تفسير سورة الكهف

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الكهف
قال القرطبي: وهي مكية في قول جميع المفسرين وقال الكشاف مكية إلا بعض آيات فيها، والرأى الأول هو الصحيح، وعدد آياتها عشر ومائة.
وتراها تكلمت عن القرآن الكريم وأثره، ثم ذكرت قصة أصحاب الكهف وما فيها من عبر. وأتبعتها توجيهات نافعة: ثم سبق مثل عملي المغتر بالدنيا والمغرور بها مع تذكير الناس بيوم القيامة وفي خلال ذلك حكم وآيات، وتوجيهات وإنذارات ثم بعد ذلك كانت قصة موسى مع الخضر، وإجابتهم عن الروح وعن ذي القرنين، وما أروع ختام هذه السورة بالكلام على المؤمنين وكلمات الله لا تنفد.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)
403
المفردات:
عِوَجاً العوج والعوج عدم الاستقامة والمراد نفى الاختلاف والتناقض عن ألفاظه ومعانيه. قَيِّماً مستقيما لا ميل فيه أبدا. باخِعٌ نَفْسَكَ البخع:
الجهد والإضعاف. أَسَفاً الأسف: شدة الغيظ. صَعِيداً جُرُزاً الصعيد:
المستوي من الأرض. والجزر: أرض لا نبات فيها، ومنه قيل سيف جراز، أى:
يستأصل المقاتلين.
المعنى:
الحمد لله والشكر له، والثناء لله- سبحانه- علم الله عباده كيف يحمدونه على نعمه الجليلة، التي تفضل بها عليهم فهو الذي أنزل على عبده وحبيبه سيد الأنبياء وإمامهم وخاتمهم، أنزل عليه القرآن المكتوب في الصحائف، والمسجل في ضمير الزمن، والمحفوظ في القلوب والمنقول إلينا عن طريق التواتر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ولم يجعل له عوجا في لفظه ومعناه، ولم يكن فيه اختلاف في أى ناحية من نواحيه وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً وهو القيم والمستقيم على الحق والعدل، الداعي إلى الخير والهدى، وهو القيم على مصالح العباد في الدنيا والآخرة والقيم على الكتب السابقة والمهيمن عليها.
وها هو ذا التفصيل لما أجمل في قوله- تعالى- قَيِّماً لينذر الكفار والعصاة بأسا شديدا وعذابا أليما من لدنه، وليبشر المؤمنين العاملين الصالحات، فكان إيمانهم مصحوبا بالعمل بعيدا عن العجز والكسل يبشرهم بأن لهم أجرا حسنا هو الجنة ماكثين فيها مكثا دائما إلى ما شاء الله، وكرر الإنذار مرة ثانية للتأكيد فقال، ولينذر الذين قالوا: اتخذ الله ولدا كاليهود في عزير، والنصارى في المسيح، وكفار قريش في قولهم:
الملائكة بنات الله، ما لهم بالولد واتخاذ الله له علم أصلا ولا لآبائهم كذلك علم به، بل هو محض افتراء واختلاق، على أنه ليس مما يعلم إما للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه مجال لا يستقيم تعلق العلم به.
كبرت المقالة كلمة تخرج من أفواههم، أى: ما أكبرها كلمة تخرج من أفواههم والمراد بالكلمة قولهم إن الله اتخذ ولدا، وهم ما يقولون إلا كذبا وزورا.
404
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا وقد مضى بحث في لعل عند قوله- تعالى- في سورة هود فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ والمعنى: فلعلك قاتلها ومهلكها لأنهم لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا عليهم وحزنا شديدا على شركهم وتوليهم عنك. وفي الكشاف: شبهه وإياهم- حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به، وما تداخله من الوجد، والأسف على توليهم- برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا على فراقهم.
إنا جعلنا ما على الأرض من حيوان ونبات وجماد زينة لها والله جعل كل ما عليها زينة لها، ومصلحة لنا هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، وجعل هذا ليبلوكم فيظهر من هو أحسن عملا ممن هو أسوأ عملا، والمراد أن الله يعاملهم معاملة من يختبرهم ليعرف حالهم، والله- سبحانه- بعد هذا جاعل ما عليها من هذه الزينة ترابا لا نبات فيه ولا حياة، إذ هو القادر على كل شيء يحيى الأرض بعد موتها، ويميتها بعد حياتها.
قصة أهل الكهف [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩ الى ٢٦]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣)
إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)
405
المفردات:
الْكَهْفِ الغار الواسع في الجبل. الرَّقِيمِ هو اسم كلبهم، وقيل: هو اسم الوادي. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ المراد أنمناهم نوما ثقيلا بحيث لا يسمعون.
أَمَداً أى: غاية. نَبَأَهُمْ خبرهم صاحب الشأن والخطر. شَطَطاً القول الشطط: هو الخارج عن حد المعقول المفرط في الظلم. مِرفَقاً المرفق ما يرفق به وينتفع. تَتَزاوَرُ أصله تتزاور أى: تتمايل مأخوذ من الزور أى: الميل وشهادة الزور فيها ميل عن الحق. تَقْرِضُهُمْ أى: تقطعهم ولا تقربهم ومنها القطيعة. فَجْوَةٍ مِنْهُ أى: متسع من الكهف. بِالْوَصِيدِ بالفناء وهو موضع الباب من الكهف. بِوَرِقِكُمْ الورق الفضة مضروبة للنقد أو غير مضروبة أى:
معدة للنقد أو غير معدة. فَلا تُمارِ فِيهِمْ أى لا تجادل أهل الكتاب في شأنهم.
المعنى:
سأل القوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قصة أصحاب الكهف متعجبين ممتحنين، وسألوه عن الروح، وعن ذي القرنين، فقال الله مجيبا عن أصحاب الكهف.
أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا آية عجبا من بين آياتنا؟! لا تظن ذلك، فآياتنا كلها عجيبة وغريبة، فإن من يقدر على جعل كل ما على الأرض زينة لهم ينتفعون به ثم يجعله ترابا بين عشية أو ضحاها كأن لم تغن بالأمس قادر على كل شيء كالبعث وغيره فلا تستبعد أن يحفظ بقدرته طائفة من الناس زمانا معلوما، وإن كانت قصتهم خارقة للعادة، فإن آيات الله- سبحانه- دائما كذلك.
واذكر وقت أن صار الفتية إلى الكهف وجعله مأوى لهم، فقالوا متجهين إلى الله وحده: ربنا آتنا من عندك رحمة واسعة، وانشر علينا من ظلال فضلك ما تغمرنا، وهيئ لنا من أمرنا الذي فارقنا عليه الكفار ما به تكون المصلحة لنا ونكون راشدين غير ضالين.
وهكذا حال المؤمنين الموفقين حينما تشتد عليهم الأمور وتتحزب يكون الله هو الملجأ الوحيد يطلبون منه العون والمدد، ويسألونه الهدى والرشد.
408
وقد شملهم ربك بالعطف فضرب على آذانهم في الكهف سنين معدودة، والمعنى:
أنامهم نوما ثقيلا حتى كأنهم وراء حجاب مضروب لا يسمع منه صوت.
ثم بعثهم ربك، وأيقظهم من النوم ليظهر معلومه- سبحانه- عن أى الحزبين أحصى للبثهم أمدا وغاية، وقد جعل علمه أى الحزبين أحصى؟ غاية وعلة للبحث إذ سيظهر عجزهم، ويفضون أمرهم، ويحاولون أن يتعرفوا حالهم فيزدادوا يقينا على يقينهم، وهذا لطف بالمؤمنين في زمانهم، وآية بينة للكافرين.
وهذه خلاصة للقصة بالإجمال وهاك التفصيل.
نحن نقص عليك خبرهم المهم ذا الشأن والخطر، أما حواشى الأخبار وتوافهها فلا يتجه لها القرآن، نقصه قصصا متلبسا بالحق لا زور فيه ولا بهتان ومن أصدق من الله حديثا؟
إنهم فتية آمنوا بربهم إيمانا صادقا خاليا من ضروب الشرك وآثامه، وزادهم هدى، وربط على قلوبهم، وقواها حتى لم يعد فيها مكان للشك والنفاق إذ قاموا مجاهرين قائلين، ربنا رب السموات والأرض وما فيهن، لن نعبد من دونه إلها إننا إن عبدنا غيره، وقلنا به لقد قلنا قولا ذا شطط، متجاوزين حدود العقل والدين: هؤلاء قومنا البعيدون في درجات الجهل والحماقة اتخذوا آلهة متجاوزين بها الله فاطر السموات والأرض من غير علم ولا دليل.
هلا يأتون على ألوهيتهم بسلطان بين، وحجة ظاهرة! لا حجة لهم أبدا ولكنه الشرك والتقليد الأعمى.
فلا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا وزورا باتخاذ الشركاء والآلهة.
وإذ اعتزلتموهم يا أهل الكهف، وفارقتموهم في الاعتقاد، واعتزلتم عبادتهم وما عبدتم إلا الله الواحد القهار فأووا إلى الكهف، لتعتزلوهم جسميا بعد فراقهم روحيا، إن تأووا إليه ينشر لكم ربكم من رحمته في الدارين، ويهيئ لكم ويصلح من أمركم الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين مرفقا ترتفقون به، وتنتفعون.
هذا حالهم قبل دخولهم في الكهف. أما بعد الدخول فيه فيقول الله:
409
وترى يا محمد أو كل واحد يصلح للخطاب الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقا بل الإخبار بكون الكهف في مكان بحيث لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تتزاور وتنتحى مائلة عن كهفهم جهة اليمين، وإذا غربت تراها عند الغروب تقرضهم وتبتعد عنهم متجهة جهة الشمال، وهم في فجوة ومتسع من الكهف معرض لإصابته من الشمس، لولا أن صرفتها عنهم القدرة، ذلك من آيات الله العجيبة الدالة على كمال العلم والقدرة.
ومن يهديه الله إلى الخير فهو المهتدى حقا الموافق إلى الصالح في الدنيا والآخرة، كأمثال الفتية أصحاب الكهف، ومن يضلل ويسلك سبل الشر فلن تجد له وليا مرشدا يهديه إلى الخير وطرق الصلاح في الدنيا والآخرة كأمثال الكفرة المنكرين للبعث..
وهؤلاء الفتية كنت تراهم في الكهف فتحسبهم أيقاظا لم يبل منهم جسد، ولم تظهر لهم رائحة كريهة كأنهم أحياء نائمون في القيلولة، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، وكلبهم الذي كان معهم باسط ذراعيه بموضع الباب من الكهف، لو اطلعت عليهم وهم بهذا الوضع لوليت منهم وهربت من منظرهم هروبا ولملئت منهم رعبا وفزعا.
وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلى- وكان ذلك آية على قدرتنا- بعثناهم من نومهم ليسأل بعضهم بعضا فترتب عليه ظهور الحكم الجليلة التي من أجلها أنامهم الله هذه المدة، ولهذا جعل التساؤل علة للبعث.
قال قائل منهم: كم لبثتم في نومكم؟ قال بعضهم. لبثنا يوما أو بعض يوم، قيل إنهم دخلوا الكهف من الصباح واستيقظوا في آخر النهار ولذا قالوا: يوما فلما رأوا الشمس لم تغب قالوا: أو بعض يوم. وقال بعض منهم لما رأوا حالتهم العامة متغيرة:
ربكم أعلم بما مكثتم! ولكن امضوا إلى المهم فابعثوا أحدكم بقطعة من الفضة إلى المدينة ليحضر طعاما لنا، وإذا كان كذلك فلينظر أى أهلها أزكى طعاما وأحسن سعرا فليأتنا بشيء نقتات به، وليتلطف في الطلب حتى لا يغبن، ولا يشعرن بكم أحد من المدينة فإنهم إن اطلعوا عليكم يقتلوكم شر قتلة بالرجم أو يعيدوكم في ملتهم وطريقهم الجائر، ولن تفلحوا إذا دخلتم معهم أبدا.
وكما أنمناهم في الغار، وبعثناهم أعثرنا وأطلعنا الناس عليهم ليعلموا أن وعد الله حق، وسمى الإعلام إعثارا لأن من كان غافلا عن الشيء فعثر به نظر إليه وعرفه فكان الإعثار سببا في العلم، وفي الإعثار ما يفيد.
410
وكذلك أطلعنا الناس عليهم ليعلموا أن وعد الله بالبعث حق. فقد كان هناك من ينكر البعث فأراهم الله هذه الآية تثبيتا للمؤمنين، وحجة على الكافرين، وليعلموا أن الساعة لا ريب فيها فإن من شاهد حال أهل الكهف علم صحة ما وعد الله به من البعث.
أطلعناهم عليهم وقت أن كانوا يتنازعون أمرهم فيما بينهم بين مثبت للبعث ومؤمن به، وبين منكر له وكافر به.
ولما اطلعوا عليهم، وظهر أمرهم وعرف الناس أن في قدرة الله أن يحيى الخلق بعد موتهم أماتهم الله فقال بعضهم: ابنوا عليهم بنيانا يمنع الناس عنهم، ربهم أعلم بشأنهم.
وقال الذين غلبوا على أمرهم من المؤمنين لنتخذن عليهم مسجدا للصلاة، والذين غلبوا على أمرهم قيل هم المسلمون، أو هم الملك وأعوانه الله أعلم.
وقد اختلف المعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم في عددهم. فسيقولون هم ثلاثة رابعهم كلبهم ويقول جماعة أخرى: هم خمسة سادسهم كلبهم، وهم في هذا يقذفون بالغيب على غير هدى ظنا منهم. لا يقين معه.
ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم، قل يا محمد لهم، ربي أعلم بعددهم ما يعلمه إلا قليل وأكثرهم علم أهل الكتاب على ظن وتخمين.
وفي الكشاف: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة (سبعة وثامنهم كلبهم) ولم دخلت عليهم دون الجملتين الأوليين؟ والجواب هي الواو التي تدخل لتأكيد اتصال ما بعدها بما قبلها وللدلالة على أن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات وعلم وطمأنينة لم يرجموا بالظن كما فعل غيرهم.
وأصحاب هذا الرأى مؤمنون قالوه مستندين إلى الوحى بدليل عدم سبكه في سلك الرجم بالغيب وتغير النظم بزيادة الواو.
إذا قد عرفت جهل أصحاب الرأيين الأوليين فلا تمار فيهم ولا تجادلهم إلا جدالا ظاهرا لا عمق فيه، ولا تستفت في شأنهم أحدا منهم.
ولا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله إنى فاعله غدا، لا تقولن ذلك في حال من
411
الأحوال إلا في حال ملابسته بمشيئة الله- تعالى- على الوجه المعتاد على معنى سأفعل ذلك غدا إن شاء الله.
روى أن الآية نزلت حين قالت اليهود لقريش سلوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف وذي القرنين. فقال: ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحى حتى شق عليه وكذبته قريش.
واذكر ربك إذا نسيت، اذكره بقلبك ولسانك ذكرا دائما، وتوجه إليه وقل:
عسى أن يهديني ربي لأقرب من نبأ أصحاب الكهف. والمعنى: اذكر ربك وقل لعله يؤتينى من البينات والحجج الدالة على صدق نبوتي ما هو أعظم من ذلك وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف، وقد فعل ذلك حيث قص عليه قصص الأنبياء.
فإذا نسيت شيئا فاذكر ربك عسى أن يهديك لشيء آخر بدل المنسى أو أقرب منه. ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين، وازدادوا تسعا.
قل يا محمد: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا والحق ما أخبرك به لا ما يقولونه إذ له وحده غيب السموات والأرض وهو العالم بكل شيء.
أبصر به وأسمع على معنى ما أبصره بخلقه، وما أسمعه لما يدور في صدورهم فأمره في إدراك المسموعات والمبصرات على خلاف ما تعهدون فهو اللطيف الخبير.
وما لهم من ولى يتولى أمرهم، ولا يشرك ربك في حكمه وقضائه أحدا.
توجيهات إلى النبي صلّى الله عليه وسلم [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
412
المفردات:
مُلْتَحَداً ملتجأ تلجأ إليه. وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أى: لا تتجاوز عيناك عنهم. فُرُطاً متجاوزا حدا الاعتدال مأخوذ من قولهم فرس فرط إذ تقدم الخيل وتجاوزها. سُرادِقُها فسطاطها، أو ما يمد في صحن الدار. كَالْمُهْلِ وهو المذاب من عناصر الأرض بواسطة النار كالحديد المذاب مثلا. سُنْدُسٍ ما رقّ من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ الإستبرق الغليظ منه.
... كانوا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلم: ائت بقرآن غير هذا أو بدله فنزل.
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ.. الآية.
وكانوا يقولون: نح عن مجلسك هؤلاء الموالي أمثال صهيب، وعمار، وخباب،
413
وياسر وغيرهم حتى نجالسك فنزل: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ الآية ثم ذكر جزاء المؤمن ولو كان فقيرا وجزاء الكافر ولو كان غنيا.
المعنى:
واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك الذي أنزل عليك ولا تسمع لما يهذون به من طلب التغيير والتبديل، إذ لا مبدل لكلمات ربك ولا يقدر أحد على ذلك، وإنما الله وحده القادر على التبديل والنسخ وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [سورة النحل آية ١٠١] وإنك إن بدلت يا محمد فلن تجد من دون الله ملتجأ تلتجئ إليه.
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى من الفقراء، واصبر نفسك معهم واحبسها على مجالستهم، ولا تسمع لقول الكفار فقديما قيل لنوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [سورة الشعراء آية ١١١] فهذا غرور الكفر ووسوسة الشيطان.
هؤلاء الموالي الذين يدعون ربهم، ويعبدونه في كل وقت، يريدون وجهه ورضاه هم أحباب الله وأولياؤه، ولا تعد عيناك عنهم فتجاوزهم إلى غيرهم من الأغنياء، وإياك أن تنبو عينك عنهم وتعلو، تريد زينة الحياة الدنيا الظاهرة في لباس الأغنياء والأشراف، ولا تطع أبدا من وجدنا قلبه غافلا عن ذكرنا، واتبع هواه وأسلم نفسه لشيطانه.
وكان أمره متجاوزا الحق والعدل حيث ترك صراط الله المستقيم وشرعه القويم.
وقل لهؤلاء الذين يطلبون منك البعد عن الفقراء لفقرهم: الحق جاء من ربكم واضحا ظاهرا فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، أما من كفر فإنا أعتدنا وهيأنا له نارا أحاط بهم سرادقها، ولقد شبه الله ما يحيط بالظالمين الكافرين من النار بالسرادق المضروب على الشخص، فهل يفلت من السرادق المضروب؟!! وإن يستغيثوا وهم في نار جهنم يغاثوا بماء لشدة العطش ولكن بماء كالمهل، يغاثون بشراب من الحديد والرصاص المذاب من قوة النار، هذا الشراب يشوى الوجوه بئس الشراب شرابهم، وساءت جهنم مرتفقا، ولا ارتفاق فيها ولكنها المشاكلة، أما من تريدون أن يصرف النبي عنهم وجهه فأولئك المؤمنون الذين يقول الله فيهم وفي أمثالهم:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلن يضيع الله أجر من أحسن عملا، أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار، وهم يحلون في الجنة بأساور من ذهب وقد كانوا
414
محرومين منها في الدنيا ويلبسون ثيابا خضرا من الديباج الرقيق والغليظ حالة كونهم متكئين فيها على الأرائك شأن الملوك والعظماء نعم الثواب الذي ذكر لهم هنا وفي غير هذه الآية، وحسنت الجنة مرتفقا لهم وأى مرتفق؟!!
مثل للمعتز بالدنيا المغرور بها [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٤٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
415
المفردات:
جَنَّتَيْنِ بستانين. حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ جعلنا النخل محيطة بهما. وَلَمْ تَظْلِمْ لم تنقص من أكلها. وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أجرينا وشققنا وسطهما.
يُحاوِرُهُ يراجعه في الكلام. نَفَراً المراد خدما وأتباعا، وقيل هم الأولاد لأنهم ينفرون مع أبيهم ساعة القتال. مُنْقَلَباً مرجعا وعاقبة. سَوَّاكَ صيرك وعدلك حتى صرت رجلا. حُسْباناً المراد مقدارا قدره الله عليها. ووقع في حسابه. زَلَقاً أى: أرضا جرداء ملساء لا نبات فيها ولا حيوان ولا بناء تزل فيها الأقدام لملاستها. غَوْراً أى: غائر لا تناله يد. الْوَلايَةُ النصرة، وبكسر الواو: السلطان.
وهذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن حيث يعصى الأول مع تقلبه في النعم ويطيع الآخر مع مكابدة الفقر والمشقة، والأول غارق في الدنيا معتز بها مغرور بها والثاني يفهمها على حقيقتها فهي طريق وممر للآخرة، والمثل بهذا الوضع متصل بقوله- تعالى:
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية.
المعنى:
واضرب للفريقين الكافر والمؤمن مثلا: رجلين مقدرين أو حقيقيين، والعبرة بالعظة المفهومة من المثل، هما من بنى إسرائيل أخوان أو صديقان أو شريكان أحدهما كافر مغرور بدنياه والثاني موحد بالله، وقد آل أمرهما إلى ما حكاه القرآن عنهما لعل الناس يعتبرون ويتعظون، وإنا لنرى كثيرا من المسلمين يقولون مثل مقالة الكفار في الدنيا
416
بلسان الحال لا بلسان المقال فاعتبروا يا أولى الأبصار واضرب لهم رجلين مثلا هذا بيانه: جعلنا لأحدهما وهو الكفار بستانين من الكروم المتنوعة، وجعلنا النخل محيطة بهما، وجعلنا وسطها زروعا حتى يجمعا بين القوت والفاكهة وهما بهذا الوضع لهما الشكل الأنيق، والوضع السليم.
كلتا الجنتين آتت أكلها كاملا غير منقوص شيئا، وقد فجر الله وسط كل حديقة نهرا على حدة ليسقيها بلا تعب ومشقة، ويزيدهما بهاء وروعة، وكان لهذا الكافر ثمر ومال من غيرهما إذ كان من الأثرياء الكبار.
فقال يوما لصاحبه: وهو يحاوره ويجادله شأن كل غنى مغرور مع مؤمن فقير صالح،
وقد روى أنهم أخوان ورثا مالا أما الكافر فاستغله في أرض ودار وزوجة وخدم وحشم وأما المؤمن فأنفق نصيبه في سبيل الله.
يا أخى: أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا وأكثر خدما وولدا، ودخل مع صاحبه جنته الواسعة العريضة، الجنة ذات الجناحين الجنة التي ليس له غيرها إذ هي متاعه في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب، دخلها وهو ظالم لنفسه معجب بما أوتى، مفتخر به كافر بالنعمة، معرض بذلك نفسه لسخط الله وهو أفحش أنواع الظلم: وماذا قال؟
قال لطول أمله وشدة حرصه، وتمام عقله، وكثرة غروره بها قال: ما أظن أن تبيد وتفنى هذه الجنة أبدا، وما أظن الساعة قائمة فيما سيأتى، وأقسم لئن رجعت إلى ربي على سبيل الفرض، أو كما يزعم صاحبنا المؤمن لأجدن جنة خيرا من هذه الجنة مرجعا وعافية، وأقسم لقد سمعنا من جهلتنا المنتسبين للإسلام مثل هذا القول «غنى الدنيا غنى الآخرة» فهم لسوء فهمهم يظنون أن اليسار والغنى إنما يعطى في الدنيا لاستحقاقه ذلك إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً.
وما علم هذا المغرور أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة وإلا ما سقى الكافر منها جرعة ماء، وإن الإنسان قد يعطى استدراجا.
وماذا قال له أخوه المؤمن؟ قال وهو يحاوره: يا أيها الإنسان: أكفرت بالذي خلق أباك الأول من تراب ثم خلقك أنت من نطفة ثم سواك فعدلك رجلا سويا؟! أبعد هذا تقول: ما أظن الساعة قائمة يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ الآية من سورة الحج.
417
لكن هو الله ربي وحده لا شريك له، له الحكم وإليه ترجعون.
يا أخى هلا إذا دخلت جنتك قلت ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، الأمر ما شاء الله لا غير،
روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم: من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره.
فبدل أن تقول: ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وهذه المقالة لا تصدر إلا من شخص مغرور مأفون يظن أن له قوة وحولا، وأن الأمر بيده لا بيد الله، وأنه الزارع الذي أعطى هذا الزرع عن علم وتجربة، وأن سماده ونظامه هما اللذان أنتجا! ألا بئس ما يفهم الناس في دنياهم!! إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا في هذه الدنيا الفانية فعسى ربي أن يؤتينى خيرا من جنتك وأبقى يوم القيامة.
وأما جنتك فيرسل عليها عذابا مقدرا في حسابه فتصبح أرضا قاحلة ملساء لا شيء فيها أو يصبح ماؤها غائرا لا تدركه الأيدى بأى شكل ولا تستطيع له طلبا فضلا عن إدراكه، وقد كان فأحيط بثمره وهلك كل ماله فأصبح يقلب كفيه ندما وأسفا على ما ضاع منه، يعض بنان الندم على ما فرط منه. والحال أنها خاوية على عروشها أى:
سقطت الكروم على عروشها الممهدة لها.
ويقول: نادما ليتني لم أشرك بربي أحدا، ولم تكن له فئة تنصره من دون الله إذ هو القادر وحده على دفع العذاب، وما كان هو في حد ذاته منتصرا بنفسه.
هناك: وفي هذه الحال التي يؤمن فيها البر والعاجز النصرة من الله وحده، والسلطان لله وحده، هو الحق تبارك وتعالى، خير ثوابا وخير عقبى للعباد المتقين.
مثل الحياة الدنيا [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
418
المفردات:
هَشِيماً مهشوما مكسورا. تَذْرُوهُ الرِّياحُ تفرقه وتطيره. وهذا مثل آخر للدنيا وبيان لصفتها العجيبة التي هي كالمثل حتى لا يغتر بها المغترون.
المعنى:
واذكر لهم صفة الدنيا التي هي كالمثل في الغرابة وهي كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض، فنبت الزرع واخضر واختلط بعضه من كثرته وتكاثفه فأصبح ذلك النبات الغض الوارف صاحب الظل الدائم، والبهجة والمنظر أصبح هشيما تذروه الرياح حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [سورة يونس آية ٢٤]. ولا غرابة في هذا فالله على كل شيء قدير.
وأما ما كانوا يفتخرون به من مال وبنين فهذا عرض زائل، ومتاع حائل، وزينة الدنيا الفانية، ولعل تقديم المال على البنين لأنه أدخل في باب الزينة من الأولاد.
وليس لأحد أن يفتخر بها حيث كانت لهذا فقط بل الباقيات الصالحات من الأعمال الخيرية خير وأبقى عند ربك إذ ثوابها عائد على صاحبها، وخير أملا حيث ينال بها صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله.
419
من مشاهد يوم القيامة [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)
المفردات:
وَحَشَرْناهُمْ الحشر: الجمع لأجل الحساب، والبعث: إحياؤهم من القبور للحشر. فًّا
مجتمعين غير متفرقين.
المعنى:
واذكر يوم نسير الجبال وهي كالعهن المنفوش بعد أن كانت ساكنة في نظر العين، وهذه إشارة إلى تبدل الحال، وتغير الوضع في الدنيا، وترى الأرض بارزة ليس فيها ما يسترها من جبال وأنهار وشجر وبنيان، وقد ألقت ما فيها من كنوز ودفائن، وأخرجت أثقالها، وبرز ما في جوفها، وحشرناهم جميعا، وجمعناهم إلى الموقف من كل مكان. فلم نغادر من الخلائق أحدا، وعرضوا على ربك صفا واحدا بلا تفرق واختلاف، وقد شبهوا بالجند حيث يعرضهم القائد، وهم وقوف منتظرون الأمر قلنا
لهم: لقد جئتمونا فرادى مجيئا كمجيئكم وقت أن خلقناكم أول مرة حفاة عراة وبلا ولى ولا نصير، ولا شفيع معين وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [سورة الأنعام آية ٩٤] بل، إضراب انتقال من حديث إلى حديث، زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا نجازيكم بأعمالكم فيه، وهذا خطاب لمنكري البعث للتقريع والتوبيخ والتأنيب.
ووضع الكتاب، والمراد به: الصحائف التي تكتب فيها أعمال الإنسان من خير وشر، فترى المجرمين الذين ارتكبوا السيئات خائفين وجلين مما فيه ويقولون: يا ويلتنا داعين أنفسهم بالويل والهلاك: ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؟!! ووجدوا ما عملوا حاضرا مكتوبا فيه، ولا يظلم ربك أحدا، إذ مبدأ الثواب والعقاب مما يقتضيه العدل الإلهى، وعدم الظلم حتى يعطى المحسن جزاءه كاملا، ويأخذ المسيء جزاءه غير ناقص.
توجيهات إلهيّة [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
421
المفردات:
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فخرج عما أمره به. عَضُداً أى: عونا لي.
مَوْبِقاً أى: حاجزا فهو اسم مكان، وقيل: موبقا أى: مهلكا لهم.
المعنى:
واذكر وقت أن قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم والمراد ذكر ما حصل في الوقت لا نفس الوقت.
وقصة السجود لآدم قد مرت بنا مرارا، وإنما كان تكريرها ليقف الإنسان على ما حصل لأبيه آدم، وموقف إبليس منه، وكيف كان سبب التعب له وخروجه من الجنة ولا يزال هو مصدر الفسوق والعصيان لأنه أقسم ليغوينهم أجمعين، وكان له ذلك إلا العباد المخلصون فليس له سلطان عليهم.
أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا طائعين لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ولا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، أما إبليس اللعين فكان من الجن فلم يعمل مثل ما عملوا، وقال كيف أسجد له؟ وأنا خير منه، وترتب على كونه من الجن أنه فسق عن أمر ربه وخرج عن حدود ما أمر به.
وهذه الآية تثبت أن إبليس من الجن، وفي آية أخرى الإشارة إلى أنه من الملائكة، وليس فيهم تعارض إذ قد يطلق على الملائكة أنهم جن من حيث استتارهم والله- سبحانه وتعالى- يعجب ممن يطيع إبليس وجنده في الكفر والمعاصي بعد أن علم موقفه من أبينا آدم، وما هو عازم عليه بالنسبة لنا، أفتتخذونه وذريته وأعوانه أولياء تقتدون بهم، وتسمعون لهم يا عجبا لكم ثم عجبا، أفتتخذون أولياء من دون الله، وهو لكم عدو من قديم، بئس للظالمين الذين يضعون الأمور في غير موضعها الذين يستبدلون طاعة الشيطان بدل طاعة الرحمن بئس البدل بدلا لهم.
ما أشهدت هؤلاء الشركاء الذين وسوس لكم إبليس في شأنهم حتى اتخذتموهم شركاء، ما أشهدتهم خلق السموات والأرض، ولا أشهدتهم خلق أنفسهم، ولو كانوا شركاء لشهدوا ذلك، إذن فليسوا لي شركاء أبدا.
422
وما كنت متخذ الضالين من الشركاء والشياطين عضدا لي وعونا في خلق شيء.
واذكروا يوم يقول المولى لهم تأنيبا: نادوا شركائى الذين زعمتم أنهم شركاء، وقد فعل المشركون ما أمروا به، ودعوهم فلم يستجيبوا لهم في شيء فضلا عن أنهم لم ينفعوهم في شيء، وجعلنا بينهم مكانا سحيقا بعيد الغور، وهذا يصح إذا أردنا بالشركاء عيسى وعزير والملائكة، وإذا أريد بالشركاء الأصنام والأوثان فقد جعلنا بينهم حاجزا وصلتهم بهم هلاكا لهم وأى هلاك، ورأى المجرمون النار واقعة بين أيديهم فأيقنوا أنهم مخالطوها بالوقوع فيها، ولم يجدوا عنها معدلا، ولا مكانا يتحولون فيها، لأن النار قد أحاطت بهم من كل جانب..
إنذار وتخويف [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٤ الى ٥٩]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
423
المفردات:
قُبُلًا جمع قبيل والمراد أنواعا أو عيانا. لِيُدْحِضُوا ليزيلوه ويبطلوه مأخوذ من إدحاض القدم أى: عند إزالتها عن مكانها. مَوْئِلًا أى: منجى وملجأ من قولهم وأل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه.
المعنى:
هذا القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان. صرف الله معانيه الجليلة وأغراضه السامية التي تدعو إلى الإيمان بالله وبرسوله، والتي تشبه في الغرابة والحسن والجمال والروعة المثل الذي يهز القلوب، ويحرك النفوس صرفه وكرره للناس ولمصلحتهم، ولكنهم لم يتقبلوه بالقبول الحسن، وكان الإنسان أكثر الأشياء جدلا وخصومة. ومماراة في الحق، يعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [سورة النحل آية ٤].
وما منع الناس، أى: أهل مكة من أن يؤمنوا وقت أن جاءهم الهدى والنور من القرآن، وما منعهم من أن يستغفروا ربهم من أجل الكفر والمعاصي، ما منعهم عن الإيمان والاستغفار مانع أبدا في الواقع حيث جاءهم نور القرآن وتفصيله الآيات البينات.
ولكن طلبهم إتيان سنة الأولين لهم وهي عذاب الاستئصال بإلحاحهم في طلب آيات أخرى، أو يأتيهم عذاب يوم القيامة أنواعا مختلفة إذ ماتوا، أو يأتيهم العذاب معاينة ومقابلة هو السبب في عدم إيمانهم، وليس في القرآن ما يدعو إلى الكفر، وإن كان الإنسان مجبولا على حب الجدل المفرط، وقيل المعنى: إنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الاستئصال بهم أو عذاب الآخرة.
424
وما نرسل المرسلين إلى الأمم إلا حالة كونهم مبشرين المؤمنين بالثواب، ومنذرين الكفار والعصاة بالعقاب، هذه هي مهمة الرسل مع أممهم، ويجادل الكفار بالباطل حيث يقترحون الآيات بعد ظهور المعجزات، ويقولون للرسل: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [سورة المؤمنون آية ٢٤].
واتخذوا آيات ربهم، وما أنذروا به من القوارع الناعية عليهم العقاب والعذاب، اتخذوها هزؤا.
ولا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها عنادا واستكبارا، ولم يتدبرها، ونسى ما قدمت يداه مما عمل في الكفر والمعاصي المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق، وعدم التفكر في العواقب، ومن كان كذلك فهو أظلم من كل ظالم، وقد كان حسدهم وتكبرهم، وتمسكهم بالتقاليد الباطلة وحبهم للرياسة الكاذبة، والعرض الفاني بمثابة الأكنة والحواجز على قلوبهم: وإسنادهم إلى الله قوله: جَعَلْنا للدلالة على ثبوتها ودوامها عندهم.
إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفهموه فهما دقيقا عميقا، وجعلنا في آذانهم وقرا وصمما عن سماع الحق وتدبره، وهؤلاء لن يكون منهم اهتداء أبدا، وإن تدعهم إلى الهدى بكافة الطرق فلن يهتدوا إذا أبدا.
وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من المعاصي التي منها مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن الآيات، وعدم مبالاتهم بعمل السيئات.
لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب في الدنيا ولكن الله أراد غير ذلك. بل لهم موعد حدده الله في يوم بدر مثلا لن يحيدوا عنه ولن يجدوا من دونه ملجأ يلجئون إليه.
وهذه هي القرى التي كانت فيها عاد، وثمود، ومدين، وقوم لوط، أهلكناهم لما ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، وجعلنا لهلاكهم موعدا لا محيد عنه فاعتبروا يا أولى الألباب ولا تغتروا يا أهل مكة بتأخير العذاب..
425
قصة موسى مع الخضر [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٠ الى ٧٨]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨)
426
المفردات:
لِفَتاهُ هو يوشع بن نون، وموسى هو نبي بنى إسرائيل بن عمران- عليه السلام. لا أَبْرَحُ لا أزال سائرا. مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ والبحران البحر الأسود والبحر الأبيض، وقيل: هما بحر الأردن وبحر القلزم. وقيل غير ذلك والله أعلم.
حُقُباً جمع حقبة وهي زمان من الدهر غير محدود. سَرَباً السرب كالنفق الذي يتخذه الضب ونحوه في الأرض وهو كالكوة المحفورة في الأرض. قَصَصاً أى: قاصين الأثر متتبعين السير. رُشْداً وقرئ رشدا وهو الوقوف على الخبر وإصابة الصواب. خُبْراً علما بالشيء، والخبير العالم بالخفايا. أَمْراً عظيما يقال أمر أمر ابن فلان إذ عظم واشتد. تُرْهِقْنِي لا تكلفني عسرا. نُكْراً أى: ينكره الشرع والعقل. يُضَيِّفُوهُما يعطوهما حق الضيافة. يَنْقَضَّ أى: يسقط بسرعة. فَأَقامَهُ فسواه وعدله.
427
لما سأل اليهود النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قصة أصحاب الكهف، وقالوا لقريش: إن أخبركم بها فهو نبي مرسل وإلا فلا. ذكر صلّى الله عليه وسلّم قصة موسى والخضر تنبيها على أن النبي لا يلزمه أن يكون عالما بجميع القصص والأخبار، وقد يؤخر الفاضل عن المفضول وهذه القصة رويت في أحاديث كثيرة، وأتمها وأكملها ما روى عن ابن عباس عن طريق سعيد بن جبير، وهي ثابتة في الصحيحين.
قال ابن عباس ما معناه: حدثنا أبى بن كعب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن موسى قام خطيبا في بنى إسرائيل فسئل: أى الناس أعلم؟ فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه، إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى يا رب فكيف لي به قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو هناك، فأخذ حوتا فجعله في مكتل. ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع ابن نون حتى أتيا صخرة، ووضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت وسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، فصار المار عليه مثل الطلق وكأنه دخل في كوة الحائط.
فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كانا من الغد، قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا وتعبا فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة بالأمس فإنى نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ طريقه في البحر اتخاذا أثار عجب الناس. نعم كان للحوت في البحر سرب، ولموسى وفتاه عجب ومراد فتى موسى بقوله (أرأيت؟) تعجب موسى- عليه السلام- مما اعتراه هناك من النسيان.
فقال موسى: ذلك ما كنا نبغى ونطلب، وهذا طلبنا، فارتدا على آثارهما قاصين الأثر متتبعين سيرهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى.
فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟
قال موسى: أنا موسى. قال: موسى نبي إسرائيل؟ قال: نعم. قال: أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال: إنك لن تستطيع معى صبرا إذ كيف تصبر على شيء يخالف ظاهره شريعتك. قال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا غير عاص لك أمرا.
فقال له الخضر: فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شيء وعن سره حتى أحدث لك منه كرا فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم
428
فحملوهم فلما ركبا في السفينة فوجئوا بقلع لوح من السفينة فقال له موسى: ما هذا قوم حملونا بغير أجر تعمد إلى سفينتهم فتخرقها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا عظيما في الجرم.
قال الخضر: ألم أقل إنك لن تستطيع صبرا على. قال موسى: لا تؤاخذني بنسياني، ولا تكلفني أمرا عسيرا على.
ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فقتله. فقال موسى: أتقتل نفسا زاكية طيبة لم تأثم بغير نفس، أى:
بغير قصاص لقد جئت شيئا منكرا. قال الخضر: ألم أقل لك إنك لن تستطيع صبرا على عملي وزيادة (لك) لزيادة التأنيب على عدم الصبر.
قال موسى: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني فقد أعذرتنى حيث خالفتك ثلاث مرات وهذا كلام النادم ندما شديدا.
فانطلقا حتى إذ أتيا أهل قرية وطلبوا منهم طعاما بأسلوب الضيافة فأبوا أن يعطوهما شيئا.
فوجدوا فيها جدارا، أثر السقوط فيه ظاهرة حتى أشبه إرادة السقوط بسرعة هذا الجدار قد أقامه الخضر وعدله قال موسى منكرا: لو شئت لاتخذت عليه أجرا يكفى لطعامنا.
قال الخضر: هذا الإنكار هو فراق اتصالنا ونهاية اجتماعنا وسأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا، وأخبرك بالواقع الذي دفعنى إلى العمل وإن خالفت الظاهر الذي تعرفه يا موسى.. ومن هذه القصة نفهم ما يجب أن يكون عليه المتعلم بالنسبة إلى أستاذه وكيف يسافر ويتأدب معه إلى آخر ما فيها
429
جواز ارتكاب أخف الضررين [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
المفردات:
لِمَساكِينَ المسكين: من يملك شيئا لا يكفيه، والفقير أسوأ حالا منه وَراءَهُمْ مَلِكٌ أمامهم ملك والمراد بورائهم: أنه غائب عنهم وإن كان أمامهم، ويصح أن يكون المراد خلفهم على الأصل يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً يكلفهما بسبب حبهما له تجاوزا عن حدود الدين، وكفرا بالله زَكاةً طهارة رُحْماً رحمة وحنانا يَبْلُغا أَشُدَّهُما أن يصلا إلى كمال عقلهما ورأيهما وتمام رجولتهما..
431
وهذا تفسير للمسائل الثلاث التي حصلت من الخضر بحضور موسى، عليهما السلام، ولم يستطع صبرا عليهما لأنها تخالف شريعته في الظاهر.
ومن هنا نعرف أن الشرائع كلها مبنية على الظواهر العامة، والله وحده هو الذي يتولى السرائر، وهذا هو
الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أمرت أن أحكم بالظّاهر»
وفي حديث آخر يقوله لمن تعجل في الحكم وقتل من شهد الشهادتين:
«وهلّا شققت عن قلبه» !!
فموسى نبي صاحب شريعة يحكم بالظاهر على أن إفساد السفينة، وقتل الغلام تصرف في حق الغير على جهة الإفساد من غير سبب ظاهر، وإقامة الجدار فيه تحمل تعب ومشقة من غير سبب ظاهر ولهذا اعترض على صاحبه الخضر، وكرر الاعتراض.
أما الخضر فعالم علمه الله من لدنه علما ببواطن الأمور، وأوقفه على بعض الأسرار الخفية التي تبيح مخالفة الظاهر، ولذا كانت مرتبة الخضر العلمية فوق مرتبة موسى في هذه المسائل، والعلم ببواطن الأمور مرده إلى قوة النفس وصفائها وإشراقها والوحى هو الأستاذ الأول في ذلك، ويظهر- والله أعلم- أن الخضر نبي.
وقد جرى الخضر على أن المسائل الثلاث فيها تعارض بين ضررين: ضرر بسيط، وضرر جسيم، ففعل الأول دفعا للثاني، والذي علمه ذلك هو رب العالمين العليم الخبير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وليس لنا الآن أن ندعى العلم ببواطن الأمور التي تخالف الشرع، فتلك مرتبة مردها إلى قوة النفس ونزول الوحى!! ولسنا من أهلها.
المعنى:
أما السفينة التي خرقتها. وأنكرت علىّ ذلك يا أخى. فقد كانت لمساكين محتاجين يعملون في البحر للتجارة وصيد الأسماك وهي مرتزقهم في الحياة، وكان لهم ملك جبار ظالم نهم يأخذ لنفسه كل سفينة صالحة، ويغتصبها غصبا من أهلها بدون الرجوع إلى حق أو قانون.
فأردت أن أعيبها عيبا بسيطا حتى لا يستولى عليها الملك الظالم، وتبقى للمساكين فأنا لم أعمل سوءا، وإنما ارتكبت أخف الضررين وأحسن الأمرين بالنسبة لهما.
432
وأما الغلام الذي قتلته، واعترضت علىّ بأنى قتلت نفسا زكية طيبة بغير ذنب ولا جريرة فأنت معذور في هذا، ولكن اعلم أنى قتلته لأن الله أطلعنى على مستقبله، وأنه إذ بلغ فسيقع في المنكرات، ويؤذى الأفراد والجماعات وسيتعصب له أبواه وهما مؤمنان، ويدفعان شر الناس عنه، ويكذبانهم، وهذا يسبب لهما الفسوق والعصيان ويجرهما إلى الكفر والطغيان، وهما المؤمنان الصالحان، ولكن حب الولد غريزة.
فخشينا أن يكلفهما عسرا، ويدفعهما إلى الطغيان والكفر فقتلته رجاء أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وطهارة، وأقرب رحمة وعطفا بأبويه.
فأنا لم أعمل سوءا، وإنما ارتكبت أخف الضررين فقتله ضرر وبقاؤه أضر، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
وأما الجدار الذي أقمته، وتعبت فيه، بلا سبب ظاهر فها هي ذي قصته: إنه لغلامين يتيمين في المدينة، وتحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا، وصلاح الآباء ينفع الأبناء إلى حد محدود، فأراد ربك الكريم الذي تعهدك وأنت رضيع وقد ألقتك أمك في البحر، أراد ربك أن يحفظ لهما الكنز حتى يكبرا، ويتقلدا أمرهما فأمرنى بإقامة الجدار إذ لو سقط لضاع الكنز، فكان ذلك رحمة من الله وعطفا، وهو الرحيم الودود.
وما فعلت ذلك كله عن أمرى واجتهادي، ولكنه الوحى من الله والتوفيق منه إلى ذلك، وذلك تأويل وتفسير ما لم تستطع عليه صبرا.
قصة ذي القرنين [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ٩٨]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢)
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧)
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)
433
المفردات:
ذِكْراً ما به تتذكرون وتتعظون مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً السبب في الأصل الحبل تم استعمل في كل ما يتوصل به إلى المقصود عَيْنٍ حَمِئَةٍ عين ذات طين
434
أسود نُكْراً أى: منكرا شديدا الْحُسْنى أى: الجنة سِتْراً أى:
حاجزا يسترهم سَدًّا هو ما يسد به خَرْجاً أى خراجا والخراج يشمل الضريبة وغيرها بِقُوَّةٍ بعدد قوى من الرجال الصناع رَدْماً الردم كالسد إلا أنه أكبر منه وأمتن ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال واليسار زُبَرَ الْحَدِيدِ أى: قطع الحديد بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ هما جانبا الجبل قِطْراً أى: نحاسا مذابا أَنْ يَظْهَرُوهُ يعلوه ويصعدوا عليه نَقْباً أى:
خرقا دَكَّاءَ مستويا بالأرض.
هذا هو السؤال الثالث الذي سأله اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة بواسطة بعض المشركين، وذو القرنين الذي سألوا عنه هل هو الإسكندر المقدونى الذي ظهر قبيل الميلاد؟ بهذا قال بعض العلماء محتجا بأن هذا هو الذي بلغ ملكه أقصى المغرب وأقصى المشرق وأقصى الشمال. وقيل: ليس هو بل غيره من اليمن، ويظهر- والله أعلم- أنه ليس هذا ولا ذاك وإنما هو عبد صالح أعطاه الله ملكا واسعا عريضا وأعطاه الحكمة والهيبة والعلم النافع ونحن لا نعرف من هؤلاء؟ ولا في أى وقت ظهر، وسياق القصة ومخاطبة الله له في أوله إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً وقوله أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً، ويدل على أنه لم يكن الإسكندر المقدونى فإنه لا يمكن أن يصدر منه ما نسبه القرآن إليه مما يدل على التوحيد والإيمان بل كان عبدا صالحا كما قلنا وهل هو نبي أو خوطب على لسان نبي، الله أعلم، وعدم ثبوت ذلك تاريخيا ليس يضيرنا في شيء فالتاريخ إلى الآن لا يزال يثبت أشياء كانت مجهولة له والحفريات التي يقوم بها علماء الآثار شاهد صدق على ما قلناه، على أن الذي ينم به القرآن من قصته أنه سيتلو علينا منه ذكرا لا خبرا تاريخيا!!
المعنى:
ويسألونك عن ذي القرنين، ولم يكن يعرف العرب من أخباره شيئا أبدا ولكن الله- سبحانه- أمر نبيه بقوله: قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً وعبرا وموعظة إنا مكنا له في الأرض، وجعلنا له قدرة ومكنة على التصرف فيها، وآتيناه من أسباب كل شيء أراده في ملكه سببا وطريقا موصلا إليه فأتبع سببا يوصله إليه حتى بلغه.
435
وقد أراد بلاد المغرب فأتبع سببا يوصله إليها حتى بلغها، وكذلك بلاد المشرق، وبلاد الشمال التي فيها السد.
حتى إذا بلغ مغرب الشمس أى: نهاية الأرض من جهة الغرب وجد الشمس تغرب في عين حمئة ذات ماء وطين أسود، ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر من جهة المغرب وجد الشمس كذلك في نظره.
وإنى لأذكر لك رأى الإمام الرازي في كتابه الفخر «إنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضا قال: ووجد عندها قوما، ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير ممكن، وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله- تعالى-: فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ من وجوه، الأول: لما بلغ موضعها في المغرب، ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحريرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر. هذا هو التأويل الذي ذكره أبو على الجبائي في تفسيره انتهى كلام الفخر ص ٥١١ ج ٥ ثم ذكر تأويلات أخرى غير معقولة وغير مقبولة تمسك القلم عنها وأظن الرأى الذي ذكرناه عن الفخر يتفق مع نظريات العلم الحديث في كثير.
ووجد عندها قوما هاله كفرهم، وكبر عليه بغيهم وظلمهم قد عاثوا في الأرض الفساد، وسفكوا الدماء، وأطاعوا أنفسهم وشياطينهم فاستخار الله في أمرهم فخيره ربه بين أمرين قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً إما أن تختار القتل والإبادة لهم جزاء كفرهم وطغيانهم، وإما أن تمهلهم وتدعوهم بالحسنى فاختار ذو القرنين الإمهال والدعوة وقال: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى والمعنى:
أنه أقام فيهم مدة ضرب فيها على يد الظالم، ونصر المظلوم، واقام العدل، ودعا إلى الله.
وبدا له أن يتجه إلى المشرق فسار غازيا مجاهدا منصورا وأتبع لذلك سببا حتى بلغ مطلع الشمس، وأقصى العمران من جهة المشرق، وهناك وجد أقواما تطلع الشمس
436
عليهم، وليس لهم ساتر يسترهم منها جبال أو بيوت أو شجر وهذا يتصور في البلاد الصحراوية. ولعلهم كانوا على نصيب كبير من الجهل والفوضى.
أمر ذي القرنين كذلك كما وصفناه لك، وهو تعظيم له ولشأنه، وقد أحطنا بما لديه من الجند وأسباب الظفر والملك خبرا وهذا يفيد كثرة ما لديه.
ثم بدا له أن يتجه إلى الشمال فأتبع سببا لذلك حتى وصل إلى بلاد بين جبلين يقال إنهما بين أرمينيا وأذربيجان، وقيل غير ذلك.. ويسكن تلك البلاد أقواما لا تكاد تعرف لغتهم إلا بصعوبة، وقد جاوروا يأجوج ومأجوج قبائل من سكان سهول سيبريا الشمالية وهم قوم مفسدون في الأرض على جانب من الفوضى والبدائية.
أما أصحاب السد فحينما رأوا ذا القرنين، وما هو عليه من جاه وسلطان، وما معه من جند وعتاد قالوا له: يا ذا القرنين، إن يأجوج ومأجوج قوم مفسدون في الأرض ويسعون فيها بالفساد، قوم كالوحوش أو أشد؟ فهل نجعل لك جعلا على أن تجعل بيننا وبينهم سدّا حتى لا يصلوا إلينا بحال.
ولكن ذا القرنين رجل مطبوع على حب الخير ومفطور على الصالح من الأعمال ومع هذا قد مكنه الله في الأرض، وأعطاه الكثير من المال والثروة فقد أجابهم إلى سؤالهم، ورد عطاءهم قائلا: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ثم طلب إليهم أن يعينوه بالرجال والعمال.
فحشدوا له الحديد والنحاس والخشب والوقود حتى وضعوه مكان السد ثم أوقدوا النار فيها وأفرغ على ذلك كله ذائب النحاس مرة بعد مرة حتى استوى بين الجبلين سد منيع.
فما استطاع يأجوج ومأجوج وقبيلهما أن يعلوه ويظهروا عليه لارتفاعه وملاسته وما استطاعوا له نقبا لقوته وسمكه، وأراح الله منهم شعوبا كانت تتألم منهم كثيرا.
أما ذو القرنين فما إن رأى السد منيعا حصينا حتى هتف قائلا هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
ويمكننا أن نقول إن أقصى المشرق وأقصى المغرب وأقصى الشمال هذا بالنسبة للمعمورة في ذلك الوقت السحيق لا بالنسبة للمعروف في ذلك الوقت، وليس لنا
437
أن نقول أين هذا السد الآن وأين مكانه؟ فتلك أزمان بعيدة موغلة في البعد وقد قال الله فإذا جاء وعد ربي جعله أرضا مستوية فعدم وجوده دليل على أن الوعد جاء، ولم يعد للسد وجود، والله أعلم بكتابه.
عاقبة الكفر يوم القيامة [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٩ الى ١٠٦]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)
المفردات:
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ماج الناس إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج البحر والمراد أنهم يضطربون ويختلطون فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي غطاء الشيء ما يستره من جميع جوانبه، والمراد بذكر الله آياته الكونية والقرآنية وذكرها تدبرها وتفهم معانيها نُزُلًا جعلنا جهنم لهم مهيأة كالنزل الذي يعد ويهيأ للضيف فَحَبِطَتْ أصل الحبوط انتفاخ بطن الدابة عند تغذيتها بنوع سام في الكلأ ثم هلاكها وما أشبه العمل
438
الضار الذي ينفخ صاحبه ثم يهلك به بالحبوط وَزْناً المراد لا نعبأ بهم، ولا يكون لهم عندنا قدرة.
وهذا رجوع إلى الأساس الأول في السورة وهو إثبات البعث.
المعنى:
يقول الحق- تبارك وتعالى-: وتركنا عبادنا يوم يأتيهم وعدنا الذي وعدناهم بأنا ندك الجبال دكا، وننسفها عن الأرض نسفا، فنذرها قاعا صفصفا تركناهم يومئذ يموج بعضهم في بعض كموج البحر مضطربين مختلطين، وذلك في أول أيام القيامة، ونفخ في الصور النفخة الأولى فصعق من في السموات والأرض أى: مات وهلك حتى الملك الذي نفخ فيه ثم نفخ فيه أخرى- وهي المراد هنا- فإذا هم قيام ينظرون ماذا يحل بهم بدليل قوله- تعالى- فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً فإن الفاء تشعر بذلك والمعنى:
جمعنا الخلائق بعد تلاشى أبدانهم ومصيرها ترابا جمعا تاما على أكمل صفة وأبدع هيئة.
وعرضنا جهنم يومئذ على الكافرين عرضا، لا يكون ذلك إلا بإبرازها وإظهارها حتى يشاهدوها، وما فيها، وفي هذا تنكيل بهم، وإيلام لهم، وأى إيلام؟
هم الكافرون الذين كانت أعينهم القلبية في غطاء وساتر عن آياتي التي يشاهدها من له عقل رشيد، وقلب سليم فيذكر الله بالتوحيد والتمجيد، وآيات الله تشمل آياته الكونية والقرآنية.
وكانوا لا يستطيعون سمعا لكلام الله، وكلام رسوله وصدق الله، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ.
أكفروا فحسبوا أن يتخذوا عبادي كالملائكة وبعض الخلق من دوني أولياء؟ فظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبير آيات الله، وتعاميهم عن قبول الحق؟! أكافيهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء؟! لا يكفيهم هذا ولن ينفعهم كما ظنوا، ولا غرابة في ذلك لأن الله أعد جهنم للكافرين وهيأها لهم كما يهيأ المنزل للضيف، وفي هذا استهزاء بهم وأى استهزاء؟
439
قل لهم يا محمد: هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وخاب فألهم فيها، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، الذين يعبدون الله على غير الحق فيدخلون في الدين ما ليس فيه، وهم يحسبون أنهم على الحق وغيرهم على الباطل، وهؤلاء هم التاركون لكتاب الله وسنة رسوله المفارقون للجماعة.
أولئك الذين كفروا بآيات ربهم التكوينية والتنزيلية وكفروا بلقائه فحبطت أعمالهم، وبطلت وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً. [الفرقان ٢٣]. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً [الغاشية ٢- ٤] فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا، وليس لهم قدر، ولا نعبأ بهم، وذلك جزاؤهم جهنم بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوا فلم يؤمنوا بها... وهكذا يكون مآل كل خارج عن حدود الدين..
عاقبة الإيمان والعمل الصالح [سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)
المفردات:
الْفِرْدَوْسِ أعلى مكان في الجنة وأوسعه وأفضله، وقال المبرد: الفردوس- فيما سمعت من العرب- الشجر الملتف، والأغلب عليه أن يكون من العنب حِوَلًا أى: تحولا.
وهذا هو الإيمان المصحوب بالعمل الصالح، وعاقبته بعد بيان الكفر والفسوق ونهايته لعل الناس يتعظون.
المعنى:
إن الذين آمنوا إيمانا عميقا بعد فهمهم الدين فهما روحيا خالصا وعملوا الصالحات الباقيات: هؤلاء كانت لهم جنات الفردوس التي هي أعلى مكان في الجنة، وأرفع مرتبة
فيها قد أعدت لهم إعدادا كاملا وهيئت لهم كما يهيأ المنزل للنزيل والضيف، حالة كونهم فيها خالدون ومقيمون إلى ما شاء الله وهم لا يبغون عنها تحويلا، ولا تتجه نفوسهم، إلى أحسن منها لأنها جمعت كل حسن، وحازت كل وصف، فتبارك الله أحسن الخالقين، وذلك فضل ربك وعطاؤه.
كمال علمه واحاطته بكل شيء [سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
المفردات:
مِداداً المداد ما يكتب به. وسمى بذلك لإمداده الكاتب، وفيه معنى زيادة ومجيء الشيء بعد الشيء لَنَفِدَ الْبَحْرُ لفرغ البحر وانتهى مَدَداً أى: زيادة.
سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أصحاب الكهف والرقيم، وعن الروح وعن ذي القرنين، وأوحى الله إليه بالإجابة عن هذه الأسئلة التي قصد بها إحراجه وفي ختام السورة تعرض القرآن لبيان علمه- سبحانه- المحيط بكل شيء الذي لا يتناهى عند حد لبيان قدرته وتكوينه مع بيان موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه بشر أوحى إليه وهنا يتطامن الإنسان أمام علم الله وقدرته.
والمهم ليس كثرة السؤال وإنما العمل للقاء رب الأرباب مع البعد عن نواحي الإشراك.
المعنى:
قل لهم يا محمد: لو كان البحر مدادا يكتب به وكتبت كلمات علم الله به لنفد
441
البحر وفرغ، ولم تنفد كلمات الله العليم الخبير العزيز الحكيم، لو لم تجيء بمثله مددا وزيادة، ولو جئنا بمثله مددا وزيادة، إذ لا حصر لكلمات الله لأنها تابعة لمعلوماته وهي غير متناهية عند حد، وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «١» وتذييل هذه الآية التي تشبه آياتنا تماما بقوله تعالى عَزِيزٌ حَكِيمٌ يشير إلى أن المراد بكلمات الله كلماته التكوينية التي هي قوله للشيء كن فيكون أى التي بها الإيجاد والخلق، وإيجاد الله وخلقه للأشياء لا حد له أبدا ولا نهاية له أصلا إذ هو الخالق دائم الإيجاد في الدنيا كما ترى، وفي الآخرة ليتم نعيم المؤمنين، وعذاب الكافرين الذين هم فيه خالدون ومداد البحر مهما كان فهو محدود، وله نهاية والله أعلم بكتابه.
قل لهم: إنما أنا بشر مثلكم تماما لا علم لي بشيء أبدا لم أحضر عند معلم، ولم أقرأ كتابا ولم أجلس لإنسان يهديني لهذا الذي أجبتكم به، ولكن أوحى إلى، وعلمني ربي من لدنه علما، ومما أوحى إلى أنما إلهكم إله واحد، لا شريك له فانظروا إلى مصيركم! فمن كان يرجوا لقاء ربه ويحبه ويؤمن به حقا فليعمل عملا صالحا ينفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وعليه ألا يشرك بعبادة ربه أحدا كائنا ما كان.
(١) سورة لقمان الآية ٢٧.
442
Icon