تفسير سورة النحل

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة النحل من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة النحل مكية كلها، غير قوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم... ﴾ [ آية : ١٢٦-١٢٨ ] إلى آخر السورة.
وقوله تعالى :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا... ﴾ [ آية : ١١٠ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه... ﴾ [ الآية : ١٠٦ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ والذين هاجروا... ﴾ [ آية : ٤١ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ وضرب الله مثلا قرية... ﴾ [ الآية : ١١٢ ] الآية.
فإن هذه الآيات مدنيات، وهي مائة وثمان وعشرون آية كوفية.

﴿ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾، وذلك أن كفار مكة لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم الساعة، فخوفهم بها أنها كائنة، فقالوا: متى تكون؟ تكذيباً بها، فأنزل الله عز وجل: يا عبادي.
﴿ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾ ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾، أي فلا تستعجلوا وعيدي، أنزل الله عز وجل أيضاً في قولهم: حم عسق:﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ﴾[الشورى: ١٨]، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل، عليه السلام: ﴿ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾، وثب قائماً، وكان جالساً، مخافة الساعة، فقال جبريل، عليه السلام: ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾، فاطمأن النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك، ثم قال: ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾، نزه الرب تعالى نفسه عن شرك أهل مكة، ثم عظم نفسه جل جلاله، فقال: ﴿ وَتَعَالَىٰ ﴾، يعني وارتفع.
﴿ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [آية: ١].
﴿ يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ ﴾، يعني جبريل، عليه السلام.
﴿ بِٱلْرُّوحِ ﴾، يقول: بالوحي.
﴿ مِنْ أَمْرِهِ ﴾، يعني بأمره.
﴿ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ من الأنبياء، عليهم السلام، ثم أمرهم الله عز وجل أن ينذروا الناس، فقال: ﴿ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ ﴾ [آية: ٢]، يعني فاعبدون.
﴿ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ ﴾، يقول: لم يخلقهما باطلاً لغير شىء، ولكن خلقهما لأمر هو كائن.
﴿ تَعَالَىٰ ﴾، يعني ارتفع.
﴿ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [آية: ٣] به.﴿ خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ ﴾، يعني أبي بن خلف الجمحي، قتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد.
﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ [آية: ٤]، قال للنبي صلى الله عليه وسلم كيف يبعث الله هذه العظام، وجعل يفتها ويذريها في الريح، نظيرها في آخر يس:﴿ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾[يس: ٧٨].
ثم قال تعالى: ﴿ وَٱلأَنْعَامَ ﴾، يعني الإبل، والبقر، والغنم.
﴿ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾، يعني ما تستدفئون بها من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها أثاثاً.
﴿ وَمَنَافِعُ ﴾ في ظهورها، وألبانها.
﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [آية: ٥]، يعني من لحم الغنم.﴿ وَلَكُمْ فِيهَا، يعني في الأنعام.
{ جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ ﴾
، يعني حين تروح من مراعيها إليكم عند المساء.
﴿ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ [آية: ٦]، من عندكم بكرة إلى الرعي.﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ ﴾، يعني الإبل، والبقر.
﴿ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ ﴾، يعني بجهد الأنفس.
﴿ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ ﴾، يعني لرفيق.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٧] بكم فيما لكم من الأنعام من المنافع.
ذكرهم النعم: ﴿ وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾، يقول: لكم في ركوبها جمال وزينة، يعني الشارة الحسنة.
﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٨] من الخلق، كقوله تعالى:﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾[القصص: ٧٩]، يعني في شارته. قال سبحانه: ﴿ وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ ﴾، يعني بيان الهدى.
﴿ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ﴾، يقول: ومن السبيل ما تكون جائرة على الهدى.
﴿ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [آية: ٩] إلى دينه.﴿ هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ ﴾، يعني المطر لكم منه شراب.
﴿ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ [آية: ١٠]، يعني وفيه ترعون أنعامكم.﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ﴾ بالمطر.
﴿ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾، فيما ذكر لكم من النبات لعبرة.
﴿ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [آية: ١١]، في توحيد الله عز وجل.﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾، يقول: فيما سخر لكم في هذه الآيات لعبرة.
﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ١٢] في توحيد الله عز وجل.﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ ﴾، يعني وما خلق لكم.
﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من الدواب، والطير، والشجر.
﴿ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾، يعني فيما ذكر من الخلق في الأرض.
﴿ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [آية: ١٣]، في توحيد الله عز وجل، وما ترون من صنعه وعجائبه.
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً ﴾، وهو السمك ما أصيد أو ألقاه الماء وهو حي.
﴿ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾، يعني اللؤلؤ.
﴿ وَتَرَى ٱلْفُلْكَ ﴾، يعني السفن.
﴿ مَوَاخِرَ فِيهِ ﴾، يعني في البحر مقبلة ومدبرة بريح واحد.
﴿ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾، يعني سخر لكم الفلك لتبتغوا من فضله.
﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آية: ١٤] ربكم في نعمه عز وجل.﴿ وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ ﴾، يعني الجبال.
﴿ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾، يعني لئلا تزول بكم الأرض فتميل بمن عليها.
﴿ وَأَنْهَاراً ﴾ تجري.
﴿ وَسُبُلاً ﴾، يعني وطرقاً.
﴿ لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آية: ١٥]، يعني تعرفون طرقها.﴿ وَعَلامَاتٍ ﴾، يعني الجبال، كقوله سبحانه:﴿ كَالأَعْلاَمِ ﴾[الرحمن: ١٤]، يعني الجبال: ﴿ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [آية: ١٦].
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، قال مقاتل: هي بنات نعشٍ، والجدي، والفرقدان، والقطب، قال: بعينها لأنهن لا يزلن عن أماكنهن شتاء ولا صيفاً، يعني بالجبال، والكواكب، وبها يعرفون الطرق في البر والبحر، كقوله سبحانه:﴿ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ﴾[النساء: ٩٨]، يعني لا يعرفون. ثم قال عز وجل: ﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ ﴾ هذه الأشياء من أول السورة إلى هذه الآية.
﴿ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ شيئاً من الآلهة: اللات، والعزى، ومناة، وهبل، التي تعبد من دون الله عز وجل: ﴿ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ [آية: ١٧]، يعني أفلا تعتبرون في صنعه فتوحدونه عز وجل.﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ ﴾ في تأخير العذاب عنهم: ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٨١] بهم حين لا يعجل عليهم بالعقوبة.﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ ﴾ في قلوبكم، يعني الخراصين الذى أسروا الكيد بالبعثة في طريق مكة ممن يصد الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم بالموسم.
﴿ وَ ﴾ يعلم ﴿ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ [آية: ١٩]، يعني يعلم ما تظهرون بألسنتكم، حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا دأبنا ودأبك.
ثم ذكر الآلهة، فقال سبحانه لكفار مكة: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ ﴾، يعني يعبدون.
﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾، يعني اللات، والعزى، ومناة، وهبل.
﴿ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً ﴾، ذباباً ولا غيرها.
﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [آية: ٢٠]، وهم ينحتونها بأيديهم. ثم وصفهم، فقال تعالى: ﴿ أَمْواتٌ ﴾، لا تتكلم، ولا تسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، ولا تضر.
﴿ غَيْرُ أَحْيَآءٍ ﴾، لا روح فيها، ثم نعت كفار مكة، فقال: ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [آية: ٢١]، يعني متى يبعثون، نظيرها في سورة النمل:﴿ لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾[النمل: ٦٥]، وهم الخراصون. ثم قال سبحانه: ﴿ إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وَاحِدٌ ﴾، فلا تعبدوا غيره، ثم نعتهم تعالى، فقال: ﴿ فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾، يعني لا يصدقون بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال، ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ ﴾ لتوحيد الله عز وجل أنه واحد.
﴿ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾ [آية: ٢٢] عن التوحيد.﴿ لاَ جَرَمَ ﴾، قسماً.
﴿ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ﴾ في قلوبهم حين أسروا وبعثوا في كل طريق من الطرق رهطاً؛ ليصدوا الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾، حين أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هذا دأبنا ودأبك.
﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾ [آية: ٢٣]، يعني المتكبرين عن التوحيد.
وصفهم، فقال سبحانه: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾، يعني الخراصين.
﴿ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ [آية: ٢٤]، وذلك أن الوليد بن المغيرة المخزومي، قال لكفار قريش: إن محمداً صلى الله عليه وسلم حلو اللسان، إذا كلم الرجل ذهب بعقله، فابعثوا رهطاً من ذوي الرأى منكم والحجا في طريق مكة، على مسيرة ليلة أو ليلتين، إني لا آمن أن يصدقه بعضهم، فمن سأل عن محمد صلى الله عليه وسلم، فليقل بعضهم: إنه ساحر، يفرق بين الاثنين، وليقل بعضهم: إنه لمجنون، يهذي في جنونه، وليقل بعضهم: إنه شاعر، لم يضبط الروي، وليقل بعضهم: إنه كاهن، يخبر بما يكون في غد، وإن لم تروه خيراً من أن تروه، لم يتبعه على دينه إلا العبيد والسفهاء، يحدث عن حديث الأولين، وقد فارقه خيار قومه وشيوخهم. فبعثوا ستة عشر رجلاً من قريش، في أربع طرق، على كل طريق أربعة نفر، وأقام الوليد بن المغيرة بمكة على الطريق، فمن جاء يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، لقيه الوليد، فقال له مثل مقالة الآخرين، فيصدع الناس عن قولهم، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرجو أن يتلقاه الناس، فيعرض عليهم أمره، ففرحت قريش حين تفرق الناس عن قولهم، وهم يقولون: ما عند صاحبكم خير، يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، وما بلغنا عنه إلا الغرور، وفيهم المستهزءون من قريش، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿ وَإِذَا قِيَلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾، يعني حديث الأولين وكذبهم. يقول الله تعالى: قالوا ذلك ﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾، يعني يحملوا خطيئتهم كاملة يوم القيامة.
﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ ﴾، يعني من خطايا الذين ﴿ يُضِلُّونَهُمْ ﴾، يعني يستنزلونهم.
﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ يعلمونه، فيها تقديم، قال عز وجل: ﴿ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ [آية: ٢٥]، يعني ألا بئس ما يحملون، يعني يعملون. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ ﴾، يعني قد فعل الذين ﴿ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾، يعني قبل كفار مكة، يعني نمروذ بن كنعان الجبار الذي ملك الأرض، وبني الصرح ببابل؛ ليتناول فيما زعم إله السماء، تبارك وتعالى، وهو الذي حاج إبراهيم في ربه عز وجل، وهو أول من ملك الأرض كلها، وملك الأرض كلها ثلاثة نفر: نمروذ بن كنعان، وذو القرنين، واسمه الإسكندر قيصر، ثم تبع بن أبي ضراحيل الحميرى. فلما بنى نمروذ الصرح طوله في السماء فرسخين، فأتاه جبريل، عليه السلام، في صورة شيخ كبير، فقال: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أصعد إلى السماء، فأغلب أهلها كما غلبت أهل الأرض، فقال له جبريل، عليه السلام: إن بينك وبين السماء مسيرة خمسمائة عام، والتي تليها مثل ذلك، وغلظها مثل ذلك، وهي سبع سماوات، ثم كل سماء كذلك، فأبى إلا أن يبني، فصاح جبريل، عليه السلام، صيحة فطار رأس الصرح، فوقع في البحر، ووقع البقية عليهم، فذلك قوله عز وجل: ﴿ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ ﴾، يعني من الأصل.
﴿ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ﴾، يعني فوقع عليهم البناء الأعلى من فوق رءوسهم.
﴿ وَأَتَاهُمُ ﴾، يعني وجاءهم ﴿ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [آية: ٢٦] من بعد ذلك، وبعدما اتخذ النسور، وهى الصيحة من جبريل، عليه السلام.
رجع إلى الخراصين في التقديم، فقال سبحانه: ﴿ ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ﴾، يعني يعذبهم، كقوله سبحانه:﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ﴾[التحريم: ٨]، يعني لا يعذب الله النبي المؤمنين.
﴿ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ﴾، يعني تحجاون فيهم.
﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾، وهم الحفظة من الملائكة: ﴿ إِنَّ ٱلْخِزْيَ ٱلْيَوْمَ ﴾، يعني الهوان.
﴿ وَٱلْسُّوۤءَ ﴾، يعني العذاب.
﴿ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٢٧].
ثم نعتهم، فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ﴾، يعني ملك الموت وأعوانه.
﴿ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾، وهم ستة، وثلاثة يلون أرواح المؤمنين، وثلاثة يلون أرواح الكافرين.
﴿ فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ ﴾، يعني الخضوع والاستسلام، ثم قالوا: ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ ﴾، يعني من شرك؛ لقولهم في الأنعام:﴿ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾[الأنعام: ٢٣]، فكذبهم الله عز وجل، فردت عليهم خزنة جهنم من الملائكة، فقالوا: ﴿ بَلَىٰ ﴾ قد عملتم السوء.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٢٨]، يعني بما كنتم مشركين. قالت الخزنة لهم: ﴿ فَٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ من الموت.
﴿ فَلَبِئْسَ مَثْوَى ﴾، يعني مأوى.
﴿ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [آية: ٢٩] عن التوحيد، فأخبر الله عنهم في الدنيا، وأخبر بمصيرهم في الآخرة.
قال تعالى: ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ ﴾، يعني الذين عبدوا ربهم: ﴿ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ﴾ أنزل ﴿ خَيْراً ﴾، وذلك أن الرجل كان يبعثه قومه وافداً إلى مكة ليأتيهم بخبر محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتي الموسم، فيمر على هؤلاء الرهط من قريش الذين على طرق مكة، فيسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيصدونه عنه لئلا يلقاه، فيقول: بئس الرجل الوافد أنا لقومي أن أرجع قبل أن ألقى محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنا منه على مسيرة ليلة أو ليلتين، وأسمع منه، فيسير حتى يدخل مكة، فيلقى المؤمنين، فيسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن قولهم، فيقولون للوافد: أنزل الله عز وجل خيراً، بعث رسولاً صلى الله عليه وسلم، وأنزل كتاباً يأمر فيه بالخير، وينهى عن الشر، ففيهم نزلت: ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبَّكُّمْ قَالْواْ خَيْراً ﴾، ثم انقطع الكلام. يقول الله سبحانه: ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ﴾ العمل ﴿ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا ﴾ لهم ﴿ حَسَنَةٌ ﴾ في الآخرة، يعني الجنة.
﴿ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ ﴾، يعني الجنة أفضل من ثواب المشركين في الدنيا الذي ذكر في هذه الآية الأولى، يقول الله تعالى: ﴿ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ٣٠] الشرك، يثني على الجنة. ثم بين لهم الدار، فقال سبحانه: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾، يعني الأنهار تجري تحت البساتين.
﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ ﴾، يعني في الجنان.
﴿ كَذَلِكَ يَجْزِي ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ٣١] الشرك. ثم أخبر عنهم، فقال جل ثناؤه: ﴿ ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ طَيِّبِينَ ﴾ في الدنيا، يعني ملك الموت وحده، ثم انقطع الكلام، ثم أخبر سبحانه عن قول خزنة الجنة من الملائكة في الآخرة لهم.
﴿ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٣٢] في دار الدنيا. ثم رجع إلى كفار مكة، فقال: ﴿ هَلْ ﴾، يعني ما ﴿ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ﴾ بالموت، يعني ملك الموت وحده، عليه السلام.
﴿ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾، يعني العذاب في الدنيا.
﴿ كَذَلِكَ ﴾، يعني هكذا.
﴿ فَعَلَ ٱلَّذِينَ ﴾، يعني لعن الذين ﴿ مِن قَبْلِهِمْ ﴾، ونزل العذاب بهم قبل كفار مكة من الأمم الخالية.
﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ ﴾، فعذبهم على غير ذنب.
﴿ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آية: ٣٣]﴿ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ ﴾، يعني عذاب ﴿ مَا عَمِلُواْ ﴾، يعني في الدنيا.
﴿ وَحَاقَ بِهِم ﴾، يعني ودار بهم العذاب.
﴿ مَّا كَانُواْ بِهِ ﴾ بالعذاب.
﴿ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [آية: ٣٤] بأنه غير نازل بهم في الدنيا.
﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ مع الله غيره، يعني كفار مكة: ﴿ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ﴾ من الآلهة.
﴿ نَّحْنُ وَلاۤ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ﴾، من الحرث والأنعام، ولكن الله أمرنا بتحريم ذلك، يقول الله عز وجل: ﴿ كَذٰلِكَ ﴾، يعني هكذا ﴿ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ من الأمم الخالية برسلهم، كما كذبت كفار مكة، وتحريم ما أحل الله من الحرث والأنعام، فلما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: ﴿ فَهَلْ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلاَّ ٱلْبَلاغُ ٱلْمُبِينُ ﴾ [آية: ٣٥]، يقول: ما على الرسول إلا أن يبلغ ويبيّن لكم أن الله عز وجل لم يحرم الحرث والأنعام. ثم قال عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾، يعني أن وحدوا الله.
﴿ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ ﴾، يعني عبادة الأوثان.
﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ ﴾ إلى دينه.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ﴾، يعني وجبت.
﴿ ٱلضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آية: ٣٦]، رسلهم بالعذاب الذين حقت عليهم الضلالة في الدنيا، يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية، ليحذروا عقوبته، ولا يكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم. وقال سبحانه: ﴿ إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ ﴾ يا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ﴾ إلى دينه.
﴿ مَن يُضِلُّ ﴾، يقول: من أضله الله فلا هادى له.
﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [آية: ٣٧]، يعني مانعين من العذاب.
﴿ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾، يقول: جهدوا في أيمانهم حين حلفوا بالله عز وجل، يقول الله سبحانه: إن القسم بالله لجهد أيمانهم، يعني كفار مكة.
﴿ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾، فكذبهم الله عز وجل، فقال: ﴿ بَلَىٰ ﴾ يبعثهم الله عز وجل.
﴿ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ﴾، نظيرها في الأنبياء:﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ﴾[الأنبياء: ١٠٤]، يقول الله تعالى: كما بدأتهم فخلقتهم ولم يكونوا شيئاً.
﴿ وَلـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلْنَّاسِ ﴾، يعني أهل مكة ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٣٨] أنهم مبعثون من بعد الموت. يبعثهم الله؛ ﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ﴾، يعني ليحكم الله بينهم في الآخرة.
﴿ ٱلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾، يعني البعث.
﴿ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بالبعث ﴿ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ ﴾ [آية: ٣٩] بأن الله لا يبعث الموتى. ثم قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا ﴾، يعني أمرنا في البعث.
﴿ لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ ﴾ مرة واحدة: ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آية: ٤٠]، لا يثني قوله مرتين.
ثم قال سبحانه: ﴿ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ قومهم إلى المدينة، واعتزلوا بدينهم من المشركين.
﴿ فِي ٱللَّهِ ﴾، وفروا إلى الله عز وجل.
﴿ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ﴾، يعني من بعد ما عذبوا على الإيمان بمكة، نزلت في خمسة نفر،: عمار بن ياسر مولى أبى حذيفة بن المغيرة المخزومي، وبلال بن أبي رباح المؤذن، وصهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان بن النمر بن قاسط، وخباب بن الأرت، وهو عبد الله بن سعد بن خزيمة بن كعب مولى لأم أنما امرأة الأخنس بن شريق.﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ﴾، يعني لنعطينهم ﴿ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾، يعني بالحسنة الرزق الواسع.
﴿ وَلأَجْرُ ﴾، يعني جزاء ﴿ ٱلآخِرَةِ ﴾، يعني الجنة.
﴿ أَكْبَرُ ﴾، يعني أعظم مما أعطوه في الدنيا من الرزق.
﴿ لَوْ كَانُواْ ﴾، يعني أن لو كانوا ﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٤١].
ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ﴾ على العذاب في الدنيا.
﴿ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [آية: ٤٢]، يعني وبه يثقون.﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ ﴾، نزلت في أبي جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، وذلك أنهم قالوا في سبحان:﴿ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً ﴾[الإسراء: ٩٤] يأكل ويشرب، وتلاك الملائكة، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ ﴾ يا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ ﴾، ثم قال: ﴿ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ ﴾، يعني التوراة.
﴿ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٤٣] بأن الرسل كانوا من البشر، فسيخبرونكم بأن الله عز وجل لم يبعث رسولاً إلا من الإنس، يعنى: ﴿ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ بالآيات.
﴿ وَٱلزُّبُرِ ﴾، يعني حديث الكتب.
﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ ﴾، يعني القرآن.
﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ من ربهم.
﴿ وَلَعَلَّهُمْ ﴾، يعني لكي ﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [آية: ٤٤] فيؤمنوا. ثم خوف كفار مكة، فقال سبحانه: ﴿ أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾، يعني الذين قالوا الشرك.
﴿ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ ﴾، يعني جانباً منها.
﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ﴾ غير الخسف.
﴿ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [آية: ٤٥]، يعني لا يعلمون أنه يأتيهم منه.﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ ﴾ العذاب.
﴿ فِي تَقَلُّبِهِمْ ﴾ في الليل والنهار.
﴿ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ [آية: ٤٦]، يعني سابقي الله عز وجل بأعمالهم الخبيثة، حتى يجزيهم بها.﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ ﴾، يقول: يأخذ أهل هذه القرية بالعذاب ويترك الأخرى قريباً منها لكي يخافوا فيعتبروا، يخوفهم بمثل ذلك.
﴿ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ ﴾، يعني يرق لهم.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٤٧] بهم حين لا يعجل عليهم بالعقوبة.
ثم وعظ كفار مكة ليعتبروا في صنعه، فقال سبحانه: ﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ ﴾ في الأرض.
﴿ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً ﴾، وذلك أن الشجر، والبنيان، والجبال، والدواب، وكل شىء، إذا طلعت عليه الشمس يتحول ظل كل شىء عن اليمين قبل المغرب، فذلك قوله سبحانه: ﴿ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ ﴾، يعني يتحول الظل، فإذا زالت الشمس، تحول الظل عن الشمال قبل المشرق، كسجود كل شىء في الأرض لله تعالى، ظله في النهار سجداً.
﴿ لِلَّهِ ﴾، يقول: ﴿ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ [آية: ٤٨]، يعني صاغرون.﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾ من الملائكة.
﴿ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ ﴾ أيضاً يسجدون. قال: قال مقاتل، رحمه الله: إذا قال: ما في السموات، يعني من الملائكة وغيرهم وكل شىء في السماء، والأرض، والجبال، والأشجار، وكل شىء في الأرض، وإذا قال: من في السموات، يعني كل ذي روح من الملائكة، والأدميين، والطير، والوحوش، والدواب، والسباع، والهوام، والحيتان فىالماء، وكل ذي روح أيضاً ساجدون. ثم نعت الله الملائكة، فقال: ﴿ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [آية: ٤٩]، يعني لا يتكبرون عن السجود.﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوقِهِمْ ﴾، الذي هو فوقهم؛ لأن الله تعالى فوق كل شىء، خلق العرش، والعرش فوق كل شىء.
﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [آية: ٥٠].
﴿ وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ ﴾، وذلك أن رجلاً من المسلمين دعا الله عز وجل في صلاته، ودعا الرحمن، فقال رجل من المشركين: أليس يزعم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً، فما بال هذا يدعو ربين اثنين، فأنزل الله عز وجل في قوله: ﴿ وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ ﴾ ﴿ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ ﴾ [آية: ٥١]، يعني إياي فخافون في ترك التوحيد فمن لم يوحد فله النار. ثم عظم الرب تبارك وتعالى نفسه من أن يكون معه إله آخر، فقال عز وجل: ﴿ وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ من الخلق عبيده وفي ملكه.
﴿ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً ﴾، يعني الإسلام دائماً.
﴿ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ ﴾ من الآلهة.
﴿ تَتَّقُونَ ﴾ [آية: ٥٢]، يعني تعبدون، يعني كفار مكة.
ذكرهم النعم، فقال سبحانه: ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ﴾، ليوحدوا رب هذه النعم، يعني بالنعم الخير والعافية.
﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ ﴾، يعني الشدة، وهو الجوع، والبلاء، وهو قحط المطر بمكة سبع سنين.
﴿ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [آية: ٥٣]، يعني تضرعون بالدعاء، لا تدعون غيره أن يكشف عنكم ما نزل بكم من البلاء والدعاء حين قالوا في حم الدخان:﴿ رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ ﴾[الدخان: ١٢]، يعني مصدقين بالتوحيد.﴿ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ ﴾، يعني الشدة، وهو الجوع، وأرسل السماء بالمطر مدراراً.
﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [آية: ٥٤]، يعني يتركون التوحيد لله تعالى في الرخاء، فيعبدون غيره، وقد وحدوه في الضر.﴿ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ ﴾، يعني لئلا يكفروا بالذي أعطيناهم من الخير والخصب في كشف الضر عنهم، وهو الجوع.
﴿ فَتَمَتَّعُواْ ﴾ إلى آجالكم قليلاً.
﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٥٥]، هذا وعيد، نظيرها في الروم، وإبراهيم، والعنكبوت.﴿ وَيَجْعَلُونَ ﴾، يعني ويصفون.
﴿ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ من الآلهة أنها آلهة.
﴿ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ من الحرث والأنعام.
﴿ تَٱللَّهِ ﴾، قل لهم يا محمد: والله ﴿ لَتُسْأَلُنَّ ﴾ في الآخرة.
﴿ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾ [آية: ٥٦] حين زعمتم أن الله أمركم بتحريم الحرث والأنعام. ثم قال يعنيهم: ﴿ وَيَجْعَلُونَ ﴾، يعني ويصفون ﴿ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ ﴾، حين زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى.
﴿ سُبْحَانَهُ ﴾، نزه نفسه عن قولهم، ثم قال عز وجل: ﴿ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [آية: ٥٧] من البنين. ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ﴾، فقيل له: ولدت لك ابنة.
﴿ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً ﴾، يعني متغيراً.
﴿ وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [آية: ٥٨]، يعني مكروباً.﴿ يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ﴾، يعني لا يريد أن يسمع تلك البشرى أحداً، ثم أخبر عن صنيعه بولده، فقال سبحانه: ﴿ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ ﴾، فأما الله فقد علم أنه صانع أحدهما لا محالة.
﴿ أَمْ يَدُسُّهُ ﴾، وهي حية.
﴿ فِي ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [آية: ٥٩]، يعني ألا بئس ما يقضون، حين زعموا أن لي البنات وهم يكرهونها لأنفسهم.
أخبر عنهم، فقال سبحانه: ﴿ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾، يعني لا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال.
﴿ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ ﴾، يعني شبه السوء.
﴿ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ ﴾؛ لأنه تبارك وتعالى رباً واحد لا شريك له ولا ولد.
﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾ في ملكه، جل جلاله؛ لقولهم: إن الله لا يقدر على البعث.
﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ٦٠] في أمره حكم البعث. ثم قال عز وجل: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ ﴾ يعني كفار مكة.
﴿ بِظُلْمِهِمْ ﴾، يعني بما عملوا من الكفر والتكذيب، لعجل لهم العقوبة.
﴿ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾، يعني فوق الأرض من دابة، يعني يقحط المطر، فتموت الدواب.
﴿ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ ﴾، الذي وقت لهم في اللوح المحفوظ.
﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ ﴾، يعني وقت عذابهم في الدنيا.
﴿ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [آية: ٦١]، يعني لا يتأخرون عن أجلهم حتى يعذبوا في الدنيا.﴿ وَيَجْعَلُونَ ﴾، يعني ويصفون.
﴿ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ﴾ من البنات، يقولون: لله البنات.
﴿ وَتَصِفُ ﴾، يعني وتقول ﴿ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ ﴾ بـ ﴿ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ البنين وله البنات.
﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ قسماً حقاً.
﴿ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ ﴾ [آية: ٦٢]، يعني متروكون في النار؛ لقولهم: لله البنات.﴿ تَٱللَّهِ ﴾، يعني والله.
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾، فكذبوهم.
﴿ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ الكفر والتكذيب ﴿ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ ﴾، يعني الشيطان وليهم في الآخرة.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ٦٣]، يعني وجيع.
﴿ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ﴾ يا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعني القرآن.
﴿ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾، وذلك أن أهل مكة اختلفوا في القرآن، فآمن به بعضهم، وكفر بعضهم.
﴿ وَهُدًى ﴾ من الضلالة.
﴿ وَرَحْمَةً ﴾ من العذاب لمن آمن بالقرآن، فذلك قوله: ﴿ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ٦٤]، يعني يصدقون بالقرآن أنه جاء من الله عز وجل. ثم ذكر صنعه ليعرف توحيده، فقال تعالى: ﴿ وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً ﴾، يعني المطر.
﴿ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ ﴾ بالنبات.
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً ﴾، يقول: إن في المطر والنبات لعبرة وآية.
﴿ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ [آية: ٦٥] المواعظ.﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرةً ﴾، يعني التفكر.
﴿ نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً ﴾ من القدر.
﴿ سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ ﴾ [آية: ٦٦]، يسيغ من يشربه، وهو لا يسيغ الفرث والدم. ثم قال سبحانه: ﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ﴾، يعني بالثمرات؛ لأنها جماعة ثمر، يعني بالسكر ما حرم من الشراب مما يسكرون من ثمره، يعني النخيل والأعناب.
﴿ وَرِزْقاً حَسَناً ﴾، يعني طيباً، نسختها الآية التي في المائدة، كقوله عز وجل:﴿ قَرْضاً حَسَنَاً ﴾[البقرة: ٢٤٥]، يعني طيبة بها أنفسهم، بما لا يسكر منها من الشراب وثمرتها، فهذا الرزق الحسن، ثم قال سبحانه: ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ٦٧]، يعني فيما ذكر من اللبن والثمار لعبرة لقوم يعقلون بتوحيد الله عز وجل.
قال: ﴿ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ ﴾ إلهاماً من الله عز وجل، يقول: قذف فيها.
﴿ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ [آية: ٦٨]، يعني ومما يبنون من البيوت.﴿ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي ﴾، يقول: فادخلى.
﴿ سُبُلَ رَبِّكِ ﴾ في الجبال وخلل الشجر.
﴿ ذُلُلاً ﴾؛ لأن الله تعالى ذلل لها طرقها حيثما توجهت.
﴿ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ ﴾، يعني عملاً.
﴿ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾، أبيض، وأصفر، وأحمر.
﴿ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ ﴾، يعني العسل شفاء لبعض الأوجاع.
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً ﴾، يعني فيما ذكر من أمر النحل وما يخرج من بطونها لعبرة.
﴿ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [آية: ٦٩] في توحيد الله عز وجل. ثم قال سبحانه: ﴿ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ﴾، ولم تكونوا شيئاً لتعتبروا في البعث.
﴿ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ﴾، عند آجالكم.
﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ ﴾، يعني الهرم.
﴿ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ ﴾ بالبعث أنه كائن.
﴿ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٧٠]، يعني قادراً عليه.
﴿ وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ ﴾، يعني جعل بعضكم أحراراً، وبعضكم عبيداً، فوسع على بعض الناس، وقتر على بعض.
﴿ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ ﴾، يعني الرزق من الأموال.
﴿ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ ﴾، يقول: برادي أموالهم.
﴿ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾، يعني عبيدهم، يقول: أفيشركونهم وعبيدهم في أموالهم.
﴿ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ ﴾، فيكونون فيه سواء، بأنهم قوم لا يعقلون شيئاً.
﴿ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [آية: ٧١]، يعني ينكرون بأن الله يكون واحداً لا شريك له، وهو رب هذه النعم، يقول: كيف أشرك الملائكة وغيرهم في ملكي وأنتم لا ترضون الشركة من عبيدكم في أموالكم، فكما لا تدخلون عبيدكم في أموالكم، فكذلك لا أدخل معي شريكاً في ملكي، وهم عبادي، وذلك حين قال كفار مكة في إحرامهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه، وما ملك، نظيرها في الروم:﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ... ﴾[الروم: ٢٨] إلى آخر الآية.
﴿ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ﴾، يقول: بعضكم من بعض.
﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾، يعني بالبنين الصغار، والحفدة الكفار يحفدون أباهم بالخدمة، وذلك أنهم كانوا فى الجاهلية يخدمهم أولادهم، قال عز وجل: ﴿ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾، يعني الحب والعسل ونحوه، وجعل رزق غيركم من الدواب والطير لا يشبه أرزاقكم في الطيب والحسن.
﴿ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ﴾، يعني أفبالشيطان يصدقون بأن مع الله عز وجل شريكاً.
﴿ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ ﴾ الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف.
﴿ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾ [آية: ٧٢] بتوحيد الله، أفلا يؤمنون برب هذه النعم فيوحدونه. ثم رجع إلى كفار مكة، ثم ذكر عبادتهم الملائكة، فقال سبحانه: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ ﴾، يعني ما لا يقدر.
﴿ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾، يعني المطر.
﴿ وَٱلأَرْضِ ﴾، يعني النبات.
﴿ شَيْئاً ﴾ منه.
﴿ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ [آية: ٧٣] ذلك.﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ ﴾، يعني الأشباه، فلا تصفوا مع الله شريكاً، فإنه لا إله غيره.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ ﴾ أن ليس له شريك.
﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٧٤] أن لله شريكاً.
ثم ضرب للكفار مثلاً ليعتبروا، فقال: ﴿ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ ﴾، من الخير والمنفعة في طاعة الله عز وجل، نزلت في أبي الحواجر مولى هشام بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي، من بني عامر بن لؤي، يقول: فكذلك الكافر لا يقدر أن ينفق خيراً لمعاده، ثم قال عز وجل: ﴿ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً ﴾، يعني واسعاً، وهو المؤمن هشام.
﴿ فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ ﴾، فيما ينفعه في آخرته.
﴿ سِرّاً وَجَهْراً ﴾، يعني علانية.
﴿ هَلْ يَسْتَوُونَ ﴾ الكافر الذي لا ينفق خيراً لمعاده، والمؤمن الذي ينفق في خير لمعاده، ثم جمعهم، فقال تعالى: ﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٧٥] بتوحيد الله عز وجل.
قال سبحانه: ﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ ﴾، يعني وصف الله مثلاً آخر لنفسه عز وجل، والصنم ليعتبروا، فقال: ﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ ﴾ ﴿ مَثَلاً ﴾، يعني شبهاً.
﴿ رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ ﴾، يعني الأخرس الذي لا يتكلم، وهو الصنم.
﴿ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ ﴾، من المنفعة والخير.
﴿ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ ﴾، يعني الصنم عيال على مولاه الذى يعبده، ينفق عليه ويكنه من الحر والشمس ويكنفه.
﴿ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ ﴾، يقول: أينما يدعوه من شرق أو غرب، من ليل أو نهار.
﴿ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ ﴾، يقول: لا يجيئه بخير.
﴿ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ ﴾، يعني هذا الصنم.
﴿ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ ﴾، يعني الرب نفسه عز وجل يأمر بالتوحيد.
﴿ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [آية: ٧٦]، يعني الرب نفسه عز وجل يقول: أنا على الحق المستقيم، ويقال: أحد الرجلين عثمان بن عفان، رضوان الله عليه، والآخر أبو العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن زهرة.
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾، وذلك أن كفار مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾، وغيب الساعة، ليس ذلك إلى أحد من العباد، ثم قال سبحانه: ﴿ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ ﴾، يعني أمر تأتي، يعني البعث.
﴿ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ ﴾، يعني كرجوع الطرف.
﴿ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾، يقول: بل هو أسرع من لمح البصر.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من البعث وغيره.
﴿ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٧٧].
﴿ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ﴾، فعلمكم بعد ذلك الجهل.
﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ ﴾، يعني القلوب.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آية: ٧٨] رب هذه النعم تعالى ذكره في حسن خلقكم فتوحدونه.
وعظ كفار مكة ليعتبروا، فقال عز وجل: ﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ ﴾، يعني ألا ينظروا ﴿ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ ﴾، يعني في كبد السماء.
﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ ﴾ عند بسط الأجنحة وعند قبضها أحد ﴿ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾ تبارك وتعالى.
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ ﴾، يعني إن في هذه لعبرة.
﴿ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ٧٩]، يعني يصدقون بتوحيد الله عز وجل. ثم ذكرهم النعم، فقال سبحانه: ﴿ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ﴾ تسكنون فيه.
﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً ﴾، يعني مما على جلودها من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها، تتخذون منها بيوتاً، يعني الأبنية، والخيم، والفساطيط، وغيرها.
﴿ تَسْتَخِفُّونَهَا ﴾ في الحمل.
﴿ يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ﴾، يعني حين رحلتكم وأسفاركم، وتستخفونها ﴿ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ﴾ حين تقيمون في الأسفار وتستخفونها، يعني الأبيات التي تتخذونها، ولا يشق عليك ضرب الأبينة، ثم قال سبحانه: ﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا ﴾، يعني الضأن.
﴿ وَأَوْبَارِهَا ﴾، يعني الإبل.
﴿ وَأَشْعَارِهَآ ﴾، يعني المعز.
﴿ أَثَاثاً ﴾، يعني الثياب التي تتخذ منها.
﴿ وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ ﴾ [آية: ٨٠]، يعني بلاغاً إلى أن تبلى.
قال: ﴿ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً ﴾، يعني البيوت والأبنية.
﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً ﴾؛ لتسكنوا فيها، يعني البيوت والأبنية.
﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ﴾، يعني القمص تقيكم ﴿ ٱلْحَرَّ ﴾، يعني من الكتان، والقطن، والصوف.
﴿ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾، من القتل والجراحات، يعني درع الحديد بإذن الله عز وجل.
﴿ كَذَلِكَ ﴾؛ يعني هكذا.
﴿ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ [آية: ٨١]، يعني لكي تسلموا، نظيرها في سبأ، والأنبياء،﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴾[الأنبياء: ٨٠]، يعني فهل أنتم مخلصون لكي تخلصوا إليه بالتوحيد.﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾، يقول: فإن أعرضوا عن التوحيد.
﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ ﴾ [آية: ٨٢]، يقول: عليك يا محمد صلى الله عليه وسلم أن تبلغ وتبين لهم أن الله عز وجل واحد لا شريك له.﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ﴾ التي ذكرهم في هؤلاء الآيات من قوله عز وجل: ﴿ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً... ﴾ إلى أن قال: ﴿... لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾، فتعرفون هذه النعم أنها كلها من الله عز وجل، وذلك أن كفار مكة كانوا إذا سئلوا: من أعطاكم هذا الخير؟ قالوا: الله أعطانا، فإن دعوا إلى التوحيد للذي أعطاهم، قالوا: إنما ورثناه عن آبائنا، فذلك قوله عز وجل: ﴿ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴾ [آية: ٨٣] بتوحيد رب هذه النعم تعالى ذكره.
قال جل اسمه: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾، يعني نبينا شاهداً على أمته بالرسالة أنه بلغهم.
﴿ ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ في الاعتذار.
﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ [آية: ٨٤]، نظيرها:﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ﴾[غافر: ٥٢].
﴿ وَإِذَا رَأى ﴾، يعني وإذا عاين.
﴿ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ يعني كفروا.
﴿ ٱلْعَذَابَ ﴾، يعني النار.
﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ﴾، يعني العذاب.
﴿ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ [آية: ٨٥]، يعني ولا يناظر بهم، فذلك قوله سبحانه:﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ﴾[غافر: ٥٢].
﴿ وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ ﴾ من الأصنام: اللات، والعزى، ومناة.
﴿ قَالُواْ رَبَّنَا هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ ﴾، يعني نعبد من دونك.
﴿ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ ﴾، فردت شركاؤهم عليهم القول.
﴿ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [آية: ٨٦] ما كنا لكم آلهة.﴿ وَأَلْقَوْاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ ٱلسَّلَمَ ﴾، يعني كفار مكة استسلموا له وخضعوا له.
﴿ وَضَلَّ عَنْهُم ﴾ في الآخرة.
﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [آية: ٨٧]، يعني يشركون من الكذب في الدنيا بأن مع الله شريكاً.
﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بتوحيد الله.
﴿ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعني منعوا الناس من دين الله الإسلام، وهم القادة في الكفر، يعني كفار مكة.
﴿ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ﴾ [آية: ٨٨]، يعني يعملون في الأرض بالمعاصي، وذلك أنه يجري من تحت العرش على رءوس أهل النار خمسة أنهار من نحاس ذائب، ولهب من نار، نهران يجريان على مقدار نهار الدنيا، وثلاثة أنهار على مقدار ليل الدنيا، فتلك الزيادة، فذلك قوله سبحانه:﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ ﴾[الرحمن: ٣٥].
﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾، يعني نبيهم، وهو شاهد على أمته أنه بلغهم الرسالة.
﴿ وَجِئْنَا بِكَ ﴾ يا محمد ﴿ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ ﴾، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه بلغهم الرسالة.
﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾، من أمره، ونهيه، ووعده، ووعيده، وخبر الأمم الخالية، وهذا القرآن.
﴿ وَهُدًى ﴾ من الضلالة.
﴿ وَرَحْمَةً ﴾ من العذاب لمن عمل به.
﴿ وَبُشْرَىٰ ﴾، يعني ما فيه من الثواب.
﴿ لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [آية: ٨٩]، يعني المخلصين.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ ﴾ بالتوحيد.
﴿ وَٱلإحْسَانِ ﴾، يعنىالعفو عن الناس.
﴿ وَإِيتَآءِ ﴾، يعني وإعطاء.
﴿ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ المال، يعني صلة قرابة الرجل، كقوله:﴿ وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ﴾[الإسراء: ٢٦]، يعني صلته، ثم قال سبحانه: ﴿ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ ﴾ يعني المعاصي.
﴿ وَٱلْمُنْكَرِ ﴾، يعني الشرك وما لا يعرف من القول.
﴿ وَٱلْبَغْيِ ﴾، يعني ظلم الناس.
﴿ يَعِظُكُمْ ﴾ يعني يؤدبكم.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [آية: ٩٠]، يعني لكي تذكروا فتتأدبوا. لما نزلت هذه الآية بمكة، قال أبو طالب بن عبد المطلب: يا آل غالب، اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم تفلحوا وترشدوا، والله إن ابن أخي ليأمر بمكارم الأخلاق، وبالأمر الحسن، ولا يأمر إلا بحسن الأخلاق، والله لئن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً أو كاذباً، ما يدعوكم إلا إلى الخير، فبلغ ذلك الوليد بن المغيرة، فقال: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قاله، فنعم ما قال، وإن إلهه قاله، فنعم ما قال، فأتنا بلسانه، ولم يصدق محمداً صلى الله عليه وسلم بما جاء به ولم يتبعه، فنزلت:﴿ أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً ﴾[النجم: ٣٣، ٣٤] بلسانه﴿ وَأَكْدَىٰ ﴾[النجم: ٣٤]، يعني وقطع ذلك. ثم قال عز وجل: ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾، يقول: لا تنقضوا الأيمان بعد تشديدها وتغليظها.
﴿ وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ﴾، يعني شهيداً في وفاء العهد.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [آية: ٩١] في الوفاء والنقض. ثم ضرب مثلاً لمن ينقض العهد، فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا ﴾، يعني امرأة من قريش حمقاء مصاحبة أسلمت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وسميت جعرانة لحماقتها، وكانت إذا غزلت الشعر أو الكتان نقضته، قال الله عز وجل: لا تنقضوا العهود بعد توكيدها، كما نقضت المرأة الحمقاء غزلها.
﴿ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ﴾، من بعد ما أبرمته.
﴿ أَنكَاثاً ﴾، يعني نقضاً، فلا هي تركت الغزل فينتفع به، ولا هى كفت عن العمل، فذلك الذي يعطي العهد، ثم ينقضه، لا هو حين أعطى العهد وفى به، ولا هو ترك العهد فلم يعطه.
﴿ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ﴾، يعني من بعد جدة، ولم يأثم بربه. ثم قال سبحانه: ﴿ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ ﴾، يعني العهد.
﴿ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾، يعني مكراً وخديعة يستحل بها نقض العهد.
﴿ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ ﴾، يعني إنما يبتليكم الله بالكثرة.
﴿ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ ﴾، يعني من لا يفى بالعهد، يعني وليحكمن بينكم.
﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ ﴾ من الدين.
﴿ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [آية: ٩٢].
ثم قال سبحانه: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾، يعني على ملة الإسلام.
﴿ وَلـٰكِن يُضِلُّ ﴾ عن الإسلام.
﴿ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي ﴾ إلى الإسلام.
﴿ مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ ﴾ يوم القيامة ﴿ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٩٣] في الدنيا.
قال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ ﴾، يعني العهد.
﴿ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾ بالمكر والخديعة.
﴿ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ﴾، يقول: إن ناقض العهد يزل في دينه كما تزل قدم الرجل بعد الاستقامة.
﴿ وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ ﴾، يعني العقوبة.
﴿ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعني بما منعتم الناس عن دين الله الإسلام.
﴿ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ٩٤] في الآخرة. ثم وعظهم، فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، يقول: ولا تبيعوا الوفاء بالعهد فتنقضونه بعرض يسير من الدنيا.
﴿ إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ ﴾ من الثواب لمن وفى منكم بالعهد.
﴿ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ من العاجل.
﴿ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٩٥].
ثم زهدهم في الأموال، فقال سبحانه: ﴿ مَا عِندَكُمْ ﴾ من الأموال ﴿ يَنفَدُ ﴾، يعني يفنى ﴿ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ ﴾ في الآخرة من الثواب.
﴿ بَاقٍ ﴾، يعني دائم لا يزول عن أهله.
﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ ﴾ على أمر الله عز وجل في وفاء العهد في الآخرة.
﴿ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ ﴾، يعني بأحسن الذى كانوا ﴿ يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٩٦] في الدنيا، ويعفو عن سيئاتهم، فلا يجزيهم بها أبداً، نزلت في امرىء القيس بن عباس الكندي، حين حكم عبدان بن أشرع الحضرمي في أرضه وداره على حقه. ثم قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾، يعني مصدق بتوحيد الله عز وجل.
﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾، يعني حياة حسنة في الدنيا.
﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ ﴾، يعني جزاءهم في الآخرة بأحسن ﴿ مَا كَانُواْ ﴾ بأحسن الذي كانوا ﴿ يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٩٧] في الدنيا، ولهم مساوئ لا يجزيهم بها أبداً.﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ ﴾ في الصلاة.
﴿ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ ﴾ [آية: ٩٨]، يعني إبليس الملعون.
﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ ﴾، يعني ملك.
﴿ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ في علم الله في الشرك فيضلهم عن الهدى.
﴿ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [آية: ٩٩]، يقول: بالله يتقون.﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ ﴾، يعني ملكه.
﴿ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ﴾، يعني يتبعونه على أمره، فيضلهم عن دينهم الإسلام.
﴿ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ ﴾، يعني بالله.
﴿ مُشْرِكُونَ ﴾ [آية: ١٠٠]، كقوله سبحانه:﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾[إبراهيم: ٢٢] من ملك يعني إبليس على أمره. قوله عز وجل: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾، يعني وإذا حولنا آية فيها شدة فنسخناها وجئنا مكانها بغيرها ألين منها.
﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾ من التبديل من غيره.
﴿ قَالُوۤاْ ﴾، قال كفار مكة للنبى صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ ﴾، يعني متقول على الله الكذب من تلقاء نفسك، قلت كذا وكذا، ثم نقضته وجئت بغيره. ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٠١] أن الله أنزله، فإنك لا تقول إلا ما قد قيل لك.﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لكفار مكة: هذا القرآن.
﴿ نَزَّلَهُ ﴾ على ﴿ رُوحُ ٱلْقُدُسِ ﴾، يعني جبريل، عليه السلام.
﴿ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ ﴾، لم ينزله باطلاً.
﴿ لِيُثَبِّت ﴾، يعني ليستيقن.
﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعني صدقوا بما في القرآن من الثواب.
﴿ وَهُدًى ﴾ من الضلالة.
﴿ وَبُشْرَىٰ ﴾ لما فيه من الرحمة.
﴿ لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [آية: ١٠٢]، يعني المخلصين بالتوحيد، وأنزل الله عز وجل:﴿ يَمْحُو ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ﴾[الرعد: ٣٩] من القرآن.
﴿ وَيُثْبِتُ ﴾، فينسخه ويثبت الناسخ،﴿ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ ﴾[الرعد: ٣٩].
﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾، وذلك أن غلاماً لعامر بن الحضرمي القرشى يهودياً أعجمياً، كان يتكلم بالرومية يسمى يسار، ويكنى أبا فكيهة، كان كفار مكة إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه، قالوا: إنما يعلمه يسار أبو فكيهة، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾، ثم أخبر عن كذبهم، فقال سبحانه: ﴿ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ ﴾، يعني يميلون، كقوله سبحانه:﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ﴾[الحج: ٢٥]، يعني يميل.
﴿ أَعْجَمِيٌّ ﴾ رومي، يعني أبا فكيهة.
﴿ وَهَـٰذَا ﴾ القرآن.
﴿ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ﴾ [آية: ١٠٣]، يعني بين يعقلونه، نظيرها في حم السجدة قوله سبحانه:﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ﴾[فصلت: ٤٤]، لقالوا: محمد صلى الله عليه وسلم عربي، والقرآن أعجمي، فذلك قوله سبحانه: ﴿ قُرْآناً أعْجَمِيّاً ﴾ إلى آخر الآية. فضربه سيده، فقال: إنك تعلم محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال أبو فكيهة: بل هو يعلمني، فأنزل الله عز وجل في قولهم:﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ ﴾[الشعراء: ١٩٢ - ١٩٣]؛ لقولهم: إنما يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم يسار أبو فكيهة.
قال: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾، يعني لا يصدقون بالقرآن أنه جاء من الله عز وجل، ويزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم يتعلم من أبي فكيهة.
﴿ لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ ﴾ لدينه.
﴿ وَلَهُمْ ﴾ في الآخرة.
﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٠٤]، يعني وجيع. ثم رجع إلى قول المشركين حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنت مفتر تقول هذا القرآن من تلقاء نفسك، فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي ﴾، يعني يتقول ﴿ ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾، يعني لا يصدقون بالقرآن أنه جاء من الله عز وجل.
﴿ وَأُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ ﴾ [آية: ١٠٥] في قولهم للنبى صلى الله عليه وسلم إنه مفتر.﴿ مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ ﴾، نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشى، ومقيس بن ضبابة الليثي، وعبد الله بن أنس بن حنظل، من بني تميم بن مرة، وطعمة بن أبيرق الأنصارى، من بني ظفر بن الحارث، وقيس بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيس بن الفاكهة بن المغيرة المخزومي، قتلا ببدر، ثم استثنى، فقال: ﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ﴾ على الكفر.
﴿ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ ﴾، يعني راض.
﴿ بِٱلإِيمَانِ ﴾، كقوله عز وجل:﴿ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ ﴾[الحج: ١١]، نزلت في جبر غلام عامر بن الحضرمي، كان يهودياً فأسلم حين سمع أمر يوسف وإخوته، فضربه سيده حتى يرجع إلى اليهودية، ثم قال عز وجل: ﴿ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ ﴾ من وسع.
﴿ بِالْكُفْرِ صَدْراً ﴾ إلى أربع آيات، يعني عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهؤلاء المسلمين.
﴿ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ١٠٦] في الآخرة.﴿ ذٰلِكَ ﴾ الغذب والعذاب.
﴿ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ﴾، يعني اختاروا.
﴿ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا ﴾ الفانية ﴿ عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ ﴾ الباقية.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ﴾ إلى دينه.
﴿ ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ١٠٧].
ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: ﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ ﴾، يعني ختم الله.
﴿ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ﴾ بالكفر.
﴿ وَ ﴾ على ﴿ وَسَمْعِهِمْ وَ ﴾ على ﴿ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾، فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه.
﴿ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ ﴾ [آية: ١٠٨] عن الآخرة.﴿ لاَ جَرَمَ ﴾، قسماً حقاً.
﴿ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ ﴾ [آية: ١٠٩].
﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
﴿ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ﴾، يعني من بعد ما عذبوا على الإيمان بمكة.
﴿ ثُمَّ جَاهَدُواْ ﴾ مع النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا ﴾، يعني من بعد الفتنة.
﴿ لَغَفُورٌ ﴾ لما سلف من ذنوبهم.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١١٠] بهم فيها، نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وأبي جندل بن سهيل بن عمرو القرشي، من بني عامر بن لؤي، وسلمة بن هشام بن المغيرة، والوليد بن المغيرة المخزومي، وعبد الله بن أسيد الثقفي.
﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ ﴾، يعني تخاصم ﴿ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ ﴾، يعني وتوفر.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ﴾، بر وفاجر.
﴿ مَّا عَمِلَتْ ﴾ في الدنيا من خير أو شر.
﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [آية: ١١١] في أعمالهم، ولا تسأل الرجعة كل نفس في القرآن، إلا كافرة.﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً ﴾، يعني وصف الله شبهاً.
﴿ قَرْيَةً ﴾، يعني مكة.
﴿ كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً ﴾، أهلها من القتل والسبي.
﴿ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً ﴾، يعني ما شاءوا.
﴿ مِّن كُلِّ مَكَانٍ ﴾، يعني من كل النواحي، من اليمن، والشام، والحبش، ثم بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً يدعوهم إلى معرفة رب هذه النعم وتوحيده جل ثناؤه، فإنه من لم يوحده لا يعرفه.
﴿ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ ﴾ حين لم يوحدوه، وقد جعل الله لهم الرزق والأمن في الجاهلية، نظيرها في القصص والعنكبوت قوله سبحانه:﴿ يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾[القصص: ٥٧]، وقوله عز وجل في العنكبوت:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾[العنكبوت: ٦٧].
﴿ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ ﴾ في الإسلام ما كان دفع عنها في الجاهلية.
﴿ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ ﴾ سبع سنين.
﴿ وَٱلْخَوْفِ ﴾، يعني القتل.
﴿ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ [آية: ١١٢]، يعني بما كانوا يعملون من الكفر والتكذيب.﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ ﴾، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ مِّنْهُمْ ﴾، يعرفونه ولا ينكرونه.
﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ ﴾، يعني الجوع سبع سنين.
﴿ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آية: ١١٣].
﴿ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ يا معشر المسلمين ما حرمت قريش، وثقيف، وخزاعة، وبنو مدلج، وعامر بن عبد مناة، للآلهة من الحرث والأنعام.
﴿ حَلالاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ﴾ فيما رزقكم من تحليل الحرث والأنعام.
﴿ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [آية: ١١٤]، ولا تحرموا ما أحل الله لكم من الحرث والأنعام.
بين ما حرم، قال عز وجل: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ ﴾، يعني وما ذبح ﴿ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ ﴾ من الآلهة.
﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ ﴾ إلى شىء مما حرم الله عز وجل في هذه الآية.
﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ يستحلها في دينه.
﴿ وَلاَ عَادٍ ﴾، يعني ولا معتد لم يضطر إليه فأكله.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لما أصاب من الحرام.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١١٥] بهم حين أحل لهم عند الاضطرار. ثم عاب من حرم ما أحل الله عز وجل، فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ ﴾، يعني لما تقول.
﴿ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ ﴾، يعني ما حرموا للآلهة من الحرث والأنعام، وما أحلوا منها.
﴿ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ﴾، يعني يزعمون أن الله عز وجل أمرهم بتحريم الحرث والأنعام، ثم خوفهم، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ﴾، بأنه أمر بتحريمه.
﴿ لاَ يُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ١١٦] في الآخرة، يعني لا يفوزون. ثم استأنف، فقال سبحانه: ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾، يتمتعون في الدنيا.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ١١٧]، يقول: في الآخرة يصيرون إلى عذاب وجيع. ثم بين ما حرم على اليهود، فقال سبحانه: ﴿ وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ﴾ في سورة الأنعام، قبل سورة النحل، قال سبحانه:﴿ وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ ﴾[الأنعام: ١٤٦]، يعني المبعر،﴿ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ ﴾[الأنعام: ١٤٦] من الشحم،﴿ بِعَظْمٍ ﴾[الأنعام: ١٤٦]، فهو لهم حلال من قبل سورة النحل.
﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ﴾ بتحريمنا عليهم الشحوم واللحوم وكل ذى ظفر.
﴿ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آية: ١١٨] بقتلهم الأنبياء، واستحلال الربا والأموال، وبصدهم الناس عن دين الله عز وجل.﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ﴾، نزلت في جبر غلام ابن الحضرمي، أكره على الكفر بعد إسلامه، وقلبه مطمئن بالإيمان، يقول: راض بالإيمان، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم فاشتراه وحل وثاقه، وتاب من الكفر وزوجه مولاة لبني عبد الدار، فأنزل الله عز وجل فيه: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ﴾، فكل ذنب من المؤمن فهو جهل منه.
﴿ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ السوء.
﴿ وَأَصْلَحُوۤاْ ﴾ العمل.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ ﴾، يعني من بعد الفتنة لغفور لما سلف من ذنوبهم.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١١٩] بهم فيما بقي.
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾، يعني معلماً، يعني إماماً يقتدى به في الخير.
﴿ قَانِتاً ﴾ مطيعاً ﴿ لِلَّهِ حَنِيفاً ﴾، يعني مخلصاً.
﴿ وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ [آية: ١٢٠] يهودياً ولا نصرانياً.﴿ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ ﴾، يعني لأنعم الله عز وجل: ﴿ ٱجْتَبَاهُ ﴾، يعني استخلصه للرسالة والنبوة.
﴿ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [آية: ١٢١]، يعني إلى دين مستقيم، وهو الإسلام.﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾، يقول: وأعطينا إبراهيم في الدنيا مقالة حسنة بمضيته وصبره على رضا ربه عز وجل، حين ألقي في النار، وكسر الأصنام، وأراد ذبح ابنه إسحاق، والثناء الحسن من أهل الأديان كلها يتولونه جميعاً، ولا يتبرأ منه أحد منهم.
﴿ وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ [آية: ١٢٢].
﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ يا محمد.
﴿ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾، يعني الإسلام حنيفاً، يعني مخلصاً.
﴿ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ [آية: ١٢٣].
﴿ إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾، يوم السبت، وذلك أن موسى، عليه السلام، أمر بني إسرائيل أن يتفرغوا كل سبعة أيام للعبادة، يعني يوم الجمعة، وأن يتركوا فيه عمل دنياهم، فقالوا لموسى، عليه السلام: نتفرغ يوم السبت، فإن الله تعالى لم يخلق يوم السبت شيئاً، فاجعل لنا السبت عيداً نتعبد فيه، فقال موسى، عليه السلام: إنما أمرت بيوم الجمعة، فقال أحبارهم: انظروا إلى ما يأمركم به نبيكم، فانتهوا إليه وخذوا به، فأبوا إلا يوم السبت، فلما رأى موسى، عليه السلام، حرصهم على يوم السبت، واجتماعهم عليه، أمرهم به، فاستحلوا فيه المعاصي، فذلك قوله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾، يقول: إنما أمر بالسبت على الذين كان اختلافهم فيه حين قال بعضهم: يوم السبت، وقال بعضهم: اتبعوا أمر نبيكم في الجمعة، ثم قال سبحانه: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ ﴾، يعني ليقضي.
﴿ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ ﴾، يعني في يوم السبت.
﴿ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [آية: ١٢٤].
إن الله عز وجل قال للنبي صلى الله عليه وسم: ﴿ ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ ﴾، يعني دين ربك، وهو الإسلام.
﴿ بِٱلْحِكْمَةِ ﴾، يعني بالقرآن.
﴿ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ﴾، يعني بما فيه من الأمر والنهي.
﴿ وَجَادِلْهُم ﴾، يعني أهل الكتاب.
﴿ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، بما في القرآن من الأمر والنهي.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ﴾، يعني دينه الإسلام.
﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ ﴾ [آية: ١٢٥]، يعني بمن قدر الله له الهدى من غيره.﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾، وذلك أن كفار مكة قتلوا يوم أُحُد طائفة من المؤمنين، ومثلوا بهم، منهم حمزة بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقروا بطنه، وقطعوا مذاكيره وأدخلوها في فيه، وحنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة، فحلف المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: لئن دالنا الله عز وجل منهم، لنمثلن بهم أحياء، فأنزل الله عز وجل: ﴿ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾، يقول: مثلوا هم بموتاكم، لا تمثلوا بالأحياء منهم.
﴿ وَلَئِن صَبَرْتُمْ ﴾ عن المثلة.
﴿ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ [آية: ١٢٦] من المثلة، نزلت في الأنصار.
قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا مثلوا بعمه حمزة بن عبد المطلب، عليه السلام: ﴿ وَٱصْبِرْ ﴾ على المثلة البتة.
﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ ﴾، يقول: أنا ألهمك حتى تصبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:" إنى قد أمرت بالصبر البتة، أفتصبرون؟ "، قالوا: يا رسول الله، أما إذا صبرت وأمرت بالصبر، فإنا نصبر، يقول الله تعالى: ﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ إن تولوا عنك، فلم يجيبوك إلى الإيمان.
﴿ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [آية: ١٢٧]، يقول: لا يضيقن صدرك مما يمكرون، يعني مما يقولون، يعني كفار مكة، حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، أيام الموسم: هذا دأبنا ودأبك، وهم الخراصون، وهم المستهزءون، فضاق صدر النبي صلى الله عليه وسلم بما قالوا. يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ ﴾ الشرك في العون والنصر لهم.
﴿ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ [آية: ١٢٨]، يعني في إيمانهم.
Icon