ومن قال : إنه لم يذكر التسمية في هذه السورة لأنها مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو- وإن كان وجها في الإشارة- فضعيف، وفي التحقيق كالبعيد، لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل :﴿ لم يكن الذين كفروا ﴾( البينة : ١ ) وقوله :﴿ ويل لكل همزة لمزة ﴾( الهمزة : ١ ) وقوله :﴿ تبت يدا أبي لهب وتب ﴾( المسد : ١ ) وقوله :﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾( الكافرون : ١ ). . . هذه كلها مفاتح للسور. . . وبسم الله الرحمن الرحيم مثبتة في أوائلها- وإن كانت متضمنة ذكر الكفار. على أنه يحتمل أن يقال إنها وإن كانت في ذكر الكفار فليس ذكر البراءة فيها صريحا وإن تضمنته تلويحا، وهذه السورة أولها ذكر البراءة منهم قطعا، فلم تصدر بذكر الرحمة.
ويقال إذا كان تجرد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحري أن يخشى أن تجرد الصلاة عنها يمنع عن كمال الوصلة والاستحقاق.
﴿ إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾[ النساء : ٤٨ ].
ويقال مَنْ مُنِيَ بفراق أحبائه فبئست صحبته. وقد كان بين الرسول عليه السلام وبين أولئك المشركين عهد، ولا شكَّ أنهم كانوا قد وطَّنوا نفوسَهم عليه، فنزل الخبرُ من الغيب بغتةً، وأتاهم الإعلامُ بالفرقةِ فجأةً، فقال :﴿ بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﴾
[ التوبة : ١ ]، أي هذه براءة من الله ورسوله، كما قيل :
فَبِتَّ بخيرٍ - والدُّنَى مطمئنةٌ | وأصبحتَ يوماً والزمانُ تَقَلَّبَا |
﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ ﴾[ مريم : ٣٩ ] وأنشدوا :
وكان سراجُ الوصلِ أزهر بيننا | فهبَّتْ به ريحٌ من البَيْن فانطفا |
والإشارةُ فيه : أنهم إِنْ أقلعوا في هذه المهلة عن الغَيِّ والضلال وجدوا في المآل ما فقدوا من الوصال، وإِنْ أَبَوْا إلا التمادي في تَرْكِ الخدمة والحرمة انقطع ما بينه وبينهم من العصمة.
ثم قال :﴿ واعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الكَافِرِينَ ﴾ والإشارة فيه : إنْ أصررتم على قبيح آثاركم سعَيْتُم إلى هلاككم بِقَدَمِكُم. وندمتم في عاجلكم على سعيكم، وحَصُلْتُم في آجِلِكم على خسرانكم ؛ وما خَسِرْتُم إلا في صفقتكم، وما ضَرَّ جُرْمُكم سواكم وأنشدوا :
تبَدَّلَتْ وتبدَّلْنا واحسرتا | مَنْ ابتغى عِوَضاً لليلى فلم يَجِدِ |
أشاعوا لنا في الحيِّ أشنعَ قصةٍ | وكانوا لنا سِلْماً فصاروا لنا حربا |
مَنْ رأى من الأغيار - شظيةً من الآثار، ولم يَرَ حصولَهَا بتصريفِ الأقدار فقد أشرك - في التحقيق - واستوجب هذه البراءة.
ومَنْ لاَحَظَ الخلْق تَصَنُّعاً، أو طالَعَ نَفْسَه إعجاباً فقد جعل ما للهِ لغير الله، وظنَّ ما لله لغير الله، فهو على خطرٍ من الشِّرْكِ بالله.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أليمٍ ﴾.
إنْ عادوا إلى البابِ لم يقطعْ رجاءهم، ومدَّ إلى حدِّ وضوحِ العُذْرِ إرجاءَهم. وبيَّن أنهم إِنْ أَصَرُّوا على عُتُوِّهم فإلى ما لا يُطِيقون من العذاب مِنْقَلبهُم، وفي النار مثواهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾.
أَمَرَهم بمعالجة جميع أنواع القتال مع الأعداء.
وأَعْدَى عدوِّك نَفْسُكَ التي بين جَنْبَيْك ؛ فسبيلُ العبدِ في مباشرة الجهاد الأكبر مع النَّفْس بالتضييق عليها بالمبالغة في جميع أنواع الرياضات، واستفراغ الوسع في القيام بصدق المعاملات. ومِنْ تلك الجملة ألا ينزلَ بساحات الرُّخَصِ والتأويلات، ويأخذَ بالأشقِّ في جميع الحالات.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
حقيقة التوبة الرجوعُ بالكلية من غير أن تتركَ بقية. فإِذا أَسْلَم الكافرُ بعد شِرْكه، ولم يُقَصِّرْ في واجبٍ عليه من قِسْمَىْ فِعله وتَرْكِه، حَصَلَ الإذنُ في تَخْلِيَةِ سبيله وفكِّه :
إن وَجَدْنَا لِمَا ادَّعَيْتَ شهوداً | لم تَجدْ عندنا لحقٍّ حدودا |
وإذ قال - اليوم- عن أعدائه :﴿ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ﴾ فإِن لم يؤمن بعد سماع كلامه نُهِيَ عن تعرضه حيث قال :﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ - أترى أنه لا يُؤَمِّنُ أولياءَه - غداً - مِنْ فراقه، وقد عاشوا اليومَ على إيمانه ووفائه ؟ ! كلا. . إنه يمتحنهم بذلك، قال تعالى :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ ﴾[ الأنبياء : ١٠٣ ].
ثم قال :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ فإذا كان هذا بِرَّه بِمَنْ لا يَعْلَم فكيف بِرُّه بِمَنْ يعلم ؟
ومتى نُضَيِّعُ مَنْ يَنِيخُ بِبَابِنَا | والمُعْرِضون لهم نعيمٌ وافِرُ ؟ |
وكيف يكون المحجوبُ عن شهوده كالمستهلَكِ في وجوده ؟
كيف يكون مَنْ يقول " أنا " كمن يقول " أنت " ؟ وأنشدوا :
وأحبابُنا شتَّان : وافٍ وناقِصٌ *** ولا يستوي قطٌّ مُحِبٌّ وباغِضُ
قوله :﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لِهُمْ ﴾، إنْ تَمَسْكُوا بحبل وفائنا أحللناهم ولاءنا، وإِنْ زاغوا عن عهدنا أبليناهم بصدِّنا، ثم لم يَرْبَحُوا في بُعْدِنا.
﴿ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ﴾ : المُتَّقي الذي يستحق محبةَ مَنْ يُتَّقَى ؛ وذلك حين يتقي محبَّةَ نَفْسِه، وذلك بِتَرْكِ حظِّه والقيام بِحقِّ ربِّه.
وفي هذا إشارة إلى أنَّ الكريمَ إذا ظَفِرَ غَفَرَ، وإذا قدر ما غَدَرَ، فيما أَسرَّ وَجَهَرَ.
قوله :﴿ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ﴾ أي لا عَجَبَ مِنْ طَبْعِهِمْ ؛ فإنهم في حقِّنا كذلك يفعلون : يُظْهِرُون لباسَ الإِيمان ويُضْمِرُون الكفر. وإنهم لذلك يعيشون معكم في زِيِّ الوفاق، ويستبطنون عين الشِّقاق وسوءَ النِّفاق.
وحقُّ القتالِ إعدادُ القوةِ جهراً، والتبرِّي عن الحول والقوة سِرَّاً.
وقال :﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ ﴾ : فالخشية من الله بشير الوَصْلة، والخشية من غير الله نذير الفُرقة. وحقيقة الخشية نَفْضُ السِّرِّ عن ارتكاب الزَّجر ومخالفة الأمر.
وشفاءُ صدور المؤمنين على حسب مراتبهم في المقام والدرجات ؛ فمنهم مَنْ شفاءُ صدره في قَهْرِ عدوِّه، ومنهم مَنْ شفاءُ صدره في نَيْلِ مَرْجُوِّه. ومنهم مَنْ شفاء صدره في الظَّفَر بمطلوبه، ومنهم مَنْ شفاءُ صدرِه في لقاء محبوبه. و منهم من شفاء صدره في درك مقصوده، ومنهم من شفاء صدره في البقاء بمعبوده.
وكذلك ذهابُ غيظِ قلوبهم تختلف أسبابه، وتتنوَّعُ أبوابُه، وفيما ذَكَرْنَا تلويحٌ لِمَا تركنا.
وهذا الذي أمرهم به ألا يتخذوا من دون المؤمنين وليجةً فالمعنى فيه : ألا يُفْشُوا في الكفارِ أسرارَ المؤمنين.
وأولُ مَنْ يهجره المسلمُ - لئلا تَطَّلِعَ على الأسرار - نَفْسُه التي هي أعدى عدوِّه، وفي هذا المعنى قال قائلهم :
كتابي إليكم بعد موتي بليلةٍ | ولم أدرِ أَنِّي بعد مَوْتِيَ أكتب |
ويقال إن ذلك لا يتمُّ، بل لا تحصل منه شظيَّة إلا بكَيِّ عُرُوقِ الأطماعِ والمطالباتِ لِمَا في الدنيا ولِمَا في العُقبى ولِمَا في رؤية الحال والمقام - ولو بِذَرَّةٍ. والحريةُ عزيزةٌ. . . قال قائلهم :
أتمنى على الزمانِ مُحَالاً | أَنْ ترى مُقْلَتَايَ طَلْعَةَ حُرِّ |
وكذلك رَتْبتهُم في الإيمان مختلفة ؛ فإيمانٌ من حيث البرهان، وإيمان من حيث البيان، وإيمان من حيث العيان، وشتان ما هم ! قال قائلهم :
لا تعْرِضَنَّ بِذِكْرِنا في ذِكْرِهِم | ليس الصحيح - إذا مشى – كالمُقْعَدِ |
﴿ وَهَاجَرُوا ﴾ : فلم يُعَرِّجُوا في أوطان التفرقة ؛ فَتَمَحَّضَتْ حركاتُهم وسكناتهم بالله لله.
﴿ وَجَاهَدُوا ﴾ : لا على ملاحظة غَرَض أو مطالعة عِوَضٍ ؛ فلم يَدَّخِرُوا لأنفسِهم - مِنْ ميسورهم - شيئاً إلا آثروا الحقَّ عليه ؛ فَظَفِروا بالنعمة ؛ في قيامهم بالحقِّ بعد فنائهم عن الخَلْق.
﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ ﴾[ فصلت : ٣٠ ].
وبشارة بلا واسطة بقول المَلَك، إذ يُبَشِّرهم ربُّهم برحمةٍ منه، وذلك عند الحساب. يبشرهم بلا واسطة بِحُسْنِ التولِّي ؛ فعاجِلُ بشارتهم بنعمة الله، وآجِل بشارتهم برحمة الله، وشتان ما هما !
ويقال البشارة بالنعمة والجنة لأصحاب الإحسان، والبشارة بالرحمة لأرباب العصيان، فأصحاب الإحسان صَلُحَ أمرهم للشهرة فأَظْهَرَ أَمَرَهُم للمَلَكِ حتى بَشَّروهم جَهْراً، وأهلُ العصيان صلح حالهم لِلسَتْرِ فتولَّى بشارتهم - من غير واسطة سِرَّاً.
ويقال إِنْ كانت للمطيع بِشارةٌ بالاختصاص فإنَّ للعاصي بشارة بالخلاص. وإن كان للمطيع بشارة بالدرجات فإن للعاصي بشارة بالنجاة.
ويقال إنَّ القلوبَ مجبولةٌ على محبة من يُبَشِّر بالخير ؛ فأراد الحقُّ - سبحانه - أن تكون محبةُ العبد له - سبحانه - على الخصوص ؛ فتولَّى بشارته بعزيز خطابه من غير واسطة، فقال :﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ﴾[ التوبة : ٢١ ] وفي معناه أنشدوا :
لولا تَمتُّعُ مُقْلتي بلقائه | لَوَهَبْتُها بُشْرَى بقرب إيابه |
ويقال قدَّم أمر العاصي بالرحمة حتى إذا كان يومُ العَرْضِ وحضورِ الجمعِ لا يفتضح العاصي.
ويقال :﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ ﴾ يُعَرِّفُهم أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تلك الدرجات بسعيهم وطاعتهم، ولكن برحمته - سبحانه - وصلوا إلى نعمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما منكم من أحدٍ يُنَجِّيه عمله. قالوا : ولا أنتَ يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا، إِلا أن يتغمدني الله برحمته ".
قوله :﴿ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴾ : قومٌ نعيمُهم عطاءُ ربِّهم على وصف التمام، وقومٌ نعيمُهم لقاءُ ربهم على نعت الدوام ؛ فالعابدون لهم تمام عطائه، والعارفون لهم داوم لقائه.
ويقال من آثر على الله شيئاً يُبَارِكْ له فيه ؛ فيَبْقى بذلك عن الله، ثم لا يُبْقِي ذلك معه، فإنْ استبقاه بجهده - كيف يستبقي حياته إذا أَذِنَ الله في ذهاب أَجَلِه ؟ وفي معناه أنشدوا :
مَنْ لم تَزُلْ نعمتُه قَبْلَهُ | زَالَ مع النعمة بالموتِ |
سوف ترى إذا انجلى الغبارُ | أَفَرَسٌ تحتك أم حمار ؟ |
ويقال مَنْ كَسَدَت سوقُ دِينِه كَسَدَتْ أسواقُ حظوظه، وما لم تَخْلُ منك مَنَازِلُ الحظوظ لا تعْمُرُ بك مَشَاهِدُ الحقوق.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴾.
يعني نَصَرَكم يومَ حُنَيْن حين تَفَرَّقَ أكثرُ الأصحاب، وافترت أنياب الكَرَّةِ عن نِقاب القَهْر فاضطربت القلوبُ، وخانت القوى أصحابَها، ولم تُغْنِ عنكم كَثْرتُكم، فاستخلص اللهُ أسرارَكم - عند صدق الرجوع إليه - بِحُسْنِ السكينةِ النازلة عليكم، فَقَلَبَ اللهُ الأمرَ على الأعداء، وخَفَقَتْ راياتُ النصرة، ووقعت الدائرةُ على الكفار، وارتدَّتْ الهزيمةُ عليهم فرجعوا صاغرين.
ويقال السكينة القرار على بساط الشهود بشواهد الصحو، والتأدب بإقامة صفات العبودية من غير لحوق مشقة، وبلا تحرُّكِ عِرْقٍ لمعارضةِ حُكْم. والسكينة المنزلةُ على ﴿ المُؤْمِنِينَ ﴾ خمودُهم تحت جريان ما وَرَدَ من الغَيْبِ من غير كراهةِ بنوازع البشرية، واختطافُ الحقِّ إياهم عنهم حتى لم تستفزهم رهبةٌ من مخلوق ؛ فَسَكَنَتْ عنهم كلُّ إرادةٍ واختيار.
﴿ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ من وفور اليقين وزوائد الاستبصار.
﴿ وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بالتطوح في متاهات التفرقة، والسقوط في وهدة ضيق التدبير، ومِحنَةِ الغَفْلَةِ، والغَيْبَةِ عن شهود التقدير.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عِيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
تَوَقُّعُ الأرزاقِ من الأسبابِ من قضايا انغلاق باب التوحيد، فَمَنْ لم يفْرِدْ معبودَه بالقسمة بَقِيَ في فقرٍ مُسَرْمَدٍ.
ويقال مَنْ أنَاخَ بعُقْوةِ كَرَم مولاه، واستمطر سحَابَ جودِه أغناه عن كل سبب، وكفاه كلَّ تَعَبٍ، وقضى له كلَّ سُؤْلٍ وأرَب، وأعطاه من غير طلب.
وَمِنْ أشدِّ الناس لَكَ عداوة، وأبعدهِم عن الإيمان - نَفْسُكَ المجبولةُ على الشرِّ فلا تُقْلِعُ إلاَّ بذبحها بِمُدْيَةِ المجاهدات. وهي لا تؤمِن بالتقدير، ولا يزول شَكها قط، وكذلك تَخَلدُ إلى التدبير، ولا تسكن إلا بوجود المعلوم، ولا تقبل منك إلا كاذِبَ المواعيد، ولذلك قالوا :
وأَكْذِبْ النَّفْسَ إذا حَدَّثْتَها | فإِنَّ صِدْقَ القول يذري بالأمل |
شكا إليهم ما حصل من قبيح أعمالهم، وكم بين مَنْ تشكو منه وبين مَنْ تشكو إليه ! !
قوله جلّ ذكره :﴿ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾.
الكفار قبلهم جحدوا الربوبية، وهؤلاء أقروا بالله، ثم لما أثبتوا له الوَلَدَ نقضوا ما أقروا به من التوحيد، فصاروا كالكفار قَبْلَهم.
ويحتمل أن تكون مضاهاةُ قولهم في وصف المعبود بأنَّ عيسى ابنه وعزيراً ابنه كقولِ الكفار قَبْلَهم إنَّ الملائكة بناتُ الله.
ويقال لمَّا وصفوا المعبود بما يتعالى عن قولهم لم ينفَعُهم صِدْقُهم في الإقرار بربوبيته مما أضافوا إليه من سوء القالة. وكلُّ مَنْ أطلق في وصفه ما يتقدَّسُ - سبحانه - عنه فهو للأعداء مُشَاكِلٌ في استحقاق الندم والتوبيخ.
فَمَنْ رأى من المخلوقين شظيةً من الإبداع أنْزَلَهم منزلةَ الأرباب، وذلك - في التحقيق - شِرْك، وما أخلص في التوحيد مَنْ لم يَرَ جميعَ الحادثات بصفاتها (. . . . ) من الله.
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا ﴾ : فمن رفع في عقده مخلوقاً فوق قدره فقد أشرك بربِّه.
هي الشمسُ إلا للشمس غيبةً | وهذا الذي نعنيه ليس يَغيب |
والعارِفُ إذا انتفع بخدمة المريد، أو ارتفق بشيءٍ من أحواله وأعماله زالت آثارُ هِمَّتِه، ولم تُجْدِ في حكْمِ التوحيد حالتُه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
لهم في الآجل عقوبةٌ. والذين لا يؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فلهم في العاجل حجبة. وقليلٌ مِنْ عبادهِ مَنْ سَلِمَ من الحجاب في مُحتَضَرِه والعقاب في مُنْتَظرِه.
ويقال : لمَّا ( عبسوا ) في وجوه العفاة وعقدوا حواجِبَهم وُضِعَتْ الكيَّةُ على تلك الجباه المقبوضة عند رؤية الفقراء، ولمَّا طَوَوْا كَشْحَهُم دون الفقراء - إذا جالسوهم - وَضَعَ المِكوَاةَ على جُنُوبِهم.
يا ربُّ إنَّ جهادي غيرُ مُنْقَطِعٍ | وكُلُّ أرضٍ لي ثَغْرُ طرسوس |
قال للعوام : لا تَظْلِموا في بعض الشهور أَنْفُسَكُم، يعني بارتكاب الزَّلَّة. وأَمَّا الخواص فمأمورون ألا يَظْلِمُوا في جميع الشهور قلوبَهم باحتقاب الغفلة.
ويقال : الظلم على النَّفْس أن يجعلَ العبدُ زمامَه بيد شهواته، فَتُورِدُه مَواطِنَ الهلاك.
ويقال : الظلم على النَّفْس بخدمة المخلوقين بَدَل طاعة الحقِّ.
ويقال : مَنْ ظَلَم على قلبه بالمضاجعات امْتُحِنَ بِعَدمِ الصفوة في مرور الأوقات.
﴿ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً ﴾ : ولا سِلاحَ أمضى على العدوِّ مِن تَبَرِّيكَ عن حَوْلِكَ وقُوَّتِك.
وأَمَرَهم بالجد في العزم، والقَصْدِ في الفعل ؛ فالجنوحُ إلى التكاسل، والاسترواحُ إلى التثاقل أماراتُ ضعفِ الإيمان إذ الإيمان غريمٌ مُلازِمٌ لا يرضى من العبد بغير ممارسة الأشْقِّ، وملابسة الأحَقِّ.
قوله :﴿ أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ : وهل يَجْمُل بالعابِد أَنْ يختارَ دنياه على عقْباه ؟
وهل يحسُن بالعارف أَنْ يُؤْثِرَ هواه على رضا مولاه ؟ وأنشدوا.
أيجملُ بالأحبابِ ما قد فعلوا | مضَوْا وانصرفوا يا ليتهم قَفَلُوا |
الإلْفُ لا يصْبِرُ عن إِلْفِه | أَكْثَرَ من طَرْفَةِ عَيْنِ |
وقد صبَرْنا عَنكُمُ ساعةً | ما هكذا فِعْلُ مُحِبيْنِ |
العذابُ الأليمُ أنْ يَسْلُبَه حلاوةَ النَّجوى إذا آب.
العذابُ الأليمُ الصدُودُ يومَ الورود، وقيل :
واعدوني بالوصال - والوصالُ عَذْبٌ- | ورَمَوني بالصُّدودِ والصدُّ صعبُ |
وزَعَمْتَ أَنَّ البَيْنَ مِنْكَ غداً | هَدِّدْ بذلك مَنْ يعيش غدا |
تَسْقِي رَيَاحِينَ الحِفَاظِ مدامعي | وَسِوَايَ في رَوْضِ التواصُل يَرْتَع |
قال تعالى :﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ﴾.
ويقال من تلك النصرة إبقاؤه إياه في كشوفاته في تلك الحالة، ولولا نصرتُه لتلاشى تحت سطواتِ كَشْفِه.
ويقال كان - عليه السلام - أمانَ أهل الأرض على الحقيقة، قال تعالى :
﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِم ﴾[ الأنفال : ٣٣ ]، وجعله - في الظاهر - في أمان العنكبوت حين نَسَجَ خَيْطَه على باب الغار فَخَلَّصَه من كيدهم.
ويقال لو دخل هذا الغار لا تشقَّ نسيج العنكبوت. . . فيا عجباً كيف سَتَرَ قصةَ حبيبه - صلوات الله عليه وعلى آله وسلم ؟ !.
ويقال صحيحٌ ما قالوا : للبقاع دول، فما خَطَرَ ببالِ أحدٍ أنَّ تلك الغار تصير مأوى ذلك السيِّد - صلى الله عليه وسلم ! ولكنه يختص بقسمته ما يشاء﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾[ البقرة : ١٠٥ ].
ويقال ليست الغِيران كلها مأوى الحيَّاتِ، فمنها ما هو مأوى الأحباب. ويقال علقت قلوب قوم بالعرش فطلبوا الحق منه، وهو تعالى يقول :
﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ﴾ فهو سبحانه - وإن تقدَّس عن كل مكان - ولكن في هذا الخطاب حياة لأسرار أرباب المواجيد، وأنشدوا :
يا طالبَ الله في العرشِ الرفيعِ به | لا تطلب العرشَ إن المجد في الغار |
قوله جلّ ذكره :﴿ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾.
الكناية في الهاء من " عليه " تعود إلى الرسول عليه السلام، ويحتمل أن تكون عائدةٌ إلى الصديق رضي الله عنه، فإن حُمِلَتْ على الصديق تكون خصوصية له من بين المؤمنين على الانفراد، فقد قال عز وجلّ لجميع المؤمنين :﴿ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ﴾[ الفتح : ٤ ].
وقال للصدِّيق - على التخصيص - فأنزل الله سكينته عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله يتجلّى للناس عامة ويتجلَّى لأبي بكر خاصة ".
وإنما كان حزنُ الصديقِ ذلك اليوم لأجل الرسول - صلى الله عليه وسلم- إشفاقاً عليه. . لا لأجل نَفْسِه. ثم إنه - عليه السلام - نفى حزنه وسلاّه بأن قال :﴿ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ﴾، وحُزْنٌ لا يذهب لِمَعِيَّة الحقِّ لا يكون إلاَّ " لحقِّ الحق ".
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِىَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
يريد به النبي صلى الله عليه وسلم. وتلك الجنودُ وفودُ زوائد اليقين على أسراره بتجلِّي الكشوفات.
﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ﴾ بإظهار حُجج دينه، وتمهيد سُبُل حقِّه ويقينه ؛ فراياتُ الحقِّ إلى الأبدِ عالية، وتمويهات الباطل واهية، وحِزْبُ الحقِّ منصورون، ووفد الباطل مقهورون.
ويقال لما خلا الصديق بالرسول عليه السلام في الغار، وأشرقت على سِرِّه أنوار صحبة الرسول عليه السلام، ووقع عليه شعاعُ أنواره، واشتاق إلى الله تعالى لفَقْدِ قراره - أزال عنه لواعِجه بما أخبره مِنْ قُرْبه - سبحانه - فاستبدل بالقلق سكوناً، وبالشوق أُنساً، وأنزل عليه من السكينة ما كاشفه به من شهود الهيبة.
ويقال كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثاني اثنين في الظاهر بشبه ولكن كان مُسْتَهْلَكَ الشاهد في الواحِد بِسِرِّه.
" خفافاً " يعني في حال حضور قلوبكم، فلا يمسُّكم نَصَبُ المجاهدات.
" وثقالا " إذا رُدِدْتُم إليك في مقاساة تعب المكابدات. فإنَّ البيعةَ أُخِذَتْ عليكم في (. . . ) و (. . . ).
ويقال " خفافا " إذا تحررتم من رِقِّ المطالبات والاختيار، " وثقالا " إذا كان على قلوبكم ثقل الحاجات، وأنتم تؤمِّلُون قضاءَ الحقِّ مآرِبَكم.
[ محمد : ٢١ ].
فإذا رأيتَ المريدَ يتبعُ الرُّخَصَ ويَجْنَحُ إلى الكسل، ويتعلَّلُ بالتأويلاتِ. . فاعلَمْ أنه مُنْصَرِفٌ عن الطريق، متخلِّفٌ عن السلوك، وأنشدوا :
وكذا المَلُولُ إذا أراد قطيعةً *** مَلَّ الوصال وقال : كان وكانا
ومَنْ جَدَّ في الطلب لم يُعَرِّج في أوطان الفشل، ويواصل السير والسُّرى، ولا يحتشم من مقاساة الكدِّ والعناء، وأنشدوا :
ثم قطعتُ الليلَ في مهمهٍ | لا أسداً أخشى ولا ذئبا |
يغلبني شوقي فأطوي السُّرى | ولم يَزَلْ ذو الشوقِ مغلوبا |
﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾[ التوبة : ٤٢ ] : يمين المتعلِّلِ والمُتَأَوِّلِ يمينٌ فاجرةٌ تشهد بكذبها عيون الفراسة، وتنفر منها القلوب، فلا تجد من القلوب محلاً.
أو مِنْ جواز الزَّلة على الأنبياء - عليهم السلام - إذ لم يكن ذلك في تبليغ أمر أو تمهيد شرع بقول قائله : أنشدوا بالعفو قبل أن وقف للعذر وكذا سُنَّة الأحباب مع الأحباب، قال قائلهم :
ما حطَّك الواشون عن رتبة | عندي ولا ضَرَّك مُغْتَابُ |
كأنهم أَثْنَوْا - ولم يعلموا - | عليكَ عندي بالذي عابوا |
مَنْ ذا يؤاخِذُ مَنْ يحبُّ بِذَنْبِه | وله شفيعٌ في الفؤاد مُشَفِّع |
لو صحَّ منكَ الهوى أُرْشِدْتَ للحِيَلِ ***. . .
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَكِن كَرِهَ الله انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ ﴾.
ألْزَمَهم الخروجَ من حيث التكليف، ولكن ثبَّتهم في بيوتهم بالخذلان ؛ فبالإلزام.
كلُّ العداوةِ قد تُرْجَى إماتَتُها | إلا عداوةَ مَنْ عاداك من حَسَدِ |
إنْ كان سَرَّكُمُ ما قال حاسدُنا | فما لِجُرْحٍ - إذا أَرْضَاكُم - أَلمُ. |
قوله ﴿ هُوَ مَوْلاَنَا ﴾ : تعريفٌ للعبد أن له - سبحانه - أن يفعل ما يريد، لأنه تصرفُ مالكِ الأعيانِ في مُلْكِه، فهو يُبْدِي ويُجْرِي ما يريد بحقِّ حُكْمِه.
ثم قال :﴿ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ﴾ : وأولُ التوكلِ الثقةُ بوعده، ثم الرضا باختياره، ثم نسيانُ أمورِك بما يغْلِبُ على قلبك من أذكاره.
ويقال التوكل سكونُ السِّرِّ عند حلول الأمر ونهاية التفويض، وفيها يتساوى الحلوُ والمرُّ، والنعمةُ والمحنةُ.
وأمَّا أنتم، فإنْ ظَفِرْنَا بكم فتعجيلُ لذُلِّكم ومحنة، وإن قُتِلتُم فعقوبةٌ من اللهِ وسخطه، وإن كانت اليد لكم في الحال فخذلانٌ من اللهِ، وسببُ عذابٍ وزيادةُ نقمة.
ويقال :﴿ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ ﴾ أمَّا قيامُ بحقّ الله في الحال فنكون بوصف الرضاء وهو - في التحقيق - الجنَّةُ الكبرى، وإمَّا وصولٌ إلى الله تعالى في المآل بوصف الشهادة، ووجدان الزلفى في العقبى وهو الكرامة العظمى.
ويقال تقُرُّبُ العدوِّ يوجِبُ زيادةَ المقت له، وتحبُّبُ الحبيب يقتضي زيادةَ العطف عليه، قال تعالى :﴿ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾[ الفرقان : ٧٠ ].
قوله :﴿ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى ﴾ : مَنْ أَطَاعَ من حيث العادة - مِنْ غَيْرِ أن تحملَه عليها لوعةُ الإرادة - لم يَجِدْ لطاعته راحةً وزيادة.
ويقال مَنْ لاَحظَ الخَلْقَ في الجهر من أعماله، ورَكَنَ إلى الكسلِ في السِّرِّ من أحواله فقد وُسِمَ بالخذلان، وخُتِمَ بالحرمان، وهذه هي أمارة الفرقة والقطيعة، قال تعالى :
﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ].
ويقال إنَّ إظهارَ التلبيس لا (. . . ) الأسرارَ بَرَدِّ السكون، ولا يَشْفِي البصائر بِرَدِّ الثقة واليقين. . فما لا يكون فلا يكون بحيلةٍ أبداً، وما هو كائنٌ سيكون.
ويقال مَنْ كان رضاؤه بوجدان سبب، وسُخْطُه في عدم ما يوصِّله إلى نصيبه فهو ليس من أهل الولاء، إنما هو قائم بحظِّه، غيرُ صالحٍ للصحبة، وأمَّا المتحقِّقُ فكما قيل :
فَسِرْتُ إليكَ في طلبِ المعالي | وسَارَ سِوَايَ في طلب المعاش |
ويقول الشافعي رحمة الله عليه : الفقير الذي لا شيء له، والمسكين الذي له بُلْغَةٌ من العيش - أي بالعكس.
وأهل المعرفة اختلفوا فيه ؛ فمنهم من قال بالأول، ومنهم من قال بالقول الثاني، واختلافهم ليس كاختلاف الفقهاء ؛ وذلك لأن كلَّ واحدٍ منهم أشار إلى ما هو حاله ووقته ووجوده وشربه ومقامه. فَمِنْ أهل المعرفة مَنْ رأى أَنَّ أَخْذَ الزكاةِ المفروضة أَوْلى، قالوا إلى الله تعالى جعل ذلك مِلْكا للفقير، فهو أَحَلُّ له مما يُتَطَوَّعُ به عليه.
ومنهم من قال : الزكاة المفروضة مستحقة لأقوام، ورأوا الإيثار على الإخوان أوْلى من أن يزاحموا أرباب السهمان - مع احتياجهم أخذ الزكاة - وقالوا : نحن آثرنا الفَقْرَ اختياراً. . فَلِمَ نأخذ الزكاة المفروضة ؟
ثم على مقتضى أصولهم في الجملة - لا في أخذ الزكاة - للفقر مراتب :
أوَّلُها الحاجةُ ثم الفقرُ ثم المسكنةُ ؛ فذو الحاجة مَنْ يرضى بدنياه وتسدُّ الدنيا فقرَه، والفقير مَنْ يكتفي بعقباه وتجبُرُ الجنة فقرُه. والمسكين مَنْ لا يرضى بغير مولاه ؛ لا إلى الدنيا يلتفت، ولا بالآخرة يشتغل، ولا بغير مولاه يكتفي ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم أحيني مسكيناً وأمتني سكيناً، واحشرني في زمرة المساكين " وقال صلى الله عليه وسلم " أعوذ بك من الفقر " لأن عليه بقية ؛ فهو ببقيته محجوبٌ عن ربِّه.
ويحسن أن يقال إن الفقر الذي استعاذ منه ألا يكون له منه شيء، والمسكنة المطلوبة أن تكون له بُلْغَةٌ ليتفرَّغَ بوجود تلك البلغة إلى العبادة ؛ لأنه إذا لم تكن له بلغة شَغَلَه فَقْرُه عن أداء حقِّه، ولذلك استعاذ منه.
وقوم سَمَتْ هِمَمهُم عن هذا الاعتبار - وهذا أَوْلى بأصولهم - فالفقير الصادق عندهم مَنْ لا سماءَ تُظِله ولا أرضَ تُقِلُّه ولا معلومَ يشغله، فهو عبدٌ بالله لله، يردُّه إلى التمييز في أوان العبودية، وفي غير هذا الوقت فهو مُصطَلَم عن شواهده، واقِفٌ بربِّه، مُنْشَقٌّ عن جملته.
ويقال الفَقِيرُ من كُسِرَتْ فقاره - هذا في العربية.
والفقير - عندهم - مَنْ سَقَطَ اختياره، وتعطلت عنه دياره، واندرست - لاستيلاء مَنْ اصْطَلمَه - آثارُه، فكأنه لم تبقَ منه إلا أخبارُه، وأنشدوا :
أَمَّا الرسومُ فَخَبَّرتْ أنهم رحلوا قريباً ***. . .
ويقال المسكين هو الذي أسكنه حالُه بباب مقصوده، لا يبرح عن سُدَّتِه، فهو مُعْتَكِفٌ بقلبه، ولا يغفل لحظةً عن ربِّه.
وأمَّا ﴿ وَالعَاملِينَ عَلَيْهَا ﴾ فعلى لسان العلم : مَنْ يتولى جمع الزكاة على شرائطها المعلومة. وعلى لسان الإشارة : أَوْلَى الناس بالتصاون عن أخذ الزكاة مَنْ صَدَقَ في أعماله لله، فإنهم لا يرجون على أعمالهم عِوَضاً، ولا يتطلبون في مقابلة أحوالهم عَرَضا، وأنشدوا :
وما أنا بالباغي على الحب رِشْوَةٌ *** قبيحٌ هوىً يُرجَى عليه ثواب
وأمّا المؤلَّفة قلوبهم - على لسان العلم - فمَنْ يُسْتَمَالُ قلبه بنوع إرفاقٍ معه، ليتوفَّر في الدين نشاطُه ؛ فلهم من الزكاة سهمٌ استعطافاً لهم، وبيان ذلك مشهورٌ في مسائل الفقه.
وحاشا أن يكون في القوم مَنْ يكون حضورُه بسبب طَمَع أو لنَيْل ثوابٍ أو لرؤية مقام أو لاطلاع حال. . فذلك في صفة العوام، فأما الخواص فكما قالوا.
من لم يكن بك فانياً عن حظه *** وعن الهوى والإنْسِ والأحباب
أو تيمته صبابة جمعت له *** ما كان مفترقاً من الأسباب
فلأنَّ بين المراتب واقفٌ *** لِمَنَالِ حظٍّ أو الحُسْنِ مآبِ
قوله جلّ ذكره :﴿ وَفِى الرِّقَابِ ﴾.
وهم على لسان العلم : المكاتَبُون، وشرحه في مسائل الفقه معلوم.
وهؤلاء لا يتحررون ولهم تعريج على سبب، أو لهم في الدنيا والعقبى أرب، فهم لا يستفزُّهم طلب، فَمَنْ كان به بقية من هذه الجملة فهو عبدٌ لم يتحرر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله :" المكاتَبُ عَبْدٌ ما بقي عليه درهم " وأنشد بعضهم :
أتمنى على الزمان مُحَالاً *** أَنْ ترى مقلتاي طَلْعَةَ حُرِّ
قوله جلّ ذكره :﴿ وَالغَارِمِينَ ﴾.
وهم على لسان العلم : مَنْ عليهم دَيْنٌ في غير معصية.
وهؤلاء القوم لا يقضى عنهم ما لزمهم امتلاك الحق، ولهذا قيل المعرفة غريم لا يُقْضَى دَيْنُه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَفِى سَبِيلِ اللهِ ﴾.
وعلى لسان العلم : مَنْ سلك سبيلَ الله وَجبَ له في الزكاة سهمٌ على ما جاء بيانُه في مسائل الفقه.
وفي هذه الطريقة : مَنْ سلك سبيلَ الله تتوجَّبُ عليه المطالبات ؛ فيبذل أولاً مالَه ثم جاهَه ثم نَفْسه ثم روحَه. . وهذه أول قَدَمٍ في الطريق.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾.
وهو على لسان العلم : مَنْ وقع في الغُربة، وفارَقَ وطَنه على أوصاف مخصوصة.
وعند القوم : إذا تَغَرَّبَ العَبدُ عن مألوفات أوطانه فهو في قِرَى الحقِّ ؛ فالجوعُ طعامُه، والخلوةُ مجلسُه، والمحبةُ شرابُه، والأُنْسُ شهوده، والحقُّ - تعالى - مشهودُه. قال تعالى :﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴾[ الإنسان : ٢١ ] : لقوم وَعْدٌ في الجنة، ولآخرين نَقْدٌ في الوقت ؛ اليوم شرابُ المحابِّ وغداً شراب الثواب، وفي معناه أنشدوا :
وَمُقعدِ قومٍ قد مشى من شرابنا *** وأعمى سقيناه ثلاثاً فأَبْصَرَا
وأخرسَ لم ينطِقْ ثلاثين حِجَّةً *** أَدِرْنا عليه الكأسَ يوماً فأخبرا
بسطوا اللائمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فعابوه بما هو أمارة كرمه، ودلالة فضله، فقالوا : إنه بحسن خُلُقِه يسمع ما يقال له، فقال عليه السلام :" المؤمِن غِرٌّ كريم والمنافق خَبٌّ لئيم ".
قوله جلّ ذكره :﴿ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
وقيل : مَنْ العاقلُ ؟ قالوا : الفَطِنُ المُتَغافِل. وفي معناه أنشدوا :
وإذا الكريمُ أتيْتَه بخديعةٍ | ولقِبتَه فيما ترومُ يُسارعُ |
فاعلمُ بأنَّكَ لم تُخادِعْ جاهلاً | إنَّ الكريم - بفضله – يتخادع |
ويقال إنَّ الخَلْق لا يصدقونك وإنْ حَلَفْت لهم، والحقُّ يَقْبَلُكَ وإِنْ تخَلَّفْتَ عنه ؛ فالاشتغالُ بالخلْقِ محنةٌ أنت غيرُ مأجورٍ عليها، والإقبالُ على الحقِّ نعمةٌ أنت مشكورٌ عليها. والمغبونُ مَنْ تَرَكَ ما يُشْكَرُ عليه ويُؤثِر ما لا يؤجرُ عليه.
فليس كلُّ مَنْ مُنِي بمصيبة يعلم ما ناله من المحنة، وأنشدوا :
غَداً يَتَفَرَّقُ أهلُ الهوى | ويكْثُر باكٍ ومُسْتَرْجِع |
والمؤمِنُ ينصر المؤمنَ ويُبَصِّره عيوبَه، ويُبغضُ لديه ويُقَبِّحُ - في عينيه - ذنوبَه، وهو على السدادِ يُنْجِدُه، وعن الفسادِ يُبْعِده.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾.
عن طلب الحوائج من الله تعالى.
قوله جلّ ذكره :﴿ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾.
جازاهم على نسيانهم، فسمَّى جزاءَ النسيانِ نسياناً. تركوا طاعتَه، وآثروا مُخالَفَته، فَتَرَكَهُم وما اختاره لأنفسهم، قال تعالى :﴿ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾
[ البقرة : ١٧ ].
أجيرانَنَا ما أوحشَ الدارَ بَعْدَكُم | إذا غِبْتُمُ عنها ونحن حضورُ ! |
وإنِّي لأَهْوى الدارَ لا يستقرُّ لي | بها الودُّ إلا أَنَّها من دِيارِكا |
قال لموسى عليه السلام :﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا ﴾[ طه : ٤٤ ].
وقال لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - :﴿ واغلُظْ عليهم ﴾[ التحريم : ٩ ] ويقال إنما هذا بعد إظهار الحجج، وبعد أن أزاح عُذْرَهُم بأيام المهلة ؛ ففي الأول أَمَرَه بالرِّفق حيث قال :
﴿ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ﴾[ سبأ : ٤٦ ]، فلما أصروا واستكبروا أَمَرَه بالغِلظة عليهم. والمجاهدة أولها اللسان لشرح البرهان، وإيضاح الحجج والبيان، ثم إنْ حَصَلَ من العدوِّ جُحْدٌ بعد إزاحة العذر، فبالوعيد والزجر، ثم إنْ لم ينجعْ الكلامُ ولم ينفع الملامُ فالقتالُ والحربُ وبَذْلُ الوسعِ في الجهاد.
قوله :﴿ وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ ﴾ : وهي طَعْنُهُم في نُبوَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلُّ مَنْ وَصَفَ المعبودَ بصفاتِ الخَلْق أو أضاف إلى الخلْق ما هو من خصائص نعت الحقِّ فقد قال كلمة الكفر.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ﴾.
أي أظهروا من شعار الكفر ما دَلَّ على جُحْدِهم بقلوبهم بعد ما كانوا يُظْهِرون الموافقة والاستسلامَ، وهمُّوا بما لم ينالوا من قتلٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سوَّلت أنفسهم أنه يُخْرِج الأَعَزُّ منها الأذلَّ، وغير ذلك.
يقال تمنوا زوالَ دولةِ الإسلام فأبى اللهُ إلا إعلاء أمْرِها.
ثم قال :﴿ وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ﴾ : أي ما عابوه إلا بما هو أَجَلّ خصاله، فلم يحصلوا من ذلك إلا على ظهور شأنهم للكافة بما لا عذر لهم فيه.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَاباً أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الأَرْضِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾.
وأقوى أركان التوبة حلُّ عقْدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بجميع حقِّ الأمر على وجه الاستقصاء.
ويقال تطلَّبَ إحسانَ ربِّه، وتقرَّبَ إليه بإبرام عهده فلمَّا حقَّق اللهُ مسؤولَه واستجاب مأموله، فَسخَ ما أبرمه، وانسلخ عما التزمه، واستولى عليه البُخْلُ، فَضَنَّ بإخراج حقه، فَلَحِقَه شؤمُ نِفاقِه، بأن بَقِيَ إلى الأبد في أَسْرِه.
وحدُّ البخل - على لسان العلم - مَنْعُ الواجب. وبُخْلِ كلِّ أحدٍ على ما يليق بحاله، وكلُّ مَنْ آثر شيئاً من دون رضاء ربِّه فقد اتصف ببخله، فَمَنْ يَبْخَلْ بماله تَزلْ عنه البركةُ حتى يؤول إلى وارثٍ أو يزول بحارث. ومَنْ يبخلْ بنَفْسِه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحةُ حتى لا يستمتع بحيائه. والذي يبخل بروحِه عنه يُعاقَبُ بالخذلان حتى تكون حياتُه سبباً لشقائه.
ويقال تطلَّبَ إحسانَ ربِّه، وتقرَّبَ إليه بإبرام عهده فلمَّا حقَّق اللهُ مسؤولَه واستجاب مأموله، فَسخَ ما أبرمه، وانسلخ عما التزمه، واستولى عليه البُخْلُ، فَضَنَّ بإخراج حقه، فَلَحِقَه شؤمُ نِفاقِه، بأن بَقِيَ إلى الأبد في أَسْرِه.
وحدُّ البخل - على لسان العلم - مَنْعُ الواجب. وبُخْلِ كلِّ أحدٍ على ما يليق بحاله، وكلُّ مَنْ آثر شيئاً من دون رضاء ربِّه فقد اتصف ببخله، فَمَنْ يَبْخَلْ بماله تَزلْ عنه البركةُ حتى يؤول إلى وارثٍ أو يزول بحارث. ومَنْ يبخلْ بنَفْسِه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحةُ حتى لا يستمتع بحيائه. والذي يبخل بروحِه عنه يُعاقَبُ بالخذلان حتى تكون حياتُه سبباً لشقائه.
و ﴿ سِرَّهُمْ ﴾ ما لا يطلع عليه غير الله.
و ﴿ نَجْوَاهُمْ ﴾ ما يتسارون بعضهم مع بعض. ويحتمل أن يكونَ ما لنفوسهم عليه إشرافٌ من خواطرهم.
ولمَّا أوجدوا المسلمين بسخريتهم وَصَفَ اللهُ - سبحانه وتعالى - نفْسَه بما يستحيل في وصفه - على التحقيق - هو السخرية بأحدِ. . تطيباً لقلوبِ أوليائه، فقد تقدَّس عن ذلك لعِزَّة ربوبيته.
ويقال : مَنْ غَلَبَتْه شِقْوتُنا لم ينفعه تضرعه ودعوته.
ويقال : صريعُ القدرة لا يُنْعِشُه الجُهد والحيلة.
ويقال صادِقُ يقينهم بالثوابِ يُهوِّن عليهم مقاساةَ ما يلقونه - في الوقت - من الأتعاب.
أما الذين تأخروا بغير عُذْرٍ فقد توجَّه عليهم اللوم، وهو لهم في المستقبل الوعيد.
وأصحابُ الأموال امتُحِنوا - اليومَ - بِجَمْعِهَا ثم بِحِفْظِهَا، ثم مَلَكَتْهُم محنتُها حتى شقَّتْ عليهم الغيبةُ عنها، ثم توجَّه اللومُ عليهم في تَرْكِ إِنفاقها، ثم ما يعقبه - غداً من الحسابِ والعذاب يربو على الجميع.
وإِنَّما رفع الحَرَجَ عن أولئك بشرطٍ وهو قوله :﴿ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ ﴾ فإذا لم يوجد هذا الشرطُ فالحرجُ غيرُ مرتفع عنهم.
قوله :﴿ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ﴾ : المُحْسِنُ الذي لا تكون للشرع منه مطالبة لا في حقِّ الله ولا في حقِّ الخَلْق.
ويقال هو الذي يعلم أَنَّ الحادثاتِ كلَّها من الله تعالى.
ويقال هو الذي يقوم بحقوقِ ما نِيط به أَمْرُه ؛ فلو كان طيرٌ في حكمه وقَصَّرَ في عَلَفِه - لم يكن محسناً.
فلمَّا رَدَّهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الإجابة في أن يحملهم رجعوا عنه بوصف الخيبة كما قال تعالى :﴿ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ﴾ كما قال قائلهم :
قال لي مَنْ أُحِبُّ والبيْن قد | حَلَّ ودمعي مرافِقٌ لشهيقي |
مَنْ عَفَّ خَفَّ على الصديقِ لِقاؤه | وأخو الحوائجِ مُمْجِجُ مَمْلولُ |
[ الشورى : ٢٨ ].
إنَّ الملولَ إذا أراد قطيعةً | مَلَّ الوصَالَ وقال كان وكانا |
قيل في التفسير : مع النساء في البيوت.
والإسلام يثني على الشجاعة، وفي الخبر :" إنْ الله تعالى يحب الشجاعة، و لو على قتل حية "، وفي معناه أنشدوا :
كُتِبَ القتلُ والقتالُ علينا | وعلى المُحْصَنَاتِ جرُّ الذّيُولِ |
وقد حسدوني في قُرْبِ داري مِنْهُمُ | وكم مِن قريبِ الدارِ وهو بعيدُ ! |
ويقال مَنْ نَظَر إلى ورائه يُوَفَّقْ في كثيرٍ من تدبيره ورأيه.
ويقال السابقُ مَنْ ساعَدَتْه القسمةُ بالتوفيق، وأسعَدَتْه القضية بالتحقيق، فسبقت له من الله رحمتُه.
ويقال سبقهم بعنايته ثم سبقوا بطاعتهم له.
ويقال جَمَعَ الرِّضَاءُ صَفَّيْهِم : السابقَ منهم واللاحقَ بهم ؛ قال تعالى :﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ﴾ ﴿ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾.
ويقال ليس اللاحق كالسابق، فالسابقُ في روحِ الطلبِ، واللاحِقُ في مقاساة التعبِ، ومُعاناة النَّصَبِ، وأنشدوا :
السِّبَاق السِّبَاق قولاً وفعلاً | حَذِّروا النَّفسَ حَسْرَةَ المسبوقِ |
﴿ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ﴾ : الأولى في الدنيا بالفضيحة فيما ينالهم من المحن والفتن والأمراض، ولا يحصل لهم عليها في الآخرة عِوَضٌ ولا أَجْرٌ ولا مَسَرَّةٌ، والثانية عذابُ القبر.
وقيل المرة الأولى بِقَبْضِ أرواحهم، والثانية عذاب القبر ثم يوم القيامة يُمْتحنون بالعذاب الأكبر.
ويقال المرة الأولى ظنُّهم أنهم على شيء، والمرة الثانية بخيبة آمالهم وظهور ما لم يحتسبوه لهم.
قيل لي :
قد أَسَاءَ فيكَ فلانٌ | وسكوتُ الفتى على الضيم عارُ |
قد جاءني فأَحْسَنَ عُذرا | دِيَةُ الذَّنبِ عندنا الاعتذار |
وكذلك قوله :﴿ عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ : وعسى تفيد أنه لا يجب على الله شيء فقد يتوب وقد لا يتوب. ولأنَّ قوله صِدْقٌ. . فإذا أخبر أَنَّه يجِيبُ فإنه يفعل، فيجب منه لا يجب عليه.
ويقال قوله :﴿ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا ﴾ : يحتمل معناه أنهم يتوبون ؛ فالتوبة عملٌ صالح. وقوله :﴿ وَآخَرَ سَيِّئًا ﴾ : يحتمل أنه نَقْضُهم التوبة، فتكون الإشارة في قوله :﴿ عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ أنهم إن نقضوا توبتهم وعادوا إلى ما تركوه من زَلَّتهم فواجبٌ مِنَّا أن نتوب عليهم، ولئن بطلت - بنَقْضِهم - توبتُهم. . لَمَا اخْتَلَّتْ - بفضلنا - توبتُنا عليهم.
تطهرهم بها عن شُحِّ نفوسهم، وتزكيهم بها بألا يتكاثروا بأموالهم ؛ فَيَرَوْا عظيم مِنَّةِ الله عليهم بوجدان التجرُّد منها.
﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ﴾ : إنْ تُعاشِرْهم بِهِمَّتِكَ معهم أثْمنُ لهم من استقلالهم بأموالهم.
وكما تَوحَّدَ باستحقاق كبريائه وعظمته تَفَرَّدَ بقبول توبة العبد عن جُرْمِه وزَلَّتِه. فكما لا شبيهَ له في جماله وجلاله لا شريكَ له في أفضاله وإقباله ؛ يأخذ الصدقاتِ - قَلَّتْ أو كَثُرَتْ، فَقَدْرُ الصَّدَقَةِ وخَطرُها بِأَخْذِه لها لا بكثرتها وقِلَّتها ؛ قَلَّتْ في الصورة صَدَقَتَهُم ولكِنْ لمَّا أَخَذَها وقِبِلها جَلَّتْ بقبوله لها، كما قيل :
يكون أُجاجاً - دونكم، فإِذا انتهى | إليكم تَلَقى طيبَكم فيطيبُ |
إذا قَلَّ ماءُ الوَجْهِ قَلَّ حياؤه | ولا خيرَ في وجهٍ إذا قَلَّ ماؤه |
ويشبعني من الأمال وعدٌ | ومن علمي بتقصيري وعيد |
مَنْ لم يكنْ للوصال أهلاً | فكلُّ إحسانِه ذنوبُ |
والتباعدُ عن مَسَاكِنِهم، وهجرانُ مَنْ جَنَحَ إلى مَسالِكهم عَلَمٌ لِمَنْ أشرب قلبه مخالفتهم، وباشرت سِرَّه عداوتُهم.
﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ﴾ : يتطهرون عن المعاصي وهذه سِمَة العابدين، ويتطهرون عن الشهوات والأماني وتلك صفة الزاهدين، ويتطهرون عن محبة المخلوقين، ثم عن شهود أنفسهم بما يتصفون وتلك صفة العارفين.
قوله :﴿ وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ﴾ : أسرارَهم عن المساكنةِ إلى كل مخلوق، أو ملاحظةِ كل مُحْدَثٍ مسبوق.
ومَنْ أقام على مُعْتَادِ التقليد لم يسترِحْ قلبُه من كَدِّ التردُّدِ، وظلمةِ التجويز، وَجَوَلاَنِ الخواطر المشكلة في القلب.
﴿ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ﴾[ البقرة : ١٦ ].
وفي الحقيقة لا يصحُّ في وصف الحق - سبحانه - الاشتراء لأنه مَالِكُ سِوَاه، وهو مالِكُ الأعيانِ كلِّها. كما أَنَّ مَنْ لم يستَحْدِثْ مِلْكاً لا يُقَال إنه - في الحقيقة - باع.
وللمقال في هذه الآية مجال. . . فيقال : البائعُ لا يستحقُّ الثمنَ إذا امتنع عن تسليم المبيع، فكذلك لا يستحق العبدُ الجزاءَ الموعودَ إلا بعد تسليمِ النَّفسِ والمالِ على موجب أوامر الشرع، فَمَنْ قَعَدَ أو فَرَّطَ فغيرُ مستحقٍ للجزاء.
ويقال لا يجوز في الشرع أن يبيع الشخصُ ويشتري شيئاً واحداً فيكونَ بائعاً ومشترياً إلا إذا كان أباً وجَدَّاً ! ولكن ذلك هنا بلفظ الشفقة ؛ فالحقُّ بإذنه كانت رَحْمَتُه بالعبد أتمَّ، ونظرُه له أبلغَ، وكان للمؤمِن فيه من الغبطة، ما لا يخفى، فصحَّ ذلك وإن كان حُكمه لا يقاس على حكم غيره.
ويقال إنما قال :﴿ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ ﴾ ولم يقل " قلوبهم " لأنَّ النَّفْسَ محلُّ الآفات فجعل الجنة في مقابلتها، وجعل ثَمَنَ القلبِ أَجَلَّ من الجنة، وهو ما يخصُّ به أولياءه في الجنة مِنْ عزيزِ رؤيته.
ويقال النَّفْسُ محلُّ العيب، والكريم يرغب في شراء ما يزهد فيه غيره.
ويقال مَنْ اشترى شيئاً لينتفع به اشترى خيرَ ما يجده، ومن اشترى شيئاً لِيَنْتَفِعَ به غيرهُ يشتري ما رُدَّ على صاحبه لِيَنْفَعَه بثمنه.
وفي بعض الكتب المنزلة على بعض الأنبياء - عليهم السلام - : يا بني آدم، ما خلقتُكم لأربحَ عليكم ولكن خَلَقْتُكم لتربحوا عليَّ.
ويقال اشترى منهم نفوسَهم فرهبوا على قلوبهم شكراً له حيث اشترى نفوسَهم، وأمَّا القلبُ فاستأثره قهراً، والقهر في سُنَّةِ الأحبابِ أعزُّ من الفضل، وفي معناه أنشدوا :
بُنِيَ الحبُّ على القَهْرِ فلو | عَدَلَ المحبوبُ يوماً لَسَمُج |
ليس يُسْتَحْسَنُ في حكم الهوى | عاشِقٌ يَطْلُبُ تأليفَ الحُجَج |
ويقال الطيرُ في الهواء، والسَّمَكُ في الماءِ لا يصحُّ شراؤهما لأنه غير ممكن تسليمهما، كذلك القلبُ. . صاحبُه لا يمكنه تسليمه، قال تعالى :
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾[ الأنفال : ٢٤ ].
وفي التوراة :" الجنَّةُ جنتي والمالُ مالي فاشتروا جنتي بمالي فإنْ ربحتم فلكم وإِنْ خَسِرْتُمْ فعليَّ ".
ويقال عَلِمَ سوءَ خُلقِك فاشتراك قبل أَنْ أوجدك، وغَالِي بثمنك لئلا يكونَ لَكَ حقُّ الاعتراض عند بلوغك.
ويقال ليس للمؤمن أن يتعصب لنفسه بحال لأنها ليست له، والذي اشتراها أولى بها من صاحبها الذي هو أجنبي.
ويقال أخبر أنه اشتراها لئلا يدعي العبد فيها، فلا يساكنها ولا يلاحظها ولا يعجب بها.
قوله :﴿ فيقتلون ويقتلون ﴾ سيان عندهم أن يقتلوا أو يقتلوا، قال قائلهم :
وإن دما أجريته لك شاكرا | وإن فؤادا خرته لك حامدا |
ويقال مَنْ اشترى شيئاً فَوَجَدَ به عيْباً ردَّه على مَنْ منه اشتراه ولكنه - سبحانه - اشترى نفوسَنا منه، فإذا أراد الردَّ فلا يردُّ إلا على نَفْسِه ؛ قال تعالى :﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الحَقِّ ﴾ وكما أنَّ الردَّ إليه فلو ردَّنا كان الردُّ عليه.
قوله تعالى :﴿ التَّائِبُونَ ﴾ أي الراجعون إلى الله، فَمِنْ راجعٍ يرجع عن زلَّتِه إلى طاعته، ومِنْ راجع، يرجع عن متابعة هواه إلى موافقة رضاه، ومِنْ راجعٍ يرجع عن شهود نفسه إلى شهود لطفه، ومِنْ راجعٍ يرجع عن الإحساس بنفسه وأبناء جِنْسِه إلى الاستغراق في حقائق حقِّه.
ويقال تَائِبٌ يرجع عن أفعاله إلى تبديل أحواله ؛ فيجد غداً فنونَ أفضاله، وصنوفَ لطفه ونواله، وتائبٌ يرجع عن كل غيرٍ وضدٍ إلى ربِّه بربِّه لربِّه بِمَحْوِ كلِّ أَرَبٍ، وعَدَمِ الإحسان بكلِّ طلب.
وتائب يرجع لحظِّ نَفْسِه من جزيل ثوابه أو حَذَراً - على نفسه - من أليم عذابه، وتائب يرجع لأمره برجوعه وإيابه، وتائب يرجع طلباً لفرح نفسه حين ينجو مِنْ أوضاره، ويخلص من شؤم أوزاره، وتائب يرجع لَمَّا سمع أنه قال : إنَّ اللهَ أَفْرَحُ بتوبةِ عَبْدِه من الأعرابي الذي وَجَدَ ضَالَّتَه - كما في الخبر، " وشتَّان ما هما " ! وأنشدوا :
أيا قادماً من سَفْرَة الهَجْر مَرْحَبَا | أُنَادِيكَ لا أنساكَ ما هبَّتْ الصَّبَا |
﴿ إن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَنَ عَبْدًا ﴾[ مريم : ٩٣ ]. ولكنَّ صاحبَ العبودية خاصٌّ.
قوله جلّ ذكره :﴿ الحَامِدُونَ ﴾.
هم الشاكرون له على وجود أفضاله، المُثْنُونَ عليه عند شهود جلاله وجماله.
ويقال : الحامدون بلا اعتراضٍ على ما يحصل بقدرته، وبلا انقباضٍ عما يجب من طاعته.
ويقال الحامدون له على منعه وبلائه كما يحمدونه على نفعه وعطائه.
ويقال الحامدون إذا اشتكى مَنْ لا فُتُوَّة له المادحون إذا بكى مَنْ لا مروءةَ له.
ويقال الشاكرون له إنْ أدناهم، الحامدون له إن أقصاهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ السَّائِحُونَ ﴾.
الصائمون ولكن عن شهود غير الله، الممتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله.
ويقال السائحون الذين يسيحون في الأرض على جهة الاعتبار طلباً للاستبصار، ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغاربها بالتفكُّر في جوانبها ومناكبها، والاستدلال بتغيُّرها على مُنْشِئِها، والتحقق بحكمةِ خالِقها بما يَرَوْنَ من الآيات فيها، ويسيحون بأسرارهم في الملكوتِ فيجدون رَوْحَ الوصال، ويعيشون بنسيم الأنْسِ بالتحقق بشهود الحق.
قوله جلّ ذكره :﴿ الرَّاكِعُونَ ﴾.
الخاضعون لله في جميع الأحوال بخمودهم تحت سلطان التجلِّي، وفي الخبر. " إن الله ما تجلَّى لشيءٍ إلا خَشَع له ".
وكما يكون - في الظاهر - راكعاً يكون في الباطن خاشعاً، ففي الظاهر بإحسان الحقِّ إليه يُحْسنِ تولِّيه، وفي الباطن كالعيان للعيان للحقِّ بأنوار تجلِّيه.
قوله جلّ ذكره :﴿ السَّاجِدُونَ ﴾.
في الظاهر بنفوسهم على بِساط العبودية، وفي الباطن بقلوبهم عند شهود الربوبية. والسجود على أقسام : سجود عند صحة القصود فيسجد بنعت التذلل على بساط الافتقار، ولا يرفع رأسه عن السجود إلا عند تباشير الوصال. وسجودٌ عند الشهود إذا تجلَّى الحقُّ لقلبه سَجِدَ بقلبه، فلم ينظر بعده إلى غيره، وسجودٌ في حال الوجود وذلك بخموده عن كليته، وفنائه عن الإحساس بجميع أوصافه وجملته.
قوله جلّ ذكره :﴿ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ﴾.
هم الذين يَدْعُون الخَلْقَ إلى الله، ويُحَذرونهم عن غير الله. يتواصَوْن بالإقبال على الله وتَرْكِ الاشتغال بغير الله. يأمرون أنفسَهم بالتزام الطاعات بِحَمْلِهم إياها على سَنَن الاستقامة، ويَنْهَوْن أنفسَهم عن اتِّباع المنى والشهوات بِتَرْكِ التعريج في أوطان الغفلة، وما تعودوه من المساكنة والاستنامة.
والحافظون لحدود الله، هم الواقفون حيث وقفهم الله، الذين لا يتحركون إلا إذا حَرَّكَهم ولا يَسْكنُون إلا إذا سكنهم، ويحفظون مع الله أنْفَاسَهُمْ.
ويقال مَنْ أَحَلَّه بِسَاطَ الوصلة ما مُنِيَ بعده بعذاب الفرقة، إلا لِمَنْ سَلَفَ منه تَرْكُ حُرْمة.
﴿ يُحْييِ وَيُمِيتُ ﴾ يحيي مَن يشاء بعرفانه وتوحيده، ويميت من يشاء بكفرانه وجحوده.
ويقال يُحيي قلوبَ العارفين بأنوار المواصلات، ويُميتُ نفوسَ العابدين بآثار المنازلات.
ويقال يُحيي مَنْ أقبل عليه بِتَفَضُّله، ويميت من أعرض بِتَكَبُّرِه.
كُنَّا كَمَنْ أُلْبِسَ أكفانَه *** وقُرِّب النَّعْشُ من اللَّحد
فجال ماءُ الرُّوحِ في وَحْشَةٍ *** وردَّه الوصل إلى الورْدِ
تبارك الله سبحانه *** ما (. . . ) هو بالسرمد
ويقال الصادقون هم السابقون الأولون وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وغيرهم.
ويقال الصدق نهاية الأحوال، وهو استواءُ السِّرِّ والعلانية، وذلك عزيز. وفي الزَّبور :" كذب مَنْ ادَّعَى محبتي وإذا جَنَّة الليلُ نام عنِّي ".
والصدقُ - كما يكون في الأقوال يكون في الأحوال، وهو أَتَمُّ أقسامِهِ.
ويقال جعل المسلمين على مراتب : فعوامُّهم كالرعية للمَلِك، وكَتَبَةُ الحديثِ كخُزَّان المَلِك، وأهلُ القرآن كحُفَّاظ الدفاتر ونفائس الأموال، والفقهاء بمنزلة الوكلاء للمَلِك إذ الفقيه (. . . ) عن الله، وعلماءُ الأصول كالقُوَّادِ وأمراء الجيوش، والأولياءُ كأَركان الباب، وأربابُ القلوبِ وأصحابُ الصفاء كخواص المَلِكِ وجُلَسائه.
فيشتغل قومٌ بحفظ أركان الشرع وآخرون بإمضاء الأحكام، وآخرون بالردِّ على المخالفين، وآخرون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقوم مُفْرَدُون بحضور القلب وهم أصحاب الشهود، وليس لهم شُغْلٌ، يراعون مع الله أنفاسَهم وهم أصحاب الفراغ، لا يستفزُّهم طَلَبٌ ولا يهزُّهم أَرَبٌ، فَهُمْ بالله لله، وهم محو عما سوى الله.
وأمَّا الذين يتفقهون في الدِّين فهم الداعون إلى الله، وإنما يُفْهمُ الخلْقَ عن الله مَنْ كان يَفْهَمْ عن الله.
قوله :﴿ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ من حابى عدوه قهره، وكذلك المريد الذي ينزل عن مطالباتِ الحقيقة إلى ما يتطلبه من التأويلات فيفسخ عَهْدَه، وينقض عَقْدَه، وذلك كالرِّدَّةِ لأهل الظاهر.
ولما استبانَ الصبحُ أدرك ضوءُه | بإِسْفارِه أنوارَ ضوءِ الكواكب |
وأمَّا أصحاب الحقائق فما للأغيار في كل عام مرة أو مرتين فلهم في كل نَفَسٍ مرة، لا يخليهم الحقُّ - سبحانه - من زواجِرَ توجِبُ بصائر، وخواطر تتضمن تكليفاتٍ وَأوَامِرَ قال قائلهم :
كأنَّ رقيباً منك حَلَّ بمهجتي | إذا رُمْتُ تسهيلاً عليَّ تَصَعَّبَا |
ويقال قال له : يأيها النبي حسبُك الله، ثم أمره بأن يقول حسبي الله. . . وهذا عين الجمع، وقوله ﴿ فَقُلْ حَسْبِىَ اللهُ ﴾ فَرْق. . . بل هو جمع الجمع أي : قُلْ، ولكنك بنا تقول، ونحن المتولي عنك وأنت مُسْتَهْلَكٌ في عين التوحيد ؛ فأنت بنا، ومَحْوٌ عن غيرنا.