: كونُه غيرَ زمانٍ. وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنَّ «هَنَّا» قد خرجَتْ عن المكانية واسْتُعْمِلت في الزمان، كقولِه تعالى: ﴿هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون﴾ [الأحزاب: ١١] وقولِ الشاعر:
٣٨٣٤ -............................ فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ
كما تقدم في سورة الأحزاب؛ إلاَّ أنَّ الشذوذَيْن الآخرَيْن باقيان. وتأوَّل بعضُهم البيتَ أيضاً بتأويلٍ آخرَ: وهو أَنَّ «لاتَ» هنا مهملةٌ لا عملَ لها و «هَنَّا» ظرفٌ خبرٌ مقدمٌ/ و «حَنَّتِ» مبتدأ بتأويلِ حَذْفِ «أنْ» المصدرية تقديرُه: أنْ حَنَّتْ نحو «تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَراه». وفي هذا تكلُّفٌ وبُعْدٌ. إلاَّ أنَّ فيه الاستراحةَ من الشذوذاتِ المذكورات أو الشذوذَيْن.
348
وفي الوقفِ عليها مذهبان: المشهورُ عند العربِ وجماهيرِ القراءِ السبعةِ بالتاءِ المجبورةِ إتْباعاً لمرسومِ الخطِّ الشريفِ. والكسائيُّ وحدَه من السبعةِ بالهاء. والأولُ مذهبُ الخليلِ وسيبويه والزجاج والفراء وابن كَيْسان، والثاني مذهبُ المبرد. وأغرب أبو عبيد فقال: الوقفُ على «لا» والتاءُ متصلةٌ ب «حين» فيقولون: قُمْتُ تحينَ قمتَ، وتحينَ كان كذا فعلتُ كذا. وقال: «رأيتها في الإِمام كذا:» ولا تحين «متصلة. وأنْشَدَ على ذلك أيضاً قولَ الشاعر:
٣٨٣٥ - العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ والمُطْعِمون زمانَ لا من مُطْعِمِ
والمصاحفُ إنما هي «ولاتَ حين»
. وحَمَلَ العامَّةُ ما رآه على أنه ممَّا شَذَّ عن قياسِ الخَطِّ كنظائرَ له مَرَّتْ لك.
وأمَّا البيتُ فقيل: إنَّه شاذٌّ لا يُلْتَفَتُ إليه. وقيل: إنه إذا حُذِفَ الحينُ المضافُ إلى الجملة التي فيها «لات» جاز أَنْ تُحْذَفَ «لا» وحدها ويُسْتَغْنى عنها بالتاء. والأصل: العاطفونَ حين لات حينَ لا مِنْ عاطفٍ، فحذف «حين» الأول و «لا» وحدَها، كما أنه قد صَرَّح بإضافة «حين» إليها في قول الآخر:
349
٣٨٣٦ - وذلك حينَ لاتَ أوانَ حِلْمٍ .................................
ذكر هذا الوجهَ ابنُ مالك، وهو متعسِّفٌ جداً. وقد تُقَدَّرُ إضافةُ «حين» إليها مِنْ غيرِ حَذْفٍ لها كقولِه:
٣٨٣٧ - تَذَكَّرَ حُبَّ ليلى لاتَ حينَا ..............................
أي: حين لاتَ حين. وأيضاً فكيف يصنع أبو عبيدٍ بقوله:
٣٨٣٨ -............................. ................. ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ
[وقوله] :
٣٨٣٩ -.............. لات أوانَ........... ...........................
فإنه قد وُجِدت التاءُ مع «لا» دون «حين» ؟
الوجه الثاني من الأوجه السابقة: أنها عاملةٌ عملَ «إنَّ» يعني أنها نافيةٌ
350
للجنسِ فيكون «حينَ مناص» اسمَها، وخبرُها مقدر تقديرُه: ولات حينَ مناصٍ لهم، كقولك: لا غلامَ سفرٍ لك، واسمها معربٌ لكونِه مضافاً.
الثالث: أنَّ بعدها فعلاً مقدراً ناصباً ل «حين مَناص» بعدها أي: لات أَرى حينَ مَناصٍ لهم بمعنى: لستُ أرى ذلك ومثلُه: ﴿لاَ مَرْحَباً بِهِمْ﴾ ولا أهلاً ولا سهلاً أي: لا أَتَوْا مَرْحباً، ولا لَقُوا أهلاً، ولا وَطِئوا سهلاً. وهذان الوجهان ذهب إليهما الأخفش وهما ضعيفان. وليس إضمارُ الفعلِ هنا نظيرَ إضماره في قوله:
٣٨٤٠ - ألا رَجُلاً جَزاه اللَّهُ خيراً .............................
لضرورةِ أنَّ اسمَها المفردَ النكرةَ مبنيٌّ على الفتح، فلمَّا رأينا هذا معرباً قدَّرْنا له فعلاً خلافاً للزجاج، فإنه يُجَوِّزُ تنوينَه في الضرورة، ويدَّعي أن فتحتَه للإِعراب، وإنما حُذِف التنوينُ للتخفيفِ ويَسْتَدِلُّ بالبيتِ المذكور وتقدَّم تحقيقُ هذا.
الرابع: أن «لات» هذه ليسَتْ هي «لا» مُزاداً فيها تاءُ التأنيث، وإنما هي: «ليس» فأُبْدلت السينُ تاءً، وقد أُبْدِلت منها في مواضعَ قالوا: النات
351
يريدون: الناس. ومنه «سِتٌّ» وأصله سِدْس. قال: لَيْسوا بأخيارٍ ولا أَكْياتِ... وقُرِئ شاذاً «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النات» إلى آخره. يريد: شرارَ الناسِ ولا أكياسِ، فأبْدل. ولَمَّا أبدل السينَ تاءً خاف من التباسها بحرفِ التمني فقلب الياءَ ألفاً فبقيَتْ «لات» وهو من الاكتفاء بحرف العلةِ؛ لأنَّ حرف العلة لا يُبْدل ألفاً إلاَّ بشروطٍ منها: أن يتحرَّكَ، وأَنْ ينفتحَ ما قبله، فيكون «حينَ مناص» خبرَها، والاسمُ محذوفٌ على ما تقدَّم، والعملُ هنا بحقِّ الأصالةِ لا الفرعيةِ.
٣٨٤١ - يا قاتلَ اللَّهُ بني السَّعْلاتِ عمرَو بنَ يَرْبُوعٍ شرارَ الناتِ
وقرأ عيسى بن عمر ﴿وَّلاَتِ حِينِ مَنَاصٍ﴾ بكسر التاء وجرِّ «حين» وهي قراءةٌ/ مُشْكلةٌ جداً. زعم الفراء أنَّ «لات» يُجَرُّ بها، وأنشد:
٣٨٤٢ -........................... ولَتَنْدَمَنَّ ولاتَ ساعةِ مَنْدَمِ
وأنشد غيرُه:
352
البيت. وقال الزمخشري: «ومثلُه قول أبي زبيد الطائي: طلبوا صلحنا. البيت. قال: فإنْ قلتَ ما وجهُ الجرِّ في» أوان «؟ قلت: شُبِّه ب» إذ «في قوله:
٣٨٤٣ - طلبوا صلحَنا ولاتَ أوانٍ ..................................
٣٨٤٤ -........................... .............. وأنتَ إذٍ صحيحُ
في أنه زمانٌ قُطِع منه المضافُ إليه وعُوِّض منه التنوينُ لأن الأصلَ: ولات أوان صلح. فإن قلتَ: فما تقولُ في» حينَ مناصٍ «والمضافُ إليه قائمٌ؟ قلت: نَزَّلَ قَطْعَ المضافِ إليه مِنْ» مناص «- لأنَّ أصلَه: حين مناصِهم - منزلةَ قَطْعِه مِنْ» حين «لاتحاد المضاف والمضاف إليه، وجَعَل تنوينَه عوضاً من المضافِ المحذوفِ، ثم بَنى الحين لكونِه مضافاً إلى غير متمكن». انتهى.
وخرَّجه الشيخُ على إضمار «مِنْ» والأصل: ولات مِنْ حين مناص، فحُذِفت «مِنْ» وبقي عملُها نحو قولِهم: على كم جِذْعٍ بَنَيْتَ بيتك؟ أي: مِنْ جذع في أصحِّ القولَيْن. وفيه قولٌ آخر: أنَّ الجرَّ بالإِضافة، ومثله قوله:
٣٨٤٥ - ألا رَجُلٍ جزاه اللَّهُ خَيْراً .............................
أنشدوه بجرِّ «رَجُل» أي: ألا مِنْ رجل.
353
قلت: وقد يتأيَّد بظهورِها في قوله:
٣٨٤٦ -.............................. وقالَ: ألا لا مِنْ سبيلٍ إلى هندِ
قال: «ويكونُ موضعُ» مِنْ حين مناصٍ «رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقولُ: ليس من رجلٍ قائماً، والخبرُ محذوفٌ، وعلى هذا قولُ سيبويه. وعلى أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ على قولِ الأخفشِ. وخَرَّج الأخفشُ» ولاتَ أَوانٍ «على حَذْفِ مضافٍ، يعني: أنه حُذِفَ المضافُ وبقي المضافُ إليه مجروراً على ما كان. والأصلُ: ولات حينُ أوانٍ.
وقد رَدَّ هذا الوجهَ مكيٌّ: بأنه كان ينبغي أَنْ يقومَ المضافُ إليه مَقامَه في الإِعراب فيُرفعَ. قلت: قد جاء بقاءُ المضافِ إليه على جَرِّه. وهو قسمان: قليلٌ وكثيرٌ. فالكثيرُ أَنْ يكونَ في اللفظ مِثْلُ المضاف نحو:
٣٨٤٧ - أكلَّ امرِىءٍ تَحْسَبين امرَأً ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
أي: وكلَّ نارٍ. والقليلُ أَنْ لا يكونَ كقراءة مَنْ قرأ ﴿والله يُرِيدُ الآخرة﴾
354
بجر» الآخرةِ «فليكنْ هذا منه. على أنَّ المبردَ رواه بالرفعِ على إقامتِه مُقامَ المضافِ.
وقال الزجَّاج:»
الأصل: ولات أواننا، فحُذِفَ المضافُ إليه فوجَبَ أَنْ لا يُعْرَبَ، وكسرُه لالتقاءِ الساكنين «. قال الشيخ:» هذا هو الوجهُ الذي قرَّره الزمخشريُّ، أَخَذَه من أبي إسحاقَ «قلت: يعني الوجهَ الأولَ، وهو قولُه: ولاتَ أوان صلحٍ.
هذا ما يتعلَّقُ بجرِّ «حين»
.
وأمَّا كسرُ تاءِ «لات» فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين ك جَيْرِ، إلاَّ أنه لا تُعْرف تاءُ تأنيثٍ إلاَّ مفتوحةً.
وقرأ عيسى أيضاً بكسرِ التاءِ فقط، ونصبِ «حين» كالعامَّةِ. وقرأ أيضاً «ولات حينُ» بالرفعِ، «مناصَ» بالفتح. وهذه قراءةٌ مشكلةٌ جداً لا تَبْعُدُ عن الغلطِ مِنْ راويها عن عيسى فإنه بمكانةٍ مِنْ العلمِ المانعِ له من مثلِ هذه القراءةِ. وقد خَرَّجها أبو الفضلِ الرازيُّ في «لوامحه» على التقديمِ والتأخيرِ، وأنَّ «حين» أُجْرِي مُجْرى قبل وبعد في بنائِه على الضمِّ عند قَطْعِه عن الإِضافة بجامع ما بينه وبينهما مِن الظرفيةِ الزمانيةِ. و «مَناصَ» اسمُها مبنيٌّ على الفتح فُصِل بينَه وبينها ب «حين» المقطوعِ عن الإِضافة. / والأصلُ: ولاتَ مناص حين كذا، ثم حُذِفَ المضافُ إليه «حين»، وبُني على الضم وقَدَّم فاصلاً بين «لات» واسمِها. قال: «وقد يجوزُ أَنْ يكونَ لذلك معنًى لا أَعْرِفُه». وقد رُوِي في تاءِ «لاتَ» الفتحُ والكسرُ والضمُّ.
355
وقوله: «فنادَوْا» لا مفعولَ له؛ لأنَّ القصدَ: فَعَلوا النداءَ، مِنْ غيرِ قصدِ منادى. وقال الكلبيُّ: «كانوا إذا قاتلوا فاضْطُرُّوا نادى بعضُهم لبعضٍ: مناص أي: عليكم بالفرارِ، فلَمَّا أتاهم العذابُ قالوا: مناص». فقال اللَّهُ تعالى لهم: ولات حينَ مناصٍ «. قال القشيريُّ:» فعلى هذا يكونُ التقديرُ: فنادَوْا مناص، فحُذِف لدلالةِ ما بعده عليه «. قلت: فيكون قد حَذَفَ المنادى وهو بعضاً وما ينادُوْن به، وهو مناص، أي: نادَوْا بعضَهم بهذا اللفظِ. وقال الجرجانيُّ:» أي: فنادَوْا حين لا مناص أي: ساعةَ لا مَنْجَى ولا فَوْتَ، فلمَّا قَدَّم «لا» وأَخَّر «حين» اقتضى ذلك الواوَ كما تقتضي الحالُ إذا جُعِل ابتداءً وخبراً مثلَ ما تقول: «جاء زيدٌ راكباً» ثم تقول: جاء وهو راكبٌ. ف «حين» ظرفٌ لقولِه «فنادَوْا». قال الشيخ: «وكونُ أصلِ هذه الجملةِ فنادَوْا: حين لا مناص، وأنَّ» حين «ظرفٌ لقولِه:» فنادَوْا «دعوى أعجميةٌ في نَظْمِ القرآن، والمعنى على نظمِه في غايةِ الوضوح». قلت: الجرجانيُّ لا يَعْني أنَّ حين ظرفٌ ل «نادَوْا» في التركيبِ الذي عليه القرآن الآن، إنما يعني بذلك في أصلِ المعنى والتركيب، كما شَبَّه ذلك بقولِك «جاء زيدٌ راكباً» ثم ب «جاء زيدٌ وهو راكبٌ» ف «راكباً» في التركيبِ الأولِ حالٌ، وفي الثاني خبرُ مبتدأ، كذلك «حين» كان في الأصل ظرفاً للنداء، ثم صار خبرَ «لات» أو اسمَها على حسبِ الخلافِ المتقدِّم.
والمناصُ: مَفْعَل مِنْ ناص يَنُوص أي: هَرَبَ فهو مصدرٌ يقال: نَاصه يَنُوصه إذا فاته فهذا متعدٍّ، وناصَ يَنُوص أي: تأخَّر. ومنه ناص عن قِرْنِه أي:
356
تأخَّر عنه جُبْناً. قاله الفراء، وأنشد قولَ امرئ القيس:
٣٨٤٨ - أمِنْ ذِكْرِ سَلْمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوْصُ فتَقْصُرُ عنها حِقْبةً وتَبُوْصُ
قال أبو جعفر النحاس: «ناصَ يَنُوص أي: تقدَّم فيكون من الأضداد». واستناص طلب المَناص. قال حارثة بن زيد:
٣٨٤٩ - غَمْرُ الجِراءِ إذا قَصَرْتُ عِنانَه بيديْ اسْتَناصَ ورام جَرْيَ المِسْحَلِ
ويقال: ناص إلى كذا ينوص نَوْصاً أي: التجأ إليه.
357
قوله: ﴿أن جاءكم﴾ : أي: مِنْ أَنْ، وفيها الخلافُ المشهورُ.
وقوله: «وقال الكافرون» من بابِ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضعَ المضمر شهادةً عليهم بهذا الوَصْفِ القبيح.
قوله: ﴿عُجَابٌ﴾ : مبالغةً في «عجيب» كقولهم: رجل طُوال وأَمْرٌ سُراع هما أبلغُ مِنْ: طويل وسريع. وعلي والسلمي وعيسى
357
وابن مقسم «عُجَّاب» بتشديد الجيم، وهي أبلغُ مِمَّا قبلَها فهي مثلُ رجل كريم وكُرام بالتخفيف، وكُرَّام بالتشديد. قال مقاتل: «وعُجاب - يعني بالتخفيفِ - لغةُ أزد شنوءة». وهذه القراءةُ أعني بالتشديدِ كقوله: ﴿وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً﴾ [نوح: ٢٢] هو أبلغُ مِنْ كُبار، وكُبار أبلغُ مِنْ كبير.
وقوله: «أجَعَلَ» أي: أصيَّرها إلهاً واحداً في قولِه وزَعْمه.
358
قوله: ﴿أَنِ امشوا﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ «أنْ» مصدريةً أي: انطلقوا بقولِهم: أن امْشُوا وأَنْ تكونَ مفسِّرةً: إمَّا ل انطلق لأنه ضُمِّنَ معنى القول. قال الزمخشريُّ: «لأنَّ المنطلقين عن مجلس التقاوُلِ/ لا بُدَّ لهم أَنْ يتكلموا ويتفاوضوا فيما جَرَى لهم». انتهى. وقيل: بل هي مفسِّرةٌ لجملةٍ محذوفةٍ في محلِّ حالٍ تقديرُه: وانطلقوا يتحاورون أن امْشُوا. ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً معمولةً لهذا المقدرِ. وقيل: الانطلاقُ هنا الاندفاعُ في القولِ والكلامِ نحو: انطلق لسانُه، فأَنْ مفسرةٌ له من غير تضمينٍ ولا حَذْفٍ. والمَشْيُ: الظاهر أنه هو المتعارَفُ. وقيل: بل هو دعاءٌ بكثرة الماشيةِ، وهذا فاسِدٌ لفظاً ومعنى. أمَّا اللفظُ فلأنَّه إنما يقال من هذا المعنى «أَمْشَى الرجلُ» إذا كَثُرَتْ ماشيَتُه بالألفِ أي: صار ذا ماشيةٍ، فكان ينبغي على هذا أَنْ يقرأَ «أَمْشُوا» بقطع الهمزةِ مفتوحةً. وأمَّا المعنى فليس مراداً البتةَ، وأيُّ معنى على ذلك!!
إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ ذكر وجهاً صحيحاً من حيث الصناعةُ وأقربُ معنًى ممَّا تقدَّم، فقال: «ويجوزُ أنَّهم قالوا: امشُوا أي: اكثروا واجتمعوا، مِنْ مَشَتِ المرأةُ: إذا كَثُرَتْ وِلادتها، ومنه الماشيةُ للتفاؤل». انتهى. وإذا وُقِفَ على «أنْ»
358
وابْتُدِئ بما بعدَها فليُبْتَدَأْ بكسرِ الهمزةِ لا بضمِّها لأنَّ الثالثَ مكسورٌ تقديراً إذ الأصل: امْشِيُوا ثم أُعِلَّ بالحَذْفِ. وهذا كما يُبْتدأ بضم الهمزةِ في قولك «اغْزِي يا امرأةُ». وإنْ كانت الزايُ مكسورةً لأنَّها مضمومةٌ في الأصل إذ الأصل: اغْزُوِي كاخْرُجي فأُعِلَّ بالحذفِ.
359
قوله: ﴿فِى الملة﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب «سَمِعْنا» أي: لم نسمَعْ في المِلَّةِ الآخرة بهذا الذي جئتَ به. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ هذا أي: ما سمعنا بهذا كائناً في المِلَّةِ الآخرةِ. أي: لم نسمَعْ من الكُهَّانِ ولا مِنْ أهلِ الكتبِ أنه يَحْدُثُ توحيدُ اللَّهِ في الملَّةِ الآخرة، وهذا مِنْ فَرْط كَذِبِهم.
قوله: ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر﴾ : قد تقدَّم حكمُ هاتَيْن الهمزتين في أوائل آل عمران، وأنَّ الواردَ منه في القرآن ثلاثةُ أماكنَ. والإِضراباتُ في هذه الآيةِ واضحةٌ و «أم» منقطعةٌ.
و " أم " منقطعةٌ.
قوله: ﴿فَلْيَرْتَقُواْ﴾ : قال أبو البقاء: «هذا كلامٌ محمولٌ على المعنى أي: إنْ زعموا ذلك فَلْيَرْتَقُوا»، فجعلها جواباً لشرطٍ مقدرٍ، وكثيراً ما يَفْعَلُ الزمخشريُّ ذلك.
قوله: ﴿جُندٌ﴾ : يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم جُنْدٌ. و «ما» فيها وجهان، أحدهما: أنها مزيدةٌ. والثاني: أنَّها صفةٌ ل «جُنْدٌ» على سبيلِ التعظيم للهُزْءِ بهم أن للتحقير، فإنَّ «ما» الصفة تُستعمل لهذين المعنيين. ومثلُه قولُ امرىءِ القيس:
٣٨٥٠ -........................... وحَديثٌ ما على قِصَرِهْ
وقد تقدَّم هذا في أوائلِ البقرة. و «هنالك» يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ خبر الجند و «ما» مزيدةٌ و «مَهْزُوم» نعتٌ ل «جُنْد» ذكره مكيٌّ. الثاني: أَنْ يكون صفةً ل «جند». والثالث: أَنْ يكونَ منصوباً بمهزوم. ومَهْزوم يجوزُ فيه أيضاً وجهان، أحدهما: أنه خبرٌ ثانٍ لذلك المبتدأ المقدرِ. والثاني: أنه صفةٌ ل «جُنْد» إلاَّ أنَّ الأحسنَ على هذا الوجهِ أَنْ لا يُجْعَلَ «هنالك» صفةً بل متعلقاً به، لئلا يَلْزَمَ تقدُّم الوصفِ غيرِ الصريح على الصَّريح. و «هنالك» مشارٌ به إلى موضعِ التقاوُلِ والمجاوزةِ بالكلمات السابقة وهو مكةُ أي: سيُهزمون بمكةَ وهو إخبارٌ بالمغيَّبِ. وقيل: مُشارٌ به إلى نُصرةِ الأصنامِ. وقيل: إلى حَفْرِ الخندقِ يعني: إلى مكانِ ذلك. الثاني من الوجهين الأولين: أَنْ يكونَ «جندٌ» مبتدأ و «ما» مزيدةٌ. و «هنالك» نعتٌ و «مهزوم» خبرُه قاله أبو البقاء. قال الشيخ: «وفيه بُعْدٌ لتفلُّتِه عن الكلامِ الذي قبلَه».
360
قلت: وهذا الوجهُ المنقولُ عن أبي البقاءِ سبقه إليه مكي.
قوله: «من الأحزاب» يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل «جُند»، وأنْ يكونَ صفةً ل «مهزومٌ». وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ متعلقاً به. وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ المرادَ بالأحزاب هم المهزومون.
361
قوله: ﴿ذُو الأوتاد﴾ : هذه استعارةٌ بليغةٌ: حيث شبَّه المُلْكَ ببيت الشَّعْر، وبيتُ الشَّعْرِ لا يَثبتُ إلاَّ بالأوتادِ والأطناب، كما قال الأفوه:
٣٨٥١ - والبيتُ لا يُبْتَنى إلاَّ على عمدٍ ولا عمادَ إذا لم تُرْسَ أوتادُ
فاسْتعير لثباتِ العزِّ والمُلْكِ واستقرار الأمر، كقول الأسود:
٣٨٥٢ -............................ في ظلِّ مُلْكٍ ثابتِ الأَوْتاد
والأَوْتادُ: جمعُ وَتِد. وفيه لغاتٌ: وَتِدٌ بفتح الواو وكسرِ التاءِ وهي الفصحى، ووَتَد بفتحتين، ووَدّ بإدغام التاء في الدال قال:
361
٣٨٥٣ - تُخْرِجُ الوَدَّ إذا ما أَشْجَذَتْ وتُوارِيْه إذا ما تَشْتَكِرْ
و «وَتَّ» بإبدالِ الدالِ تاءً ثم إدغام التاء فيها. وهذا شاذٌّ لأنَّ الأصلَ إبدالُ الأولِ للثاني لا العكسُ. وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في آل عمران عند قولِه تعالى: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار﴾ [آل عمران: ١٨٥]. ويُقال: وَتِدٌ واتِدٌ أي: قويٌّ ثابت، وهو مِثْلُ مجازِ قولهم: شُغْل شاغِلٌ. وأنشد الأصمعي:
٣٨٥٤ - ألاقَتْ على الماءِ جُذَيْلاً واتِداً ولم يَكُنْ يُخْلِفُها المَواعدا
وقيل: الأوتادُ هنا حقيقةٌ لا استعارةٌ. ففي التفسير: أنه كان له أوتادٌ يَرْبط عليها الناسَ يُعَذِّبُهم بذلك. وتقدم الخلافُ في الأَيْكة في سورة الشعراء.
362
قوله: ﴿أولئك الأحزاب﴾ : يجوزُ أَنْ تكون مستأنفةً لا محلَّ لها، وأنْ تكونَ خبراً. والمبتدأ قال أبو البقاء: «من قوله: و» عادٌ «وأَنْ يكونَ من» ثمود «، وأَنْ يكونَ مِنْ قولِه:» وقومُ لوط «. قلت: الظاهرُ عطفُ» عادٌ «وما بعدَه على» قومُ نوحٍ «واستئنافُ الجملةِ بعدَه. وكان يَسُوْغُ على ما قالَه أبو البقاءِ أَنْ يكونَ المبتدأُ وحدَه» وأصحابُ الأَيْكَة «.
قوله: ﴿إِن كُلٌّ﴾ :«إنْ» نافيةٌ ولا عملَ لها هنا البتةَ ولو
362
على لغةِ مَنْ قال:
٣٨٥٤ - ب إن هو مُسْتَوْلِياً على أحدٍ .......................
وعلى قراءة ﴿إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَاداً﴾ لانتقاض النفي ب «إلاَّ» فإنَّ انتقاضَه مع الأصلِ، وهي «ما» مُبْطِلٌ فكيف بفَرْعِها؟ وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للقَسم.
363
قوله: ﴿مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ «لها» رافعاً ل «مِنْ فَواق» بالفاعليةِ لاعتمادِه على النفي، وأَنْ يكونَ جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ، وعلى التقديرَيْن فالجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «صَيْحةً» و «مِنْ» مزيدةٌ. وقرأ الأخَوان «فُواق» بضمِّ الفاءِ، والباقون بفتحها. فقيل: [هما] لغتان بمعنًى واحدٍ، وهما الزمانُ الذي بين حَلْبَتَيْ الحالبِ ورَضْعَتَيْ الراضِع، والمعنى: ما لها مِنْ تَوَقُّفٍ قَدْرَ فُواقِ ناقةٍ. وفي الحديث: «العِيادَةُ قَدْرَ فُواقِ ناقة» وهذا في المعنى كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً﴾ [الأعراف: ٣٤]. وقال ابن عباس: ما لها مِنْ رجوعٍ. مِنْ أفاق المريضُ: إذا رَجَعَ إلى صحته. وإفاقةُ الناقةِ ساعةَ يَرْجِعُ اللبنُ إلى ضَرْعِها. يقال: أفاقَتِ الناقةُ
363
تُفِيْقُ إفاقَةً رَجَعَتْ واجتمعَتْ الفِيْقَةُ في ضَرْعِها. والفِيْقَةُ: اللبنُ الذي يَجْتمع بين الحَلَبَتين ويُجْمع على أفْواق. وأمّا أفاوِيْقُ فجمعُ الجمع. ويُقال: ناقة مُفِيْقٌ ومُفِيْقَةٌ. وقيل: فَواق بالفتح: الإِفاقة والاستراحة كالجواب من أجاب. قاله مُؤرِّج السدوسيُّ والفراء. ومن المفسِّرين ابن زيد والسدِّي. وأمَّا المضمومُ فاسمٌ لا مصدرٌ. والمشهورُ أنهما بمعنىً واحدٍ كقَصاصِ [الشَّعْر] وقُصاصِه وحَمام المكُّوك وحُمامِه.
364
قوله: ﴿قِطَّنَا﴾ : أي: نصيبَنا وحَظَّنا. وأصلُه مِنْ قَطَّ الشيءَ أي: قطعَه. ومنه قَطَّ القلمَ. والمعنى: قَطْعه مِنْ ما وَعَدْتَنا به ولهذا يُطْلق على الصحيفةِ والصَّكِّ قِطٌّ لأنهما قطعتان تَقْطعان. ويقال للجائزة: أيضاً قِطٌّ لأنَّها قطعة من العَطِيَّةِ. قال الأعشى:
٣٨٥٥ - ولا المَلِكُ النعمانُ يومَ لَقِيْتَه بغِبْطَتِه يُعْطي القُطوطَ ويَأْفِقُ
وأكثرُ استعمالِه في الكتابِ. قال أمية:
364
ويُجمع على قُطوط كما تقدَّم، وعلى قِطَطَة نحو: قِرْد وقِرَدَة وقُرود. وفي القِلَّة على أَقِطَّة وأَقْطاط/ كقَدَح وأَقْدِحة وأَقْداح، إلاَّ أن أَفْعِلة في فِعْل شاذ.
365
قوله: ﴿دَاوُودَ﴾ : بدل أو عطف بيانٍ، أو منصوبٌ بإضمارِ أعني. و «ذا الأيْدِ» نعتٌ له. والأيْدُ: القوةُ. يقال: رجلٌ أَيْدٌ وأَيادٌ.
قوله: ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ : جملةٌ حاليةٌ من «الجبال». وأتى بها فِعْلاً مضارعاً دونَ اسمِ فاعلٍ فلم يَقُلْ مُسَبِّحات، دلالةً على التجدُّدِ والحدوثِ شيئاً بعد شيء، كقولِ الأعشى:
٣٨٥٦ - قومٌ لهمْ ساحَةٌ أرضُ العراقِ وما يُجْبَى إليهمْ بها والقِطُّ والقَلَمُ
٣٨٥٧ - لعَمْري لَقَدْ لاحَتْ عيونٌ كثيرةٌ إلى ضوءِ نارٍ في يَفَاعٍ تُحَرَّقُ
أي: تُحَرَّقُ شيئاً فشيئاً. ولو قال: مُحَرَّقة لم يَدُلَّ على هذا المعنى.
قوله: ﴿والطير مَحْشُورَةً﴾ : العامَّةُ على نَصْبِهما، عَطَفَ مفعولاً على مفعول وحالاً على حال، كقولِك: ضربْتُ زُيداً مكتوفاً وعمراً مُطْلَقاً. وأتى بالحالِ اسماً لأنه لم يَقْصِدْ أن الفعلَ وقع شيئاً فشيئاً لأنَّ حَشْرَها دُفْعَةً واحدةً أَدَلُّ على القدرة، والحاشرُ اللَّه تعالى. وقرأ ابن أبي عبلة والجحدريُّ برفعِهما جعلاهما جملةً مستقلة مِنْ مبتدأ وخبر.
قوله: «كُلٌّ له» أي: كلٌّ من الجبالِ والطيرِ لداودَ. أي: لأجلِ تسبيحِه مُسَبِّح، فوضَع «أوَّاب» موضعَ مُسَبِّح. وقيل: الضمير للباري تعالى، والمرادُ كلٌّ مِنْ داودَ والجبالِ والطيرِ مُسَبِّح ورَجَّاع لله تعالى.
قوله: ﴿وَشَدَدْنَا﴾ : العامَّةُ على تخفيفِ «شَدَدْنا» أي: قَوَّيْنا كقوله: «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بأخيك». وابنُ أبي عبلة والحسن «شَدَدْنا» بالتشديد وهي مبالَغَةٌ لقراءةِ العامَّةِ.
قوله: ﴿نَبَأُ الخصم﴾ : قد تقدَّم أنَّ الخَصْمَ في الأصل مصدرٌ فلذلك يَصْلُحُ للمفردِ والمذكرِ وضِدَّيْهِما، وقد يطابِقُ. ومنه: ﴿لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ﴾ [ص: ٢٢] و ﴿هذان خَصْمَانِ﴾ [الحج: ١٩]. والمرادُ بالخَصْمِ هنا جمعٌ بدليلِ قولِه: «إذ تَسَوَّرُوا» وقوله: «إذ دَخَلُوا». قال الزَمخشريُّ: «وهو يقعُ للواحدِ والجمعِ كالضَّيْفِ. قال تعالى: ﴿حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين﴾ [الذاريات: ٢٤] لأنه مصدرٌ في أصله يُقال: خَصَمه يَخْصِمُه خَصْماً كما تقول: ضافه ضَيْفاً. فإنْ قلتَ: هذا جمعٌ وقولُه:» خصمان «تثنيةٌ فكيف استقَامَ ذلك؟ قلت: معنى خصمان: فريقان خَصْمان، والدليلُ عليه قراءةُ مَنْ قرأ» [خَصْمَانِ] بغى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ «ونحوُه قوله تعالى: ﴿هذان خَصْمَانِ اختصموا﴾. فإنْ قلتَ: فما تصنعُ بقولِه: ﴿إِنَّ هَذَآ أَخِي﴾ وهو دليلٌ على الاثنين؟ قلت: هذا قولُ البعضِ المراد به: ﴿بَعْضُنَا على بَعْضٍ﴾. فإنْ قلت: فقد جاء في الرواية: أنه
366
بُعِثَ إليه مَلَكان. قلت: معناه أن التحاكمَ بين مَلَكَيْن، ولا يمنعُ ذلك أَنْ يَصْحَبَهما آخرون. فإن قلت: كيف سَمَّاهم جميعاً خَصْماً في قوله:» نَبَأ الخَصْمِ «و» خَصْمان «؟ قلتُ: لَمَّا كان صَحِبَ كلَّ واحدٍ من المتحاكميْن في صورةِ الخَصْمِ صَحَّت التسميةُ به».
قوله: «إذ تَسَوَّروا» في العامل في «إذ» أوجهٌ، أحدها: أنه معمولٌ للنبأ إذا لم يُرِدْ به القصة. وإليه ذهبَ ابنُ عطيةَ وأبو البقاء ومكي. أي: هل أتاك الخبرُ الواقعُ في وقتِ تَسَوُّرِهم المحرابَ؟ وقد رَدَّ بعضُهم هذا: بأنَّ النبأ الواقعَ في ذلك الوقتِ لا يَصِحُّ إتيانُه رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنْ أريد بالنبأ القصةُ لم يكن ناصباً. قاله الشيخ. الثاني: أنَّ العاملَ فيه «أتاك» ورُدَّ بما رُدَّ به الأولُ. وقد صَرَّحَ الزمخشريُّ بالردِّ على هذين الوجهين، فقال: «فإنْ قلتَ بم انتصبَ» إذ «؟ قلت: لا يَخْلوا إمَّا أَنْ ينتصِبَ ب» أتاك «أو بالنبأ أو بمحذوفٍ. فلا يَسُوغ انتصابُه ب» أتاك «لأنَّ إتْيانَ النبأ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يقعُ إلاَّ في عهدِه لا في عهدِ دوادَ، ولا بالنبأ؛ لأنَّ النبأ واقِعٌ في عهدِ داودَ فلا يَصِحُّ إتيانُه رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وإن أَرَدْتَ بالنبأ القصةَ في نفسِها لم يكنْ ناصباً، فبقي أَنْ يكونَ منصوباً بمحذوف، وتقديره: وهل أتاك نبأُ تحاكُمِ الخَصْمِ إذ، فاختار أن يكونَ معمولاً لمحذوفٍ. الرابع: أَنْ ينتصِبَ بالخصْم لِما فيه من معنى الفعلِ.
367
قوله: ﴿إِذْ دَخَلُواْ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه بدل مِنْ «إذ» الأولى. الثاني: أنَّه منصوبٌ ب «تَسَوَّرُوا» ومعنى تَسَوَّروا: عَلَوْا/ أعلى السُّورِ، وهو الحائطُ، غيرُ مهموزٍ كقولك: تَسَنَّم البعيرَ أَي: بَلَغَ سَنامَه. والضميرُ في «تَسَوَّروا» و «دخلوا» راجعٌ على الخصم لأنه جمعٌ في المعنى على ما تقدَّم، أو على أنَّه مثنى، والمثنى جمعٌ في المعنى، وقد مضى الخلافُ في هذا محققاً.
قوله: «خَصْمان» خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: نحن خَصْمان؛ ولذلك جاء بقولِه: «بَعْضُنا». ومَنْ قرأ «بعضهم» بالغَيْبة يُجَوِّز أن يُقَدِّرَه كذلك، ويكون قد راعى لفظَ «خَصْمان»، ويُجَوِّزُ أنْ يُقَدِّرَ هم خصمان ليتطابَقَ. ورُوِي عن الكسائي «خِصْمان» بكسر الخاء. وقد تقدَّم أنه قرأها كذلك في الحج.
قوله: «بَغَى بَعْضُنا» جملةٌ يجوزُ أَنْ تكون مُفَسِّرَةً لحالِهم، وأن تكونَ خبراً ثانياً.
قوله: «ولا تُشْطِطْ» العامَّةُ على ضَمِّ التاء وسكونِ الشينِ وكسرِ الطاءِ الأولى مِنْ أشْطَطَ يُشْطِطُ إشْطاطاً إذا تجاوز الحقَّ. قال أبو عبيدة: «شَطَطْتُ في الحُكْمِ؛ وأَشْطَطْتُ فيه، إذا جُرْتُ» فهو ممَّا اتفق فيه فَعَل وأَفْعَل، وإنما فَكَّه على أحدِ الجائزَيْن كقولِه: «مَنْ يَرْتَدِدْ» وقد تقدَّم تحقيقُه. وقرأ الحسن
368
وأبو رجاء وابنُ أبي عبلة «تَشْطُط» بفتح التاءِ وضَمِّ الطاءِ مِنْ شَطَّ بمعنى أشَطَّ كما تقدَّم. وقرأ قتادة «تُشِطَّ» مِنْ أشطَّ رباعياً، إلاَّ أنه أدغم وهو أحد الجائزَيْن كقراءة مَنْ قرأ ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ﴾، وعنه أيضاً «تُشَطِّطْ» بفتح الشين وكسرِ الطاءِ مُشَدَّدةً شَطَّطَ يُشَطِّطُ. والتثقيلُ فيه للتكثيرِ. وقرأ زر بن حبيش «تُشاطِطْ» من المفاعلة.
369
قوله: ﴿تِسْعٌ وَتِسْعُونَ﴾ : العامَّةُ على كسر التاءِ، وهي اللغةُ الفاشيةُ. وزيد بن علي والحسن بفتحها فيهما، وهي لُغَيَّةٌ. وقرأ العامَّةُ «نَعْجة» بفتح النون، والحسن وابن هرمز بكسرها. قيل: وهي لغةٌ لبعضِ بني تميمٍ. وكَثُرَ في كلامِهم الكنايةُ بها عن المرأةِ قال ابنُ عَوْنٍ:
٣٨٥٨ - أنا أبُوْهُنَّ ثلاثٌ هُنَّهْ... رابِعَةٌ في البيتِ صُغْراهُنَّهْ... ونَعْجتي خَمْساً تُوَفِّيْهِنَّهْ... وقال آخر:
369
وقوله: «وعَزَّني» أي: غَلَبني. قال الشاعر:
٣٨٥٩ - هما نَعْجَتان مِنْ نِعاج تَبالَةٍ لَدى جُؤْذُرَيْنِ أو كبعضٍ دُمَى هَكِرْ
٣٨٦٠ - قَطاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فباتَتْ تُجاذِبُهُ وقد عَلِقَ الجَناحُ
يقال: عَزَّهُ يَعُزُّه بضمِّ العينِ وتقدَّم تحقيقُه في سورة يس. وقرأ طلحة وأبو حيوة «وَعَزَني» بالتخفيف. قال ابن جني: «حَذْف الزاي الواحدةِ تخفيفاً. كما قال:
٣٨٦١ -........................... أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ
يريد: أَحْسَسْنَ»
، فحذف. وتُرْوَى هذه قراءةً عن عاصم. وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك «وعازَّني» بألفٍ مع تشديد الزاي، أي: غالبني.
370
قوله: ﴿بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ﴾ : مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه، والفاعلُ محذوفٌ أي: بأَنْ سَأَلك نعجَتك، وضُمِّنَ السؤالُ معنى الإِضافةِ والانضمامِ أي: بإضافةِ نعجتِك على سبيل السؤال، ولذلك عُدِّي ب إلى.
370
قوله: «لَيَبْغي» العامَّةُ على سكونِ الياءِ وهو مضارعٌ مرفوعٌ في محلِّ الخبرِ ل «إنَّ» وقُرِئ «لَيَبْغيَ» بفتح ياءَيْه. ووُجِّهَتْ: بأن الأصلَ: لَيَبْغِيَنْ بنونِ التوكيد الخفيفة والفعل جواب قسم مقدر، والقسم المقدر وجوابه خبر إنَّ تقديره: وإن كثيراً من الخلطاء والله ليبغين، فحُذِفَت كما حُذِفَ في قوله:
٣٨٦٢ - اضْرِبَ عَنْك الهمومَ طارِقَها ........................
وقُرِئ «ألم نَشْرَحَ» بالفتح وقوله:
٣٨٦٣ - مِنْ يومِ لم يُقْدَرَ أو يومَ قُدِرْ... بفتح الراء. وقُرِئَ «لَيَبْغِ» بحَذْف الياء. قال الزمخشري: «اكتفى منها بالكسرة» وقال الشيخ: «كقوله:
371
يريد» تَفْدِي «على أحدِ القولين» يعني: أنه حذفَ الياءَ اكتفاءً عنها بالكسرةِ. والقول الثاني: أنه مجزومٌ بلامِ الأمرِ المقدرةِ. وقد تقدَّم هذا في سورة إبراهيم عليه السلام، إلاَّ أنَّه لا يتأتَّى هنا لأنَّ اللامَ مفتوحةٌ.
قوله: ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ﴾ استثناءٌ متصلٌ مِنْ قولِه: «بعضهم» وقوله: «وقليلٌ» خبرٌ مقدمٌ و «ما» مزيدةٌ للتعظيم. و «هم» مبتدأ.
قوله: «فَتَنَّاه» بالتخفيفِ. وإسنادُه إلى ضميرِ المتكلمِ المعظِّم نفسَه قراءةُ العامَّةِ. وعمرُ بن الخطاب والحسن وأبو رجاء «فَتَّنَّاه» بتشديد/ التاء وهي مبالغةٌ. وقرأ الضحاك «أفتنَّاه» يُقال: فَتَنَه وأَفْتَنَه أي: حَمَله على الفتنةِ. ومنه قولُه:
٣٨٦٤ - محمدُ تَفِدْ نفسَك كلُّ نَفْسٍ .............................
٣٨٦٥ - لَئِنْ فَتَنَتْنِيْ لَهْيَ بالأَمْسِ أَفْتَنَتْ .......................
وقرأ قتادةُ وأبو عمروٍ في روايةٍ «فَتَناه» بالتخفيف. و «فتنَّاه» بالتشديد والألفُ ضميرُ الخصمين. و «راكِعاً» حالٌ مقدرةٌ، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ لظهورِ المقارنة.
372
قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ : الظاهرُ أنَّه مفعولُ «غَفَرْنا». وجَوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك وأيُّ حاجةٍ إلى هكذا؟
قوله: ﴿فَيُضِلَّكَ﴾ : فيه وجهان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ في جوابِ النهي. والثاني: أنه عطفٌ على «لا تَتَّبِعْ» فهو مجزومٌ، وإنما فُتِحَتْ اللامُ لالتقاء الساكنين، وهو نهيٌ عن كل واحدٍ على حِدَتِه، والأولُ فيه النهيُ عن الجمع بينهما. وقد يَتَرَجَّح الثاني لهذا المعنى. وقد تقدَّم تقريرُ ذلك في البقرة في قوله: ﴿وَتَكْتُمُواْ الحق﴾ [البقرة: ٤٢]. وفاعل «فَيُضِلَّك» يجوزُ أَنْ يكونَ «الهوى» ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ المصدرِ المفهوم من الفعل أي: فيُضِلَّك اتِّباعُ الهوى. والعامَّةُ على فتحِ «يَضِلُّون»، وقرأ ابنُ عباس والحسن وأبو حيوة «يُضِلُّون» بالضمِّ أي: يُضِلُّون الناسَ، وهي مُسْتَلْزِمَةٌ للقراءةِ الأولى، فإنه لا يُضِلُّ غيرَه إلاَّ ضالٌّ بخلافِ العكسِ.
قوله: «بما نَسُوا» «ما» مصدريَّةٌ. والجارُّ يتعلَّقُ بالاستقرار الذي تضمنَّه «لهم». و «لهم عذابٌ» يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً خبراً ل «إنَّ»، ويجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ وحدَه الجارَّ. و «عذابٌ» فاعلٌ به وهوالأحسنُ لقُرْبِه من المفرد.
قوله: ﴿بَاطِلاً﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً مِنْ ضميرِه أي: خَلْقاً باطلاً، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل «خَلَقْنا» أي: مُبْطِلين أو ذوي باطلٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً مِنْ أجلِه. أي: للباطل وهو العَبَثُ. و «أم» في الموضعَيْن منقطعةٌ وقد عَرَفْتَ ما فيها.
و " أم " في الموضعَيْن منقطعةٌ وقد عَرَفْتَ ما فيها.
قوله: ﴿كِتَابٌ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هذا كتابٌ و «أَنْزَلْناه» صفةٌ و «مبارَكٌ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ أو خبرٌ ثانٍ، ولا يجوزُ أَنْ
373
يكونَ نعتاً ثانياً، لأنَّه لا يتقدَّمُ عند الجمهورِ غيرُ الصريحِ على الصريحِ. ومَنْ يرى ذلك استدلَّ بظاهِرها، وقد تقدَّم هذا محرَّراً في المائدة.
و «لِيَدَّبَّروا» متعلقٌ ب «أَنْزَلْناه». وقُرِئ «مبارَكاً» على الحالِ اللازمةِ؛ لأنَّ البركةَ لا تفارِقُه. وقرأ علي رضي الله عنه «لِيَتَدَبَّروا» وهي أصلُ قراءةِ العامَّةِ فأُدْغِمَتْ التاءُ في الدالِ. وأبو جعفر - ورُوِيَتْ عن عاصم والكسائي - «لِتَدَبَّروا» بتاءِ الخطاب وتخفيفِ الدالِ. وأصلُها لِتَتدَبَّروا بتاءَيْن فحُذِفَتْ إحداهما. وفيها الخلافُ المشهورُ: هل هي الأُوْلى أو الثانية؟
374
قوله: ﴿نِعْمَ العبد﴾ : مخصوصُها محذوفٌ أي: نِعْمَ العبدُ سليمانُ. وقيل: داودُ. والأولُ أظهرُ لأنه هو المَسُوْقُ للحديثِ عنه. وقُرِئ بكسرِ العين، وهي الأصلُ كقولِه:
قوله: ﴿إِذْ عُرِضَ﴾ : في ناصبه أوجهٌ، أحدها: نِعْم، وهو أضعَفُها لأنه لا يَتَقَيَّدُ مَدْحُه بوقتٍ، ولعدمِ تَصَرُّفِ نِعْمَ. والثاني: «أوَّاب» وفيه تقييدُ وَصْفِه بذلك بهذا الوقت. والثالث: اذكرْ مقدراً وهو أَسْلَمُها و «الصَّافِناتُ» جمعُ صافنٍ. وفيه خلافٌ بين أهلِ اللغةِ. فقال الزجَّاجُ: هو
374
الذي يقفُ على إحدى يدَيْه ويَقِفُ على طَرَفِ سُنْبُكه، وقد يفعل ذلك بإحدى رجلَيْه. قال: «وهي علامةُ الفَراهةِ فيه، وأنشد:
٣٨٦٦ -.............................. نَعِمَ السَّاعونَ في القومِ الشُّطُرْ
٣٨٦٧ - أَلِفَ الصُّفُوْنَ فما يَزال كأنَّه مِمَّا يقومُ على الثلاثِ كَسِيْرا
وقيل: هو الذي يَجْمَعُ يديه ويُسَوِّيهما. وأمَّا الذي يقفُ على سُنْبُكِه فاسمُه المُخِيْم قاله أبو عبيد. وقيل: هو القائمُ مطلقاً، أي: سواءً كان من الخيل أم مِنْ غيرها قاله القُتبيُّ، واستدلَّ بالحديث وهو قوله عليه السلام:» مَنْ سَرَّه أَنْ يقومَ الناسُ له صُفُوناً فَلْيتبوَّأْ مقعدَه من النار «أي: يُديمون له القيام. وحكاه قطرب أيضاً. وقيل: هو القيامُ مطلقاً سواءً وقفتَ على طَرَف سُنْبك أم لا. قال الفراء:» على هذا رأيْتُ أشعارَ العرب «. انتهى وقال النابغة: /
٣٨٦٨ - لنا قُبَّةٌ مَضْروبة بفِنائها عِتاقُ المَهارى والجياد الصَّوافِنُ
والجِيادُ: إمَّا من الجَوْدَةِ يقال: جاد الفَرَسُ يجودُ جَوْدة وجُوْدة بالفتح
375
والضم فهو جَوادٌ للذكر والأنثى، والجمع: جِيادٌ وأَجْواد وأجاويد وقيل: جمع ل جَوْد بالفتح كثَوْب وثِياب. وقيل: جمع جَيِّد. وإما من الجِيْد وهو العُنُق والمعنى: طويلة الأجياد، وهو دالٌّ على فَراهتِها.
376
قوله: ﴿حُبَّ الخير﴾ : فيه أوجهٌ، أحدُها: هو مفعولُ «أَحْبَبْت» لأنه بمعنى آثَرْتُ، و «عَنْ» على هذا بمعنى على، أي: على ذِكْر ربي؛ لأنه يُرْوَى في التفسيرِ - واللَّهُ أعلم - أنه عَرَضَ الخيلَ حتى شَغَلَتْه عن صلاة العصرِ أولَ الوقتِ حتى غَرَبَتِ الشمسُ. وقال الشيخ: «وكأنه منقولٌ عن الفراء أنه ضَمَّن أَحْبَبْتُ معنى آثَرْتُ حتى نصبَ» حُبَّ الخير «مفعولاً به. وفيه نظرٌ؛ لأنه متعدٍّ بنفسه، وإنما يَحتاج إلى التضمين إنْ لو لم يكنْ متعدِّياً. الثاني: أنَّ» حُبَّ «مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد. والناصبُ له» أَحببتُ «. الثالث: أنه مصدرٌ تشبيهيٌّ أي: حُباً مثلَ حُبِّ الخير. الرابع: أنه قيل: ضُمِّن معنى أَنَبْتُ، فلذلك تَعَدَّى ب» عن «. الخامس: أنَّ» أَحْبَبْتُ «بمعنى لَزِمْتُ. السادس: أنَّ» أَحْبَبْتُ «مِنْ أحَبَّ البعيرُ إذا سَقَطَ وبَرَك من الإِعْياء. والمعنى: قَعَدْتُ عن ذِكْر ربي، فيكون» حُبَّ الخيرِ «على هذا مفعولاً مِنْ أجله.
قوله:»
حتى تَوارَتْ «في الفاعل وجهان، أحدهما: هو» الصافنات «والمعنى: حتى دخلَتْ اصْطَبْلاتِها فتوارَتْ وغابَتْ. والثاني: أنه للشمس أُضْمِرَتْ لدلالة السِّياق عليها. وقيل: لدلالةِ العَشِيِّ عليها فإنها تشعر بها. وقيل: يدل عليها الإِشراق في قصة داود. وما أبعده.
وقوله:»
ذِكْرِ ربي «يجوز أَنْ يكونَ مضافاً للمفعول أي: عن أَنْ أذكر
376
ربي، وأَنْ يكونَ مضافاً للفاعل أي: عَنْ أَنْ ذَكرني ربي. وضميرُ المفعولِ في» رُدُّوها «للصافناتِ. وقيل: للشمس، وهو غريبٌ جداً.
377
قوله: ﴿مَسْحاً﴾ : منصوبٌ بفعلٍ مقدر، وهو خبر «طَفِق» أي: فَطَفِق يَمْسَح مَسْحاً؛ لأنَّ خبرَ هذه الأفعالِ لا يكونُ إلاَّ مضارعاً في الأمر العام. وقال أبو البقاء وبه بَدأ: «مصدرٌ في موضعِ الحالِ». وهذا ليس بشيء لأنَّ «طَفِقَ» لا بُدَّ لها مِنْ خبر.
وقرأ زيد بن علي: «مِساحاً» بزنةِ قِتال. والباءُ في «بالسُّوْق» مزيدةٌ، مِثْلُها في قولِه: ﴿وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾ [المائدة: ٦]. وحكى سيبويه «مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه» بمعنًى واحدٍ. ويجوز أن تكونَ للإِلصاق كما تقدَّم تقريرُه. وتقدَّم هَمْزُ السُّؤْق وعدمُه في النمل. وجعل الفارسي الهمزَ ضعيفاً. وليس كما قال؛ لِما تقدَم من الأدلة. وقرأ زيد بن عليّ «بالساق» مفرداً اكتفاءً بالواحدِ لعَدمِ اللَّبْسِ كقولِه:
377
وقولِه:
٣٨٧٠ - كلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا............................................
وقولِه:
٣٨٧١ -...................................... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجيْنا
وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: بمَ اتَّصَلَ قولُه:» رُدُّوها عليَّ «؟ قلت: بمحذوفٍ تقديرُه قال:» رُدُّوها «فأضمر، وأضمر ما هو جوابٌ له. كأنَّ قائلاً قال: فماذا قال سليمان؟ لأنه موضعٌ مُقتَضٍ للسؤالِ اقتضاءً ظاهراً». قال الشيخ: «وهذا لا يُحتاجُ إليه؛ لأنَّ هذه الجملةَ مُنْدَرِجَةٌ تحت حكايةِ القولِ وهو: ﴿فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ﴾.
378
قوله: ﴿جَسَداً﴾ : فيه وجهان: أظهرُهما: أنه مفعولٌ به لأَلْقَيْنا. وفي التفسيرِ: أنه شِقُّ وَلَدٍ. والثاني: أنه حالٌ وصاحبُها: إمَّا سليمانُ؛ لأنه يُرْوى أنه مَرِضَ حتى صار كالجسد الذي لا رُوْحَ فيه، وإمَّا وَلَدُه. قالهما أبو البقاء: ولكنْ جسدٌ جامدٌ، فلا بُدَّ مِنْ تأويلِه بمشتقٍّ، أي: ضعيفاً أو فارغاً.
قوله: ﴿تَجْرِي﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ مُفَسِّرةً لقولِه: «سَخَّرْنا»، وأَنْ تكونَ حالاً من الريح. والعامَّةُ على توحيد الريح، والمعنى على الجمعِ. وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو جعفر وقتادة «الرياح» و «رُخاءً» حالٌ مِنْ فاعل «تَجْري». والرُّخاءُ: الليِّنَةُ مشتقةً من الرَّخاوة. ومعنى ذلك الطواعيةُ لأمْرِه.
قوله: «حيث» ظرفٌ ل «تَجْري» أو ل «سَخَّرْنا». و «أصاب» : أراد بلغةِ حِمْير. وقيل: بلغة هَجَر. وعن [رجلين مِنْ أهل اللغة] أنهما خرجا يَقْصِدان رؤبة ليسألاه عن هذا الحرف. فقال لهما: أين تُصيبان؟ فعَرفاها وقالا: هذه بُغْيَتُنا. وأنشد الثعلبي على ذلك:
٣٨٦٩ -................................... ........................ وأمَّا جِلْدُها فصَلِيْبُ
٣٨٧٢ - أصابَ الجوابَ فلمْ يَسْتَطِعْ فأخْطا الجوابَ لدى المِفْصَلِ
أي: أراد الجوابَ. ويُقال: «أَصاب اللَّهُ بك خيراً» أي: أرده بك. وقيل: الهمزةُ في «أصاب» للتعديةِ مِنْ صابَ يَصُوْبُ أي: نَزَلَ، والمفعولُ محذوفٌ أي: أصاب جنودَه أي: حيث وجَّههم وجعلهم يصُوْبون صَوْبَ المطرِ.
قوله: ﴿والشياطين﴾ : نَسَقٌ على «الريحَ». و «كلَّ بنَّاءٍ» بدلٌ من «الشياطين»، وأتى بصيغةِ المبالغةِ لأنَّه في مَعْرِضِ الامتنانِ.
379
و «آخرين» عطفٌ على «كلَّ» فهو داخِلٌ في حكمِ البدلِ. وتقدَّم شَرْحُ ﴿مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد﴾ [إبراهيم: ٤٩] في آخرِ سورة إبراهيم.
380
و " آخرين " عطفٌ على " كلَّ " فهو داخِلٌ في حكمِ البدلِ. وتقدَّم شَرْحُ ﴿ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ﴾ [ إبراهيم : ٤٩ ] في آخرِ سورة إبراهيم.
قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلقٌ ب «عَطاؤُنا» أي: أَعْطيناك بغَير حِسابٍ ولا تقديرٍ، وهو دلالةٌ على كثرةِ الإِعطاء. الثاني: أنه حالٌ مِنْ «عَطاؤنا» أي: في حال كونِه غيرَ محاسَبٍ عليه لأنه جَمٌّ كثيرٌ يَعْسُر على الحُسَّاب ضَبْطُه. الثالث: أنه متعلقٌ ب «امْنُنْ» أو «أمسِكْ»، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلهما أي غيرَ محاسَب عليه.
قوله: ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ : العامَّةُ على نصبِه نسقاً على اسم «إنَّ» وهو «لَزُلْفَى». وقرأ الحسن وابن أبي عبلة برَفعِه على الابتداءِ، وخبرُه مُضْمَرٌ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه ويَقِفان على «لَزلْفَى» ويَبتَدِئان ب «حُسْنُ مآب» أي: وحُسْنُ مآب له أيضاً.
قوله: ﴿أَيُّوبَ﴾ : كقولِه: ﴿عَبْدَنَا دَاوُودَ﴾ [ص: ١٧] ففيه ثلاثةُ الأوجهِ. و «إذْ نادَى» بَدَلٌ منه بدلُ اشتمال. وقوله: «أني» جاء به على حكايةِ كلامِه الذي ناداه بسببه ولو لم يَحْكِه لقال: إنَّه مَسَّه لأنه غائبٌ. وقرأ العامَّةُ بفتح الهمزة على أنه هو المنادَى بهذا اللفظِ. وعيسى بن عمر بكسرِها على إضمار القولِ أو على إجراءِ النداءِ مُجْراه.
380
قوله: «بِنُصْبٍ» قرأ العامَّةُ بالضم والسكون. فقيل: هو جمعُ «نَصَبٍ» بفتحتين نحو: وَثَن ووُثْن، وأَسَدِ وأُسْدٍ. وقيل: هي لغةٌ في النَّصَبَ نحوُ: رُشْد ورَشَد، وحُزْن وحَزَن، وعُدْم وعَدَم. وأبو جعفر وشيبة وحفص ونافع في روايةٍ بضمتين وهو تثقيلُ نُصْب بضمة وسكون، قاله الزمخشري. وفيه بُعْدٌ لِماعَرَفْتَ أنَّ مقتضى اللغةِ تخفيفُ فُعُل كعُنُق لا تثقيل فُعْل كقُفْل، وفيه خلافٌ. وقد تقدَّم في العُسْر واليُسْر في البقرة. وقرأ أبو حيوة ويعقوبُ وحفصٌ في روايةٍ بفتحٍ وسكونٍ، وكلُّها بمعنًى واحدٍ: وهو التعبُ والمَشقةُ.
381
قوله: ﴿رَحْمَةً﴾ : و «ذكرى» مفعولٌ من أجله أي: وهَبْناهم له لأَجْلِ رحمتِنا إيَّاه وليتذكَّرَ بحالهِ أولو الألباب.
قوله: ﴿ضِغْثاً﴾ : الضِّغْثُ: الحُزْمَةُ الصغيرةُ من الحشيشِ والقُضْبان. وقيل: الحُزْمَةُ الكبيرةُ من القُضْبان. وفي المثل: «ضِغْثٌ على إبَّالَة» والإِبَّالةُ: الحُزْمَةُ من الحطبِ. قال الشاعر:
381
وأصلُ المادة يَدُلُّ [على] جَمْعِ المختلطاتِ. وقد تقدَّم هذا في سورة يوسف في ﴿أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾ [يوسف: ٤٤].
قوله: «ولا تَحْنَثْ» الحِنْثُ: الإِثْمُ. ويُطْلَقُ على فِعْلِ ما حُلِفَ على تَرْكِه أو تَرْكِ ما حُلِفَ على فِعْله لأنَّهما سِيَّان فيه غالباً.
382
قوله: ﴿عِبَادَنَآ﴾ : قرأ ابنُ كثير «عَبْدَنا» بالتوحيد. والباقون «عبادَنا» بالجمعِ والرسمُ يحتملهما. فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير ف «إبراهيمَ» بدلٌ أو بيانٌ، أو بإضمار أَعْني، وما بعدَه عطفٌ على نفس «عبدَنا» لا على إبراهيم؛ إذْ يَلْزَمُ إبدالُ جمع مِنْ مفردٍ. ولقائلٍ أنْ يقولَ: لمَّا كان المرادُ بعبدنا الجنسَ جاز إبدالُ الجمعِ منه. وهذا كقراءةِ ابنِ عباس ﴿وإله أبيك إِبْرَاهِيمَ﴾ في البقرة في أحدِ القولين وقد تقدَّم. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فواضحةٌ لأنَّها موافقةٌ للأولِ في الجمع.
قوله: «الأَيْدي» العامَّة على ثبوتِ الياءِ، وهو جَمْعُ يدٍ: إمَّا الجارِحَةِ، وكنَى بذلك/ عن الأعمالِ؛ لأنَّ أكثرَ الأعمالِ إنما تُزاوَلُ باليدِ. وقيل: المرادُ بالأيدي جمعُ «يَدٍ» المراد بها النعمةُ. وقرأ عبد الله والحسن وعيسى والأعمش «الأَيْد» بغيرِ ياء فقيل: هي الأُوْلى وإنَّما حُذِفَتِ الياءُ اجتزاءً عنها بالكسرة ولأنَّ أل تعاقِبُ التنوينَ، والياءُ تُحْذَفُ مع التنوين، فأُجْرِيَتْ مع أل
382
إجراءَها معه. وهذا ضعيفٌ جداً. وقيل: الأَيْد: القوةُ. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال: «وتَفْسيرُه بالأَيْد من التأييد قِلِقٌ غيرُ متمكن» انتهى. وكأنَّه إنما قَلِقَ عنده لعطفِ الأبصارِ عليه، فهو مناسبٌ للأيدي لا للأَيْد من التأييد. وقد يقال: إنه لا يُراد حقيقةُ الجوارح؛ إذ كلُّ أحدٍ كذلك، إنما المراد الكناية عن العمل الصالحِ والتفكُّرِ ببصيرتِه فلم يَقْلَقْ حينئذٍ؛ إذ لم يُرِدْ حقيقةَ الإِبصارِ. وكأنه قيل: أُولي القوةِ والتفكُّر بالبصيرةِ. وقد نحا الزمخشري إلى شيءٍ مِنْ هذا قبلَ ذلك.
383
قوله: ﴿بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى﴾ : قرأ نافعٌ وهشام «بخالصةِ ذكرَى» بالإِضافة. وفيها أوجه، أحدُها: أَنْ يكونَ أضافَ «خالصة» إلى «ذكرَى» للبيانِ؛ لأنَّ الخالصةَ تكونُ ذكرى وغيرَ ذكرْى كما في قولِه: ﴿بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ [النمل: ٧] لأنَّ الشهابَ يكونُ قَبَساً وغيرَه. الثاني: أنَّ «خالصةً» مصدرٌ بمعنى إخلاص، فيكون مصدراً مضافاً لمفعولِه، والفاعلُ محذوفٌ أي: بأَنْ أَخْلَصوا ذكرى الدار وتناسَوْا عندها ذِكْرَ الدنيا. وقد جاء المصدرُ على فاعِلة كالعافِية، أو يكونُ المعنى: بأَنْ أَخْلَصْنا نحن لهم ذكرى الدار. الثالث: أنها مصدرٌ أيضاً بمعنى الخلوص، فتكونُ مضافةً لفاعِلها أي: بأنْ خَلَصَتْ لهم ذِكْرَى الدار.
وقرأ الباقون بالتنوينِ وعَدَمِ الإِضافة. وفيها أوجهٌ، أحدها: أنها مصدرٌ بمعنى الإِخْلاص فيكون «ذكرى» منصوباً به، وأنْ يكونَ بمعنى الخُلوص فيكون «
383
ذكرى» مرفوعاً به كما تقدَّم ذلك، والمصدرُ يعملُ منوَّناً كما يَعْمَلُ مضافاً، أو يكونُ «خالصة» اسمَ فاعلٍ على بابِه، و «ذكرى» بَدَلٌ أو بيانٌ لها، أو منصوبٌ بإضمارِ أَعْني، أو مرفوع على إضمار مبتدأ. و «الدار» يجوز أن يكونَ مفعولاً به بذكرى، وأن يكونَ ظرفاً: إمَّا على الاتِّساعِ، وإمَّا على إسقاط الخافض، ذكرهما أبو البقاء. وخالصة إذا كانَتْ صفةً فهي صفةٌ لمحذوفٍ أي: بسببِ خَصْلَةٍ خَالصةٍ.
384
والأَخْيار جمعُ خَيِّر، أو خَيْر بالتثقيلِ والتخفيف كأموات جمع مَيِّت أو مَيْت.
قوله: ﴿هذا ذِكْرٌ﴾ : جملةٌ جيْءَ بها إيذاناً بأنَّ القصةَ قد تَمَّتْ وأَخَذَ في أخرى، وهذا كما فَعَل الجاحظ في كتبِه يقول: «فهذا بابٌ» ثم يَشْرَعُ في آخرَ. ويَدُلُّ على ذلك: أنه لمَّا أرد أَنْ يُعَقِّبَ بذِكْر أهل النارِ ذَكَرَ أهلَ الجنة. قال تعالى: ﴿هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ﴾ [ص: ٥٥].
قوله: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ : العامةُ على نصب «جنات» بدلاً من «حُسْنَ مَآب» سواءً كانَتْ جنات عدنٍ معرفةً أم نكرةً؛ لأنَّ المعرفةَ تُبْدَلُ من النكرة وبالعَكْس. ويجوزُ أن تكونَ عطفَ بيان إنْ كانَتْ نكرةً ولا يجوزُ ذلك فيها إنْ كانَتْ معرفةً. وقد جَوَّز الزمخشريُّ ذلك بعد حُكْمِه واستدلاله على أنها معرفةٌ، وهذا كما تقدَّم له في مواضِعَ يُجِيْزُ عطفَ البيان، وإنْ تَخالَفا تعريفاً وتنكيراً وقد تقدَّم هذا عند قولِه تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧] ويجوزُ
384
أَنْ تَنْتَصِبَ «جناتِ عَدْنٍ» بإضمارِ فِعْلٍ. و «مُفَتَّحةً» حالٌ مِنْ «جنات عدن» أو نعتٌ لها إن كانَتْ نكرةً. وقال الزمخشري: «حالٌ. والعاملُ فيها ما في» للمتقين «مِنْ معنى الفعلِ» انتهى. وقد عَلَّلَ أبو البقاءِ بعلةٍ في قوله/: «مُتَّكئين» تقتضي مَنْعَ «مُفَتَّحة» أَنْ تكونَ حالاً، وإنْ كانَتْ العلةُ غيرَ صحيحةٍ. وقال: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ» متكئين «حالاً مِنْ» للمتقين «لأنه قد أخبر عنهم قبلَ الحال» وهذه العلةُ موجودةٌ في جَعْل «مُفَتَّحةً» حالاً من «للمتقين» كما ذكره الزمخشري. إلاَّ أنَّ هذه العلةَ ليسَتْ صحيحةً وهو نظيرُ قولِك: «إن لهندٍ مالاً قائمةً». وأيضاً في عبارتِه تجَوُّزٌ: فإنَّ «للمتقين» لم يُخْبِرْ عنهم صناعةً إنما أخبر عنهم معنًى، وإلاَّ فقد أخبر عن «حُسْن مآب» بأنَّه لهم. وجعل الحوفيُّ العاملَ مقدراً أي: يَدْخلونها مفتحةً.
قوله: «الأبواب» في ارتفاعِها وجهان، أحدهما: - وهو المشهورُ عند الناسِ - أنَّها مُرْتفعةٌ باسمِ المفعول كقوله: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧٣]. واعْتُرِضَ على هذا بأن «مُفتَحةً» : إمَّا حالٌ، وإمَّا نعتٌ ل «جنات»، وعلى التقديرَيْن فلا رابطَ وأُجيب بوجهين، أحدهما: قولُ البصريين: وهو أنَّ ثَمَّ ضميراً مقدراً تقديرُه: الأبوابُ منها. والثاني: أنَّ أل قامَتْ مقامَ الضمير؛ إذِ الأصلُ: أبوابُها. وهو قول الكوفيين وتقدَّم تحقيقُ هذا. والوجهان جاريان في قولِه: {فَإِنَّ
385
الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: ٤١]. الثاني: أنها مرتفعةٌ على البدلِ من الضميرِ في «مُفَتَّحَةً» العائدِ على «جنات» وهو قولُ الفارسيِّ، لمَّا رأى خُلُوَّها من الرابطِ لفظاً ادَّعَى ذلك. واعْتُرض على هذا: بأنَّ مِنْ بدلِ البعض أو الاشتمالِ، وكلاهما لا بُدَّ فيهما مِنْ ضميرٍ فيُضْطَرُّ إلى تقديره كما تقدَّم. ورَجَّح بعضُهم الأولَ: بأنَّ فيه إضماراً واحداً، وفي هذا إضماران وتَبعه الزمخشريُّ فقال: «والأبواب بدلٌ مِن الضمير في» مُفَتَّحَةً «أي: مفتحةً هي الأبواب كقولك: ضربَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ، وهو مِنْ بَدَلِ الاشتمال» فقوله: «بدلُ الاشتمال» إنما يعني به الأبواب، لأنَّ الأبواب قد يُقال: إنها ليسَتْ بعضَ الجنات، و «أمَّا ضَرَبَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ» فهو بعضٌ مِنْ كل ليسَ إلاَّ.
وقرأ زيد بن علي وأبو حيوةَ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةٌ﴾ برفعهما: إمَّا على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ، وإمَّا على أنَّ كلَّ واحدةٍ خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي جناتٌ، هي مفتحةٌ.
386
قوله: ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ : حالٌ مِنْ «لهم» العاملُ فيها «مفتحةً». وقيل: العاملُ «تُوْعَدون» تأخَّر عنها، وقد تقدَّمَ مَنْعُ أبي البقاء أنها حال مِنْ «للمتقين» وما فيه. و «يَدْعُون» يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأَنْ يكونَ حالاً: إمَّا مِنْ ضمير «مُتَّكئين» وإمَّا حالاً ثانية.
قوله: ﴿تُوعَدُونَ﴾ : قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا «
386
يُوْعَدون» بالغَيْبة. وفي ق ابنُ كثيرٍ وحدَه. والباقون بالخطاب فيهما ووجهُ الغَيْبةِ هنا وفي ق تَقَدُّمُ ذِكْرِ المتقين. ووجْهُ الخطابِ الالتفاتُ إليهم والإِقبالُ عليهم.
387
قوله: ﴿مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ﴾ :«مِنْ نَفادٍ» : إمَّا مبتدأٌ وإمَّا فاعلٌ، و «مِنْ» مزيدةٌ. والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «رزقنا» أي: غيرَ فانٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً.
قوله: ﴿هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ «هذا» مبتدأ والخبرُ مقدَّرٌ، فقدَّره الزمخشري: «هذا كما ذُكِر». وقَدَّره أبو علي: «هذا للمؤمنين». ويجوزُ أَنْ يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ هذا.
قوله: ﴿جَهَنَّمَ﴾ : يجوزُ أن تكون بدلاً مِنْ «شرَّ مآبٍ» أو منصوبةً بإضمار فعلٍ. وقياسُ قولِ الزمخشري في «جناتِ عدن» أن تكون عطفَ بيانٍ، وأن تكونَ منصوبةً بفعل مقدرٍ على الاشتغالِ أي: يَصْلَوْن جهنَّمَ يَصْلَوْنَها. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: هي.
قوله: ﴿هذا فَلْيَذُوقُوهُ﴾ : في «هذا» أوجهٌ، أحدها: أَنْ يكونَ مبتدأً، وخبرُه «حميمٌ وغَسَّاقٌ». وقد تقدَّم أنَّ اسم الإِشارة يُكْتَفَى بواحدِه في المثنى كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]، أو يكون المعنى: هذا جامِعٌ بين الوصفَيْن، ويكون قولُه: «فَلْيَذُوْقوه» جملةً اعتراضيةً. الثاني: أَنْ يكونَ «هذا» منصوباً بمقدَّرٍ على الاشتغال أي: لِيَذُوقوا هذا.
387
وشبَّهه الزمخشريُّ بقولِه تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠]، يعني على الاشتغال. والكلامُ على مثلِ هذه الفائدةِ قد تقدَّم. و «حميمٌ» على هذا خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو مبتدأٌ وخبره مضمرٌ أي: منه حميمٌ ومنه غَسَّاقٌ كقوله:
٣٨٧٣ - وأثقلَ مني نَهْدَةً قد رَبَطْتُها وأَلْقَيْتُ ضِغْثاً مِن خَلَىً مُتَطيَّبِ
٣٨٧٤ - حتى إذا ما أضاءَ البرقُ في غَلَسٍ وغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُوْدُ
أي: منه مَلْوِيٌّ ومنه مَحْصود. الثالث: أَنْ يكونَ «هذا» مبتدأ، والخبرُ محذوفٌ أي: هذا كما ذُكِر، أو هذا للطاغين. الرابع: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ هذا، ثم استأنف أمراً فقال: فَلْيذوقوه. الخامس: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه «فَلْيذوقوه» وهو رأيُ الأخفشِ. ومنه:
٣٨٧٥ - وقائلةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ ........................
وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند ﴿والسارق والسارقة﴾ [المائدة: ٣٨] / وقرأ
388
الأخَوان وحفصٌ «غَسَّاقٌ» بتشديد السينِ هنا وفي عمَّ يتساءَلْون، وخَفَّفه الباقون فيهما. فأمَّا المثقلُ فهو صفةٌ كالجَبَّار والضَّرّاب مثالَ مبالغةٍ، وذلك أنَّ فَعَّالاً في الصفاتِ أغلبُ منه في الأسماء. ومِنْ ورودِه في الأسماء: الكَلاَّء والجَبَّان والفَيَّاد لذَكَرِ البُوْم، والعَقَّارُ والخَطَّارُ وأمَّا المخففُ فهو اسمٌ لا صفةٌ؛ لأنَّ فَعَالاً بالتخفيفِ في الأسماءِ كالعَذاب والنَّكال أغلبُ منه في الصفاتِ، على أن منهم مَنْ جَعَله صفةً بمعنى ذي كذا أي: ذي غَسَقٍ. وقال أبو البقاء: «أو يكون فعَّال بمعنى فاعِل». قلت: وهذا غيرُ مَعْروفٍ. والغَسَقُ: السَّيَلانُ. يقال: غَسَقَتْ عينُه أي: سالَتْ. وفي التفسير: أنه ماءٌ يَسيل مِنْ صَدِيدِهم. وقيل: غَسَق أي امتلأ. ومنه: غَسَقَتْ عينُه أي: امتلأت بالدمع ومنه الغاسقُ للقمرِ لامتلائِه وكمالِه. وقيل: الغَسَّاق ما قَتَل ببردِه. ومنه قيل لليلِ: غاسِق؛ لأنه أبردُ من النهار. وقيل: الغَسَق شدَّةُ الظُّلْمة، ومنه قيل لليل: «غاسِق». ويقال للقمر: غاسِقٌ إذا كُسِفَ لاسْوِداده، ونُقِل القولان في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ﴾ [الفلق: ٣].
389
قوله: ﴿وَآخَرُ﴾ : قرأ أبو عمروٍ بضمِّ الهمزةِ على أنه
389
جمع. وارتفاعُه من أوجهٍ، أحدها: أنه مبتدأٌ، و «من شَكْلِه» خبرُه، و «أزواجٌ» فاعلٌ به. الثاني: أنْ يكونَ مبتدأ أيضاً، و «مِنْ شكلِه» خبرٌ مقدَّمٌ، و «أزواج» مبتدأٌ والجملةُ خبرُه، وعلى هذين فيقال: كيف يَصِحُّ مِنْ غير ضميرٍ يعودُ على أُخَر، فإن الضميرَ في «شكله» يعودُ على ما تقدَّم أي: مِنْ شكل المَذُوق؟ والجوابُ: أن الضميرَ عائدٌ على المبتدأ، وإنما أُفْرد وذُكِّر لأنَّ المعنى: مِنْ شكلِ ما ذَكَرْنا. ذكر هذا التأويلَ أبو البقاءِ. وقد منع مكي ذلك لأجل الخُلُوِّ من الضمير، وجوابُه ما ذكرته لك. الثالث: أن يكون «مِنْ شكله» نعتاً ل أُخَر، وأزواج خبر المبتدأ أي: وأُخر من شكل المذوق أزواج. الرابع: أن يكون «من شكله نعتاً أيضاً، وأزواجٌ فاعل به، والضميرُ عائدٌ على أُخَر بالتأويل المتقدم، وعلى هذا فيرتفعُ» أُخَرُ «على الابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: ولهم أنواعٌ أُخَرُ، استقرَّ مِنْ شكلها أزواجٌ. الخامس: أنْ يكونَ الخبر مقدراً كما تقدَّم أي: ولهم أُخَرُ، ومِنْ شكلِه وأزواج صفتان ل أُخَر.
وقرأ العامَّة»
مِنْ شَكْلِه «بفتح الشين، وقرأ مجاهد بكسرِها، وهما لغتان بمعنى المِثْل والضرب. تقولُ: هذا على شَكْلِه أي: مِثْله وضَرْبه. وأما الشِّكْلُ بمعنى الغُنْج فالبكسر لا غير، قاله الزمخشري.
وقرأ الباقون»
وآخَرُ «بفتح الهمزة وبعدها ألفٌ بصيغةِ أَفْعَل التفضيل، والإِعرابُ فيه كما تقدَّم. والضمير في أحدِ الأوجه يعودُ عليه مِنْ غيرِ تأويل لأنه مفردٌ. إلاَّ أنَّ في أحد الأوجه يَلْزَمُ الإِخبارُ عن المفردِ بالجمع أو وَصْفُ المفردِ
390
بالجمع؛ لأنَّ مِنْ جملة الأوجهِ المتقدمةِ أنْ يكونَ» أزواج «خبراً عن» آخر «أو نعتاً له كما تقدَّم. وعنه جوابان، أحدُهما: أن التقديرَ: وعذابٌ آخرُ أو مَذُوقٌ، وهو ضُروب ودرجاتٌ فكان في قوةِ الجمع. أو يُجْعَلُ كلُّ جزءٍ من ذلك الآخرِ مثلَ الكلِّ، وسمَّاه باسمِه وهو شائعٌ كثيرٌ نحو: غليظ الحواجب، وشابَتْ مفارِقُه. على أنَّ لقائلٍ أنْ يقولَ: إنَّ أزواجاً صفةٌ لثلاثةِ الأشياءِ المتقدِّمة، أعني الحميم والغَسَّاق وآخرُ مِنْ شكلِه فيُلْغى السؤالُ.
391
قوله: ﴿مُّقْتَحِمٌ﴾ : مفعولُه محذوفٌ أي: مقتحِمٌ النارَ. والاقتحام: الدخولُ في الشيء بشدَّة، والقُحْمَةُ: الشدةُ. وقال الراغب: الاقتحام توسُّطُ شِدَّةٍ مُخيفةٍ. ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي: توغَّل به ما يُخافُ منه/. والمقاحيم: الذين يَتَقَحَّمون في الأمر الذي يُتَجَنَّب «.
قوله:»
معكم «يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ثانياً ل فَوْج، وأَنْ يكونَ حالاً منه لأنه قد وُصِفَ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستتر في» مُقْتَحِم «. قال أبو البقاء:» ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لفسادِ المعنى «، ولم أَدْرِ مِنْ أَيِّ أوجهٍ يَفْسُدُ، والحاليةُ والصفةُ في المعنى كالظرفية؟
وقوله:»
هذا فَوْجٌ «إلى قوله:» النار «يجوز أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرؤساء بعضِهم لبعضِ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الخَزَنَةِ، ويجوز أَنْ يكونَ» هذا فَوْجٌ «مِنْ كلامِ الملائكة، والباقي من كلام الرؤساء، وكان القياسُ على هذا أَنْ يُقال: بل هم لا مَرْحباً بهم لأنهم لا يقولون للملائكة ذلك، إلاَّ أنهم عَدَلُوا عن خطاب الملائكةِ إلى خطابِ أعدائِهم تَشَفِّياً منهم.
391
قوله: ﴿لاَ مَرْحَباً﴾ في» مَرْحباً «وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ أي: لا أتَيْتُمْ مَرْحباً أو لا سَمِعتم مرحباً. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ. قاله أبو البقاء أي: لا رَحِبَتْكم دارُكم مَرْحباً بَلْ ضَيِّقاً. ثم في الجملةِ المنفيةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للدعاءِ عليهم، وقوله:» بهم «بيانٌ للمدعُوِّ عليه. والثاني: أنها حاليةٌ. وقد يُعْتَرَضُ عليه: بأنه دعاءٌ، والدعاءُ طلبٌ والطلبُ لا يَقَعُ حالاً. والجوابُ أنه على إضمارِ القولِ أي: مَقُولاً لهم لا مَرْحباً.
392
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٩:قوله :﴿ مُّقْتَحِمٌ ﴾ : مفعولُه محذوفٌ أي : مقتحِمٌ النارَ. والاقتحام : الدخولُ في الشيء بشدَّة، والقُحْمَةُ : الشدةُ. وقال الراغب : الاقتحام توسُّطُ شِدَّةٍ مُخيفةٍ. ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي : توغَّل به ما يُخافُ منه/. والمقاحيم : الذين يَتَقَحَّمون في الأمر الذي يُتَجَنَّب ".
قوله :" معكم " يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ثانياً ل فَوْج، وأَنْ يكونَ حالاً منه لأنه قد وُصِفَ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستتر في " مُقْتَحِم ". قال أبو البقاء :" ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لفسادِ المعنى "، ولم أَدْرِ مِنْ أَيِّ أوجهٍ يَفْسُدُ، والحاليةُ والصفةُ في المعنى كالظرفية ؟
وقوله :" هذا فَوْجٌ " إلى قوله :" النار " يجوز أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرؤساء بعضِهم لبعضِ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الخَزَنَةِ، ويجوز أَنْ يكونَ " هذا فَوْجٌ " مِنْ كلامِ الملائكة، والباقي من كلام الرؤساء، وكان القياسُ على هذا أَنْ يُقال : بل هم لا مَرْحباً بهم لأنهم لا يقولون للملائكة ذلك، إلاَّ أنهم عَدَلُوا عن خطاب الملائكةِ إلى خطابِ أعدائِهم تَشَفِّياً منهم.
قوله :﴿ لاَ مَرْحَباً ﴾ في " مَرْحباً " وجهان، أظهرُهما : أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ أي : لا أتَيْتُمْ مَرْحباً أو لا سَمِعتم مرحباً. والثاني : أنه منصوبٌ على المصدرِ. قاله أبو البقاء أي : لا رَحِبَتْكم دارُكم مَرْحباً بَلْ ضَيِّقاً. ثم في الجملةِ المنفيةِ وجهان، أحدهما : أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للدعاءِ عليهم، وقوله :" بهم " بيانٌ للمدعُوِّ عليه. والثاني : أنها حاليةٌ. وقد يُعْتَرَضُ عليه : بأنه دعاءٌ، والدعاءُ طلبٌ والطلبُ لا يَقَعُ حالاً. والجوابُ أنه على إضمارِ القولِ أي : مَقُولاً لهم لا مَرْحباً.

قوله: ﴿مَن قَدَّمَ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ «مَنْ» شرطيةً، و «فَزِدْه» جوابَها، وأنْ تكونَ استفهاميَّة، و «قَدَّم» خبرُها. أي: أيُّ شخصٍ قَدَّم لنا هذا، ثم استأنفوا دُعاءً بقولِهم «فَزِدْه»، وأنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي، وحينئذٍ يجوزُ فيها وجهان: الرفعُ بالابتداء، والخبر «فَزِدْه» والفاءُ زائدةٌ تَشْبيهاً له بالشرطِ. والثاني: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغالِ، والكلامُ في مثلِ هذه الفاءِ قد تقدَّم، وهذا الوجهُ يجوزُ عند بعضِهم حالَ كونِها شرطيةً أو استفهاميةً أعني الاشتغالَ، إلاَّ أنَّه لا يُقَدَّرُ الفعلُ إلاَّ بعدها؛ لأنَّ لها صدرَ الكلامِ و «ضِعْفاً» نعتٌ لعذاب أي: مضاعَفاً.
قوله: «في النارِ» يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل «زِدْه»، أو نعتاً ل «عذاب»، أو حالاً منه لتخصيصِه، أو حالاً من المفعول «زِدْه».
قوله: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ﴾ : قرأ الأخَوان وأبو عمروٍ بوَصْلِ
392
الهمزةِ، وهي تحتملُ وجهين، أحدهما، أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً ل «رِجالاً» كما وقع «كنا نَعُدُّهم» صفةً، وأَنْ يكونَ المرادُ الاستفهامَ وحُذِفَتْ أداتُه لدلالةِ أم عليه كقوله:
٣٨٧٦ - تَرُوْحُ من الحيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ وماذا عليك بأَنْ تَنْتَظِرْ
ف أم متصلةٌ على هذا، وعلى الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة لأنها لم تتقدَّمْها همزةُ استفهامٍ ولا تسويةٍ. والباقون بهمزةِ استفهامٍ سَقَطَتْ لأجلِها همزةُ الوصلِ. والظاهر أنه لا محلَّ للجملةِ حينئذٍ لأنها طلبيةٌ. وجَوَّزَ بعضُهم فيها أَنْ تكونَ صفةً لكنْ على إضمارِ القولِ أي: رجالاً مَقُولاً فيهم: أتخذناهم كقوله:
٣٨٧٧ - جاؤُوْا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطْ... إلاَّ أنَّ الصفةَ في الحقيقةِ ذلك القولُ المضمرُ. وقد تقدَّم الخلافُ في «سِخْرِيَّاً» في ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾. والمشهورُ أن المكسورَ في الهُزْء كقولِ الشاعر:
٣٧٧٨ - إني أتاني لِسانٌ لا أُسَرُّ بها مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيها ولا سَخْرُ
وتقدَّم معنى لَحاقِ الياءِ المشددَّةِ في ذلك. وأم مع الخبرِ منقطعةٌ فقط كما
393
تقدَّم، ومع الاستفهام يجوزُ أَنْ تكونَ متصلةً، وأن تكونَ منقطعةً كقولِك: «أزيدٌ عندك أم عندك عمروٌ»، ويجوزُ أنْ يكونَ «أم زاغَتْ» متصلاً بقوله: «ما لنا» لأنه استفهامٌ، إلاَّ أنه يَتَعَيَّنُ انقطاعُها لعَدَمِ الهمزةِ، ويكون ما بينهما معترضاً على قراءةِ «أتَّخَذْناهم» بالاستفهام إنْ لم نجعَلْه صفةً على إضمارِ القولِ كما تقدَّمَ.
394
قوله: ﴿تَخَاصُمُ﴾ : العامَّةُ على رَفْعِ «تَخاصُمُ» مضافاً لأهل. وفيه أوجه، أحدها: أنَّه بدلٌ مِنْ «لَحَقٌّ». الثاني: أنه عطفُ بيانٍ. الثالث: أنه بدلٌ مِنْ «ذلك» على الموضعِ، حكاه مكي، وهذا يُوافِقُ قولَ بعض الكوفيين. الرابع: أنه خبرُ ثانٍ ل «إنَّ». الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو تخاصُمُ. السادس: أنه مرفوعٌ بقولِه «لَحَقٌّ». إلاَّ أنَّ أبا البقاء قال: «ولو قيل: هو مرفوعٌ ب» حَقٌّ «لكان بعيداً لأنه يَصيرُ جملةً/ ولا ضميرَ فيها يعود على اسم» إن «. وهذا ردٌّ صحيحٌ. وقد يُجابُ عنه: بأنَّ الضميرَ مقدرٌ أي: لحقٌّ تخاصُمُ أهلِ النار فيه كقوله: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [الشورى: ٤٣] أي: منه. وقرأ ابن محيصن بتنوين» تخاصم «ورفع» أهلُ «فَرَفْعُ» تخاصُمٌ «على ما تقدَّم. وأمَّا رَفْعُ» أهلُ «فعلى الفاعلية بالمصدرِ المنونِ كقولك:» يُعْجبني تخاصمٌ الزيدون «أي: أنْ تخاصَموا. وهذا قولُ البصريين وبعضِ الكوفيين خلا الفراءَ.
394
وقرأ ابنُ أبي عبلة» تخاصُمَ «بالنصب مضافاً لأهل. وفيه أوجه، أحدها: أنه صفةٌ ل» ذلك «على اللفظِ. قال الزمخشري:» لأنَّ أسماءَ الإِشارة تُوْصَفُ بأسماءِ الأجناس «. وهذا فيه نظرٌ؛ لأنهم نَصُّوا على أنَّ أسماء الإِشارة لا تُوْصَفُ إلاَّ بما فيه أل نحو:» يا هذا الرجلُ «، ولا يجوز» يا هذا غلامَ الرجل «فهذا أبعدُ، ولأن الصحيحَ أنَّ الواقع بعد اسمِ الإِشارة المقارنِ ل أل إنْ كان مشتقاً كان صفةً، وإلاَّ كان بدَلاً و» تخاصُم «ليس مشتقاً. الثاني: أنه بدلٌ من ذلك. الثالث: أنه عطفُ بيانٍ. الرابع: على إضمارِ» أعني «. وقال أبو الفضل:» ولو نُصِبَ «تخاصم» على أنَّه بدلٌ من «ذلك» لجاز «انتهى. وكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً. وقرأ ابن السَّمَيْفع» تخاصَمَ «فعلاً ماضياً» أهل «فاعلٌ به. وهي جملةٌ استئنافيةٌ.
395
قوله: ﴿الواحد القهار﴾ : إلى آخرها صفاتٌ للَّهِ تعالى. ويجوزُ أَنْ يكونَ «ربُّ السماواتِ» خبرَ مبتدأ مضمرٍ، وفيه معنى المدح.
ويجوزُ أَنْ يكونَ " ربُّ السماواتِ " خبرَ مبتدأ مضمرٍ، وفيه معنى المدح.
قوله: ﴿هُوَ نَبَأٌ﴾ :«هو» يعودُ على القرآن وما فيه من القَصصِ والأخبارِ. وقيل: على ﴿تَخَاصُمُ أَهْلِ النار﴾. وقيل: على ما تقدَّمَ مِنْ أخبارِه عليه السلام: بأنَّه نذيرٌ مبينٌ، وبأنَّ اللَّهَ إلهٌ واحدٌ متصفٌ بتلك الصفاتِ الحسنى.
قوله: ﴿أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ : صفةٌ ل «نَبَأ» أو مستأنفةٌ.
قوله: ﴿بالملإ﴾ : متعلِّقٌ بقوله: «مِنْ عِلْم» وضُمِّن معنى الإِحاطة، فلذلك تَعَدَّى بالباء، وتقدَّم تحقيقُه.
395
وقوله: «إذ يَخْتَصِمُون» فيه وجهان، أحدهما: هو منصوبٌ بالمصدرِ أيضا. والثاني: بمضافٍ مقدر أي: بكلامِ الملأ الأَعْلى إذ، قاله الزمخشري. والضمير في «يَخْتَصِمُون» للمَلأ الأعلى. هذا هو الظاهرُ. وقيل: لقريش أي: يختصمون في الملأ الأعلى. فبعضُهم يقول: بناتُ الله وبعضهم يقولُ غيرَ ذلك. فالتقدير: إذ يختصمون فيهم.
396
قوله: ﴿إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ﴾ : العامَّةُ على فتح الهمزة «أنما». وفيها وجهان، أحدهما: أنها مع ما في حَيِّزها في محلِّ رفع لقيامِها مقامَ الفاعلِ أي: ما يُوْحَى إليَّ إلاَّ الإِنذارُ، أو إلاَّ كَوْني نذيراً مبيناً. والثاني: أنها في محلِّ نصب أو جرٍ بعد إسقاطِ لامِ العلةِ. والقائم مقامَ الفاعلِ على هذا الجارُّ والمجرورُ أي: ما يُوْحى إليَّ إلاَّ للإِنذارِ أو لكَوْني نذيراً. ويجوز أَنْ يكونَ القائمُ مقامَ الفاعلِ على هذا ضميرِ ما يَدُلُّ عليه السِّياقُ أي: ما يُوْحى إليَّ ذلك الشيءُ إلاَّ للإِنذار.
وقرأ أبو جعفر بالكسر، وهي القائمةُ مقامَ الفاعلِ على سبيلِ الحكايةِ، كأنه قيل: ما يُوْحى إليَّ إلاَّ هذه الجملةُ المتضمنةُ لهذا الإِخبارِ. وقال الزمخشري: «على الحكاية أي: إلاَّ هذا القولُ وهو أنْ أقولَ لكم: إنما أنا نذيرٌ مبين ولا أدَّعي شيئاً آخرَ». قال الشيخ: «وفي تخريجه تعارُضٌ لأنه قال: إلاَّ هذا القولُ، فظاهرُه الجملةُ التي هي: ﴿أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾. ثم قال: وهو أَن أقولَ لكم إني نذيرٌ فالمقامُ مقامُ الفاعلِ هو أَنْ أقولَ لكم، وإنِّي وما
396
بعده في موضعِ نصبٍ، وعلى قولِه:» إلاَّ هذا القولُ «يكون في موضع رفع فتعارضا». قلت: ولا تعارُضَ البتةَ؛ لأنَّه تفسيرُ معنًى في التقدير الثاني، وفي الأول تفسير إعرابٍ، فلا تعارُضَ.
397
قوله: ﴿إِذْ قَالَ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «إذ» الأولى وأَنْ يكونَ منصوباً ب اذْكُرْ مقدَّراً، قال الأولَ الزمخشري وأطلق، وذكر أبو البقاءِ الثاني وأطلقَ. وأمَّا الشيخُ ففَصَّل فقال: «بدلٌ مِنْ» إذ يَخْتصمون «هذا إذا كانَتِ الخصومَةُ في شَأْنِ مَنْ يَسْتَخْلِفُ في الأرض، وعلى غيرِه من الأقوال يكون منصوباً ب اذكرْ». انتهى قلت: وتلك الأقوالُ: أنَّ التخاصُمَ: إمَّا بين الملأ الأعلى أو بين قُرَيْشٍ وفي ماذا كان المخاصمة، خلافٌ يطول/ الكتابُ بذِكْرِه.
قوله: «مِنْ طينٍ» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل «بَشَراً»، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ «خالِقٌ».
قوله: ﴿كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ : تأكيدان. وقال الزمخشري: «كل» للإِحاطةِ و «أجمعون» للاجتماع، فأفادا معاً أنهم سَجَدوا عن آخِرهم، ما بقي منهم مَلَكٌ إلاَّ سَجَدَ، وأنهم سجدوا جميعاً في وقتٍ واحدٍ غيرَ متفرقين «. قلت: قد تقدَّم الكلامُ معه في ذلك في سورة الحجر.
قوله: ﴿أَن تَسْجُدَ﴾ : قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يَرَى أنَّ «لا» في ﴿أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] في السورةِ الأخرى زائدةٌ؛ حيث سقطَتْ هنا والقصةُ واحدةٌ. وقوله: «لما خَلَقْتُ» قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يرى جوازَ وقوع «ما» على العاقل؛ لأنَّ المرادَ به آدمُ. وقيل: لا دليلَ فيه؛ لأنه كان فَخَّاراً غيرَ جسمٍ حَسَّاسٍ فأشير إليه في تلك الحال. وقيل: «ما» مصدريةٌ والمصدرُ غيرُ مُرادٍ، فيكون واقعاً موقعَ المفعولِ به أي: لمخلوقي.
وقرأ الجحدري «لَمَّا» بتشديدِ الميمِ وفتحِ اللامِ، وهي «لَمَّا» الظرفيةُ عند الفارِسيِّ، وحرفُ وجوبٍ لوجوبٍ عند سيبويه. والمسجود له على هذا غيرُ مذكورٍ أي: ما مَنَعَك من السجود لَمَّا خلقْتُ أي: حين خَلَقْتُ لِمَنْ أَمَرْتُك بالسجود له. وقُرِئ «بيَدَيِّ» بكسرِ الياءِ كقراءةِ حمزةَ «بِمُصْرِخِيِّ» وقد تقدَّم ما فيها. وقُرِئ «بيدي» بالإِفرادِ.
قوله: «أسْتَكْبَرْت» قرأ العامَّةُ بهمزةِ الاستفهام وهو استفهامُ توبيخٍ وإنكارٍ. و «أم» متصلةٌ هنا. هذا قولُ جمهورِ النحويين. ونقل ابنُ عطيةَ عن بعضِ النحويين أنها لا تكونُ معادِلَةً للألفِ مع اختلافِ الفعلَيْن، وإنما تكونُ معادِلةً إذا دَخَلَتا على فِعْلٍ واحد كقولِك: أقامَ زيدٌ أم عمروٌ، وأزيدٌ قام أم عمروٌ؟ وإذا اختلف الفعلان كهذه الآيةِ فليسَتْ معادِلةً. وهذا الذي حكاه عن
398
بعض النحويين مَذْهَبٌ فاسِدٌ، بل جمهورُ النحاةِ على خلافِه قال سيبويه: «وتقول:» أضرَبْتَ زيداً أمْ قَتَلْتَه؟ «فالبَدْءُ هنا بالفعل أحسنُ؛ لأنك إنما تَسْأل عن أحدِهما لا تدري أيهما كان؟ ولا تَسْأَلُ عن موضعِ أحدِهما كأنك قلت: أيُّ ذلك كان» انتهى. فعادل بها الألفَ مع اختلافِ الفعلين.
وقرأ جماعةٌ - منهم ابنُ كثير، وليسَتْ مشهورةً عنه - «استكبَرْتَ» بألف الوصلِ، فاحتملَتْ وجهين، أحدهما: أنْ يكونَ الاستفهامُ مُراداً يَدُلُّ عليه «أم» كقولِه:
٣٨٧٩ -........................... بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ
وقول الآخر:
٣٨٨٠ - ترُوْحُ من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ .............................
فتتفق القراءتان في المعنى، واحتمل أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً، وعلى هذا فأم منقطعةٌ لعدمِ شَرْطِها.
399
قوله: ﴿مِنْهَا﴾ : أي: من الجنةِ أو من الخِلْقة؛ لأنه كان حسناً فَرَجَعَ قبيحاً ونُوْرانياً فعاد مظلماً. وقيل: من السماوات. وقال هنا: «
399
لَعْنتي» وفي غيرها «اللعنةَ»، وهما وإنْ كانا في اللفظ عاماً وخاصاً، إلاَّ أنهما من حيث المعنى عامَّان بطريق اللازم؛ لأنَّ مَنْ كانت عليه لعنة الله كانَتْ عليه [لعنة] كلِّ أحدٍ لا محالةَ. وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [البقرة: ١٦١]. وباقي الجمل تقدَّم نظيرُه.
400
قوله: ﴿فالحق والحق﴾ : قرأهما العامَّةُ منصوبَيْن. وفي نصب الأول أوجهٌ، أحدُها: أنه مُقْسَمٌ به حُذِفَ منه حرفُ القسمِ فانتصَبَ كقولِه:
وقوله: ﴿لأَمْلأَنَّ﴾ : جوابُ القسم. قال أبو البقاء: «إلاَّ أنَّ سيبويهِ يَدْفَعُه لأنه لا يُجَوِّزُ حَذْف حرفِ القسمِ إلاَّ مع اسم الله، ويكون قولُه:» والحقَّ أقولُ «معترضاً بين القسم وجوابِه». قال الزمخشري: «كأنه قيل: ولا أقولُ إلاَّ الحقَّ» يعني أن تقديمَه المفعولَ أفاد الحصرَ. والمرادُ بالحق: إمَّا الباري تعالى كقوله: ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين﴾ [النور: ٢٥] وإمَّا نقيضُ الباطل. والثاني: أنه منصوبٌ على الإِغراءِ أي: الزموا الحقَّ. والثالث:
400
أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ قولِه: «لأَمْلأَنَّ». قال الفراء: / «هو على معنى قولك: حقاً لا شكَّ، ووجودُ الألفِ واللام وطَرْحُهما سواءٌ أي: لأملأن جهنَّم حقاً» انتهى. وهذا لا يَتَمَشَّى على قولِ البصريين؛ فإنَّ شَرْطَ نَصْبِ المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة أَنْ يكونَ بعد جملةٍ ابتدائية خبراها معرفتان جامدان جموداً مَحْضاً.
وجَوَّز ابنُ العِلْج أَنْ يكونَ الخبرُ نكرةً. وأيضاً فإنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لا يجوزُ تقديمُه على الجملةِ المؤكِّدِ هو لمضمونِها. وهذا قد تقدَّم. وأمَّا الثاني فمنصوبٌ ب «أقولُ» بعدَه. والجملةُ معترضةٌ كما تقدَّم. وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ يكونَ منصوباً على التكرير، بمعنى أنَّ الأول والثاني كليهما منصوبان ب أقولُ. وسيأتي إيضاحُ ذلك في عبارتِه.
وقرأ عاصم وحمزةُ برفعِ الأولِ ونصبِ الثاني. فَرَفْعُ الأولِ من أوجهٍ، أحدها: أنه مبتدأ، وخبرُه مضمرٌ تقديرُه: فالحقُّ مني، أو فالحقُّ أنا. الثاني: أنه مبتدأ، خبرُه «لأملأنَّ» قاله ابن عطية. قال: «لأنَّ المعنى: أنْ أَمْلأَ». قال الشيخ: «وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ لأملأنَّ جوابُ قسمٍ. ويجب أَنْ يكونَ جملةً فلا تتقدَّرُ بمفردٍ. وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرفٍ مصدري والفعل حتى
401
يَنْحَلَّ إليهما، ولكنه لَمَّا صَحَّ له إسنادُ ما قَدَّرَ إلى المبتدأ حَكَمَ أنه خبرٌ عنه» قلت: وتأويلُ ابنِ عطيةَ صحيحٌ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ.
الثالث: أنه مبتدأٌ، خبرُه مضمرٌ تقديرُه: فالحقُّ قَسَمي، و «لأملأنَّ» جوابُ القسم كقوله: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: ٧٢] ولكنَّ حَذْفَ الخبرِ هنا ليسَ بواجبٍ، لأنه ليس نصاً في اليمين بخلافِ لَعَمْرك. ومثلُه قولُ امرئ القيس:
٣٨٨١ -........................... فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثَّرِيْدُ
٣٨٨٢ - فقلت يمينُ اللَّهِ أبْرَحُ قاعداً ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي
وأمَّا نصبُ الثاني فبالفعل بعدَه. وقرأ ابنُ عباس ومجاهد والأعمش برفعهما. فرفْعُ الأولِ على ما تقدَّم، ورفعُ الثاني بالابتداءِ، وخبرُه الجملةُ بعده، والعائد محذوفٌ كقولهِ تعالى في قراءةِ ابنِ عامر: ﴿وَكُلٌ وَعَدَ الله الحسنى﴾ وقول أبي النجم:
٣٨٨٣ - قد أصبَحَتْ أمُّ الخيارِ تَدَّعي عليَّ ذَنباً كلُّه لم أَصْنَعِ
ويجوز أَنْ يرتفعَ على التكريرِ عند الزمخشري وسيأتي. وقرأ الحسنُ وعيسى بجرِّهما.
وتخريجُها: على أنَّ الأولَ مجرورٌ بواوِ القسم مقدرةً أي: فوالحقِ والحقِ عطفٌ عليه كقولِك: واللَّهِ واللَّهِ لأقومَنَّ، و «أقول» اعتراضٌ بين القسم وجوابِه. ويجوز أَنْ يكونَ مجروراً على الحكايةِ. وهو منصوبُ المحل
402
ب «أقولُ» بعده. قال الزمخشري: «ومجرورَيْن - أي وقُرئا مجرورَيْن - على أنَّ الأولَ مُقْسَمٌ به قد أُضْمِرَ حرفُ قَسَمِه كقولك:» اللَّهِ لأفعَلَنَّ «والحقَّ أقول أي: ولا أقول إلاَّ الحقَّ على حكايةِ لفظ المقسمِ به، ومعناه التوكيدُ والتشديدُ. وهذا الوجهُ جائزٌ في المرفوعِ والمنصوبِ أيضاً، وهو وجهٌ حسنٌ دقيق» انتهى. يعني أنه أعملَ القولَ في قوله: «والحق» على سبيلِ الحكايةِ فيكونُ منصوباً ب «أقول» سواءً نُصِب أو رُفِعَ أو جُرَّ، كأنه قيل: وأقولُ هذا اللفظَ المتقدمَ مُقَيَّداً بما لُفِظ به أولاً.
قوله: «أجمعين» فيه وجهان، أظهرهما: أنه توكيدٌ للضمير في «منك» و «لمَنْ» عطفٌ في قوله: «ومِمَّنْ تَبِعك» وجيْء بأجمعين دونَ «كل»، وقد تقدَّم أن الأكثرَ خلافُهُ. وجَوزَّ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ تأكيداً للضمير في «منهم» خاصةٌ فقدَّر «لأَمْلأَنَّ جهنم من الشياطين وممَّنْ تبعهم مِنْ جميع الناس لا تفاوتَ في ذلك بين ناسٍ وناسٍ».
403
قوله: ﴿عَلَيْهِ﴾ : متعلقٌ ب «أسْألكم» لا بالأَجْر؛ لأنه مصدرٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً منه. والضمير: إمَّا للقرآن، وإمَّا للوحي، وإمَّا للدعاء إلى الله. و «لتعلمُنَّ» جواب قَسمٍ مقدرٍ معناه: ولَتَعْرِفُنَّ.
Icon