تفسير سورة التوبة

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
جرد الله- سبحانه- هذه السورة عن ذكر " بسم الله الرحمن الرحيم " ليعلم أنه يخص من شاء وما يشاء بما يشاء، ويفرد من يشاء وما يشاء بما يشاء، ليس لصنعه سبب، وليس له في أفعاله غرض ولا أرب، واتضح للكافة أن هذه الآية أثبتت في الكتاب لأنها منزلة، وبالأمر هنالك محصلة.
ومن قال : إنه لم يذكر التسمية في هذه السورة لأنها مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو- وإن كان وجها في الإشارة- فضعيف، وفي التحقيق كالبعيد، لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل :﴿ لم يكن الذين كفروا ﴾( البينة : ١ ) وقوله :﴿ ويل لكل همزة لمزة ﴾( الهمزة : ١ ) وقوله :﴿ تبت يدا أبي لهب وتب ﴾( المسد : ١ ) وقوله :﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾( الكافرون : ١ ). . . هذه كلها مفاتح للسور. . . وبسم الله الرحمن الرحيم مثبتة في أوائلها- وإن كانت متضمنة ذكر الكفار. على أنه يحتمل أن يقال إنها وإن كانت في ذكر الكفار فليس ذكر البراءة فيها صريحا وإن تضمنته تلويحا، وهذه السورة أولها ذكر البراءة منهم قطعا، فلم تصدر بذكر الرحمة.
ويقال إذا كان تجرد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحري أن يخشى أن تجرد الصلاة عنها يمنع عن كمال الوصلة والاستحقاق.
الفراقُ شديدٌ، وأشدُّه ألا يَعْقُبَه وصال، وفراقُ المشركين كذلك لأنه قال :
﴿ إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾[ النساء : ٤٨ ].
ويقال مَنْ مُنِيَ بفراق أحبائه فبئست صحبته. وقد كان بين الرسول عليه السلام وبين أولئك المشركين عهد، ولا شكَّ أنهم كانوا قد وطَّنوا نفوسَهم عليه، فنزل الخبرُ من الغيب بغتةً، وأتاهم الإعلامُ بالفرقةِ فجأةً، فقال :﴿ بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﴾
[ التوبة : ١ ]، أي هذه براءة من الله ورسوله، كما قيل :
فَبِتَّ بخيرٍ - والدُّنَى مطمئنةٌ وأصبحتَ يوماً والزمانُ تَقَلَّبَا
وما أشدَّ الفُرقةَ - لا سيَّما إذا كانت بغتةً على غير تَرَقُّبٍ - قال تعالى :
﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ ﴾[ مريم : ٣٩ ] وأنشدوا :
وكان سراجُ الوصلِ أزهر بيننا فهبَّتْ به ريحٌ من البَيْن فانطفا
إِنْ قَطَعَ عنهم الوصلةَ فقد ضَرَبَ لهم مدةً على وجه المُهْلَةِ، فَأَمَّنْهُم في الحالِ ليتأهبوا لِتَحَمُّلِ مقاساةِ البراءةِ فيما يستقبلونه في المآلِ.
والإشارةُ فيه : أنهم إِنْ أقلعوا في هذه المهلة عن الغَيِّ والضلال وجدوا في المآل ما فقدوا من الوصال، وإِنْ أَبَوْا إلا التمادي في تَرْكِ الخدمة والحرمة انقطع ما بينه وبينهم من العصمة.
ثم قال :﴿ واعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الكَافِرِينَ ﴾ والإشارة فيه : إنْ أصررتم على قبيح آثاركم سعَيْتُم إلى هلاككم بِقَدَمِكُم. وندمتم في عاجلكم على سعيكم، وحَصُلْتُم في آجِلِكم على خسرانكم ؛ وما خَسِرْتُم إلا في صفقتكم، وما ضَرَّ جُرْمُكم سواكم وأنشدوا :
تبَدَّلَتْ وتبدَّلْنا واحسرتا مَنْ ابتغى عِوَضاً لليلى فلم يَجِدِ
أي لِيَكُنْ إعلامٌ من الله ورسوله للناس بنقض عهدهم، وإِعلانٌ عنهم بأنهم ما انقطعوا عن مألوفهم من الإهمال ومعهودهم، وقد برح الخفاء من اليوم بأنهم ليس لهم ولاءٌ، ولم يكن منهم بما عقدوا وفاءٌ، فَلْيَعْلَمْ الكافةُ أنهم أعداءٌ، وأنشدوا :
أشاعوا لنا في الحيِّ أشنعَ قصةٍ وكانوا لنا سِلْماً فصاروا لنا حربا
قوله جلّ ذكره :﴿ أَنَّ اللهَ بَرِئٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ ﴾.
مَنْ رأى من الأغيار - شظيةً من الآثار، ولم يَرَ حصولَهَا بتصريفِ الأقدار فقد أشرك - في التحقيق - واستوجب هذه البراءة.
ومَنْ لاَحَظَ الخلْق تَصَنُّعاً، أو طالَعَ نَفْسَه إعجاباً فقد جعل ما للهِ لغير الله، وظنَّ ما لله لغير الله، فهو على خطرٍ من الشِّرْكِ بالله.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أليمٍ ﴾.
إنْ عادوا إلى البابِ لم يقطعْ رجاءهم، ومدَّ إلى حدِّ وضوحِ العُذْرِ إرجاءَهم. وبيَّن أنهم إِنْ أَصَرُّوا على عُتُوِّهم فإلى ما لا يُطِيقون من العذاب مِنْقَلبهُم، وفي النار مثواهم.
منْ وَفَّى الحقَّ في عقدِه فَزِدْه على حفظِ عهدهِ ؛ إذ لا يستوي مَنْ وفَّاه ومنْ جفاه.
يريد إذا انسلخ الحُرُمُ فاقتلوا مَنْ لا عهدَ له من المشركين، فإنَّهم - وإن لم يكن لهم عهد وكانوا حُرُماً - جعل لهم الأمانَ في مدة هذه المُهلَة، (. . . . ) فكرتم يأمر بترك قتال مَنْ أَبَى كيف يرضى بقطع وصال مَنْ أَتَى ؟ !
قوله جلّ ذكره :﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾.
أَمَرَهم بمعالجة جميع أنواع القتال مع الأعداء.
وأَعْدَى عدوِّك نَفْسُكَ التي بين جَنْبَيْك ؛ فسبيلُ العبدِ في مباشرة الجهاد الأكبر مع النَّفْس بالتضييق عليها بالمبالغة في جميع أنواع الرياضات، واستفراغ الوسع في القيام بصدق المعاملات. ومِنْ تلك الجملة ألا ينزلَ بساحات الرُّخَصِ والتأويلات، ويأخذَ بالأشقِّ في جميع الحالات.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
حقيقة التوبة الرجوعُ بالكلية من غير أن تتركَ بقية. فإِذا أَسْلَم الكافرُ بعد شِرْكه، ولم يُقَصِّرْ في واجبٍ عليه من قِسْمَىْ فِعله وتَرْكِه، حَصَلَ الإذنُ في تَخْلِيَةِ سبيله وفكِّه :
إن وَجَدْنَا لِمَا ادَّعَيْتَ شهوداً لم تَجدْ عندنا لحقٍّ حدودا
وكذلك النَّفْسُ إذا انخنست، وآثارُ البشرية إذا انْدَرَسَتْ، فلا حَرَجَ - في التحقيق - في المعاملات في أوان مراعاة الخطرات مع الله عند حصول المكاشفات. والجلوسُ مع الله أَوْلَى من القيام بباب الله تعالى، قال تعالى فيما ورد به الخبر :" أنا جليس مَنْ ذكرني ".
إِذا استجار المُشْرِكُ - اليوم - فلا يُردُّ حتى يسمَع كلام الله، فإِذا استجار المؤمنُ طول عمره من الفراق - متى يُمْنَعُ من سماع كلام الله ؟ ومتى يكون في زمرة مَنْ يقال لهم :﴿ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾[ المؤمنون : ١٠٨ ].
وإذ قال - اليوم- عن أعدائه :﴿ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ﴾ فإِن لم يؤمن بعد سماع كلامه نُهِيَ عن تعرضه حيث قال :﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ - أترى أنه لا يُؤَمِّنُ أولياءَه - غداً - مِنْ فراقه، وقد عاشوا اليومَ على إيمانه ووفائه ؟ ! كلا. . إنه يمتحنهم بذلك، قال تعالى :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ ﴾[ الأنبياء : ١٠٣ ].
ثم قال :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ فإذا كان هذا بِرَّه بِمَنْ لا يَعْلَم فكيف بِرُّه بِمَنْ يعلم ؟
ومتى نُضَيِّعُ مَنْ يَنِيخُ بِبَابِنَا والمُعْرِضون لهم نعيمٌ وافِرُ ؟
كيف يكون المُفْلِسُ من عرفانه كالمخلص في إيمانه ؟
وكيف يكون المحجوبُ عن شهوده كالمستهلَكِ في وجوده ؟
كيف يكون مَنْ يقول " أنا " كمن يقول " أنت " ؟ وأنشدوا :
وأحبابُنا شتَّان : وافٍ وناقِصٌ *** ولا يستوي قطٌّ مُحِبٌّ وباغِضُ
قوله :﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لِهُمْ ﴾، إنْ تَمَسْكُوا بحبل وفائنا أحللناهم ولاءنا، وإِنْ زاغوا عن عهدنا أبليناهم بصدِّنا، ثم لم يَرْبَحُوا في بُعْدِنا.
﴿ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ﴾ : المُتَّقي الذي يستحق محبةَ مَنْ يُتَّقَى ؛ وذلك حين يتقي محبَّةَ نَفْسِه، وذلك بِتَرْكِ حظِّه والقيام بِحقِّ ربِّه.
وَصَفَهم بلؤم الطبع فقال : كيف يكونون محافظين على عهودهم مع ما أضمروه لكم من سوء الرضا ؟ فلو ظَفِرُوا بكم واستولوا عليكم لم يُراعوا لكم حُرْمةً، ولم يحفظوا لكم قرابةً أو ذِمِّةً.
وفي هذا إشارة إلى أنَّ الكريمَ إذا ظَفِرَ غَفَرَ، وإذا قدر ما غَدَرَ، فيما أَسرَّ وَجَهَرَ.
قوله :﴿ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ﴾ أي لا عَجَبَ مِنْ طَبْعِهِمْ ؛ فإنهم في حقِّنا كذلك يفعلون : يُظْهِرُون لباسَ الإِيمان ويُضْمِرُون الكفر. وإنهم لذلك يعيشون معكم في زِيِّ الوفاق، ويستبطنون عين الشِّقاق وسوءَ النِّفاق.
مَنْ رَضِيَ مِنَ الله بغير الله أرخص في صفقته ثم إنه خسر في تجارته ؛ فَلاَ لَهُ - وهو عن الله - أثر استمتاع، ولا له - في دونه سبحانه - اقتناع ؛ بَقِيَ عن الله، ولم يستمتع عن الله. وهذا هو الخسران المبين.
كيف يراعي حقَّ المؤمنين مَنْ لا يراعي حقَّ الله في الله ؟ أخلاقُهم تَشَابهت في تَرْكِ الحُرْمة.
معناه : وإن قبلناهم وصَلُحُوا لولائنا فَلُحْمَةُ النّسَبِ في الدِّين بينكم وبينهم وشيجة، وإلا فليكن الأجانبُ مِنا على جانبٍ منكم.
إذا جنحوا إلى الغَدْرِ، ونكثوا ما قدَّموه من ضمان الوفاء بالعهد، وبسطوا ألسنتَهم فيكم باللوم فاقصدوا مَنْ رحى الفتنةِ عليه تدور، وغُصْنُ الشَّرِّ مِنْ أَصْلِه يَتَشَعَّبُ، وهم سادةُ الكفار وقادتهم.
وحقُّ القتالِ إعدادُ القوةِ جهراً، والتبرِّي عن الحول والقوة سِرَّاً.
حَرَّضَهم على القتال - على ملاحظة أمرِ الله بذلك - لا على مقتضى الانطواء على الحقد لأحد، فإِنَّ مَنْ غَضِبَ لنَفْسِه فمذمومُ الوصف، ومَنْ غَضِبَ لله فإنَّ نصرَ اللهِ قريبٌ.
وقال :﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ ﴾ : فالخشية من الله بشير الوَصْلة، والخشية من غير الله نذير الفُرقة. وحقيقة الخشية نَفْضُ السِّرِّ عن ارتكاب الزَّجر ومخالفة الأمر.
هوَّن عليهم كلفةَ المخاطرة بالمهجة بما وَعَدَهُم مِن الظّفَرِ والنصرة، فإنَّ شهودَ خِزْيِ العدوِّ مما يُهَوِّنُ عليهم مقاساة السوء. والظَّفَرُ بالأَرَب يُذْهِبُ تَعَبَ الطَّلَب.
وشفاءُ صدور المؤمنين على حسب مراتبهم في المقام والدرجات ؛ فمنهم مَنْ شفاءُ صدره في قَهْرِ عدوِّه، ومنهم مَنْ شفاءُ صدره في نَيْلِ مَرْجُوِّه. ومنهم مَنْ شفاء صدره في الظَّفَر بمطلوبه، ومنهم مَنْ شفاءُ صدرِه في لقاء محبوبه. و منهم من شفاء صدره في درك مقصوده، ومنهم من شفاء صدره في البقاء بمعبوده.
وكذلك ذهابُ غيظِ قلوبهم تختلف أسبابه، وتتنوَّعُ أبوابُه، وفيما ذَكَرْنَا تلويحٌ لِمَا تركنا.
﴿ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ ﴾ حتى يكون استقلاله بمحوِّل الأحوال.
مَنْ ظَنَّ أنه يُقْنَعَ منه بالدعوى - دون التحقق بالمعنى - فهو على غَلَطٍ في حسبانه. والذي طالبهم به من حيث الأمر صِدْقُ المجاهدةِ في الله، وتَرْكُ الركونِ إلى غير الله، والتباعدُ عن مساكَنَةِ أعداءِ الله. . ثِقةً بالله، واكتفاءً بالله، وتبرِّياً من غير الله.
وهذا الذي أمرهم به ألا يتخذوا من دون المؤمنين وليجةً فالمعنى فيه : ألا يُفْشُوا في الكفارِ أسرارَ المؤمنين.
وأولُ مَنْ يهجره المسلمُ - لئلا تَطَّلِعَ على الأسرار - نَفْسُه التي هي أعدى عدوِّه، وفي هذا المعنى قال قائلهم :
كتابي إليكم بعد موتي بليلةٍ ولم أدرِ أَنِّي بعد مَوْتِيَ أكتب
ويقال : إن أبا يزيد - فيما أُخْبِرَ عنه - أنه قال للحقِّ في بعض أوقات مكاشفاته : كيف أطلبك ؟ فقال له : فَارِقْ نَفْسَكَ.
ويقال إن ذلك لا يتمُّ، بل لا تحصل منه شظيَّة إلا بكَيِّ عُرُوقِ الأطماعِ والمطالباتِ لِمَا في الدنيا ولِمَا في العُقبى ولِمَا في رؤية الحال والمقام - ولو بِذَرَّةٍ. والحريةُ عزيزةٌ. . . قال قائلهم :
أتمنى على الزمانِ مُحَالاً أَنْ ترى مُقْلَتَايَ طَلْعَةَ حُرِّ
عمارةُ المساجد بإقامة العبادة فيها، والعبادةُ لا تُقْبَلُ إلا بالإخلاص، والمشرِكُ فاقِدُ الإخلاص، وشهادتُهم على أنفسهم بالكفر دعواهم حصول بعض الحدثان بتأثير الأسباب، فمن أثبت في عقده جوازَ ذَرَّة في العالم من غير تقديره - سبحانه - شارَكَ أربابَ الشِّرْكِ في المعنى الذي لزمَتْهم به هذه السِّمة.
لا تكون عمارةُ المساجد إلا بتخريب أوطان البشرية، فالعابد يُعَمِّرها بتخريب أوطان شهوته، والزاهدُ يعمرها بتخريب أوطان مُنْيته، والعارف يعمرها بتخريب أوطان علاقته، والموَحِّدُ يعمرها بتخريب أوطان ملاحظته ومُسَاكتِه. وكلُّ واحدٍ منهم واقفٌ في صفته ؛ فلصاحب كلِّ موقفٍ منهم وصفٌ مخصوص.
وكذلك رَتْبتهُم في الإيمان مختلفة ؛ فإيمانٌ من حيث البرهان، وإيمان من حيث البيان، وإيمان من حيث العيان، وشتان ما هم ! قال قائلهم :
لا تعْرِضَنَّ بِذِكْرِنا في ذِكْرِهِم ليس الصحيح - إذا مشى – كالمُقْعَدِ
ليس مَن قام بمعاملة ظاهره كمن استقام في مواصلة سرائره، ولا مَنْ اقتبس من سراج علومه كمن استبصر بشموس معارفه، ولا من نُصِبَ بالباب من حيث الخدمة كمن مُكِّنَ من البِسَاط من حيث القربة وليس نعْتُ مَنْ تَكلَّفُ نِفَاقاً كوصفِ مَنْ تَحقَّقَ وِفَاقاً، بينهما بَوْن بعيدٌ !
﴿ آمَنُوا ﴾ أي شاهدوا بأنوار بصائرهم حتى لم يبقَ في سماءِ يقينهم سحابُ رَيْبٍ، ولا في هواءِ معارفهم ضبابُ شك.
﴿ وَهَاجَرُوا ﴾ : فلم يُعَرِّجُوا في أوطان التفرقة ؛ فَتَمَحَّضَتْ حركاتُهم وسكناتهم بالله لله.
﴿ وَجَاهَدُوا ﴾ : لا على ملاحظة غَرَض أو مطالعة عِوَضٍ ؛ فلم يَدَّخِرُوا لأنفسِهم - مِنْ ميسورهم - شيئاً إلا آثروا الحقَّ عليه ؛ فَظَفِروا بالنعمة ؛ في قيامهم بالحقِّ بعد فنائهم عن الخَلْق.
البشارة من الله تعالى على قسمين : بشارة بواسطة المَلَكِ، عند التوفي :
﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ ﴾[ فصلت : ٣٠ ].
وبشارة بلا واسطة بقول المَلَك، إذ يُبَشِّرهم ربُّهم برحمةٍ منه، وذلك عند الحساب. يبشرهم بلا واسطة بِحُسْنِ التولِّي ؛ فعاجِلُ بشارتهم بنعمة الله، وآجِل بشارتهم برحمة الله، وشتان ما هما !
ويقال البشارة بالنعمة والجنة لأصحاب الإحسان، والبشارة بالرحمة لأرباب العصيان، فأصحاب الإحسان صَلُحَ أمرهم للشهرة فأَظْهَرَ أَمَرَهُم للمَلَكِ حتى بَشَّروهم جَهْراً، وأهلُ العصيان صلح حالهم لِلسَتْرِ فتولَّى بشارتهم - من غير واسطة سِرَّاً.
ويقال إِنْ كانت للمطيع بِشارةٌ بالاختصاص فإنَّ للعاصي بشارة بالخلاص. وإن كان للمطيع بشارة بالدرجات فإن للعاصي بشارة بالنجاة.
ويقال إنَّ القلوبَ مجبولةٌ على محبة من يُبَشِّر بالخير ؛ فأراد الحقُّ - سبحانه - أن تكون محبةُ العبد له - سبحانه - على الخصوص ؛ فتولَّى بشارته بعزيز خطابه من غير واسطة، فقال :﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ﴾[ التوبة : ٢١ ] وفي معناه أنشدوا :
لولا تَمتُّعُ مُقْلتي بلقائه لَوَهَبْتُها بُشْرَى بقرب إيابه
ويقال بَشَّرَ العاصِيَ بِالرحمة، والمطيعَ بالرضوان، ثم الكافةَ بالجنة ؛ فَقَدَّمَ العاصِيَ في الذكر، وقدَّم المطيع بالبرِّ، فالذَّكر قوْلُه وهو قديم والبِرُّ طَوْلُه وهو عميم. وقولُه الذي لم يَزَلْ أعَزُّ مِنْ طوْله الذي حصَلَ. قدَّم العصاة على المطيعين لأنَّ ضَعْفَ الضعيف أَوْلى بالرِّفق من القوي.
ويقال قدَّم أمر العاصي بالرحمة حتى إذا كان يومُ العَرْضِ وحضورِ الجمعِ لا يفتضح العاصي.
ويقال :﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ ﴾ يُعَرِّفُهم أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تلك الدرجات بسعيهم وطاعتهم، ولكن برحمته - سبحانه - وصلوا إلى نعمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما منكم من أحدٍ يُنَجِّيه عمله. قالوا : ولا أنتَ يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا، إِلا أن يتغمدني الله برحمته ".
قوله :﴿ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴾ : قومٌ نعيمُهم عطاءُ ربِّهم على وصف التمام، وقومٌ نعيمُهم لقاءُ ربهم على نعت الدوام ؛ فالعابدون لهم تمام عطائه، والعارفون لهم داوم لقائه.
ثم قال :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ والكناية في قوله " فيها " كما ترجع إلى الجنة تصلح أن ترجع إلى الحالة، سيما وقد ذكر الأجر بعدها ؛ فكما لا يَقْطَعُ عطاءَه عنهم في الجنة لا يمنع عنهم لقاءَه متى شاءوا في الجنة، قال تعالى :﴿ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ﴾ [ الواقعة : ٣٣ ] أي لا مقطوعةٌ عنهم نعمتُه، ولا ممنوعةٌ منهم رؤيتُه
مَنْ لم يَصْلُحْ بطاعته لربه لا تَسْتَخْلِصْه لصحبة نَفْسِك.
ويقال من آثر على الله شيئاً يُبَارِكْ له فيه ؛ فيَبْقى بذلك عن الله، ثم لا يُبْقِي ذلك معه، فإنْ استبقاه بجهده - كيف يستبقي حياته إذا أَذِنَ الله في ذهاب أَجَلِه ؟ وفي معناه أنشدوا :
مَنْ لم تَزُلْ نعمتُه قَبْلَهُ زَالَ مع النعمة بالموتِ
ليس هذا تخييراً لهم، ولا إذْناً لهم، ولا إذْناً في إيثارِ الحظوظِ على الحقوقِ، ولكنه غاية التحذير والزَّجر عن إيثار شيءٍ من الحظوظ على الدِّين، ومرورُ الأيام حَكَمٌ عَدْلٌ يَكْشِفُ في العاقبة عن أسرار التقدير، قال قائلهم :
سوف ترى إذا انجلى الغبارُ أَفَرَسٌ تحتك أم حمار ؟
ويقال علامةُ الصدقِ في التوحيد قطعُ العلاقات، ومفارقهُ العادات، وهجران المعهودات والاكتفاءُ بالله في دوام الحالات.
ويقال مَنْ كَسَدَت سوقُ دِينِه كَسَدَتْ أسواقُ حظوظه، وما لم تَخْلُ منك مَنَازِلُ الحظوظ لا تعْمُرُ بك مَشَاهِدُ الحقوق.
النصرة من الله تعالى في شهود القدرة، والمنصورُ مَنْ عَصَمه الله عزَّ وجلَّ عن التوهُّم والحسبان، ولم يَكِله إلى تدبيره في الأمور، وأثبته الحقُّ - سبحانه - في مقام الافتقار متبرياً عن الحَوْل والمُنَّة، مُتَحَقِّقاً بشهود تصاريف القدرة، يَأْخُذُ الحقُّ - سبحانه - بيدِه فيخرجه عن مهواة تدبيره. ويوقفه على وصف التصبُّر لقضاء تقديره.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴾.
يعني نَصَرَكم يومَ حُنَيْن حين تَفَرَّقَ أكثرُ الأصحاب، وافترت أنياب الكَرَّةِ عن نِقاب القَهْر فاضطربت القلوبُ، وخانت القوى أصحابَها، ولم تُغْنِ عنكم كَثْرتُكم، فاستخلص اللهُ أسرارَكم - عند صدق الرجوع إليه - بِحُسْنِ السكينةِ النازلة عليكم، فَقَلَبَ اللهُ الأمرَ على الأعداء، وخَفَقَتْ راياتُ النصرة، ووقعت الدائرةُ على الكفار، وارتدَّتْ الهزيمةُ عليهم فرجعوا صاغرين.
السكينةُ ثَلَجُ القلب عند جريان حُكْم الربِّ بنعت الطمأنينة، وخمودُ آثار البشرية بالكلية، والرضاءُ بالبادي من الغيب من غير معارضةِ اختيارٍ.
ويقال السكينة القرار على بساط الشهود بشواهد الصحو، والتأدب بإقامة صفات العبودية من غير لحوق مشقة، وبلا تحرُّكِ عِرْقٍ لمعارضةِ حُكْم. والسكينة المنزلةُ على ﴿ المُؤْمِنِينَ ﴾ خمودُهم تحت جريان ما وَرَدَ من الغَيْبِ من غير كراهةِ بنوازع البشرية، واختطافُ الحقِّ إياهم عنهم حتى لم تستفزهم رهبةٌ من مخلوق ؛ فَسَكَنَتْ عنهم كلُّ إرادةٍ واختيار.
﴿ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ من وفور اليقين وزوائد الاستبصار.
﴿ وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بالتطوح في متاهات التفرقة، والسقوط في وهدة ضيق التدبير، ومِحنَةِ الغَفْلَةِ، والغَيْبَةِ عن شهود التقدير.
ردهم من الجهل إلى حقائق العلم، ثم نَقَلَهم من تلك المنازل إلى مشاهد اليقين، ثم رقَّاهم عن تلك الجملة بما لقَّاهم به من عين الجمع.
فقدوا طهارة الأسرار بماءِ بالتوحيد ؛ فبقوا في قذورات الظنون والأوهام، فَمُنِعُوا قُربانَ المساجدِ التي هي مشاهدُ القرب. وأمَّا المؤمنون فطهَّرَهم عن التدنُّس بشهود الأغيار، فطالعوا الحقَّ فَرْداً فيما يُبَيِّنهُ مِنَ الأمرِ ويُمضِيه من الحُكْم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عِيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
تَوَقُّعُ الأرزاقِ من الأسبابِ من قضايا انغلاق باب التوحيد، فَمَنْ لم يفْرِدْ معبودَه بالقسمة بَقِيَ في فقرٍ مُسَرْمَدٍ.
ويقال مَنْ أنَاخَ بعُقْوةِ كَرَم مولاه، واستمطر سحَابَ جودِه أغناه عن كل سبب، وكفاه كلَّ تَعَبٍ، وقضى له كلَّ سُؤْلٍ وأرَب، وأعطاه من غير طلب.
مَنْ استوجب الهوانَ لا ينْجِيكَ مِنْ شَرِّه غير ما يستحقه من الإذلال على صغره، ومَنْ دَاهَن عدوَّه فبالحريِّ أنْ يلقى سوءَه.
وَمِنْ أشدِّ الناس لَكَ عداوة، وأبعدهِم عن الإيمان - نَفْسُكَ المجبولةُ على الشرِّ فلا تُقْلِعُ إلاَّ بذبحها بِمُدْيَةِ المجاهدات. وهي لا تؤمِن بالتقدير، ولا يزول شَكها قط، وكذلك تَخَلدُ إلى التدبير، ولا تسكن إلا بوجود المعلوم، ولا تقبل منك إلا كاذِبَ المواعيد، ولذلك قالوا :
وأَكْذِبْ النَّفْسَ إذا حَدَّثْتَها فإِنَّ صِدْقَ القول يذري بالأمل
لو كان هذا في تخاطب المخلوقين لكان عينَ الشكوى ؛ والشكوى إلى الأحباب تشير إلى تحقق الوصلة.
شكا إليهم ما حصل من قبيح أعمالهم، وكم بين مَنْ تشكو منه وبين مَنْ تشكو إليه ! !
قوله جلّ ذكره :﴿ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾.
الكفار قبلهم جحدوا الربوبية، وهؤلاء أقروا بالله، ثم لما أثبتوا له الوَلَدَ نقضوا ما أقروا به من التوحيد، فصاروا كالكفار قَبْلَهم.
ويحتمل أن تكون مضاهاةُ قولهم في وصف المعبود بأنَّ عيسى ابنه وعزيراً ابنه كقولِ الكفار قَبْلَهم إنَّ الملائكة بناتُ الله.
ويقال لمَّا وصفوا المعبود بما يتعالى عن قولهم لم ينفَعُهم صِدْقُهم في الإقرار بربوبيته مما أضافوا إليه من سوء القالة. وكلُّ مَنْ أطلق في وصفه ما يتقدَّسُ - سبحانه - عنه فهو للأعداء مُشَاكِلٌ في استحقاق الندم والتوبيخ.
كما لا تجوز مجاوزة الحد في وَضْع القدْرِ لا تجوز مجاوزة الحد في رَفْع القَدْر، وفي الخبر :" أُمِرْنا أَنْ نُنْزِلَ الناسَ منازِلَهم ".
فَمَنْ رأى من المخلوقين شظيةً من الإبداع أنْزَلَهم منزلةَ الأرباب، وذلك - في التحقيق - شِرْك، وما أخلص في التوحيد مَنْ لم يَرَ جميعَ الحادثات بصفاتها (. . . . ) من الله.
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا ﴾ : فمن رفع في عقده مخلوقاً فوق قدره فقد أشرك بربِّه.
من رام أن يستر شعاع الشمس بدخان يوجهه من نيرانه، أو عالج أنْ يمنع حكم السماء بحيلته، وتدبيره، أو يُسْقِطَ نجوم الفَلَكِ بسهام قوسِه - أظهرَ رُعونَته ثم لم يَحْظَ بمراده. كذلك مَنْ توهَّم أن سُنَّةَ التوحيد يعلوها وَهَجُ الشُّبَه فقد خاب في ظنِّه، وافتضح في وهمه.
أزاحَ العِلَل بما ألاح من الحُجَج، وأزال الشُّبَهَ بما أفصح من النهج ؛ فشموسُ الحقِّ طالِعةٌ، وأدلة الشرع لامعة، كما قالوا :
هي الشمسُ إلا للشمس غيبةً وهذا الذي نعنيه ليس يَغيب
العالِمُ إذا ارتفق بأموال الناس عِوَضاً عما يُعلِّمُهم زالَتْ بركاتُ عِلْمِه، ولم يَطِبْ في طريق الزهد مَطْعَمُه.
والعارِفُ إذا انتفع بخدمة المريد، أو ارتفق بشيءٍ من أحواله وأعماله زالت آثارُ هِمَّتِه، ولم تُجْدِ في حكْمِ التوحيد حالتُه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
لهم في الآجل عقوبةٌ. والذين لا يؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فلهم في العاجل حجبة. وقليلٌ مِنْ عبادهِ مَنْ سَلِمَ من الحجاب في مُحتَضَرِه والعقاب في مُنْتَظرِه.
لمَّا طلبوا الجاهَ عند الخلْقِ بمالِهم، وَبَخُلوا بإخراج حقِّ الله عنه شَانَ وجوهَهم. ولمَّا أسندوا ظهورَهم إلى أموالهم. قال تعالى :﴿ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ﴾.
ويقال : لمَّا ( عبسوا ) في وجوه العفاة وعقدوا حواجِبَهم وُضِعَتْ الكيَّةُ على تلك الجباه المقبوضة عند رؤية الفقراء، ولمَّا طَوَوْا كَشْحَهُم دون الفقراء - إذا جالسوهم - وَضَعَ المِكوَاةَ على جُنُوبِهم.
لمَّا عَلِم أنهم لا يُداوِمُون على مُلازَمَةِ القُرْبِ أَفْرَدَ بعضَ الشهور بالتفضيل، ليخُصُّوها باستكثار الطاعة فيها. فأمَّا الخواصُ مِنْ عبادِه فجميعُ الشهورِ لهم شعبانُ ورمضانُ، وكذلك جميع الأيام لهم جمعة، وجميع البقاع لهم مسجد. . . وفي معناه أنشد بعضهم :
يا ربُّ إنَّ جهادي غيرُ مُنْقَطِعٍ وكُلُّ أرضٍ لي ثَغْرُ طرسوس
قوله جلّ ذكره :﴿ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ ﴾.
قال للعوام : لا تَظْلِموا في بعض الشهور أَنْفُسَكُم، يعني بارتكاب الزَّلَّة. وأَمَّا الخواص فمأمورون ألا يَظْلِمُوا في جميع الشهور قلوبَهم باحتقاب الغفلة.
ويقال : الظلم على النَّفْس أن يجعلَ العبدُ زمامَه بيد شهواته، فَتُورِدُه مَواطِنَ الهلاك.
ويقال : الظلم على النَّفْس بخدمة المخلوقين بَدَل طاعة الحقِّ.
ويقال : مَنْ ظَلَم على قلبه بالمضاجعات امْتُحِنَ بِعَدمِ الصفوة في مرور الأوقات.
﴿ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً ﴾ : ولا سِلاحَ أمضى على العدوِّ مِن تَبَرِّيكَ عن حَوْلِكَ وقُوَّتِك.
الدِّينُ ملاحظةُ الأمر ومجانَبَةُ الوِزر وتركُ التقدم بين يدي الله سبحانه - في جميع أحكام الشرع، فالآجالُ في الطاعاتِ مضروبة، والتوفيقُ في عرفانه متَّبع، والصلاح في الأمور بالإقامة على نعت العبودية ؛ فالشهرُ ما سمَّاه الله شهراً، والعامُ والحوْلُ ما أعْلمَ الخَلْقَ أنه قَدْرُ ما بَيَّنه شرعاً.
عاتَبهم على تَركِ البدار عند توجيه الأمر، وانتهاز فُرْصَةِ الرُّخصَة.
وأَمَرَهم بالجد في العزم، والقَصْدِ في الفعل ؛ فالجنوحُ إلى التكاسل، والاسترواحُ إلى التثاقل أماراتُ ضعفِ الإيمان إذ الإيمان غريمٌ مُلازِمٌ لا يرضى من العبد بغير ممارسة الأشْقِّ، وملابسة الأحَقِّ.
قوله :﴿ أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ : وهل يَجْمُل بالعابِد أَنْ يختارَ دنياه على عقْباه ؟
وهل يحسُن بالعارف أَنْ يُؤْثِرَ هواه على رضا مولاه ؟ وأنشدوا.
أيجملُ بالأحبابِ ما قد فعلوا مضَوْا وانصرفوا يا ليتهم قَفَلُوا
إنَّ غيبةَ يوم للزاهد عن الباب تَعْدِل شهوراً، وغيبةُ لحظةٍ للعارف عن البِساط تعدل دهوراً، وأنشدوا :
الإلْفُ لا يصْبِرُ عن إِلْفِه أَكْثَرَ من طَرْفَةِ عَيْنِ
وقد صبَرْنا عَنكُمُ ساعةً ما هكذا فِعْلُ مُحِبيْنِ
العذابُ الأليمُ إذا أعرض العَبْدُ عن الطاعةِ ألا يبعث وراءه من جنود التوفيق ما يردُّه إلى الباب.
العذابُ الأليمُ أنْ يَسْلُبَه حلاوةَ النَّجوى إذا آب.
العذابُ الأليمُ الصدُودُ يومَ الورود، وقيل :
واعدوني بالوصال - والوصالُ عَذْبٌ- ورَمَوني بالصُّدودِ والصدُّ صعبُ
العذابُ الأليمُ الوعيدُ بالفِراق، فأمَّا نَفْسُ الفِراق فهو تمامُ التَّلَفِ، وأنشدوا :
وزَعَمْتَ أَنَّ البَيْنَ مِنْكَ غداً هَدِّدْ بذلك مَنْ يعيش غدا
قوله :﴿ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ﴾ يصرف ما كان مِنْ إقباله عليه إلى غيره من أشكاله، وليس كلُّ مَنْ حَفَرَ بئراً يشربُ مِنْ معِينها، وأنشدوا :
تَسْقِي رَيَاحِينَ الحِفَاظِ مدامعي وَسِوَايَ في رَوْضِ التواصُل يَرْتَع
مِنْ عزيزِ تلك النصرة أنه لم يستأنِسْ بثانية الذي كان معه بل رد الصِّدِّيقَ إلى الله، ونهاه عن مساكنته إياه، فقالَ :" ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما ؟ ".
قال تعالى :﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ﴾.
ويقال من تلك النصرة إبقاؤه إياه في كشوفاته في تلك الحالة، ولولا نصرتُه لتلاشى تحت سطواتِ كَشْفِه.
ويقال كان - عليه السلام - أمانَ أهل الأرض على الحقيقة، قال تعالى :
﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِم ﴾[ الأنفال : ٣٣ ]، وجعله - في الظاهر - في أمان العنكبوت حين نَسَجَ خَيْطَه على باب الغار فَخَلَّصَه من كيدهم.
ويقال لو دخل هذا الغار لا تشقَّ نسيج العنكبوت. . . فيا عجباً كيف سَتَرَ قصةَ حبيبه - صلوات الله عليه وعلى آله وسلم ؟ !.
ويقال صحيحٌ ما قالوا : للبقاع دول، فما خَطَرَ ببالِ أحدٍ أنَّ تلك الغار تصير مأوى ذلك السيِّد - صلى الله عليه وسلم ! ولكنه يختص بقسمته ما يشاء﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾[ البقرة : ١٠٥ ].
ويقال ليست الغِيران كلها مأوى الحيَّاتِ، فمنها ما هو مأوى الأحباب. ويقال علقت قلوب قوم بالعرش فطلبوا الحق منه، وهو تعالى يقول :
﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ﴾ فهو سبحانه - وإن تقدَّس عن كل مكان - ولكن في هذا الخطاب حياة لأسرار أرباب المواجيد، وأنشدوا :
يا طالبَ الله في العرشِ الرفيعِ به لا تطلب العرشَ إن المجد في الغار
وفي الآية دليل على تحقيق صحبة الصدِّيق - رضي الله عنه - حيث سمَّاه الله سبحانه صاحبَه، وعَدَّه ثانِيه، في الإيمان ثانية، وفي الغار ثانيه ثم في القبر ضجيعه، وفي الجنة يكون رفيقه.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾.
الكناية في الهاء من " عليه " تعود إلى الرسول عليه السلام، ويحتمل أن تكون عائدةٌ إلى الصديق رضي الله عنه، فإن حُمِلَتْ على الصديق تكون خصوصية له من بين المؤمنين على الانفراد، فقد قال عز وجلّ لجميع المؤمنين :﴿ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ﴾[ الفتح : ٤ ].
وقال للصدِّيق - على التخصيص - فأنزل الله سكينته عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله يتجلّى للناس عامة ويتجلَّى لأبي بكر خاصة ".
وإنما كان حزنُ الصديقِ ذلك اليوم لأجل الرسول - صلى الله عليه وسلم- إشفاقاً عليه. . لا لأجل نَفْسِه. ثم إنه - عليه السلام - نفى حزنه وسلاّه بأن قال :﴿ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ﴾، وحُزْنٌ لا يذهب لِمَعِيَّة الحقِّ لا يكون إلاَّ " لحقِّ الحق ".
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِىَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
يريد به النبي صلى الله عليه وسلم. وتلك الجنودُ وفودُ زوائد اليقين على أسراره بتجلِّي الكشوفات.
﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ﴾ بإظهار حُجج دينه، وتمهيد سُبُل حقِّه ويقينه ؛ فراياتُ الحقِّ إلى الأبدِ عالية، وتمويهات الباطل واهية، وحِزْبُ الحقِّ منصورون، ووفد الباطل مقهورون.
ويقال لما خلا الصديق بالرسول عليه السلام في الغار، وأشرقت على سِرِّه أنوار صحبة الرسول عليه السلام، ووقع عليه شعاعُ أنواره، واشتاق إلى الله تعالى لفَقْدِ قراره - أزال عنه لواعِجه بما أخبره مِنْ قُرْبه - سبحانه - فاستبدل بالقلق سكوناً، وبالشوق أُنساً، وأنزل عليه من السكينة ما كاشفه به من شهود الهيبة.
ويقال كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثاني اثنين في الظاهر بشبه ولكن كان مُسْتَهْلَكَ الشاهد في الواحِد بِسِرِّه.
أمرهم بالقيام بحقه، والبدار إلى أداء أمره في جميع أحوالهم.
" خفافاً " يعني في حال حضور قلوبكم، فلا يمسُّكم نَصَبُ المجاهدات.
" وثقالا " إذا رُدِدْتُم إليك في مقاساة تعب المكابدات. فإنَّ البيعةَ أُخِذَتْ عليكم في (. . . ) و (. . . ).
ويقال " خفافا " إذا تحررتم من رِقِّ المطالبات والاختيار، " وثقالا " إذا كان على قلوبكم ثقل الحاجات، وأنتم تؤمِّلُون قضاءَ الحقِّ مآرِبَكم.
يريد به المتخلفين عنه في غزوة " تبوك "، بيَّنَ سبحانه أنه لو كانت المسافةُ قريبةً، والأمرُ هيِّناً لَمَا تخلَّفوا عنك ؛ لأنَّ مَنْ كان غيرَ متحقِّقٍ في قَصْدِه كان غيرَ بالغ في جهده، يعيش على حَرْفٍ، ويتصرَّف بحرف، فإِنْ أصابه خيرٌ اطمأنَّ به وإنْ أصابَتْه فتنةٌ انقلبَ على وجهه. وقال تعالى :﴿ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ﴾
[ محمد : ٢١ ].
فإذا رأيتَ المريدَ يتبعُ الرُّخَصَ ويَجْنَحُ إلى الكسل، ويتعلَّلُ بالتأويلاتِ. . فاعلَمْ أنه مُنْصَرِفٌ عن الطريق، متخلِّفٌ عن السلوك، وأنشدوا :
وكذا المَلُولُ إذا أراد قطيعةً *** مَلَّ الوصال وقال : كان وكانا
ومَنْ جَدَّ في الطلب لم يُعَرِّج في أوطان الفشل، ويواصل السير والسُّرى، ولا يحتشم من مقاساة الكدِّ والعناء، وأنشدوا :
ثم قطعتُ الليلَ في مهمهٍ لا أسداً أخشى ولا ذئبا
يغلبني شوقي فأطوي السُّرى ولم يَزَلْ ذو الشوقِ مغلوبا
قوله :
﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾[ التوبة : ٤٢ ] : يمين المتعلِّلِ والمُتَأَوِّلِ يمينٌ فاجرةٌ تشهد بكذبها عيون الفراسة، وتنفر منها القلوب، فلا تجد من القلوب محلاً.
لم يكن منه صلى الله عليه وسلم خرْقُ حَدٍّ أو تعاطي محظورٍ، وإنما نذر منه ترك ما هو الأَوْلى. قَدَّم الله ذِكْرَ العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب بقوله :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾.
أو مِنْ جواز الزَّلة على الأنبياء - عليهم السلام - إذ لم يكن ذلك في تبليغ أمر أو تمهيد شرع بقول قائله : أنشدوا بالعفو قبل أن وقف للعذر وكذا سُنَّة الأحباب مع الأحباب، قال قائلهم :
ما حطَّك الواشون عن رتبة عندي ولا ضَرَّك مُغْتَابُ
كأنهم أَثْنَوْا - ولم يعلموا - عليكَ عندي بالذي عابوا
ويقال حسناتُ الأعداء - وإن كان حسنات - فكالمردودة، وسيئات الأحباب - وإن كانت سيئات - فكالمغفورة :
مَنْ ذا يؤاخِذُ مَنْ يحبُّ بِذَنْبِه وله شفيعٌ في الفؤاد مُشَفِّع
المخلصُ في عقده غيرُ مُؤثِرٍ شيئاً على أمره، ولا يدَّخر مستطاعاً في استفراغ وُسْعِه، وبَذْلِ جُهْدِه، ومقاساة كَدِّه، واستعمال جِدِّه.
مَنْ رام عن عهدة الإلزام خروجاً انتهز للتأخير والتخلُّف فرصةً لِعَدمِ إيمانه وتصديقه، ولاستمكان الريبة في قلبه وسِرِّه. أولئك الذين يتقلبون في ريبهم، ويترددون في شكِّهم.
أي لو صدقوا في الطاعة لاستجابوا ببذل الوسع والطاقة، ولكن سَقِمَتْ إرادتُهم، فحصلت دون الخروج بَلادَتُهم، وكذلك قيل :
لو صحَّ منكَ الهوى أُرْشِدْتَ للحِيَلِ ***. . .
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَكِن كَرِهَ الله انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ ﴾.
ألْزَمَهم الخروجَ من حيث التكليف، ولكن ثبَّتهم في بيوتهم بالخذلان ؛ فبالإلزام.
أخبر عن سابق علمه بهم، وذكر ما علم أنه لا يكون أَنْ لو كان كيف يكون، فقال : ولو ساعدوكم في الخروج لكان ما يلحقكم من سوء سيرتهم في الفتنة بينكم، والنميمة فيكم، والسعي فيما يسوؤكم أكثر مما نالكم بتخلُّفِهم من نقصان عددكم. ومَنْ ضررُه أكثرُ من نفعِه فَعَدَمَهُ خيرٌ مِنْ وجودِه، ومَنْ لا يحصل منه شيء غيرُ شرورهِ فتخَلُّفُه أَنْفَعُ مِنْ حضوره.
إنَّهم وإِنْ أظهروا وِفاقَكم فقد استبطنوا نِفاقكم ؛ أعلنوا أنهم يؤازرونكم ولكن راموا بكيْدِهم تشويشَ أموركم، حتى كَشَفَ اللهُ عوراتِهم، وفَضَحَهم، حتى تَحَذَّرْتم منهم بما تحققتم من أسرارهم.
أبرزوا قبيحَ فِعالِهم في مَعْرِض التخرج، وراموا أَنْ يُلَبِّسُوا على الرسول - صلى الله وسلم وعلى آله - وعلى المسلمين خبث سيرتهم وسريرتهم، فَبَيَّنَ الله أَنَّ الذين (. . . ) بزعمهم سقطوا فيه بفعلهم، وكذلك المتجلِّدُ بما يهواه متطوح في وادي بلواه، وسَيَلْقَى في الآخرة من الهَوَان ما يَغْنِي عن الحاجة إلى البرهان.
هكذا صفة الحسود، يتصاعد أنينُ قلبه عند شهود الحسنى، ولا يَسُرُّ قلبَه غيرُ حلولِ البلوى، ولا دواءَ لجروح الحسود ؛ فإنه لا يرضى بغير زوال النعمة ولذا قالوا :
كلُّ العداوةِ قد تُرْجَى إماتَتُها إلا عداوةَ مَنْ عاداك من حَسَدِ
وإنَ اللهَ تعالى عَجَّلَ عقوبةَ الحاسد، وذلك : حزنُ قلبِه بسلامة محسوده ؛ فالنعمة للمحسود نقد والوحشة للحاسد نقد.
المؤمن لا تلحقُه شماتةُ عدوِّه لأنه ليس يرى إلا مُرادَ وليِّه، فهو يتحقق أنَّ ما ينالُه مرادُ مولاه فيسقطُ عن قلبِه ما يهواه، ويستقبله بروح رضاه فَيَعْذُبُ عنده ما كان يَصْعُبُ مِنْ بلواه، وفي معناه أنشدوا :
إنْ كان سَرَّكُمُ ما قال حاسدُنا فما لِجُرْحٍ - إذا أَرْضَاكُم - أَلمُ.
ويقال شَهودُ جريانِ التقدير يخفف على العبد تَعَبَ كلِّ عسير.
قوله ﴿ هُوَ مَوْلاَنَا ﴾ : تعريفٌ للعبد أن له - سبحانه - أن يفعل ما يريد، لأنه تصرفُ مالكِ الأعيانِ في مُلْكِه، فهو يُبْدِي ويُجْرِي ما يريد بحقِّ حُكْمِه.
ثم قال :﴿ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ﴾ : وأولُ التوكلِ الثقةُ بوعده، ثم الرضا باختياره، ثم نسيانُ أمورِك بما يغْلِبُ على قلبك من أذكاره.
ويقال التوكل سكونُ السِّرِّ عند حلول الأمر ونهاية التفويض، وفيها يتساوى الحلوُ والمرُّ، والنعمةُ والمحنةُ.
بَيَّنَ اللهُ في هذه الآية الفَرْقَ بين المؤمنين وبين الكفار، فقال قُلْ للذين ينتظرون : أيها الكفار إن كان من شأن المؤمنين وقوعُ الدائرة عليهم في القتال، أَو أنَّ القَتْلَ ينالهُم فأيُّ واحدٍ من الأمْرَيْن ينالهم فهو لهم من الله نعمة ؛ لأنَّا إنْ ظَفِرْنا بكم فَنَصْرٌ وغنيمة، وعِزٌّ للدِّين ورفعة، وإنْ قُتلْنَا فشهادةٌ ورحمة، ورضوانٌ من الله وزُلْفَى. وإنْ كان الذي يصيبنا في الدنيا هزيمة ونكبةٌ، فذلك مُوجِبٌ للأجْرِ والمثوبة، فإذاً لن يستقبِلَنا إلا ما هو حُسْنَى ونعمة.
وأمَّا أنتم، فإنْ ظَفِرْنَا بكم فتعجيلُ لذُلِّكم ومحنة، وإن قُتِلتُم فعقوبةٌ من اللهِ وسخطه، وإن كانت اليد لكم في الحال فخذلانٌ من اللهِ، وسببُ عذابٍ وزيادةُ نقمة.
ويقال :﴿ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ ﴾ أمَّا قيامُ بحقّ الله في الحال فنكون بوصف الرضاء وهو - في التحقيق - الجنَّةُ الكبرى، وإمَّا وصولٌ إلى الله تعالى في المآل بوصف الشهادة، ووجدان الزلفى في العقبى وهو الكرامة العظمى.
المردودُ لا يقبلُ منه توصُّل، ولا يُغَيَّر حُكمُ شقاوته بتكثير التكلُّف والتعمل.
ويقال تقُرُّبُ العدوِّ يوجِبُ زيادةَ المقت له، وتحبُّبُ الحبيب يقتضي زيادةَ العطف عليه، قال تعالى :﴿ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾[ الفرقان : ٧٠ ].
فقدوا الإخلاص في أموالهم فعدموا الاختصاص في أحوالهم، وحُرِموا الخلاصَ في عاجلهم وفي مآلهم.
قوله :﴿ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى ﴾ : مَنْ أَطَاعَ من حيث العادة - مِنْ غَيْرِ أن تحملَه عليها لوعةُ الإرادة - لم يَجِدْ لطاعته راحةً وزيادة.
ويقال مَنْ لاَحظَ الخَلْقَ في الجهر من أعماله، ورَكَنَ إلى الكسلِ في السِّرِّ من أحواله فقد وُسِمَ بالخذلان، وخُتِمَ بالحرمان، وهذه هي أمارة الفرقة والقطيعة، قال تعالى :
﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ].
بَيَّنَ أن ما حسبوه نعمة واعْتَدُّوه من الله مِنَّةٌ فهو - في التحقيق - مِحْنَةٌ، وسببُ شقاءٍ وفُرْقة، وإنما دَسَّ التقديرُ لهم سُمومَ الصَّابِ، فيما استلذوه من الشرابِ ؛ ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالِ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٦ ].
التَّقَرُّبُ بالأَيْمانِ الفاجِرةِ لا يوجِبُ للقلوب إلا بُعْداً عن القُبول.
ويقال إنَّ إظهارَ التلبيس لا (. . . ) الأسرارَ بَرَدِّ السكون، ولا يَشْفِي البصائر بِرَدِّ الثقة واليقين. . فما لا يكون فلا يكون بحيلةٍ أبداً، وما هو كائنٌ سيكون.
إن المماذِق في الخُلَّة ينسلُّ عن سِلْكِها بأضعف خلَّة، وإنْ وَجَدَ مهرباً آوَى إليه، ويأمل أن ينال فرصةً ما يتعللُ بها عند ذلك.
أولئك أصحاب الأطماع ؛ يتملقون في الظاهر ما دامت الأرفاقُ واصلةً إليهم، فإنْ انقطَعَتْ انقلبوا كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة.
ويقال مَنْ كان رضاؤه بوجدان سبب، وسُخْطُه في عدم ما يوصِّله إلى نصيبه فهو ليس من أهل الولاء، إنما هو قائم بحظِّه، غيرُ صالحٍ للصحبة، وأمَّا المتحقِّقُ فكما قيل :
فَسِرْتُ إليكَ في طلبِ المعالي وسَارَ سِوَايَ في طلب المعاش
لو وقفوا مع الله بِسِرِّ الرضا لأَتَتْهُم فنونُ العطاء وتحقيقات المنى، ولحفظوا مع الله - عند الوجدان - مالهم من الأدب، من غير معاناة تَعبٍ، ولا مُقاساة نَصَبٍ. . ولكنهم عَرَّجُوا في أوطانِ الطمعِ فوقعوا في الذُّلِّ والحَرب.
تكلَّم الفقهاءُ في صفةِ الفقيرِ، والفرقِ بينه وبين المسكين لما احتاجوا إليه في قسمة الزكاة المفروضة. . فأبو حنيفة رحمة الله عليه - يقول : المسكينُ الذي لا شيء له. والفقيرُ الذي له بُلْغَةٌ من العيش.
ويقول الشافعي رحمة الله عليه : الفقير الذي لا شيء له، والمسكين الذي له بُلْغَةٌ من العيش - أي بالعكس.
وأهل المعرفة اختلفوا فيه ؛ فمنهم من قال بالأول، ومنهم من قال بالقول الثاني، واختلافهم ليس كاختلاف الفقهاء ؛ وذلك لأن كلَّ واحدٍ منهم أشار إلى ما هو حاله ووقته ووجوده وشربه ومقامه. فَمِنْ أهل المعرفة مَنْ رأى أَنَّ أَخْذَ الزكاةِ المفروضة أَوْلى، قالوا إلى الله تعالى جعل ذلك مِلْكا للفقير، فهو أَحَلُّ له مما يُتَطَوَّعُ به عليه.
ومنهم من قال : الزكاة المفروضة مستحقة لأقوام، ورأوا الإيثار على الإخوان أوْلى من أن يزاحموا أرباب السهمان - مع احتياجهم أخذ الزكاة - وقالوا : نحن آثرنا الفَقْرَ اختياراً. . فَلِمَ نأخذ الزكاة المفروضة ؟
ثم على مقتضى أصولهم في الجملة - لا في أخذ الزكاة - للفقر مراتب :
أوَّلُها الحاجةُ ثم الفقرُ ثم المسكنةُ ؛ فذو الحاجة مَنْ يرضى بدنياه وتسدُّ الدنيا فقرَه، والفقير مَنْ يكتفي بعقباه وتجبُرُ الجنة فقرُه. والمسكين مَنْ لا يرضى بغير مولاه ؛ لا إلى الدنيا يلتفت، ولا بالآخرة يشتغل، ولا بغير مولاه يكتفي ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم أحيني مسكيناً وأمتني سكيناً، واحشرني في زمرة المساكين " وقال صلى الله عليه وسلم " أعوذ بك من الفقر " لأن عليه بقية ؛ فهو ببقيته محجوبٌ عن ربِّه.
ويحسن أن يقال إن الفقر الذي استعاذ منه ألا يكون له منه شيء، والمسكنة المطلوبة أن تكون له بُلْغَةٌ ليتفرَّغَ بوجود تلك البلغة إلى العبادة ؛ لأنه إذا لم تكن له بلغة شَغَلَه فَقْرُه عن أداء حقِّه، ولذلك استعاذ منه.
وقوم سَمَتْ هِمَمهُم عن هذا الاعتبار - وهذا أَوْلى بأصولهم - فالفقير الصادق عندهم مَنْ لا سماءَ تُظِله ولا أرضَ تُقِلُّه ولا معلومَ يشغله، فهو عبدٌ بالله لله، يردُّه إلى التمييز في أوان العبودية، وفي غير هذا الوقت فهو مُصطَلَم عن شواهده، واقِفٌ بربِّه، مُنْشَقٌّ عن جملته.
ويقال الفَقِيرُ من كُسِرَتْ فقاره - هذا في العربية.
والفقير - عندهم - مَنْ سَقَطَ اختياره، وتعطلت عنه دياره، واندرست - لاستيلاء مَنْ اصْطَلمَه - آثارُه، فكأنه لم تبقَ منه إلا أخبارُه، وأنشدوا :
أَمَّا الرسومُ فَخَبَّرتْ أنهم رحلوا قريباً ***. . .
ويقال المسكين هو الذي أسكنه حالُه بباب مقصوده، لا يبرح عن سُدَّتِه، فهو مُعْتَكِفٌ بقلبه، ولا يغفل لحظةً عن ربِّه.
وأمَّا ﴿ وَالعَاملِينَ عَلَيْهَا ﴾ فعلى لسان العلم : مَنْ يتولى جمع الزكاة على شرائطها المعلومة. وعلى لسان الإشارة : أَوْلَى الناس بالتصاون عن أخذ الزكاة مَنْ صَدَقَ في أعماله لله، فإنهم لا يرجون على أعمالهم عِوَضاً، ولا يتطلبون في مقابلة أحوالهم عَرَضا، وأنشدوا :
وما أنا بالباغي على الحب رِشْوَةٌ *** قبيحٌ هوىً يُرجَى عليه ثواب
وأمّا المؤلَّفة قلوبهم - على لسان العلم - فمَنْ يُسْتَمَالُ قلبه بنوع إرفاقٍ معه، ليتوفَّر في الدين نشاطُه ؛ فلهم من الزكاة سهمٌ استعطافاً لهم، وبيان ذلك مشهورٌ في مسائل الفقه.
وحاشا أن يكون في القوم مَنْ يكون حضورُه بسبب طَمَع أو لنَيْل ثوابٍ أو لرؤية مقام أو لاطلاع حال. . فذلك في صفة العوام، فأما الخواص فكما قالوا.
من لم يكن بك فانياً عن حظه *** وعن الهوى والإنْسِ والأحباب
أو تيمته صبابة جمعت له *** ما كان مفترقاً من الأسباب
فلأنَّ بين المراتب واقفٌ *** لِمَنَالِ حظٍّ أو الحُسْنِ مآبِ
قوله جلّ ذكره :﴿ وَفِى الرِّقَابِ ﴾.
وهم على لسان العلم : المكاتَبُون، وشرحه في مسائل الفقه معلوم.
وهؤلاء لا يتحررون ولهم تعريج على سبب، أو لهم في الدنيا والعقبى أرب، فهم لا يستفزُّهم طلب، فَمَنْ كان به بقية من هذه الجملة فهو عبدٌ لم يتحرر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله :" المكاتَبُ عَبْدٌ ما بقي عليه درهم " وأنشد بعضهم :
أتمنى على الزمان مُحَالاً *** أَنْ ترى مقلتاي طَلْعَةَ حُرِّ
قوله جلّ ذكره :﴿ وَالغَارِمِينَ ﴾.
وهم على لسان العلم : مَنْ عليهم دَيْنٌ في غير معصية.
وهؤلاء القوم لا يقضى عنهم ما لزمهم امتلاك الحق، ولهذا قيل المعرفة غريم لا يُقْضَى دَيْنُه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَفِى سَبِيلِ اللهِ ﴾.
وعلى لسان العلم : مَنْ سلك سبيلَ الله وَجبَ له في الزكاة سهمٌ على ما جاء بيانُه في مسائل الفقه.
وفي هذه الطريقة : مَنْ سلك سبيلَ الله تتوجَّبُ عليه المطالبات ؛ فيبذل أولاً مالَه ثم جاهَه ثم نَفْسه ثم روحَه. . وهذه أول قَدَمٍ في الطريق.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾.
وهو على لسان العلم : مَنْ وقع في الغُربة، وفارَقَ وطَنه على أوصاف مخصوصة.
وعند القوم : إذا تَغَرَّبَ العَبدُ عن مألوفات أوطانه فهو في قِرَى الحقِّ ؛ فالجوعُ طعامُه، والخلوةُ مجلسُه، والمحبةُ شرابُه، والأُنْسُ شهوده، والحقُّ - تعالى - مشهودُه. قال تعالى :﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴾[ الإنسان : ٢١ ] : لقوم وَعْدٌ في الجنة، ولآخرين نَقْدٌ في الوقت ؛ اليوم شرابُ المحابِّ وغداً شراب الثواب، وفي معناه أنشدوا :
وَمُقعدِ قومٍ قد مشى من شرابنا *** وأعمى سقيناه ثلاثاً فأَبْصَرَا
وأخرسَ لم ينطِقْ ثلاثين حِجَّةً *** أَدِرْنا عليه الكأسَ يوماً فأخبرا
عين العداوة بالمساوئ مُوَكَّلَة، وعين الرضا عن المعايب كليلة.
بسطوا اللائمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فعابوه بما هو أمارة كرمه، ودلالة فضله، فقالوا : إنه بحسن خُلُقِه يسمع ما يقال له، فقال عليه السلام :" المؤمِن غِرٌّ كريم والمنافق خَبٌّ لئيم ".
قوله جلّ ذكره :﴿ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
وقيل : مَنْ العاقلُ ؟ قالوا : الفَطِنُ المُتَغافِل. وفي معناه أنشدوا :
وإذا الكريمُ أتيْتَه بخديعةٍ ولقِبتَه فيما ترومُ يُسارعُ
فاعلمُ بأنَّكَ لم تُخادِعْ جاهلاً إنَّ الكريم - بفضله – يتخادع
أخبر أنَّ من تزيَّن للخَلْق، وتقرَّب إليهم وأَدامَ رضاهم، واتَّبَعَ في ذلك هواهم، فإن اللهَ سبحانه يُسْقِط به عن الخَلْق جاهَهُم، ويُشِينُهم فيما توهَمُّوا أنه يزينهم، والذي لا يَضِيعُ ما كان الله، فأمَّا ما كان لغير الله فَوَبَالٌ لِمَنْ أصابه، ومُحالٌ ما طَلَبَه.
ويقال إنَّ الخَلْق لا يصدقونك وإنْ حَلَفْت لهم، والحقُّ يَقْبَلُكَ وإِنْ تخَلَّفْتَ عنه ؛ فالاشتغالُ بالخلْقِ محنةٌ أنت غيرُ مأجورٍ عليها، والإقبالُ على الحقِّ نعمةٌ أنت مشكورٌ عليها. والمغبونُ مَنْ تَرَكَ ما يُشْكَرُ عليه ويُؤثِر ما لا يؤجرُ عليه.
مَنْ كَفرَ بالله وأشرك في توحيده بإثباتِ موهوم استحق ما هو حقٌّ لله : تعَجَّلُ عقوبته في الحال بالفُرقة، وفي المآلِ بالخلود في الحرقة.
فليس كلُّ مَنْ مُنِي بمصيبة يعلم ما ناله من المحنة، وأنشدوا :
غَداً يَتَفَرَّقُ أهلُ الهوى ويكْثُر باكٍ ومُسْتَرْجِع
ظَنُّوا أَنَّ الحقَّ - سبحانه - لا يفضحهم، فَدَلَّسُوا عليكم، وأنكروا ما انطوت عليه سرائرهم، فأرخى الله - سبحانه - عنانَ إمهالهم، ثم هتك الستر عن نفاقهم ؛ فَفَضَحَهم عند أهل التحقيق، فتقنعوا بِخِمار الخجل، وكشف لأهل التحقيق مكامنَ الاعتبار. ونعوذ بالله من عقوبة أهل الاغترار !﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ﴾[ آل عمران : ٥٤ ].
مَنْ استَهانَ بالدِّين، ولم يَحْتَشِمْ مِنْ تَرْكِ حُرْمةِ الإسلام جعله الله في الحال نكالاً، وسامَه في الآخرة صِغَراً وإذلالاً، والحقُّ - سبحانه - لا يرضى دون أن يذيق العُتَاةَ بَأْسَه، ويَسْقِيَ كُلاًّ - على ما يستوجبه - كأسَه.
جَرَّدَ العفوَ والعذابَ من عِلَّة الجُرْمِ، وسببَ الفِعْل مِنْ حُجّةِ العبد ؛ حيث أَحالَ الأمر على المشيئة. . إذ لو كان الموجِبُ لعفوِه أو تعذيبِه صفةَ العبد لَسَوَّى بينهم عند تساويهم في الوصف، فَلَمَّا اشتركوا في الكفر بعد الإيمان، وعفا عن بعضهم وعذَّب بعضَهم دَلَّ على أنه يفعل ما يشاء، ويختصُّ من يشاء بما يشاء.
المؤمِنُ بالمؤمِن يَتَقَوَّى، والمنافقُ بالمنافق يتعاضد، وطيور السماء على أُلاَّفِها تَقَعُ. فالمنافِقُ لصاحبه أسٌّ به قوامه، وأصلٌ به قيامه ؛ يُعِينُه على فساده، ويُعَمِّي عليه طريقَ رشادِه.
والمؤمِنُ ينصر المؤمنَ ويُبَصِّره عيوبَه، ويُبغضُ لديه ويُقَبِّحُ - في عينيه - ذنوبَه، وهو على السدادِ يُنْجِدُه، وعن الفسادِ يُبْعِده.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾.
عن طلب الحوائج من الله تعالى.
قوله جلّ ذكره :﴿ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾.
جازاهم على نسيانهم، فسمَّى جزاءَ النسيانِ نسياناً. تركوا طاعتَه، وآثروا مُخالَفَته، فَتَرَكَهُم وما اختاره لأنفسهم، قال تعالى :﴿ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾
[ البقرة : ١٧ ].
وَعَدَهم النارَ في الآخرة، ولهم العذابُ المقيمُ في الحاضرة، فمؤجَّلُ عذابِهم الحُرقَةُ، ومُعَجَّلُه الفُرْقةُ.
يقال : سلكتم طريقَ مَنْ قَبْلَكم من الكفار وأهل النفاق وقد كافأناهم. ويقال الذين تقدموكم زادوا عليكم فكافأناهم كما نكافئ أهل الشقاق والنفاق ؛ في كثرة المدَّةِ وقوةِ العُدَّةِ، والاستمتاع في الدنيا، والاغترار بالانخراط في سِلْك الهوى. . ولكن لم تَدُمْ في الراحة مُدَّتُهم، ولم تُغْنِ عنهم يومَ الشِدَّةِ عُدَّتُهم، وعما قريبٍ يَلْحَقُ بِكُم ما لَحِقَ بالذين هم قبلكم.
ألم يَنْتَهِ إليهم خبرُ القرون الماضية، ونبأُ الأمم الخالية كيف دَمَّرْنا عليهم جَمْعَهُم، وكيف بَدَّدْنَا شمْلَهم ؟ قَضَيْنَا فيهم بالعدْل، وحَكَمْنَا باستئصالِ الكُلِّ، فلم يَبْقَ منهم نافخُ نار، ولم يحصلوا إلاَّ على عارٍ وشنار.
يُعين بعضُهم بعضاً على الطاعات، ويتواصَوْن بينهم بترك المحظورات ؛ فَتَحَابُّهم في الله، وقيامُهم بحقِّ الله، وصحبتُهم لله، وعداوتُهم لأجْلِ الله ؛ تركوا حظوظَهم لحقِّ الله ؛ وآثروا على هواهم رِضاءَ الله. أولئك الذين عَصَمَهم اللهُ في الحالِ، وسيرحمهم في المآل.
وَعَدَهُم جميعاً الجنةَ، ومساكنَ طيبة، ولا يطيب المَسْكَنُ إلا برؤيةِ المحبوبِ، وكلُّ مُحِبٍ يطيب مَسْكَنُه برؤية محبوبه، ولكنهم مختلفون في الهمم ؛ فَمِنْ مربوطٍ بحظِّ مردودٍ إلى الخَلْق، ومِنْ مجذوب بحقِّ موصول بالحق، وفي الجملة كما يقال :
أجيرانَنَا ما أوحشَ الدارَ بَعْدَكُم إذا غِبْتُمُ عنها ونحن حضورُ !
ويقال قومٌ يطيب مسكنُهم بوجودِ عَطَائِه، وقومٌ يطيب مسكنُهم بشهود لقائه، وأنشدوا :
وإنِّي لأَهْوى الدارَ لا يستقرُّ لي بها الودُّ إلا أَنَّها من دِيارِكا
ثم قال :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ﴾ : وأمارةُ أهلِ الرضوانِ وجدانُ طَعْمِه ؛ فهم في روْح الأُنْسِ، وروْح الأنْسِ لا يتقاصر عن راحة دار القُدْس بل هو أتمُّ وأعظم.
دعا نَبِيُّنا - صلى الله عليه وسلم - كافةَ الخَلْقِ إلى حُسْن الخُلُق.
قال لموسى عليه السلام :﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا ﴾[ طه : ٤٤ ].
وقال لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - :﴿ واغلُظْ عليهم ﴾[ التحريم : ٩ ] ويقال إنما هذا بعد إظهار الحجج، وبعد أن أزاح عُذْرَهُم بأيام المهلة ؛ ففي الأول أَمَرَه بالرِّفق حيث قال :
﴿ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ﴾[ سبأ : ٤٦ ]، فلما أصروا واستكبروا أَمَرَه بالغِلظة عليهم. والمجاهدة أولها اللسان لشرح البرهان، وإيضاح الحجج والبيان، ثم إنْ حَصَلَ من العدوِّ جُحْدٌ بعد إزاحة العذر، فبالوعيد والزجر، ثم إنْ لم ينجعْ الكلامُ ولم ينفع الملامُ فالقتالُ والحربُ وبَذْلُ الوسعِ في الجهاد.
تَسَتَّروا بأَيْمانِهم فَهتَكَ اللهُ أستارهم وكشف أسرارهم.
قوله :﴿ وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ ﴾ : وهي طَعْنُهُم في نُبوَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلُّ مَنْ وَصَفَ المعبودَ بصفاتِ الخَلْق أو أضاف إلى الخلْق ما هو من خصائص نعت الحقِّ فقد قال كلمة الكفر.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ﴾.
أي أظهروا من شعار الكفر ما دَلَّ على جُحْدِهم بقلوبهم بعد ما كانوا يُظْهِرون الموافقة والاستسلامَ، وهمُّوا بما لم ينالوا من قتلٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سوَّلت أنفسهم أنه يُخْرِج الأَعَزُّ منها الأذلَّ، وغير ذلك.
يقال تمنوا زوالَ دولةِ الإسلام فأبى اللهُ إلا إعلاء أمْرِها.
ثم قال :﴿ وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ﴾ : أي ما عابوه إلا بما هو أَجَلّ خصاله، فلم يحصلوا من ذلك إلا على ظهور شأنهم للكافة بما لا عذر لهم فيه.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَاباً أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الأَرْضِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾.
وأقوى أركان التوبة حلُّ عقْدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بجميع حقِّ الأمر على وجه الاستقصاء.
منهم مَنْ أَكَّدَ العَقْدَ مع الله، ثم نَقَضَه، فَلَحِقَه شُؤْمُ ذلك ؛ فَبقِي خالداً في نِفاقِه.
ويقال تطلَّبَ إحسانَ ربِّه، وتقرَّبَ إليه بإبرام عهده فلمَّا حقَّق اللهُ مسؤولَه واستجاب مأموله، فَسخَ ما أبرمه، وانسلخ عما التزمه، واستولى عليه البُخْلُ، فَضَنَّ بإخراج حقه، فَلَحِقَه شؤمُ نِفاقِه، بأن بَقِيَ إلى الأبد في أَسْرِه.
وحدُّ البخل - على لسان العلم - مَنْعُ الواجب. وبُخْلِ كلِّ أحدٍ على ما يليق بحاله، وكلُّ مَنْ آثر شيئاً من دون رضاء ربِّه فقد اتصف ببخله، فَمَنْ يَبْخَلْ بماله تَزلْ عنه البركةُ حتى يؤول إلى وارثٍ أو يزول بحارث. ومَنْ يبخلْ بنَفْسِه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحةُ حتى لا يستمتع بحيائه. والذي يبخل بروحِه عنه يُعاقَبُ بالخذلان حتى تكون حياتُه سبباً لشقائه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:منهم مَنْ أَكَّدَ العَقْدَ مع الله، ثم نَقَضَه، فَلَحِقَه شُؤْمُ ذلك ؛ فَبقِي خالداً في نِفاقِه.
ويقال تطلَّبَ إحسانَ ربِّه، وتقرَّبَ إليه بإبرام عهده فلمَّا حقَّق اللهُ مسؤولَه واستجاب مأموله، فَسخَ ما أبرمه، وانسلخ عما التزمه، واستولى عليه البُخْلُ، فَضَنَّ بإخراج حقه، فَلَحِقَه شؤمُ نِفاقِه، بأن بَقِيَ إلى الأبد في أَسْرِه.
وحدُّ البخل - على لسان العلم - مَنْعُ الواجب. وبُخْلِ كلِّ أحدٍ على ما يليق بحاله، وكلُّ مَنْ آثر شيئاً من دون رضاء ربِّه فقد اتصف ببخله، فَمَنْ يَبْخَلْ بماله تَزلْ عنه البركةُ حتى يؤول إلى وارثٍ أو يزول بحارث. ومَنْ يبخلْ بنَفْسِه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحةُ حتى لا يستمتع بحيائه. والذي يبخل بروحِه عنه يُعاقَبُ بالخذلان حتى تكون حياتُه سبباً لشقائه.

أعقبهم ببخلهم نفاقاً في قلوبهم، ويصحُّ أعقبهم الله نفاقاً في قلوبهم، وفي الجملة : مَنْ نَقَضَ عهده في نفسه رفض الودَّ من أصله، وكلُّ من أظهر في الجملة خيراً واستبطن شراً فقد نافق بقسطه. والمنافق في الصف الأخير في دنياه، وفي الدَرْكِ الأسفل من النار في عقباه.
خوَّفَهم بعلمه كما خوَّفهم بفعله في أكثر من موضعٍ من كتابه.
و ﴿ سِرَّهُمْ ﴾ ما لا يطلع عليه غير الله.
و ﴿ نَجْوَاهُمْ ﴾ ما يتسارون بعضهم مع بعض. ويحتمل أن يكونَ ما لنفوسهم عليه إشرافٌ من خواطرهم.
عابوا الذين قَصُرَتْ أيديهم عن الإكثار في الصَدَقة وجادوا بما وصَلَتْ إليه أيديهم، فَشَكَرَ اللهُ سَعْيَ من أخلص في صدقته بعدما عَلمَ صِدْقَه فيها. وقليلُ أهلِ الإخلاص أفضلُ مِنْ كثيرِ أهلِ النفاقِ.
ولمَّا أوجدوا المسلمين بسخريتهم وَصَفَ اللهُ - سبحانه وتعالى - نفْسَه بما يستحيل في وصفه - على التحقيق - هو السخرية بأحدِ. . تطيباً لقلوبِ أوليائه، فقد تقدَّس عن ذلك لعِزَّة ربوبيته.
خَتَمَ القضايا بأنَّه لا يغفر لأهل الشِرْكِ والنفاق، فلا تنفعهم الوسائل، ولا ينتعش منهم الساقط.
ويقال : مَنْ غَلَبَتْه شِقْوتُنا لم ينفعه تضرعه ودعوته.
ويقال : صريعُ القدرة لا يُنْعِشُه الجُهد والحيلة.
استحوذ عليهم سرورُهم بتخلفهم، ولم يعلموا أن ثبورَهم في تأخرهم وما آثروه من راحة نفوسهم على أداء حق الله، والخروج في صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فنزع الله الراحةَ بما عاقَبَهم، وسَيَصْلَوْنَ سعيراً في الآخرة بما قدَّموه من نفاقهم، وسوف يتحسَّرُون ولات حينَ تحسُّر.
بدل الله مَسَرَّتهم بِحَسرةِ، وفَرْحَتَهم بتَرْحَةٍ، وراحتهم بِعَبْرَةٍ، حتى يكثر بكاؤهم في العقبى كما كثر ضحكهم في الدنيا، وذلك جزاءُ مَنْ كَفَرَ بِرَبِّه.
يقول : بعدما ظهرت خيانَتُهم، وتقرر كذبهم ونفاقهم، لا تَنْخَدِعْ بتملقهم، ولا تَثِقْ بقولهم، ولا تُمَكِّنْهم مِنْ صُحبتك فيما يُظْهِرونه مِنْ وفاقك. فإذا وَهَنَ سِلْكُ العهدِ فلا يَحْتَملُ بَعْدَهُ الشَّدَّ، وإذا اتسع الخَرْقُ لا ينفع بَعدَهُ الرَّقْعُ.
ليس بعد التَّبَرِّي التولي، ولا بعدَ الفراق والوفاق، ولا بعد الحجبة قربة. مضى لهم من الزمان ما كان لأملهم فيه فسحة، أو لرجائهم مساغ، أو لظنِّهم تحقيق، ولكن سَبَقَ لهم القضاءُ بالشقاوة، ونعوذ بالله مِنْ سوءِ الخاتمة.
يقول لا تحسبنَّ تمكينَ أهل النِّفاق مِنْ تنفيذ مرادهم، وتكثيرَ أموالهم إسداءَ معروف مِنَّا إليهم، أو إسباغَ إنعام مِنْ لَدُنَّا عليهم، إنما ذلك مَكْرٌ بهم، واستدراجٌ لهم، وإمهالٌ لا إهمال. وسيلقون غِبه عن قريب.
إذا تَوَجَّه عليهم الأمرُ بالجهاد، واشتدَّ عليهم حكمُ الإلزام، تعلَّلوا إلى السَّعَةِ، وركنوا إلى اختيار الدَّغةَ واحتالوا في موجِبَاتِ التَّخَلُّفِ، أولئك الذين خَصَّهم بخذلانه، وصَرَفَ قلوبهم عن ابتغاء رضوانه.
بَعُدُوا عن بِساط العِبادة فاستطابوا الدّعة، ورضوا بالتعريج في منازل الفرقة، ولو أنهم رجعوا إلى الله تعالى بِصِدقِ النَّدم لَقَابَلهُم بالفضل والكرم، ولكنْ القضاءَ غالِبٌ، والتكلفَ ساقطٌ.
ليس مَنْ أَقْبَلَ كمَنْ أعرض وصُدَّ، ولا مَنْ قُبِلَ أَمْرُه كَمَنْ رُدَّ، ولا من وحَّدَ كمن جَحَد، ولا من عَبَدَ كَمن عَنَدَ، ولا مَنْ أَتَى كمن أَبَى. . . فلا جَرَمَ رَبِحَتْ تِجَارَتُهم، وجَلتْ رُتْبَتُهم.
تشير الآية إلى أن راحاتِهم موعودة، وإِنْ كانت الأتعابُ في الحال موجودةً مشهودة.
ويقال صادِقُ يقينهم بالثوابِ يُهوِّن عليهم مقاساةَ ما يلقونه - في الوقت - من الأتعاب.
وهم أصحاب الأعذار - في قول أهل التفسير - طلبوا الإذنَ في التأخرِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فسقط عنهم اللَّوْمُ.
أما الذين تأخروا بغير عُذْرٍ فقد توجَّه عليهم اللوم، وهو لهم في المستقبل الوعيد.
قيمةُ الفقرِ تظهر عند سقوط الأمر، ولو لم يكن في القلة خيرٌ إلا هذا لكفي لها بهذا فضيلة ؛ بقوا في أوطانهم ولم يتوجَّه عليهم بالجهادِ أمرٌ، ولا بمفارقة المنزل امتحان. واكتفى منهم بنصيحة القلب، واعتقادِ أَنْ لو قدروا لخرجوا.
وأصحابُ الأموال امتُحِنوا - اليومَ - بِجَمْعِهَا ثم بِحِفْظِهَا، ثم مَلَكَتْهُم محنتُها حتى شقَّتْ عليهم الغيبةُ عنها، ثم توجَّه اللومُ عليهم في تَرْكِ إِنفاقها، ثم ما يعقبه - غداً من الحسابِ والعذاب يربو على الجميع.
وإِنَّما رفع الحَرَجَ عن أولئك بشرطٍ وهو قوله :﴿ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ ﴾ فإذا لم يوجد هذا الشرطُ فالحرجُ غيرُ مرتفع عنهم.
قوله :﴿ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ﴾ : المُحْسِنُ الذي لا تكون للشرع منه مطالبة لا في حقِّ الله ولا في حقِّ الخَلْق.
ويقال هو الذي يعلم أَنَّ الحادثاتِ كلَّها من الله تعالى.
ويقال هو الذي يقوم بحقوقِ ما نِيط به أَمْرُه ؛ فلو كان طيرٌ في حكمه وقَصَّرَ في عَلَفِه - لم يكن محسناً.
منَعَهم الفقرُ عن الحَرَاك فالتمسوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يحملهم معه ويهيئ أسبابهم، ولم يكن في الحال للرسول عليه السلام سَعَةٌ ليوافقَ سُؤْلَهم، وفي حالة ضيق صدره - صلى الله عليه وسلم - حَلَفَ إنه لا يَحْمِلُهم، ثم رآهم صلى الله عليه وسلم يتأهبون للخروج، وقالوا في ذلك، فقال عليه السلام :" إنما يحملكم الله ".
فلمَّا رَدَّهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الإجابة في أن يحملهم رجعوا عنه بوصف الخيبة كما قال تعالى :﴿ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ﴾ كما قال قائلهم : ما تُرى في الطريق تصنع بعدي ؟ *** قلتُ : أبكي عليك طول الطريق
قال لي مَنْ أُحِبُّ والبيْن قد حَلَّ ودمعي مرافِقٌ لشهيقي
قوله :﴿ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ شقَّ عليهم أنْ يكونَ على قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسببهم شُغْلٌ فَتَمَنَّوْا أن لو أُزِيجَ هذا الشغلُ، لا ميلاً إلى الدنيا ولكن لئلا تعودَ إِلى قلبه - عليه السلام - مِنْ قِبَلِهم كراهةً، ولهذا قيل :
مَنْ عَفَّ خَفَّ على الصديقِ لِقاؤه وأخو الحوائجِ مُمْجِجُ مَمْلولُ
ثم إنَّ الحقَّ - سبحانه - لمَّا عَلِمَ ذلك منهم، وتمحضت قلوبُهم للتعلُّق بالله، وخَلَتْ عقائدُهم عن مُساكنةِ مخلوقِ تَدَارَكَ اللهُ أحوالَهم ؛ فأمر اللهُ رسوله عليه السلام أَنْ يَحْمِلَهم. . بذلك جَرَتْ سُنَّتُه، فقال :﴿ وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا ﴾
[ الشورى : ٢٨ ].
يريد السبيل بالعقوبة والملامة على الذين يتأخرون عنك في الخروج إلى الجهادِ ولهم الأُهبة والمُكْنَة، وتساعدهم على الخروج الاستطاعةُ والقدرةُ ؛ فإِذا استأذنوك للخروج وأظهروا لم يَصْدقُوا، فهم مُسْتَوجِبُونَ للنكير عليهم، لأنَّ مَنْ صَدَقَ في الولاء لا يحتشم من مقاساةِ العناء، والذي هو في الولاءِ مما ذِقٌ وللصِّدقِ مفَارِقٌ يتعلَّلُ بما لا أصل له، لأنه حُرِمَ الخلوصَ فيما هو أَهْلٌ له، وكذا قيل :
إنَّ الملولَ إذا أراد قطيعةً مَلَّ الوصَالَ وقال كان وكانا
قوله جلّ ذكره :﴿ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ ﴾.
قيل في التفسير : مع النساء في البيوت.
والإسلام يثني على الشجاعة، وفي الخبر :" إنْ الله تعالى يحب الشجاعة، و لو على قتل حية "، وفي معناه أنشدوا :
كُتِبَ القتلُ والقتالُ علينا وعلى المُحْصَنَاتِ جرُّ الذّيُولِ
ومَنْ استوطن مركبَ الكسلِ، واكتسى لِبَاسَ الفَشَلِ، ورَكَنَ إلى مخاريق الحِيَل - حُرِمَ استحقاقَ القُربة. ومَنْ أراد اللهُ - تعالى - هَوَانَه، وأذاقه خِذْلانَه، فليس له عن حكم الله مناصٌ.
أراد إذا تَقَوَّلُوا بما هم فيه كاذبون، وضللوا عما كانوا في تخلفهم به يتَّصِفون - فأَخْبِرُوهم أنَّا عَرَّفَنَا اللهُ كَذبَكم فيما تقولون، واتضحت لَنَا فضائحُكم، وتَمَيَّزَ - بما أظهره الله لنا - سَيِّئُكُم وصالِحُكم، فإِنَّ اللهَ تعالى لا يَخْفَى عليه شيءٌ مِنْ أحوالكم، وسَتَلْقَوْنَ غِبَّ أعمالكم في آجلكم.
يريد أنهم في حَلفِهِم باللهِ لكم أن يدفع السوءَ مِنْ قِبَلِكم، وليس قصْدهم بذلك خلوصاً في اعتذارهم، ولا ندامةً على ما احتقبوه من أوزارهم، إنما ذلك لتُعْرِضُوا عنهم. . . فأَعْرِضوا عنهم ؛ فإِنَّ ذلك ليس بمُنْجِيهم مما سيلقونه غداً من عقوبة الله لهم، فإِنَّ اللهَ يُمْهِلُ العاصيَ حتى يتَوهَّمَ أنه قد تَجَاوَزَ عنه، وما ذلك إلا مَكْرٌ عُومِل به، فإذا أذاقه ما يستوجِبُه عَلِمَ أن الأمرَ بخلاف ما ظنّه، وما ينفع ظاهرٌ مغبوطٌ، والحال - في الحقيقة - يأسٌ من الرحمة وقنوطٌ، وفي معناه قالوا :
وقد حسدوني في قُرْبِ داري مِنْهُمُ وكم مِن قريبِ الدارِ وهو بعيدُ !
من كان مسخوطَ الحقِّ لا ينفعه أن يكون مرضيَّ الخَلْقِ، وليست العِبْرَةُ بقولِ غيرِ اللهِ إِنَّما المدارُ على ما سَبَقَ من السعادة في حُكْمِ الله.
جُبِلَتْ قلوبُهم على القسوةِ فلم تَقْرَعْها هواجِمُ الصفوة، وكانوا عن أشكالهم في الخِلْقَةِ مستأخرين بما (. . . . ) من سوء الخُلُق ؛ فَهُمْ مِنَ استبانةِ الحقائق أبعد، ومن استيجاب الهوان أقرب.
خَبُثَت عقائدُهم فانتظروا للمسلمين ما تعلقت به مناهم من حلول المِحن بهم، فأبى اللهُ إلا أن يَحيقَ بهم مكرُهم، ولهذا قيل في المثل : إذا حَفَرْتَ لأخيك فَوَسِّعْ فربما يكون ذلك مقيلَك !
ويقال مَنْ نَظَر إلى ورائه يُوَفَّقْ في كثيرٍ من تدبيره ورأيه.
تَنَوَّعُوا ؛ فمنهم مَنْ غَشَّ ولم يربح، ومنهم مَنْ نَصَحَ فلم يَخْسِرْ، فأمَّا الذين مذقوا فهم في مهواةِ هوانِهم، وأما الذين صَدَقُوا ففي رَوْح إحسانهم.
السابقون مختلفون ؛ فَمِنْ سابقٍ بِصِدقِ قَدَمِه، ومِنْ سابقٍ بصدقِ هِمَمِه.
ويقال السابقُ مَنْ ساعَدَتْه القسمةُ بالتوفيق، وأسعَدَتْه القضية بالتحقيق، فسبقت له من الله رحمتُه.
ويقال سبقهم بعنايته ثم سبقوا بطاعتهم له.
ويقال جَمَعَ الرِّضَاءُ صَفَّيْهِم : السابقَ منهم واللاحقَ بهم ؛ قال تعالى :﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ﴾ ﴿ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾.
ويقال ليس اللاحق كالسابق، فالسابقُ في روحِ الطلبِ، واللاحِقُ في مقاساة التعبِ، ومُعاناة النَّصَبِ، وأنشدوا :
السِّبَاق السِّبَاق قولاً وفعلاً حَذِّروا النَّفسَ حَسْرَةَ المسبوقِ
ويقال رِضَاهُم عن اللهِ قضيةُ رضاء الله عنهم ؛ فلولا أنه رَضِيَ عنهم في آزالِه. . . فمتى وصلوا إلى رضاهم عنه ؟ !
تشاكل المخلِصُ والمنافِقُ في الصورة فلم يَتَمَيَّزا بالمباني، وإن تنافَيا في الحقائق والمعاني وتقاصر عِلْمُهم عن العرفان فَهَتَك الله لنبيِّه أستارَهم. . فَعَرَفَهم، وهم بإشرافه عليهم جاهلون، وعلى الإقامة في أوطان نفاقهم مصروفون، فلم ينفعهم طولُ إمهاله لهم.
﴿ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ﴾ : الأولى في الدنيا بالفضيحة فيما ينالهم من المحن والفتن والأمراض، ولا يحصل لهم عليها في الآخرة عِوَضٌ ولا أَجْرٌ ولا مَسَرَّةٌ، والثانية عذابُ القبر.
وقيل المرة الأولى بِقَبْضِ أرواحهم، والثانية عذاب القبر ثم يوم القيامة يُمْتحنون بالعذاب الأكبر.
ويقال المرة الأولى ظنُّهم أنهم على شيء، والمرة الثانية بخيبة آمالهم وظهور ما لم يحتسبوه لهم.
إنْ اتصفوا بعيوبهم فلقد اعترفوا بذنوبهم. والإقرارُ توكيدُ الحقوق فيما بين الخَلْق في مشاهد الحكم، ولكن الإقرار بحق الله - سبحانه - يوجِبُ إسقاط الجُرْم في مقتضى سُنَّةِ كَرَم الحقِّ - سبحانه، وفي معناه أنشدوا :
قيل لي :قلتُ :
قد أَسَاءَ فيكَ فلانٌ وسكوتُ الفتى على الضيم عارُ
قد جاءني فأَحْسَنَ عُذرا دِيَةُ الذَّنبِ عندنا الاعتذار
﴿ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ﴾ : ففي قوله :﴿ وَآخَرَ سَيِّئًا ﴾ بعد قوله :﴿ صَالِحًا ﴾ دليلٌ على أن الزَّلَّةَ لا تحبِطُ ثوابَ الطاعةِ ؛ إذ لو أحبطته لم يكن العملُ صالحاً.
وكذلك قوله :﴿ عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ : وعسى تفيد أنه لا يجب على الله شيء فقد يتوب وقد لا يتوب. ولأنَّ قوله صِدْقٌ. . فإذا أخبر أَنَّه يجِيبُ فإنه يفعل، فيجب منه لا يجب عليه.
ويقال قوله :﴿ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا ﴾ : يحتمل معناه أنهم يتوبون ؛ فالتوبة عملٌ صالح. وقوله :﴿ وَآخَرَ سَيِّئًا ﴾ : يحتمل أنه نَقْضُهم التوبة، فتكون الإشارة في قوله :﴿ عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ أنهم إن نقضوا توبتهم وعادوا إلى ما تركوه من زَلَّتهم فواجبٌ مِنَّا أن نتوب عليهم، ولئن بطلت - بنَقْضِهم - توبتُهم. . لَمَا اخْتَلَّتْ - بفضلنا - توبتُنا عليهم.
تطهرهم مِنْ طَلَبِ الأَعواض عليها، وتزكيهم عن ملاحظتهم إياها.
تطهرهم بها عن شُحِّ نفوسهم، وتزكيهم بها بألا يتكاثروا بأموالهم ؛ فَيَرَوْا عظيم مِنَّةِ الله عليهم بوجدان التجرُّد منها.
﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ﴾ : إنْ تُعاشِرْهم بِهِمَّتِكَ معهم أثْمنُ لهم من استقلالهم بأموالهم.
تمدَّحَ - سبحانه - بقبول توبة العاصين إذ بها يُظْهِرُ كَرَمَه، كما تمدَّح بجلال عِزِّه ونَبَّههم على أَنْ يَعرِفوا به جَلاله وقِدَمَه.
وكما تَوحَّدَ باستحقاق كبريائه وعظمته تَفَرَّدَ بقبول توبة العبد عن جُرْمِه وزَلَّتِه. فكما لا شبيهَ له في جماله وجلاله لا شريكَ له في أفضاله وإقباله ؛ يأخذ الصدقاتِ - قَلَّتْ أو كَثُرَتْ، فَقَدْرُ الصَّدَقَةِ وخَطرُها بِأَخْذِه لها لا بكثرتها وقِلَّتها ؛ قَلَّتْ في الصورة صَدَقَتَهُم ولكِنْ لمَّا أَخَذَها وقِبِلها جَلَّتْ بقبوله لها، كما قيل :
يكون أُجاجاً - دونكم، فإِذا انتهى إليكم تَلَقى طيبَكم فيطيبُ
خوَّفَهم برؤيته - سبحانه - لأعمالهم، فلمَّا عَلِمَ أَنَّ فيهم مَنْ تتقاصر حالتُه عن الاحتشام لاطِّلاع الحقِّ قال :﴿ وَرَسُولِهِ ﴾، ثم قال لِمَنْ نَزَلَتْ رتبتُه :﴿ وَالمُؤْمِنُونَ ﴾. وقد خَسِرَ مَنْ لا يمنعه الحياءُ، ولا يردعه الاحتشامُ، وسَقَطَ من عينِ اللهِ مَنْ هَتَكَ جلبابَ الحياءِ، كما قيل :
إذا قَلَّ ماءُ الوَجْهِ قَلَّ حياؤه ولا خيرَ في وجهٍ إذا قَلَّ ماؤه
ومَنْ لم يَمْنَعْه الحياءُ عن تعاطي المكروهاتِ في العاجل سيلقى غِبَّ ذلك، وخسرانُه عن قريبٍ في الآجل.
لم يُصَرِّحْ بقبول توبتهم، ولم يَسِمْهُم باليأسِ من غفرانه، فوقفوا على قَدَم الخَجلِ، متميلين بين الرهبة والرغبة، متردِّدِين بين الخوف والرجاءَ. أخبر اللهُ - سبحانه - أنَّه إنْ عَذَّبَهم فلا اعتراضَ يتوجّه عليه، وإنْ رَحِمَهم فلا سبيلَ لأحدٍ إليه، قال بعضهم :
ويشبعني من الأمال وعدٌ ومن علمي بتقصيري وعيد
مَنْ لم يكن مخلصاً في ولائه لم يأنس القلبُ بكدِّه وعنائه، فَتَوَدُّدُه في الظاهر ينادي عليه بالتوائه، وبقوله بالتكلُّفِ شهادةُ صِدْقٍ على عَدَمِ صَفَائه :
مَنْ لم يكنْ للوصال أهلاً فكلُّ إحسانِه ذنوبُ
المقام في أماكن العصيان، والتعريج في أوطان أهل الجحود والطغيان - من علامات الممالأة مع أربابها، وسُكَّانِها وقُطَّانِها.
والتباعدُ عن مَسَاكِنِهم، وهجرانُ مَنْ جَنَحَ إلى مَسالِكهم عَلَمٌ لِمَنْ أشرب قلبه مخالفتهم، وباشرت سِرَّه عداوتُهم.
﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ﴾ : يتطهرون عن المعاصي وهذه سِمَة العابدين، ويتطهرون عن الشهوات والأماني وتلك صفة الزاهدين، ويتطهرون عن محبة المخلوقين، ثم عن شهود أنفسهم بما يتصفون وتلك صفة العارفين.
قوله :﴿ وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ﴾ : أسرارَهم عن المساكنةِ إلى كل مخلوق، أو ملاحظةِ كل مُحْدَثٍ مسبوق.
المريدُ يجب أن يؤسِّسَ بنيانَه على يقينٍ صادقٍ فيما يعتقده، ثم على خلوص في العزيمة ألا ينصرِفَ قبل الوصولِ عن الطريق الذي يسلكه، ثم على انسلاخه عن جميع مُناه وشهواتِه، ومآرِبه ومطالبِه، ثم يبني أَمْرَه على دوام ذِكْرِه بحيث لا يعترِضُه نِسيان، ثم على ملازمة حق المسلمين وتقديم مصالحهم. . . بالإيثار على نفسه. والذي ضَيَّع الأصولَ في ابتدائه حُرِمَ الوصول في انتهائه، والذي يَحْكِمُ الأساسَ في بنائِه سَقَطَ السَّقْفُ على جدرانه.
عروقُ النِّفاقِ لا تُقْتَلَعُ من عَرَصَاتِ اليقين إلا بِمِنْجَل التَّحَقُّقِ بصحيح البرهان ؛ فَمَنْ أُيِّدَ لإدامة المسير، وَوفِّقَ لتأمل البرهان وَصَلَ إِلى ثَلَجِ الصدور ورَوْحِ العرفان.
ومَنْ أقام على مُعْتَادِ التقليد لم يسترِحْ قلبُه من كَدِّ التردُّدِ، وظلمةِ التجويز، وَجَوَلاَنِ الخواطر المشكلة في القلب.
لمّا كان من المؤمنين تسليمُ أَنفسهم وأموالهم لحُكْمِ الله، وكان من الله الجزاءُ والثوابُ ؛ أي هناك عِوَضٌ ومُعَوض، فَلِمَا بَين ذلك وبين التجارة من مشابهة أطلق لفظَ الاشتراءِ، وقد قال تعالى :﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ. . . ﴾[ الصف : ١٠ ]، وقال :
﴿ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ﴾[ البقرة : ١٦ ].
وفي الحقيقة لا يصحُّ في وصف الحق - سبحانه - الاشتراء لأنه مَالِكُ سِوَاه، وهو مالِكُ الأعيانِ كلِّها. كما أَنَّ مَنْ لم يستَحْدِثْ مِلْكاً لا يُقَال إنه - في الحقيقة - باع.
وللمقال في هذه الآية مجال. . . فيقال : البائعُ لا يستحقُّ الثمنَ إذا امتنع عن تسليم المبيع، فكذلك لا يستحق العبدُ الجزاءَ الموعودَ إلا بعد تسليمِ النَّفسِ والمالِ على موجب أوامر الشرع، فَمَنْ قَعَدَ أو فَرَّطَ فغيرُ مستحقٍ للجزاء.
ويقال لا يجوز في الشرع أن يبيع الشخصُ ويشتري شيئاً واحداً فيكونَ بائعاً ومشترياً إلا إذا كان أباً وجَدَّاً ! ولكن ذلك هنا بلفظ الشفقة ؛ فالحقُّ بإذنه كانت رَحْمَتُه بالعبد أتمَّ، ونظرُه له أبلغَ، وكان للمؤمِن فيه من الغبطة، ما لا يخفى، فصحَّ ذلك وإن كان حُكمه لا يقاس على حكم غيره.
ويقال إنما قال :﴿ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ ﴾ ولم يقل " قلوبهم " لأنَّ النَّفْسَ محلُّ الآفات فجعل الجنة في مقابلتها، وجعل ثَمَنَ القلبِ أَجَلَّ من الجنة، وهو ما يخصُّ به أولياءه في الجنة مِنْ عزيزِ رؤيته.
ويقال النَّفْسُ محلُّ العيب، والكريم يرغب في شراء ما يزهد فيه غيره.
ويقال مَنْ اشترى شيئاً لينتفع به اشترى خيرَ ما يجده، ومن اشترى شيئاً لِيَنْتَفِعَ به غيرهُ يشتري ما رُدَّ على صاحبه لِيَنْفَعَه بثمنه.
وفي بعض الكتب المنزلة على بعض الأنبياء - عليهم السلام - : يا بني آدم، ما خلقتُكم لأربحَ عليكم ولكن خَلَقْتُكم لتربحوا عليَّ.
ويقال اشترى منهم نفوسَهم فرهبوا على قلوبهم شكراً له حيث اشترى نفوسَهم، وأمَّا القلبُ فاستأثره قهراً، والقهر في سُنَّةِ الأحبابِ أعزُّ من الفضل، وفي معناه أنشدوا :
بُنِيَ الحبُّ على القَهْرِ فلو عَدَلَ المحبوبُ يوماً لَسَمُج
ليس يُسْتَحْسَنُ في حكم الهوى عاشِقٌ يَطْلُبُ تأليفَ الحُجَج
وكان الشيخ أبو علي الدقاق رحمه الله يقول :" لم يقل اشترى قلوبَهم لأن القلوبَ وَقْفٌ على محبته، والوقفُ لا يُشترى ".
ويقال الطيرُ في الهواء، والسَّمَكُ في الماءِ لا يصحُّ شراؤهما لأنه غير ممكن تسليمهما، كذلك القلبُ. . صاحبُه لا يمكنه تسليمه، قال تعالى :
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾[ الأنفال : ٢٤ ].
وفي التوراة :" الجنَّةُ جنتي والمالُ مالي فاشتروا جنتي بمالي فإنْ ربحتم فلكم وإِنْ خَسِرْتُمْ فعليَّ ".
ويقال عَلِمَ سوءَ خُلقِك فاشتراك قبل أَنْ أوجدك، وغَالِي بثمنك لئلا يكونَ لَكَ حقُّ الاعتراض عند بلوغك.
ويقال ليس للمؤمن أن يتعصب لنفسه بحال لأنها ليست له، والذي اشتراها أولى بها من صاحبها الذي هو أجنبي.
ويقال أخبر أنه اشتراها لئلا يدعي العبد فيها، فلا يساكنها ولا يلاحظها ولا يعجب بها.
قوله :﴿ فيقتلون ويقتلون ﴾ سيان عندهم أن يقتلوا أو يقتلوا، قال قائلهم :
وإن دما أجريته لك شاكرا وإن فؤادا خرته لك حامدا
ويقال قال :﴿ فاستبشروا ببيعكم ﴾ ولم يقل بثمن مبيعكم لأنه لم يكن منا بيع، وإنما أخبر عن نفسه بقوله :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين ﴾ فجعل بيعه بيعنا، وهذا مثلما قال في صفة نبيه- صلى الله عليه وسلم - :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾( الأنفال : ١٧ ) وهذا عين الجمع الذي أشار إليه القوم.
مَدَحَهُم بعد ما أوقع عليهم سِمَةَ الاشتراء بقوله :﴿ التَّائِبُونَ العَابِدُونَ. . . ﴾ ومَنْ رَضِيَ بما اشتراه فإنَّ له حقَّ الردِّ إذا لم يَعْلَمْ العيبَ وقتَ الشِّراء، فأَمَّا إذا كان عالماً به فليس له حقُّ الردِّ ؛ قال تعالى :﴿ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ ﴾[ الدخان : ٣٢ ].
ويقال مَنْ اشترى شيئاً فَوَجَدَ به عيْباً ردَّه على مَنْ منه اشتراه ولكنه - سبحانه - اشترى نفوسَنا منه، فإذا أراد الردَّ فلا يردُّ إلا على نَفْسِه ؛ قال تعالى :﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الحَقِّ ﴾ وكما أنَّ الردَّ إليه فلو ردَّنا كان الردُّ عليه.
قوله تعالى :﴿ التَّائِبُونَ ﴾ أي الراجعون إلى الله، فَمِنْ راجعٍ يرجع عن زلَّتِه إلى طاعته، ومِنْ راجع، يرجع عن متابعة هواه إلى موافقة رضاه، ومِنْ راجعٍ يرجع عن شهود نفسه إلى شهود لطفه، ومِنْ راجعٍ يرجع عن الإحساس بنفسه وأبناء جِنْسِه إلى الاستغراق في حقائق حقِّه.
ويقال تَائِبٌ يرجع عن أفعاله إلى تبديل أحواله ؛ فيجد غداً فنونَ أفضاله، وصنوفَ لطفه ونواله، وتائبٌ يرجع عن كل غيرٍ وضدٍ إلى ربِّه بربِّه لربِّه بِمَحْوِ كلِّ أَرَبٍ، وعَدَمِ الإحسان بكلِّ طلب.
وتائب يرجع لحظِّ نَفْسِه من جزيل ثوابه أو حَذَراً - على نفسه - من أليم عذابه، وتائب يرجع لأمره برجوعه وإيابه، وتائب يرجع طلباً لفرح نفسه حين ينجو مِنْ أوضاره، ويخلص من شؤم أوزاره، وتائب يرجع لَمَّا سمع أنه قال : إنَّ اللهَ أَفْرَحُ بتوبةِ عَبْدِه من الأعرابي الذي وَجَدَ ضَالَّتَه - كما في الخبر، " وشتَّان ما هما " ! وأنشدوا :
أيا قادماً من سَفْرَة الهَجْر مَرْحَبَا أُنَادِيكَ لا أنساكَ ما هبَّتْ الصَّبَا
وأمَّا قوله ﴿ العَابِدُونَ ﴾ : فهم الخاضعون بكلِّ وجه، الذين لا تَسْتَرِقُّهم كرائمُ الدنيا، ولا تستعبدهم عظائمُ العُقْبَى. ولا يكون العبدُ عبداً لله - على الحقيقة - إلا بعد تجرُّدِه عن كل شيءٍ حادثٍ. وكلُّ أحدٍ فهو له عَبْدٌ من حيث الخِلْقة ؛ قال تعالى :
﴿ إن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَنَ عَبْدًا ﴾[ مريم : ٩٣ ]. ولكنَّ صاحبَ العبودية خاصٌّ.
قوله جلّ ذكره :﴿ الحَامِدُونَ ﴾.
هم الشاكرون له على وجود أفضاله، المُثْنُونَ عليه عند شهود جلاله وجماله.
ويقال : الحامدون بلا اعتراضٍ على ما يحصل بقدرته، وبلا انقباضٍ عما يجب من طاعته.
ويقال الحامدون له على منعه وبلائه كما يحمدونه على نفعه وعطائه.
ويقال الحامدون إذا اشتكى مَنْ لا فُتُوَّة له المادحون إذا بكى مَنْ لا مروءةَ له.
ويقال الشاكرون له إنْ أدناهم، الحامدون له إن أقصاهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ السَّائِحُونَ ﴾.
الصائمون ولكن عن شهود غير الله، الممتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله.
ويقال السائحون الذين يسيحون في الأرض على جهة الاعتبار طلباً للاستبصار، ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغاربها بالتفكُّر في جوانبها ومناكبها، والاستدلال بتغيُّرها على مُنْشِئِها، والتحقق بحكمةِ خالِقها بما يَرَوْنَ من الآيات فيها، ويسيحون بأسرارهم في الملكوتِ فيجدون رَوْحَ الوصال، ويعيشون بنسيم الأنْسِ بالتحقق بشهود الحق.
قوله جلّ ذكره :﴿ الرَّاكِعُونَ ﴾.
الخاضعون لله في جميع الأحوال بخمودهم تحت سلطان التجلِّي، وفي الخبر. " إن الله ما تجلَّى لشيءٍ إلا خَشَع له ".
وكما يكون - في الظاهر - راكعاً يكون في الباطن خاشعاً، ففي الظاهر بإحسان الحقِّ إليه يُحْسنِ تولِّيه، وفي الباطن كالعيان للعيان للحقِّ بأنوار تجلِّيه.
قوله جلّ ذكره :﴿ السَّاجِدُونَ ﴾.
في الظاهر بنفوسهم على بِساط العبودية، وفي الباطن بقلوبهم عند شهود الربوبية. والسجود على أقسام : سجود عند صحة القصود فيسجد بنعت التذلل على بساط الافتقار، ولا يرفع رأسه عن السجود إلا عند تباشير الوصال. وسجودٌ عند الشهود إذا تجلَّى الحقُّ لقلبه سَجِدَ بقلبه، فلم ينظر بعده إلى غيره، وسجودٌ في حال الوجود وذلك بخموده عن كليته، وفنائه عن الإحساس بجميع أوصافه وجملته.
قوله جلّ ذكره :﴿ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ﴾.
هم الذين يَدْعُون الخَلْقَ إلى الله، ويُحَذرونهم عن غير الله. يتواصَوْن بالإقبال على الله وتَرْكِ الاشتغال بغير الله. يأمرون أنفسَهم بالتزام الطاعات بِحَمْلِهم إياها على سَنَن الاستقامة، ويَنْهَوْن أنفسَهم عن اتِّباع المنى والشهوات بِتَرْكِ التعريج في أوطان الغفلة، وما تعودوه من المساكنة والاستنامة.
والحافظون لحدود الله، هم الواقفون حيث وقفهم الله، الذين لا يتحركون إلا إذا حَرَّكَهم ولا يَسْكنُون إلا إذا سكنهم، ويحفظون مع الله أنْفَاسَهُمْ.
أصلُ الدين التَبَرِّي من الأعداء، والتولِّي للأولياء، والوليُّ لا قريبَ له ولا حميم، ولا نسيبَ له ولا صَديق ؛ إنْ وَالَى فبأمر، وإنْ عادى فَلِزَجْر.
لما أمَرَ المسلمين بالتبرِّي عن المشركين والإعراض عنهم والانقباض عن الاستغفار لهم بَيَّنَ أنَّ هذا سبيلُ الأولياء، وطريقُ الأنبياء عليهم السلام، وأَنَّ إبراهيمَ - عليه السلام - وإنْ استغفر لأبيه فإِنما كان مِنْ قَبْل تَحَقُّقِهِ بأنه لا يُؤْمِنُ، فلمَّا عَلِمَ أنه عدوٌّ لله أَظْهَرَ البراءةَ منه.
إنَّ الله لا يحكم بضلالكم وذهابكم عن طريق الحقِّ باستغفاركم للمشركين إلا بعد ما تبيَّن لكم أنكم مُنْهِيُّون عنه، فإذا علمتم أنكم نُهِيتُمْ عن استغفارَكم لهم فإنْ أَقْدَمْتُمْ على ذلك فحينئذ ذللتم عن الحقِّ بفعلكم بعد ما نُهيتم عنه. . . هذا بيان التفسير للآية، والإشارة فيها أنه لا سَلْبَ لعطائه إلا بِتَرْكِ أدب منكم.
ويقال مَنْ أَحَلَّه بِسَاطَ الوصلة ما مُنِيَ بعده بعذاب الفرقة، إلا لِمَنْ سَلَفَ منه تَرْكُ حُرْمة.
الحقُّ لا يَتَجمَّلُ بوجود مملوكاته، ولا يلحق نَقْصٌ بِعَدَم مخلوقاته، فَقَبْلَ أَنْ أوجد شيئاً من الحادثات كان مَلِكاً - والمَلِكُ أكثر مبالغةً من المالك - ومُلْكُه قدرتُه على الإبداع ؛ والمعدوم مقدوره ومملوكه، فإذا أَوْجَدَه فهو في حال حدوثه مقدوره ومملوكه، فإذا أعدمه خرج عن الوجود ولم يخرج عن كونه مقدوراً له.
﴿ يُحْييِ وَيُمِيتُ ﴾ يحيي مَن يشاء بعرفانه وتوحيده، ويميت من يشاء بكفرانه وجحوده.
ويقال يُحيي قلوبَ العارفين بأنوار المواصلات، ويُميتُ نفوسَ العابدين بآثار المنازلات.
ويقال يُحيي مَنْ أقبل عليه بِتَفَضُّله، ويميت من أعرض بِتَكَبُّرِه.
قَبِلَ توبتهم، وتاب على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - في إذنه للمنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك، وأَمَّا على المهاجرين والأنصار الذين قد خرجوا معه حين هَمُّوا بالانصراف لِمَا أَصَابهم من العُسْرة من الجوع والعطش والإعياء في غزوة تبوك، كما قال :﴿ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ﴾ : وتوبته عليهم أنه تدارَكَ قلوبَهم حتى لم تزغ، وكذا سُنَّةَ الحقِّ - سبحانه - مع أوليائه إذا أشرفوا على العَطَبِ، وقاربوا من التّلفِ، واستمكن اليأسُ في قلوبهم من النصر، ووَطَّنوا أنفسهم على أنْ يذوقوا البأسَ - يُمْطِرُ عليهم سحائبَ الجود، فيعود عودُ الحياةِ بعد يَبْسِه طريّاً، ويُرَدُّ وَرْدُ الأُنْس عقب ذبوله غضاً جَنِيَّاً، وتصير أحوالهم كما قال بعضهم :
كُنَّا كَمَنْ أُلْبِسَ أكفانَه *** وقُرِّب النَّعْشُ من اللَّحد
فجال ماءُ الرُّوحِ في وَحْشَةٍ *** وردَّه الوصل إلى الورْدِ
تبارك الله سبحانه *** ما (. . . ) هو بالسرمد
لمَّا صَدَقَ منهم اللجاء تداركهم بالشِّفاء وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكَوِّرُ نهار اليُسْرِ على ليالي العُسْر، ويُطلِعُ شموسَ المحنة على نحوس الفتنة، ويُدِير فلكَ السعادة فيمحق تأثير طوارق النكاية ؛ سُنَّةٌ منه - تعالى - لا يُبَدِّلها، وعادةٌ منه في الكَرَمِ يُجْرِيها ولا يحوِّلها.
يا أيها الذين آمنوا برُسُلِ الله، يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب. . . كونوا مع الصادقين المسلمين، يا أيها الذين آمَنُوا في الحال كونوا في آخر أحوالكم مع الصادقين ؛ أي استديموا الإيمان. استديموا في الدنيا الصدقَ تكونوا غداً مع الصادقين في الجنة.
ويقال الصادقون هم السابقون الأولون وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وغيرهم.
ويقال الصدق نهاية الأحوال، وهو استواءُ السِّرِّ والعلانية، وذلك عزيز. وفي الزَّبور :" كذب مَنْ ادَّعَى محبتي وإذا جَنَّة الليلُ نام عنِّي ".
والصدقُ - كما يكون في الأقوال يكون في الأحوال، وهو أَتَمُّ أقسامِهِ.
لا يجوز لهم أن يؤثِروا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من نَفْسٍ وروح، ومالٍ ووَلَدٍ وأهلٍ، وليسوا يخسرون على الله وأنَّى ذلك. . ؟ وإنهم لا يرفعون لأجْلِه خطوةً إلاَّ قابَلَهم بأَلفِ خطوة، ولا ينقلون إليه قَدَماً إلا لقَّاهم لطفاً وكرماً، ولا يُقاسُون فيه عَطَشاً إلا سقاهم من شراب محابِّه كاسا، ولا يتحملون لأجله مشقةً إلا لقَّاهم لطفاً وإيناساً، ولا ينالون من الأعداء أَذَىً إلا شَكَرَ اللهُ سَعْيَهم بما يوجب لهم سعادة الدارين !.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٠:لا يجوز لهم أن يؤثِروا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من نَفْسٍ وروح، ومالٍ ووَلَدٍ وأهلٍ، وليسوا يخسرون على الله وأنَّى ذلك.. ؟ وإنهم لا يرفعون لأجْلِه خطوةً إلاَّ قابَلَهم بأَلفِ خطوة، ولا ينقلون إليه قَدَماً إلا لقَّاهم لطفاً وكرماً، ولا يُقاسُون فيه عَطَشاً إلا سقاهم من شراب محابِّه كاسا، ولا يتحملون لأجله مشقةً إلا لقَّاهم لطفاً وإيناساً، ولا ينالون من الأعداء أَذَىً إلا شَكَرَ اللهُ سَعْيَهم بما يوجب لهم سعادة الدارين !.
لو اشتغل الكُلُّ بالتَّفَقُّه في الدِّين لَتَعَطَّل عليهم المعاش، ولبقي الكافة عن درك ذلك المطلوب، فجعل ذلك فرضاً على الكفاية.
ويقال جعل المسلمين على مراتب : فعوامُّهم كالرعية للمَلِك، وكَتَبَةُ الحديثِ كخُزَّان المَلِك، وأهلُ القرآن كحُفَّاظ الدفاتر ونفائس الأموال، والفقهاء بمنزلة الوكلاء للمَلِك إذ الفقيه (. . . ) عن الله، وعلماءُ الأصول كالقُوَّادِ وأمراء الجيوش، والأولياءُ كأَركان الباب، وأربابُ القلوبِ وأصحابُ الصفاء كخواص المَلِكِ وجُلَسائه.
فيشتغل قومٌ بحفظ أركان الشرع وآخرون بإمضاء الأحكام، وآخرون بالردِّ على المخالفين، وآخرون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقوم مُفْرَدُون بحضور القلب وهم أصحاب الشهود، وليس لهم شُغْلٌ، يراعون مع الله أنفاسَهم وهم أصحاب الفراغ، لا يستفزُّهم طَلَبٌ ولا يهزُّهم أَرَبٌ، فَهُمْ بالله لله، وهم محو عما سوى الله.
وأمَّا الذين يتفقهون في الدِّين فهم الداعون إلى الله، وإنما يُفْهمُ الخلْقَ عن الله مَنْ كان يَفْهَمْ عن الله.
أقربُ الأعداء إلى المسلم من الكفار، الذي يجب عليه منازعته هو أعدى عدوِّه أي نَفْسُه. فيجب أن يبدأ بمقاتلة نَفْسِه ثم بمجاهدة الكفار، قال عليه السلام :" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ".
قوله :﴿ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ من حابى عدوه قهره، وكذلك المريد الذي ينزل عن مطالباتِ الحقيقة إلى ما يتطلبه من التأويلات فيفسخ عَهْدَه، وينقض عَقْدَه، وذلك كالرِّدَّةِ لأهل الظاهر.
جَعَلَ الله - سبحانه - إنزالَ القرآن لقومٍ شِفَاءً. ولقوم شَقَاءً ؛ فإِذا أُنْزِلَتْ سورةٌ جديدةٌ زاد شكُّهم وتحيُّرهم، فاستعلم بعضُهم حالَ بعضٍ، ثم لم يزدادوا إلا تحسُّراً ؛ قال تعالى :﴿ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾[ فصلت : ٤٤ ] وأمَّا المؤمنون فزادتْهم السورةُ إيماناً فارتقوا مِنْ حدِّ تأمل البرهان إلى روْح البيان، ثم مِنْ روْح البيان إلى العيان، فالتجويز والتردد و (. . . . ) والتحيُّر مُنْتَفًى بأجمعه عن قلوبهم، وشموسُ العرفانِ طالِعةٌ على أسرارهم، وأنوار التحقيق مالكة أسرارهم، فلا لَهُم تعبُ الطلب، ولا لهم حاجة إلى التدبير، ولا عليهم سلطان الفكر. وأَشِعةُ شموس العرفان مستغرقة لأنوار نجوم العلم، يقول قائلهم :
ولما استبانَ الصبحُ أدرك ضوءُه بإِسْفارِه أنوارَ ضوءِ الكواكب
لم يُخْلِ الحقُّ - سبحانه - أربابَ التكليف من دلائل التعرِيف، التعريفُ لهم في كل وقت بنوع من البيان، والتكليفُ في كل أوان بضرب من الامتحان ؛ فما لم يزد لهم في إيضاح البرهان لم يتجدد لهم من الله إلا زيادة الخذلان والحجبة عن البيان.
وأمَّا أصحاب الحقائق فما للأغيار في كل عام مرة أو مرتين فلهم في كل نَفَسٍ مرة، لا يخليهم الحقُّ - سبحانه - من زواجِرَ توجِبُ بصائر، وخواطر تتضمن تكليفاتٍ وَأوَامِرَ قال قائلهم :
كأنَّ رقيباً منك حَلَّ بمهجتي إذا رُمْتُ تسهيلاً عليَّ تَصَعَّبَا
تَقَنَّعوا بِخمارِ التلبيس ظانِّين أنهم يبقون في سِرٍّ بتكلفهم، والحقُّ أَبى إلا أن فَضَحَهم، وكما وَسَمَهم برقم النَّكَرَة أَطْلَعَ أسرارَ الموحِّدِين على أحوالهم فعرفوهم على ما هم عليه من أوصافهم.
جاءكم رسولٌ يشاكِلُكم في البشرية، فَلِمَا أفردناه به من الخصوصية ألبسناه لباسَ الرحمة عليكم، وأقمناه بشواهد العطف والشفقة على جملتكم، قد وَكَلَ هِمَمَه بشأنكم، وأكبرُ هَمِّه إيمانُكم.
أَمَره أَنْ يَدْعُوَ الخَلْقَ إلى التوحيد، ثم قال : فإنْ أعرضوا عن الإجابة فكُنْ بنا بنعت التجريد.
ويقال قال له : يأيها النبي حسبُك الله، ثم أمره بأن يقول حسبي الله. . . وهذا عين الجمع، وقوله ﴿ فَقُلْ حَسْبِىَ اللهُ ﴾ فَرْق. . . بل هو جمع الجمع أي : قُلْ، ولكنك بنا تقول، ونحن المتولي عنك وأنت مُسْتَهْلَكٌ في عين التوحيد ؛ فأنت بنا، ومَحْوٌ عن غيرنا.
Icon