تفسير سورة النحل

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة النحل من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
تفسير سورة النحل
هذه السورة كانت تسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده، وهي مكية غير قوله تعالى :﴿ وإن عوقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾ الآية، نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة رضي الله عنه وقتلى أحد، وغير قوله تعالى :﴿ واصبر و ما صبرك إلا بالله ﴾، وغير قوله :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا ﴾ الآية، وأما قوله تعالى :﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا ﴾ فمكي في شأن هجرة الحبشة١.
١ قال الحسن، وعكرمة، وعطاء، و جابر: السورة مكية كلها. وقال ابن عباس: هي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة بعد قتل حمزة رضي الله عنه، وهي قوله تعالى: ﴿ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا﴾ إلى قوله: ﴿بأحسن ما كانوا يعملون.﴾ هذا والآيات التي ذكرها المؤلف على أنها مكية هي على حسب ترتيبه لها رقم (١٢٦)، ورقم (١٢٧)، ورقم (١١٠)، أما الآية التي أكد أنها مكية فهي رقم (٤١) من السورة.
.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النّحل
هذه السورة كانت تسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده، وهي مكية غير قوله تعالى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا [النحل: ١٢٦] نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد، وغير قوله تعالى وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: ١٢٧]، وغير قوله ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا [النحل: ١١٠]، وأما قوله: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا [النحل: ٤١] فمكي في شأن هجرة الحبشة.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
روي أن رسول الله ﷺ لما قال جبريل في سرد الوحي: أَتى أَمْرُ اللَّهِ وثب رسول الله ﷺ قائما، فلما قال فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سكن. وقوله أَمْرُ اللَّهِ قال فيه جمهور المفسرين: إنه يريد القيامة وفيها وعيد للكفار، وقيل: المراد نصر محمد عليه السلام، وقيل: المراد تعذيب كفار مكة بقتل محمد صلّى الله عليه وسلّم لهم وظهوره عليهم، ذكر نحو هذا النقاش عن ابن عباس، وقيل: المراد فرائض الله وأحكامه في عباده وشرعه لهم، هذا هو قول الضحاك، ويضعفه قوله فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ إنا لا نعرف استعجالا الا ثلاثة اثنان منها للكفار وهي في القيامة وفي العذاب، والثالث للمؤمنين في النصر وظهور الإسلام، وقوله أَتى على هذا القول إخبار عن إتيان ما يأتي، وصح ذلك من جهة التأكيد، وإذا كان الخبر حقا فيؤكد المستقبل بأن يخرج في صيغة الماضي، أي كأنه لوضوحه والثقة به قد وقع، ويحسن ذلك في خبر الله تعالى لصدق وقوعه، وقال قوم: أَتى بمعنى قرب، وهذا نحو ما قلت، وإنما يجوز الكلام بهذا عندي لمن يعلم قرينة التأكيد ويفهم المجاز، وأما إن كان المخاطب لا يفهم القرينة فلا يجوز وضع الماضي موضع المستقبل، لأن ذلك يفسد الخبر ويوجب الكذب، وإنما جاز في الشرط لوضوح القرينة «بأن»، ومن قال: إن الأمر القيامة، قال: إن قوله فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ رد على المكذبين بالبعث القائلين متى هذا الوعد، ومن قال: إن الأمر تعذيب الكفار بنصر محمد ﷺ وقتله لهم، قال إن قوله فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ رد على القائلين عَجِّلْ لَنا قِطَّنا
377
[ص: ١٦] ونحوه من العذاب، أو على مستبطئي النصر من المؤمنين في قراءة من قرأ بالتاء، وقرأ الجمهور «فلا تستعجلوه» بالتاء على مخاطبة المؤمنين أو على مخاطبة الكافرين بمعنى قل لهم: «فلا تستعجلوه»، وقرأ سعيد بن جبير بالياء على غيبة المشركين، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء من فوق وجميع الباقين قرأ «يشركون» بالياء، ورجح الطبري القراءة بالتاء من فوق في الحرفين، قال أبو حاتم: قرأ «يشركون» بالياء، من تحت في هذه والتي بعدها الأعرج وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن نصاح والحسن وأبو رجاء، وقرأ عيسى الأولى بالتاء من فوق، والثانية بالياء من تحت، وقرأهما جميعا بالتاء من فوق أبو العالية وطلحة والأعمش وأبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب والجحدري، وقد روى الأصمعي عن نافع التاء في الأولى.
وقوله سُبْحانَهُ معناه تنزيها له، وحكى الطبري عن ابن جريج، قال: لما نزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ قال رجال من الكفار، إن هذا يزعم أن أمر الله قد أتى فأمسكوا عما أنتم بسبيله حتى ننظر، فلما لم يروا شيئا عادوا فنزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: ١] فقالوا مثل ذلك: فنزلت وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ [هود: ٨]، وقال أبو بكر بن حفص: لما نزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ رفعوا رؤوسهم، فنزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، وحكى الطبري عن أبي صادق أنه قرأ: «يا عبادي أتى أمر الله فلا تستعجلوه». وسُبْحانَهُ نصب على المصدر أي تنزيها له، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «ينزّل» بالياء وشد الزاي، ورجحها الطبري لما فيها من التكثير، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الزاي مكسورة وسكون النون، وقرأ ابن أبي عبلة بالنون التي للعظمة وشد الزاي، وقرأ قتادة بالنون وتخفيف الزاي وسكون النون، وفي هذه والتي قبلها شذوذ كثير، وقرأ أبو عمرو عن عاصم «تنزّل الملائكة» بضم التاء وفتح النون والزاي وشدها ورفع «الملائكة» على ما لم يسم فاعله، وهي قراءة الأعمش، وقرأ الجحدري بالتاء مضمومة وسكون النون وفتح الزاي، وقرأ الحسن وأبو العالية وعاصم الجحدري والأعرج بفتح التاء مضمومة وسكون النون وفتح الزاي، وقرأ الحسن وأبو العالية وعاصم الجحدري والأعرج بفتح التاء ورفع «الملائكة» على أنها فاعلة، ورواها المفضل عن عاصم، والْمَلائِكَةَ هنا جبريل، واختلف المتأولون في «الروح» فقال مجاهد، «الروح» النبوة، وقال ابن عباس: الوحي، وقال قتادة: بالرحمة والوحي، وقال الربيع بن أنس:
كل كلام الله روح، ومنه قوله تعالى أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] وقال ابن جريج: الروح شخص له صورة كصورة بني آدم ما نزل جبريل قط إلا وهو معه، وهو كثير، وهم ملائكة، وهذا قول ضعيف لم يأت به سند، وقال الزجاج: «الروح» ما تحيى به القلوب من هداية الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن، فكأن اللفظة على جهة التشبيه بالمقايسة إلى الأوامر التي هي في الأفعال والعبادات كالروح للجسد، ألا ترى قوله أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً [الأنعام: ١٢٢].
قال القاضي أبو محمد: ومِنْ في هذه الآية على هذا التأويل الذي قدرنا للتبعيض، وعلى سائر الأقوال لبيان الجنس، ومِنْ في قوله مَنْ يَشاءُ هي للأنبياء، وأَنْ في موضع خفض بدل من «الروح»، ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الخافض على تقدير بأن أنذروا، ويحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي، وقرأ الأعمش «لينذروا أنه»، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من
378
حيث كان المنذرون كافرين بالألوهية، ففي ضمن أمرهم مكان خوف، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه ووعيد، ثم ذكر تعالى ما يقال للأنبياء بالوحي على المعنى، ولم يذكره على لفظه لأنه لو ذكره على اللفظ لقال «أن أنذروا أنه لا إله إلا الله»، ولكنه إنما ذكر ذلك على معناه، وهذا سائغ في الأقوال إذا حكيت أن تحكى على لفظها، أو تحكى بالمعنى فقط، وقوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الآية، آية تنبيه على قدرة الله تعالى بالحق أي بالواجب اللائق، وذلك أنها تدل على صفات يحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع ويعيد، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة النافذة بخلاف شركائهم الذين لا يحق لهم شيء من صفات الربوبية، وقرأ الأعمش بزيادة فاء «فتعالى». وقوله خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ يريد ب الْإِنْسانَ الجنس، وأخذ له الغايتين ليظهر له البعد بينهما بقدرة الله، ويروى أن الآية نزلت لقول أبي بن خلف من يحيي العظام وهي رميم؟ وقوله خَصِيمٌ يحتمل أن يريد به الكفرة الذين يختصمون في الله ويجادلون في توحيده وشرعه، ذكره ابن سلام عن الحسن البصري، ويحتمل أن يريد أعم من هذا على أن الآية تعديد نعمة الذهن والبيان على البشر، ويظهر أنها إذا تقدر في خصام الكافرين ينضاف إلى العبرة وعيد ما.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥ الى ٩]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
الْأَنْعامَ الإبل والبقر والغنم وأكثر ما يقال نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع، ولا يقال للغنم مفردة، ونصبها إما عطف على الْإِنْسانَ [النحل: ٤] وإما بفعل مقدر وهو أوجه، و «الدفء» السخانة وذهاب البرد بالأكسية ونحوها، وذكر النحاس عن الأموي أنه قال: الدفء في لغة بعضهم تناسل الإبل.
قال القاضي أبو محمد: وقد قال ابن عباس: نسل كل شيء، وقد قال ابن سيده: «الدفء» نتاج الإبل وأوبارها والانتفاع بها، والمعنى الأول هو الصحيح، وقرأ الزهري وأبو جعفر «دفء» بضم الفاء وشدها وتنوينها، و «المنافع» ألبانها وما تصرف منها ودهونها وحرثها والنضح عليها وغير ذلك، ثم ذكر «الأكل» الذي هو من جميعها، وقوله جَمالٌ أي في المنظر. وتُرِيحُونَ معناه حين تردونها وقت الرواح إلى المنازل فتأتي بطانا ممتلئة الضروع، وتَسْرَحُونَ معناه تخرجونها غدوة إلى السرح، تقول سرحت السائمة إذا أرسلتها تسرح فسرحت هي، كرجع رجعته، وهذا «الجمال» هو لمالكها ولمحبيه وعلى حسدته وهذا المعنى كقوله تعالى الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: ٤٦] وقرأ عكرمة والضحاك «حينما تريحون حينا تسرحون»، وقرأت فرقة «وحينا ترتحون».
379
قال القاضي أبو محمد: وأظنها تصحيفا. و «الأثقال» الأمتعة، وقيل المراد هنا الأجسام كقوله وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: ٢] أي أجسام بني آدم.
قال القاضي أبو محمد: واللفظ يحتمل المعنيين، قال النقاش: ومنه سمي الإنس والجن الثقلين، وقوله إِلى بَلَدٍ أي بلد توجهتم بحسب اختلاف أغراض الناس، وقال عكرمة وابن عباس والربيع بن أنس: المراد مكة، وفي الآية على هذا حض على الحج. و «الشق» المشقة، ومنه قول الشاعر [النمر بن تولب] :[الطويل]
وذي إبل يسعى ويحسبها له أخي نصب من شقها ودؤوب
أي من مشقتها، ويقال فيها شق وشق أي مشقة، وقرأ أبو جعفر القاري وعمرو بن ميمون وابن أرقم ومجاهد والأعرج «بشق الأنفس» بفتح الشين، ورويت عن نافع وأبي عمرو، وذهب الفراء إلى أن معنى بِشِقِّ الْأَنْفُسِ أي بذهاب نصفها، كأنه قد دأبت نصبا وتعبا.
قال القاضي أبو محمد: كما تقول لرجل لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك وبقطعة من كبدك ونحو هذا من المجاز، وذهبوا في فتح الشين إلى أنه مصدر شق يشق، ثم أوجب رأفة الله ورحمته في هذه النعم التي أذهبت المشقات ورفعت الكلف، وقوله وَالْخَيْلَ عطف أي وخلق الخيل، وقرأ ابن أبي عبلة، «والخيل والبغال والحمير» بالرفع في كلها، وسميت الخيل خيلا لاختيالها في المشية، أفهمه أعرابي لأبي عمرو بن العلاء، وقوله وَزِينَةً نصب بإضمار فعل، قيل تقديره وجعلنا زينة، وقرأ ابن عياض «لتركبوها زينة» دون واو، والنصب حينئذ على الحال من الهاء في تركبوها وقوله وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ عبرة منصوبة على العموم، أي أن مخلوقات الله من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر، بل ما يخفى عنه أكثر مما يعلمه، وقد روي أن الله تعالى خلق ألف نوع من الحيوان منها في البر أربعمائة، وبثها بأعيانها في البحر، وزاد فيه مائتين ليست في البر.
وكل من خصص في تفسير هذه الآية شيئا، كقول من قال سوس الثياب وغير ذلك فإنما هو على جهة المثال، لا أن ما ذكره هو المقصود في نفسه. قال الطبري: ما لا تَعْلَمُونَ هو ما أعد الله في الجنة لأهلها، وفي النار لأهلها مما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر، واحتج بهذه الآية مالك رحمه الله ومن ذهب مذهبه في كراهة لحوم الخيل والبغال والحمير أو تحريمها بحسب الاختلاف في ذلك، وذكر الطبري عن ابن عباس، قال ابن جبير: سئل ابن عباس عن لحوم الخيل والبغال والحمير، فكرهها فاحتج بهذه الآية، وقال: جعل الله الأنعام للأكل، وهذه للركوب، وكان الحكم بن عتبة يقول: الخيل والبغال والحمير حرام في كتاب الله ويحتج بهذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الحجة غير لازمة عند جماعة من العلماء، قالوا إنما ذكر الله عز وجل عظم منافع الأنعام، وذكر عظم منافع هذه وأهم ما فيها، وليس يقضي ذلك بأن ما ذكر لهذه لا تدخل هذه فيها، قال الطبري وفي إجماعهم على جواز ركوب ما ذكر للأكل، دليل على جواز أكل ما ذكر للركوب.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، ولحوم الخيل عند كثير من العلماء حلال، وفي جواز أكلها
380
حديث أسماء بنت أبي بكر، وحديث جابر بن عبد الله: كنا نأكل الخيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: والبغال والحمير مكروهة عند الجمهور، وهو تحقيق مذهب مالك، ومن حجة من ألحق الخيل بالبغال والحمير في الكراهية القياس، إذ قد تشابهت وفارقت الأنعام في أنها لا تجتر، وأنها ذوات حوافر، وأنها لا أكراش لها، وأنها متداخلة في النسل، إذ البغال بين الحمير والخيل فهذا من جهة النظر، وأما من جهة الشرع بأن قرنت في هذه الآية وأسقطت فيها الزكاة، وقوله وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ الآية، هذا أيضا من أجل نعم الله تعالى، أي على الله تقويم طريق الهدى وتبيينه، وذلك نصب الأدلة وبعث الرسل وإلى هذا ذهب المتأولون، ويحتمل أن يكون المعنى أن مرسلك السبيل القاصد فعلى الله ورحمته وتنعيمه طريقه وإلى ذلك مصيره، فيكون هذا مثل قوله تعالى هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: ٤١] وضد قول النبي ﷺ «والشر ليس إليك» أي لا يفضي إلى رحمتك، وطريق قاصد معناه بين مستقيم، ومنه قول الآخر:
فصد عن نهج الطريق القاصد
والألف واللام في السَّبِيلِ للعهد، وهي سبيل الشرع، وليست للجنس، ولو كانت للجنس لم يكن فيها جائر، وقوله وَمِنْها جائِرٌ يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم كعبدة الأصنام، والضمير في مِنْها يعود على السَّبِيلِ التي تضمنها معنى الآية، كأنه قال: ومن السبيل جائر، فأعاد عليها وإن كان لم يجر له ذكر لتضمن لفظة السَّبِيلِ بالمعنى لها، ويحتمل أن يعود الضمير في مِنْها على سبيل الشرع المذكورة وتكون «من» للتبعيض ويكون المراد فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه قال ومن بنيات الطرف في هذه السبيل ومن شعبها جائر، وقوله وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ معناه لخلق الهداية في قلوب جميعكم ولم يضل أحد، وقال الزجاج معناه لو شاء لعرض عليكم آية تضطركم إلى الإيمان والاهتداء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون أن الله لا يخلق أفعال العباد لم يحصله الزجاج، ووقع فيه رحمه الله عن غير قصد، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «ومنكم جائر»، وقرأ علي بن أبي طالب «فعنكم جائر»، والسَّبِيلِ تذكر وتؤنث.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠ الى ١٢]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)
هذا تعديد نعمة الله في المطر، وقوله وَمِنْهُ شَجَرٌ أي يكون منه بالتدريج، إذ يسقي الأرض فينبت
381
عن ذلك السقي الشجر، وهذا من التجوز، كقول الشاعر: [الرجز] أسنمة الآبال في ربابه وكما سمى الآخر العشب سماء، في قوله: [الوافر]
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
قال أبو إسحاق: يقال لكل ما نبت على الأرض شجر، وقال عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ. وتُسِيمُونَ معناه ترعون أنعامكم وسومها من الرعي وتسرحونها، ويقال للأنعام السائمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفي سائمة الغنم الزكاة، يقال أسام الرجل ماشيته إسامة إذا أرسلها ترعى، وسومها أيضا وسامت هي، ومن ذلك قول الأعشى:
ومشى القوم بالأنعام إلى الرّو حى وأعيى المسيم أين المساق
ومنه قول الآخر: [الكامل]
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله أولى لك ابن مسيمة الأجمال
أي راعية للأجمال وفسر المتأولون بترعون، وقرأ الجمهور «ينبت» بالياء على معنى ينبت الله، يقال نبت الشجر وأنبته الله، وروي أنبت الشجر بمعنى نبت، وكان الأصمعي يأبى ذلك ويتمم قصيدة زهير التي فيها: حتى إذا أنبت البقل، وقرأ أبو بكر عن عاصم، «ننبت» بنون العظمة، وخص عز وجل ذكر هذه الأربعة لأنها أشرف ما ينبت وأجمعها للمنافع، ثم عم بقوله مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، ثم أحال القول على الفكرة في تصاريف النبات والأشجار وهي موضع عبر في ألوانها واطراد خلقها وتناسب ألطافها، فسبحان الخلاق العليم. وقوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ الآية، قرأ الجمهور بإعمال سَخَّرَ في جميع ما ذكر ونصب «مسخرات» على الحال المؤكدة، كما قال تعالى: هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [فاطر: ٣١] وكما قال الشاعر: [البسيط] أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ونحو هذا وقرأ ابن عامر «والشمس والقمر والنجوم مسخرات» برفع هذا كله، وقرأ حفص عن عاصم «والنجوم مسخرات بأمره» بالرفع ونصب ما قبل ذلك، والمعنى في هذه الآية أن هذه المخلوقات مسخرات على رتبة قد استمر بها انتفاع البشر من السكون بالليل والسعي في المعايش وغير ذلك بالنهار، وأما منافع الشمس والقمر فأكثر من أن تحصى، وأما النجوم فهدايات، وبهذا الوجه عدت من جملة النعم على بني آدم، ومن النعمة بها ضياؤها أحيانا، قال الزجاج: وعلم عدد السنين والحساب بها.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة بن مصرف «والرياح مسخرات» في موضع «النجوم»، ثم قال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لعظم الأمر لأن كل واحد مما ذكر آية في نفسه لا يشترك مع الآخر، وقال في الآية قبل الآية لأن شيئا واحدا يعم تلك الأربعة وهو النبات، وكذلك
382
في ذكر ما ذَرَأَ [النحل: ١٣] ليسارته بالإضافة، وأيضا ف «آية» بمعنى «آيات» واحد يراد به الجمع.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٣ الى ١٥]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥)
ذَرَأَ معناه بث ونشر، والذرية من هذا في أحد الأقوال في اشتقاقها، وقوله أَلْوانُهُ معناه أصنافه، كما تقول هذه ألوان من التمر ومن الطعام، ومن حيث كانت هذه المبثوثات في الأرض أصنافا فأعدت في النعمة وظهر الانتفاع بها أنه على وجوه، ولا يظهر ذلك من حيث هي متلونة حمرة وصفرة وغير ذلك، ويحتمل أن يكون التنبيه على اختلاف الألوان حمرة وصفرة والأول أبين. وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ الآية تعديد نعم، وتسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله للركوب والإرفاق وغيره، والْبَحْرَ الماء الكثير ملحا كان أو عذبا، كله يسمى بحرا، والْبَحْرَ هنا اسم جنس، وإذا كان كذلك فمنه أكل اللحم الطري ومنه «استخراج الحلية»، و «أكل اللحم» يكون من ملحه وعذبه، وإخراج الحلية إنما يكون فيما عرف من الملح فقط، ومما عرف من ذلك اللؤلؤ والمرجان والصدف والصوف البحري، وقد يوجد في العذب لؤلؤ لا يلبس إلا قليلا، وإنما يتداوى به، ويقال إن في الزمرد بحريا وقد خطىء الهذلي في وصف الدرة. [الطويل]
فجاء بها من درة لطمية على وجهها ماء الفرات يدوم
فجعلها من الماء الحلو.
قال القاضي أبو محمد: وتأمل أن قوله يخرج على أنه وصف بريقها ومائيتها فشبهه بماء الفرات، ولم يذهب إلى الغرض الذي خطىء فيه، و «اللحم الطري»، و «الحلية» ما تقدم، والْفُلْكَ هنا جمع، ومَواخِرَ جمع ماخرة، والمخر في اللغة الصوت الذي يكون من هبوب الريح على شيء يشق أو يصعب في الجملة الماء فيترتب منه أن يكون من السفينة ونحوها وهو في هذه الآية من السفن، ويقال للسحاب بنات مخر تشبيها، إذ في جريها ذلك الصوت الذي هو عن الريح والماء الذي في السحاب، وأمرها يشبه أمر البحر على أن الزجاج قد قال: بنات المخر سحاب بيض لا ماء فيها، وقال بعض اللغويين المخر في كلام العرب الشق يقال: مخر الماء الأرض.
قال القاضي أبو محمد: فهذا بين أن يقال فيه للفلك مَواخِرَ، وقال قوم مَواخِرَ معناه تجيء وتذهب بريح واحدة، وهذه الأقوال ليست تفسير اللفظة، وإنما أرادوا أنها مواخر بهذه الأحوال، إذ هي موضع النعمة المعددة، إذ نفس كون الفلك ماخرة لا نعمة فيه، وإنما النعمة في مخرها بهذه الأحوال في
التجارات والسفر فيها وما يمنح الله فيها من الأرباح والمن، وقال الطبري: المخر في اللغة صوت هبوب الريح ولم يقيد ذلك بكون في ماء، وقال إن من ذلك قول واصل مولى ابن عيينة إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح أي لينظر في صوتها في الأجسام من أين تهب، فيتجنب استقبالها لئلا ترد عليه بوله، وقوله وَلِتَبْتَغُوا عطف على تأكلوا، وهذا ذكر نعمة لها تفاصيل لا تحصى، فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح، وهذه ثلاثة أسباب في تسخير البحر، وقوله وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ الآية، قال المتأولون أَلْقى بمعنى خلق وجعل.
قال القاضي أبو محمد: وهي عندي أخص من خلق وجعل، وذلك أن أَلْقى تقتضي أن الله أحدث الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن الحسن عن قيس بن عباد، أن الله تعالى لما خلق الأرض، وجعلت تمور، فقالت الملائكة ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا، فأصبحت ضحى وفيها رواسيها. و «الرواسي» الثوابت، رسا الشيء يرسو إذا ثبت، ومنه قول الشاعر في صفة الوتد:
وأشعث أرسته الوليدة بالفهد وأَنْ مفعول من أجله، و «الميد» الاضطراب، وقوله أَنْهاراً منصوب بفعل مضمر تقديره وجعل أو وخلق أنهارا.
قال القاضي أبو محمد: وإجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص ل أَلْقى ولو كانت أَلْقى بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار، و «السبل» الطرق، وقوله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ في مشيكم وتصرفكم في السبل، ويحتمل لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بالنظر في هذه المصنوعات على صانعها، وهذا التأويل هو البارع، أي سخر وألقى وجعل أنهارا وسبلا لعل البشر يعتبر ويرشد ولتكون علامات.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٦ الى ٢١]
وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠)
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
عَلاماتٍ نصب على المصدر، أي فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها وَعَلاماتٍ أي عبرة وإعلاما في كل سلوك، فقد يهتدى بالجبال والأنهار والسبل، واختلف الناس في معنى قوله وَعَلاماتٍ على أن الأظهر عندي ما ذكرت، فقال ابن الكلبي «العلامات» الجبال، وقال إبراهيم النخعي ومجاهد:
«العلامات» النجوم، ومنها ما سمي علامات ومنها ما يهتدى به، وقال ابن عباس: «العلامات» معالم الطرق بالنهار، والنجوم هداية الليل.
384
قال القاضي أبو محمد: والصواب إذا قدرنا الكلام غير معلق بما قبله أن اللفظة تعم هذا وغيره، وذلك أن كل ما دل على شيء وأعلم به فهو علامة، وأحسن الأقوال المذكورة، قول ابن عباس رضي الله عنه: لأنه عموم في المعنى فتأمله، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه سمع بعض أهل العلم بالمشرق يقول:
إن في بحر الهند الذي يجرى فيه من اليمن إلى الهند حيتانا طوالا رقاقا كالحيات في التوائها وحركتها وألوانها، وإنها تسمى علامات، وذلك أنها علامة الوصول إلى بلد الهند، وأمارة إلى النجاة والانتهاء إلى الهند لطول ذلك البحر وصعوبته، وإن بعض الناس قال: إنها التي أراد الله تعالى في هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: قال أبي رضي الله عنه: وأما من شاهد تلك العلامات في البحر المذكور وعاينها فحدثني منهم عدد كثير، وقرأ الجمهور «وبالنجم» على أنه اسم الجنس، وقرأ يحيى بن وثاب «وبالنّجم» بضم النون والجيم ساكنة على التخفيف من ضمها، وقرأ الحسن «وبالنّجم» بضم النون وذلك جمع، كسقف وسقف، ورهن ورهن، ويحتمل أن يراد وبالنجوم، فحذفت الواو.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي توجيه ضعيف، وقال الفراء: المراد الجدي والفرقدان. وقال غيره: المراد القطب الذي لا يجري، وقال قوم: غير هذا، وقال قوم: هو اسم الجنس وهذا هو الصواب، ثم قررهم على التفرقة بين من يخلق الأشياء ويخترعها وبين من لا يقدر على شيء من ذلك، وعبر عن الأصنام ب «من» لوجهين، أحدهما أن الآية تضمنت الرد على جميع من عبد غير الله، وقد عبرت طوائف من تقع عليه العبارة ب «من»، والآخر أن العبارة جرت في الأصنام بحسب اعتقاد الكفرة فيها في أن لها تأثيرا وأفعالا، ثم وبخهم بقوله أَفَلا تَذَكَّرُونَ، وقوله وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي إن حاولتم إحصاءها وحصرها عددا حتى لا يشذ شيء منها لم تقدروا على ذلك، ولا اتفق لكم إحصاؤها إذ هي في كل دقيقة من أحوالكم. و «النعمة» هنا مفردة يراد بها الجمع، وبحسب العجز عن عد نعم الله يلزم أن يكون الشاكر لها مقصرا عن بعضها، فلذلك قال عز وجل إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي تقصيركم في الشكر عن جميعها، نحا هذا المنحى الطبري، ويرد عليه أن نعمة الله تعالى في قول العبد: الحمد لله رب العالمين مع شروطها من النية والطاعة يوازي جميع النعم، ولكن أين قولها بشروطها؟ والمخاطبة بقوله وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها عامة لجميع الناس، وقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ الآية متصلة بمعنى ما قبله، أي أن الله لغفور في تقصيركم عن شكر ما لا تحصونه من نعم الله، وأن الله تعالى يعلم سركم وعلنكم، فيغني ذلك عن إلزامكم شكر كل نعمة، هذا على قراءة من قرأ «تسرون» بالتاء مخاطبة للمؤمنين، فإن جمهور القراء قرأ «تسرون» بالتاء من فوق «وتعلنون» و «تدعون» كذلك، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأبي جعفر ومجاهد على معنى قل يا محمد للكفار، وقرأ عاصم «تسرون» و «تعلنون» بالتاء من فوق و «يدعون» بياء من تحت على غيبة الكفار، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن، وروى هبيرة عن حفص عن عاصم، كل ذلك بالياء على غيبة الكفار، وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم كل ذلك بالتاء من فوق، وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله «يعلم الذي تبدون وما تكتمون وتدعون» بالتاء من فوق في الثلاثة، و «تدعون معناه تدعونه إلها، وعبر عن الأصنام ب الَّذِينَ على ما قدمنا من أن ذلك يعم الأصنام وما عبد من دون الله وغيرها، وقوله تعالى: لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أجمع عبارة في نفي أحوال
385
الربوبية عنهم، وقرأ محمد اليماني «والذين يدعون» بضم الياء وفتح على ما لم يسم. وأَمْواتٌ يراد به الذين يدعون من دون الله ورفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هم أموات، ويجوز أن يكون خبرا لقوله وَالَّذِينَ بعد خبر في قوله لا يَخْلُقُونَ ووصفهم بالموت مجازا. وإنما المراد لا حياة لهم، فشبهوا بالموت، وقوله غَيْرُ أَحْياءٍ أي لم يقبلوا حياة قط، ولا اتصفوا بها.
قال القاضي أبو محمد: وعلى قراءة من قرأ «والذين يدعون» فالياء على غيبة الكفار، يجوز أن يراد بالأموات الكفار الذين ضميرهم في «يدعون»، شبههم بالأموات غير الأحياء من حيث هم ضلال غير مهتدين، ويستقيم على هذا فيهم قوله وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ و «البعث» هنا هو الحشر من القبور، وأَيَّانَ ظرف زمان مبني، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «إيان» بكسر الهمزة، والفتح فيها والكسر لغتان، وقالت فرقة: وَما يَشْعُرُونَ أي الكفار أَيَّانَ يُبْعَثُونَ الضميران لهم، وقالت فرقة: وما يشعر الأصنام أيان يبعث الكفار.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون الضميران للأصنام، ويكون البعث الإثارة، كما تقول بعثت النائم من نومه إذا نبهته، وكما تقول بعث الرامي سهمه، فكأنه وصفهم بغاية الجمود أي وإن طلبت حركاتهم بالتحريك لم يشعروا لذلك.
قال القاضي أبو محمد: وعلى تأويل من يرى الضمير للكفار ينبغي أن يعتقد في الكلام الوعيد، وما يشعر الكفار متى يبعثون إلى التعذيب، ولو اختصر هذا المعنى لم يكن في وصفهم بأنهم «لا يشعرون وأيان يبعثون» طائل، لأن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك هم في الجهل بوقت البعث، وذكر بعض الناس أن قوله أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ظرف لقوله إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [النحل: ٢٢] وأن الكلام تم في قوله وَما يَشْعُرُونَ، ثم أخبر عن يوم القيامة أن الإله فيه واحد وهذا توعد.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٢ الى ٢٥]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥)
لما تقدم وصف الأصنام جاء الخبر الحق بالوحدانية، وهذه مخاطبة لجميع الناس معلمة بأن الله تعالى متحد وحدة تامة لا يحتاج لكمالها إلى مضاف إليها، ثم أخبر عن إنكار قلوب الكافرين وأنهم يعتقدون ألوهية أشياء أخر، ويستكبرون عن رفض معتقدهم فيها، واطراح طريقة آبائهم في عبادتها، ووسمهم بأنهم لا يؤمنون بالآخرة إذ هي أقوى رتب الكفر، أعني الجمع بين التكذيب بالله تعالى وبالبعث، لأن كل مصدق يبعث فمحال أن يكذب بالله، وقوله لا جَرَمَ عبرت فرقة من النحويين عن معناها بلا بد
ولا محالة، وقالت فرقة: معناها حق أن الله، ومذهب سيبويه أن لا، نفي لما تقدم من الكلام، وجَرَمَ معناه حق ووجب، ونحو هذا، هذا هو مذهب الزجاج، ولكن مع مذهبهما لا ملازمة ل جَرَمَ لا تنفك هذه من هذه، وفي جَرَمَ لغات قد تقدم ذكرها في سورة هود، وأنشد أبو عبيدة: / جرمت فزارة/ وقال معناها حقت عليهم وأوجبت أن يغضبوا، وأَنَّ على مذهب سيبويه فاعلة ب جَرَمَ، وقرأ الجمهور «أن»، وقرأ عيسى الثقفي «إن» بكسر الألف على القطع، قال يحيى بن سلام والنقاش: المراد هنا بما يسرون مشاورتهم في دار الندوة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عام في الكافرين والمؤمنين، فأخذ كل واحد منهم بقسطه، وفي الحديث «لا يدخل الجنة وفي قلبه مثقال حبة من كبر»، وفيه «أن الكبر منع الحق وغمص الناس». ويروى عن الحسن بن علي أنه كان يجلس مع المساكين ويحدثهم، ثم يقول إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وروي في الحديث «أنه من سجد لله سجدة من المؤمنين فقد برىء من الكبر». وقوله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ الآية، الضمير في لَهُمْ لكفار مكة، ويقال إن سبب الآية كان النضر بن الحارث، سافر عن مكة إلى الحيرة وغيرها، وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال ككليلة ودمنة، وأخبار السندباد، ورستم، فجاء إلى مكة، فكان يقول: إنما يحدث محمد بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه، وقوله ماذا يجوز أن تكون «ما» استفهاما، و «ذا» بمعنى الذي، وفي أَنْزَلَ ضمير عائد، ويجوز أن يكون «ما» و «ذا» اسما واحدا مركبا، كأنه قال: أي شيء وقوله أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ليس بجواب على السؤال لأنهم لم يريدوا أنه نزل شيء ولا أن تم منزلا، ولكنهم ابتدوا الخبر بأن هذه أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وإنما الجواب على السؤال، قول المؤمنين في الآية المستقبلة خَيْراً [النحل: ٣٠] وقولهم: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ إنما هو جواب بالمعنى، فأما على السؤال وبحسبه فلا، واللام في قوله لِيَحْمِلُوا يحتمل أن تكون لام العاقبة لأنهم لم يقصدوا بقولهم أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «ليحملوا الأوزار»، ويحتمل أن يكون صريح لام كي، على معنى قدر هذا، ويحتمل أن تكون لام الأمر، على معنى الحتم عليهم بذلك، والصغار الموجب لهم، و «الأوزار» الأثقال، وقوله وَمِنْ للتبعيض، وذلك أن هذا الواهن المضل يحمل وزر نفسه كاملا ويحمل وزرا من وزر كل مضل بسببه ولا تنقص أوزار أولئك، وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ يجوز أن يريد بها المضل أي أضل بغير برهان قام عنده، ويجوز أن يريد بِغَيْرِ عِلْمٍ من المقلدين الذين يضلون، ثم استفتح الله تعالى الإخبار عن سوء ما يتحملونه للآخرة، وأسند الطبري وغيره في معنى هذه الآية حديثا، نصه «أيما داع دعا إلى ضلالة فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء» وساءَ فعل مسند إلى ما، ويحتاج في ذلك هنا إلى صلة.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧)
387
قال ابن عباس وغيره من المفسرين: الإشارة ب الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى نمرود الذي بنى صرحا ليصعد فيه إلى السماء على زعمه، فلما أفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش، بعث الله عليه رمحا فهدمته، «وخر سقفه» عليه وعلى أتباعه، وقيل: جبريل هدمه بجناحه وألقى أعلاه في البحر وانحقف من أسلفه، وقالت فرقة أخرى: المراد ب الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ونزلت فيه عقوبة من الله تعالى، وقوله على هذا فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ إلى آخر الآية، تمثيل وتشبيه، أي حالهم بحال من فعل به هذا، وقالت فرقة: المراد بقوله فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أي جاءهم العذاب من قبل السماء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ينحو إلى اللعن، ومعنى قوله مِنْ فَوْقِهِمْ رفع الاحتمال في قوله فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ فإنك تقول انهدم على فلان بناؤه وهو ليس تحته، كما تقول: انفسد عليه متاعه، وقوله مِنْ فَوْقِهِمْ ألزم أنهم كانوا تحته. وقوله فَأَتَى أي أتى أمر الله وسلطانه، وقرأ الجمهور «بنيانهم»، وقرأت فرقة «بنيتهم»، وقرأ جعفر بن محمد «بيتهم»، وقرأ الضحاك «بيوتهم»، وقرأ الجمهور «السقف» بسكون القاف، وقرأت فرقة بضم القاف وهي لغة فيه، وقرأ الأعرج «السّقف» بضم السين والقاف، وقرأ مجاهد «السّقف» بضم السين وسكون القاف، وقوله ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ الآية، ذكر الله تعالى في هذه الآية المتقدمة حال هؤلاء الماكرين في الدنيا، ثم ذكر في هذه حالهم في الآخرة وقوله يُخْزِيهِمْ لفظ يعم جميع المكاره التي تنزل بهم، وذلك كله راجع إلى إدخالهم النار، وهذا نظير قوله رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: ١٩٢]. وقوله أَيْنَ شُرَكائِيَ توبيخ لهم وأضافهم إلى نفسه في مخاطبة الكفار أي على زعمكم ودعواكم، قال أبو علي: وهذا كما قال الله تعالى حكاية ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: ٤٩] وكما قال يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ [الزخرف: ٤٩].
قال القاضي أبو محمد: والإضافات تترتب معقولة وملفوظا بأرق سبب، وهذا كثير في كلامهم، ومنه قول الشاعر:
إذا قلت قدني قال تالله حلفة لتغني عني ذا إنائك أجمعا
فأضاف الإناء إلى حابسه، وقرأ البزي عن ابن كثير «شركاي» بقصر الشركاء، وقرأت فرقة «شركاءي» بالمد وياء ساكنة، وتُشَاقُّونَ معناه تحاربون وتحارجون، أي تكون في شق والحق في شق، وقرأ الجمهور «تشاقون» بفتح النون، وقرأ نافع وحده بكسر النون، ورويت عن الحسن بخلاف وضعف هذه القراءة أبو حاتم، وقد تقدم القول في مثله في الحجر في تُبَشِّرُونَ [الحجر: ٥٤]، وقرأت فرقة «تشاقونّي» بشد النون وياء بعدها، والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هم الملائكة فيما قال بعض المفسرين، وقال يحيى بن سلام: هم المؤمنون وهذا الخطاب منهم يوم القيامة.
388
قال القاضي أبو محمد: والصواب أن يعم جميع من آتاه الله علم ذلك من جميع من حضر الموقف من ملك أو إنسي، وغير ذلك، وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠)
الَّذِينَ نعت للكافرين في قول أكثر المتأولين، ويحتمل أن يكون الَّذِينَ مرتفعا بالابتداء منقطعا مما قبله، وخبره في قوله فَأَلْقَوُا السَّلَمَ فزيدت الفاء في الخبر، وقد يجيء مثل هذا، والْمَلائِكَةُ يريد القابضين لأرواحهم، وقوله ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ حال، والسَّلَمَ هنا الاستسلام، أي رموا بأيديهم وقالوا ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ فحذف قالوا لدلالة الظاهر عليه، قال الحسن: هي مواطن بمرة يقرون على أنفسهم كما قال شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
[الأنعام: ١٣] ومرة يجحدون كهذه الآية، ويحتمل قولهم: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وجهين، أحدهما أنهم كذبوا وقصدوا الكذب اعتصاما منهم به، على نحو قولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣]، والآخر أنهم أخبروا عن أنفسهم بذلك على ظنهم أنهم لم يكونوا يعملون سوءا، فأخبروا عن ظنهم بأنفسهم، وهو كذب في نفسه.
وعَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وعيد وتهديد، وظاهر الآية أنها عامة في جميع الكفار، وإلقاؤهم السلم ضد مشافهتهم قبل، وقال عكرمة: نزلت في قوم من أهل مكة آمنوا بقلوبهم ولم يهاجروا فأخرجهم كفار مكة مكرهين إلى بدر، فقتلوا هنالك فنزلت فيهم هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وإنما اشتبهت عليه بالآية الأخرى التي نزلت في أولئك باتفاق من العلماء، وعلى هذا القول يحسن قطع الَّذِينَ ورفعه بالابتداء فتأمله والقانون أن بَلى تجيء بعد النفي ونعم تجيء بعد الإيجاب، وقد تجيء بعد التقرير، كقوله أليس كذا ونحوه، ولا تجيء بعد نفي سوى التقرير، وقرأ الجمهور «تتوفاهم» بالتاء فوق، وقرأ حمزة «يتوفاهم» بالياء وهي قراءة الأعمش، قال أبو زيد: أدغم أبو عمرو بن العلاء السلم «ما»، وقوله فَادْخُلُوا من كلام الذي يقول بَلى، وأَبْوابَ جَهَنَّمَ مفضية إلى طبقاتها التي هي بعض على بعض، و «الأبواب» كذلك باب على باب، وخالِدِينَ حال، واللام في قوله فَلَبِئْسَ لام التأكيد.
قال القاضي أبو محمد: وذكر سيبويه، رحمه الله، وهو إجماع النحويين قال: ما علمت أن لام التأكيد لا تدخل على الفعل الماضي وإنما تدخل عليه لام القسم لكن دخلت على «بئس» لما لم تتصرف أشبهت الأسماء وبعدت عن حال الفعل من جهة أنها لا تدخل على زمان، و «المثوى» موضع الإقامة، ونعم
وبئس إنما تدخلان على معرف بالألف واللام أو مضاف إلى معرف بذلك، والمذموم هنا محذوف، تقديره بئس المثوى مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ، و «المتكبر» هنا هو الذي أفضى به كبره إلى الكفر، وقوله وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الآية، لما وصف تعالى مقالة الكفار الذين قالوا أساطير الأولين، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكل فريق ما يستحق لتتباين المنازل بين الكفر والإيمان، وماذا تحتمل ما ذكر في التي قبلها، وقولهم خَيْراً جواب بحسب السؤال، واختلف المتأولون في قوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا إلى آخر الآية، فقالت فرقة: هو ابتداء كلام من الله مقطوع مما قبله، لكنه بالمعنى وعد متصل بذكر إحسان المتقين في مقالتهم، وقالت فرقة: هو من كلام الذين قالُوا خَيْراً وهو تفسير للخير الذي أنزل الله في الوحي على نبينا خبرا أن من أحسن في الدنيا بطاعة فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة بدخول الجنة، وروى أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة». وقد تقدم القول في إضافة «الدار» إلى الآخرة وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يحتمل أن يرتفع على خبر ابتداء مضمر بتقدير هي جنات عدن، ويحتمل أن يرتفع بقوله وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: ٣٠] جَنَّاتُ عَدْنٍ ويحتمل أن يكون التقدير، لهم جنات عدن، ويحتمل أن يكون جَنَّاتُ مبتدأ وخبره يَدْخُلُونَها، وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن «جنات» بالنصب، وهذا نحو قولهم زيد ضربته، وقرأ جمهور الناس «يدخلونها»، وقرأ إسماعيل عن نافع «يدخلونها» بضم الياء وفتح الخاء، ولا يصح هذا عن نافع، ورويت عن أبي جعفر وشيبة بن نصاح، وقوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ في موضع الحال وباقي الآية بين. وقرأ الجمهور «تتوفاهم» بالتاء، وقرأ الأعمش «يتوفاهم» بالياء من تحت، وفي مصحف ابن مسعود «توفاهم» بتاء واحدة في الموضعين، وطَيِّبِينَ عبارة عن صلاح حالهم واستعدادهم للموت، وهذا بخلاف ما قال في الكفرة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النحل: ٢٨]، والطيب الذي لا خبث معه، ومنه قوله تعالى طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: ٧٣] وقول الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ، بشارة من الله تعالى، وفي هذا المعنى أحاديث صحاح يطول ذكرها وقوله بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بما كان في أعمالكم من تكسبكم، وهذا على التجوز، علق دخولهم الجنة بأعمالهم من حيث جعل الأعمال أمارة لإدخال العبد الجنة، ويعترض في هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة أحد بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» وهذه الآية ترد بالتأويل إلى معنى الحديث.
قال القاضي أبو محمد: ومن الرحمة والتغمد، أن يوفق الله العبد إلى أعمال برة، ومقصد الحديث نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥)
ْظُرُونَ
معناه ينتظرون، ونظر متى كانت من رؤية العين فإنما تعديها العرب ب «إلى»، ومتى لم تتعد ب «إلى» فهو بمعنى انتظر، كما قال امرؤ القيس:
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
ومنه قوله تعالى حكاية انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نور [الحديد: ١٣] وقد جاء شاذا نظرت بمعنى الرؤية متعديا بغير إلى كقول الشاعر:
باهرات الجمال والحسن ينظر ن كما تنظر الأراك الظباء
وقرأ الجمهور «تأتيهم» بالتاء من فوق، وقرأ حمزة والكسائي «يأتيهم» بالياء، وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة والأعمش، ومعنى الكلام أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ظالمي أنفسهم، وقوله وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
وعيد يتضمن قيام الساعة أو عذاب الدنيا، ثم ذكر تعالى أن هذا كان فعل أسلافهم من الأمم، أي فعوقبوا ولم يكن ذلك ظلما لأنه لم يوضع ذلك العقاب في غير موضعه، ولكن ظلموا أنفسهم بأن وضعوا كفرهم في جهة الله وميلهم إلى الأصنام والأوثان، فهذا وضع الشيء في غير موضعه، أي آذوها بنفس فعلهم، وإن كانوا لم يقصدوا ظلمها ولا إذايتها، وقوله فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي جزاء ذلك في الدنيا والآخرة. وَحاقَ معناه نزل وأحاط، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر من الكلام، تقديره جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا الآية، جدل من الكفار، وذلك أن أكثر الكفار يعتقدون وجود الله تعالى وأنه خالقهم ورازقهم، فإن كان أهل هذه الآية من هذا الصنف فكأنهم قالوا يا محمد: نحن من الله بمرىء في عبادة الأوثان لتنفع وتقرب زلفى، ولو كره الله فعلنا لغيره منذ مدة، إما بإهلاكنا وإما بهدايتنا، وكان من الكفار فريق لا يعتقد وجود الله تعالى، فإن كان أهل هذه الآية من هذا الصنف فكأنهم أخذوا الحجة على النبي ﷺ من قوله، أي إن الرب الذي تثبته يا محمد وهو على ما تصفه يعلم ويقدر لا شك أنه يعلم حالنا، ولو كرهها لغيرها، والرد على هذين الفريقين هو في أن الله تعالى ينهى عن الكفر وقد أراده بقوم، وإنما نصب الأدلة وبعث الرسل ويسر كلّا لما حتم عليه، وهذا الجدال من أي الصنفين فرضته ليس فيه استهزاء، لكن أبا إسحاق الزجاج: قال إن هذا الكلام على
جهة الهزء، فذهب أبو إسحاق رحمه الله والله أعلم إلى أن الطائفة التي لا تقول بإله ثم أقامت الحجة من مذهب خصمها كأنها مستهزئة في ذلك، وهذا جدل محض، والرد عليه كما ذكرناه وقوله فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ يشير إلى ما ذكرناه، وقولهم وَلا حَرَّمْنا يريدون البحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك مما شرعوه، وأخبر الله تعالى أن هذه النزعة قد سبقهم الأولون من الكفار إليها، كأنه قال: والأمر ليس على ما ظنوه من أن الله تعالى إذا أراد الكفر لا يأمر بتركه، بل قد نصب الله لعباده الأدلة وأرسل الرسل منذرين وليس عليهم إلا البلاغ.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨)
لما أشار قوله تعالى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل: ٣٥] إلى إقامة الحجة حسبما ذكرناه، بين ذلك في هذه الآية، أي إنه بعث الرسل آمرا بعبادته وتجنب عبادة غيره، والطَّاغُوتَ في اللغة كل ما عبد من دون الله من آدمي راض بذلك، أو حجر أو خشب، ثم أخبر أن منهم من اعتبر وهداه الله ونظر ببصيرته، ومنهم أيضا من أعرض وكفر ف حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، وهي مؤدية إلى النار حتما، ومنه من أدته إلى عذاب الله في الدنيا، ثم أحالهم في علم ذلك على الطلب في الأرض واستقراء الأمم والوقوف على عواقب الكافرين المكذبين، وقوله إِنْ تَحْرِصْ الآية، الحرص أبلغ الإرادة في الشيء، وهذه تسلية للنبي عليه السلام أي إن حرصك لا ينفع، فإنها أمور محتومة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة ومجاهد وشبل ومزاحم الخراساني وأبو رجاء العطاردي وابن سيرين «لا يهدى» بضم الياء وفتح الدال، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «لا يهدي» بفتح الياء وكسر الدال، وهي قراءة ابن المسيب وابن مسعود وجماعة، وذلك على معنيين أي إن الله لا يهدي من قضى بإضلاله، والآخر أن العرب تقول هدي الرجل بمعنى اهتدى حكاه الفراء وفي القرآن لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى [يونس: ٣٥] وجعله أبو علي وغيره بمعنى يهتدي، وقرأت فرقة «إن الله لا يهدي» بفتح الياء وكسر الهاء والدال، وقرأت فرقة «إن الله لا يهدي» بضم الياء وكسر الدال، وهي ضعيفة، وفي مصحف أبي بن كعب، «إن الله لا هادي لمن أضل»، قال أبو علي: الراجع إلى اسم إِنْ مقدر في يُضِلُّ على كل قراءة إلا على قراءة من قرأ «يهدي» بفتح الياء وكسر الدال بمعنى يهدي الله، فإن الراجع مقدر في «يهدي»، وقوله وَما لَهُمْ ضمير على معنى «من»، وتقول العرب حرص يحرص وحرص يحرص والكسر في المستقبل هي لغة أهل
الحجاز، وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو حيوة بفتح الراء، وقرأ إبراهيم منهم، «وإن» بزيادة الواو، والضمير في قوله وَأَقْسَمُوا لكفار قريش، وذكر أن رجلا من المسلمين حاور رجلا من المشركين، فقال في حديثه:
لا والذي أرجوه بعد الموت، فقال له الكافر أو نبعث بعد الموت؟ قال: نعم، فأقسم الكافر مجتهدا في يمينه أن الله لا يبعث أحدا بعد الموت، فنزلت الآية بسبب ذلك، وجَهْدَ مصدر ومعناه فغاية جهدهم، ثم رد الله تعالى عليهم بقوله تعالى بَلى فأوجب بذلك البعث، وقوله وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدران مؤكدان، وقرأ الضحاك «بلى وعد عليه حق» بالرفع في المصدرين، وأَكْثَرَ النَّاسِ في هذه الآية الكفار المكذبون بالبعث.
قال القاضي أبو محمد: والبعث من القبور مما يجوزه العقل، وأثبته خبر الشريعة على لسان جميع النبيين، وقال بعض الشيعة إن الإشارة بهذه الآية إنما هي لعلي بن أبي طالب، وإن الله سيبعثه في الدنيا، وهذا هو القول بالرجعة، وقولهم هذا باطل وافتراء على الله وبهتان من القول رده ابن عباس وغيره.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
اللام في قوله لِيُبَيِّنَ تتعلق بما في ضمن قوله بَلى [النحل: ٣٨] لأن التقدير «بلى يبعث ليبين»، وقيل هي متعلقة بقوله وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل: ٣٦] والأول أصوب في المعنى، لأن به يتصور كذب الكفار في إنكار البعث، وقوله إِنَّما قَوْلُنا الآية، «إنما» في كلام العرب هي للمبالغة وتحقيق تخصيص المذكور، فقد تكون مع هذا حاصرة إذا دل على ذلك المعنى، كقوله تعالى إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النساء: ١٧١] وأما قول النبي ﷺ «إنما الربا في النسيئة» وقول العرب: إنما الشجاع عنترة، فبقي فيها معنى المبالغة فقط، وإِنَّما في هذه الآية هي للحصر، وقاعدة القول في هذه الآية أن تقول، إن الإرادة والأمر اللذين هما صفتان من صفات الله تعالى القديمة، هما قديمان أزليان، وإن ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد، لا إلى الإرادة، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به، لأن ذينك قديمان، فمن أجل المراد عبر ب إِذا وب نَقُولَ، ويرجع الآن على هذه الألفاظ فتوضح الوجه فيها واحدة واحدة، أما قوله لِشَيْءٍ فيحتمل وجهين: أحدهما أن الأشياء التي هي مرادة وقيل لها كُنْ، معلوم أن للوجود يأتي على جميعها بطول الزمن وتقدير الله تعالى، فلما كان وجودها حتما جاز أن تسمى أشياء وهي في حالة عدم، والوجه الثاني أن يكون قوله لِشَيْءٍ تنبيها لنا على الأمثلة التي تنظر فيها، أي إن كل ما تأخذونه من الأشياء الموجودة فإنما سبيله أن يكون مرادا وقيل له كُنْ فكان، ويكون ذلك الشيء المأخوذ من الموجودات مثالا لما يتأخر من الأمور وما تقدم وفني، فبهذا يتخلص من تسمية المعدوم شيئا، وقوله أَرَدْناهُ منزل منزلة مراد، ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أن الموجودات تجيء وتظهر شيئا بعد
شيء، فكأنه قال إذا ظهر للمراد منه، وعلى هذا الوجه يخرج قوله تعالى: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: ١٠٥]، وقوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: ١٤٠] ونحو هذا مما معناه، ويقع منكم ما رآه الله تعالى في الأزل وعلمه، وقوله أَنْ نَقُولَ منزل منزلة المصدر، كأنه قال قولنا، ولكن أَنْ مع الفعل تعطي استئنافا ليس في المصدر في أغلب أمرها، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية، وكقوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم: ٢٥] وغير ذلك، وذهب أكثر الناس إلى أن الشيء هو الذي يقال له، كالمخاطب، وكأن الله تعالى قال في الأزل لجميع ما خلق: كُنْ بشرط الوقت والصفة، وقال الزجاج لَهُ بمعنى من أجله، وهذا يمكن أن يرد بالمعنى إلى الأول، وذهب قوم إلى أن قوله أَنْ نَقُولَ مجاز، كما تقول قال برأسه فرفعه وقال بيده فضرب فلانا، ورد على هذا المنزع أبو منصور، وذهب إلى أن الأولى هو الأولى، وقرأ الجمهور «فيكون» برفع النون، وقرأ ابن عامر والكسائي هنا وفي يس، «فيكون» بنصبها، وهي قراءة ابن محيصن.
قال القاضي أبو محمد: والأول أبعد من التعقيب الذي يصحب الفاء في أغلب حالها فتأمله، وفي هذه النبذة ما يطلع منه على عيون هذه المسألة، وشرط الإيجاز منع من بسط الاعتراضات والانفصالات، والمقصود بهذه الآية إعلام منكري البعث بهوان أمره على الله وقربه في قدرته لا رب غيره.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
لما ذكر الله تعالى كفار مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت، ورد على قولهم، ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح في سبب الآية، لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية، وقالت فرقة سبب الآية أبو جندل بن سهيل بن عمرو.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأن أمر أبي جندل كان والنبي ﷺ بالمدينة، وقالت فرقة نزلت في عمار وصهيب وخباب وأصحابهم الذين أوذوا بمكة وخرجوا عنها.
قال القاضي أبو محمد: وعلى كل قول فالآية تتناول بالمعنى كل من هاجر أولا وآخرا. وقرأ الجمهور «لنبوئنهم» وقرأ ابن مسعود ونعيم بن ميسرة ونعيم بن ميسرة والربيع بن خثيم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
«لنثوينهم» وهاتان اللفظتان معناهما التقرير، فقالت فرقة: الحسنة عدة ببقعة شريفة كشف الغيب أنها كانت المدينة، وإليها كانت الإشارة بقوله حَسَنَةً وقالت فرقة: الحسنة لسان الصدق الباقي عليهم في غابر الدهر.
394
قال القاضي أبو محمد: وفي لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أو «لنثوينهم» على هذا التأويل في لسان الصدق تجوز كثير واستعارة بعيدة، وهذا على أن حَسَنَةً هي المباءة والمثوى، وأن الفعل الظاهر عامل فيها، وقال أبو الفتح: نصبها على معنى نحسن إليهم في ذلك إحسانا، وجعلت حَسَنَةً موضع إحسانا، وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل ما يستحسن أن يناله ابن آدم وتخف الاستعارة المذكورة على هذا التأويل، وفي هذا القول يدخل ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يعطي المال وقت القسمة للرجل من المهاجرين ويقول له: خذ ما وعدك الله في الدنيا، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، ثم يتلو هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: ويدخل في هذا القول النصر على العدو وفتح البلاد، وكل أمل أبلغه المهاجرون، و «أجر الآخرة» هنا إشارة إلى الجنة، والضمير في يَعْلَمُونَ عائد إلى كفار قريش، وجواب لَوْ مقدر محذوف، ومفعول يَعْلَمُونَ كذلك، وفي هذا نظر، وقوله الَّذِينَ صَبَرُوا من صفة المهاجرين الذين وعدهم الله، والصبر يجمع عن الشهوات وعلى المكاره في الله تعالى، و «التوكل» تتفاضل مراتبه، فمطيل فيه وذلك مباح حسن ما لم يغل حتى يسبب الهلاك، ومتوسط يسعى جميلا، وهذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قيدها وتوكل»، ومقصر لا نفع في تقصيره وإنما له ما قدر له، وقوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية، هذه الآية رد على كفار قريش الذين استبعدوا أن يكون البشر رسولا من الله تعالى، فأعلمهم الله تعالى مخاطبا لمحمد ﷺ أنه لم يرسل إلى الأمم إِلَّا رِجالًا. ولم يرسل ملكا ولا غير ذلك، ورِجالًا منصوب ب أَرْسَلْنا وإِلَّا إيجاب، وقرأ الجمهور بضم الياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة «يوحي» بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ عاصم من طريق حفص وحده «نوحي» بالنون وكسر الحاء، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة بن مصرف وأبي عبد الرحمن ثم قال تعالى فَسْئَلُوا، وأَهْلَ الذِّكْرِ هنا اليهود والنصارى، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن، وقال الأعمش وسفيان بن عيينة:
المراد من أسلم منهم، وقال ابن جبير وابن زيد: أَهْلَ الذِّكْرِ أهل القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان فيهما ضعف، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين بما ذكر، لأنهم يكذبون هذه الصنائف، وقال الزجاج: أَهْلَ الذِّكْرِ هنا أحبار اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، وهم في هذه النازلة خاصة إنما يخبرون بأن الرسل من البشر، وإخبارهم حجة على هؤلاء، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم ولا يتهمون لشهادة لنا لأنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو كسر حجتهم من مذهبهم، لا أنّا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء، بل الحق واضح في نفسه، وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألون ويستندون إليهم، وقوله بِالْبَيِّناتِ متعلق بفعل مضمر تقديره أرسلناهم بالبينات، وقالت فرقة الباء متعلقة ب أَرْسَلْنا في أول الآية، والتقدير على هذا وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا، ففي الآية تقديم وتأخير، وَالزُّبُرِ الكتب المزبورة، تقول زبرت ودبرت إذا كتبت، والذِّكْرَ في هذه الآية القرآن، وقوله لِتُبَيِّنَ يحتمل أن يريد لتبين بسردك نص القرآن ما نزل، ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل، وشرحك ما أشكل مما نزل، فيدخل في هذا ما بينته السنة من أمر الشريعة، وهذا قول مجاهد.
395
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨)
هذه الآية تهديد لأهل مكة، وهم المراد ب الَّذِينَ في قول الأكثر، وقال مجاهد: المراد نمرود بن كنعان، والأول أظهر، ونصب السَّيِّئاتِ يحتمل وجهين: أحدهما أن ينصب بقوله أَفَأَمِنَ وتكون السَّيِّئاتِ على هذا العقوبات التي تسوء من تنزل به، ويكون قوله أَنْ يَخْسِفَ بدلا منها. والوجه الثاني أن ينصب ب مَكَرُوا، وعدي مَكَرُوا لأنه بمعنى عملوا وفعلوا، والسَّيِّئاتِ على هذا معاصي الكفر وغيره، قاله قتادة، ثم توعدهم بما أصاب الأمم قبلهم من الخسف، وهو أن تبتلع الأرض المخسوف به ويقعد به إلى أسفل وأسند النقاش، أن قوما في هذه الأمة، أقيمت الصلاة فتدافعوا الإمامة وتصلفوا في ذلك فما زالوا كذلك حتى خسف بهم، وتَقَلُّبِهِمْ سفرهم ومحاولتهم المعايش بالسفر والرعاية ونحوها، و «المعجز» المفلت هربا كأنه عجز طالبه، وقوله عَلى تَخَوُّفٍ أي على جهة التخوف، والتخوف النقص ومنه قول الشاعر: [البسيط]
تخوف السير منها تامكا فردا... كما تخوف عود النبعة السفن
والسفن المبرد ويروى أن عمر بن الخطاب خفي عليه معنى «التخوف» في هذه الآية، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك، حتى سمع هذا البيت، ويروى أنه جاءه فتى من العرب وهو قد أشكل عليه أمر لفظة «التخوف»، فقال له يا أمير المؤمنين: إن أبي يتخوفني مالي، فقال عمر: الله اكبر أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ، ومنه قول طرفة:
وجامل خوف من نبيه... زجر المعلى أبدا والسفيح
ويروى من نبته، ومنه قول الآخر: [الوافر]
ألأم على الهجاء وكل يوم... تلاقيني من الجيران غول
تخوف غدرهم مالي وهدي... سلاسل في الحلوق لها صليل
يريد الأهاجي، ومنه قول النابغة: [الطويل]
تخوفهم حتى أذل سراتهم... بطعن ضرار بعد قبح الصفائح
قال القاضي أبو محمد: وهذا التنقص يتجه الوعيد به على معنيين: أحدهما أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف أي أفذاذا ينقصهم بذلك الشيء بعد الشيء، وهذا لا يدعي أحد أنه يأمنه، وكأن
396
هذا الوعيد إنما يكون بعذاب ما يلقون بعد الموت، وإلا فبهذا تهلك الأمم كلها، ويؤيد هذا قوله فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي إن هذه الرتبة الثالثة من الوعيد، فيها رأفة ورحمة وإمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع: والآخر أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى، ثم كذلك حتى يهلك الكل، وقالت فرقة:
«التخوف» هنا من الخوف أي يأخذهم بعد تخوف ينالهم فيعذبهم به.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القول تكلف ما، وقوله أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «أو لم يروا» بالياء على لفظ الغائب، وكذلك في العنكبوت، فهي جارية على قوله: أَوْ يَأْخُذَهُمْ، وقوله: أَوْ يَأْتِيَهُمُ وقوله: لا يَشْعُرُونَ، ورجحها الطبري، وقرأ حمزة والكسائي «أو لم تروا» بالتاء في الموضعين، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن، وذلك يحتمل من المعنى وجهين أحدهما: أن يكون على معنى قل لهم يا محمد أو لم تروا، والوجه الآخر أن يكون خطابا عاما لجميع الخلق ابتدأ به القول آنفا، وقرأ عاصم في النحل بالتاء من فوق، واختلف عنه في العنكبوت، وقوله مِنْ شَيْءٍ لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ لأن ذلك صفة لما عرض العبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل، والرؤية هنا هي رؤية القلب، ولكن الاعتبار برؤية القلب إنما تكون في مرئيات بالعين، وقرأ أبو عمرو وحده «تتفيأ» بالتاء من فوق، وهي قراءة عيسى ويعقوب، وقرأ الجمهور «يتفيأ»، قال أبو علي: إذا تقدم الفعل المنسوب إلى مثل هذا الجمع فالتذكير والتأنيث فيه حسنان، وفاء الظل رجع بعكس ما كان إلى الزوال، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها، فإذا زالت ابتدأ رجوع الظل العام، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس، فيعم، والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله فيئه لأنه لم يرجع بعد أن ذهب، وكذلك قول حميد بن ثور:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه... ولا الفيء من برد العشي تذوق
فهو على المهيع، وكذلك قول علقمة بن عبدة: [الطويل]
تتبع أفياء الظلال عشية... على طرق كأنهن سيوف
وكذلك قول امرئ القيس:
يفيء عليها الظل وأما النابغة الجعدي فقال: [الخفيف]
فسلام الإله يغدو عليهم... وفيء الفردوس ذات الظلال
فتجوز في أن جعل الفيء حيث لا رجوع، وقال رؤبة بن العجاج: يقال بعد الزوال فيء وظل، ولا يقال قبله إلا ظل فقط، ويقال فاء الظل أي رجع من النقصان إلى الزيادة، ويعدى فاء بالهمزة كقوله تعالى:
ما أَفاءَ اللَّهُ [الحشر: ٧] ويعدى بالتضعيف فيقال أفاءه الله وفياه الله وتفيأ مطاوع فيا، ولا يقال الفيء إلا من بعد الزوال في مشهور كلام العرب، لكن هذه الآية الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره، فكأن الآية
397
جارية في بعض التأويلات على تجوز كلام العرب واقتضائه وضع تتفيأ مكان تتنقل وتميل، وأضاف الظلال إلى ضمير مفرد حملا على لفظ ما أو لفظ شيء، وهو في المعنى لجمع، وقرأ الثقفي «ظلله» بفتح اللام الأولى وضم الثانية وضم الظاء، وقوله عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ أفرد اليمين وهو يراد به الجمع، فكأنه للجنس، والمراد عن الأيمان والشمائل، كما قال الشاعر: [جرير]
الواردون ونيم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وكما قال الآخر:
ففي الشامتين الصخر إن كان هدني رزية شبلي مخدر في الضراغم
والمنصوب للعبرة في هذه الآية هو كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على جهة الاستعارة لغير البشر، أي تقدره ذا يمين وشمال، وتقدره يستقبل أي جهة شئت، ثم تنظر ظله فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال، وذلك في كل أقطار الدنيا، فهذا وجه يعمم لك ألفاظ الآية، وفيه تجوز واتساع، ومن ذهب إلى أن الْيَمِينِ من غدوة النهار إلى الزوال ثم يكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال، وهو قول قتادة وابن جريج، فإنما يترتب له ذلك فيما قدره مستقبل الجنوب، والاعتبار في هذه الآية عندي إنما هو المستقبل الجنوب، وما قال بعض الناس من أن الْيَمِينِ أول وقعة للظل بعد الزوال، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمال، ولذلك جمع الشَّمائِلِ، وأفرد الْيَمِينِ، فتخليط من القول يبطل من جهات، وقال ابن عباس إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا، ثم بعث الله الشمس عليه دليلا فقبض إليه الظل.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا فأول ذرور الشمس فالظل عن يمين مستقبل الجنوب ثم يبدأ الانحراف فهو عن الشمائل لأنها حركات كثيرة، وظلال متقطعة، فهي شمائل كثيرة، وكأن الظل عن اليمين متصلا واحدا عاما لكل شيء، وفي هذا القول تجوز في تفيأ، وعلى ما قدرنا من استقبال الجنوب يكون الظل أبدا مندفعا عن اليمين إلى الزوال، فإذا تحرك بعد فارق الأيمان جملة وصار اندفاعه عن الشمائل، وقالت فرقة «الظلال» هنا الأشخاص هي المراد أنفسها، والعرب تعبر أحيانا عن الأشخاص بالظل، ومنه قول عبدة بن الطيب: [البسيط]
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية وفار للقوم باللحم المراجيل
وإنما تنصب الأخبية، ومنه قول الآخر: [الطويل] تتبع أفياء الظلال عشية أي أفياء الأشخاص.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله محتمل غير صريح، وإن كان أبو علي قد قدره، واختلف المتأولون في هذا السجود فقالت فرقة هو سجود عبادة حقيقة، وذكر الطبري عن الضحاك قال إذا زالت
398
الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت، وقال مجاهد إنما تسجد الظلال لا الأشخاص وقالت فرقة، منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظل ودورانها بالسجود، وكما يقال للمشير برأسه على جهة الخضوع والطاعة وميلان الظل ساجد ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف
والداخر المتصاغر المتواضع، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
فلم يبق إلا داخر في مخيّس ومنجحر في غير أرضك في جحر
قوله عز وجل
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣)
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
وقعت ما في هذه الآية لما يعقل، قال الزجاج: قوله ما فِي السَّماواتِ يعم ملائكة السماء وما في السحاب وما في الجو من حيوان، وقوله وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ بين، ثم ذكر ملائكة الأرض في قوله وَالْمَلائِكَةُ ويحتمل أن يكون قوله: وَالْمَلائِكَةُ هو الذي يعم «السماوات والأرض»، وما قبل ذلك لا يدخل فيه ملك، إنما هو للحيوان أجمع، وقوله يَخافُونَ رَبَّهُمْ عام لجميع الحيوان، وقوله مِنْ فَوْقِهِمْ يحتمل معنيين: أحدهما الفوقية التي يوصف بها الله تعالى فهي فوقية القدر والعظمة والقهر والسلطان، والآخر أن يتعلق قوله مِنْ فَوْقِهِمْ بقوله يَخافُونَ، أي يخافون عذاب ربهم من فوقهم، وذلك أن عادة عذاب الأمم إنما أتى من جهة فوق، وقوله وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفد من أمر الله تعالى، وقوله وَقالَ اللَّهُ الآية، آية نهي من الله تعالى عن الإشراك به ومعناها لا تتخذوا إلهين اثنين فصاعدا، بما ينصه من قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، قالت فرقة المفعول الأول ب تَتَّخِذُوا قوله إِلهَيْنِ، وقوله اثْنَيْنِ تأكيد وبيان بالعدد، وهذا معروف في كلام العرب أن يبين المعدود بذكر عدده تأكيدا، ومنه قوله إِلهٌ واحِدٌ لأن لفظ إِلهٌ يقتضي الانفراد، وقال قوم منهم: المفعول الثاني محذوف تقديره معبودا أو مطاعا ونحو هذا، وقالت فرقة: المفعول الأول اثْنَيْنِ، والثاني قوله إِلهَيْنِ، وتقدير الكلام لا تتخذوا اثنين إلهين، ومثله قوله تعالى أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [الإسراء: ٢- ٣] ففي هذه الآية على بعض الأقوال تقديم المفعول الأول ل تَتَّخِذُوا، وقوله فَإِيَّايَ منصوب بفعل مضمر تقديره
399
فارهبوا إياي فارهبون ولا يعمل فيه الفعل لأنه قد عمل في الضمير المتصل به، وقوله وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ الآية، الواو في قوله وَلَهُ عاطفة على قوله: إِلهٌ واحِدٌ، وجائز أن يكون واو ابتداء، وما عامة جميع الأشياء مما يعقل ومما لا يعقل، والسَّماواتِ هنا كل ما ارتفع من الخلق في جهة فوق، فيدخل فيه العرش والكرسي، والدِّينُ الطاعة والملك كما قال زهير في دين عمرو: وحالت بيننا فدك. أي في طاعته وملكه، و «الواصب» القائم، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقال الشاعر [أبي الأسود] :[الكامل]
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه... يوما بذم الدهر أجمع واصبا
ومنه قول حسان: [المديد]
غيرته الريح تسفي به... وهزيم رعده واصب
وقالت فرقة: هو من الوصب وهو التعب، أي وله الدين على تعبه ومشقته.
قال القاضي أبو محمد: ف «واصب» على هذا جار على النسب أي ذا وصب، كما قال: أضحى فؤادي به فاتنا، وهذا كثير، وقال ابن عباس أيضا: «الواصب» الواجب، وهذا نحو قوله: الواصب الدائم، وقوله أَفَغَيْرَ، توبيخ ولفظ استفهام ونصب «غير» ب تَتَّقُونَ، لأنه فعل لم يعمل في سوى «غير» المذكورة. والواو في قوله وَما بِكُمْ يجوز أن تكون واو ابتداء، ويجوز أن تكون واو الحال، ويكون الكلام متصلا بقول أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ، كأنه يقال على جهة التوبيخ: أتتقون غير الله وما منعم عليكم سواه، والباء في قوله بِكُمْ متعلقة بفعل تقديره وما نزل أو ألم ونحو هذا، وما بمعنى الذي، والفاء في قوله فَمِنَ اللَّهِ دخلت بسبب الإبهام الذي في ما التي هي بمعنى الذي، فأشبه الكلام الشرط، ومعنى الآية التذكير بأن الإنسان في جليل أمره ودقيقه إنما هو في نعمة الله وأفضاله، إيجاده داخل في ذلك فما بعده، ثم ذكر تعالى بأوقات المرض لكون الإنسان الجاهل يحس فيها قدر الحاجة إلى لطف الله تعالى، والضُّرَّ وإن كان يعم كل مكروه فأكثر ما يجيء عبارة عن أرزاء البدن، وتَجْئَرُونَ معناه ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرع، وأصله في جؤار الثور والبقرة وصياحها، وهو عند جهد يلحقها أو في أثر دم يكون من بقر تذبح، فذلك الصراخ يشبه به انتحاب الداعي المستغيث بالله إذ رفع صوته، ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
يراوح من صلوات الملي... ك طورا سجودا وطورا جؤارا
وأنشده أبو عبيدة:
بأبيل كلما صلى جأر والأصوات تأتي غالبا على فعال أو فعيل، وقرأ الزهري «يجرون» بفتح الجيم دون همز حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الجيم، كما خففت «تسلون» من «تسألون»، وقوله ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ قرأ
400
الجمهور «كشف»، وقرأ قتادة «كاشف»، ووجهها أنها فاعل من واحد بمعنى كشف وهي ضعيفة، وفَرِيقٌ هنا يراد به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالا من شفاء المرض وجلب الخير ودفع الضر، فهم إذا شفاهم الله عظموا أصنامهم، وأضافوا ذلك الشفاء إليها، وقوله لِيَكْفُرُوا يجوز أن يكون اللام لام الصيرورة أي فصار أمرهم ليكفروا، وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، ويجوز أن تكون لام أمر على معنى التهديد والوعيد، كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] والكفر هنا يحتمل أن يكون كفر الجحد بالله والشرك، ويؤيده قوله: بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، ويحتمل أن يكون كفر النعمة وهو الأظهر، لقوله:
بِما آتَيْناهُمْ أي بما أنعمنا عليهم، وقرأ الجمهور فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ على معنى قل لهم يا محمد، وروى أبو رافع عن النبي عليه السلام «فيمتعوا» بياء من تحت مضمومة «فسوف يعلمون» على معنى ذكر الغائب وكذلك في الروم، وهي قراءة أبي العالية، وقرأ الحسن «فتمتعوا» على الأمر «فسوف يعلمون» بالياء على ذكر الغائب، وعلى ما روى أبو رافع يكون «يمتعوا» في موضع نصب عطفا على «يكفروا» إن كانت اللام لام كي، أو نصبا بالفاء في جواب الأمر إن كانت اللام لام أمر، ومعنى التمتع في هذه الآية بالحياة الدنيا التي مصيرها إلى الفناء والزوال.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩)
الضمير في قوله وَيَجْعَلُونَ للكفار، وقوله لِما لا يَعْلَمُونَ يريد الأصنام، ومعناه لا يعلمون فيهم حجة ولا برهانا، ويحتمل أن يريد بقوله: يَعْلَمُونَ الأصنام، أي يجعلون لجمادات لا تعلم شيئا نَصِيباً، فالمفعول محذوف، ثم عبر عنهم بعبارة من يعقل بحسب مذهب الكفار الذين يسندون إليها ما يسند إلى من يعقل، وبحسب أنه إسناد منفي، وهذا كله ضعيف، و «النصيب» المشار إليه هو ما كانت العرب سنته من الذبح لأصنامها والإهداء إليها، والقسم لها من الغلات، ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام، أن يقسم لهم أنهم سيسألون على افترائهم في أن تلك السنن هي الحق الذي أمر الله به كما قال بعضهم، و «الفرية» اختلاق الكذب وقوله وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ الآية، هذا تعديد لقبح قول الكفار:
الملائكة بنات الله ورد عليهم من وجهين، أحدهما نسبة النسل إلى الله تعالى عن ذلك، والآخر أنهم نسبوا من النسل الأخس المكروه عندهم، وما في قوله ما يَشْتَهُونَ مرتفعة بالابتداء، والخبر في المجرور قبله، وأجاز الفراء أن تكون في موضع نصب عطفا على الْبَناتِ، والبصريون لا يجيزون هذا لأنه من باب ضربتني، وكان يلزم عندهم أن يكون لأنفسهم ما يشتهون، والمراد بقوله ما يَشْتَهُونَ: الذكران من الأولاد، وقوله وَإِذا بُشِّرَ لما صرح بالشيء المبشر به حسن ذكر البشارة فيه وإلا فالبشارة مطلقة لا تكون إلا في خير، وقوله ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا عبارة عن العبوس والتقطيب الذي يلحق المغموم، وقد يعلو وجه
المغموم سواد وربدة وتذهب شراقته، فلذلك يذكر له السواد، وكَظِيمٌ بمعنى كاظم كعليم وعالم، والمعنى أنه يخفي وجده وهمه بالأنثى، وقوله يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ الآية، هذا التواري الذي ذكر الله تعالى إنما هو بعد البشارة بالأنثى، وما يحكى أن الرجل منهم كان إذا أصاب امرأته الطلق توارى حتى يخبر بأحد الأمرين، فليس المراد في الآية، ويشبه أن ذلك كان إذا أخبر بسارّ خرج، وإن أخبر بسوء بقي على تواريه ولم يحتج إلى إحداثه، ومعنى يَتَوارى يتغيب، وتقدير الكلام يتوارى من القوم مدبرا أَيُمْسِكُهُ أَمْ يَدُسُّهُ؟ وقرأت فرقة «أيمسكه» على لفظ «ما أم يدسها» على معنى الأنثى، وقرأ الجحدري «أيمسكها أم يدسها» على معنى الأنثى في الموضعين، وقرأ الجمهور «على هون» بضم الهاء، وقرأ عيسى بن عمر «على هوان»، وهي قراءة عاصم الجحدري، وقرأ الأعمش «على سوء»، ومعنى الآية يدبر أيمسك هذه الأنثى على هوان يتحمله وهم يتجلد له، أم يدسها فيدفنها حية، فهو الدس في التراب، ثم استفتح تعالى بالإخبار بسوء حكمهم وفعلهم بهذا في بناتهم ورزق الجميع على الله.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
قالت فرقة مَثَلُ في هذه الآية بمعنى صفة، أي لهؤلاء صفة السوء ولله الوصف الأعلى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يضطر إليه، لأنه خروج عن اللفظ، بل قوله مَثَلُ على بابه، وذلك أنهم إذا قالوا إن البنات لله فقد جعلوا له مثلا أبا البنات من البشر، وكثرة البنات عندهم مكروه ذميم، فهو مثل السوء الذي أخبر الله تعالى أنه لهم ليس في البنات فقط، لكن لما جعلوه هم في البنات جعله هو لهم على الإطلاق في كل سوء، ولا غاية أبعد من عذاب النار، وقوله وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى على الإطلاق أيضا في الكمال المستغني، وقال قتادة: الْمَثَلُ الْأَعْلى لا إله إلا الله، وباقي الآية بين، وقوله وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ
الآية، وآخذ هو تفاعل من أخذ، كأن أحد المتؤاخذين يأخذ من الآخر، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى، أو بإذاية في جهة المخلوقين، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء، وهي لغتان وأخذ وآخذ، ويُؤاخِذُ يصح أن يكون من آخذ، وأما كونها من واخذ فبين، والضمير في عَلَيْها عائد على الأرض، وتمكن ذلك مع أنه لم يجر لها ذكر لشهرتها، وتمكن الإشارة لها كما قال لبيد في الشمس:
حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجنّ عورات البلاد ظلامها
ومنه قول تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢] ولم يجر للشمس ذكر، وقوله مِنْ دَابَّةٍ دخلت مِنْ لاستغراق الجنس، وظاهر الآية أن الله تعالى أخبر أنه لو أخذ الناس بعقاب يستحقونه
402
بظلمهم في كفرهم ومعاصيهم لكان ذلك العقاب يهلك منه جميع ما يدب على الأرض من حيوان فكأنه بالقحوط أو بأمر يصيبهم من الله تعالى، وعلى هذا التأويل قال بعض العلماء: كاد الجعل أن يهلك بذنوب بني آدم، ذكره الطبري، وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله تعالى ليهزل الحوت في الماء والطير في الهواء بذنوب العصاة»، وسمع أبو هريرة رجلا يقول: إن الظالم لا يهلك إلا نفسه، فقال أبو هريرة: بلى إن الله ليهلك الحبارى في وكرها هزلا بذنوب الظلمة، وقد نطقت الشريعة في أخبارها بأن الله تعالى أهلك الأمم بريها وعاصيها بذنوب العصاة منهم، وقالت فرقة: قوله: مِنْ دَابَّةٍ، يريد من أولئك الظلمة فقط، ويدل على هذا التخصيص، أن الله لا يعاقب أحدا بذنب أحد، واحتجت بقول الله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤] وهذا معنى آخر، وذلك أن الله تعالى لا يجعل العقوبة تقصد أحدا بسبب إذناب غيره، ولكن إذا أرسل عذابا على أمة عاصية، لم يمكن البري التخليص من ذلك العذاب، فأصابه العذاب لا بأنه له مجازاة، ونحو هذا قوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٢٥] وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال «نعم إذا كثر الخبث»، ثم لا بد من تعلق ظلم ما بالأبرياء، وذلك بترك التغيير ومداهنة أهل الظلم ومداومة جوارهم، و «الأجل المسمى» في هذه الآية هو بحسب شخص شخص، وفي معنى الآية مع أمائرها اختصار وإيجاز، وقوله ما يَكْرَهُونَ يريد البنات، وما في هذا الموضع تقع لمن يعقل من حيث هو صنف وقرأ الحسن «ألسنتهم الكذب» بسكون النون كراهية توالي الحركات، وقرأ الجمهور «الكذب» بكسر الذال، ف أَنَّ بدل منه، وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام «الكذب» بضم الكاف والذال والباء على صفة الألسنة، وأَنَّ لَهُمُ مفعول ب تَصِفُ، والْحُسْنى قال مجاهد وقتادة: الذكور من الأولاد، وهو الأسبق من معنى الآية، وقالت فرقة يريد الجنة.
قال القاضي أبو محمد: ويؤيد هذا قوله لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ ومعنى الآية على هذا التأويل يجعلون لله المكروه ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة، كما تقول لرجل أنت تعصي الله، وتقول مع ذلك أنت تنجو، أي هذا بعيد مع هذا، ثم حكم عليهم بعد ذلك بالنار، وقد تقدم القول في لا جَرَمَ، وقرأ الجمهور «أن لهم» بفتح الهمزة، وإعرابها بحسب تقدير جَرَمَ، فمن قدرها بكسب فعلهم فهو نصب، ومن قدرها يوجب فهو رفع، وقرأ الحسن وعيسى بن عمران «إن لهم» بكسر الهمزة وقرأ السبعة سوى نافع «مفرطون» بفتح الراء وخفتها، ومعناه مقدمون إلى النار والعذاب، وهي قراءة الحسن والأعرج وأصحاب ابن عباس، وقد رويت عن نافع، وهو مأخوذ من فرط الماء وهم القوم الذين يتقدمون إلى المياه لإصلاح الدلاء والأرشية، ومنه قول النبي ﷺ «أنا فرطكم على الحوض» ومنه قول القطامي:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فرّاط لورّاد
وقالت فرقة: مُفْرَطُونَ معناه مخلفون متركون في النار منسيون فيها، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي هند، وقال آخرون مُفْرَطُونَ معناه مبعدون في النار، وهذا قريب من الذي قبله، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «مفرّطون» بكسر الراء وتشديدها وفتح الفاء، ومعناه مقصرون في طاعة الله تعالى، وقد
403
روي عنه فتح الراء مع شدها، وقرأ نافع وحده «مفرطون» بكسر الراء وخفتها، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي رجاء وشيبة بن نصاح وأكثر أهل المدينة، أي يتجاوزون الحد في معاصي الله عز وجل.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٦]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦)
هذه آية ضرب مثل لهم بمن تقدم وفي ضمنها وعيد لهم وتأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله الْيَوْمَ يحتمل أن يريد يوم الإخبار بهذه الآية، وهو بعد موت أولئك الأمم المذكورة، أي لا ولي لهم منذ ماتوا واحتاجوا إلى الغوث إلا الشيطان، ويحتمل أن يريد يوم القيامة، والألف واللام فيه للعهد، أي «هو وليهم» في «اليوم» المشهور وهو وقت الحاجة والفصل، ويحتمل أن يريد فَهُوَ وَلِيُّهُمُ مدة حياتهم، ثم انقطعت ولايته بموتهم، وعبر عن ذلك بقوله الْيَوْمَ تمثيلا للمخاطبين بمدة حياتهم، كما تقول لرجل شاب تحضه على طلب العلم: يا فلان لا يدرس أحد من الناس إلا اليوم، تريد في مثل سنك هذه. فكأنه قال لهؤلاء: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ في مثل حياتكم هذه، وهي التي كانت لهم، وسائر الآية وعيد، وقوله وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يريد القرآن، وقوله لِتُبَيِّنَ لَهُمُ في موضع المفعول من أجله، وقوله وَهُدىً وَرَحْمَةً عطف عليه، كأنه قال إلا للبيان أي لأجل البيان لهم، وقوله الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ لفظ عام لأنواع كفر الكفرة من الجحد بالله تعالى، أو بالقيامة، أو بالنبوءات، أو غير ذلك، ولكن الإشارة في هذه الآية إنما هي لجحدهم الربوبية وتشريكهم الأصنام في الألوهية، يدل على ذلك أخذه بعد هذا في إثبات العبر الدالة على أن الأنعم وسائر الأفعال إنما هي من الله تعالى، لا من الأصنام. وقوله تعالى وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً الآية، لما أمره بتبيين ما اختلف فيه، نص العبر المؤدية إلى تبيين أمر الربوبية، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور لا يخالف فيها عاقل، و «حياة الأرض وموتها» استعارة وتشبيه بالحيوان، فإذ هي هامدة غبراء غير منبتة فهي كالميت، وإذ هي منبتة مخضرة مهتزة رابية فهي كالحي، وقوله يَسْمَعُونَ يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وبيانه، لأنه لا يحتاج إلى تفكر ولا نظر قلب، وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط، والْأَنْعامِ هي الأصناف الأربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز، و «العبرة» الحال المعتبر فيها، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وابن مسعود بخلاف والحسن وأهل المدينة «نسقيكم» بفتح النون من سقى يسقي، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «نسقيكم» بضم النون من أسقى يسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة، قال بعض أهل اللغة، هما لغتان بمعنى واحد، وقالت فرقة: تقول لمن تسقيه بالشفة أو في مرة واحدة سقيته وتقول لمن تعدّ سقيه أو تمنحه
شربا أسقيته، وهذا قول من قرأ «نسقيكم»، لأن ألبان الأنعام من المستمر للبشر، وأنشد من قال إنهما لغتان بمعنى، قول لبيد: [الوافر]
سقى قومي بني بدر وأسقى نميرا والقبائل من هلال
وذلك لازم لأنه لا يدعو لقومه بالقليل، وقرأ أبو رجاء «يسقيكم» بالياء أي يسقيكم الله، وقرأت فرقة «تسقيكم» بالتاء وهي ضعيفة وكذلك اختلف القراء في سورة المؤمنين وقوله مِمَّا فِي بُطُونِهِ، الضمير عائد على الجنس وعلى المذكور كما قال الشاعر: مثل الفراخ نتفت حواصله، وهذا كثير لقوله تعالى إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ [الإنسان: ٢٩] فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [المدثر: ٥٥] وقيل: إنما قال: مِمَّا فِي بُطُونِهِ، لأن الأنعام والنعم واحد فرد الضمير على معنى النعم وقالت فرقة: الضمير عائد على البعض، إذ الذكور لا ألبان لها، فكأن العبرة إنما هي في الأنعام، و «الفرث» ما ينزل إلى الأمعاء، و «السائغ» السهل في الشرب اللذيذ، وقرأت فرقة «سيّغا» بشد الياء، وقرأ عيسى الثقفي «سيغا» بسكون الياء وهي تخفيف من سيغ كميت وهين، وليس وزنهما فعلا، لأن اللفظة واوية، ففعل منها سوغ، وروي أن اللبن لم يشرق به أحد قط، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
قال الطبري: التقدير وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ ما تَتَّخِذُونَ، وقالت فرقة: التقدير وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ شيء تَتَّخِذُونَ مِنْهُ، ويجوز أن يكون قوله: وَمِنْ ثَمَراتِ، عطفا على الْأَنْعامِ [النحل: ٦٦] أي ولكم من ثمرات النخيل والأنعام عبرة، ويجوز أن يكون عطفا على مِمَّا [النحل: ٦٦]، أي ونسقيكم أيضا مشروبات من ثمرات، والسكر ما يسكر، هذا هو المشهور في اللغة، فقال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، وأراد بالسكر الخمر، وبالرزق الحسن جميع ما يشرب ويؤكل حلالا من هاتين الشجرتين وقال بهذا القول ابن جبير وإبراهيم والشعبي وأبو زيد، وقال الحسن بن أبي الحسن: ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر، وقال الشعبي ومجاهد: السكر السائغ من هاتين الشجرتين كالخل والرب والنبيذ، و «الرزق الحسن» العنب والتمر، قال الطبري: والسكر أيضا في كلام العرب ما يطعم، ورجح الطبري هذا القول، ولا مدخل للخمر فيه ولا نسخ من الآية شيء، وقال بعض الفرقة التي رأت السكر الخمر: إن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر، وفي هذه المقالة درك، لأن النسخ إنما يكون في حكم مستقر مشروع، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «حرمت الخمر
405
بعينها، والسّكر من غيرها». هكذا في الرواية الصحيحة بفتح السين والكاف، أي جميع ما يسكر منه حرم على حد تحريم الخمر قليله وكثيره، ورواه العراقيون، و «السّكر» بضم السين وسكون الكاف وهذا مبني على فقههم في أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فقليله حلال، وباقي الآية بين، وقوله تعالى:
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ الآية، الوحي في كلام العرب إلقاء المعنى من الموحي إلى الموحى إليه في خفاء، فمنه الوحي إلى الأنبياء برسالة الملك، ومنه وحي الرؤيا، ومنه وحي الإلهام، وهو الذي في آياتنا هذه باتفاق من المتأولين، والوحي أيضا بمعنى الأمر، كما قال تعالى بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: ٥].
وقرأ يحيى بن وثاب «إلى النّخل» بفتح الحاء وأَنِ في قوله أَنِ اتَّخِذِي مفسرة، وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع، إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار، وإما فيما يعرش ابن آدم من الأجباح والحيطان ونحوها، و «عرش» معناه هيأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها، ومنه العريش الذي صيغ لرسول الله ﷺ يوم بدر، ومن هذا هي لفظة العريش، ويقال عرش يعرش بكسر الراء وضمها، وقرىء بهما، قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر، واختلف عن عاصم، وجمهور الناس على الكسر، وقرأ بالضم أبو عبد الرحمن وعبيد بن نضلة، وقال ابن زيد في قوله: يَعْرِشُونَ قال الكروم، وقال الطبري وَمِمَّا يَعْرِشُونَ يعني ما يبنون من السقوف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا منهما تفسير غير متقن، وقوله تعالى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ الآية، المعنى ثم ألهمها أن كلي، فعطف كُلِي على اتَّخِذِي، ومِنْ للتبعيض، أي كلي جزءا أو شيئا من كل الثمرات، وذلك أنها إنما تأكل النوار من أشجار، و «السبل» الطرق وهي مسالكها في الطيران وغيرها، وأضافها إلى «الرب» من حيث هي ملكه وخلقه التي يسر لك ربك، وقوله ذُلُلًا يحتمل أن يكون حالا من النَّحْلِ، أي مطيعة منقادة لما يسرت له، قاله قتادة، وقال ابن زيد: فهم يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم، وقرأ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: ٧١- ٧٢]، ويحتمل أن يكون حالا من «السبل» أي مسهلة مستقيمة، قال مجاهد: لا يتوعر عليها سبيل تسلكه، ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة أمر العسل في قوله يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها، وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقير الدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة، فظاهر هذا أنه من غير الفم، و «اختلاف الألوان» في العسل بحسب اختلاف النحل والمراعي وقد يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي، ومن هذا المعنى قول زينب للنبي صلى الله عليه وسلم: جرست نحله العرفط حين شبهت رائحته برائحة المغافير، وقوله فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ الضمير للعسل، قاله الجمهور: ولا يقتضي العموم في كل علة وفي كل إنسان، بل هو خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في بعض دون بعض وعلى حال دون حال، ففائدة الآية إخبار منبه منه في أنه دواء كما كثر الشفاء به وصار خليطا ومعينا للأدوية في الأشربة والمعاجين، وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يشكو شيئا إلا تداوى بالعسل، حتى إنه كان يدهن به الدمل والضرحة ويقرأ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يقتضي أنه يرى الشفاء به على العموم، وقال مجاهد: الضمير
406
للقرآن، أي فيه شفاء، وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية إنما يراد بها أهل البيت ورجال بني هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس المنصور أبي جعفر العباسي: فقال له رجل ممن حضر: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فأضحك الحاضرين، وبهت الآخر، وظهرت سخافة قوله، وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)
هذا تنبيه على الاعتبار في إيجادنا بعد العدم وإماتتنا بعد ذلك، ثم اعترض بمن ينكث من الناس لأنهم موضع عبرة، وأَرْذَلِ الْعُمُرِ آخره الذي تفسد فيه الحواس ويختل النطق، وخص ذلك بالرذيلة وإن كانت حال الطفولية كذلك، من حيث كانت هذه لأرجاء معها، والطفولية إنما هي بدأة والرجاء معها متمكن، وقال بعض الناس: أول أرذل العمر خمسة وسبعون سنة روي ذلك عن علي رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا في الأغلب، وهذا لا ينحصر إلى مدة معينة وإنما هو بحسب إنسان إنسان، والمعنى، منكم من يرد إلى أرذل عمره ورب من يكون ابن خمسين سنة وهو في أرذل عمره، ورب ابن مائة وتسعين ليس في أرذل عمره، واللام في لِكَيْ يشبه أن يكون لام صيرورة، وليس ببين، والمعنى ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئا، وهذه عبارة عن قلة علمه لا أنه لا يعلم شيئا البتة، ولم تحل لا بين «كي» ومعمولها لتصرفها، وأنها قد تكون زائدة ثم قرر تعالى علمه وقدرته التي لا تتبدل ولا تحملها الحوادث ولا تتغير، وقوله وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ إخبار يراد به العبرة، وإنما هي قاعدة يبنى المثل عليها، والمثل هو أن المفضلين لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم، فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى الله تعالى أنه يسمح بأن يشرك في ألوهيته الأوثان والأنصاب، وهم خلقه وغيرها مما عبد كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه، هذا تأويل الطبري، وحكاه عن ابن عباس وحكي عنه أن الآية مشيرة إلى عيسى ابن مريم عليه السلام، قال المفسرون:
هذه الآية كقوله تعالى ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ [الروم: ٢٨]، ثم وقفهم على جحدهم نعمة الله في تنبيهه لهم على مثل هذا من مواطن النظر المؤدية إلى الإيمان، وقرأ الجمهور وحفص عن عاصم «يجحدون» بالياء من تحت، وقرأ أبو بكر عن عاصم «تجحدون» بالتاء، وهي قراءة أبي عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه، وهي على معنى قل
407
لهم يا محمد. قال قتادة: لا يكون الجحد إلا بعد معرفة، وقوله وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الآية، آية تعديد نعم، و «الأزواج» الزوجات، ولا يترتب في هذه الآية الأنواع ولا غير ذلك، وقوله مِنْ أَنْفُسِكُمْ يحتمل أن يريد خلقته حواء من نفس آدم وجسمه، فمن حيث كانا مبتدأ الجميع ساغ حمل أمرهما على الجميع حتى صار الأمر كأن النساء خلقن من أنفس الرجال، وهذا قول قتادة، والأظهر عندي أن يريد بقوله مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أي من نوعكم وعلى خلقتكم، كما قال تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: ١٢٨] وقوله وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ، ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، واختلف الناس في قوله وَحَفَدَةً فقال ابن عباس: «الحفدة» أولاد البنين، وقال الحسن: هم بنوك وبنو بنيك، وقال ابن مسعود وأبو الضحى وإبراهيم وسعيد بن جبير: «الحفدة» الأصهار وهم قرابة الزوجة، وقال مجاهد: «الحفدة» الأنصار والأعوان والخدم، وحكى الزجاج أن الحفدة البنات في قول بعضهم، قال الزهراوي لأنهن خدم الأبوين لأن لفظة البنين لا تدل عليهن، ألا ترى أنهن ليس في قول الله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: ٤٦] وإنما الزينة في الذكور، وقال ابن عباس أيضا: «الحفدة» أولاد زوجة الرجل من غيره، ولا خلاف أن معنى الحفد الخدمة والبر والمشي مسرعا في الطاعة ومنه في القنوت: وإليك نسعى ونحفد، والحفدان خبب فوق المشي، ومنه قول الشاعر وهو جميل بن معمر: [الكامل]
حفد الولائد بينهن وأسلمت بأكفهن أرمة الإجمال
ومنه قول الآخر: [البسيط]
كلفت مجهولها نوقا ثمانية إذا الحداة على أكسائها حفدوا
قال القاضي أبو محمد: وهذه الفرق التي ذكرت أقوالها إنما بنيت على أن كل أحد جعل له من زوجه بنون وحفدة، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس، ويحتمل عندي أن قوله: مِنْ أَزْواجِكُمْ إنما هو على العموم والاشتراك، أي من أزواج البشر جعل الله لهم البنين، ومنهم جعل الخدمة فمن لم تكن له قط زوجة فقد جعل الله له حفدة، وحصل تحت النعمة، وأولئك الحفدة هم من الأزواج، وهكذا تترتب النعمة التي تشمل جميع العالم، وتستقيم لفظة «الحفدة» على مجراها في اللغة، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة، وقالت فرقة: «الحفدة» هم البنون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يستقيم على أن تكون الواو عاطفة صفة لهم، كما لو قال جعلنا لهم بنين وأعوانا أي وهم لهم أعوان، فكأنه قال: وهم حفدة وقوله وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يريد الله: من الأشياء التي تطيب لمن رزقها، ولا يقتصر هنا على الحلال لأنهم كفار لا يكتسبون بشرع، وفي هذه الآية رد على من قال من المعتزلة: إن الرزق إنما يكون الحلال فقط، ولَكُمْ تعلق في لفظة مِنْ إذ هي للتبعيض، فيقولون: ليس الرزق المعدد عليهم من جميع ما بأيديهم إلا ما كان حلالا، وقرأ الجمهور «يؤمنون»، وتجيء الآية على هذه القراءة توقيفا لمحمد ﷺ على إيمانهم بالباطل وكفرهم بنعمة الله، وقرأ أبو عبد الرحمن «تؤمنون» بالتاء من فوق، ورويت عن عاصم على معنى قل لهم يا محمد، ويجيء قوله بعد ذلك وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ إخبارا مجردا عنهم وحكما عليهم لا توفيقا، وقد
408
يحتمل التوقيف أيضا على قلة اطراد في القول.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥)
هذه آية تقريع للكفار وتوبيخ وإظهار لفساد نظرهم ووضع لهم من الأصنام في الجهة التي فيها سعي الناس وإليها هممهم، وهي طلب الرزق، وهذه الأصنام لا تملك إنزال المطر ولا إثبات نعمة، ومع أنها لا تملك لا تستطيع أن تحاول ذلك من ملك الله تعالى، وقوله رِزْقاً مصدر ونصبه على المفعول ب يَمْلِكُ، وقوله شَيْئاً ذهب كثير من النحويين إلى أنه منصوب على البدل، من قوله رِزْقاً ورِزْقاً اسم، وذهب الكوفيون وأبو علي معهم إلى أنه منصوب بالمصدر في قوله رِزْقاً ولا نقدره اسما، وهو كقوله تعالى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [المرسلات: ٢٥- ٢٦] ف كِفاتاً [المرسلات: ٢٥] مصدر منصوب به أَحْياءً [المرسلات: ٢٦] ومنه أيضا في قوله عز وجل أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ [البلد: ١٤- ١٥] فنصب يَتِيماً [البلد: ١٥] ب إِطْعامٌ [البلد: ١٤]، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فلولا رجاء النصر منك ورهبة عقابك قد صاروا لنا كالموارد
والمصدر يعمل مضافا باتفاق لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف اللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعد عن حال الفعلية، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله، وقد جاء عاملا مع الألف واللام في قول الشاعر: ضعيف النكاية أعداءه، البيت:
وقوله: عن الضرب مسمعا، وقوله يَمْلِكُ على لفظ ما، وقوله يَسْتَطِيعُونَ على معناها بحسب اعتقاد الكفار في الأصنام أنها تعقل، ويحتمل أن يكون الضمير في يَسْتَطِيعُونَ للذين يعبدون، المعنى لا يستطيعون ذلك ببرهان يظهرونه وحجة يثبتونها، وقوله فَلا تَضْرِبُوا أي لا تمثلوا لله الأمثال، وهو مأخوذ من قولك: ضريب هذا أي مثله، والضرب النوع، تقول: الحيوان على ضروب، وهذان من ضرب واحد، وباقي الآية بين وقوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا الآية، هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده مدبر، ولا يلزم من هذا أن العبيد كلهم بهذه الصفة كما انتزع بعض من ينتحل الفقه، وقد قال في المثال: لا يقدر على شيء فيلزم على هذا الانتزاع أن يكون مؤمنا ينفق بحسب الطاعة، وذلك أنه أشرف أن يكون مثالا، والرزق ما صح الانتفاع به، وقال أبو منصور في عقيدته: الرزق ما وقع الاغتذاء به، وهذه الآية ترد على هذا التخصيص،
وكذلك قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: ٣٠] وأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ [البقرة: ٢٥٤] وغير ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعل رزقي في ظل رمحي»، وقوله: «أرزاق أمتي في سنابك خيلها، وأسنة رماحها، فالغنيمة كلها رزق»، والصحيح أن ما صح الانتفاع به هو الرزق، وهو مراتب أعلاها ما تغذي به، وقد حصر رسول الله ﷺ وجوه الانتفاع في قوله: «يقول ابن آدم:
مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت»
.
قال القاضي أبو محمد: وفي معنى اللباس يدخل المركوب ونحوه، واختلف الناس في الذي هو له هذا المثيل فقال قتادة وابن عباس: هو مثل الكافر والمؤمن فكأن الكافر مملوك مصروف عن الطاعة فهو لا يقدر على شيء لذلك. ويشبه ذلك العبد المذكور.
قال القاضي أبو محمد: والتمثيل على هذا التأويل إنما وقع في جهة الكافر فقط، جعل له مثالا، ثم قرن بالمؤمن المرزوق إلا أن يكون المرزوق ليس بمؤمن، وإنما هو مثال للمؤمن، فيقع التمثيل من جهتين، وقال مجاهد والضحاك: هذا المثال والمثال الآخر الذي بعده إنما هو لله تعالى والأصنام، فتلك هي للعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والله تعالى تتصرف قدرته دون معقب، وكذلك فسر الزجاج على نحو قول مجاهد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل أصوب، لأن الآية تكون من معنى ما قبلها وبعدها في تبين أمر الله والرد على أمر الأصنام، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان، وعبد كان له، وروي تعيين غير هذا ولا يصح إسناده.
قال القاضي أبو محمد: والمثل لا يحتاج إلى تعيين أحد، وقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ شكر على بيان الأمر بهذا المثال وعلى إذعان الخصم له، وهذا كما تقول لمن أذعن لك في حجة وسلم ما تبني أنت عليه قولك: الله أكبر، على هذا يكون كذا وكذا، فلما قال هنا هَلْ يَسْتَوُونَ؟ فكأن الخصم قال له لا فقال الحمد لله ظهرت الحجة، وقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يريد لا يعلمون أبدا ولا يداخلهم إيمان، ويتمكن على هذا قوله: أَكْثَرُهُمْ، لأن الأقل من الكفار هو الذي آمن من أولئك، ولو كان معنى قوله لا يَعْلَمُونَ أي الآن، لكان قوله أَكْثَرُهُمْ بمعنى الاستيعاب لأنه لم يكن أحد منهم يعلم.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٦ الى ٧٩]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
410
هذا مثل لله عز وجل والأصنام، فهي كالأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء وهو عيال على من والاه من قريب أو صديق، و «الكلّ» الثقل والمئونة، وكل محمول فهو كلّ، وسمي اليتيم كلا، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
أكول لمال الكلّ قبل شبابه إذا كان عظم الكلّ غير شديد
كما الأصنام تحتاج إلى أن تنقل وتخدم ويتعذب بها ثم لا يأتي من جهتها خير البتة، هذا قول قتادة، وقال ابن عباس: هو مثل للكافر، وقرأ ابن مسعود «يوجه»، وقرأ علقمة «يوجّه» وقرأ الجمهور، «يوجهه»، وهي خط المصحف، وقرأ يحيى بن وثاب «يوجّه»، وقرأ ابن مسعود أيضا «توجهه» على الخطاب، وضعف أبو حاتم قراءة علقمة لأنه لازم، والذي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ هو الله تعالى، وقال ابن عباس: هو المؤمن.
و «الصراط» الطريق، وقوله وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية، أخبر الله تعالى أن الغيب له يملكه ويعلمه، وقوله وَما أَمْرُ السَّاعَةِ آية إخبار بالقدرة وحجة على الكفار، والمعنى على ما قال قتادة وغيره:
ما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله إلا أن يقول لها كن، فلو اتفق أن يقف على ذلك محصل من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر أو هي أقرب من ذلك، ف أَوْ على هذا على بابها في الشك، وقيل هي للتخيير، و «لمح البصر» هو وقوعه على المرئي، وقوى هذا الإخبار بقوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ومن قال وَما أَمْرُ السَّاعَةِ له وما إتيانها ووقوعها بكم على جهة التخويف من حصولها ففيه بعد وتجوز كثير، وبعد من قول النبي ﷺ «بعثت أنا والساعة كهاتين»، ومن ذكره ما ذكر من أشراط الساعة ومهلتها، ووجه التأويل أن القيامة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب كَلَمْحِ الْبَصَرِ كما يقال: ما السنة إلا لحظة، إلا أن قوله أَوْ هُوَ أَقْرَبُ يرد أيضا هذه المقالة، وقوله وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ الآية، آية تعديد نعمة بينة لا ينكرها عاقل، وهي نعمة معها كفرها وتصريفها في الإشراك بالذي وهبها، فالله عز وجل أخبر بأنه أخرج ابن آدم لا يعلم شيئا، ثم جعل حواسه التي قد وهبها له في البطن سلما إلى درك المعارف، ليشكر على ذلك ويؤمن بالمنعم عليه، و «أمهات» أصله أمات، وزيدت الهاء مبالغة وتأكيدا، كما زادوا الهاء في أهرقت الماء، قاله أبو إسحاق، وفي هذا المثل نظر وقول غير هذا، وقرأ حمزة والكسائي «إمهاتكم» بكسر الهمزة، وقرأ الأعمش «في بطون امّهاتكم» بحذف الهمزة وكسر الميم المشددة، وقرأ ابن أبي ليلى بحذف الهمزة وفتح الميم مشددة، قال أبو حاتم: حذف الهمزة ردي ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب والترجي الذي في «لعل» هو بحسبنا، وهذه الآية تعديد نعم وموضع اعتبار، وقوله «الم تروا إلى الطير» الآية، وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش وابن هرمز «ألم تروا» بالتاء، وقرأ أهل مكة والمدينة «ألم يروا» بالياء على الكناية عنهم، واختلف عن الحسن وعاصم وأبي عمرو وعيسى الثقفي، و «الجو» مسافة ما بين السماء والأرض، وقيل هو ما يلي الأرض منها، وما فوق ذلك هو اللوح، و «الآية» عبرة بينة تفسيرها تكلف بحت.
411
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١)
هذه آية تعديد نعمة الله على الناس في البيوت، فذكر أولا بيوت التمدن وهي التي للإقامة الطويلة وهي أعظم بيوت الإنسان، وإن كان الوصف ب سَكَناً يعم جميع البيوت، والسكن مصدر يوصف به الواحد، ومعناه يسكن فيها وإليها ثم ذكر تعالى بيوت النقلة والرحلة، وقوله وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً يحتمل أن يعم به بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف، لأن هذه هي من الجلود، لكونها نابتة فيها، نحا إلى ذلك ابن سلام، ويكون قوله وَمِنْ أَصْوافِها عطفا على قوله مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ، أي جعل بيوتا أيضا، ويكون قوله أَثاثاً نصبا على الحال، وتَسْتَخِفُّونَها أي تجدونها خفافا وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «ظعنكم» بفتح العين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «ظعنكم» بسكون العين، وهما لغتان، وليس بتخفيف، و «ظعن» معناه رحل والأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز والبقر، ولم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان فلذلك اقتصر على هذه، ويحتمل أن ترك ذلك القطن والحرير والكتان إعراضا عن ذلك السرف، إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف، وأيضا فقد أشير إلى القطن والحرير والكتان في لفظ السرابيل، والأثاث متاع البيت واحدتها أثاثة، هذا قول أبي زيد الأنصاري، وقال غيره الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه.
قال القاضي أبو محمد: والاشتقاق يقوي هذا المعنى الأعم: لأن حال الإنسان تكون بالمال أثيثة، تقول شعر أثيث ونبات أثيث إذا كثر والتف، وقوله إِلى حِينٍ يريد به وقتا غير معين، وهو بحسب كل إنسان إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث، ومن هذه اللفظة قول الشاعر: [الوافر]
أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزيّ الجميل من الأثاث
وقوله: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ الآية، نعم عددها الله عليهم بحسب أحوالهم وبلادهم، وأنها الأشياء المباشرة لهم، لأن بلادهم من الحرارة وقهر الشمس بحيث للظل غناء عظيم ونفع ظاهر، وقوله مِمَّا خَلَقَ يعم جميع الأشخاص المظلة، و «الأكنان» جمع كن وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك، و «السرابيل» جميع ما يلبس على جميع البدن كالقميص والقرقل، والمجول والدرع والجوشن والخفتان ونحوه، وذكر وقاية الحر إذا هو أمس في تلك البلاد على ما ذكرنا، والبرد فيها معدوم في الأكثر، وإذا جاء في الشتوات فإنما يتوقى بما هو أكثف من السربال المتقدم الذكر، فتبقى السرابيل لتوقي الحر فقط، قاله الطبري عن عطاء الخراساني، ألا ترى أن الله قد نبههم إلى العبرة في البرد ولم يذكر لهم الثلج لأنه ليس في بلادهم، قال ابن عباس: إن الثلج شيء أبيض ينزل من السماء ما رأيته قط.
قال القاضي أبو محمد: وأيضا فذكر أحدهما يدل على الآخر، ومنه قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني
قال القاضي أبو محمد: وهذه التي ذكرناها هي بلاد الحجاز، وإلا ففي بلاد العرب ما فيه برد شديد، ومنه قول متمم:
إذ القشع من برد الشتاء تقعقعا.
ومنه قول الآخر:
في ليلة من جمادى ذات أندية.
البيتين، وغير هذا، والسرابيل التي تقي البأس هي الدرع، ومنه قول كعب بن زهير: [البسيط]
شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل
وقال أوس بن حجر:
ولنعم حشو الدرع والسربال.
فهذا يراد به القميص، و «البأس» مس الحديد في الحرب، وقرأ الجمهور «يتم نعمته»، وقرأ ابن عباس «تتم نعمته» على أن النعمة هي تتم، وروي عنه «تتم نعمه» على الجمع وقرأ الجمهور «تسلمون» من الإسلام، وقرأ ابن عباس «تسلمون» من السلامة، فتكون اللفظة مخصوصة في بأس الحرب، وما في «لعل» من الترجي والتوقع فهو في حيز البشر المخاطبين، أي لو نظر الناظر هذه الحال لترجى منها إسلامهم.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٢ الى ٨٥]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥)
هذه الآية فيها موادعة نسختها آية السيف، والمعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم، وإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه، ثم قرعهم ووبخهم بأنهم يعرفون نعمة الله في هذه الأشياء المذكورة، ويقرون أنها من عنده ثم يكفرون به تعالى، وذلك فعل المنكر للنعمة الجاحد لها، هذا قول مجاهد، فسماهم منكرين للنعمة تجوزا، إذ كانت لهم أفعال المنكر من الكفر برب النعمة وتشريكهم في النعمة الأوثان على وجه ما، وهو ما كانوا يعتقدون للأوثان من الأفعال من الضر والنفع، وقال السدي:
«النعمة» هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفهم تعالى بأنهم يعرفون بمعجزاته وآيات نبوته وينكرون ذلك بالتكذيب، ورجحه الطبري، ثم حكم على أكثرهم بالكفر وهم أهل مكة، وذلك أنه كان فيهم من قد داخله الإسلام، ومن أسلم بعد ذلك، وقوله وَيَوْمَ نَبْعَثُ الآية وعيد، والتقدير واذكر يوم نبعث ويرد
شَهِيداً على كفرهم وإيمانهم، ف «شهيد» بمعنى، شاهد وذكر الطبري أن المعنى ثم ينكرونها اليوم وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً، أي ينكرون كفرهم فيكذبهم الشهيد وقوله ثُمَّ لا يُؤْذَنُ أي لا يؤذن لهم في المعذرة، وهذا في موطن دون موطن، لأن في القرآن أن كُلُّ نَفْسٍ تأتي تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل: ١١١] ويترتب أن تجيء كل نفس تجادل فإذا استقرت أقوالهم بعث الله الشهود من الأمم فتكذب الكفار، فلم يؤذن للمكذبين بعد في معذرة، ويُسْتَعْتَبُونَ معناه يعتبون، يقال أعتبت الرجل إذا كفيته ما عتب فيه، كما تقول أشكيته إذا كفيته ما شكا، فكأنه قال ولا هم يكفون ما يعتبون فيه ويشق عليهم والعرب تقول استفعل بمعنى أفعل، تقول أدنيت الرجل واستدنيته وقال قوم معناه لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدنيا.
قال القاضي أبو محمد: فهذا استعتاب معناه طلب عتابهم، وقال الطبري معنى يُسْتَعْتَبُونَ يعطون الرجوع إلى الدنيا فيقع منهم توبة عمل. وقوله وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ الآية، أخبر الله تعالى في هذه الآية أن هؤلاء الكفرة الظالمين في كفرهم إذا أراهم الله عذاب الله وشارفوها وتحققوا كنه شدتها، فإن ذلك الأمر الهائل الذي نزل بهم لا يخفف بوجه ولا يؤخر عنهم، وإنما مقصد الآية الفرق بين ما يحل بهم وبين رزايا الدنيا، فإن الإنسان لا يتوقع أمرا من خطوب الدنيا إلا وله طمع في أن يتأخر عنه وفي أن يجيئه في أخف ما يتوهم برجائه، وكذلك متى حل به كان طامعا في أن يخف، وقد يقع ذلك في خطوب الدنيا كثيرا، فأخبر الله تعالى أن عذاب الآخرة إذا عاينه الكافر لا طماعية فيه بتخفيف ولا بتأخير.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن المشركين إذا رأوا يوم القيامة بأبصارهم الأوثان والأصنام وكل معبود من دون الله لأنها تحشر معهم توبيخا لهم على رؤوس الأشهاد أشاروا إليهم وقالوا هؤلاء كنا نعبد من دون الله، أرادوا بذلك تذنيب المعبودين وإدخالهم في المعصية، وأضافوا الشركاء إلى أنفسهم من حيث هم جعلوهم شركاء، وهذا كما يصف رجل آخر بأنه خير فتقول أنت ما فعل خيرك فأضفته إليه من حيث وصفه هو بتلك الصفة، والضمير في «أقول» عائد على الشركاء، فمن كان من المعبودين من البشر ألقى القول المعهود بلسانه، وما كان من الجمادات تكلمت بقدرة الله بتكذيب المشركين في وصفهم بأنهم آلهة وشركاء لله، ففي هذا وقع الكذب لا في العبادة وقال الطبري: المعنى إنكم لكاذبون، ما كنا ندعوكم إلى عبادتنا.
قال القاضي أبو محمد: فكأنهم كذبوهم في التذنيب لهم وقوله وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ، الضمير في أَلْقَوْا عائد على المشركين، والمعنى ألقوا إليه الاستسلام، وألقوا ما بأيديهم وذلوا لحكمه، ولم تكن لهم حيلة ولا دفع، والسَّلَمَ الاستسلام، وقرأ الجمهور «السلم» بفتح اللام، وروى يعقوب عن أبي عمرو سكون اللام، وقرأ مجاهد «السّلم» بضم السين واللام، وقوله وَضَلَّ عَنْهُمْ معناه وتلف عنهم كذبهم على الله وافتراؤهم الكفر والتشريك، وقوله الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، في ضمن قوله وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ لأنه حل بهم عذاب الله وباشروا نقمته، ثم فسره فأخبر أن الذين كفروا ومنعوا غيرهم من الدخول في الدين وسلوك سبيل الله زادهم عذابا أجلّ من العذاب العام لجميع الناس عقوبة على إفسادهم، فيحتمل أن يكون قوله الَّذِينَ بدلا من الضمير في يَفْتَرُونَ، وزِدْناهُمْ فعل مستأنف إخباره، ويحتمل أن يكون الَّذِينَ ابتداء وزِدْناهُمْ خبره، وروي في ذلك أن الله تعالى يسلط عليهم عقارب وحيات لها أنياب كالنخل الطوال، قاله ابن مسعود، وقال عبيد بن عمير: لها أنياب كالنخل وعقارب كالبغال الدهم، ونحو هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، إن لجهنم سواحل فيها هذه الحيات وهذه العقارب، فيفر الكافر إلى السواحل من النار، فتلقاهم هذه الحيات والعقارب، فيفرون منها إلى النار فتتبعهم حتى تجد حر النار، فترجع، قال وهي في أسراب، وقوله تعالى وَيَوْمَ نَبْعَثُ الآية، هذه الآية في ضمنها وعيد، والمعنى واذكر يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليها، وهو رسولها الذي شاهد في الدنيا تكذيبها وكفرها، وإيمانها وهداها، ويجوز أن يبعث الله شهيدا من الصالحين مع الرسل، وقد قال بعض الصحابة: إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة، مِنْ أَنْفُسِهِمْ بحسب أن بعثة الرسل كذلك، في الدنيا وذلك أن الرسول الذي من نفس الأمة في اللسان والسير وفهم الأغراض والإشارات يتمكن له إفهامهم والرد على معانديهم، ولا يتمكن ذلك من غير من هو من الأمة، فلذلك لم يبعث الله قط نبيا إلا من الأمة المبعوث إليهم، وقوله هؤُلاءِ إشارة إلى هذه الأمة والْكِتابَ القرآن، وقوله تِبْياناً اسم وليس بالمصدر، وهو كالنقصان، والمصادر في مثل هذا، التاء فيها مفتوحة كالترداد والتكرار، ونصب تِبْياناً على الحال. وقوله لِكُلِّ شَيْءٍ أي مما يحتاج في الشرع ولا بد منه في الملة كالحلال والحرام والدعاء إلى الله والتخويف من عذابه، وهذا حصر ما اقتضته عبارات المفسرين، وقال ابن مسعود: أنزل في هذا القرآن كل علم، وكل شيء قد بين لنا في القرآن، ثم تلا هذه الآية.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١)
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أجمل آية في كتاب الله آية في سورة النحل، وتلا هذه الآية،
415
وروي عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبي طالب، فتعجب وقال: يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا فو الله، إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق، وحكى النقاش قال:
يقال زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه.
قال القاضي أبو محمد: و «العدل» هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف وإعطاء الحق، وَالْإِحْسانِ هو فعل كل مندوب إليه، فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حد الاجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على حد الاجزاء داخل في الإحسان، وقال ابن عباس فيما حكى الطبري: «العدل» لا إله إلا الله، والْإِحْسانِ أداء الفرائض.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القسم الأخير نظر، لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله ﷺ في حديث سؤال جبريل عليه السلام، وذلك هو العدل، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه، حسبما يقتضيه تفسير النبي ﷺ أنه في حديث سؤال جبريل عليه السلام، بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد أداء الفرائض مكملة وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى لفظ يقتضي صلة الرحم ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة، وتركه مبهما أبلغ، لأن كل من وصل في ذلك إلى غاية وإن علت يرى أنه مقصر، وهذا المعنى المأمور به في جانب ذِي الْقُرْبى داخل تحت «العدل» والْإِحْسانِ: ، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به وحضا عليه، والْفَحْشاءِ الزنى، قاله ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: وغيره من المعاصي التي شنعتها ظاهرة وفاعلها أبدا متستر بها، وكأنهم خصوها بمعاني الفروج، والمنكر أعم منه، لأنه يعم جميع المعاصي والرذائل والإذايات على اختلاف أنواعها، والْبَغْيِ هو إنشاء ظلم الإنسان والسعاية فيه، وهو داخل تحت الْمُنْكَرِ لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره بالناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ذنب أسرع عقوبة من بغي»، وقال صلى الله عليه وسلم: «الباغي مصروع، وقد وعد الله تعالى من بغي عليه بالنصر»، وفي بعض الكتب المنزلة: لو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكا.
قال القاضي أبو محمد: وتغيير المنكر فرض على الولاة، إلا أن المغير لا يعنّ لمستور، ولا يعمل ظنا، ولا يتجسس، ولا يغير إلا ما بدت صفحته، ويكون أمره ونهيه بمعروف، وهذا كله لغير الولاة ألزم وفرض على المسلمين عامة، ما لم يخف المغير إذاية أو ذلا، ولا يغير المؤمن بيده ما وجد سلطانا، فإن عدمه غير بيده، إلا أنه لا يصل إلى نصب القتال والمدارأة وإعمال السلاح إلا مع الرياسة والإمام المتبع، وينبغي للناس أن يغير المنكر منهم كل أحد تقي وغير تقي، ولو لم يغير إلا تقي لم يتغير منكر في الأغلب، وقد ذم الله تعالى قوما بأنهم لم يتناهوا عن منكر فعلوه، فقد وصفهم بفعله وذمهم لما لم يتناهوا عنه وكل منكر فيه مدخل للنظر فلا مدخل لغير حملة العلم فيه، فهذه نبذة من القول في تغيير المنكر تضمنت ثمانية
416
شروط، وروي أن جماعة رفعت على عاملها إلى أبي جعفر المنصور العباسي، فحاجها العامل وغلبها بأنهم لم يبينوا عليه كبيرة ظلم، ولا جوروه له في شيء، فقام فتى من القوم، فقال يا أمير المؤمنين: إن الله أمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ، وأنه عدل ولم يحسن، قال: فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل، وقوله وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ، الآية مضمن قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية، افعلوا كذا وانتهوا عن كذا، فعطف على ذلك التقدير قوله وَأَوْفُوا، و «عهد الله» لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة، وبالجملة كل ما كان طاعة بين العاهد وبين ربه، كان فيه نفع للغير أو لم يكن، وقوله وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ خص في هذه الألفاظ العهود التي تقترن بها أيمان تهمما بها وتنبيها عليها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا في كل ما كان الثبوت فيه على اليمين طاعة لله وما كان الانصراف عنه أصوب في الحق فهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير». ويقال تأكيد وتوكيد ووكد وأكد وهما لغتان، وقال الزجاج:
الهمزة مبدلة من الواو.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير بين، لأنه ليس في وجوه تصريفه ما يدل على ذلك، وكَفِيلًا معناه متكفلا بوفائكم، وباقي الآية وعيد في ضمن خبر بعلم الله تعالى بأفعال عباده، وقالت فرقة: نزلت هذه الآية في الذين بايعوا رسول الله ﷺ على الإسلام، رواه أبو ليلى عن مزيدة، وقال قتادة ومجاهد وابن زيد: نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فزادها الإسلام شدة.
قال القاضي أبو محمد: كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا حلف فى الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة»، وهذا حديث معنى، وإن كان السبب بعض هذا الأشياء، فالألفاظ الآية عامة على جهة مخاطبة العالمين أجمعين.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)
شبهت هذه الآية الذي يحلف أو يعاهد أو يبرم عقدة بالمرأة التي تغزل غزلها وتفتله محكما، وشبه الذي ينقض عهده بعد الإحكام بتلك الغازلة إذا نقضت قوى ذلك الغزل فحلته بعد إبرامه، ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت سعد كانت تفعل ذلك، فبها وقع التشبيه، قاله عبد الله بن كثير والسدي
ولم يسميا المرأة، وقيل كانت امرأة موسوسة تسمى خطية تغزل عند الحجر وتفعل ذلك، وقال مجاهد وقتادة، ذلك ضرب مثل لا على امرأة معينة وأَنْكاثاً نصب على الحال، والنكث النقض، و «القوة» في اللغة واحدة قوى الغزل والحبل، وغير ذلك مما يظفر، ومنه قول الأغلب الراجز:
حبل عجوز فتلت سبع قوى ويظهر لي أن المراد ب «القوة» في الآية الشدة التي تحدث من تركيب قوى الغزل ولو قدرناها واحدة القوى لم يكن معها ما ينقض أَنْكاثاً، والعرب تقول أنكثت الحبل إذا انتقضت قواه، أما إن عرف الغزل أنه قوة واحدة، ولكن لها أجزاء كأنها قوة كثيرة له، قال مجاهد: المعنى من بعد إمرار قوة، و «الدخل» الدغل بعينه، وهي الذرائع إلى الخدع والغدر، وذلك أن المحلوف له مطمئن فيتمكن الحالف من ضره بما يريده، وقوله أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ، قال المفسرون: نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت الأخرى ثم جاءت إحداهما قبيلة كبيرة، قوية فداخلتها، غدرت الأولى ونقضت معها ورجعت إلى هذه الكبرى، فقال الله تعالى ولا تنقضوا العهود من أجل أن تكون قبيلة أزيد من قبيلة في العدد والعزة و «الربا» الزيادة، ويحتمل أن يكون القول معناه لا تنقضوا الأيمان من أجل أن تكونوا أربى من غيركم أي أزيد خيرا، فمعناه لا تطلبوا الزيادة بعضكم على بعض بنقض العهود، ويَبْلُوكُمُ معناه يختبركم، والضمير في بِهِ يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به، ويحتمل أن يعود على الربا، أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك ليرى من يجاهد نفسه ممن يتبعها هواها، وباقي الآية وعيد بين بيوم القيامة، وقوله هِيَ أَرْبى موضع أَرْبى عند البصريين رفع وعند الكوفيين نصب، وهي عماد ولا يجوز العماد هنا عند البصريين لأنه لا يكون مع النكرة، وأُمَّةٌ نكرة، وحجة الكوفيين أن أُمَّةٌ وما جرى مجراها من أسماء الأجناس تنكيرها قريب من التعريف، ألا ترى أن إدخال الألف واللام عليها لا يخصصها كبير تخصيص، وفي هذا نظر، وقوله تعالى:
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الآية، أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يبتلي عباده بالأوامر والنواهي ليذهب كل أحد إلى ما يسر له، وذلك منه تعالى بحق الملك، وأنه لا يسأل عما يفعل، ولو شاء لكان الناس كلهم في طريق واحد، إما في هدى وإما في ضلالة، ولكنه تعالى شاء أن يفرق بينهم،. ويخص قوما بالسعادة وقوما بالشقاوة ويُضِلُّ ويَهْدِي معناه يخلق ذلك في القلوب خلافا لقول المعتزلة، ثم توعد في آخر الآية بسؤال كل أحد يوم القيامة عن عمله، وهذا سؤال توبيخ، وليس ثم سؤال تفهم، وذلك هو المنفي في آيات.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)
418
كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دَخَلًا بَيْنَكُمْ تهمما بذلك ومبالغة في النهي عنه، لعظم موقعه من الدين وتردده في معاشرات الناس، و «الدخل» كما قلنا الغوائل الخدائع، وقوله فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه لأن القدم إذا زلت نقلت الإحسان من حال خير إلى حال شر، ومن هذا المعنى قول كثير:
فلما توافينا ثبت وزلت
أي تنقلت من حال إلى حال، فاستعار لها الزلل، ومنه يقال لمن أخطأ في شيء: زل فيه، ثم توعد بعد بعذاب في الدنيا وعَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة، وقوله بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يدل على أن الآية فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ الآية، هذه آية نهي عن الرشا وأخذ الأموال على فعل ما يجب على الأخذ أو تركه، أو فعل ما يجب عليه تركه، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عباده فيها، فمن أخذ على ذلك مالا فقد أعطى عهد الله وأخذ قليلا من الدنيا، ثم أخبر تعالى أن ما عنده من نعيم الجنة ومواهب الآخرة خير لمن اتقى وعلم واهتدى، ثم بين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان، أو ينقضي عنها، ومنن الآخرة باقية دائمة، وقرأ ابن كثير وعاصم «ولنجزين» بنون، وقرأ الباقون «وليجزين» بالياء ولم يختلفوا في قوله وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أنه بالنون، كذا قال أبو علي، وقال أبو حاتم: إن نافعا روي عنه «وليجزينهم» بالياء، وصَبَرُوا معناه عن الشهوات وعلى مكاره الطاعة وهذه إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه المذكورة، وقوله بِأَحْسَنِ أي بقدر أحسن ما كانوا يعملون، وقوله مَنْ عَمِلَ صالِحاً يعم جميع أعمال الطاعة، ثم قيده بالإيمان، واختلف الناس في «الحياة الطيبة» فقال ابن عباس والضحاك: هو الرزق الحلال، وقال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هي القناعة وهذا طيب عيش الدنيا، وقال ابن عباس أيضا: هي السعادة، وقال الحسن البصري: «الحياة الطيبة» هي حياة الآخرة ونعيم الجنة.
قال القاضي أبو محمد: وهناك هو الطيب على الإطلاق، ولكن ظاهر هذا الوعد أنه في الدنيا، والذي أقول: إن طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، فبهذا تطيب حياتهم وأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة، أو قناعة فذلك كمال، وإلا فالطيب فيما ذكرناه راتب وجاء قوله فَلَنُحْيِيَنَّهُ على لفظ مَنْ، وقوله وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ على معناها، وهذا وعد بنعيم الجنة، وباقي الآية بين، وحكى الطبري عن أبي صالح أنه قال: نزلت هذه الآية بسبب قوم من أهل الملل تفاخروا، وقال كل منهم ملتي أفضل، فعرفهم الله تعالى في هذه الآية أفضل الملل.
419
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٨ الى ١٠٣]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)
الفاء في قوله فَإِذا واصلة بين الكلامين، والعرب تستعملها في مثل هذا، وتقدير الآية فإذا أخذت في قراءة القرآن كما قال عز وجل إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: ٦]، وكما تقول لرجل إذ أكلت فقل: بسم الله، و «الاستعاذة» ندب عند الجميع، وحكى النقاش عن عطاء أن التعوذ واجب، ولفظ الاستعاذة هو على رتبة الآية، وقد ذكرت الخلاف الذي قيل فيه في صدر هذا الكتاب، والرَّجِيمِ المرجوم باللغة وهو إبليس، ثم أخبر الله تعالى أن إبليس ليس له ملكة ولا رياسة، هذا ظاهر «السلطان» عندي في هذه الآية، وذلك أن «السلطان» إن جعلناه الحجة فليس له حجة في الدنيا على أحد لا مؤمن ولا كافر، اللهم إلا أن يتأول متأول لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ يوم القيامة، فيستقيم أن يكون بمعنى الحجة لأن إبليس له حجة على الكافرين أنه دعاهم بغير دليل فاستجابوا له من قبل أنفسهم، وهؤلاء الذين لا سلطان ولا رياسة لإبليس عليهم هم المؤمنون أجمعون، لأن الله لم يجعل سلطانه إلا على المشركين الذين يتولونه، والسلطان منفي هاهنا في الإشراك، إذ له عليهم ملكة ما في المعاصي وهم الذين قال الله فيهم إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ٤٢] وهم الذين قال إبليس فيهم إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: ٤٠]، ويَتَوَلَّوْنَهُ معناه يجعلونه وليا، والضمير فيه يحتمل أن يعود على اسم الله عز وجل، والظاهر أنه يعود على اسم إبليس، بمعنى من أجله وبسببه، كما تقول لمعلمك: أنا عالم بك، أي بسببك، فكأنه قال: والذين هم بسببه مشركون بالله، وهذا الإخبار بأن لا سلطان للشيطان على المؤمنين بعقب الأمر بالاستعاذة، تقتضي أن الاستعاذة تتصرف كيده، كأنها متضمنة للتوكل على الله والانقطاع إليه، وقوله وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ كان كفار مكة إذا نسخ الله لفظ آية بلفظ أخرى ومعناها وإن بقي لفظها، لأن هذا كله يقع عليه التبديل، يقولون: لو كان هذا من عند الله لم يتبدل، وإنما هو من افتراء محمد، فهو يرجع من خطأ يبدلونه إلى صواب يراه بعد، فأخبر الله عز وجل أنه أعلم بما يصلح للعباد برهة من الدهر، ثم ما يصلح لهم بعد ذلك، وأنهم لا يعلمون هذا، وقرأ الجمهور «ينزّل» بفتح النون وشد الزاي، وقرأ أبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، وعبّر ب «الأكثر» مراعاة لما كان عند قليل منهم من توقف وقلة مبالغة في التكذيب والظن، ويحتمل أن يكون هذا اللفظ قرر على قليل منهم أنهم يعلمون ويكفرون تمردا
420
وعنادا، وأمر نبيه أن يخبر أن القرآن وناسخه ومنسوخه إنما نزله جبريل عليه السلام وهو رُوحُ الْقُدُسِ، لا خلاف في ذلك، والْقُدُسِ الموضع المطهر، فكأن جبريل أضيف إلى الأمر المطهر بإطلاق، وسمي روحا إما لأنه ذو روح من جملة روح الله الذي بثه في خلقه، وخص هو بهذا الاسم، وإما لأنه يجري من الهدايات والرسالات ومن الملائكة أيضا مجرى الروح من الأجساد لشرفه ومكانته، وقرأ ابن كثير «القدس» بسكون الدال، وقرأ الباقون «القدس» بضمها، وقوله بِالْحَقِّ أي مع الحق في أوامره ونواهيه وأحكامه ومصالحه، وأخباره، ويحتمل أن يكون قوله بِالْحَقِّ بمعنى حقا، ويحتمل أن يريد بِالْحَقِّ في أن ينزل أي أنه واجب لمعنى المصلحة أن ينزل، وعلى هذا الاحتمال اعتراضات عند أصحاب الكلام على أصول الدين، وباقي الآية بين وقوله وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ، قال ابن عباس: كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له بلعام، فكان رسول الله ﷺ يكلمه ويعلمه الإسلام ويرومه عليه فقالت قريش: هذا يعلم محمدا من جهة الأعاجم، فنزلت الآية بسببه، وقال عكرمة وسفيان: كان اسم الغلام يعيش، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي: كان بمكة غلامان أحدهما اسمه جبر والآخر يسار، وكانا يقرآن بالرومية، وكان رسول الله ﷺ يجلس إليهما، فقالت قريش ذلك، ونزلت الآية، وقال ابن إسحاق: والإشارة إلى جبر، وقال الضحاك: الإشارة إلى سلمان الفارسي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأن سلمان إنما أسلم بعد الهجرة بمدة وقرأت فرقة «لسان الذي»، وقرأ الحسن البصري «اللسان الذي» بالتعريف وبغير تنوين في رأي بشر، وقرأ نافع وابن كثير «يلحدون» بضم الياء من ألحد إذا مال، وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وابن عامر وأبي جعفر بن القعقاع، وقرأ حمزة والكسائي «يلحدون» بفتح الياء من لحد، وهي قراءة عبد الله وطلحة وأبي عبد الرحمن والأعمش ومجاهد، وهما بمعنى، ومنه قول الشاعر: [الرمل]
قدني من نصر الخبيبين قدي ليس أمري بالشحيح الماحد
يريد المائل عن الجود وحال الرياسة، وقوله أَعْجَمِيٌّ إضافة إلى أعجم لا إلى العجم لأنه كان يقول عجمي، والأعجمي هو الذي لا يتكلم بالعربية، وأما العجمي فقد يتكلم بالعربية ونسبته قائمة، وقوله وَهذا إشارة إلى القرآن والتقدير، وهذا سرد لسان، أو نطق لسان، فهو على حذف مضاف، وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارحة، و «اللسان» في كلام العرب اللغة، ويحتمل أن يراد في هذه الآية، واللسان الخبر ومنه قول الأعشى: إني أتتني لسان غير كاذبة.
ومنه قول الآخر: [الوافر]
لسان السوء يهديها إلينا وجيت وما حسبتك أن تجينا
وحكى الطبري عن سعيد بن المسيب أن الذي ذكر الله: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، إِنَّما هي إشارة إلى كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له رسول الله ﷺ في أواخر الآيات: «والله سميع عليم»، أو «عزيز حكيم»، أو نحو هذا، ثم يشتغل بسماع الوحي، فيبدل هو بغفور رحيم أو نحوه، فقال له رسول الله ﷺ في بعض الآيات: هو كما كتبت، ففتن، وقال أنا
421
أعلم محمدا، وارتد ولحق بمكة، ونزلت الآية فيه.
قال القاضي أبو محمد: هذا نصراني أسلم وكتب، ثم ارتد ولحق بمكة ومات، ثم لفظته الأرض، وإلا فهذا القول يضعف لأن الكاتب المشهور الذي ارتد لهذا السبب ولغيره من نحوه هو عبد الله بن أبي سرح العامري، ولسانه ليس بأعجمي فتأمله.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٦]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦)
المفهوم من الوجود أن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر، تهمما بتقبيح فعلهم والتشنيع لخطابهم، وذلك كقوله تعالى فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٥] والمراد ما ذكرناه فكأنه قال إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله، وقوله: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ بمعنى يكذب، وهذه مقاومة للذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنما أنت مفتر، وإِنَّما أبدا حاصرة، لكن حصرها يختلف باختلاف المعاني التي تقع فيها، فقد يربط المعنى أن يكون حصرها حقيقيا كقوله تعالى:
إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النساء: ١٧١] وقد يقتضي المعنى أن يكون حصرها تجوزا ومبالغة، كقولك: إنما الشجاع عنترة، وهكذا هي في هذه الآية، قال الزجاج: يفتري هذا الصنف لأنهم إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله، كذبوا بها، فهذا أفحش الكذب، وكرر المعنى في قوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ لفائدة إيقاع الصفة بالكذب عليهم إذ الصفة بالشيء أبلغ من الخبر به، لأن الصفة تقتضي الدوام أكثر مما يقتضه الخبر فبدأ في هذه الآية بالخبر، ثم أكد بالصفة، وقد اعترض هذا النظر مكي، وليس اعتراضه بالقوي، ومَنْ في قوله مَنْ كَفَرَ بدل من قوله هُمُ الْكاذِبُونَ ولم يجز الزجاج غير هذا الوجه لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله، والذي أبى الزجاج سائغ على ما أورده الآن إن شاء الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يتأكد بما روي من أن قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ يراد به عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة وأشباههما ممن كان آمن برسول الله ثم ارتد، فلما بين في هذه الآية أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنون المعذبون بمكة، وهم بلال وعمار وسمية أمه وخباب وصهيب وأشباههم، وذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء الضعفة، يعذبونهم ليرتدوا، فربما سامعهم بعضهم بما أرادوا من القول، يروى أن عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله في هذه الآية، وبقيت الرخصة عامة في الأمر بعده، ثم ابتدأ الإخبار: «أن من شرح
422
صدرا بالكفر فعليهم»، وهذا الضمير على معنى من لا على لفظها.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا من الاعتراض أن أمر ابن أبي سرح وأولئك إنما كان ورسول الله ﷺ بالمدينة، والظاهر من هذه الآية أنها مكية وقالت فرقة مَنْ في قوله مَنْ كَفَرَ ابتداء، وقوله مَنْ شَرَحَ تخصيص منه، ودخل الاستثناء لما ذكرنا من إخراج عمار وشبهه، وردنا من الاستثناء إلى المعنى الأول الاستدراك ب وَلكِنْ، وقوله فَعَلَيْهِمْ خبر مَنْ الأولى والثانية، إذ هو واحد بالمعنى، لأن الإخبار في قوله مَنْ كَفَرَ إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر، وصَدْراً نصب على التمييز، وقوله شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً معناه انبسط إلى الكفر باختياره، ويروى أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله ﷺ ما صنع به من العذاب، وما سامع به من القول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف تجد قلبك؟ قال: أجده مطمئنا بالإيمان، قال فأجبهم بلسانك فإنه لا يضرك وإن عادوا فعد.
قال القاضي أبو محمد: ويتعلق بهذه الآية شيء من مسائل الإكراه أما من عذبه كافر قادر عليه ليكفر بلسانه، وكان العذاب يؤدي إلى قتله فله الإجابة باللسان، قولا واحدا فيما أحفظ، فإن أراد منه الإجابة بفعل كالسجود إلى صنم ونحو ذلك ففي هذا اختلاف، فقالت فرقة هي الجمهور: يجيب بحسب التقية، وقالت فرقة: لا يجيب ويسلم نفسه، وقالت فرقة: إن كان السجود نحو القبلة أجاب، واعتقد السجود لله.
قال القاضي أبو محمد: وما أحراه أن يسجد لله حينئذ حيثما توجه، وهذا مباح في السفر لتعب النزول عن الدابة في التنفل، فكيف لهذا، وإذا احتجت فرقة المنع بقول ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلما به، فقصر الرحمة على القول، ولم يذكر الفعل.
قال القاضي أبو محمد: وليس هذا بحجة لأنه يحتمل أن جعل الكلام مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه، فأما الإكراه على البيع والإيمان والطلاق والعتق والفطر في رمضان وشرب الخمر ونحو هذا من المعاصي التي بين العبد والله عز وجل، فلا يلزم المكره شيء من ذلك، قاله مطرف، ورواه عن مالك، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ، وروياه عن ابن القاسم عن مالك، وفرق ابن عباس بين ما هنا قول كالعتق والطلاق فجعل فيها التقية، وقال: لا تقية فيما كان فعلا كشرب الخمر والفطر في رمضان، ولا يحل فعلها لمكره، فأما المظلوم يضغط حتى يبيع متاعه فذلك بيع لا يجوز عليه، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم، فإن أفات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه، قال مطرف: ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب، وأما من لا يعلم فلا يضمن العروض والحيوان وإنما يضمن ما كان تلفه بسببه مثل طعام أكله أو ثوب لبسه، والغلة إذا علم أو لم يعلم ليست له بحال، هو لها ضامن كالغاصب، وقاله أصبغ وابن عبد الحكم، قال مطرف: وكل ما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره، وله أخذ متاعه، وأما الإكراه على قتل مسلم أو جلده أو أخذ ماله أو بيع متاعه فلا عذر فيه، ولا
423
استكراه في ركوب معصية تنتهك مثل حد كالزنا والقتل أو نحوه، قال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم: لا يفعل أحد ذلك وإن قتل إن لم يفعله، فإن فعل فهو آثم، ويلزمه الحد والقود، قال مالك: والقيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإنفاذه لما يتوعد.
قال القاضي أبو محمد: ويعتبر الإكراه عندي بحسب همة المكره وقدره في الدين، وبحسب قدر الشيء الذي يكره عليه، فقد يكون الضرب إكراها في شيء دون شيء، فلهذه النوازل فقه الحال، وأما يمين المكره كما قلنا فهي غير لازمة، قال ابن الماجشون: وسواء حلف فيما هو لله طاعة، أو فيما هو لله معصية، أو فيما ليس في فعله طاعة ولا معصية، فاليمين فيه ساقطة، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلا فاسقا فيكرهه أن يحلف بالطلاق أن لا يشرب خمرا أو لا يفسق أو لا يغش في عمله، أو الوالد يحلف ولده في مثل هذا تأديبا له، فإن اليمين تلزم، وإن كان المكره قد أخطأ فيما تكلف من ذلك، وقال به ابن حبيب، وأما إن أكره رجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المسكن وظلمة السعاة وأهل الاعتداء، فقال مطرف: لا تقية في ذلك، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا عن ماله، وقال ابن الماجشون: لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه، وقال ابن القاسم بقول مطرف، ورواه عن مالك، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ وابن حبيب، قال مطرف وابن الماجشون: وإن بدر الحالف يمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من بدنه وماله فحلف له فإنه يلزمه، قاله ابن عبد الحكم وأصبغ، وقال أيضا ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب وإنما حلف خوفا من ضربه أو قتله أو أخذ ماله فإن كان إنما يتبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث، وإذا اتهم الوالي أحدا بفعل أمر فقال لا بد من عقوبتك إلا أن تحلف لي، فإن كان ذلك الأمر مما لذلك المكروه فعله إما أن يكون طاعة وإما أن يكون لا طاعة ولا معصية، فالتقية في هذا، وأما إن كان ذلك الأمر مما لا يحل لذلك الرجل فعله ويكون نظر الوالي فيه صوابا فلا تقية في اليمين، وهو حانث، قاله مالك وابن الماجشون.
قال القاضي أبو محمد: فهذه نبذة من مسائل الإكراه.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٧ الى ١١١]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)
قوله ذلِكَ إشارة إلى الغضب والعذاب الذي توعد به قبل هذه الآية، والضمير في أنهم
424
ل مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل: ١٠٦]، ولما فعلوا فعل من استحب ألزموا ذلك وإن كانوا مصدقين بآخرة لكن الأمر في نفسه بين، فمن حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره، وهذه الآية علق فيها العقاب بتكسبهم وذلك أن استحبابهم زينة الدنيا ولذات الكفر هو التكسب، وقوله وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي إشارة إلى اختراع الله تعالى الكفر في قلوبهم، ولا شك أن كفر الكافر الذي يتعلق به العقاب إنما هو باختراع من الله تعالى وتكسب من الكافر، فجمعت الآية بين الأمرين، وعلى هذا مرت عقيدة أهل السنة، وقوله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ عموم على أنه لا يهديهم من حيث إنهم كفار في نفس كفرهم، أو عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي، وقوله أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ الآية، عبارة عن صرف الله لهم عن طريق الهدى، واختراع الكفر المظلم في قلوبهم، وتغليب الإعراض على نظرهم، فكأنه سد بذلك طرق هذه الحواس حتى لا ينتفع بها في اعتبار وتأمل، وقد تقدم القول وذكر الاختلاف في الطبع والختم في سورة البقرة، وهل هو حقيقة أو مجاز؟ و «السمع» اسم جنس وهو مصدر في الأصل، فلذلك وحد، ونبه على تكسبهم الإعراض عن النظر، فوصفهم ب «الغفلة»، وقد تقدم شرح لا جَرَمَ في هذه السورة، وقوله ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا الآية، قال ابن عباس: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: ٩٧] إلى آخر الآية قال: وكتب بها إلى من بقي بمكة من المسلمين وأن لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة: ٨ العنكبوت: ١٠] إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا الآية، فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل.
قال القاضي أبو محمد: جاءت هذه الرواية هكذا أن بعد نزول الآية خرجوا فجيء الجهاد الذي ذكر في الآية جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروت طائفة أنهم خرجوا وأتبعوا، وجاهدوا متبعيهم، فقتل من قتل، ونجا من نجا فنزلت الآية حينئذ، فعنى بالجهاد المذكور جهادهم لمتبعيهم، وقال ابن إسحاق: ونزلت هذه الآية في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد.
قال القاضي أبو محمد: وذكر عمار في هذا عندي غير قويم، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من شرح بالكفر صدرا فتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية، وقال عكرمة والحسن: نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه، فكأنه يقول من بعد ما فتنهم الشيطان وهذه الآية مدنية، ولا أعلم في ذلك خلافا، وإن وجد فهو ضعيف، وقرأ الجمهور «من بعد ما فتنوا» بضم الفاء وكسر التاء، وقرأ ابن عامر وحده «فتنوا» بفتح الفاء والتاء، فإن كان الضمير للمعذبين فيجيء بمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا للمشركين من القول، كما فعل عمار، وإن كان الضمير للمعذبين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم المشركون، وإن كان الضمير للمشركين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم الشيطان، والضمير في بَعْدِها عائد على الفتنة، أو على الفعلة، أو الهجرة، أو التوبة، والكلام يعطيها، وإن لم يجر لها ذكر صريح، وقوله يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ
425
نَفْسٍ
المعنى لغفور رحيم يوم، وقوله: كُلُّ نَفْسٍ أي كل ذي نفس، ثم أجري الفعل على المضاف إليه المذكور، فأتت العلامة، ونَفْسٍ الأولى هي النفس المعروفة، والثانية هي بمعنى الذات، كما تقول نفس الشيء وعينه أي ذاته، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أي يجازى كل من أحسن بإحسانه وكل من أساء بإساءته.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر الآية أن كل نفس تُجادِلُ كانت مؤمنة أو كافرة، فإذا جادل الكفار بكذبهم وجحدهم للكفر شهدت عليهم الجوارح والرسل وغير ذلك بحسب الطوائف، فحينئذ لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، فتجتمع آيات القرآن باختلاف المواطن، وقالت فرقة: «الجدال» قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم: نفسي نفسي، وهذا ليس بجدال ولا احتجاج إنما هو مجرد رغبة.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٢ الى ١١٤]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤)
قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة والقرية المضروب بها المثل مكة كانت بهذه الصفة التي ذكر الله لأنها كانت لا تغزى ولا يغير عليها أحد. وكانت الأرزاق تجلب إليها، وأنعم الله عليها رسوله والمراد بهذه الضمائر كلها أهل القرية، فكفروا بأنعم الله في ذلك وفي جملة الشرع والهداية، فأصابتهم السنون والخوف، وسرايا رسول الله ﷺ وغزواته، هذا إن كانت الآية مدنية وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب من الله بحسب التكذيب.
قال القاضي أبو محمد: وإن كانت هي التي ضربت مثلا فإنما ضربت لغيرها مما يأتي بعدها ليحذر أن يقع فيما وقعت هي فيه، وحكى الطبري عن حفصة أم المؤمنين أنها كانت تسأل في وقت حصر عثمان بن عفان رضي الله عنه ما صنع الناس وهي صادرة من الحج من مكة، فقيل لها قتل فقالت: والذي نفسي بيده، إنها القرية تعني المدينة التي قال الله لها، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا الآية.
قال القاضي أبو محمد: فأدخل الطبري هذا على أن حفصة قالت: إن الآية نزلت في المدينة وإنها هي التي ضربت مثلا، والأمر عندي ليس كذلك وإنما أرادت أن المدينة قد حصلت في محذور الملل وحل بها ما حل بالتي جعلت مثلا، وكذلك يتوجه عندي في الآية أنها قصد بها قرية غير معينة، جعلت مثلا لكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة، ورَغَداً نصب على الحال و «أنعم» جمع نعمة كشدة وأشد كذا قال سيبويه وقال قطرب «أنعم» جمع نعم وهي بمعنى التنعيم، يقال هذه أيام
426
طعم ونعم وقوله فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ استعارات أي لما باشرهم ذلك صار كاللباس وهذا كقول الأعشى: [المتقارب]
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنّت عليه فصارت لباسا
ونحوه قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: ١٨٧]، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وقد لبست بعد الزبير مجاشع ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما
كأن العار لما باشرهم وألصق بهم جعلهم لبسوه، قوله «أذاقها» نظير قوله تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: ٤٩] ونظير قول الشاعر:
دونك ما جنيته فأحسن وذق
وقرأ الجمهور: «والخوف» عطفا على الْجُوعِ وقرأ أبو عمرو: بخلاف عنه «والخوف» عطفا على قوله لِباسَ، وفي مصحف أبي بن كعب «لباس الخوف والجوع»، وقرأ ابن مسعود، «فأذاقها الله الخوف والجوع» ولا بذكر لِباسَ، والضمير في جاءَهُمْ لأهل مكة، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والْعَذابُ الجوع وأمر بدر ونحو ذلك إن كان التمثيل بمكة وكانت الآية مدنية، وإن كانت مكية فهو الجوع فقط، وذكر الطبري أنه القتل ببدر، وهذا يقتضي أن الآية نزلت بالمدينة، وإن كان التمثيل بمدينة قديمة غير معينة، فيحتمل أن يكون الضمير في جاءَهُمْ لأهل تلك المدينة، ويكون هذا مما جرى فيها كمدينة شعيب وغيره ويحتمل أن يكون الضمير المذكور لأهل مكة وتأمل. وقوله فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ الآية، هذا ابتداء كلام آخر، ومعنى حكم، والفاء في قوله فَكُلُوا الصلة الكلام واتساق الجمل خرج من ذكر الكافرين والميل عليهم إلى أمر المؤمنين بشرع ما فوصل الكلام بالفاء وليست المعاني موصولة، هذا قول، والذي عندي أن الكلام متصل المعنى، أي وأنتم أيها المؤمنون لستم كهذه القرية، فَكُلُوا واشكروا الله على تباين حالكم من حال الكفرة وهذه الآية هي بسبب أن الكفار كانوا سنوا في الأنعام سننا وحرموا بعضا وأحلوا بعضا فأمر الله تعالى المؤمنين بأكل جميع الأنعام التي رزقها الله عباده وقوله حَلالًا حال، وقوله طَيِّباً أي مستلذا، ووقع النص في هذا على المستلذات ففيه ظهور النعمة وهو عظم النعم وإن كان الحلال قد يكون غير مستلذ، ويحتمل أن يكون الطيب بمعنى الحلال وكرره مبالغة وتوكيدا وباقي الآية بين، وقوله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إقامة للنفوس كما تقول لرجل: إن كنت من الرجال فافعل كذا، على معنى إقامة نفسه، وذكر الطبري: أن بعض الناس قال نزلت هذه الآية خطابا للكافر عن طعام كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثه إليهم في جوعهم، وأنحى الطبري على هذا القول وكذلك هو فاسد من غير وجه.
قوله عز وجل:
427

[سورة النحل (١٦) : آية ١١٥]

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)
حصرت إِنَّما هذه المحرمات وقت نزول الآية، ثم نزلت المحرمات بعد ذلك وقرأ جمهور الناس: «الميتة»، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «الميّتة» وهذا هو الأصل وتخفيف الياء طارئ عليه، والعامل في نصبها حَرَّمَ، وقرأت فرقة «الميتة» بالرفع على أن تكون «ما» بمعنى الذي.
قال القاضي أبو محمد: وكون «ما» متصلة «بإن» يضعف هذا ويحكم بأنها حاصرة و «ما» كافة، وإذا كانت بمعنى الذي فيجب أن تكون منفصلة، وذلك خلاف خط المصحف، وقرأ الجمهور «حرم» على معنى حرم الله، وقرأت فرقة «حرّم» على ما لم يسم فاعله، وهذا برفع «الميتة» ولا بد.
قال القاضي أبو محمد: والْمَيْتَةَ المحرمة هي ما مات من حيوان البر الذي له نفس سائلة حتف أنفه، وأما ما ليس له نفس سائلة كالجراد والبراغيث والذباب ودود التين وحيوان الفول وما مات من الحوت حتف أنفه وطفا على الماء ففيه قولان في المذهب، وما مات حتف أنفه من الحيوان الذي يعيش في الماء وفي البر كالسلاحف ونحوها ففيه قولان والمنع هنا أظهر إلا أن يكون الغالب عليه العيش في الماء وَالدَّمَ المحرم هو المنسفح الذي يسيل إن ترك مفردا وأما ما خالط اللحم وسكن فيه فحلال طبخ ذلك اللحم فيه، ولا يكلف أحد تتبعه، ودم الحوت مختلف فيه وإن كان ينسفح لو ترك، وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ هو معظمه والمقصود الأظهر فيه، فلذلك خصه بالذكر، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه وغضاريفه ومن تخصيصه استدلت فرقة على جواز الانتفاع بجلده إذا دبغ ولبسه، والأولى تحريمه جملة، وأما شعره فالانتفاع به مباح، وقالت فرقة ذلك غير جائز، والأول أرجح، وقوله: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يريد كل ما نوي بذبحه غير التقرب إلى الله والقرب إلى سواء، وسواء تكلم بذلك على الذبيحة أو لم يتكلم، لكن خرجت العبارة عن ذلك ب أُهِلَّ، ومعناه صحيح على عادة العرب وقصد الغض منها وذلك أنها كانت إذا ساقت ذبيحة إلى صنم جهرت باسم ذلك الصنم وصاحت به، وقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ قالت فرقة: معناه أكره وقال الجمهور: معناه اضطره جوع واحتياج، وقرأت فرقة «فمن» بضم النون «اضطر» بضم الطاء، وقرأت فرقة «فمن» بكسر النون «اضطر» بكسر الطاء، على أن الأصل اضطرت، فنقلت حركة الراء إلى الطاء وأدغمت الراء في الراء، وقالت فرقة: «الباغي» صاحب البغي على الإمام، أو في قطع الطريق وبالجملة في سفر المعاصي، و «العادي» بمعناه في أنه ينوي المعصية، وقال الجمهور: غَيْرَ باغٍ معناه غير مستعمل لهذه المحرمات مع وجود غيرها، وَلا عادٍ معناه لا يعدو حدود الله في هذا، وهذا القول أرجح وأعم في الرخصة، وقالت فرقة: باغٍ وعادٍ في الشبع والتزود، واختلف الناس في صورة الأكل من الميتة، فقالت فرقة: الجائز من ذلك ما يمسك الرمق فقط، وقالت فرقة: بل يجوز الشبع التام، وقالت فرقة منهم مالك رحمه الله: يجوز الشبع والتزود، وقال بعض النحويين في قوله عادٍ إنه مقلوب من عائد، فهو كشاكي السلاح وكيوم راح وكقول الشاعر: لأن بها الأشياء والعنبري، وقوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لفظ يقتضي منه الإباحة للمضطر، وخرجت الإباحة في هذه الألفاظ تحرجا وتضييقا في أمرها ليدل الكلام على عظم الخطر في هذه المحرمات، فغاية هذا المرخص له غفران الله له وحطه عنه ما كان يلحقه من الإثم لولا ضرورته.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التحريم الذي ذكرناه يفهمه الفصحاء من اللفظ وليس في المعنى منه شيء وإنما هو إيماء، وكذلك جعل في موضع آخر غايته أن لا إثم عليه، وإن كان لا إثم عليه وقوله هو له مباح يرجعان إلى معنى واحد فإن في هيئة اللفظين خلافا.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٦ الى ١١٩]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)
هذه الآية مخاطبة للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كانت ميتة يدل على ذلك قوله حكاية عنهم وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ [الأنعام: ١٣٩] والآية تقتضي كل ما كان لهم من تحليل وتحريم فإنه كله افتراء منهم، ومنه ما جعلوه في الشهور، وقرأ السبعة وجمهور الناس «الكذب» بفتح الكاف وكسر الذال وفتح الباء، و «ما» مصدرية فكأنه قال لوصف ألسنتكم الكذب، وقرأ الأعرج وأبو طلحة وأبو معمر والحسن، «الكذب» بخفض الباء على البدل من «ما»، وقرأ بعض أهل الشام ومعاذ بن جبل وابن أبي عبلة «الكذب» بضم الكاف والذال والباء على صفحة الألسنة، وقرأ مسلمة بن محارب «الكذب» بفتح الباء «الكذب» بفتح الباء على أنه جمع كذاب ككتب في جمع كتاب، وقوله هذا حَلالٌ إشارة إلى ميتة بطون الأنعام وكل ما أحلوا، وقوله وَهذا حَرامٌ إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموا، وقوله لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إشارة إلى قولهم في فواحشهم التي هذه إحداها، وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سننا لا يرضاها الله افتراء عليه، لأن من شرع أمرا فكأنه قال لأتباعه هذا هو الحق، وهذا مراد الله، ثم أخبرهم الله إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يبلغون الأمل، و «الفلاح» بلوغ الأمل، فطورا يكون في البقاء كما قال الشاعر، والصبح والمسى لا فلاح معه، ويشبه أن هذه الآية من هذا المعنى، يقوي ذلك قوله مَتاعٌ قَلِيلٌ، وقد يكون في المساعي ومنه قول عبيد: [الرجز]
أفلح بما شئت فقد يبلغ بالضعف وقد يخدع الأريب
وقوله مَتاعٌ قَلِيلٌ إشارة إلى عيشهم في الدنيا، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بعد ذلك في الآخرة. وقوله وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا الآية، لما قص تعالى على المؤمنين ما حرم عليهم أعلم أيضا بما حرم على اليهود ليبين تبديلهم الشرع فيما استحلوا من ذلك وفيما حرموا من تلقاء أنفسهم، وقولهم ما قَصَصْنا عَلَيْكَ، إشارة إلى ما في سورة الأنعام «من ذي الظفر والشحوم» الآية: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ
[الأنعام: ١٤٦] وقوله وَما ظَلَمْناهُمْ أي لم نضع العقوبة بتحريم تلك الأشياء عليهم في غير موضعها، بل هم طرقوا إلى ذلك وجاء من تسبيبهم بالمعاصي ما أوجب ذلك. وقوله ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ هذه آية تأنيس لجميع العالم، أخبر الله تعالى فيها أنه يغفر للتائب، والآية إشارة إلى الكفار الذين افتروا على الله وفعلوا الأفاعيل المذكورة، فهم إذا تابوا من كفرهم بالإيمان وأصلحوا من أعمال الإسلام غفر الله لهم، وتناولت هذه الآية بعد ذلك كل واقع تحت لفظها من كافر وعاص. وقالت فرقة «الجهالة» العمد، و «الجهالة» عندي في هذا الموضع ليست ضد العلم بل هي تعدي الطور وركوب الرأس، ومنه قول النبي ﷺ «أو أجهل أو يجهل علي». وهي التي في قول الشاعر: [الوافر]
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والجهالة التي هي ضد العلم تصحب هذه الأخرى كثيرا، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر، وقلما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع. والضمير في بَعْدِها عائد على التوبة.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٤]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
لما كشف الله تعالى فعل اليهود وتحكمهم في شرعهم بذكر ما حرم عليهم، أراد أن يبين بعدهم عن شرع إبراهيم والدعوى فيه أن يصف حال إبراهيم ليبين الفرق بين حاله وحال قريش أيضا، وأُمَّةً لفظة مشتركة تقع للعين والقامة والجمع الكثير من الناس، ثم يشبه الرجل العالم أو الملك أو المنفرد بطريقة وحده بالناس الكثير فيسمى أُمَّةً، وعلى هذا الوجه سمي إبراهيم عليه السلام أُمَّةً، قال ابن مسعود:
«الأمة» معلم الخير، وكان معاذ بن جبل «أمة قانتا»، وقال في بعض أوقاته إن معاذا كان أُمَّةً قانِتاً فقال قرة الكندي أو فروة بن نوفل: ليس كذلك إنما هو إبراهيم، فقال أتدري ما الأمة، هو معلم الخير وكذلك كان معاذ يعلم الخير ويطيع الله ورسوله، وقال مجاهد: سمي إبراهيم أُمَّةً لانفراده بالإيمان في وقته مدة.
قال القاضي أبو محمد: وفي البخاري أنه قال لسارة ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك، وقال بعض النحويين، أظنه أبا الحسن الأخفش: «الأمة» فعلة من أم يؤم فهو كالهزأة والضحكة أي يؤتم به.
قال القاضي أبو محمد: ف أُمَّةً على هذا صفة، وعلى القول الأول اسم ليس بصفة، و «القانت» المطيع الدائم على العبادة، و «الحنيف» المائل إلى الخير والإصلاح، وكانت العرب تقول، لمن يختتن ويحج البيت حنيفا، وحذف النون من «لم يكن» لكثرة الاستعمال كحذفهم من لا أبال ولا أدر، وهو أيضا
يشبه النون في حال سكونها حروف العلة لغنتها وخفتها وأنها قد تكون علامة وغير ذلك، فكأن «لم» دخلت على «يكن» في حال الجزم. ولا تحذف النون إذا لم تكن ساكنة في نحو قوله لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة: ١] ولا يحذف في مثل هذا إلا في الشعر فقد جاءت محذوفة، وقوله مِنَ الْمُشْرِكِينَ يشير إلى تبرؤ حال إبراهيم عليه السلام من حال مشركي العرب ومشركي اليهود إذ كلهم ادعاه ويلزم الإشراك اليهود من جهة تجسيمهم، وشاكِراً، صفة لإبراهيم تابعة ما تقدم، و «الأنعم» جمع نعمة، واجْتَباهُ معناه تخيره، وباقي الآية بين. وقوله وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً الآية، «الحسنة» لسان الصدق وإمامته لجميع الخلق، هذا قول جميع المفسرين وذلك أن كل أمة متشرعة فهي مقرة أن إيمانها إيمان إبراهيم وأنه قدوتها وأنه كان على الصواب. وقوله لَمِنَ الصَّالِحِينَ بمعنى المنعم عليهم أي من الصالحين في أحوالهم ومراتبهم، أو بمعنى أنه في الآخرة ممن يحكم له بحكم الصالحين في الدنيا، وهذا على أن الآية وصف حاليه في الدارين، ويحتمل أن يكون المعنى وأنه في عمل الآخرة، فعلى هذا هي وصف حالي في الدنيا الدنياوية والأخراوية. وقوله ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية، الوحي إلى محمد ﷺ بهذا من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم، قال ابن فورك وأمر الفاضل باتباع المفضول لما تقدم إلى الصواب والعمل به وأَنِ في قوله أَنِ اتَّبِعْ مفسرة، ويجوز أن تكون مفعولة، و «الملة» الطريقة في عقائد الشرع، وحَنِيفاً حال، والعامل فيه الفعلية التي في قوله مِلَّةَ إِبْراهِيمَ، ويجوز أن تكون حالا من الضمير المرفوع في اتَّبِعْ قال مكي: ولا يكون حالا من إبراهيم، لأنه مضاف إليه: وليس كما قال لأن الحال قد تعمل فيه حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال، كقولك مررت بزيد قائما، وقوله إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ أي لم يكن من ملة إبراهيم وإنما جعله الله فرضا عاقب به القوم المختلفين فيه، قاله ابن زيد، وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل أن يجعلوا من الجمعة يوما مختصا بالعبادة وأمرهم أن يكون الجمعة، فقال جمهورهم: بل يكون يوم السبت لأن الله فرغ فيه من خلق مخلوقاته، فقال غيرهم: بل نقبل ما أمر الله به موسى، فراجعهم الجمهور فتابعهم الآخرون فألزمهم الله يوم السبت إلزاما قويا عقوبة لهم منه، فلم يكن منهم ثبوت بل عصوا فيه وتعدوا فأهلكهم، وقرأ الأعمش «إنما أنزلنا السبت»، وهي قراءة ابن مسعود وقرأ أبو حيوة «جعل» بفتح الجيم والعين.
قال القاضي أبو محمد: وورد في الحديث أن اليهود والنصارى اختلفوا في اليوم الذي يختص من الجمعة فأخذ هؤلاء السبت وهؤلاء الأحد فهدانا الله نحن إلى يوم الجمعة، قال رسول الله ﷺ «فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه»، فليس الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف الذي في الحديث، وباقي الآية وعيد بين.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٨]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
431
هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة المشركين، أمره الله تعالى أن يدعو إلى الله وشرعه بتلطف، وهو أن يسمع المدعو حكمه، وهو الكلام الصواب القريب الواقع في النفس أجمل موقع، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ التخويف والترجية والتلطف بالإنسان بأن يحله ويبسطه ويجعله بصورة من يقبل الفضائل، ونحو هذا، فهذه حالة من يدعى وحالة من يجادل دون مخاشنة، ويبين عليه دون قتال، فالكلام يعطي أن جدك وهمك وتعبك لا يغني لأن الله تعالى قد علم من يؤمن منهم ويهتدي، وعلم من يضل، فجملة المعنى اسلك هذا السبيل ولا تعن للمخاشنة لأنها غير مجدية لأن علم الله قد سبق بالمهتدي منهم والضال، وقالت فرقة: هذه الآية منسوخة بآية القتال، وقالت فرقة هي محكمة.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر لي أن الاقتصار على هذه الحال وأن لا تتعدى مع الكفرة متى احتيج إلى المخاشنة هو منسوخ لا محالة، وأما من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي محكمة إلى يوم القيامة، وأيضا فهي محكمة في جهة العصاة، فهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. وقوله وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا الآية، أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري، وفي كتاب السير وذهب النحاس إلى أنها مكية.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ إلى الذي يجادل إلى الذي يجازى على فعله، ولكن ما روى الجمهور أثبت، وأيضا فقوله وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ يقلق بمعنى الآية على ما روى الجميع أن كفار قريش كما مثلوا بحمزة فنال ذلك من نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال «لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بثلاثين»، وفي كتاب النحاس وغيره «بتسعين» منهم فقال الناس: «إن ظفرنا لنفعلن ولنفعلن»، فنزلت هذه الآية، ثم عزم على رسول الله ﷺ في الصبر في الآية بعدها، وسمى الإذناب في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول، وهذا بعكس قوله مَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: ٥٤]، وقوله اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: ١٥]، فإن الثاني هو المجاز، والأول هو الحقيقة، وقرأ ابن سيرين: «وإن عقبتم فعقبوا»، وحكى الطبري عن فرقة: أنها قالت إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره، واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال تجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة: له ذلك، منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها، وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك، واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدّ الأمانة إلى من استأمنك ولا تخن من خانك».
432
قال القاضي أبو محمد: ووقع في مسند ابن سنجر أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنا بامرأة رجل آخر ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك»، ويتقوى في أمر المال قول مالك رحمه الله، لأن الخيانة لاحقة في ذلك وهي رذيلة لا انفكاك عنها، ولا ينبغي للمرء أن يتأسى بغيره في الرذائل، وإنما ينبغي أن تتجنب لنفسها، وأما الرجل يظلم في المال ثم يتمكن من الانتصاف دون أن يؤتمن فيشبه أن ذلك له جائز يرى أن الله حكم له كما لو تمكن له بالحكم من الحاكم، وقوله: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ الآية، هذه العزيمة على رسول الله ﷺ في الصبر عن المجازاة في التمثيل بالقتلى، قال ابن زيد: هذه الآية منسوخة بالقتال وجمهور الناس على أنها محكمة، ويروى أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه: «أما أنا فأصبر كما أمرت فماذا تصنعون؟»، قالوا: نصبر يا رسول الله كما ندبنا، وقوله: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي بمعونة الله وتأييده لك على ذلك، والضمير في قوله عَلَيْهِمْ قيل يعود على الكفار أي لا تتأسف على أن لم يسلموا، وقالت فرقة: بل يعود على القتلى: حمزة وأصحابه الذين حزن عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول أصوب يكون عود الضمير على جهة واحدة، وقرأ الجمهور في «ضيق» بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير في «ضيق» بكسر الضاد ورويت عن نافع وهو غلط ممن رواه، قال بعض اللغويين: الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر وقال أبو عبيدة: الضيق مصدر والضّيق مخفف من ضيّق كميت وميت، وهين وهيّن، قال أبو علي الفارسي: والصواب أن يكون الضيق لغة في المصدر لأنه إن كان مخففا من ضيّق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف، وليس هذا موضع ذلك.
قال القاضي أبو محمد: الصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة، كما تقول رأيت ضاحكا فإنما تخصص الإنسان، ولو قلت: رأيت باردا لم تحسن، وببارد مثل سيبويه رحمه الله «وضيق» لا يخصص الموصوف، وقال ابن عباس وابن زيد: إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبر منسوخ، وقوله: مَعَ الَّذِينَ أي بالنصر والمعونة والتأييد، واتَّقَوْا يريد المعاصي، ومُحْسِنُونَ معناه يتزيدون فيما ندب إليه من فعل الخير.
كمل تفسير سورة النحل بعون الله وتأييده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم
433
Icon