تفسير سورة المدّثر

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ الْمُدَّثِّر
(مَكِّيَّة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١)
القراءة بتشديد، والأصلُ المُتَدَثِّر، والعلة فيها كالعلَّةِ فِي المُتَزمِّل.
وتفسيرها كتفسير المزَمِّل. وقد رويت المُتَدَثر - بالتاء -
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣)
أي صفه بالتعظيم وأنه أكَبرَ، ودخلت الفاء على معنى جواب الجزاء.
المعنى قم فأنذر أي قم فكبر رَبَّكَ.
(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤)
مثلها، وتأويل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي لا تكن غادِراً.
يقال للغادر دَنَس الثياب، ويكون (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي نَفْسَك فطهر.
وقيل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي ثيابك فقصر لأن تَقْصِيرَ الثَوبِ أَبعدُ مِنَ النجاسة وأنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يُصِيبَه ما ينجسه.
* * *
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥)
(وَالرِّجْزَ)
بكسر الراء، وقرئت بضم الراء، ومعناهما واحد.
وَتَأْوِيلُهما اهجر عبادة الأوثان.
والرجز في اللغة العذاب، قال اللَّه تعالى: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ).
فالتأويل على هذا ما يؤدي إلى عذاب الله فاهجره.
* * *
(وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦)
أي لا تعط شيئاً مقَدِّراً أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه، وتستكثر حال
مُتَوَقعَة وهذا للنبي - ﷺ - خاصة وليس على الإنسان إثم أن يهدي هديَّةً يرجو بها ما هو أكثر منها، والنبي - ﷺ - أدَّبَّه الله بأشرف الآداب وأجل الأخلاق.
* * *
وقوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩)
الناقور الصُّورُ، وقيل في التفسير إنه يعني به النفخة الأولى.
و (يَوْمٌ عَسِيرٌ) يرتفع بقوله: (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ).
المعنى فذلك يَوْمٌ عَسِيرٌ يوم ينفخ في الصور
و" يَوْمَئِذٍ: يجوز أَنْ يكونَ رَفْعاً، ويجوز أن يكون نَصْباً.
فإذا كان رفعاً فإنما بني على الفتح لإضافته إلى (إذ) لأن (إذ) غير متمكنة، وإذا كان نصباً فهو على معنى فذلك يوم عَسِيرٌ في يوم ينفخ في الصور.
* * *
وقوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١)
قد فسرنا معنى (ذَرْنِي) في المزمل.
و (وَحِيدًا) مَنْصُوبٌ على الحال، وهو على وجهين:
أحدهما أن يكون وحيداً من صفة اللَّه - عزَّ وجلَّ - المعنى ذَرْنِي
ومن خلقته وَحْدي لم يشركني في خلقه أحَدٌ، وَيكونُ (وَحِيدًا) من صفة
المخلوق، ويكون المعنى، ذرني ومن خلقته وحده لا مالَ له ولا ولَد.
* * *
(وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣)
تقديره مال غير منقطع عنه، وقيل ألف دينار، وبنين شهُوداً، أي شهودٌ
معه لا يحتاجون إلى أن يتصرفوا ويغيبوا عنه.
وهذا قيل يعنى به الوليد بن المُغِيرَة، كان له بنون عشرة وكان مُوسِراً
* * *
وقوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧)
أي سأحمله على مَشَقَّةٍ مِنَ العَذَاب.
* * *
قوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩)
معنى - (قُتِلَ) ههنا لُعِنَ، ومثله: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠).
وكان الوليد بن المغيرة قال لرؤساء أهل مكة، قد رأيتم هذا الرجل - يعني
النبي - ﷺ - وعلمتم ما فشا من أمره، فإن سألكم الناس عنه ما أنتم قائلون.
قالوا نقول: هو مجنون، قال: إذن يخاطبوه فيعلموا أنه غير مجنون.
قالوا فنقول: إنه شاعر، قال: هم العرب، يعلمون الشعر ويعْلَمُونَ أَنَ ما أتى به لَيْسَ بِشِعْرٍ.
قالوا: فنقول إنه كاهن، قال الكهنة لا تقول إنه يكون كذا وكذا إن
شاء اللَّه وهو يقول إن شاء الله، فقالوا قَدْ صَبَأَ الوليد.
وجاء أبو جَهْل ابن أخيه، فقالوا: إن القوم يقولون إنك قد صبوت.
وقد عَزَمُوا على أن يجمعوا لك مالًا فيكون عِوَضاً مِما تقدر أنْ
تَأخُذَ من أصحاب محمد، فقال: واللَّه ما يَشْبَعُونَ، فكيف أقْدِرُ أن
آخذَ منهم مَالًا وإني لَمِنْ أَيْسَر الناس، ومر به جماعة فذكروا له ما أتى به
النبي - ﷺ - ففكر وعَبَس وجهه وَبَسَر، أي نظر بكراهة شَدِيدَةٍ.
فقال: ما هذا الذي أتى به محمد إلَّا سِحرٌ يأثره عن مسَيْلمة وعن أهل بابل.
* * *
(إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)
أي ما هذا إلا قول البشر.
* * *
(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦)
(سَقَر) لا ينصرف لأنها معرفة، وهي مؤنثة، وسَقَر اسم من أسماء
جهنم.
ثم أعلم اللَّه تعالى شأن سقر في العذاب فقال:
* * *
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (٢٧)
تأويله وما أعلمك أي شيء سقر فقال:
(لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩)
البشر جمع بَشَرةٍ، أي تحرق الجلْدَ حَتَّى يَسْودَّ.
* * *
(عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) (١)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾: هذه الجملةُ فيها وجهان أعني: الحاليةَ والاستئنافَ وفي هذه الكلمةِ قراءاتٌ شاذةٌ، وتوجيهاتٌ تُشاكِلُها. وقرأ أبو جعفر وطلحةُ «تسعَة عْشَر» بسكون العين مِنْ «عَشر» تخفيفاً لتوالي خمسِ حركاتٍ مِنْ جنسٍ واحدٍ/ وهذه كقراءةِ ﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً﴾ [يوسف: ٤]، وقد تقدَّمَتْ.
وقرأ أنسٌ وابنُ عباس «تسعةُ» بضمِّ التاء، «عَشَرَ» بالفتح، وهذه حركةُ بناءٍ، ولا يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ كونُها إعراباً؛ إذا لو كانَتْ للإِعرابِ لَجُعِلَتْ في الاسمِ الأخيرِ لِتَنَزُّلِ الكلمتَيْن منزلةَ الكلمةِ الواحدةِ، وإنما عُدِل إلى الضمة كراهةَ توالي خمسِ حركاتٍ. وعن المهدويِّ. «مَنْ قرأ» تسعةُ عَشَر «فكأنه من التداخُلِ كأنه أراد العطفَ فتركَ التركيبَ ورَفَعَ هاءَ التأنيث، ثم راجَعَ البناءَ وأسكنَ» انتهى. فَجَعَلَ الحركةَ للإِعرابِ. ويعني بقولِه «أسكنَ»، أي: أسكنَ راءَ «عشر» فإنه هذ القراءة كذلك.
وعن أنس أيضاً «تسعةُ أَعْشُرَ» بضم «تسعةُ» وأَعْشُرَ بهمزةٍ مفتوحةٍ ثم عينٍ ساكنةٍ ثم شين مضمومة. وفيها وجهان، قال أبو الفضل: «يجوزُ أَنْ يكونَ جَمعَ العَشَرةَ على أَعْشُر ثم أجراه مُجْرى تسعة عشر». وقال الزمخشري: «جمع عَشير، مثل يَمين وأَيْمُن. وعن أنسٍ أيضاً» تسعَةُ وَعْشُرَ «بضم التاءِ وسكونِ العينِ وضمِّ الشين وواوٍ مفتوحةٍ بدلَ الهمزةِ. وتخريجُها كتخريجِ ما قبلَها، إلاَّ أنَّه قَلَبَ الهمزةَ واواً مبالغةً في التخفيفِ، والضمةُ كما تقدَّم للبناءِ لا للإِعرابِ. ونقل المهدويُّ أنه قُرِىءَ» تسعةُ وَعَشَرْ «قال:» فجاء به على الأصلِ قبلَ التركِيبِ وعَطَفَ «عشراً على تسعة» وحَذَفَ التنوينَ لكثرةِ الاستعمالِ، وسَكَّنَ الراءَ مِنْ عشر على نيةِ الوقفِ.
وقرأ سليمان بن قتة بضمِّ التاءِ، وهمزةٍ مفتوحةٍ، وسكونِ العين، وضم الشين وجرِّ الراءِ مِنْ أَعْشُرٍ، والضمةُ على هذا ضمةُ إعرابٍ، لأنه أضاف الاسمَ لِما بعده، فأعربَهما إعرابَ المتضايفَيْنِ، وهي لغةٌ لبعضِ العربِ يَفُك‍ُّون تركيبَ الأعدادِ ويُعْرِبُونهما كالمتضايفَيْنِ كقول الراجز:
٤٣٩٣ كُلِّفَ مِنْ عَنائِه وشِقْوَتِهْ... بنتَ ثماني عَشْرَةٍ مِنْ حَجَّتِهْ
قال أبو الفضل: «ويُخْبَرُ على هذه القراةِ وهي قراءةُ مَنْ قرأ» أَعْشُر «مبنياً أو معرباً من حيث هو جمعٌ أنَّ الملائكةَ الذين هم على سَقَرَ تسعون مَلَكاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أي على سقر تِسْعَةَ عَشَرَ مَلَكاً، وَوَصَفَهُم اللَّه في موضع آخر فقال:
(عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦).
الذي حكاه البَصْرِيون تسعَةَ عَشر بفتح العين في عَشَر.
وقد قرئت بتسكين العَيْنِ، والقراءة بفتحها، وإنما أسكنها من أسكنها لكثرة الحركات، وذلك أَنَهمَا اسمَانِ جُعِلاَ اسماً وَاحِداً، ولذلك بُنِيَا على الفتح، وقرأ بَعْضهم تسعَةُ عَشَر فأعربت على الأصل، وذلك قليل في النحو، والأجود تِسعةَ عَشَر على البناء على الفتح، وفيها وجة آخر
" تِسْعَة أعْشرٍ "، وهي شاذَّة، كأنَّها على
جمع فعيل وأَفْغل، مثل يَمِين وأَيْمُن (١).
* * *
وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (٣١)
(وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا).
أَيْ مِحْنَةً، لأن بعضهم قال بعضنا يكفي هؤلاء.
وقوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ).
أي يعلمون أن ما أَتى به النبي عليه السلام موَافِقَاً لما في كتبهم.
(وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا).
لأنهم كلَّمَا صَدقوا بما يَأتي في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ زاد إيمانهم.
(وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ)
أيْ لَا يَشكونَ.
وقوله: (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ).
جاء في التفسير أن النار في الدنيا تذكر بالنار في الآخرة.
* * *
وقوله: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣)
ويقرأ (إِذْ دَبَرَ)، وكلاهما جَيِّدٌ في العربية.
يقال: دبر الليل وَأدْبَرَ، وكذلك قَبَل الليل وَأقْبَلَ.
وقد قرئت أيضاً (إِذَا أَدْبَرَ) (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ).
بإثبات الألف فيهما.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿إِذْ أَدْبَرَ﴾: قرأ نافعٌ وحمزةُ وحفصٌ «إذ» ظرفاً لِما مضى مِنْ الزمانِ، «أَدْبَرَ» بزنةِ أَكْرَمَ. والباقون «إذا» ظرفاً لِما يُسْتقبل، «دَبَرَ» بزنةِ ضَرَبَ، والرسمُ محتملٌ لكلتَيْهما، فالصورةُ الخطيَّةُ لا تختلفُ. واختار أبو عبيد قراءةَ «إذا» قال: لأنَّ بعدَه «إذا أَسْفَرَ» قال: «وكذلك هي في حرفِ عبدِ الله» قلت: يعني أنَّه مكتوبٌ بألفَيْنِ بعد الذالِ أحدُهما ألفُ «إذا» والأخرى همزةُ «أَدْبَرَ». واختار ابنُ عباس أيضاً «إذا» ويُحْكى أنَّه لَمَّا سَمِعَ «أَدْبَرَ» قال: «إنما يُدْبِر ظهرُ البعير».
واختلفوا: هل دَبَر وأَدْبَر، بمعنى أم لا؟ فقيل: هما بمعنىً واحدٍ/ يقال: دَبَر الليلُ والنهارُ وأَدْبَرَ، وقَبَلَ وأَقْبل. ومنه قولُهم «أمسٌ الدابرُ» فهذا مِنْ دَبَرَ، وأمسٌ المُدْبر قال:
٤٣٩٤...........
ذهبوا كأمس الدابِر
وأمَّا أَدْبَرَ الراكبُ وأَقْبل فرباعيٌّ لا غيرُ. هذا قولُ الفراء والزجاج. وقال يونس: «دَبَرَ انقضى، وأَدْبَرَ تَوَلَّى ففرَّق بينهما. وقال الزمخشري:» ودَبَرَ بمعنى أَدْبَرَ كقَبَل بمعنى أَقْبَلَ. قيل: ومنه صاروا كأمسٍ الدابرِ، وقيل: هو من دَبَرَ الليلُ النهارَ إذا خَلَفَه «.
وقرأ العامَّةُ»
أسْفَرَ «بالألف، وعيسى بنُ الفضل وابن السَّمَيْفَع» سَفَرَ «ثلاثياً». والمعنى: طَرَحَ الظلمةَ عن وجهِه، على وجهِ الاستعارةِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله: (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (٣٦)
هذه الهاء كناية عَنِ النَّارِ، أَي إنَّها لكبيرة في حَالِ الِإنذار.
وَنَصْب (نَذِيرًا) على الحال، وذَكَّر (نَذِيرًا) لأنَّ مَعْنَاهُ معنى العَذَابِ.
ويجوز أن يكون التذكير على قولهم امرأة طاهر وطالق، أي ذات طلاقٍ وكذلك نذير ذات إنْذَارٍ.
ويجوز أَنْ يَكُونَ (نَذِيرًا) مَنْصُوباً مُعَلَّقا بأولِ السورَةِ على معنى قم نذيراً
للبشرِ.
* * *
وقوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧)
أي أن يتقدم فيما أمر به أو يتأخر، فقد أنذرتم.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩)
قيل أصحابُ اليمين الأطْفَالُ لأنهم لا يسألون، تفضل اللَّه عليهم بأن أعطاهم
الجنَّةَ، وكل نفْس رَهِينة بِعَمَلِهَا إما خَلَّصَهَا وإما أوبَقَها.
والتخليص مع عملها بتفضل اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥)
أي نَتًبعُ الغاوِينَ.
* * *
وقوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨)
يعني الكفار وفي هذا دليل أن المؤمنين تنفعهم شفاعة بعضهم لِبَعْض.
* * *
وقوله: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)
منصوب على الحال.
* * *
(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠)
وقرئت مُسْتَنْفَرَة.
قال الشاعر:
أمْسِكْ حِمَارَك إنَّه مُسْتَنْفِرُ... في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لِغُرَّبِ
(١)
* * *
وقوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١)
القسورةُ الأسَدُ، وقيل أيْضاً القَسورَةُ الرَّمَاة الذين يَتَصَيدُونَها.
* * *
وقوله: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (٥٢)
قيل كانوا يقولون: كان مَن أذنب من بني إسْرَائِيلَ يجد ذنبه مكتوباً من
غَدٍ عَلَى بَابِه فما بالنا لا نكون كذلك.
وَقَدْ جَاءَ في القرآنِ تفْسِيرُ طَلَبِهِمْ في سورة بني إسرائيل في قوله:
(وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ).
* * *
وقوله: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)
أَي هو أهل أَنْ يُتقَى عِقَابُه، وأهل أَنْ يُعمل بما يؤدي إلى مغفرته.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضمير في الجارِّ، وتكون بدلاً مِنْ «مُعْرِضِيْنَ» قاله أبو البقاء، يعني أنَّها كالمشتملة عيلها، وأنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في «مُعْرِضِين»، فتكونَ حالاً متداخلةً.
وقرأ العامَّةُ «حُمُرٌ» بضمِّ الميم، والأعمش بإسكانِها. وقرأ نافعٌ وابنُ عامر بفتح الفاء مِنْ «مُسْتَنْفَرة» على أنه اسمُ مفعولٍ، أي: نَفَّرها القُنَّاص. والباقون بالكسرِ بمعنى: نافِرة: يُقال: استنفر ونَفَر بمعنى نحو: عَجِب واستعجب، وسخِر واسْتَسْخر. قال الشاعر:
٤٣٩٨ أَمْسِكْ حِمارَكَ إنَّه مُسْتَنْفِرُ... في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ
وقال الزمخشري: «كأنها تطلُبُ النِّفار مِنْ نفوسِها في جَمْعِها له وحَمْلِها عليه» انتهى. فأبقى السينَ على بابِها من الطَّلَبِ، وهو معنى حسن.
ورجَّحَ بعضُهم الكسرَ لقولِه «فَرَّتْ» للتناسُبِ. وحكى محمدُ ابنُ سَلاَّم قال: «سألتُ أبا سَوَّار الغَنَويَّ وكان عربياً فصيحاً، فقلت: كأنهم/ حُمُرٌ ماذا؟ فقال: مُسْتَنْفَرَة طَرَدَها قَسْورة. فقلت: إنما هو ﴿فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ فقال: أفرَّتْ؟ قلت: نعم. قال:» فمُسْتَنْفِرة إذن «انتهى. يعني أنها مع قولِه» طَرَدها «تُناسِبُ الفتحَ لأنَّها اسمُ مفعولٍ فلما أُخْبر بأنَّ التلاوةَ ﴿فَرَّتْ مِن قسْورة﴾ رَجَعَ إلى الكسرِ للتناسُبِ، إلاَّ أنَ بمثلِ هذه الحكاية لا تُرَدُّ القراءةُ المتواترةُ.
والقَسْوَرَةُ: قيل: الصائِدُ. وقيل: ظلمةُ الليل. وقيل: الأسد، ومنه قولُ الشاعر:
٤٣٩٩ مُضَمَّرٌ تَحْذَرُه الأبطالُ... كأنه القَسْوَرَةُ الرِّئْبالُ
أي: الأسد، إلاَّ إنَّ ابن عباس أنكرَه، وقال: لا أعرفُ القَسْوَرَةَ: الأسدَ في لغة العرب، وإنما القَسْوَرَةُ: عَصَبُ الرجال، وأنشد:
٤٤٠٠ يا بنتُ، كثوني خَيْرَةً لخَيِّرَهْ... أخوالُها الجِنُّ وأهلُ القَسْوَرَهْ
وقيل: هم الرُّماةُ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة:
٤٤٠١ إذا ما هَتَفْنا هَتْفَةً في نَدِيِّنا... أتانا الرجالُ العانِدون القساوِرُ
والجملةُ مِنْ قولِه»
فَرَّتْ «يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل» حُمُر «مثلَ» مُسْتَنْفرة «، وأنْ تكونَ حالاً، قاله أبو البقاء.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
Icon