تفسير سورة مريم

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة مريم من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

( تفسير ) ( ١ ) سورة مريم مكية ( و ) ( ٢ ) قد روينا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال :«سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه من تلادي، وفي رواية : من العتاق الأول ».
١ - من "ك"، وفيها تأخير البسملة عن ذكر السورة..
٢ - ليست في "ك"..

وَقَوله تَعَالَى: ﴿كهيعص﴾. رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: هَذَا اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى، وَحكي عَنهُ أَنه قَالَ: (يَا الله يَا عين صَاد)، اغْفِر لي. وَعَن الْحسن وَقَتَادَة: اسْم من أَسمَاء السُّورَة. وَأما ابْن عَبَّاس فالمروي عَنهُ: أَن كل حرف مَأْخُوذ من اسْم، فالكاف مَأْخُوذ من الْكَافِي، وَمِنْهُم من قَالَ: من كَبِير، وَمِنْهُم من قَالَ: من كريم، وَأما الْهَاء قَالَ ابْن عَبَّاس: مَأْخُوذ من الْهَادِي، وَأما الْيَاء مَأْخُوذ من حَلِيم، وَمِنْهُم من قَالَ: من يَمِين، وَمِنْهُم من قَالَ: من أَمِين، وَقَالَ بَعضهم: الْيَاء من يَاء النداء، وَأما الْعين فَقَالَ ابْن عَبَّاس: من عليم، وَعَن غَيره: من عَزِيز. وَأما الصَّادِق، قَالَ ابْن عَبَّاس: من الصادم. وَقد بَينا قبل هَذَا أقوالا فِي الْحُرُوف المهجاة فِي أَوَائِل السُّور.
وَقَوله: ﴿ذكر رَحْمَة رَبك عَبده زَكَرِيَّا﴾ يَعْنِي: هَذَا ذكر رَحْمَة رَبك عَبده زَكَرِيَّا، وَقَالَ بَعضهم: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير؛ يَعْنِي: هَذَا ذكر رَبك عَبده زَكَرِيَّا بِالرَّحْمَةِ.
وَقَوله: ﴿إِذْ نَادَى ربه نِدَاء خفِيا﴾ أَي: دَعَا ربه دُعَاء خفِيا. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " خير الدُّعَاء الْخَفي، وَخير الرزق مَا يَكْفِي ". وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا: " دَعْوَة السِّرّ
276
﴿قَالَ رب إِنِّي وَهن الْعظم مني واشتعل الرَّأْس شيبا وَلم أكن بدعائك رب شقيا (٤) وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا فَهَب لي من لَدُنْك وليا (٥) ﴾ تفضل دَعْوَة الْعَلَانِيَة بسبعين دَرَجَة ".
فَإِن قيل: لم أخْفى؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَنه أفضل، وَالْآخر: لِأَنَّهُ استحيا من النَّاس أَن يَدْعُو جَهرا، فَيَقُولُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخ يسْأَل على كبره الْوَلَد!. وَيُقَال: إِنَّه أخْفى، لِأَنَّهُ دَعَا فِي جَوف اللَّيْل، وَهُوَ ساجد.
277
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب إِنِّي وَهن الْعظم مني﴾ يَعْنِي: رق وَضعف من الْكبر. قَالَ قَتَادَة: اشْتَكَى سُقُوط الأضراس.
قَوْله: ﴿واشتعل الرَّأْس شيبا﴾ أَي: شعر الرَّأْس. وَالْعرب تَقول إِذا كثر الشيب فِي الرَّأْس: اشتعل رَأسه، وَهَذَا أحسن اسْتِعَارَة، لِأَنَّهُ يشتعل فِيهِ كاشتعال النَّار فِي الْحَطب.
وَقَوله: ﴿وَلم أكن بدعائك رب شقيا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّك عودتني الْإِجَابَة، وَلم تخيبني، وَالْآخر: وَلم أكن بدعائك لي شقيا يَعْنِي: لما دعوتني إِلَى الْإِيمَان آمَنت، وَلم أشق بترك الْإِيمَان.
وَقَوله: ﴿وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي﴾ قَالَ أَبُو صَالح: المُرَاد مِنْهُ الْكَلَالَة. وَعَن أبي عُبَيْدَة: بَنو الْعم.
وَقَوله: ﴿ورائي﴾ أَي بعدِي، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: ورائي أَي: أَمَامِي. وَالْقَوْل الأول أصح.
وَفِي الشاذ: " وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي " أَي: قلت.
وَقَوله: ﴿وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا﴾. العاقر: هِيَ الَّتِي لَا تَلد.
وَقَوله: ﴿فَهَب لي من لَدُنْك وليا﴾.
وَقَوله: ﴿يَرِثنِي﴾ أَي: ولدا يَرِثنِي. فَإِن
277
﴿يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب واجعله رب رَضِيا (٦) ﴾ قيل: كَيفَ يخَاف نَبِي الله أَن يَرِثهُ بَنو الْعم والعصبة؟ وأيش معنى هَذَا الْخَوْف؟ ! وَعَن قَتَادَة قَالَ: أَي شَيْء كَانَ على نَبِي الله زَكَرِيَّا أَن يَرِثهُ غير وَلَده؟
وَالْجَوَاب: أَنه اخْتلف الْأَقْوَال فِي الْإِرْث: فَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه أَرَادَ بِهِ إِرْث المَال، وَهُوَ قَول جمَاعَة، وَعنهُ أَيْضا أَن المُرَاد مِنْهُ: إِرْث الْعلم، وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ، وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه مِيرَاث الحبورة، فَإِنَّهُ كَانَ رَأس الْأَحْبَار.
قَالَ الزّجاج: وَالْأولَى أَن يحمل على مِيرَاث غير المَال؛ لِأَنَّهُ يبعد أَن يشفق زَكَرِيَّاء عَلَيْهِ السَّلَام - وَهُوَ نَبِي من الْأَنْبِيَاء - أَن يَرِثهُ بَنو عَمه وعصبته مَالا، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كَانَ زَكَرِيَّا نجارا ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل: أخبرنَا بِهِ أَبُو الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد بن النقور، قَالَ أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، قَالَ عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ، قَالَ هدبة بن خَالِد، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت، عَن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي... الْخَبَر. خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح، وَلم يُخرجهُ البُخَارِيّ؛ لِأَنَّهُ لَا يرْوى عَن حَمَّاد بن سَلمَة.
وَالْمرَاد من الْخَوْف أَنه أَرَادَ أَن يكون وَارثه فِي النُّبُوَّة والحبورة وَلَده، وَقد قَالَ النَّبِي: " إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع [عمله] إِلَّا من ثَلَاثَة.. وَقَالَ فِيهَا: ولد صَالح يَدْعُو لَهُ ".
وَقَوله: ﴿وَيَرِث من آل يَعْقُوب﴾ قيل: النُّبُوَّة، وَقيل: الْملك؛ لِأَن زَكَرِيَّا كَانَ من بَيت الْملك.
وَقَوله: ﴿واجعله رب رَضِيا﴾ أَي: مرضيا.
278
﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نبشرك بِغُلَام اسْمه يحيى لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا (٧) قَالَ رب أَنى﴾
279
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نبشرك بِغُلَام﴾ مَعْنَاهُ: قُلْنَا: زَكَرِيَّا إِنَّا نبشرك.
وَقَوله: ﴿بِغُلَام اسْمه يحيى لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا﴾ يَعْنِي: من تسمى باسمه. فَإِن قيل: وَأي فَضِيلَة لَهُ فِي هَذَا؟ قُلْنَا: فَضِيلَة التَّخْصِيص، وَقيل: فَضِيلَة تَسْمِيَة الله إِيَّاه بِهَذَا الِاسْم. وَفِي الْآيَة قَول آخر: هُوَ أَن قَوْله: ﴿لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا﴾ أَي: شبها ومثلا؛ فَإِنَّهُ لم يُذنب، وَلم يهم بذنب، وَمَا من أحد إِلَّا وَقد أذْنب أَو هم بذنب. وَقد رُوِيَ هَذَا عَن النَّبِي فِي خبر مُسْند أَنه قَالَ: " مَا من أحد يَأْتِي الله يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا وَقد أذْنب أَو هم بذنب غير يحيى بن زَكَرِيَّا، ثمَّ أَخذ عودا صَغِيرا من الأَرْض وَقَالَ: مَا كَانَ لَهُ إِلَّا مثل هَذَا " وَالْخَبَر غَرِيب.
279
﴿يكون لي غُلَام وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا وَقد بلغت من الْكبر عتيا (٨) قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين وَقد خلقتك من قبل وَلم تَكُ شَيْئا (٩) قَالَ رب اجْعَل لي آيَة قَالَ﴾
وَقيل فِي منع الشُّبْهَة: أَنه لم تَلد عَاقِر من النِّسَاء مثله.
280
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب أَنى يكون لي غُلَام وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا وَقد بلغت من الْكبر عتيا﴾ أَي: يأسا وجفوفا، كَأَنَّهُ شكى نحولة الْعظم والفحل.
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " عسيا " بِالسِّين، وَالْمعْنَى وَاحِد.
وَقيل: كَيفَ سَأَلَ الله الْوَلَد فَلَمَّا أُجِيب قَالَ: ﴿أَنى يكون لي غُلَام﴾ ؟
وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه كَانَ قَالَ حَال الشَّبَاب، ثمَّ إِنَّه أُجِيب فِي حَال الْكبر. وَهَذَا قَول ضَعِيف.
القَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: أَنى يكون لي غُلَام؟ يَعْنِي: كَيفَ يكون لي غُلَام؟ أفتردني إِلَى حَال الشَّبَاب أَو تهب لي الْغُلَام وَأَنا شيخ؟ وَقيل: إِنَّه سَأَلَ الْوَلَد مُطلقًا لَا من هَذِه الْمَرْأَة، فَقَالَ: كَيفَ يكون لي الْغُلَام؟ أَمن هَذِه الْمَرْأَة أَو من غَيرهَا؟
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين﴾ أَي: يسير.
وَقَوله: ﴿وَقد خلقتك من قبل وَلم تَكُ شَيْئا﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب اجْعَل لي آيَة﴾ أَي: دلَالَة. فَإِن قيل: لم سَأَلَ الْآيَة؟ أما صدق الله تَعَالَى حَتَّى يسْأَل الْآيَة؟. وَالْجَوَاب: أَن فِي الْقِصَّة: أَن الشَّيْطَان تمثل لَهُ، وَقَالَ: إِن الَّذِي يجبك لَيْسَ هُوَ الله، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان يستهزئ بك، فَحِينَئِذٍ سَأَلَ الله
280
﴿آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سويا (١٠) فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب فَأوحى إِلَيْهِم أَن سبحوا بكرَة وعشيا (١١) يَا يحيى﴾ الْآيَة، وَقد سَأَلَ الْآيَة ليَكُون زِيَادَة فِي سُكُون الْقلب.
وَقَوله: ﴿قَالَ آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سويا﴾ أَي: مُتَتَابِعَات، وَقيل: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: أَلا يتَكَلَّم النَّاس سويا يَعْنِي: وَأَنت سوي لَا آفَة بك ثَلَاث لَيَال.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه لم يقدر أَن يتَكَلَّم مَعَ النَّاس، وَكَانَ إِذا أَرَادَ التَّسْبِيح وَذكر الله يُطلق لِسَانه.
281
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب﴾ قد بَينا معنى الْمِحْرَاب.
وَقَوله: ﴿فَأوحى إِلَيْهِم﴾ أَي: أَوْمَأ إِلَيْهِم ﴿أَن سبحوا بكرَة وعشيا﴾
وَرُوِيَ أَنه كَانَ يَدُور على الْأَحْبَار كل يَوْم بكرَة وعشيا، وَيَأْمُرهُمْ بِالْعبَادَة وَالصَّلَاة، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِه الْأَيَّام جعل يُشِير، وَيُقَال: إِنَّه كتب حَتَّى قرءوا مِنْهُ.
وَقَالَ بعض أهل الْعلم: إِن أَخذ لِسَانه عَن الْكَلَام كَانَ عُقُوبَة عَلَيْهِ لما سَأَلَ الله تَعَالَى عَن الْآيَة بعد أَن سمع وعد الله إِيَّاه، وَالله أعلم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا يحيى﴾ قيل: يحيى مَأْخُوذ من قَوْله: (يَا) حَيّ ". وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره: أَن " سارة " كَانَ اسْمهَا " يسارة " فسماها جِبْرِيل " سارة "، فَقَالَت: لم نقصت من اسْمِي حرفا؟ فَقَالَ: هُوَ لولد لَك يَأْتِي من بعْدك، وَكَانَ اسْم يحيى: " حَيّ " فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ على معنى أَنه حَيّ من كبيرين أيسا من الْوَلَد، ثمَّ زيد فِيهِ الْيَاء فَصَارَ " يحيى ". وَفِي الْآيَة حذف، وَمَعْنَاهُ: وهبنا لَهُ الْوَلَد ثمَّ قُلْنَا: يَا يحيى.
281
﴿خُذ الْكتاب بِقُوَّة وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا (١٢) وَحَنَانًا من لدنا وَزَكَاة وَكَانَ تقيا (١٣) وَبرا بِوَالِديهِ وَلم يكن جبارا عصيا (١٤) وَسَلام عَلَيْهِ يَوْم ولد وَيَوْم يَمُوت وَيَوْم يبْعَث﴾
وَقَوله: ﴿خُذ الْكتاب بِقُوَّة﴾ أَي: بجد واجتهاد.
وَقَوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا﴾ أَي النُّبُوَّة. هَذَا قَول أَكثر الْمُفَسّرين، وَقَالَ قَتَادَة: أعْطى النُّبُوَّة وَهُوَ ابْن ثَلَاث سِنِين. وَقيل: المُرَاد من الحكم هُوَ الْعلم، فَقَرَأَ التَّوْرَاة، وَهُوَ صَغِير. وَعَن بعض السّلف قَالَ: من قَرَأَ الْقُرْآن قبل أَن يبلغ، فَهُوَ مِمَّن أُوتِيَ الحكم صَبيا. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث رَوَاهُ أَبُو وَائِل: وَهُوَ أَن يحيى قيل لَهُ وَهُوَ صَغِير: تعال نلعب، فَقَالَ: مَا للعب خلقت ". فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا﴾.
282
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَحَنَانًا من لدنا﴾ أَي: رَحْمَة من عندنَا، قَالَ الشَّاعِر:
(أَبَا مُنْذر (أفنيت فَاسْتَبق بَعْضنَا)
حنانيك بعض الشَّرّ أَهْون من بعض)
هُوَ مَأْخُوذ من التحنن وَهُوَ التعطف.
وَقَوله: " وَزَكَاة " أَي " طَهَارَة وتوفيقا، وَقيل: إخلاصا.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ تقيا﴾. وَصفه بالتقوى؛ لِأَنَّهُ لم يُذنب، وَلم يهم بذنب.
وَقَوله: ﴿وَبرا بِوَالِديهِ﴾ أَي: عطوفا.
وَقَوله: ﴿وَلم يكن جبارا عصيا﴾ الْجَبَّار هُوَ الَّذِي يقتل على
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَسَلام عَلَيْهِ يَوْم ولد وَيَوْم يَمُوت وَيَوْم يبْعَث حَيا﴾ خص هَذِه الْأَحْوَال بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، لِأَن هَذِه الْأَحْوَال أوحش شَيْء فَإِنَّهُ عِنْد الْولادَة يخرج من بطن
282
﴿حَيا (١٥) وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم إِذْ انتبذت من أَهلهَا مَكَانا شرقيا (١٦) فاتخذت من دونهم حِجَابا فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا فتمثل لَهَا بشرا سويا (١٧) قَالَت إِنِّي أعوذ﴾ الْأُم على وَحْشَة شَدِيدَة، وَيَمُوت على وَحْشَة شَدِيدَة، وَيبْعَث على وَحْشَة شَدِيدَة. وَمعنى السَّلَام هُوَ: الْأمان فِي هَذِه الْمَوَاضِع.
283
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم إِذا انتبذت من أَهلهَا﴾ أَي: تنحت واعتزلت. وَقَوله: ﴿من أَهلهَا﴾ أَي: من قَومهَا.
وَقَوله: ﴿مَكَانا شرقيا﴾ أَي: من جَانب الْمشرق، وَيُقَال: كَانَ يَوْمًا شاتيا شَدِيد الْبرد، فَذَهَبت إِلَى مشرقه تفلي رَأسهَا. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَت طهرت من الْحيض فَذَهَبت لتغتسل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فاتخذت من دونهم حِجَابا﴾ اخْتلف القَوْل فِي هَذَا الْحجاب: أحد الْأَقْوَال: أَنه وَرَاء جِدَار، وَقيل: وَرَاء جبل، وَالْقَوْل الثَّالِث: وَرَاء ستر. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَت تجردت لتغتسل.
وَقَوله: ﴿فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَنه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِيه قَول آخر: أَن المُرَاد من الرّوح عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، جَاءَ فِي صُورَة بشر، وحملت بِهِ، وَالصَّحِيح هُوَ القَوْل الأول.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فتمثل لَهَا بشرا سويا﴾ فِي الْقِصَّة: أَنه جِبْرِيل جَاءَ فِي صُورَة غُلَام أَمْرَد وضىء الْوَجْه، (لَهُ) جعد قطط.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا﴾ يَعْنِي: أستجير بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا. فَإِن قيل: إِنَّمَا يستعاذ بالرحمن من الشَّخْص إِذا كَانَ فَاجِرًا، فَأَما إِذا كَانَ متقيا لَا يكون مَحل الِاسْتِعَاذَة مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ متقي لَا يقدم على الْفُجُور، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن هَذَا كَقَوْل الْقَائِل: إِن كنت مُؤمنا فَلَا تظلمني، يَعْنِي أَنه يَنْبَغِي أَن
283
﴿بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكيا (١٩) قَالَت أَنى يكون لي غُلَام وَلم يمسسني بشر وَلم أك بغيا (٢٠) قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين ولنجعله آيَة للنَّاس وَرَحْمَة منا وَكَانَ أمرا مقضيا (٢١) فَحَملته فانتبذت بِهِ﴾ يكون إيمانك مَانِعا من الظُّلم. كَذَلِك هَاهُنَا مَعْنَاهُ: يَنْبَغِي أَن يكون تقواك مَانِعا من الْفُجُور وَقيل: إِنَّهَا شكت فِي حَاله، فَقَالَت مَا قَالَت على الشَّك، وَالْقَوْل الثَّالِث: إِن كنت متقيا يَعْنِي: مَا كنت متقيا جِئْت دخلت عَليّ فِي هَذِه الْحَالة، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِن كَانَ للرحمن ولد﴾ أَي: مَا كَانَ للرحمن ولد. وَعَن بعض السّلف أَنه قَالَ: إِن كنت متقيا علمت أَن التقى ذُو نهية أَي: ذُو عقل؟ فَلهَذَا قَالَت: إِن كنت تقيا.
284
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك﴾. وقرىء: " ليهب لَك " فَقَوله: ﴿لأهب﴾ أضَاف إِلَى نَفسه، لِأَنَّهُ أرسل بالموهوب على يَده، وَقَوله: " ليهب " أَي: ليهب الله لَك. وَقَوله: ﴿غُلَاما زكيا﴾ أَي: طَاهِرا صَالحا.
قَوْله: ﴿قَالَت أَنى يكون لي غُلَام وَلم يمسسني بشر﴾ أَي: زوج. ﴿وَلم أك بغيا﴾ أَي: زَانِيَة وَمَعْنَاهُ: إِن الْوَلَد يكون من نِكَاح أَو سفاح، وَلَيْسَ هَاهُنَا وَاحِد مِنْهُمَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين﴾ أَي: يسير.
وَقَوله: ﴿ولنجعله آيَة للنَّاس﴾ أَي: عَلامَة للنَّاس وَدلَالَة.
قَوْله: ﴿وَرَحْمَة منا﴾ أَي: ونعمة منا.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ أمرا مقضيا﴾ أَي: مَحْكُومًا [محتما] لَا يرد وَلَا يُبدل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَحَملته﴾ فِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نفخ فِي جيب درعها، وَفِي رِوَايَة: فِي كم قميصها، وَفِي رِوَايَة: فِي فِيهَا، فَحملت بِعِيسَى فِي الْحَال، وَأخذ يَتَحَرَّك فِي الْبَطن.
284
﴿مَكَانا قصيا (٢٢) فأجاءها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة قَالَت يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا وَكنت﴾
وَقَوله: ﴿فانتبذت﴾ أَي: فتنحت وَتَبَاعَدَتْ ﴿بِهِ مَكَانا قصيا﴾ أَي: شاسعا بَعيدا.
قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ الْحمل والولادة فِي سَاعَة وَاحِدَة.
وَقَالَ غَيره: حملت بِهِ ثَمَانِيَة أشهر، وَولدت لَهَا، وَلَا يعِيش ولد فِي الْعَالم يود لثمانية أشهر، وَكَانَ هَذَا معْجزَة لعيسى.
وَفِي الْقِصَّة عَن مَرْيَم أَنَّهَا قَالَت: كنت إِذا خلوت جعل عِيسَى يحدثني، وَأَنا أحدثه وَهُوَ فِي بَطْني، وَإِذا كنت مَعَ النَّاس، وتكلمت مَعَهم أَخذ يسبح وأسمع تسبيحه.
285
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأجاءها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة﴾ وَقَالَ أهل اللُّغَة: جاءها وأجاءها بِمَعْنى وَاحِد، كَمَا يُقَال: أذهبته وَذَهَبت بِهِ. قَالَ مُجَاهِد: فأجاءها أَي: فألجأها. وَفِي حرف ابْن مَسْعُود: " فأداها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة ". وَفِي بعض الْقِرَاءَة: " فاجأها " من المفاجئة، قَالَ الشَّاعِر:
(وجار سَار مُعْتَمدًا عَلَيْكُم فاجاءته المخافة والرجاء)
والمخاض: وجع الْولادَة. فَإِن قَالَ قَائِل: لم التجأت إِلَى جذع النَّخْلَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: لتستظل بهَا، وَالأَصَح أَنَّهَا التجأت إِلَى النَّخْلَة، لتستند إِلَيْهَا، أَو لتتمسك بهَا، فتستعين بذلك على وجع الْولادَة. وَالدَّلِيل على أَن هَذَا القَوْل أصح، أَو أَنه من الْمَشْهُور أَن النَّخْلَة كَانَت يابسة لَا رَأس لَهَا، وَقيل: كَانَت نخرة مجوفة، وَمثل هَذَا لَا يستظل بهَا وَالصَّحِيح هُوَ القَوْل الثَّانِي. وَعَن السّديّ أَنه قَالَ: كَانَت النَّخْلَة يابسة، فَلَمَّا هزت النَّخْلَة حييت، وأورقت وأطلعت ثمَّ صَار الطّلع بلحا، ثمَّ زهوا ثمَّ أرطبت، وتساقطت عَلَيْهَا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالَت يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا وَكنت نسيا منسيا﴾
285
﴿نسيا منسيا (٢٣) فناداها من تحتهَا أَلا تحزني قد جعل رَبك تَحْتك سريا (٢٤) وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة تساقط عَلَيْك رطبا جنيا (٢٥) فكلي واشربي وقري عنيا فإمَّا تَرين﴾
النسي فِي اللُّغَة: كمل مَا (إِذا) ألقِي لم يذكر وَنسي؛ لحقارته وخساسته. وَقَوله: ﴿نسيا﴾ أَي: متروكا. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَعْنَاهُ: يَا لَيْتَني لم أخلق، وَلم أك شَيْئا. وَعَن قَتَادَة: لم أعرف وَلم أذكر. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: دم حَيْضَة ملقاة.
فَإِن قيل: لم تمنت الْمَوْت؟. وَالْجَوَاب: أَنَّهَا تمنت الْمَوْت استحياء من قَومهَا. وَيُقَال: إِنَّهَا تمنت الْمَوْت، لِأَنَّهَا علمت أَن النَّاس يكفرون بِسَبَب ابْنهَا وبسببها، فتمنت الْمَوْت حَتَّى لَا يعْصى الله بِسَبَبِهَا وبسبب ابْنهَا.
286
قَوْله تَعَالَى: ﴿فناداها من تحتهَا﴾ قرىء: " من " بِالْفَتْح وَالْكَسْر، فَأَما من قَرَأَ بِالْفَتْح فَحمل الْآيَة على أَن الْمُنَادِي كَانَ جِبْرِيل. وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَجَمَاعَة، وَأما من قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَحمل على أَن الْمُنَادِي هُوَ عِيسَى. وَهَذَا قَول الْحسن وَمُجاهد، وَأظْهر الْقَوْلَيْنِ أَن الْمُنَادِي هُوَ جِبْرِيل، وَيجوز أَن تحمل القراءتان على ذَلِك.
وَفِي الْقِصَّة: أَن مَرْيَم كَانَت على أكمة، فَكَانَ جِبْرِيل وَرَاء الأكمة تحتهَا.
وَقَوله: ﴿أَلا تحزني﴾. أَلا تغتمي بِالْولادَةِ من غير زوج وبالوحدة.
وَقَوله: ﴿قد جعل رَبك تَحْتك سريا﴾ أَكثر الْمُفَسّرين أَن السّري هَاهُنَا هُوَ: النَّهر، وَيُسمى سريا؛ لِأَنَّهُ يسري فِيهِ المَاء، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: هُوَ نهر صَغِير.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ هُنَاكَ نهر يَابِس فَأجرى الله تَعَالَى فِيهِ المَاء، وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا القَوْل أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى: ﴿فكلي واشربي﴾ أَي: كلي من الرطب، واشربي من النَّهر، وَقَالَ الشَّاعِر فِي السّري بِمَعْنى النَّهر:
(سهل الْخَلِيفَة ماجد ذِي نائل مثل السّري عدَّة الْأَنْهَار)
وَفِي السّري قَول آخر، وَهُوَ أَنه بِمَعْنى: الشريف، وَالْمرَاد بِهِ. عِيسَى. قَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين:
286
﴿من الْبشر أحدا فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا (٢٦) فَأَتَت بِهِ﴾
287
قَوْله تَعَالَى: ﴿وهزي إِلَيْك بجذع الْخلَّة﴾ قد بَينا هَذَا من قبل، وَذكرنَا أَنَّهَا هزت وأورقت وأثمرت.
وَقَوله: ﴿تساقط عَلَيْك رطبا﴾ أَي: تتساقط، فأدغمت إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى.
والجني: هُوَ الَّذِي بلغ الْغَايَة، وَجَاء أَوَان اجتنائه.
قَالَ الْكَلْبِيّ: رطبا بغباره. وَعَن ابْن الْمسيب بن دارم قَالَ: كَانَ برنيا، وَهِي أشْبع التَّمْر. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: كَانَ عَجْوَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فكلي واشربي﴾ أَي: كل من الرطب، واشربي من النَّهر.
وَقَوله: ﴿وقري عينا﴾ أَي: طيبي نفسا. وَمِنْه قَوْلهم: أقرّ الله عَيْنك، وَقيل: [أَن] الْعين إِذا بَكت من السرُور بالدمع يكون بَارِدًا، وَإِذا بَكت من الْحزن يكون حارا، فَمن هَذَا: أقرّ الله عَيْنك، وأسخن الله عينه.
وَقَوله: ﴿فإمَّا تَرين﴾ مَعْنَاهُ: فإمَّا تَرين، وَذكر النُّون للتَّأْكِيد.
وَقَوله: ﴿من الْبشر أحدا﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما﴾ قرىء فِي الشاذ: " صمتا ". وَالْمَعْرُوف: " صوما " وَمَعْنَاهُ هُوَ: صمت، وَيُقَال: إِنَّهَا صَامت عَن الْكَلَام وَالطَّعَام جَمِيعًا، وَقيل: كَانَ الرجل من بني إِسْرَائِيل إِذا اجْتهد فِي الْعِبَادَة صَامَ عَن الْكَلَام وَالطَّعَام جَمِيعًا.
وَالنّذر عقد على الْبر لَو تمّ أَمر.
وَقَوله: ﴿فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا﴾ أَي: أحدا. فَإِن قيل: هِيَ تَكَلَّمت بِهَذَا، فَكيف تكون صَائِمَة عَن الْكَلَام؟
قُلْنَا: أذن لَهَا فِي هَذَا الْقدر من الْكَلَام.
287
﴿قَومهَا تحمله قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فريا (٢٧) يَا أُخْت هَارُون مَا كَانَ أَبوك امْرأ﴾
288
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَتَت بِهِ قَومهَا تحمله﴾ فِي الْقِصَّة أَنَّهَا ولدت ثمَّ (حَملته) فِي الْحِين إِلَى قَومهَا، وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنَّهَا حَملته إِلَى قَومهَا بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا من وِلَادَتهَا.
وَقَوله: ﴿قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فريا﴾ قَالَ مُجَاهِد: عَظِيما مُنْكرا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: عجبا. وَقيل: مختلقا مفتعلا. وَقد رُوِيَ أَنَّهَا لما أَتَت بِعِيسَى إِلَى قَومهَا وَأهل بَيتهَا حزنوا حزنا شَدِيدا - وَكَانُوا أهل بَيت صالحين - وظنوا بهَا الظنون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أُخْت هَارُون﴾ يَا شَبيهَة هَارُون. قَالَ قَتَادَة: وَكَانَ هَارُون رجلا عابدا فِي بني إِسْرَائِيل، وَلَيْسَ هُوَ هَارُون أَخُو مُوسَى، فشبهوها بِهِ على معنى أَنا ظننا وحسبنا (أَنَّك فِي) الصّلاح مثل هَارُون، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن المبذرين كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين﴾ أَي: أشباه الشَّيَاطِين.
وَعَن كَعْب: أَن هَارُون كَانَ من أعبد بني إِسْرَائِيل وأمثلهم، قَالَ: وَلما توفّي صلى على جنَازَته أَرْبَعُونَ ألفا، كلهم يسمون هَارُون سوى سَائِر النَّاس، وَكَانُوا يسمون أَوْلَادهم باسمه لحبهم إِيَّاه.
وروى الْمُغيرَة بن شُعْبَة " أَن النَّبِي لما (بَعثه) إِلَى نَجْرَان قَالَ لَهُ نَصَارَى نَجْرَان: إِنَّكُم تقرءون: يَا أُخْت هَارُون! بَين مَرْيَم وَهَارُون كَذَا وَكَذَا من السنين، فَلم يدر الْمُغيرَة كَيفَ يُجيب، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى النَّبِي ذكر ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: أَلا قلت لَهُم: كَانُوا يسمون باسم أَنْبِيَائهمْ وصالحيهم ". رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن المُرَاد بهَارُون: أَخُو مُوسَى، وَهَذَا كَمَا يَقُول الْقَائِل:
288
﴿سوء وَمَا كَانَت أمك بغيا (٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا﴾ أَخا تَمِيم، أَو يَا أَخا ثَعْلَب، إِذا كَانَ من أَوْلَاده، وَقد كَانَت مَرْيَم من أَوْلَاد هَارُون. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن هَارُون كَانَ رجلا فَاسِقًا فِي بني إِسْرَائِيل عَظِيم الْفسق، فشبهوها بِهِ.
وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: أَن هَارُون كَانَ أَخا مَرْيَم لأَبِيهَا، فعلى هَذَا المُرَاد من الْأُخوة فِي النّسَب.
وَقَوله: ﴿مَا كَانَ أَبوك امْرأ سوء وَمَا كَانَت أمك بغيا﴾ أَي: زَانِيَة. وَمَعْنَاهُ: كَيفَ جِئْت مفْسدَة زَانِيَة من أبوين صالحين؟
289
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ مَعْنَاهُ: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ أَي: كَلمُوهُ. قَالَ ابْن مَسْعُود: لما لم يكن لَهَا حجَّة أشارت إِلَيْهِ؛ لتبرىء ساحتها، وَيكون كَلَامه حجَّة (لَهَا).
وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا لما أشارت إِلَيْهِ غضب الْقَوْم، وَقَالُوا: مَعَ مَا فعلت تهزئين وتسخرين بِنَا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا﴾ فَإِن قيل: أيش معنى قَوْله: ﴿كَانَ فِي المهد صَبيا﴾، وَمَا من رجل من الْعَالم إِلَّا كَانَ فِي المهد صَبيا؟ ! وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كَانَ صلَة، وَمعنى الْآيَة: كَيفَ نُكَلِّم صَبيا فِي المهد؟. وَقَالَ الزّجاج: هَذَا على طَرِيق الشَّرْط، أَي: من هُوَ صبي فِي المهد كَيفَ نكلمه؟.
وَمعنى " كَانَ ": هُوَ، أَو معنى " كَانَ ": صَار، وَهَذَا اخْتِيَار [ابْن] الْأَنْبَارِي.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ إِنِّي عبد الله﴾ فِي التَّفْسِير: أَن مَرْيَم لما أشارت إِلَيْهِ فَكَانَ يرتضع من ثديها فَترك الثدي، وَأَقْبل على (الْقَوْم، واتكأ على) يسَاره، وَجعل يُشِير بِيَمِينِهِ، وَقَالَ هَذَا القَوْل.
وَقَوله: ﴿إِنِّي عبد الله﴾ أقرّ بالعبودية أَولا؛ لِئَلَّا يتَّخذ إِلَهًا.
289
( ﴿٢٩) قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِي الْكتاب وَجَعَلَنِي نَبيا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْن مَا كنت وأوصاني بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة مَا دمت حَيا (٣١) وَبرا بوالدتي وَلم يَجْعَلنِي جبارا شقيا﴾
وَقَوله: ﴿آتَانِي الْكتاب﴾. أَي: الْإِنْجِيل. وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه أُوتِيَ الْإِنْجِيل وَهُوَ صَغِير طِفْل؛ إِلَّا أَنهم قَالُوا: كَانَ يعقل عقل الرِّجَال. هَذَا قَول الْحسن وَغَيره من السّلف، وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: جعل نَبيا، وأوتي الْإِنْجِيل، وَهُوَ فِي بطن أمه.
وَقَالَ بَعضهم: ﴿آتَانِي الْكتاب﴾ أَي: سيؤتيني الْكتاب، ويجعلني نَبيا إِذا صرت رجلا. وَالصَّحِيح هُوَ الأول. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت على وصف آدم فِي الْعقل وَالْعلم دون الْقَامَة والجثة.
وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: أسلمته أمه إِلَى الْمعلم، فَقَالَ الْمعلم: قل بِسم. فَقَالَ: الله. فَقَالَ: قل: الرَّحْمَن. قَالَ: الرَّحِيم. فَجعل كلما ذكر اسْما ذكر هُوَ الَّذِي يَلِيهِ، فَقَالَ الْمعلم: هَذَا أعلم مني، ثمَّ جعل يخبر الصّبيان بِمَا خبأت أمهاتهم فِي الْبيُوت، فَجعل الصّبيان يرجعُونَ إِلَى بُيُوتهم ويأخذونها، فضجت الْأُمَّهَات من ذَلِك.
290
فَقَوله: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا﴾ أَي: نَفَّاعًا معلما للخير، وَقَالَ الضَّحَّاك: قَضَاء للحوائج.
وَقَالَ الثَّوْريّ: آمرا بِالْمَعْرُوفِ وناهيا عَن الْمُنكر.
وَقَوله: ﴿أَيْنَمَا كنت﴾ أَي: حَيْثُ كنت.
وَقَوله: ﴿وأوصاني بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة﴾ أَي: أَمرنِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة. فَإِن قيل: لم يكن لعيسى مَال، فَكيف يُؤمر بِالزَّكَاةِ؟ وَالْجَوَاب: أَن مَعْنَاهُ أَمرنِي بِالزَّكَاةِ لَو كَانَ لي مَال، وَقيل: أَمرنِي بِالزَّكَاةِ أَي: بِالطَّهَارَةِ من الذُّنُوب، وَيُقَال: بالاستكثار من الْخَيْر.
وَقَوله: ﴿مادمت حَيا﴾ أَي: مَا حييت.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَبرا بوالدتي﴾ أَي: رءوفا وعطوفا بوالدتي.
290
( ﴿٣٢) وَالسَّلَام عَليّ يَوْم ولدت وَيَوْم أَمُوت وَيَوْم أبْعث حَيا (٣٣) ذَلِك عِيسَى ابْن مَرْيَم قَول الْحق الَّذِي فِيهِ يمترون (٣٤) مَا كَانَ لله أَن يتَّخذ من ولد سُبْحَانَهُ إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون (٣٥) ﴾
وَقَوله: ﴿وَلم يَجْعَلنِي جبارا شقيا﴾ الْجَبَّار: المتكبر، والشقي هُوَ الَّذِي يَعْصِي الله، وَيُقَال: الْجَبَّار هُوَ الَّذِي يقتل، وَيضْرب على الْغَضَب، وَهَذَا قَول مَعْرُوف، وَيُقَال: الْجَبَّار هُوَ الَّذِي يظلم النَّاس، والشقي هُوَ الَّذِي يُذنب، وَلَا يَتُوب من الذَّنب.
291
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالسَّلَام عَليّ يَوْم ولدت﴾ مَعْنَاهُ: التَّحِيَّة وَالْحِفْظ من الله لي يَوْم ولدت ﴿وَيَوْم أَمُوت وَيَوْم أبْعث حَيا﴾ وَقَالَ بَعضهم: السَّلَام بِمَعْنى السَّلامَة عِنْد الْولادَة، هُوَ السَّلامَة من طعن الشَّيْطَان وهمزه، والسلامة عِنْد الْمَوْت هُوَ من الشّرك، فَإِن أَكثر الشّرك يكون عِنْد الْمَوْت، والسلامة يَوْم الْقِيَامَة من الْأَهْوَال.
وَقيل: السَّلامَة عِنْد الْمَوْت من ضغطة الْقَبْر، وَقيل: سَلامَة عِنْد الْمَوْت بالوصول إِلَى السَّعَادَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك عِيسَى ابْن مَرْيَم﴾ يَعْنِي: هَذَا عِيسَى ابْن مَرْيَم ﴿قَول الْحق الَّذِي فِيهِ يمترون﴾. يَعْنِي: هَذَا القَوْل هُوَ القَوْل الْحق، وَقَوله ﴿الَّذِي فِيهِ يمترون﴾ أَي: يَخْتَلِفُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ لله أَن يتَّخذ من ولد﴾ مَعْنَاهُ: مَا يصلح لله، وَمَا يَنْبَغِي أَن يتَّخذ من ولد. فَإِن قيل: هلا قَالَ ولدا؟ قُلْنَا: قَالَ من ولد للْمُبَالَغَة؛ فَإِن الرجل قد يَقُول: مَا اتخذ فلَان فرسا يُرِيد الْعدَد، وَإِن كَانَ قد اتخذ وَاحِدًا. فَإِذا قَالَ: مَا اتخذ فلَان من فرس، يكون ذَلِك نفيا للْوَاحِد وَالْعدَد. وَقد بَينا أَن الْوَلَد يكون من جنس الْوَالِد، وَالله لَا جنس لَهُ.
وَقَوله سُبْحَانَهُ: ﴿إِذا قضى أمرا﴾ قد بَينا معنى الْقَضَاء.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون﴾ قد ذكرنَا أَيْضا.
291
﴿وَإِن الله رَبِّي وربكم فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم (٣٦) فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم فويل للَّذين كفرُوا من مشْهد يَوْم عَظِيم (٣٧) أسمع بهم وَأبْصر يَوْم يأتوننا لَكِن﴾
292
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن الله رَبِّي وربكم﴾. أَكثر الْمُفَسّرين أَن هَذَا بِنَاء على قَول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَمَعْنَاهُ: قَالَ إِنِّي عبد الله... إِلَى آخِره، وَقَالَ: إِن الله رَبِّي وربكم، وَأما أَن بِالْفَتْح مَعْنَاهُ: وَأخْبر بِأَن الله رَبِّي وربكم، وَقيل تَقْدِيره: وَلِأَن الله رَبِّي وربكم، فاعبده، وَالْعَامِل قَوْله: ﴿فاعبدوه﴾.
وَقَوله: ﴿فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم﴾ قَالَ قَتَادَة وَابْن جريج وَغَيرهمَا: لما رفع عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى السَّمَاء، اخْتَار بَنو إِسْرَائِيل أَرْبَعَة من رُءُوسهم، وسألوهم عَن عِيسَى، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ أحدهم: كَانَ هُوَ الله نزل من السَّمَاء، وَصَارَ فِي بطن مَرْيَم، وَأَحْيَا وأمات، ثمَّ صعد إِلَى السَّمَاء. فَقَالَ الْآخرُونَ: كذبت، وَهَذَا قَول اليعقوبية من النَّصَارَى.
وَقَالَ الثَّانِي: كَانَ هُوَ ابْن الله، فَقَالَ الْآخرَانِ: كذبت. وَهَذَا قَول النسطورية من النَّصَارَى.
وَقَالَ الثَّالِث: كَانَ ثَالِث ثَلَاثَة: الله وَمَرْيَم وَعِيسَى، فعيسى أحد الأقانيم الثَّلَاثَة، وَهَذَا قَول الملكانية من النَّصَارَى، قَالَ الرَّابِع: كذبت. ثمَّ إِن الرَّابِع قَالَ: هُوَ عبد الله وَرَسُوله، وَتبع كل وَاحِد جمَاعَة فَاقْتَتلُوا، وَظهر على الْمُسلمين، وَبَقِي الْأَقْوَال الثَّلَاثَة من النَّصَارَى. فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم﴾.
وَقَوله: ﴿فويل للَّذين كفرُوا﴾. قد بَينا معنى الويل.
وَقَوله: ﴿من مشْهد يَوْم عَظِيم﴾ يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أسمع بهم وَأبْصر﴾ يَعْنِي: مَا أسمعهم وأبصرهم يَوْم الْقِيَامَة. وَإِنَّمَا
292
﴿الظَّالِمُونَ الْيَوْم فِي ضلال مُبين (٣٨) وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة إِذْ قضي الْأَمر وهم فِي غَفلَة﴾ وَصفهم بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ وَصفهم بالبكم والعمي والصمم فِي الدُّنْيَا، فَأخْبر أَنهم يسمعُونَ ويبصرون فِي الْآخِرَة، مَا لم يسمعوا ويبصروا فِي الدُّنْيَا. وَيُقَال: وَصفهم بِشدَّة السّمع وَالْبَصَر فِي الْآخِرَة بِحُصُول الْإِدْرَاك بِغَيْر رُؤْيَة وَلَا فكر.
وَقَوله: ﴿يَوْم يأتوننا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿لَكِن الظَّالِمُونَ الْيَوْم فِي ضلال مُبين﴾ أَي: خطأ بَين.
وَيُقَال قَوْله: ﴿أسمع بهم وَأبْصر﴾ تهديد ووعيد وَمَعْنَاهُ: أَنهم يسمعُونَ مَا تصدع قُلُوبهم، ويرون مَا يُهْلِكهُمْ.
293
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة﴾ مَعْنَاهُ: يَوْم الندامة، وَيُقَال: كل النَّاس يندمون يَوْم الْقِيَامَة؛ أما الْمُسِيء فيندم هلا أحسن، وَأما المحسن فيندم هلا ازْدَادَ (حسنا). وَأما قَول أَكثر الْمُفَسّرين فِي الْآيَة: هَذِه الْحَسْرَة حَيْثُ يذبح الْمَوْت على الصِّرَاط، وَقد صَحَّ الْخَبَر بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي، أَنه قَالَ:
" إِذا أَدخل الله أهل الْجنَّة الْجنَّة، وَأهل النَّار النَّار يُنَادي مُنَاد: يَا أهل الْجنَّة، فيشرفون وَيَنْظُرُونَ، وينادي: يَا أهل النَّار، فيشرفون وَيَنْظُرُونَ؛ فَيُؤتى بِالْمَوْتِ على صُورَة كَبْش أَمْلَح، فَيُقَال لَهُم: هَل تعرفُون هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نعرفه، هَذَا هُوَ الْمَوْت فَيذْبَح ". وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة: " يذبح على الصِّرَاط " ثمَّ يُقَال: يَا أهل الْجنَّة خُلُود (وَلَا موت)، وَيَا أهل النَّار، خُلُود فَلَا موت ". وَفِي بعض الرِّوَايَات: " لَو مَاتَ أهل الْجنَّة لماتوا فَرحا، وَلَو مَاتَ أهل النَّار لماتوا حزنا، ثمَّ قَرَأَ النَّبِي: ﴿وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة إِذْ قضي الْأَمر﴾.. الْآيَة ".
293
﴿وهم لَا يُؤمنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحن نرث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وإلينا يرجعُونَ (٤٠) وَاذْكُر فِي الْكتاب إِبْرَاهِيم إِنَّه كَانَ صديقا نَبيا (٤١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَت لم تعبد مَا لَا يسمع وَلَا يبصر وَلَا يُغني عَنْك شَيْئا (٤٢) يَا أَبَت إِنِّي قد جَاءَنِي من الْعلم مَا لم يأتك فاتبعني﴾
وَقَوله: ﴿قضي الْأَمر﴾ أَي: فرغ من الْأَمر.
وَقَوله: ﴿وهم فِي غَفلَة﴾ مَعْنَاهُ: وهم فِي غَفلَة فِي الدُّنْيَا عَمَّا يعْمل بهم فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿وهم لَا يُؤمنُونَ﴾ أَي: لَا يصدقون.
294
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا نَحن نرث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا﴾ الْآيَة. مَعْنَاهُ: إِنَّا نميت سكان الأَرْض، ونهلكهم، فَتكون الأَرْض وَمن عَلَيْهَا لنا وَفِي حكمنَا. وَمعنى الْإِرْث: هُوَ أَنه لَا يبْقى لأحد ملك وَلَا سَبَب سوى الله.
قَوْله: ﴿وإلينا يرجعُونَ﴾ أَي: يردون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاذْكُر فِي الْكتاب إِبْرَاهِيم إِنَّه كَانَ صديقا﴾ الصّديق هُوَ: الْكثير الصدْق، الْقَائِم عَلَيْهِ. وَيُقَال: من صدق الله فِي وحدانيته، وَصدق أنبياءه وَرُسُله، وَصدق بِالْبَعْثِ، وَقَامَ بالأوامر فَعمل بهَا؛ فَهُوَ صديق.
وَقَوله: ﴿نَبيا﴾ النَّبِي هُوَ: العالي فِي الرُّتْبَة بإرسال الله إِيَّاه، وَإِقَامَة الدَّلِيل على صدقه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَت﴾ مَعْنَاهُ: يَا أبي، فأقيمت التَّاء مقَام يَاء الْإِضَافَة.
وَقَوله: ﴿لم تعبد مَا لَا يسمع وَلَا يبصر وَلَا يُغني عَنْك شَيْئا﴾ أَي: لَا يسمع إِن دَعوته، وَلَا يبصر إِن أَتَيْته ﴿وَلَا يُغني عَنْك شَيْئا﴾ لَا يدْفع عَنْك، وَمَعْنَاهُ: لَا يغيثك إِن استغثت بِهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَبَت إِنِّي قد جَاءَنِي مَا لم يأتك﴾ أَي: من الْعلم والمعرفة بِاللَّه مَا لم يأتك.
294
﴿أهدك صراطا سويا (٤٣) يَا أَبَت لَا تعبد الشَّيْطَان إِن الشَّيْطَان كَانَ للرحمن عصيا (٤٤) يَا أَبَت إِنِّي أَخَاف أَن يمسك عَذَاب من الرَّحْمَن فَتكون للشَّيْطَان وليا (٤٥) قَالَ أراغب أَنْت عَن آلهتي يَا إِبْرَاهِيم لَئِن لم تَنْتَهِ لأرجمنك واهجرني مَلِيًّا (٤٦) قَالَ سَلام﴾
﴿فاتبعني أهدك﴾ أرشدك ﴿صراطا سويا﴾ مُسْتَقِيمًا.
295
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَبَت لَا تعبد الشَّيْطَان﴾ مَعْنَاهُ: لَا تُطِع الشَّيْطَان فِيمَا يزين لَك من الْكفْر والشرك.
وَقَوله: ﴿إِن الشَّيْطَان كَانَ للرحمن عصيا﴾ أَي: عَاصِيا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَبَت إِنِّي أَخَاف﴾ الْخَوْف هَا هُنَا بِمَعْنى: الْعلم، وَمَعْنَاهُ: إِنِّي أعلم أَنه ﴿يمسك عَذَاب من الرَّحْمَن﴾ إِن أَقمت على الْكفْر.
﴿فَتكون للشَّيْطَان وليا﴾ يَعْنِي: يلزمك ولَايَة أَي: مُوالَاة الشَّيْطَان وَتَكون مثله. وَقيل: فتوكل إِلَى الشَّيْطَان، ويخذلك الله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ أراغب أَنْت عَن آلهتي يَا إِبْرَاهِيم﴾
فِي الْقِصَّة: أَن أَبَا إِبْرَاهِيم كَانَ ينحت الصَّنَم ويعبده، وَكَانَ يُعْطي الْأَصْنَام بنيه يبيعونها، فَكَانَ إِذا أعْطى إِبْرَاهِيم صنما يَبِيعهُ، فَيَقُول إِبْرَاهِيم: من يَشْتَرِي مني مَا يضرّهُ وَلَا يَنْفَعهُ؟ ! فَيرجع وَمَا بَاعَ، وَيرجع سَائِر الْبَنِينَ وَقد باعوا.
وَقَوله: ﴿قَالَ أراغب أَنْت عَن آلهتي يَا إِبْرَاهِيم﴾ يُقَال: رغب عَن الشَّيْء إِذا تَركه، وَرغب (فِي الشَّيْء إِذا طلبه).
وَقَوله: ﴿لَئِن لم تَنْتَهِ﴾ يَعْنِي: عَن عَمَلك. ﴿لأرجمنك﴾. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: لأَقْتُلَنك بِالْحِجَارَةِ، وَقَالَ غَيره: لأشتمنك، ولأبعدنك عَن نَفسِي بالشتم والقبح من القَوْل "، وَهَذَا أعرف الْقَوْلَيْنِ. وَقَوله: ﴿واهجرني مَلِيًّا﴾ قَالَ الْحسن: زَمَانا طَويلا. وَقَالَ عِكْرِمَة: دهرا.
295
﴿عَلَيْك سأستغفر لَك رَبِّي إِنَّه كَانَ بِي حفيا (٤٧) وأعتزلكم وَمَا تدعون من دون الله وأدعو رَبِّي عَسى أَلا أكون بِدُعَاء رَبِّي شقيا (٤٨) فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يعْبدُونَ من دون﴾
قَالَ مهلهل شعرًا:
(إِن السّري إِذا سرى بِنَفسِهِ وَابْن السّري إِذا سرى أسراهما)
(فتصدعت صم الْجبَال لمَوْته وبكت عَلَيْهِ المرملات مَلِيًّا)
وَمِنْه: الملوان هُوَ اللَّيْل وَالنَّهَار. وَيُقَال: مَلِيًّا أَي: سليما سويا من عقوبتي وإيذائي، وَحكي هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَمِنْه: فلَان ملي بِأَمْر كَذَا، إِذا كَانَ كَامِلا فِيهِ.
296
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ سَلام عَلَيْك﴾.
قَالَ بَعضهم: هَذَا سَلام هجران ومفارقة. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ سَلام بر ولطف، وَهُوَ جَوَاب حَلِيم لسفيه، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما﴾.
وَيُقَال: معنى قَوْله: ﴿سَلاما﴾ أَي: سَلامَة لَك مني؛ لِأَنَّهُ لم يكن أَمر بقتاله.
وَقَوله: ﴿سأستغفر لَك رَبِّي﴾. فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: سأستغفر لَك رَبِّي إِن آمَنت، وَالْقَوْل الثَّانِي: سأسأل الله لَك التَّوْبَة الَّتِي توجب الْمَغْفِرَة، وَقد كَانَت تَوْبَته هِيَ الْإِيمَان. وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ بِي حفيا﴾ أَي: عودني الْإِجَابَة لدعائي. وَقيل: محبا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأعتزلكم﴾ [هَذَا الاعتزال] هُوَ: تَركهم فِي مهاجرته إِلَى الشَّام على مَا قَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿وَقَالَ إِنِّي مهَاجر إِلَى رَبِّي﴾.
وَقَوله: ﴿وَمَا تدعون من دون الله﴾ أَي: تَعْبدُونَ من دون الله.
وَقَوله: ﴿وأدعو رَبِّي﴾ أَي: وأعبد رَبِّي.
وَقَوله: ﴿عَسى أَلا أكون بِدُعَاء رَبِّي شقيا﴾ عَسى من الله وَاجِب، وَالدُّعَاء بِمَعْنى الْعِبَادَة، والشقاوة: الخيبة من الرَّحْمَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يعْبدُونَ من دون الله وهبنا لَهُ إِسْحَاق﴾
296
﴿الله وهبنا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب وكلا جعلنَا نَبيا (٤٩) وَوَهَبْنَا لَهُم من رَحْمَتنَا وَجَعَلنَا لَهُم لِسَان صدق عليا (٥٠) وَاذْكُر فِي الْكتاب مُوسَى إِنَّه كَانَ مخلصا وَكَانَ رَسُولا نَبيا﴾ ﴿وَيَعْقُوب﴾ هُوَ ابْن إِسْحَاق.
وَمَعْنَاهُ: أَنا أعطيناه أَوْلَادًا كراما بررة عوض الَّذين كَانَ يَدعُوهُم إِلَى عبَادَة الله فَلم يجيبوا.
وَقَوله: ﴿وكلا جعلنَا نَبيا﴾ يَعْنِي: إِسْحَاق وَيَعْقُوب.
297
﴿وَوَهَبْنَا لَهُم من رَحْمَتنَا﴾ يَعْنِي: أنعمنا عَلَيْهِم، وأعطيناهم من كرامتنا ونعمنا.
وَقَوله: ﴿وَجَعَلنَا لَهُم لِسَان صدق عليا﴾ أَي: ثَنَاء حسنا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَقد بَينا أَن كل أهل الْأَدْيَان يتولون: إِبْرَاهِيم، فَهُوَ الثَّنَاء الْحسن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاذْكُر فِي الْكتاب مُوسَى إِنَّه كَانَ مخلصا﴾ وَقُرِئَ: " مخلصا " " مخلصا " بِالْفَتْح وَالْكَسْر، فبالكسر أَي: موحدا لله وبالفتح أَي: مُخْتَارًا من الله تَعَالَى. وَقيل: مخلصا أَي: خَالِصا، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿ورجلا سلما لرجل﴾ أَي: خَالِصا لرجل.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ رَسُولا نَبيا﴾. قيل: الرَّسُول وَالنَّبِيّ وَاحِد، وَقد فرق بَينهمَا، وَقد بَينا من قبل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وناديناه من جَانب الطّور الْأَيْمن﴾ الطّور: جبل بَين مصر ومدين، وَيُقَال: اسْمه الزبير.
وَقَوله: ﴿الْأَيْمن﴾ وَقيل: يَمِين الْجَبَل، وَقيل: يَمِين مُوسَى، وَالأَصَح يَمِين مُوسَى؛ لِأَن الْجَبَل لَيْسَ لَهُ يَمِين وَلَا شمال.
297
( ﴿٥١) وناديناه من جَانب الطّور الْأَيْمن وقربناه نجيا (٥٢) وَوَهَبْنَا لَهُ من رَحْمَتنَا أَخَاهُ هَارُون نَبيا (٥٣) وَاذْكُر فِي الْكتاب إِسْمَاعِيل إِنَّه كَانَ صَادِق الْوَعْد وَكَانَ رَسُولا نَبيا﴾
وَقَوله: ﴿وقربناه نجيا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أدناه حَتَّى سمع صرير الْقَلَم، وَقيل: صريف الْقَلَم. وَفِي رِوَايَة: رَفعه على الْحجب.
وَيُقَال: قربناه نجيا أَي: كلمناه، والتقريب هَا هُنَا هُوَ التَّكَلُّم، وَأما النجي فَهُوَ المناجي، وَكَأن مَعْنَاهُ على هَذَا القَوْل: أَن الله يكلمهُ، وَهُوَ يكلم الله.
298
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ من رَحْمَتنَا أَخَاهُ هَارُون نَبيا﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: إِنَّمَا سمى نبوة هَارُون هبة لمُوسَى؛ لِأَن مُوسَى كَانَ قَالَ: ﴿وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي هَارُون أخي﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاذْكُر فِي الْكتاب إِسْمَاعِيل﴾. الْأَكْثَرُونَ أَن هَذَا: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم أَبُو النَّبِي، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ إِسْمَاعِيل بن حزقيل، نَبِي آخر؛ فَإِن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم توفّي قبل إِبْرَاهِيم. وَالصَّحِيح هُوَ القَوْل الأول، وَقد كَانَ بعث إِلَى جرهم [وَهِي] قَبيلَة، وَأما وَفَاته قبل إِبْرَاهِيم لَا تعرف.
وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ صَادِق الْوَعْد﴾ قَالَ سُفْيَان: لم يعد الله شَيْئا من نَفسه إِلَّا وفى بِهِ، وَمن الْمَعْرُوف أَنه وعد إنْسَانا شَيْئا فأنتظره ثَلَاثَة أَيَّام فِي مَكَان وَاحِد، فَسُمي صَادِق الْوَعْد، وَيُقَال: انتظره حولا.
وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ: إِن للكذاب أطرافا، وَأعظم الْكَذِب إخلاف المواعيد، واتهام الأبرياء.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي بَايع رجلا قبل الْوَحْي، فَقَالَ لَهُ ذَلِك الرجل: مَكَانك يَا مُحَمَّد، حَتَّى أرجع إِلَيْك، وَذهب وَنسي، ثمَّ مر بذلك الْمَكَان بعد ثَلَاثَة أَيَّام، فَوجدَ النَّبِي جَالِسا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: أتعبتني أَيهَا الرجل، أَنا أنتظرك
298
( ﴿٥٤) وَكَانَ يَأْمر أَهله بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَكَانَ عِنْد ربه مرضيا (٥٥) وَاذْكُر فِي الْكتاب﴾ مُنْذُ ثَلَاث ".
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه جعل إخلاف الْوَعْد ثلث النِّفَاق.
وَعَن زيد بن أَرقم، أَن من وعد إنْسَانا وَمن نِيَّته أَن يَفِي بِهِ، ثمَّ لم يتَّفق الْوَفَاء، فَإِنَّهُ لَا يدْخل فِي هَذَا الْوَعيد.
وروى [قباث] بن أَشْيَم أَن النَّبِي قَالَ: " الْعدة عَطِيَّة ". هُوَ خبر غَرِيب.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ رَسُولا نَبيا﴾ قد بَينا.
299
قَوْله: ﴿وَكَانَ يَأْمر أَهله بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة﴾ قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وَكَانَ يَأْمر قومه بِالصَّلَاةِ ".
وَقَالَ أهل التَّفْسِير: إِن معنى قَوْله: ﴿وَكَانَ يَأْمر أَهله﴾ أَي: أمته، وَإِن أمة كل نَبِي أهلوه.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ عِنْد ربه مرضيا﴾ أَي: مُخْتَارًا وَمَعْنَاهُ: رضيه الله لنبوته ورسالته.
299
﴿إِدْرِيس إِنَّه كَانَ صديقا نَبيا (٥٦) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا (٥٧) أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله﴾
300
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاذْكُر فِي الْكتاب إِدْرِيس﴾. قيل: إِدْرِيس هُوَ أَبُو جد نوح. يُسمى إِدْرِيس لِكَثْرَة درسه الْكتب.
وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: هُوَ أول من خطّ بالقلم، وَأول من لبس الثِّيَاب، وَكَانَ من قبله يلبسُونَ الْجُلُود، وَأول من اتخذ السِّلَاح وَقَاتل الْكفَّار.
قَوْله: ﴿إِنَّه كَانَ صديقا نَبيا﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا﴾ قد ثَبت بِرِوَايَة أنس أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت إِدْرِيس لَيْلَة الْمِعْرَاج فِي السَّمَاء الرَّابِعَة ". فَهُوَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا﴾ فِي الْجنَّة يَعْنِي: رَفعه.
وَقيل: هِيَ الرّفْعَة بعلو الْمرتبَة. وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه فِي السَّمَاء الرَّابِعَة حَيّ أم ميت: أحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه حَيّ.
قَالَ قوم من أهل الْعلم: أَرْبَعَة من الْأَنْبِيَاء فِي الْأَحْيَاء، اثْنَان فِي السَّمَاء، وَاثْنَانِ فِي الأَرْض، أما اللَّذَان فِي السَّمَاء: فإدريس، وَعِيسَى، وَأما اللَّذَان فِي الأَرْض: فالخضر، وإلياس.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن إِدْرِيس ميت. قَالَ كَعْب الْأَحْبَار: كَانَ لإدريس صديق من الْمَلَائِكَة، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أحب أَن أعرف مَتى أَمُوت؛ لِأَزْدَادَ من الْعَمَل، فَهَل لَك أَن تسْأَل ملك الْمَوْت؟ فَقَالَ: أسأله وَأَنت تسمع، ثمَّ رَفعه تَحت جنَاحه إِلَى السَّمَاء، وَجَاء إِلَى ملك الْمَوْت، فَقَالَ: هَل تعرف أَن إِدْرِيس مَتى يَمُوت؟ فَقَالَ: حَتَّى أنظر، ثمَّ
300
﴿عَلَيْهِم من النَّبِيين من ذُرِّيَّة آدم وَمِمَّنْ حملنَا مَعَ نوح وَمن ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم وَإِسْرَائِيل وَمِمَّنْ هدينَا واجتبينا إِذا تتلى عَلَيْهِم آيَات الرَّحْمَن خروا سجدا وبكيا (٥٨) فخلف من﴾ استخرج كتابا، وَنظر فِيهِ، فَقَالَ: بَقِي من عمره سِتّ سَاعَات - وَفِي رِوَايَة لَحْظَة - وَقبض روحه ثمَّة، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا﴾ وَهَذَا قَول مَعْرُوف.
301
قَوْله: ﴿أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين من ذُرِّيَّة آدم﴾ وَالْمرَاد من ذُرِّيَّة آدم: إِدْرِيس.
وَقَوله: ﴿وَمِمَّنْ حملنَا مَعَ نوح﴾. أَي: وَمن ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح، وَالْمرَاد مِنْهُ: إِبْرَاهِيم؛ لِأَنَّهُ كَانَ من ولد سَام بن نوح.
وَقَوله: ﴿وَمن ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم﴾ المُرَاد مِنْهُ: إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِسْرَائِيل﴾. أَي: من ذُرِّيَّة إِسْرَائِيل، وَالْمرَاد مِنْهُ: مُوسَى وَدَاوُد وَسليمَان ويوسف وَعِيسَى، وكل أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل.
وَقَوله: ﴿وَمِمَّنْ هدينَا واجتبينا﴾ هَذَا يرجع إِلَى الْأَوَّلين، وَمَعْنَاهُ: أَنا هديناهم، واختبرناهم، وَهَؤُلَاء ذُرِّيتهمْ.
وَقَوله: ﴿إِذا تتلى عَلَيْهِم آيَات الرَّحْمَن خروا سجدا﴾ أَي: سقطوا، وَقيل: وَقَعُوا بِوُجُوهِهِمْ ساجدين، والسجد جمع ساجد.
وَقَوله: ﴿وبكيا﴾ أَي: بَاكِينَ.
وَرُوِيَ أَن النَّبِي مر على رجل، وَهُوَ ساجد يَدْعُو، فَقَالَ: " هَذَا السُّجُود وَأَيْنَ الْبكاء "؟ !.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فخلف من بعدهمْ خلف﴾ الْخلف: الرَّدِيء من الْقَوْم. وَالْخلف
301
(بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَات فَسَوف يلقون غيا (٥٩) إِلَّا من تَابَ وآمن وَعمل صَالحا فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَا يظْلمُونَ شَيْئا (٦٠) جنَّات عدن الَّتِي وعد الرَّحْمَن عباده بِالْغَيْبِ إِنَّه كَانَ وعده مأتيا (٦١)) الصَّالح فِي الْقَوْم. وَالْخلف هُوَ الَّذِي يخلف غَيره، وَذكر الْفراء والزجاج أَنه يجوز أَن يسْتَعْمل أَحدهمَا مَكَان الآخر.
وَقَوله: ﴿أضاعوا الصَّلَاة﴾. فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أخروها عَن وَقتهَا، وَالْآخر: تركوها أصلا. وَعَن ابْن شَوْذَب: هُوَ التَّأْخِير عَن الْوَقْت، وَلَو تركوها أصلا لكفروا.
وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: هُوَ شربهم الْخمر، وتركهم الصَّلَاة.
وَقَالَ مُجَاهِد: هَؤُلَاءِ قوم يظهرون فِي آخر الزَّمَان ينزوا بَعضهم على بعض فِي الْأَسْوَاق والأزقة، وَقيل: هم الزناة. وَيُقَال: أضاعوا الصَّلَاة بِاتِّبَاع الشَّهَوَات.
وَقَوله: ﴿فَسَوف يلقون غيا﴾ قيل: الغي وَاد فِي جَهَنَّم، وَقيل: غيا: هَلَاكًا، وَقيل: غيا: جُزْءا غيهم. شعر:
302
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِلَّا من تَابَ وآمن وَعمل صَالحا فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَا يظْلمُونَ شَيْئا﴾. أَي: لَا ينقصُونَ شَيْئا.
قَوْله: ﴿جنَّات عدن الَّتِي وعد الرَّحْمَن عباده بِالْغَيْبِ﴾ مَعْنَاهُ: جنَّات إِقَامَة، يُقَال: عدن بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ.
وَقَوله: ﴿الَّتِي وعد الرَّحْمَن عباده بِالْغَيْبِ﴾ أَي: بالمغيب.
وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ وعده مأتيا﴾. مفعول فِي الْإِتْيَان، وكل مَا أَتَيْته فقد أَتَاك، وَالْعرب لَا تفرق بَين أَن يَقُول الْقَائِل: أتيت على خمسين سنة أَو يَقُول: أَتَت على خَمْسُونَ سنة، وَكَذَلِكَ لَا تفرق بَين أَن يَقُول الْقَائِل: وصل الْخَيْر إِلَيّ، وَبَين أَن يَقُول:
302
﴿لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا إِلَّا سَلاما وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا (٦٢) تِلْكَ الْجنَّة الَّتِي﴾ وصل إِلَيّ الْخَيْر:
وَيُقَال معنى قَوْله: (" آتِيَا " أَي: " مأتيا ") مفعول بِمَعْنى الْفَاعِل.
303
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا إِلَّا سَلاما﴾
الغغو: هُوَ الْفَاسِد من الْكَلَام، وَمَا لَا معنى لَهُ، وَقيل: هُوَ الهذر من القَوْل، وَقيل: الْقَبِيح مِنْهُ، وَقيل: هُوَ الْحلف الكاذبة.
وَقَوله: ﴿إِلَّا سَلاما﴾. مَعْنَاهُ: لَكِن يسمعُونَ سَلاما. فَإِن قيل: أَيجوزُ اسْتثِْنَاء السَّلَام من اللَّغْو؛ وَهُوَ لَيْسَ من جنسه؟ قُلْنَا: هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع كَمَا بَينا. وَذكر الْأَزْهَرِي أَن تَقْدِيره: لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا، لَا يسمعُونَ إِلَّا سَلاما. وَأما السَّلَام فَهُوَ تَسْلِيم بَعضهم على بعض، وَقيل: تَسْلِيم الله عَلَيْهِم. وَيُقَال: هُوَ قَول يسلمُونَ مِنْهُ. وَالسَّلَام اسْم لكَلَام جَامع للخيارت، وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ اسْم لكَلَام يتَّصل بِهِ السَّلامَة.
وَقَوله: ﴿وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا﴾ فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: ﴿بكرَة وعشيا﴾، وَلَيْسَ فِي الْجنَّة ليل وَلَا نَهَار؟ ! وَالْجَوَاب عَنهُ أَن مَعْنَاهُ: بكرَة وعشياء أَي: على مقادير الْبكر والعشايا.
وَيُقَال: إِنَّه يعرف وَقت النَّهَار بِرَفْع الْحجب وَفتح الْأَبْوَاب، وَوقت اللَّيْل بإسبال الْحجب وغلق الْأَبْوَاب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: ﴿بكرَة وعشيا﴾ أَي: لَهُم فِيهَا رفاهة الْعَيْش؛ الرزق الْوَاسِع من غير تضييق وَلَا تقتير.
وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ إِذا قَرَأَ هَذِه الْآيَة قَالَ: لقد علمت الْعَرَب أَن أرفه الْعَيْش هُوَ الرزق بالبكرة والعشية، وَلَا يعْرفُونَ من الرَّفَاهِيَة فَوق هَذَا.
303
﴿نورث من عبادنَا من كَانَ تقيا (٦٣) وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك لَهُ مَا بَين أَيْدِينَا وَمَا خلفنا﴾
304
قَوْله تَعَالَى: ﴿تِلْكَ الْجنَّة الَّتِي نورث من عبادنَا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: يعْطى وينول، وَالْقَوْل الآخر: أَنه مَا من أحد من الْكفَّار إِلَّا وَله منزل فِي الْجنَّة وَأهل لَو أسلم، فَإِذا لم يسلم وَرثهُ الْمُؤْمِنُونَ.
وَقَوله: ﴿من كَانَ تقيا﴾ قيل: مخلصا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك﴾. قد ثَبت بِرِوَايَة عمر بن ذَر، عَن أَبِيه، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس أَن جِبْرِيل، أَبْطَأَ على النَّبِي، فَلَمَّا نزل، قَالَ: " يَا جِبْرِيل لَو زرتنا أَكثر مِمَّا تَزُورنَا، فَقَالَ جِبْرِيل: وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك ".
وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن النَّبِي قَالَ لَهُ: " يَا جِبْرِيل، قد كنت مشتاقا إِلَيْك، (فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، وَأَنا وَالله قد كنت مشتاقا إِلَيْك)، وَلَكِن مَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك ".
وَرُوِيَ أَنه أَبْطَا [اثْنَتَا عشرَة] لَيْلَة، وَرُوِيَ أَكثر من هَذَا، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿لَهُ مَا بَين أَيْدِينَا وَمَا خلفنا﴾. يَعْنِي: لَهُ علم مَا بَين أَيْدِينَا وَمَا خلفنا. وَفِي الْآيَة أَقْوَال:
أَحدهَا: مَا بَين أَيْدِينَا يَعْنِي: الْآخِرَة، وَمَا خلفنا: مَا مضى من الدُّنْيَا، وَمَا بَين ذَلِك: من السَّاعَة إِلَى النفخة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: مَا بَين أَيْدِينَا: مَا قابلناه وواجهناه، وَمَا خلفنا: مَا استدبرناه وجاوزناه
304
﴿وَمَا بَين ذَلِك وَمَا كَانَ رَبك نسيا (٦٤) رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فاعبده واصطبر لعبادته هَل تعلم لَهُ سميا (٦٥) وَيَقُول الْإِنْسَان أئذا مَا مت لسوف أخرج حَيا (٦٦) أَولا يذكر الْإِنْسَان أَنا خلقناه من قبل وَلم يَك شَيْئا (٦٧) فوربك لنحشرنهم﴾ (بَين) الْوَقْت وَمَا بَين ذَلِك، الْحَال.
وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا بَين أَيْدِينَا: الأَرْض، وَمَا خلفنا: السَّمَوَات، وَمَا بَين ذَلِك: الْهَوَاء.
وَالْقَوْل الرَّابِع: مَا بَين أَيْدِينَا: بعد أَن نموت، وَمَا خلفنا: قبل أَن نخلق، وَمَا بَين ذَلِك. مُدَّة الْحَيَاة.
وَقَوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبك نسيا﴾. أَي: مَا نسيك رَبك، وَمعنى نسيك أَي: تَركك.
305
قَوْله تَعَالَى: ﴿رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فاعبده﴾ أَي: وَحده.
وَقَوله: ﴿واصطبر لعبادته﴾ أَي: اصبر على عِبَادَته.
وَقَوله: ﴿هَل تعلم لَهُ سميا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: هَل تعلم أحدا يُسمى " الرَّحْمَن " غير الله؟ وَقيل: يُسمى " الله " غير الله، وَقَالَ قَتَادَة: هَل تعلم لَهُ سميا؟ أَي: مثلا، وَقَالَ بَعضهم: سميا أَي: ولدا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَقُول الْإِنْسَان أإذا مَا مت﴾ قَالُوا: نزلت الْآيَة فِي أبي بن خلف.
وَقَوله: ﴿لسوف أخرج حَيا﴾ أَي: أسوف أخرج حَيا؟
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَولا يذكر﴾ قَرَأَ أبي بن كَعْب: " أَولا يتَذَكَّر الْإِنْسَان " وَمَعْنَاهُ: أَولا يتفكر، وَلَا ينظر ﴿الْإِنْسَان﴾.
وَقَوله: ﴿أَنا خلقناه من قبل وَلم [يَك] شَيْئا﴾. وَمَعْنَاهُ: أَنا لما قَدرنَا على إنْشَاء خلقهمْ، فَنحْن على الْإِعَادَة أقدر.
305
﴿وَالشَّيَاطِين ثمَّ لنحضرنهم حول جَهَنَّم جثيا (٦٨) ثمَّ لننزعن من كل شيعَة أَيهمْ أَشد على الرَّحْمَن عتيا (٦٩) ثمَّ لنَحْنُ أعلم بالذين هم أولى بهَا صليا (٧٠) وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها﴾
306
قَوْله تَعَالَى: ﴿فوربك لنحشرنهم وَالشَّيَاطِين﴾. فِي الْخَبَر: أَنه يحْشر كل كَافِر مسلسلا مَعَ شَيْطَان.
وَقَوله: ﴿ثمَّ لنحضرنهم حول جَهَنَّم جثيا﴾ أَي: جاثين على الركب. قَالَ السّديّ: قاعين على الركب من ضيق الْمَكَان، " وحول جَهَنَّم " هُوَ عين جَهَنَّم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ لننزعن من كل شيعَة﴾ أَي: لنستخرجن ونأخذن من كل شيعَة، أَي: من كل أمة وَأهل دين من الْكفَّار.
وَقَوله: ﴿أَيهمْ أَشد على الرَّحْمَن عتيا﴾ أَي: الأعتى فالأعتى، وَمعنى الْآيَة: أَنا نقدم فِي إِدْخَال النَّار من هُوَ أَكثر جرما، وَأَشد أمرا، وَقَالَ أهل اللُّغَة: وَقَوله: ﴿عتيا﴾ أَي: افتراء بلغَة تَمِيم. وَيُقَال: هَؤُلَاءِ هم قادة الْكفْر ورؤساؤه، وَفِي بعض الْآثَار: أَنهم يحْضرُون جَمِيعًا حول جَهَنَّم مسلسلين مغلولين، ثمَّ يقدم الأكفر فالأكفر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ لنَحْنُ أعلم بالذين هم أولى بهَا صليا﴾ أَي: أَحَق دُخُولا. وَيُقَال: الَّذين هم أَشد عنوا أولى بهَا صليا، فَهَذَا تَقْدِير الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها﴾ مَعْنَاهُ: وَمَا مِنْكُم إِلَّا واردها. وَاخْتلفُوا فِيمَا ينْصَرف إِلَيْهِ قَوْله: ﴿واردها﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ النَّار، قَالَ: والورود هُوَ الدُّخُول، وَقَالَ: يدخلهَا الْبر والفاجر، ثمَّ ينجو الْبر، وَيبقى الْفَاجِر. وروى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: تمارا ابْن عَبَّاس وَنَافِع بن الْأَزْرَق فِي الْوُرُود، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الدُّخُول، وتلا قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ﴾ ثمَّ قَالَ: يَا نَافِع، أَنا وَأَنت داخلها، وَأَرْجُو أَن ينجيني الله مِنْهَا، وَلَا
306
ينجيك مِنْهَا، لِأَنَّك كذبت بِهِ.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ: أخبرنَا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن بن [فراس] قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد المقرىء قَالَ: حَدثنَا جدي مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد، عَن سُفْيَان.
وروى قُرَّة عَن ابْن مَسْعُود أَن النَّاس يردون النَّار، ويصدر الْمُؤْمِنُونَ عَنْهَا بأعمالهم، فأولهم كلمح الْبَصَر، ثمَّ كَالرِّيحِ ثمَّ كحضر الْفرس، ثمَّ كشد الرجل، ثمَّ كالماشي.
وَعَن ابْن ميسرَة أَنه كَانَ يدْخل دَاره فيبكي، فَيُقَال لَهُ: مَا يبكيك؟ فَيَقُول: الله تَعَالَى أَنبأَنَا أَنا نرد النَّار، وَلم ينبئنا أَنا صادرون عَنْهَا.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ:
(وَمن يلق خيرا يحمد النَّاس أمره وَمن يغو لَا يعْدم على الغي لائما)
" حق لِابْنِ آدم أَن يبكي وَذكر نَحوا من هَذَا ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة هم الْكفَّار. هَذَا قَول عِكْرِمَة وَسَعِيد بن جُبَير. وقرىء فِي الشاذ: " وَإِن مِنْهُم إِلَّا واردها ". وعَلى هَذَا كثير من أهل الْعلم، وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين سبقت لَهُم من الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون لَا يسمعُونَ حَسِيسهَا﴾.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن المُرَاد من الْوُرُود هُوَ الْحُضُور والرؤية دون الدُّخُول. وَهَذَا قَول الْحسن وَقَتَادَة، وَقد يذكر الْوُرُود بِمَعْنى الْحُضُور، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَلما ورد مَاء مَدين﴾ أَي: حضر. وَقَالَ زُهَيْر شعرًا:
307
وَالْقَوْل الرَّابِع، وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها: الْقِيَامَة. وَقد استحسنوا هَذَا القَوْل لتقدم ذكر الْقِيَامَة.
وَالْقَوْل الْخَامِس: أَن الصِّرَاط.
وَفِي الْآيَة قَول سادس: رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: وُرُود النَّار هُوَ الْحمى فِي الدُّنْيَا.
وَفِي بعض المسانيد عَن النَّبِي أَنه عَاد رجلا من وعك - أبي: الْحمى - بِهِ، فَقَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: هِيَ نَارِي أُسَلِّطهَا على من شِئْت من الْمُؤمنِينَ، ليَكُون حَظه من نَار جَهَنَّم ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " الْحمى (كي) من جَهَنَّم، وَهِي حَظّ الْمُؤمن من النَّار ".
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْحمى من فيح جَهَنَّم، فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ".
وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ القَوْل الأول، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من قدم من الْوَلَد لم يلج النَّار، إِلَّا تَحِلَّة الْقسم ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَنَّهَا تستعر على الْكفَّار، وتخمد تَحت أَقْدَام الْمُؤمنِينَ ".
روى خَالِد بن معدان عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يدْخل الله قوما من الْمُؤمنِينَ الْجنَّة،
308
﴿كَانَ على رَبك حتما مقضيا (٧١) ثمَّ ننجي الَّذين اتَّقوا وَنذر الظَّالِمين فِيهَا جثيا (٧٢) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أَي الْفَرِيقَيْنِ خير مقَاما وَأحسن نديا (٧٣) وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا (٧٤) قل من كَانَ﴾ فَيَقُولُونَ: ألم تعدنا رَبنَا أَن ندخل النَّار؟ فَقَالَ لَهُم: قد وردتموها وَهِي خامدة ".
وَقَوله: ﴿كَانَ على رَبك حتما مقضيا﴾ أَي: لَازِما يُصِيب بِهِ.
309
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ ننجي الَّذين اتَّقوا﴾ اسْتدلَّ بِهَذَا من قَالَ: إِن الْوُرُود هُوَ الدُّخُول؛ لِأَن التنجية إِنَّمَا تكون بعد الدُّخُول. وَقَالَ أَيْضا: ﴿وَنذر الظَّالِمين فِيهَا جثيا﴾ وَهَذَا دَلِيل على أَن الْكل قد دخلوها، وَأما من قَالَ: إِن الْوُرُود هُوَ الْحُضُور قَالَ: يجوز أَن تذكر التنجية لأجل الإشراف على الْهَلَاك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات﴾ مَعْنَاهُ: واضحات.
وَقَوله: ﴿قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أَي الْفَرِيقَيْنِ خير مقَاما﴾ أَي: مَكَانا. وَقَوله: ﴿وَأحسن نديا﴾ قَالَ ثَعْلَب: مَجْلِسا، قَالَ الْكسَائي: الندي والنادي بِمَعْنى وَاحِد، وَمِنْه دَار الندوة؛ لأَنهم كَانُوا يَجْتَمعُونَ فِيهَا.
وَسبب نزُول الْآيَة: أَن الْمُشْركين كَانُوا يَقُولُونَ لفقراء الْمُؤمنِينَ: نَحن أعز مَجْلِسا، وَأحسن مَكَانا، وَأكْثر مَالا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَالْمقَام: مَوضِع الْإِقَامَة، وَالْمقَام: فعل الْإِقَامَة. قَالَ الشَّاعِر:
(ومقام حسن فرقته... بحسامي ولساني وجدل)
(لَو يكون الْفِيل أَو فياله... زل عَن مثل مقَامي ورحل)
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا﴾ وقرىء: " وريا " بِغَيْر همز، وَفِي الشاذ: " وزيا " بالزاء، حُكيَ هَذَا عَن سعيد بن جُبَير. أما قَوْله
309
﴿فِي الضَّلَالَة فليمدد لَهُ الرَّحْمَن مدا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يوعدون إِمَّا الْعَذَاب وَإِمَّا السَّاعَة فسيعلمون من هُوَ شَرّ مَكَانا وأضعف جندا (٧٥) وَيزِيد الله الَّذين اهتدوا هدى والباقيات الصَّالِحَات خير عِنْد رَبك ثَوابًا وَخير مردا (٧٦) أفرءيت الَّذِي كفر بِآيَاتِنَا﴾ ﴿ورئيا﴾ بِالْهَمْز هُوَ المنظرة، وَأما بِغَيْر الْهَمْز هُوَ من النِّعْمَة. وَأما الزي هُوَ الهيأة. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: [وَأحسن رئيا] هُوَ حسن الصُّورَة. وَقيل: الرّيّ من الارتواء، والمتنعم يظْهر فِيهِ ارتواء النِّعْمَة، وَالْفَقِير يظْهر عَلَيْهِ ذبول الْبُؤْس والفقر.
310
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل من كَانَ فِي الضَّلَالَة فليمدد لَهُ الرَّحْمَن مدا﴾ هَذَا أَمر بِمَعْنى الْخَبَر، وَمَعْنَاهُ: أَن الله تَعَالَى يتركهم فِي الْكفْر، ويمهلهم فِيهِ.
وَقَوله: ﴿حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يوعدون إِمَّا الْعَذَاب وَإِمَّا السَّاعَة﴾ الْعَذَاب: هُوَ الْقَتْل والأسر فِي الدُّنْيَا، والساعة: الْقِيَامَة. وَمَعْنَاهُ: لَو نصر عَلَيْهِم الْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا فَقتلُوا وأسروا، أَو جَاءَتْهُم السَّاعَة، فأدخلوا النَّار ﴿فسيعلمون﴾ عِنْد ذَلِك ﴿من هُوَ شَرّ مَكَانا﴾ أَي: منزلا ﴿وأضعف جندا﴾ أَي: ناصرا.
وَقَوله: ﴿وأضعف جندا﴾ يرجع إِلَى الدُّنْيَا، وَقَوله: ﴿شَرّ مَكَانا﴾ يرجع إِلَى الْآخِرَة.
﴿وَيزِيد الله الَّذين اهتدوا هدى﴾ يَعْنِي: يَقِينا على يقينهم، ورشدا على رشدهم.
وَقَوله: ﴿والباقيات الصَّالِحَات﴾ قيل: إِنَّهَا الصَّلَوَات الْخمس، وَقيل: هِيَ الْأَذْكَار الَّتِي قلناها، وَقد بَينا.
وَقَوله: ﴿خير عِنْد رَبك ثَوابًا﴾ أَي: جَزَاء ﴿وَخير مردا﴾ أَي: مرجعا. وَنقل الْكَلْبِيّ عَن ابْن عَبَّاس [أَن] زِيَادَة الْهدى هوالإيمان بالناسخ والمنسوخ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْت الَّذِي كفر بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَولدا﴾ سَبَب نزُول الْآيَة مَا روى مَسْرُوق عَن خباب [بن] الْأَرَت قَالَ: " كنت قينا وحدادا بِمَكَّة، فَعمِلت للعاص بن وَائِل السَّهْمِي، فاجتمعت لي عَلَيْهِ دَرَاهِم، فَجِئْته أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لَا
310
﴿وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَولدا (٧٧) أطلع الْغَيْب أم اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا (٧٨) كلا﴾ أقضيك حَتَّى تكفر بِمُحَمد، فَقلت: لَا أكفر حَتَّى تَمُوت ثمَّ تبْعَث. فَقَالَ الْعَاصِ: أَو مَبْعُوث أَنا؟ ! فَقلت: نعم. قَالَ: فَإِذا بعثت فَيكون لي هُنَاكَ مَال وَولد، فَأَقْضِيك حَقك؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا جدي أَبُو اللَّيْث، قَالَ الْفربرِي، قَالَ: ثَنَا البُخَارِيّ، قَالَ: ثَنَا الْحميدِي، عَن سُفْيَان، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي الضُّحَى، عَن مَسْرُوق... الحَدِيث.
311
وَقَوله: ﴿أطلع الْغَيْب﴾ أَي: اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَقيل: علم الْغَيْب، فَعلم أَن لَهُ مَالا وَولدا بِعلم الْغَيْب؟.
وَقَوله: ﴿أم اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا﴾ قَالَ سُفْيَان: عملا صَالحا، وَقَالَ غَيره: لَا إِلَه إِلَّا الله.
وروى الْأسود بن يزِيد، عَن عبد الله بن مَسْعُود، أَنه قَالَ: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يَقُول الله تَعَالَى: " من كَانَ لَهُ عِنْدِي عهد (فَليقمْ). فَقيل: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، وَمَا ذَلِك الْعَهْد؟ فَعلمنَا، فَقَالَ: قَالَ: " أَيعْجزُ أحدكُم أَن يتَّخذ كل صباح وَمَسَاء عهدا؟ قَالُوا: وَكَيف؟ قَالَ: يَقُول: اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة، إِنِّي أَتَّخِذ عنْدك عهدا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَإنَّك إِن تَكِلنِي إِلَى نَفسِي تقربني من الشَّرّ، وَتُبَاعِدنِي من الْخَيْر، وَإِنِّي لَا أَثِق إِلَّا بِرَحْمَتك، فاحفظ عهدي تُؤَدِّيه إِلَيّ يَوْم الْقِيَامَة، إِنَّك لَا تخلف الميعاد ".
311
﴿سنكتب مَا يَقُول ونمد لَهُ من الْعَذَاب مدا (٧٩) ونرثه مَا يَقُول ويأتينا فَردا (٨٠) وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة ليكونوا لَهُم عزا (٨١) كلا سيكفرون بعبادتهم وَيَكُونُونَ﴾
312
قَوْله تَعَالَى: ﴿كلا سنكتب مَا يَقُول﴾ قَوْله: ﴿كلا﴾ يَعْنِي: لَيْسَ الْأَمر على مَا زعم الْعَاصِ بن وَائِل، ثمَّ قَالَ: ﴿سنكتب مَا يَقُول﴾ أَي: يَأْمر الْمَلَائِكَة حَتَّى يكتبوا.
وَقَوله: ﴿ونمد لَهُ من الْعَذَاب مدا﴾ أَي: نطيل مُدَّة عَذَابه.
وَقَوله: ﴿ونرثه مَا يَقُول﴾ قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " ونرثه مَا عِنْده " فَإِن قيل: القَوْل كَيفَ يُورث وَالْمَعْرُوف ﴿ونرثه مَا يَقُول﴾ ؟ ! وَالْجَوَاب عَنهُ قَالَ ثَعْلَب: مَعْنَاهُ: ونرثه مَا زعم أَن لَهُ مَالا وَولدا، أَي: لَا يُعْطِيهِ، وَيُعْطِي غَيره، فَيكون الْإِرْث رَاجعا إِلَى مَا تَحت القَوْل، لَا إِلَى نفس القَوْل.
وَيجوز أَن يكون معنى قَوْله: ﴿ونرثه مَا يَقُول﴾ أَي: ونرثه مَا عِنْده، على مَا قَرَأَ ابْن مَسْعُود.
وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: ﴿ونرثه مَا يَقُول﴾ أَي: نَحْفَظ مَا يَقُول حَتَّى يجاز بِهِ.
وَقَوله: ﴿ويأتينا فَردا﴾ أَي: فَردا لَا أنصار لَهُ، وَلَا أعوان، وَقيل: هُوَ فِي معنى قَوْله: ﴿وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة﴾ الْآيَة وَحَقِيقَته: أَنه يأتينا وَلَا مَال لَهُ وَلَا ولد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة﴾ يَعْنِي: آلِهَة يعبدونها.
وَقَوله: ﴿ليكونوا لَهُم عزا﴾ أَي: مَنْعَة، وَمعنى المنعة: أَنهم يمتنعون بهَا من الْعَذَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كلا﴾ أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا زَعَمُوا.
وَقَوله: ﴿سيكفرون بعبادتهم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْأَصْنَام وَالْمَلَائِكَة
312
﴿عَلَيْهِم ضدا (٨٢) ألم تَرَ أَنا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين تؤزهم أزا (٨٣) فَلَا تعجل عَلَيْهِم إِنَّمَا نعد لَهُم عدا (٨٤) يجحدون عِبَادَتهم، وَالْقَوْل الآخر: أَن الْمُشْركين يُنكرُونَ عبَادَة الْأَصْنَام وَالْمَلَائِكَة.
فَإِن قيل: مَا عرف فِي الْمُشْركين أحد كَانَ يعبد الْمَلَائِكَة؟ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ كَانَ بطن من الْعَرَب يسمون: بني الْمليح، كَانُوا يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِم ضدا﴾
أَي: بلَاء. وَقيل: أَعدَاء.
313
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ أَنا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين﴾ فَإِن قيل: أتقولون: إِن الشَّيَاطِين مرسلون، وَالله قَالَ: ﴿وَسَلام على الْمُرْسلين﴾ فَإِذا كَانُوا مرسلين وَجب أَن يدخلُوا فِي جُمْلَتهمْ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه لَيْسَ معنى الْإِرْسَال هَاهُنَا هُوَ الْإِرْسَال الَّذِي يؤجد فِي الْأَنْبِيَاء، وَلَكِن معنى الْإِرْسَال هَاهُنَا أحد الشَّيْئَيْنِ: إِمَّا التَّخْلِيَة بَينهم وَبَين الْكفَّار، وَإِمَّا التسليط على الْكفَّار.
وَقَوله: ﴿تؤزهم أزا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: تزعجهم إزعاجا، كَأَنَّهُ يحركهم ويحثهم وَيَقُول: اقدموا على الْكفْر. والهز والأز: هُوَ التحريك، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي كَانَ يُصَلِّي، وبجوفه أزيز كأزيز الْمرجل " أَي: حَرَكَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَا تعجل عَلَيْهِم﴾ يَعْنِي: لَا تعجل بِطَلَب عقوبتهم.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا نعد لَهُم عدا﴾ قَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ عد الْأَيَّام. وَقَالَ غَيره: عد السَّاعَات.
وَعَن الْحسن: عد الأنفاس. وَقيل لبَعض الصَّالِحين: إِنَّمَا أيامك أنفاس مَعْدُودَة، فَقَالَ: من صِحَة الْعدَد أَخَاف.
وروى الْأَصْمَعِي عَن أَبِيه أَنه قَالَ: رَأَيْت رجلا على بَاب الْبَصْرَة أَيَّام الطَّاعُون يعد
313
﴿يَوْم نحْشر الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَن وَفْدًا (٨٥) ونسوق الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وردا (٨٦) لَا﴾ الْمَوْتَى، وقدامه كوز، كلما مر عَلَيْهِ بميت، يلقِي فِيهِ حَصى. فعد فِي الْيَوْم الأول ثَمَانِينَ ألفا، وَفِي الْيَوْم الثَّانِي مائَة وَعشْرين ألفا. قَالَ: فمررنا عَلَيْهِ بِجنَازَة، ثمَّ عدنا، فَإِذا عِنْد الْكوز غَيره. قُلْنَا لَهُ: أَيْن ذهب الرجل؟ قَالَ: وَقع فِي الْكوز.
314
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم نحْشر الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَن وَفْدًا﴾ الْحَشْر: جمع الأقوام من كل (صقع) فِي مَوضِع وَاحِد.
وَقَوله: ﴿وَفْدًا﴾ مَعْنَاهُ: ركبانا، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَرَأَ هَذِه الْآيَة، وَقَالَ: يُؤْتونَ بِنُوق من نُوق الْجنَّة عَلَيْهَا أرحلة من الذَّهَب، وَلها أزمة من الزبرجد، فيركبون عَلَيْهَا حَتَّى يقرعُوا بَاب الْجنَّة. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يحْشر الْأَنْبِيَاء على دَوَاب فِي الْجنَّة، وأحشر على الْبراق، ويحشر الْحسن وَالْحُسَيْن على العضباء والقصواء، ويحشر بِلَال على نَاقَة من نُوق الْجنَّة فَيُؤذن، فَإِذا بلغ قَوْله: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، شهد بهَا جَمِيع الْخلق، قبل مِمَّن قبل، ورد على من رد ".
وَقيل: ﴿وَفْدًا﴾ أَي: مكرمين. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " أَن الْمُؤمن إِذا بعث يُؤْتى بِعَمَلِهِ على أحسن صُورَة، فَيَقُول: من أَنْت؟ فَيَقُول: أَنا عَمَلك الصَّالح طالما ركبتك فاركبني الْيَوْم. وَأما الْكَافِر يُؤْتى بِعَمَلِهِ على أقبح صُورَة، فَيَقُول: من أَنْت؟ فَيَقُول: أَنا عَمَلك الْخَبيث، قَالَ: طالما ركبتني، وَأَنا أركبك الْيَوْم ".
وَقَوله: ﴿ونسوق الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وردا﴾ أَي: مشَاة. وَقيل: عطاشا.
314
﴿يملكُونَ الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا (٨٧) وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا (٨٨) لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا (٨٩) تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا (٩٠) أَن دعوا للرحمن ولدا (٩١) وَمَا يَنْبَغِي للرحمن أَن يتَّخذ ولدا (٩٢) ﴾
315
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا يملكُونَ الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا﴾ قَالَ بعض أهل التَّفْسِير: هَذَا رَاجع إِلَى الْمَلَائِكَة. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ رَاجع إِلَى الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: ﴿إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا﴾ يَعْنِي: لَا يشفعون إِلَّا لمن اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا، فالعهد هُوَ " لَا إِلَه إِلَّا الله ". وَيُقَال: لَا يشفع إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا يَعْنِي: لَا يشفع إِلَّا مُؤمن.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا﴾ أَي: مُنْكرا عَظِيما، (والإد) والاتخاذ إعداد الشَّيْء لأمر فِي الْعَاقِبَة.
لقد جئتم شيئا إدا ) أي : منكرا عظيما، ( والإد ) ( ١ ) والاتخاذ إعداد الشيء لأمر في العاقبة.
١ - هكذا في النسختين، والمعنى مستقيم بدون لفظ "والإدّ"..
قَوْله تَعَالَى: ﴿تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ﴾ الانفطار: الانشقاق، وتكاد أَي: تقرب، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْكَافرين لما قَالُوا: اتخذ الله ولدا غضِبت السَّمَوَات وَالْأَرْض، وتسعرت جَهَنَّم، فَطلب الْجَمِيع أَن ينتقموا من الْقَائِلين بِهَذَا القَوْل، فَهَذَا معنى الْآيَة.
وَقَوله: ﴿وتنشق الأَرْض﴾ أَي: تخسف بهم، أما الانفطار فِي السَّمَاء فَمَعْنَاه على هَذَا: أَن [تسْقط] عَلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿وتخر الْجبَال هدا﴾ أَي: تنكسر انكسارا، وَمَعْنَاهُ على مَا ذكرنَا أَي: تنطبق عَلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿أَن دعوا للرحمن ولدا﴾ أَي: حِين دعوا للرحمن ولدا.
وَقَوله: ﴿وَمَا يَنْبَغِي للرحمن أَن يتَّخذ ولدا﴾ قد بَينا.
315
﴿إِن كل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عبدا (٩٣) لقد أحصاهم وعدهم عدا (٩٤) وَكلهمْ آتيه يَوْم الْقِيَامَة فَردا (٩٥) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَيجْعَلُ﴾
316
وَقَوله: ﴿إِن كل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: مَا كل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: ﴿إِلَّا آتٍ الرَّحْمَن عبدا﴾
وَقد أجمع أهل الْعلم أَن الْبُنُوَّة مَعَ الْعُبُودِيَّة لَا يَجْتَمِعَانِ، وَمن اشْترى ابْنه يعْتق عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يصلح أَن يكون ابْنا وعبدا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لقد أحصاهم وعدهم عدا﴾ أَي: يعلمهُمْ، وَعلم عَددهمْ.
وَقَوله: ﴿وَكلهمْ آتيه يَوْم الْقِيَامَة فَردا﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودا﴾ أَي: محبَّة. قَالَ مُجَاهِد: يُحِبهُمْ الله، ويحببهم إِلَى الْمُؤمنِينَ. وَقيل: يحب بَعضهم بَعْضًا. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى جعل مَعَ الْإِيمَان الْمحبَّة [والشفقة] والألفة ".
وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: " إِذا أحب الله عبدا يُنَادي جِبْرِيل، فَيَقُول: أَنا أحب فلَانا فَأَحبهُ، فينادي فِي أهل السَّمَاء: إِن الله يحب فلَانا فَأَحبُّوهُ، ثمَّ يوضع لَهُ الْمحبَّة فِي الأَرْض - وَفِي رِوَايَة " الْقبُول " - وَإِذا أبْغض عبدا يُنَادي جِبْرِيل فَيَقُول: أَنا أبْغض فلَانا فَأَبْغضهُ، فينادي فِي أهل السَّمَاء: إِن الله يبغض فلَانا فَأَبْغضُوهُ، ثمَّ يوضع لَهُ البغض فِي الأَرْض ". خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَحكى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْآيَة نزلت فِي عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، وَالْمرَاد مِنْهُ: مَوَدَّة أهل الْإِيمَان لَهُ.
316
﴿لَهُم الرَّحْمَن ودا (٩٦) فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لتبشر بِهِ الْمُتَّقِينَ وتنذر بِهِ قوما لدا (٩٧) وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هَل تحس مِنْهُم من أحد أَو تسمع لَهُم ركزا (٩٨) ﴾
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ لعَلي: " لَا يحبك إِلَّا مُؤمن تَقِيّ، وَلَا يبغضك إِلَّا مُنَافِق شقي ". خرج مُسلم فِي الصَّحِيح.
317
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك﴾ يَعْنِي: سهلنا الْقُرْآن بلسانك.
وَقَوله: ﴿لتبشر بِهِ الْمُتَّقِينَ وتنذر بِهِ قوما لدا﴾ اللد جمع الألد، والألد: المخاصم بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ الَّذِي لَا ينقاد للحق وَلَا يقبله. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: لدا أَي: صمًّا عَن الْحق. وَقيل: الألد هَاهُنَا هُوَ الظَّالِم. قَالَ الشَّاعِر:
(وَلما وردن المَاء زرقا جمامه تركن عصي الْحَاضِر المتخيم)
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هَل تحس مِنْهُم من أحد﴾ مَعْنَاهُ: هَل ترى مِنْهُم من أحد؟.
وَقَوله: ﴿أَو تسمع لَهُم ركزا﴾ أَي: صَوتا. قَالَ أهل اللُّغَة: الركز: الصَّوْت الْخَفي. قَالَ الْحسن: بادوا جَمِيعًا، فَلم يبْق مِنْهُم عين وَلَا أثر.
317

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

تَفْسِير سُورَة طه
وَهِي مَكِّيَّة
وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة، أَن النَّبِي: قَالَ: " إِن الله تَعَالَى قَرَأَ سُورَة طه وَيس قبل أَن يخلق آدم بألفي عَام، فَقَالَت الْمَلَائِكَة: طُوبَى لأمة نزلت عَلَيْهِم هَذَا، وطوبى لقلوب حملت هَذِه، وطوبى لألسن تَكَلَّمت بِهَذَا ".
318
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
(أَبيت نجيا للهموم كأنني أخاصم أقوما ذَوي جدل لدا)