ولما ختم الانفطار بانقطاع الأسباب وانحسام الأنساب يوم الحساب، وأبلغ في التهديد بيوم الدين وأنه لا أمر لأحد معه،
310
وذكر الأشقياء والسعداء، وكان أعظم ما يدور بين العباد المقادير، وكانت المعصية بالبخس فيها من أخس المعاصي وأدناها، حذر من الخيانة فيها وذكر ما أعد لأهلها وجمع إليهم كل من اتصف بوصفهم فحلمه وصفه على نوع من المعاصي، كل ذلك تنبيهاً للأشقياء الغافلين على ما هم فيه من السموم الممرضة المهلكة، ونبه على الشفاء لمن أراده فقال:
﴿ويل﴾ أي هلاك ثابت عظيم في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة
﴿للمطففين﴾ أي الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون حقوق الناس، وفي ذلك تنبيه على أن أصل الآفات الخلق السيىء وهو حب الدنيا الموقع في جمع الأموال من غير وجهها ولو بأخس الوجوه: التطفيف الذي لا يرضاه ذو مروءة وهم من يقاربون ملء الكيل وعدل الوزن ولا يملؤون ولا يعدلون، وكأنه من الإزالة أي أزال ما أشرف من أعلى الكيل، من الطف، وهو ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق، ومنه ما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنت فارساً فسبقت الناس حتى طفت لي الفرس مسجد بني زريق - يعني أن الفرس وثب حتى كاد يساوي المسجد، ويقال: طف الرجل الحائط -
311
إذا علاه، أو من القرب، من قولهم: أخذت من متاعي ما خف وطف، أي قرب مني، وكل شيء أدنيته من شيء فقد أطففته، والطفاف من الإناء وغيره: ما قارب أن يملأه، ولا يتم ملأه، وفي الحديث:
«كلكم بنو آدم طف الصاع»، أو من الطفف وهو التقتير، يقال: طفف عليه تطفيفا - إذا قتر عليه، أو من الطفيف وهو من الأشياء الخسيس الدون والقليل، فكأن التضعيف للإزالة على المعنى الأول كما مضى، وللمقاربة الكثيرة على المعنى الثاني أي أنه يقار ملء المكيال مقاربة كبيرة مكراً وخداعاً حتى يظن صاحب الحق أنه وفى ولا يوفي، يقال: أطف فلان لفلان - إذا أراد ختله، وإذا نهى عن هذا فقد نهى عما نقص أكثر بمفهوم الموافقة، وعلى المعنى الثالث بمعنى التقتير والمشاححة في الكيل، وعلى المعنى الرابع بمعنى التنقيص والتقليل فيه، وكأنه اختير هذا اللفظ لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء اليسير جداً، هذا أصله في اللغة وقد فسره الله سبحانه وتعالى فقال:
﴿الذين إذا اكتالوا﴾ أي عالجوا الكيل أو الوزن فاتزنوا - بما دل عليه ما يأتي، وعبر بأداة الاستعلاء ليكون المعنى: مستعلين أو متحاملين
﴿على الناس﴾ أي خاصة بمشاهدتهم كائنين من كانوا لا يخافون شيئاً ولا يراعون أحداً، بل صارت الخيانة والوقاحة
312
لهم ديدناً، وهذا الفعل يتعدى بمن وعلى، يقال: اكتال من الرجل وعليه، ويجوز أن يكون اختيار التعبير بعلى هنا مع ما تقدم للإشارة إلى أنهم إذا كان لهم نوع علو بأن كان المكتال منه ضعيفاً خانوه فيكون أمرهم دائراً على الرذالة وسفول الهمة التي لا أسفل منها
﴿يستوفون *﴾ أي يوجدون لأنفسهم الوفاء وهو تمام الكيل بغاية الرغبة والمبالغة في الملء، فكأنه ذكر
«اكتالوا» ولم يذكر
«اتزنوا» لأنه لا يتأتى في الوزن من المعالجة ما يتأتى في الكيل، ولأنهم يتمكنون في الاكتيال من المبالغة في استيفاء المؤدي إلى الزيادة ما لا يتمكنون من مثله في الاتزان، وهذا بخلاف الإخسار فإن التمكن بسببه حاصل في الموضعين فلذلك ذكرهما فيه.
ولما أفهم تقديم الجار الاختصاص فأفهم أنهم إذا فعلوا من أنفسهم لا يكون كذلك، صرح به فقال:
﴿وإذا كالوهم﴾ أي كالوا الناس أي حقهم أي ما لهم من الحق
﴿أو وزنوهم﴾ أي وزنوا ما عليهم له من الحق، يقال: اكتال من الرجل وعليه وكال له الطعام وكاله الطعام، ووزنت الرجل الشيء ووزنت له الشيء، ولعله سبحانه اختار
«على» في الأول والمعدى إلى اثنين في الثاني لأنه أدل على
313
حضور صاحب الحق، فهو في غيبته أولى، فهو أدل على المرون على الوقاحة، فهما كلمتان لا أربع لأنه ليس بعد الواو ألف جمع، قال البغوي: وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين يقف على كالوا ووزنوا ويبتدىء هم، قال أبو عبيدة: والاختيار الأولى، قال البغوي: يعني أن كل واحدة كلمة لأنهم كتبوهما بغير ألف باتفاق المصاحف، وقال الزمخشري: ولا يصح أن يكون ضميراً للمطففين لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد، وذلك أن المعنى: إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا أعطوهم أخسروا، وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر، والتعلق في إبطاله بخط المصحف وأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابته فيه ركيك لأن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الخط - انتهى. ولا شك أن في خط المصحف تقوية لهذا الوجه المعنوي وتأكيداً
﴿يخسرون *﴾ أي يوجدون الخسارة بالنقص فيما يكيلون لغيرهم، والحاصل أنهم يأخذون وافياً أو زائداً ويعطون ناقصاً.
314
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما قال سبحانه وتعالى في سورة الانفطار
﴿وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين﴾ [الانفطار: ١٠] الآية وكان مقتضى ذلك الإشعار بوقوع الجزاء على جزئيات الأعمال وأنه لا يفوت عمل كما قال تعالى:
﴿وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفا بنا حاسبين﴾
[الأنبياء: ٤٧] أتبع الآية المتقدمة بجزاء عمل يتوهم فيه قرب المرتكب وهو من أكبر الجرائم، وذلك التطفيف في المكيال والميزان والانحراف عن إقامة القسط في ذلك، فقال تعالى:
﴿ويل للمطففين﴾ [المطففين: ١] ثم أردف تهديدهم وتشديد وعيدهم فقال:
﴿ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم﴾ [المطففين: ٤ - ٥] ثم التحمت الآي مناسبة لما افتتحت به السورة إلى ختامها - انتهى.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أنهم أدمنوا على هذه الرذائل حتى صارت لهم خلقاً مرنوا عليه وأنسوا به وسكنوا إليه، وكان ذلك لا يكون إلا ممن أمن العقاب وأنكر الحساب، أنتج ذلك الإنكار عليهم على أبلغ الوجوه لإفهامه أن حالهم أهل لأن يتعجب منه ويستفهم عنه وأن المستفهم عن حصوله عندهم الظن، وأما اليقين فلا يتخيل فيهم لبعد أحوالهم الجافية وأفهامه الجامدة عنه فقال تعالى:
﴿ألا يظن أولئك﴾ أي الأخساء البعداء الأرجاس الأراذل يتجدد لهم وقتاً من الأوقات ظن أن لم يتيقنوا بما مضى من البراهين التي أفادت أعلى رتب اليقين،
315
فإنهم لو ظنوا ذلك ظناً نهاهم إن كان لهم نظر لأنفسهم عن أمثال هذه القبائح، ومن لم تفده تلك الدلائل القاطعة ظناً يحتاط به لنفسه فلا حس له أصلاً
﴿أنهم﴾ وعبر باسم المفعول فقال:
﴿مبعوثون *﴾ إشارة إلى القهر على أهون وجه بالبعث الذي قد ألفوا مثله من القهر باليقظة بعد القهر بالنوم
﴿ليوم﴾ أي لأجله وفيه، وزاد التهويل بقوله:
﴿عظيم *﴾ أي لعظمة ما يكون فيه من الجمع والحساب الذي يكون عنه الثواب والعقاب مما لا يعلمه على حقيقته إلا هو سبحانه وتعالى.
316
ولما عظم ذلك اليوم تحذيراً منه، وزاده تعظيماً بأن أتبعه على سبيل القطع قوله ناصباً بتقدير
«أعني» إعلاماً بأن الجحد فيه بأعين جميع الخلائق فهو فضيحة لا يشبهها فضيحة:
﴿يوم يقوم﴾ أي على الأرجل
﴿الناس﴾ أي كل من فيه قابلية الحركة، وذلك يوم القيامة خمسين ألف سنة لا ينظر إليهم سبحانه - رواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمرو رفعه ورجاله ثقات
﴿لرب العالمين *﴾ أي لأجل حكم موجد الخلائق ومربيهم كلهم فلا ينسى أحداً من رزقه ولا يهمله من حكمه ولا يرضى بظلم أحد ممن يربيه فهو يفيض لكل من كل بحكم التربية، كل ذلك من استفهام الإنكار وكله الظن، ووصف اليوم بما
316
وصف وغير ذلك للإبلاغ في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه، وروى الحاكم من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه رفعه:
«ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» ومن طريق عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً نحوه، وللطبراني من طريق الضحاك عن مجاهد وطاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً نحوه.
ولما أنهى سبحانه ما أراد من تعظيم ذلك اليوم والتعجيب ممن لم يفده براهينه أن يجوزه والإنكار عليه، وكان مع ما فيه من التقريع مفهماً للتقرير، نفى بأداة الردع للمبالغة في النفي مضمون ما وقع الاستفهام عنه فقال:
﴿كلا﴾ أي لا يظن أولئك ذلك بوجه من الوجوه لكثافة طباعهم ووقوفهم مع المحسوس دأب البهائم بل لا يجوزونه، ولو جوزوه لما وقعوا في ظلم أحد من يسألون عنه في ذلك اليوم المهول، وما أوجب لهم الوقوع في الجرائم إلا الإعراض عنه، وقال
317
الحسن رحمه الله تعالى: هي بمعنى حقاً متصلة بما بعدها - انتهى. وهي مع ذلك مفهمة للردع الذي ليس بعده ردع عن اعتقاد مثل ذلك والموافقة لشيء مما يوجب الخزي فيه.
ولما أخبر عن إنكارهم، استأنف إثبات ما أنكروه على أبلغ وجه وأفظعه مهولاً لما يقع لهم من الشرور وفوات السرور، مؤكداً لأجل إنكارهم فقال:
﴿إن كتاب﴾ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال:
﴿الفجار﴾ أي صحيفة حساب هؤلاء الذين حملهم على كفرهم مروقهم وكذا كل من وافقهم في صفاتهم فكان في غاية المروق مما حق ملابسته وملازمته، وأبلغ في التأكيد فقال:
﴿لفي سجين *﴾ هو علم منقول في صيغة المبالغة عن وصف من السجن وهو الحبس لأنه سبب الحبس في جهنم أي إنه ليس فيه أهلية الصعود إلى محل الأقداس إشارة إلى أن كتابهم إذا كان في سجن عظيم أي ضيق شديد كانوا هم في أعظم، قال ابن جرير: وهي
318
الأرض السابعة - انتهى وهو يفهم مع هذه الحقيقة أنهم في غاية الخسارة لأنه يقال لكل من انحط: صار تراباً ولصق بالأرض - ونحو ذلك، ثم زاد في هوله بالإخبار بأنه أهل لأن يسأل عنه ويضرب إلى العالم به - إن كان يمكن - آباط الإبل فقال:
﴿وما أدراك﴾ أي جعلك دارياً وإن اجتهدت في ذلك
﴿ما سجين *﴾ أي أنه بحيث لا تحتمل وصفه العقول، وهو مع ذلك في أسفل سافلين ويشهده المبعدون من الشياطين وسائر الظالمين، يصعد بالميت منهم إلى السماء فتغلق أبوابها دونه فيرد تهوي به الريح تشمت به الشياطين.
وكل ما قال فيه:
«وما أدراك» فقد أدراه به بخلاف
«وما يدريك».
ولما أتم ما أراد من وصفه، أعرض عن بيانه إشارة إلى أنه من العظمة بحيث إنه يكل عنه الوصف، واستأنف أمر الكتاب المسجون فيه فقال محذراً منه مهولاً لأمره:
﴿كتاب﴾ أي عظيم لحفظه النقير والقطمير
﴿مرقوم *﴾ أي مسطور بين الكتابة كما تبين الرقمة البيضاء في جلد الثور الأسود، ويعلم كل من رآه أنه غاية في الشر، وهو كالرقم في الثوب والنقش في الحجر لا يبلى ولا يحمى.
ولما أعلم هذا بما للكتاب من الشر، استأنف الإخبار بما أنتجه
319
مما لأصحابه فقال:
﴿ويل﴾ أي أعظم الهلاك
﴿يومئذ﴾ أي إذ يقوم الناس لما تقدم: ولما كان الأصل: لهم، أبدله بوصف ظاهر تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال:
﴿للمكذبين *﴾ أي الراسخين في التكذيب بكل ما ينبغي التصديق به.
ولما أخبر عن ويلهم، وصفهم بما يبين ما كذبوا به ويبلغ في ذمهم فقال:
﴿الذين يكذبون﴾ أي يوقعون التكذيب لكل من ينبغي تصديقه، مستهينين
﴿بيوم﴾ أي بسب الإخبار بيوم
﴿الذين *﴾ أي الجزاء الذي هو سر الوجود
﴿وما﴾ أي والحال أنه ما
﴿يكذب﴾ أي يوقع التكذيب
﴿به إلا كل معتد﴾ أي متجاوز للحد في العناد أو الجمود والتقليد لأن محطة نسبة من ثبت بالبراهين القاطعة أنه على كل شيء قدير إلى العجز عن إعادة ما ابتدأه
﴿أثيم *﴾ أي مبالغ في الانهماك في الشهوات الموجبة للآثام، وهي الذنوب، فاسود قلبه فعمي بنظر الشهوات التي حفت بها النار عما عداها.
320
ولما أثبت له الإبلاغ في الإثم، دل عليه بقوله بأداة التحقق:
﴿إذا تتلى﴾ أي من أي تال كان، مستعلية بما لها من البراهين
﴿عليه آياتنا﴾ أي العلامات الدالة على ما أريد بيانها له مع ما لها من العظمة بالنسبة إلينا
﴿قال﴾ أي من غير توقف ولا تأمل بل بحظ نفس أوقعه
320
في شهوة المغالبة التي سببها الكبر:
﴿أساطير الأولين *﴾ أي من الأباطيل وليست كلام الله، فكان لفرط جهله بحيث لا ينتفع بشواهد النقل كما أنه لم ينظر في دلائل العقل.
ولما كان هذا قد صار كالأنعام في عدم النظر بل هو أضل سبيلاً لأنه قادر على النظر دونها، قال رادعاً له ومكذباً ومبيناً لما أدى به إلى هذا القول وهو لا يعتقده:
﴿كلا﴾ أي ليرتدع ارتداعاً عظيماً ولينزجر انزجاراً شديداً، فليس الأمر كما قال في المتلو ولا هو معتقد له اعتقاداً جازماً لأنه لم يقله عن بصيرة
﴿بل ران﴾ أي غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم للسماء والصدأ للمرآة، وجمع اعتباراً بمعنى
«كل» لئلا يتعنت متعنت، فقال معبراً بجمع الكثرة إشارة إلى كثرتهم:
﴿على قلوبهم﴾ أي كل من قال هذا القول
﴿ما كانوا﴾ أي بجبلاتهم الفاسدة
﴿يكسبون *﴾ أي يجددون كسبه مستمرين عليه من الأعمال الردية، فإن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، فيتراكم الذنب على القلب فيسود، فلذلك كانوا يقولون مثل هذا الاعتقاد، بل هو شيء يسدون به المجلس ويقيمون لأنفسهم عند العامة المعاذير ويفترون به عزائم التالين بما يحرقون من قلوبهم - أحرق الله قلوبهم وبيوتهم بالنار - فإنهم لا ينقطعون في عصر من الأعصار ولا يخشون من
321
عار ولا شنار، روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
«إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب صقل منها، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله سبحانه وتعالى» وقال الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء: قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدأ خلقته عن اتباع الشهوات، وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع منها ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نفس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآه الصقيلة، فإن تراكمت ظلمة الشهوات صار ريناً كما يصير بخار النفس في وجه المرآة عند تراكمه خبثاً، فإذا تراكم الرين صار طبعاً كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم وطال زمانه غاص في جرم الحديد وأفسده وصار لا يقبل التصقيل بعده، وصار كالمطبوع من الخبث ولا يكفي في تدارك اتباع الشهوات تركها في المستقبل بل لا بد من محو تلك الآثار التي انطبعت في القلب كما لا يكفي في ظهور الصورة في المرآة قطع الأنفاس والبخارات المسودة لوجهها في المستقبل ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الآثار، وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصي والشهوات فيرتفع إليه نور من الطاعات وترك الشهوات فتنمحي ظلمة المعصية بنور الطاعة، وإليه الإشارة بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وأتبع السيئة الحسنة تمحها».
322
ولما كان ادعاؤهم إنما هو قول قالوه بأفواههم لا يتجاوزها عظيماً جداً، أعاد ردعهم عنه وتكذيبهم فيه فقال:
﴿كلا﴾ أي ليس الأمر كما قالوا من الأساطير لا في الواقع ولا عندهم فليرتدعوا عنه أعظم ارتداع. ولما كان قول الإنسان لما لا يعتقده ولا هو في الواقع كما في غاية العجب لا يكاد يصدق، علله مبيناً أن الحامل لهم عليه إنما هو الحجاب الذي ختم به سبحانه على قلوبهم، فقال مؤكداً لمن ينكر ذلك من المغرورين:
﴿إنهم عن ربهم﴾ أي عن ذكر المحسن إليهم وخشيته ورجائه
﴿يومئذ﴾ أي إذ قالوا هذا القول الفارغ. ولما كان المانع إنما هو الحجاب، بني للمفعول قوله:
﴿لمحجوبون *﴾ فلذلك استولت عليهم الشياطين والأهوية، فصاروا يقولون ما لو عقلت البهائم لاستحيت من أن تقوله، والأحسن أن تكون الآية بياناً وتعليلاً لويلهم الذي سبق الإخبار به، ويكون التقدير: يوم إذ كان يوم الدين، ويكون المراد الحجاب عن الرؤية، ويكون في ذلك بشارة للمؤمنين بها. وقال البغوي: قال أكثر المفسرين: عن رؤيته، وقال: إن الإمامين الشافعي وشيخه مالكاً استدلا بهذه الآية على الرؤية، وأسند الحافظ أبو نعيم في الحلية في ترجمة الشافعي أنه قال: في هذه الآية دلالة على أن أولياءه يرونه على صفته، وقال ابن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم
323
في الآخرة عن رؤيته، وقال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا. وقال القشيري: ودليل الخطاب يوجب أن يكون المؤمنون يرونه كما يعرفونه اليوم انتهى. وفيه تمثيل لإهانتهم بإهانة من يمنع الدخول على الملك.
ولما بين ما لهم من العذاب بالحجاب الذي هو عذاب القلب الذي لا عذاب أشد منه، لأنه يتفرع عنه جميع العذاب، شرع يبين بعض ما تفرع عنه من عذاب القالب مؤكداً لأجل إنكارهم معبراً بأداة التراخي إعلاماً بعلو رتبته في أنواع العذاب فقال:
﴿ثم إنهم﴾ أي بعد ما شاء الله من إمهالهم
﴿لصلوا الجحيم *﴾ أي لدخلو النار العظمى ويقيمون فيها مقاسون لحرها ويغمسون فيها كما تغمس الشاة المصلية أي المشوية.
ولما بين ما لهم من الفعل الذي هو للقلب والقالب، أتبعه القول بالتوبيخ والتبكيت الذي هو عذاب النفس، وبناه للمفعول لأن المنكىء سماعه لا كونه من معين، وإشارة إلى أنه يتمكن من قوله لهم كل من يصح منه القول من خزنة النار ومن أهل الجنة وغيرهم لأنه لا منعة عندهم:
﴿ثم يقال﴾ أي لهم بعد مدة تبكيتاً وتقريعاً وتنديماً وتبشيعاً:
﴿هذا﴾ أي العذاب الذي هو حالّ بكم
﴿الذي كنتم﴾
324
أي بما لكم من الجبلات الخبيثة
﴿به﴾ أي خاصة لأن تكذيبكم بغيره بالنسبة إليه لما له من القباحة ولكم من الرسوخ فيه والملازمة له (؟)
﴿تكذبون *﴾ أي توقعون التكذيب به وتجددونه مستمرين عليه.
325
ولما كان هذا ربما أفهم أنهم يرون جميع عذابهم إذ ذاك، نفاه بقوله:
﴿كلا﴾ أي ليس هو المجموع بل هو فرد من الجنس فلهذا عمل عليه الجنس وهو نزلهم والأمر أطم وأعظم من أن يحيط به الوصف. ولما ذكر ما للمكذبين من العذاب الذي جره إليهم إقبالهم على الدنيا بادئاً به لأن المقام من أول السورة للوعيد وصوادع التهديد، أتبعه ما للمصدقين الذين أقبل بهم إلى السعادة ترك الحظوظ وإعراضهم عن عاجل شهوات الدنيا، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم:
﴿إن كتاب الأبرار﴾ أي صحيفة حسنات الذين هم في غاية الاتساع في شرح صدورهم، واتساع عقولهم وكثرة أعمالهم وزكائها وغير ذلك من محاسن أمورهم
﴿لفي علييّن *﴾ أي أماكن منسوبة إلى العلو، وقع النسب أولاً إلى فعليّ ثم جمع وإن كان لا واحد له من لفظه كعشرين وأخواته، قال الكسائي: إذا جمعت العرب ما لا يذهبون فيه إلى أن له بناء من واحد واثنين فإنهم يجمعون بالواو والنون في المذكر والمؤنث - انتهى، فهي درجات متصاعدة تصعد إلى الله ولا تحجب
325
عنه كما يحجب ما للأشقياء بعضها فوق بعض إلى ما لا نهاية له بحسب رتب الأعمال، وكل من كان كتابه من الأبرار في مكان لحق به كما أن من كان كتابه من الفجار في سجين لحق به، قال الرازي في اللوامع: من ترقى علمه عن الحواس والأوهام وفعله عن مقتضى الشهوة والغضب فهو حقيق بأن يكون عليّاً، ومن كان علمه وإدراكه مقصوراً على الحواس والخيال والأوهام وفعله على مقتضى الشهوات البهيمية فهو حقيق بأن يكون في سجين.
ولما كان هذا أمراً عظيماً، زاد في تعظيمه بقوله:
﴿وما﴾ أي وأي شيء
﴿أدراك﴾ أي جعلك دارياً وإن بالغت في الفحص
﴿ما علّيون *﴾ فإن وصفه لا تسعه العقول ويلزمه لعلوه فضاء مطلق واتساع مبين. ولما عظم المكان فعلمت عظمة الكتاب، ابتدأ الإخبار عنه على سبيل القطع زيادة في عظمته فقال:
﴿كتاب﴾ أي عظيم
﴿مرقوم *﴾ أي فيه أن فلاناً أمن من النار فيا له من رقم ما أحسنه وما أبهاه وما أجمله.
ولما عظمه في نفسه وفي مكانه، عظمه في حضّاره فقال:
﴿يشهده المقربون *﴾ أي يحضره حضوراً تاماً دائماً لا غيبة فيه الجماعة
326
الذين يعرف كل أحد أنه ليس لهم عند كل من يعتبر تقريبه إلا التقريب من ابتدائه إلى انتهائه هم شهود هذا المسطور وهم الملائكة يشيعونه من سماء إلى سماء ويحفون به سروراً وتعظيماً لصاحبه ويشهده من في السماوات من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصديقين والشهداء والصالحين، فالآية مع الأولى من الاحتباك: ذكر سجين أولاً دال على الاتساع ثانياً، وذكر عليين والمقربين ثانياً دال على أسفل سافلين والمبعدين أولاً.
ولما عظم كتابهم بهذه الفضائل، التفتت النفي إلى معرفة حالهم فقال شافياً لعي هذا الالتفات مؤكداً لأجل من ينكر:
﴿إن الأبرار﴾ أي الذين هذا كتابهم
﴿لفي نعيم *﴾ أي محيط بهم ضد ما فيه الفجار من الجحيم: ولما كان لا شيء أنعم للإنسان من شيء عال يجلس عليه ويمد بصره إلى ما يشتهي مما لديه، قال مبيناً لذلك النعيم:
﴿على الأرائك﴾ أي الأسرة العالية مع هذا العلو المطلق في الحجال التي يعيي الفكر وصفها لما لها من العلو من ترصيع اللؤلؤ والياقوت وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر
﴿ينظرون *﴾ أي إلى ما يشتهون من الجنان والأنهار والحور والولدان، ليس لهم شغل غير ذلك وما شابهه من المستلذات. وقال الإمام القشيري: أثبت النظر ولم يبين المنظور إليه لاختلافهم: منهم من ينظر إلى قصوره، ومنهم من ينظر إلى حوره، ومنهم ومنهم،
327
والخواص على دوام الأوقات إلى الله تعالى ينظرون كما أن الفجار دائماً عن ربهم محجوبون.
328
ولما وصف نعيمهم، أخبر أنهم من عراقتهم فيه يعرفهم به كل ناظر إليهم فقال تعالى:
﴿تعرف﴾ أي أيها الناظر إليهم - هذا على قراءة الجماعة، وقرأ أبو جعفر ويعقوب بالبناء للمفعول، وهو أدل على العموم
﴿في وجوههم﴾ عند رؤيتهم
﴿نضرة النعيم *﴾ أي بهجته ورونقه وحسنه وبريقه وطراوته، من نضر النبات - إذا أزهر ونوّر، وقال الحسن رحمه الله تعالى: النضرة في الوجه والسرور في القلب.
ولما كانت مجالس الأنس لا سيما في الأماكن النضرة لا تطيب إلا بالمآكل والمشارب، وكان الشراب يدل على الأكل، قال مقتصراً عليه لأن هذه السور قصار يقصد فيها الجمع مع الاختصار قال:
﴿يسقون﴾ بانياً له للمفعول دلالة على أنهم مخدومون أبداً لا كلفة عليهم في شيء
﴿من رحيق﴾ أي شراب خالص صاف عتيق أبيض مطيب في غاية اللذة، فإنهم قالوا: إن الرحيق الخمر أو أطيبها أو أفضلها أو الخالص أو الصافي، وضرب من الطيب. ولا شك أن العاقل لا يشرب
328
الخمر مطلقاً فكيف بأعلاها إلا إذا كان مستكملاً لمقدماتها من مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح وغير ذلك، ولما كان الختم لا يكون إلا لما عظمت رتبته وعزت نفاسته، قال مريداً الحقيقة، أو الكناية عن نفاسته:
﴿مختوم *﴾ أي فهو مع نفاسته سالم من الغبار وجميع الأقذاء والأقذار.
ولما كان الختم حين الفك لا بد أن ينزل من فتاته في الشراب قال:
﴿ختامه مسك﴾ وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن المراد بختامه آخر طعمه، فيحصل أن ختامه في أول فتحه وفي آخر شربه المسك، وذلك يقتضي أن لا يكون يفتحه إلا شاربه، وأنه يكون على قدر كفايته فيشربه كله، والعبارة صالحة لأن يكون الختام أولاً وآخراً، وهو يجري مجرى افتضاض البكر. ولما كان التقدير: فيه يبلغ نهاية اللذة الشاربون، عطف عليه قوله:
﴿وفي ذلك﴾ أي الأمر العظيم البعيد المتناول وهو العيش والنعيم والشراب الذي هذا وصفه
﴿فليتنافس﴾ أي فليرغب غاية الرغبة بجميع الجهد والاختيار
﴿المتنافسون *﴾ أي الذين من شأنهم المنافسة وهو أن يطلب كل منهم أن يكون ذلك المتنافس فيه لنفسه خاصة دون غيره لأنه نفيس جداً،
329
والنفيس هو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتتغالى فيه. والمنافسة في مثل هذا بكثرة الأعمال الصالحات والنيات الخالصة.
ولما ذكر الشراب، أتبعه مزاجه على ما يتعارفه أهل الدنيا لكن بما هو أشرف منه، فقال مبيناً لحال هذا المسقي:
﴿ومزاجه﴾ أي يسقون منه والحال أن مزاج هذا الرحيق
﴿من تسنيم *﴾ علم على عين معينة وهو - مع كونه علماً - دال على أنها عالية المحل والرتبة، والشراب ينزل عليهم ماؤها من العلو -، وقال حمزة الكرماني: ماؤها يجري على الهواء متنسماً ينصب في أواني أهل الجنة على مقدار الحاجة، فإذا امتلأت أمسك، وهو في الشعر اسم جبل عال وكذا التنعيم وأصله من السنام، ولذلك قطعها مادحاً فقال:
﴿عيناً يشرب بها﴾ أي بسببها على طريقة المزاج منها
﴿المقربون *﴾ أي الذين وقع تقريبهم من اجتذاب الحق لهم إليه وقصر هممهم عليه، كل شراب يريدونه، وأما الأبرار فلا يشربون بها إلا الرحيق، وأما غيرهم فلا يصل إليها أصلاً، وقال بعضهم: إن المقربين يشربون من هذه العين صرفاً، والأبرار يمزج لهم منها والفرق ظاهر - هنياً لهم.
ولما ذكر سبحانه جزاء الكافر بالجحيم وجزاء المؤمن بالنعيم،
330
وكان من أجل النعيم الشماتة بالعدو، علل جزاء الكافر بما فيه شماتة المؤمن به لأنه اشتغل في الدنيا بما لا يغني، فلزم من ذلك تفويته لما يغني، فقال مؤكداً لأن ذا المروءات والهمم العاليات والطبع السليم والمزاج القويم لا يكاد يصدق مثل هذا، وأكده إشارة إلى أن من حقه أن لا يكون:
﴿إن الذين أجرموا﴾ أي قطعوا ما أمر الله به أن يوصل
﴿كانوا﴾ أي في الدنيا ديدناً وخلقاً وطبعاً وجبلة
﴿من الذين آمنوا﴾ أي ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان
﴿يضحكون *﴾ أي يجددون الضحك كلما رأوهم أو ذكروهم استهزاء بهم وبحالاتهم التي هم عليها من علامات الإيمان في رثاثة أحوالهم وقلة أموالهم واحتقار الناس لهم مع ادعائهم أن الله تعالى لا بد أن ينصرهم ويعلي أمرهم
﴿وإذا مروا﴾ أي الذين آمنوا
﴿بهم﴾ أي بالذين أجرموا في أي وقت من الأوقات يستهزئون و
﴿يتغامزون﴾ أي يغمز بعض الذين أجرموا بعضاً لأذى الذين آمنوا.
331
ولما وصفهم في مواضع التردد والتقلب، وصفهم في المنازل فقال:
﴿وإذا انقلبوا﴾ أي رجع الذين أجرموا برغبتهم في الرجوع وإقبالهم عليه من غير تكره
﴿إلى أهلهم﴾ أي منازلهم التي هي عامرة
331
بجماعتهم
﴿انقلبوا﴾ حال كونهم
﴿فاكهين *﴾ أي متلذذين غاية التلذذ بما كان من مكنتهم ورفعتهم التي أوصلتهم إلى الاستسخار بغيرهم، قال: ابن برجان: وذكر عليه الصلاة والسلام:
«إن الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً - كما بدأ، يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر» وفي أخرى: يكون المؤمن فيهم أذل من الأمة. وفي أخرى: العالم فيهم أنتن من جيفة حمار - فالله المستعان.
ولما ذكر مرورهم بهم، ذكر مطلق رؤيتهم لهم فقال:
﴿وإذا رأوهم﴾ أي رأى الذين أجرموا الذين آمنوا
﴿قالوا﴾ أي عند رؤيتهم للذين آمنوا مؤكدين لأنهم يستشعرون أن كل ذي عقل يكذبهم مشيرين إلى تحقيرهم بأداة القرب:
﴿إن هؤلاء﴾ أي الذين آمنوا
﴿لضالون *﴾ أي عريقون في الضلال لأنهم تركوا الدنيا لشيء أجل لا صحة له
﴿وما﴾ أي والحال أنهم ما
﴿أرسلوا﴾ أي من مرسل ما
﴿عليهم﴾ أي على الذين آمنوا خاصة حتى يكون لهم بهم هذا الاعتناء في بيوتهم وخارجها عند مرورهم وغيره
﴿حافظين*﴾ أي عريقين في حفظ أعمال الذين آمنوا فما اشتغالهم بهم إلى هذا الحد أن كانوا عندهم في عداد الساقط المهمل كما يزعمون فما هذه المراعاة المستقصية لأحوالهم وإن كانوا في عداد المنظور إليه المعتنى به فليبينوا فساد حالهم بوجه تقبله العقول
332
ويقوم عليه دليل أو ليتبعوهم وإلا فهم غير عارفين بمواضع الإصلاح وتعاطي الأمور على وجهها فما أحقهم بقول القائل:
أوردها سعد وسعد مستمل | ما هكذا تورد يا سعد الإبل |
ولما كان لا نعيم أفضل من الشماتة بالعدو لا سيما إذا كانت على أعلى طبقات الشماتة قال تعالى:
﴿فاليوم﴾ أي فتسبب عن هذا من فعلهم في دار العمل أنه يكون في دار الجزاء
﴿الذين آمنوا﴾ ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان
﴿من الكفار﴾ خاصة، وهم الراسخون في الكفر من عموم الذين أجرموا، في الحشر والجنة سخرية وهزؤاً، فإن الذين آمنوا لا يضحكون من عصاة المؤمنين لو رأوهم يعذبون بل يرحمونهم لاشتراكهم في الدين
﴿يضحكون﴾ قصاصاً وجزاء حين يرون ما هم فيه من الذل سروراً بحالهم شكراً لله على ما أعطاهم من النجاة من النار والنقمة من أعدائهم، قال أبو صالح: تفتح لهم الأبواب ويقال: اخرجوا، فيسرعون فإذا وصلوا إلى الأبواب غلقت في وجوههم وردوا على أقبح حال، فيضحك المؤمنون - انتهى. ويا لها من خيبة وخجلة
333
وسواد وجه وتعب قلب وتقريع نفس من العذاب بالنار وبالشماتة والعار، حال كون الذين آمنوا ملوكاً
﴿على الأرائك﴾ أي الأسرة العالية المزينة التي هي من حسنها أهل لأن يقيم المتكىء بها
﴿ينظرون *﴾ أي يجددون تحديق العيون إليهم كلما أرادوا فيرون ما هم فيه من الهوان والذل والعذاب بعد العزة والنعيم نظر المستفهم
﴿هل ثوب﴾ بناه للمفعول لأن الملذذ مطلق مجازاتهم
﴿الكفار﴾ أي وقع تثويب العريقين في الكفر أي إعطاؤهم الثواب والجزاء على أنهى ما يكون، فالجملة في محل نصب
«ينظرون» ﴿ما كانوا﴾ أي نفس فعلهم بما هو لهم كالجبلات
﴿يفعلون *﴾ أي بدواعيهم الفاسدة ورغباتهم المعلولة، فالجملة في موضع المفعول، وقد علم أن لهم الويل الذي افتتحت السورة بالتهديد به لمن يفعل فعل من لا يظن أنه يجازى على فعله، وآخرها فيمن انتقص الأعراض في خفاء، وأولها فيمن انتقص الأموال كذلك، وجفاء العدل والوفاء، والله الهادي للصواب، وإليه المرجع والمآب وإليه المتاب.
334
سورة الانشقاق
مقصودها الدلالة على آخر المطففين من أن الأولياء ينعمون والأعداء يعذبون، لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث ولا بالعرض على الملك الذي أوجدهم ورباهم كما يعرض الملوك عبيدهم ويحكمون بينهم فينقسمون إلى أهل ثواب وأهل عقاب واسمها الانشقاق أدل دليل على ذلك بتأمل الظرف وجوابه الدلال على الناقد البصير وحسابه) بسم الله (ذي الجلال والإكرام) الرحمن (الذي كملت نعمته فشملت الخاص والعام) الرحيم (الذي أتمها بعد العموم على أوليائه فأسعدهم بإتمام الإنعام.
335