تفسير سورة سورة الصافات من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المعروف بـنظم الدرر
.
لمؤلفه
برهان الدين البقاعي
.
المتوفي سنة 885 هـ
ﰡ
قال تعالى: ﴿والصافات﴾ أي الجماعات من الملائكة والمصلين والمجاهدين المكملين أنفسهم بالاصطفاف في الطاعة، فهو صفة لموصوف محذوف مؤنث اللفظ، وعدل عن أن يقول: «الصافين» القاصر على الذكور العقلاء ليشمل
187
الجماعات من الملائكة والجن والإنس والطير والوحش وغيرها، إشارة إلى أنه لا يؤلف بين شيء منها ليتحد قصده إلا واحد قهار، وأنه ما اتحد قصد شيء منها إلا استوى صفة، ولا اعتدل صفة إلا اتحد زجره وهو صياحه، ولا اتحد زجره إلا اتحد ما يذكره بصوته، ولا اتحد منه ذلك إلا نجح قصده واتضح رشده بدليل المشاهدة، وأدلها أن الصحابة رضي الله عنهم لما اتحد قصدهم في إعلاء الدين وهم أضعف الأمم وأقلها عدداً لم يقم لهم جمع من الناس الذين لا نسبة لهم إليهم في قوة ولا كثرة، ولم ينقص صفهم، وجرح القلوب وأبارها زجرهم، وشرح الصدور وأنارها ذكرهم، كما أشار إليه تعالى آخر هذه السورة بقوله ﴿وإن جندنا لهم الغالبون﴾ وكذا غير الآدميين من الحيوانات كما يرى من الفار والجراد إذا أراد الله تعالى اتحاد
188
قصده في شيء فإنه يغلب فيه من يغالبه، ويقهر من يقاويه أو يقالبه، فبان أن الخير كله ما أريد بالقسم، واتحد جداً بالمقسم عليه والتأم والتحم به أيّ التحام، وانتظم معناهما كل الانتظام.
ولما كان التأكيد بالمصدر أدل على الوحدة المرادة قال: ﴿صفاً *﴾ وهو ترتيب الجمع على خط. ولما كان توحد القصد موجباً للقوة المهيئة للزجر، وكان تكميل الغير مسبباً عن تكميل النفس، ومرتباً عليه، وأشرف منه لو تجرد عن التكميل، وكان التكميل إنما يتم أمره ويعظم أثره مع الهيبة «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد» قال عاطفاً بالفاء: ﴿فالزاجرات﴾ أي المنتهرات عقب الصف كل من خرج عن أمر الله ﴿زجراً﴾ أي انتهاراً بالمواعظ وغيرها تكميلاً لغيرهم.
ولما كانت الإفاضة مسببة عن حسن التلقي المسبب عن تفريغ البال المسبب عن هيبة المفيد، وكان فيض التلاوة أعظم الفيض قال: ﴿فالتاليات﴾ أي التابعات استدلالاً على قولهم وفعلهم وتمهيداً لعذرهم
ولما كان التأكيد بالمصدر أدل على الوحدة المرادة قال: ﴿صفاً *﴾ وهو ترتيب الجمع على خط. ولما كان توحد القصد موجباً للقوة المهيئة للزجر، وكان تكميل الغير مسبباً عن تكميل النفس، ومرتباً عليه، وأشرف منه لو تجرد عن التكميل، وكان التكميل إنما يتم أمره ويعظم أثره مع الهيبة «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد» قال عاطفاً بالفاء: ﴿فالزاجرات﴾ أي المنتهرات عقب الصف كل من خرج عن أمر الله ﴿زجراً﴾ أي انتهاراً بالمواعظ وغيرها تكميلاً لغيرهم.
ولما كانت الإفاضة مسببة عن حسن التلقي المسبب عن تفريغ البال المسبب عن هيبة المفيد، وكان فيض التلاوة أعظم الفيض قال: ﴿فالتاليات﴾ أي التابعات استدلالاً على قولهم وفعلهم وتمهيداً لعذرهم
189
وتشريفاً لقدرهم، وتكميلاً لغيرهم: ﴿ذكراً﴾ أي موعظة وتشريفاً وتذكيراً من ذكر ربهم إفاضة على غيرهم من روح العلم وإدغام التاء في الصاد والزاي والذال إشارة إلى أن ذلك مع هوله وعظمه قد يخفى عن غير من يريد الله إطلاعه عليه، فقد قطعت الصيحة قلوب الكفرة من ثمود وغيرهم، ولم تؤثر فيمن آمن منهم، وقد كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يأتي به من القرآن والصحابة رضي الله عنهم حوله لا يستمعون شيئاً منه - والله الموفق ﴿إن إلهكم﴾ أي الذي اتخذتم من دونه آلهة ﴿لواحد *﴾ أي فإن التفرق لا يأتي بخير، لما يصحبه من العجز البعيد جداً عن الكمال الذي لا تكون الإلهية أصلاً إلا معه، فإليه لا إلى غيره ترجعون ليفصل بينكم فيما كنتم فيه تختلفون، وهو الذي أنزل هذا الكتاب بعزته ورحمته وحرسه من اللبس وغيره بما سيذكر من كبريائه وعظمته ولو لم يكن واحداً لاختل أمر هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة، وما يترتب عليها، فاختل نظام هذا الوجود الذي نشاهده كما نشاهد في أحوال الممالك
190
عند اختلاف الملوك في تغيير العوائد ونسخ الشرائع التي كان من قبلها أطدها وجميع ما له من الآثار والخصائص، ونحن نشاهد هذا الوجود على ما أحكمه سبحانه وتعالى لا يتغير شيء منه عن حاله الذي حده له، فعلمنا أنه واحد لا محالة متفرد بالعظمة، لا كفوء له من غير شك.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة يس من جليل التنبيه وعظيم الإرشاد وما يهتدي الموفق باعتبار بعضه، ويشتغل المعتبر به في تحصيل مطلوبه وفرضه، ويشهد بأن الملك بجملته لواحد، وإن رغم أنف المعاند والجاحد، أتبعها تعالى بالقسم علة وحدانيته فقال تعالى ﴿والصافات﴾ - الآية إلى قوله تعالى ﴿إن إلهكم لواحد﴾ إلى قوله ﴿ورب المشارق﴾ ثم عاد الكلام إلى التنبيه لعجيب مصنوعاته فقال تعالى ﴿إنا رأينا السماء الدنيا بزينة الكواكب﴾ إلى قوله ﴿شهاب ثاقب﴾ ثم أتبع بذكر عناد من جحد مع بيان الأمر ووضوحه وضعف ما خلقوا منه ﴿إنا خلقناهم من طين لازب﴾ ثم ذكر استبعادهم العودة الأخروية وعظيم حيرتهم وندمهم إذا شاهدوا ما به كذبوا،
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة يس من جليل التنبيه وعظيم الإرشاد وما يهتدي الموفق باعتبار بعضه، ويشتغل المعتبر به في تحصيل مطلوبه وفرضه، ويشهد بأن الملك بجملته لواحد، وإن رغم أنف المعاند والجاحد، أتبعها تعالى بالقسم علة وحدانيته فقال تعالى ﴿والصافات﴾ - الآية إلى قوله تعالى ﴿إن إلهكم لواحد﴾ إلى قوله ﴿ورب المشارق﴾ ثم عاد الكلام إلى التنبيه لعجيب مصنوعاته فقال تعالى ﴿إنا رأينا السماء الدنيا بزينة الكواكب﴾ إلى قوله ﴿شهاب ثاقب﴾ ثم أتبع بذكر عناد من جحد مع بيان الأمر ووضوحه وضعف ما خلقوا منه ﴿إنا خلقناهم من طين لازب﴾ ثم ذكر استبعادهم العودة الأخروية وعظيم حيرتهم وندمهم إذا شاهدوا ما به كذبوا،
191
والتحمت الآي إلى ذكر الرسل مع أممهم وجريهم في العناد والتوقف والتكذيب على سنن متقارب، وأخذ كل بذنبه، وتخليص رسل الله وحزبه، وإبقاء جميل ذكرهم باصطفائهم وقربه، ثم عاد الكلام إلى تعنيف المشركين وبيان إفك المعتدين إلى ختم السورة - انتهى.
ولما ثبت أنه واحد، أنتج وصفه بقوله: ﴿رب﴾ أي موجد ومالك وملك ومدبر ﴿السماوات﴾ أي الأجرام العالية ﴿والأرض﴾ أي الأجرام السافلة ﴿وما بينهما﴾ أي من الفضاء المشحون من المرافق والمعاون بما تعجز عن عدة القوى، وهذا - مع كونه نتيجة ما مضى - يصلح أن يكون دليلاً عليه لما أشار إليه من انتظام التدبير الذي لا يتهيأ مع التعدد كما أن المقسم به هنا إشارة إلى دليل الوحدانية أيضاً بكونه على نظام واحد دائماً في الطاعة التي أشير إليها بالصف والزجر والتلاوة، فسبحان من جعل هذا القرآن معجز النظام، بديع الشأن بعيد المرام.
ولما كان السياق للإفاضة بالتلاوة وغيرها، وكانت جهة الشروق جهة الإفاضة بالتجلي الموجد للخفايا الموجب للتنزه عن النقائص،
ولما ثبت أنه واحد، أنتج وصفه بقوله: ﴿رب﴾ أي موجد ومالك وملك ومدبر ﴿السماوات﴾ أي الأجرام العالية ﴿والأرض﴾ أي الأجرام السافلة ﴿وما بينهما﴾ أي من الفضاء المشحون من المرافق والمعاون بما تعجز عن عدة القوى، وهذا - مع كونه نتيجة ما مضى - يصلح أن يكون دليلاً عليه لما أشار إليه من انتظام التدبير الذي لا يتهيأ مع التعدد كما أن المقسم به هنا إشارة إلى دليل الوحدانية أيضاً بكونه على نظام واحد دائماً في الطاعة التي أشير إليها بالصف والزجر والتلاوة، فسبحان من جعل هذا القرآن معجز النظام، بديع الشأن بعيد المرام.
ولما كان السياق للإفاضة بالتلاوة وغيرها، وكانت جهة الشروق جهة الإفاضة بالتجلي الموجد للخفايا الموجب للتنزه عن النقائص،
192
وكان الجميع أليق بالاصطاف الناظر إلى القهر بالأئتلاف قال: ﴿ورب المشارق *﴾ أي الثلاثمائة والستين التي تجلى عليكم كل يوم فيها الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة على كر الدهور والأعوام، والشهور والأيام، على نظام لا ينحل، ومسير لا يتغير ولا يختل، وذكرها يدل قطعاً على المغارب لأنها تختلف بها، وأعاد الصفة معها تنبيهاً على وضوح دلاتها بما فيها مما السياق من الاصطفاف الدال على حسن الائتلاف، وللدلالة على البعث بالآيات بعد الغياب.
ولما كانت المشارق تقتضي الفيض والإظهار، أتبع ذلك نتيجته بما من شأنه الشروق والغروب ولو بمجرد الخفاء والظهور، فقال مؤكداً مع لفت الكلام إلى التكلم في مظهر العظمة تنبيهاً على أن فعلهم فعل من ينكر ما للنجوم من الزينة وما تدل عليه من عظمته سبحانه وتعالى، وفخم التعبير عن الزينة بتضعيف الفعل لمثل ذلك: ﴿إنا زينا﴾ أي بعظمتنا التي لا تدانى ﴿السماء﴾ ولما كانوا لا يرون إلا ما يليهم من السماوات، وكانت زينة النجوم ظاهرة فيها قال: ﴿الدنيا﴾ أي التي هي أدنى السماوات إليكم.
ولما كانت المشارق تقتضي الفيض والإظهار، أتبع ذلك نتيجته بما من شأنه الشروق والغروب ولو بمجرد الخفاء والظهور، فقال مؤكداً مع لفت الكلام إلى التكلم في مظهر العظمة تنبيهاً على أن فعلهم فعل من ينكر ما للنجوم من الزينة وما تدل عليه من عظمته سبحانه وتعالى، وفخم التعبير عن الزينة بتضعيف الفعل لمثل ذلك: ﴿إنا زينا﴾ أي بعظمتنا التي لا تدانى ﴿السماء﴾ ولما كانوا لا يرون إلا ما يليهم من السماوات، وكانت زينة النجوم ظاهرة فيها قال: ﴿الدنيا﴾ أي التي هي أدنى السماوات إليكم.
193
ولما أشير إلى أن الصف زينة في الباطن باتحاد القصد كما أنه زينة في الظاهر بحسن الشكل وبديع الرصف، زيد في التنبيه على ذلك بإعادة ما فهم من «زينا» في قوله: ﴿بزينة الكواكب *﴾ أي بالزينة التي للنجوم النيرة البراقة المتوقدة الثابتة في محالها - قارة أو مارة - المرصعة في السماء ترصيع المسامير الزاهرة كزهر النور المبثوث في خضرة الرياض الناضرة، فهي مع عدم التنوين والخفض إضافة بيانية كثوب خز، ومن نوّن الزينة فإن خفض الكواكب فعلى البدل، أي بالكواكب التي هي زينة، وإن نصب فعلى المدح بتقدير أعني، أو على أنه بدل اشتمال من السماء، أي كواكبها، إما بكونها فيما دونها من الجو فبظن أنها فيها، أو يكونها فيها من جانبها الذي يلينا، أو بكونها تشف عنها وإن كان بعضها فيما هو أعلى منها، وزينتها انتظامها وارتسامها على هذا النظم البديع في أشكال متنوعة وصور مستبدعة ما بين صغار وكبار، منها ثوابت ومنا سيارة وشوارق
194
وغوارب - إلى غير ذلك من الهيئات التي لا تحصى، ولا حد لها عند العباد العجزة فيستقصى.
ولما كان كون الشيء الواحد لأشياء متعددة أدل على القدرة وأظهر في العظمة، قال دالاً بالعطف على غير معطوف عليه ظاهر على مقدر يدل على أن الزينة بالنجوم أمر مقصود لا اتفاقي: ﴿وحفظاً﴾ أي زيناها بها للزينة وللحفظ ﴿من كل شيطان﴾ أي بعيد عن الخير محترق. ولما كان القصد التعميم في الحفظ من كل عاتٍ سواءٍ كان بالغاً في العتو أو لا قال: ﴿مارد *﴾ أي مجرد عن الخير عاتٍ في كل شر سواء كان بالغاً في ذلك أقصى الغايات أو كان في أدنى الدرجات كضارب وضراب.
ولما كان كون الشيء الواحد لأشياء متعددة أدل على القدرة وأظهر في العظمة، قال دالاً بالعطف على غير معطوف عليه ظاهر على مقدر يدل على أن الزينة بالنجوم أمر مقصود لا اتفاقي: ﴿وحفظاً﴾ أي زيناها بها للزينة وللحفظ ﴿من كل شيطان﴾ أي بعيد عن الخير محترق. ولما كان القصد التعميم في الحفظ من كل عاتٍ سواءٍ كان بالغاً في العتو أو لا قال: ﴿مارد *﴾ أي مجرد عن الخير عاتٍ في كل شر سواء كان بالغاً في ذلك أقصى الغايات أو كان في أدنى الدرجات كضارب وضراب.
195
ولما كان المراد في سورتي النساء والحج ذم الكفرة بفعل ما ليس في كونه شراً لبس، وبوضع النفس باتباع ما لا شك في دناءته ببعده عن الخير بعد الإخفاء به، عبر بالمريد للمبالغة، وكما أنه حرس السماء المحسوسة بما ذكره سبحانه وتعالى فكذلك زين عز وجل قلوب الأولياء التي هي كالسماء لأراضي أجسامهم بنجوم المعارف، فإذا مسهم طيف
195
من الشيطان تذكروا فرشقته شهب أحوالهم ومعارفهم وأقوالهم. ولما تشوف السامع إلى معرفة هذا الحفظ وثمرته وبيان كيفيته، استأنف قولاً: ﴿لا يسمعون﴾ أي الشياطين المفهومون من كل شيطان، لا يتجدد لهم سمع أصلاً، قال ابن الجوزي: قال الفراء: ﴿لا﴾ هنا كقوله «كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به» ويصلح في ﴿لا﴾ على هذا المعنى الجزم، والعرب تقول: ربطت في شيء لا ينفلت - انتهى. ويؤخذ من التسوير بكل ثم الجمع نظراً إلى المعنى، والإفراد لضمير الخاطف وللخطفة أنهم معزولون عن السمع جمعهم ومفردهم من الجمع، وأن الخطف يكون - إن اتفق - في الواحد لا الجمع ومن الواحد لا الجمع، وللكلمة وما حكمها لا أكثر، وإليه يشير حديث الصحيح «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني» وأكد بعدهم بإثبات حرف الغاية، فقال مضمناً ﴿سمع﴾ بعد قصره معنى «انتهى» أو «أصغى» ليكون المعنى: لا ينتهي سمعهم أو تسمعهم أو إصغاؤهم ﴿إلى الملإ﴾ أي الجمع العظيم الشريف، وأوضحت هذا المعنى قراءة
196
من شدد السين والميم بمعنى يتسمعون، أي بنوع حيلة، تسمعاً منتهياً إلى ذلك، وهو يفهم أنهم يتسمعون، ولكن لا ينتهي تسمعهم إلى ما ذكر، بما أشار إليه الإدغام، ويشير أيضاً إلى أنهم يجتهدون في إخفاء أمرهم، وأفرد الوصف دلالة أيضاً على أن العطف يكون من واحد لا من جمع فقال: ﴿الأعلى﴾ أي مكاناً ومكانة بحيث يلمؤون العيون بهجة والصدور هيبة.
ولما كان التقدير: لأنهم يطردون طرداً قوياً، دل عليه بالعاطف في قوله: ﴿ويقذفون﴾ أي الشياطين يرمون رمياً وحياً شديداً يطردون به، وبني للمفعول لأن النافع قذفهم لا تعيين قاذفهم، مع أنه أدل على القدرة الإلهية عزت وجلت ﴿من كل جانب *﴾ أي من جوانب السماوات بالشهب إذا قصدوا السماع بالاستراق ﴿دحوراً﴾ أي قذفاً يردهم مطرودين صاغرين مبعدين، فهو تأكيد للقذف بالمعنى أو مفعول له أو حال.
ولما كان هذا ربما سبباً لأن يظن ظان أنهم غير مقدور
ولما كان التقدير: لأنهم يطردون طرداً قوياً، دل عليه بالعاطف في قوله: ﴿ويقذفون﴾ أي الشياطين يرمون رمياً وحياً شديداً يطردون به، وبني للمفعول لأن النافع قذفهم لا تعيين قاذفهم، مع أنه أدل على القدرة الإلهية عزت وجلت ﴿من كل جانب *﴾ أي من جوانب السماوات بالشهب إذا قصدوا السماع بالاستراق ﴿دحوراً﴾ أي قذفاً يردهم مطرودين صاغرين مبعدين، فهو تأكيد للقذف بالمعنى أو مفعول له أو حال.
ولما كان هذا ربما سبباً لأن يظن ظان أنهم غير مقدور
197
عليهم في غير هذه الحالة بغير هذا النوع أخبر أنهم في قبضته، وإنما جعل حالهم هذا فتنة لمن أراد من عباده، فقال معبراً باللام التي يعبر بها غالباً عن النافع تهكماً بهم: ﴿ولهم عذاب﴾ أي في الدنيا بهذا وبغيره، وفي الآخرة يوم الجمع الأكبر ﴿واصب *﴾ أي دائم ممرض موجع كثير الإيجاع مواظب على ذلك ثابت عليه وإن افترق الدوامان في الاتصال والعظم والشدة والألم.
ولما ثبت بهذا حراسة القرآن بقدرة الملك الديان عن لبس الجان، وكان بعضهم مع هذا يسمع في بعض الأحايين ما أراد الله أن يسمعه ليجعله فتنة لمن أراد من عباده مع تميز القرآن بالإعجاز، استثنى من فاعل ﴿يسمعون﴾ قوله: ﴿إلا من خطف﴾ ودل على قلة ذلك بعد إفراد الضمير بقوله: ﴿الخطفة﴾ أي اختلس الكلمة أو أكثر، مرة من المرات منهم، ودل على قوة انقضاض الكواكب في أثره بالهمزة في قوله: ﴿فأتبعه﴾ مع تعديه بدونها، أي تبعه بغاية ما يكون من السرعة حتى كأنه يسوق نفسه ويتبعها له كأن الله سبحانه وعز شأنه هيأها لئلا تنقض إلا في أثر من سمع منهم حين سماعه سواء لا يتخلف ﴿شهاب﴾ أي شعلة النار من الكوكب أو غيره ﴿ثاقب *﴾
ولما ثبت بهذا حراسة القرآن بقدرة الملك الديان عن لبس الجان، وكان بعضهم مع هذا يسمع في بعض الأحايين ما أراد الله أن يسمعه ليجعله فتنة لمن أراد من عباده مع تميز القرآن بالإعجاز، استثنى من فاعل ﴿يسمعون﴾ قوله: ﴿إلا من خطف﴾ ودل على قلة ذلك بعد إفراد الضمير بقوله: ﴿الخطفة﴾ أي اختلس الكلمة أو أكثر، مرة من المرات منهم، ودل على قوة انقضاض الكواكب في أثره بالهمزة في قوله: ﴿فأتبعه﴾ مع تعديه بدونها، أي تبعه بغاية ما يكون من السرعة حتى كأنه يسوق نفسه ويتبعها له كأن الله سبحانه وعز شأنه هيأها لئلا تنقض إلا في أثر من سمع منهم حين سماعه سواء لا يتخلف ﴿شهاب﴾ أي شعلة النار من الكوكب أو غيره ﴿ثاقب *﴾
198
أي يثقب ما صادفه من جني وغيره وإن كان الجني من نار فإنه ليس ناراً خالصة، وعلى التنزل فربما كان الشيء الواحد أنواعاً بعضها أقوى من بعض، فيؤثر أقواه في أضعفه كالحديد، وتارة يخطئ الجني وتارة يصيبه، وإذا أصابه فتارة يحرقه فيتلفه وتارة يضعفه.
ولما كان المقصود من هذا الكتاب الأعظم بيان الأصول الأربعة: التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر، ودل سبحانه بهذه المذكورات على وجوده وكمال علمه وتمام قدرته على الأفعال الهائلة وبديع حكمته اللازم منه إثبات وحدانيته تفصيلاً لبعض إجمال ﴿أو ليس الذي خلق السماوات والأرض﴾ فكان ما دونها من الأفعال أولى، سبب عن ذلك لإثبات الحشر الذي أخبر به هذا القرآن الذي حرسه عن تلبيس الجان بزينة الكواكب التي أنشأ منها الشهب الثواقب قوله تهكماً بهم: ﴿فاستفتهم﴾ أي سلهم أن يتفتوا بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث، وأصله من الفتوة وهي الكرم: ﴿أهم أشد﴾ أي أقوى وأشق وأصعب ﴿خلقاً﴾ أي من جهة إحكام الصنعة وقوتها وعظمها ﴿أم من﴾ ولما كان المراد الإعلام بأنه لا شيء من الموجودات إلا وهو خلقه سبحانه، عبر بما يدل على ذلك دون ذكرنا، وليكون أعم، وحذف المفعول لأنه مفهوم، ولئلا يلبس إذا ذكر ضمير المستفتين،
ولما كان المقصود من هذا الكتاب الأعظم بيان الأصول الأربعة: التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر، ودل سبحانه بهذه المذكورات على وجوده وكمال علمه وتمام قدرته على الأفعال الهائلة وبديع حكمته اللازم منه إثبات وحدانيته تفصيلاً لبعض إجمال ﴿أو ليس الذي خلق السماوات والأرض﴾ فكان ما دونها من الأفعال أولى، سبب عن ذلك لإثبات الحشر الذي أخبر به هذا القرآن الذي حرسه عن تلبيس الجان بزينة الكواكب التي أنشأ منها الشهب الثواقب قوله تهكماً بهم: ﴿فاستفتهم﴾ أي سلهم أن يتفتوا بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث، وأصله من الفتوة وهي الكرم: ﴿أهم أشد﴾ أي أقوى وأشق وأصعب ﴿خلقاً﴾ أي من جهة إحكام الصنعة وقوتها وعظمها ﴿أم من﴾ ولما كان المراد الإعلام بأنه لا شيء من الموجودات إلا وهو خلقه سبحانه، عبر بما يدل على ذلك دون ذكرنا، وليكون أعم، وحذف المفعول لأنه مفهوم، ولئلا يلبس إذا ذكر ضمير المستفتين،
199
فقال: ﴿خلقنا﴾ أي من هذه الأشياء التي عددناها من الحي وغيره من الجن الذين أعطيناهم قدرة التوصل إلى الفلك وغيرهم، وعبر ب «من» تغليباً للعاقل من الملائكة وغيرهم مما بين السماوات والأرض.
ولما كان الجواب قطعاً أن هذه المخلوقات أشد خلقاً منهم وأنهم هم من أضعف الخلائق خلقاً، قال دالاً على إرادة التهكم بهم في السؤال، مؤكداً إشارة إلى أن إنكارهم البعث لاستبعادهم تمييز التراب من التراب يلزم منه إنكار ابتداء الخلق على هذا الوجه: ﴿إنا خلقناهم﴾ أي على عظمتنا ﴿من طين﴾ أي تراب رخو مهين ﴿لازب *﴾ أي شديد اختلاط بعضه ببعض فالتصق وضمر وتضايق وتلازم بعضه لبعض، وقل واشتد ودخل بعض التراب المنتثر من بعض، قال ابن الجوزي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الطين الحر الجيد اللزق.
وإنما كانوا من طين لأن أباهم آدم كان منه من غير أب ولا أم، فصاروا بهذا التقدير بعض الطين الذي هو بعض خلقه الذي عدده قبل ذلك سبحانه الذاتية التي لا يمتنع عليها مقدور، ولا يعجزها مأمور، فدل ابتداء خلقهم وخلق ما هو أشد منهم وأعظم
ولما كان الجواب قطعاً أن هذه المخلوقات أشد خلقاً منهم وأنهم هم من أضعف الخلائق خلقاً، قال دالاً على إرادة التهكم بهم في السؤال، مؤكداً إشارة إلى أن إنكارهم البعث لاستبعادهم تمييز التراب من التراب يلزم منه إنكار ابتداء الخلق على هذا الوجه: ﴿إنا خلقناهم﴾ أي على عظمتنا ﴿من طين﴾ أي تراب رخو مهين ﴿لازب *﴾ أي شديد اختلاط بعضه ببعض فالتصق وضمر وتضايق وتلازم بعضه لبعض، وقل واشتد ودخل بعض التراب المنتثر من بعض، قال ابن الجوزي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الطين الحر الجيد اللزق.
وإنما كانوا من طين لأن أباهم آدم كان منه من غير أب ولا أم، فصاروا بهذا التقدير بعض الطين الذي هو بعض خلقه الذي عدده قبل ذلك سبحانه الذاتية التي لا يمتنع عليها مقدور، ولا يعجزها مأمور، فدل ابتداء خلقهم وخلق ما هو أشد منهم وأعظم
200
على القدرة على إعادتهم قطعاً بل بطريق الأولى من غير وجه، وحسن هذا الاستقتاء كل الحسن ختم الكلام قبله بمن بلغوا السماء تكبراً وعلواً، وهموا بما لم ينالوا تجبراً وعلواً، وسلط عليهم ما يردهم مقهورين مبعدين مدحورين، واستثنى منهم من ﴿خطف﴾ ليعلم أنه غير محال ما تعلقت به منهم الآمال، هذا مع ذكره في خلقهم من الطين اللازب الذي من شأنه الرسوب لثقله والسفول كما أن من شأن من ختم بهم ما قبله العلو لخفتهم والصعود.
ولما كان من المعلوم قطعاً أن المراد بهذا الأمر بالاستفتاء إنما هو التبكيت لأن من المعلوم قطعاً أن الجواب: ليسوا أشد خلقاً من ذلك، فليس بعثهم ممتنعاً، وليست غلبتهم لرسول الواحد القهار - الذي حكمه في هذا الوحي بإظهاره على الدين كله - بجائزة أصلاً، نقلاً ولا عقلاً، بوجه من الوجوه، فلا شبهة لهم في إنكاره ولا في ظنهم أنهم يغلبون رسولنا، بل هم في محل عجب شديد في إنكاره وظنهم أنهم غالبون في الدنيا، عبر عن ذلك بقوله، مسنداً العجب إلى
ولما كان من المعلوم قطعاً أن المراد بهذا الأمر بالاستفتاء إنما هو التبكيت لأن من المعلوم قطعاً أن الجواب: ليسوا أشد خلقاً من ذلك، فليس بعثهم ممتنعاً، وليست غلبتهم لرسول الواحد القهار - الذي حكمه في هذا الوحي بإظهاره على الدين كله - بجائزة أصلاً، نقلاً ولا عقلاً، بوجه من الوجوه، فلا شبهة لهم في إنكاره ولا في ظنهم أنهم يغلبون رسولنا، بل هم في محل عجب شديد في إنكاره وظنهم أنهم غالبون في الدنيا، عبر عن ذلك بقوله، مسنداً العجب إلى
201
أجلّ الموجودات أو أجلّ المخلوقات تعظيماً لم بمعنى أنه قول يستحق أن يقال فيه: أنه لا يدري ما الذي أوقع فيه وكان سبباً لارتكابه، فقال: ﴿بل عجبت﴾ بضم التاء على قراءة حمزة والكسائي لفتاً للقول من مظهر العظمة للتصريح بإسناد التعجب إليه سبحانه إشارة إلى تناهي هذا العجب إلى حد لا يوصف لإسناده إلى من هو منزه عنه، وبفتحها عند الباقين أي من جرأتهم في إنكارهم البعث ولا سيما وقد دل عليه القرآن في هذه الأساليب الغريبة والوجوه البديعة العجيبة التي لا يشك فيها من له أدنى تصور، وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظن كما هو اللائق أنه لا يسمع القرآن أحد إلا آمن به، قال القشيري: وحقيقة التعجب تغير النفس بما خفي فيه السبب مما لم تجر العادة بحدوث مثله، ومثل هذا حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأم سليم وأبي طلحة رضي الله عنهما:
«ضحك - وفي رواية: عجب - الله من فعالكما الليلة»، وحديث البخاري رحمه الله
«ضحك - وفي رواية: عجب - الله من فعالكما الليلة»، وحديث البخاري رحمه الله
202
عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً: «عجب ربنا من أقوام يقادون إلى الجنة في السلاسل» ومثله كثير، والمعنى في الكل التنبيه على عظم الفعل وأنه خارق للعادة، ويجوز أن يكون المعنى أنهم لم ينكروه لقلة الدلائل عليه، بل قد أتى من دلائله ما يعجب إعجاباً عظيماً من كثرته وطول الأناة في مواترته ﴿ويسخرون *﴾ أي حصل لك العجب والحال أنهم يجددون السخرية كلما جئتهم بحجة ﴿وإذا ذكروا﴾ أي وعظوا من أيّ واعظ كان بشيء هم به عارفون جداً يدلهم على البعث مثل ما يذكرون به من القدرة، مع أنه لا يجوز في عقل عاقل منهم أن أحداً يدع مَن تحت يده بلا محاسبة ﴿لا يذكرون *﴾ أي لا يعملون بموجب التذكير.
203
ولما ذكر إعراضهم عن المسموع، أتبعه إعراضهم عن المرئي فقال: ﴿وإذا رأوا آية﴾ أي علامة على صدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره ﴿يستسخرون *﴾ أي يطلبون السخرية بها بأن يدعو بعضهم بعضاً لذلك من شدة استهزائهم.
ولما كان إنكارهم للبعث ولو صدر مرة واحدة في الشناعة والعظم والقباحة مثل تجديدهم للسخرية كلما سمعوا آية والمبالغة فيها
ولما كان إنكارهم للبعث ولو صدر مرة واحدة في الشناعة والعظم والقباحة مثل تجديدهم للسخرية كلما سمعوا آية والمبالغة فيها
203
لأن دلائله من الظهور والوضوح بمكان هو في غاية البعد عن الشكوك، دل على ذلك بالتعبير بالماضي فقال: ﴿وقالوا﴾ أي ما هو غاية في العجب: ﴿إن﴾ أي ما ﴿هذا﴾ أي الذي أتانا به من أمر البعث وغيره مما شاهدناه أو أخبرنا به ﴿إلا سحر﴾ أي خيال وأمور مموهة لا حقائق لها ﴿مبين *﴾ أي ظاهر في نفسه ومظهر لسخريته ثم خصوا البعث بالإنكار: ﴿أإذ متنا﴾ وعطفوا عليه ما هو موجب عندهم لشدة الإنكار فقالوا: ﴿وكنا﴾ أي كوناً هو في غاية التمكن ﴿تراباً﴾ قدموه لأنه أدل على مرادهم لأنه أبعد عن الحياة ﴿وعظاماً﴾ كأنهم جعلوا كل واحد من الموت والكون إلى الترابية المحضة والعظامية المحضة أو المختلطة منهما مانعاً من البعث، وهذا بعد اعترافهم أن ابتداء خلقهم كان من التراب مع أن هذا ظاهر جداً «ولكن عقول ضلها باريها» ثم كرروا الاستفهام الإنكاري على قراءة من قرأ به زيادة في الإنكار فقالوا: ﴿أإنا لمبعوثون *﴾.
ولما كان المعنى: أيثبت بعثنا، عطفوا عليه قولهم مكررين للاستفهام
ولما كان المعنى: أيثبت بعثنا، عطفوا عليه قولهم مكررين للاستفهام
204
الإنكاري تأكيداً لزيادة استبعادهم حتى أنهم قاطعون بأنه محال فقالوا قولاً واهياً: ﴿أو آباؤنا﴾ أي يثبت بعثنا وكذا آباؤنا وزادوا في الاستبعاد بقولهم: ﴿الأولون *﴾ اي الذين طال مكثهم في الأرض تحت أطباق الثرى وانمحقت أجزاؤهم بحيث لم يبق لهم أثر ما، ومرت الدهور ولم يبعث أحد منهم يوماً من الأيام، يدلنا بعثه على ما يدعي من ذلك.
ولما بالغوا هذه المبالغات في إنكاره بعد قيام البراهين في هذه السورة وغيرها على جوازه بل وجوبه عادة، أمره بأن يجيبهم بما يقابل ذلك فقال تعالى: ﴿قل نعم﴾ أي تبعثون على كل تقدير قدرتموه، وذكر حالهم بقوله: ﴿وأنتم داخرون *﴾ أي مكرهون عليه صاغرون ذليلون حقيرون. ثم سبب عن الوعد بتحتم كونه ما يدل على أنه غاية في الهوان فقال: ﴿فإنما﴾ أي يكون ذلك بسبب أنكم تزجرون فتقومون، والزجرة التي يقومون بها إنما ﴿هي زجرة﴾ أي صيحة، وأكد ما يفهمه من الوحدة لأجل إنكارهم تصريحاً بذلك وتحقيراً لأمر البعث في جنب قدرته سبحانه وتعالى فقال: ﴿واحدة﴾ وهي الثانية التي كانت الإماتة لجميع الأحياء في
ولما بالغوا هذه المبالغات في إنكاره بعد قيام البراهين في هذه السورة وغيرها على جوازه بل وجوبه عادة، أمره بأن يجيبهم بما يقابل ذلك فقال تعالى: ﴿قل نعم﴾ أي تبعثون على كل تقدير قدرتموه، وذكر حالهم بقوله: ﴿وأنتم داخرون *﴾ أي مكرهون عليه صاغرون ذليلون حقيرون. ثم سبب عن الوعد بتحتم كونه ما يدل على أنه غاية في الهوان فقال: ﴿فإنما﴾ أي يكون ذلك بسبب أنكم تزجرون فتقومون، والزجرة التي يقومون بها إنما ﴿هي زجرة﴾ أي صيحة، وأكد ما يفهمه من الوحدة لأجل إنكارهم تصريحاً بذلك وتحقيراً لأمر البعث في جنب قدرته سبحانه وتعالى فقال: ﴿واحدة﴾ وهي الثانية التي كانت الإماتة لجميع الأحياء في
205
آن واحد بمثلها، وأصل الزجر الانتهار ويكون لحث أو منع، وإنما يكون ذلك للمقدور عليه فعل ما يغضب الزاجر، فلذلك سمى الصيحة زجرة.
ولما كان هذا الكلام مؤذناً بالغضب، حققه بصرف الكلام عن خطابهم جعلاً لهم بمحل البعد وتعميماً لغيرهم، فقال معبراً بالفاء المسببة المعقبة وأداة المفأجأة: ﴿فإذا هم﴾ أي جميع الأموات بضمائرهم وظواهرهم القديم منهم والحديث أحياء ﴿ينظرون *﴾ أي في الحال من غير مهلة أصلاً، ولا فرق بين من صار كله تراباً ومن لم يتغير أصلاً، ومن هو بين ذلك، ولعله خص النظر بالذكر لأنه لا يكون إلا مع كمال الحياة، ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قبض الروح تبعه البصر» وأما السمع فقد يكون لغير الحي لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الكفار من قتلى بدر: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وشاهدت أنا في بلاد العرقوب المجاروة لبانياس من بلاد الشام شجرة شوك يقال لها الغبيراء متى قيل عندها «هات لي المنجل لأقطع هذه الشجرة» أخذ ورقها في الحال في الذبول - فالله أعلم ما سبب ذلك.
ولما كان هذا الكلام مؤذناً بالغضب، حققه بصرف الكلام عن خطابهم جعلاً لهم بمحل البعد وتعميماً لغيرهم، فقال معبراً بالفاء المسببة المعقبة وأداة المفأجأة: ﴿فإذا هم﴾ أي جميع الأموات بضمائرهم وظواهرهم القديم منهم والحديث أحياء ﴿ينظرون *﴾ أي في الحال من غير مهلة أصلاً، ولا فرق بين من صار كله تراباً ومن لم يتغير أصلاً، ومن هو بين ذلك، ولعله خص النظر بالذكر لأنه لا يكون إلا مع كمال الحياة، ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قبض الروح تبعه البصر» وأما السمع فقد يكون لغير الحي لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الكفار من قتلى بدر: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وشاهدت أنا في بلاد العرقوب المجاروة لبانياس من بلاد الشام شجرة شوك يقال لها الغبيراء متى قيل عندها «هات لي المنجل لأقطع هذه الشجرة» أخذ ورقها في الحال في الذبول - فالله أعلم ما سبب ذلك.
206
ولما حصل الغرض من تصوير حالهم بهذا الفعل المضارع، عطف
206
عليه بصيغة المضي التي معناها الاستقبال إعلاماً بتحقق الأمر تحقق ما مضى وكان، وتحققه مع القيام سواء من غير تخلف ولا تخلل زمان أصلاً فقال: ﴿وقالوا﴾ أي كل من جمعه البعث من الكفرة معلمين بما انكشف لهم من أنه لا ملازم لهم غير الويل: ﴿يا ويلنا﴾ اي يا من ليس لنا نديم غيره ﴿هذا يوم الدين *﴾ أي الجزاء لكل عامل.
ولما كان قولهم هذا إنما هو للتحسر على ما فاتهم من التصديق النافع به، زادوا في ذلك بقولهم يخاطب بعضهم بعضاً بدلاً أو وصفاً بعد وصف دالين بإعادة اسم الإشارة على ما داخلهم من الهول: ﴿هذا يوم الفصل﴾ أي الذي يفصل فيه بين الخصوم، ثو زادوا تأسفاً وتغمماً وتلهفاً بقولهم، لافتين القول عن التكلم إلى الخطاب لأنه أدل على ذم بعضهم لبعض وأبعد عن الإنصاف بالاعتراف: ﴿الذي كنتم﴾ أي يا دعاة الويل جبلة وطبعاً ﴿به تكذبون *﴾ وقدموا الجار إشارة إلى عظيم تكذيبهم به، فبينما هم في هذا التأسف إذ برز النداء بما يهدىء قواهم، ويقر قلوبهم وكلاهم، لمن لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من الملائكة الشداد الغلاظ بإذلالهم وإصغارهم، ولبيان السرعة لذلك من غير تنفيس أسقط ما يدل على النداء من نحو قوله:
ولما كان قولهم هذا إنما هو للتحسر على ما فاتهم من التصديق النافع به، زادوا في ذلك بقولهم يخاطب بعضهم بعضاً بدلاً أو وصفاً بعد وصف دالين بإعادة اسم الإشارة على ما داخلهم من الهول: ﴿هذا يوم الفصل﴾ أي الذي يفصل فيه بين الخصوم، ثو زادوا تأسفاً وتغمماً وتلهفاً بقولهم، لافتين القول عن التكلم إلى الخطاب لأنه أدل على ذم بعضهم لبعض وأبعد عن الإنصاف بالاعتراف: ﴿الذي كنتم﴾ أي يا دعاة الويل جبلة وطبعاً ﴿به تكذبون *﴾ وقدموا الجار إشارة إلى عظيم تكذيبهم به، فبينما هم في هذا التأسف إذ برز النداء بما يهدىء قواهم، ويقر قلوبهم وكلاهم، لمن لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من الملائكة الشداد الغلاظ بإذلالهم وإصغارهم، ولبيان السرعة لذلك من غير تنفيس أسقط ما يدل على النداء من نحو قوله:
207
فقيل الملائكة، أو فقلنا، أو فبرز النداء من جانب سلطاننا - ونحو هذا: ﴿احشروا﴾ أي اجمعوا بكره وصغار وذل أيها الموكلون بالعباد من الأجناد، وأظهر تعريفاً بوصفهم الموجب لحتفهم فقال: ﴿الذين ظلموا﴾ أي بما كانوا فيه في الدنيا بوضع الأشياء في غير محالها من الخبط الذي لا يفعله إلا من هو في أشد الظلام ﴿وأزواجهم﴾ أي أتباعهم الذين استنوا بهم في ذلك الضرب من الظلم وأشباههم فيه من الجن وغيرهم ومن أعانهم ولو بشطر كلمة أو رضى فعلهم لتصير كل طائفة على حدة فيصير بعضهم يبكت بعضاً وبعضهم يشتم بعضاً ﴿وما كانوا﴾ أي بما دعتهم إليه طباعاتهم المعوجة ﴿يعبدون *﴾ أي مواظبين على عبادته رجاء منفعته تحقيقاً لخسارتهم بتحقق اعتمادهم على غير معتمد، وهو يعم المعبود حقيقة أو مجازاً بالتزيين «ومن سبقت له الحسنى» مستثنى بآية الأنبياء، وأشار إلى سفول رتبة معبوداتهم وتسفيه آرائهم بانتحال الأذى بقوله صارفاً الأسلوب من المتكلم ولو بمظهر العظمة إلى أعظم منه: ﴿من دون الله﴾ أي الذي تفرد بنعوت العظمة وصفات الكمال، والمراد الذين رضوا بعبادتهم لهم ولم ينكروا عليهم ذلك ويأمروهم بتوحيد الله.
208
ولما كانوا قد سلكوا في الدنيا طريق الشقاء المعنوية استحقوا أن يلزموا في القيامة سلوك طريقه الحسية، فلذلك سبب عن الأمر بحشرهم قوله تهكماً بهم وتحسيراً لهم: ﴿فاهدوهم﴾ أي دلوهم دلالة لا يرتابون معها ليعرفوا - مع ما هم فيه من الإكراه على سلوكها - مآلهم، فيكون ذلك أعظم في نكدهم؛ قال الرازي: وأصل الهداية التقدم، والعرب تسمي السابق هادياً، يقال: أقبلت هوادي الخيل أي أعناقها، والهادية: العصى - لأنها تتقدم ممسكها، ونظر فلان هدى أمره أي جهته.
ثم أشار إلى طول وقوفهم وسوء مقامهم بقوله بأداة الانتهاء: ﴿إلى صراط الجحيم *﴾ أي طريق النار الشديدة التوقد الواضح الذي لا لبس عندهم بأنه يشترطهم فيؤديهم إليها، وخص هذا الاسم إعلاماً بشديد توقدها وعظيم تأججها، وبعد قعرها وضخامة غمرتها، بتراكم بعضها فوق بعض وقوة اضطرامها، وعلو شأنها واصطلاحها، وصلابة اضطرابها وتحرقها واشتمالها على داخليها وتضايقها، وفيه تهكم بهم في كونهم على غير ما كانوا عليه في الدنيا من التناصر والتعاضد.
ولما كان المقصود من تعريفهم طريق النار أولاً ازدياد الحسرة، صرح بما أفهمه حرف الغاية من طول الحبس فقال: ﴿وقفوهم﴾ أي احبسوهم واقفين بعد ترويعهم بتلك الهداية التي سببها الضلال، فكانت
ثم أشار إلى طول وقوفهم وسوء مقامهم بقوله بأداة الانتهاء: ﴿إلى صراط الجحيم *﴾ أي طريق النار الشديدة التوقد الواضح الذي لا لبس عندهم بأنه يشترطهم فيؤديهم إليها، وخص هذا الاسم إعلاماً بشديد توقدها وعظيم تأججها، وبعد قعرها وضخامة غمرتها، بتراكم بعضها فوق بعض وقوة اضطرامها، وعلو شأنها واصطلاحها، وصلابة اضطرابها وتحرقها واشتمالها على داخليها وتضايقها، وفيه تهكم بهم في كونهم على غير ما كانوا عليه في الدنيا من التناصر والتعاضد.
ولما كان المقصود من تعريفهم طريق النار أولاً ازدياد الحسرة، صرح بما أفهمه حرف الغاية من طول الحبس فقال: ﴿وقفوهم﴾ أي احبسوهم واقفين بعد ترويعهم بتلك الهداية التي سببها الضلال، فكانت
209
ثمرتها الشقاوة، وإيقافهم يكون عند الصراط - نقله البغوي عن المفسرين، قال: لأن السؤال عند الصراط. ثم علل ذلك بقوله: ﴿إنهم مسؤولون *﴾ وجمع عليهم الهموم بهذه الكلمة لتذهب أوهامهم كل مذهب، فلا تبقى حسرة إلا حضرتهم، ولا مصيبة إلا علت قلوبهم فقهرتهم، فإن المكلف كله ضعف وعورة، فموقف السؤال عليه أعظم حسرة.
ولما أوقفوا هذا الموقف الذليل، قد شغلهم ما دهمهم من الأسف عن القال والقيل، نودوا من مقام السطوة، وحجاب الجبروت والعزة، زيادة في تأسيفهم وتوبيخهم وتعنيفهم لفتاً عن سياق الغيبة إلى الخطاب دلالة على أعظم خيبة: ﴿ما لكم﴾ أي أيّ شيء حصل لكم فشغلكم وألهاكم حال كونكم ﴿لا تناصرون *﴾ أي ينصر بعضكم بعضاً، ويتسابقون في ذلك تسابق المتناظرين فيه أولي الجد والشكيمة والنخوة والحمية ولو بأدنى التناصر - بما يفهمه إسقاط التاء، أو بعد تمكث وإعمال حيلة - بما أشارت إليه قراءة البزي عن ابن كثير بالمد والإدغام: أين قولكم في بدر ﴿نحن جميع منتصر﴾ معبرين بما دل على ثبات المناصرة.
ولما كان قد دهمهم من الأمر ما أوجب إبلاسهم، وأحدّ
ولما أوقفوا هذا الموقف الذليل، قد شغلهم ما دهمهم من الأسف عن القال والقيل، نودوا من مقام السطوة، وحجاب الجبروت والعزة، زيادة في تأسيفهم وتوبيخهم وتعنيفهم لفتاً عن سياق الغيبة إلى الخطاب دلالة على أعظم خيبة: ﴿ما لكم﴾ أي أيّ شيء حصل لكم فشغلكم وألهاكم حال كونكم ﴿لا تناصرون *﴾ أي ينصر بعضكم بعضاً، ويتسابقون في ذلك تسابق المتناظرين فيه أولي الجد والشكيمة والنخوة والحمية ولو بأدنى التناصر - بما يفهمه إسقاط التاء، أو بعد تمكث وإعمال حيلة - بما أشارت إليه قراءة البزي عن ابن كثير بالمد والإدغام: أين قولكم في بدر ﴿نحن جميع منتصر﴾ معبرين بما دل على ثبات المناصرة.
ولما كان قد دهمهم من الأمر ما أوجب إبلاسهم، وأحدّ
210
إدراكهم وإحساسهم، أشار إلى ذلك بإحلالهم في محل الغيبة المؤذنة بالإبعاد بأن قال مضرباً عما تقديره: إنهم لا يتناصرون: ﴿بل هم﴾ وزاد في تعظيم ذلك الوقت والتذكير به فقال: ﴿اليوم مستسلمون *﴾ أي ثابت لهم استسلامهم ثباتاً لا زوال له، قد خذل بعضهم بعضاً موجدين الإسلام أي الانقياد إيجاد من كأنه يطلبه ويعظم فيه رغبته رجاء أن يخفف ذلك عنهم.
ولما أخبر بأنهم سئلوا فلم يجيبوا، كان ربما ظن أنهم أخرسوا فنبه على أنهم يتكلمون بما يزيد نكدهم، فقال عاطفاً على قوله ﴿وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين﴾ إشارة إلى إقبالهم على الخصام، حين تمام القيام، والأخذ في تحريك الأقدام، بالسير على هيئة الاجتماع والازدحام، إلى مواطن النكد والاغتمام، ولم يعطفه بالفاء لأنه ليس مسبباً عن القيام، ولا عن الإيقاف للسؤال، بخلاف ما يأتي عن أهل الجنة: ﴿وأقبل بعضهم﴾ أي الذين ظلموا ﴿على بعض﴾ أي بعد إيقافهم وتوبيخهم، وعبر عن خصامهم تهكماً بهم بقوله: ﴿يتساءلون *﴾ أي سؤال خصومة.
ولما كان كأنه قيل: عما ذا؟ أجيب بقوله: ﴿قالوا﴾ أي الأتباع لرؤسائهم مشيرين بأداة الكون إلى المداومة على إضلالهم مؤكدين لأجل تكذيب الرؤساء لهم: ﴿إنكم كنتم﴾ ولما كانوا يستغوونهم ويغرونهم
ولما أخبر بأنهم سئلوا فلم يجيبوا، كان ربما ظن أنهم أخرسوا فنبه على أنهم يتكلمون بما يزيد نكدهم، فقال عاطفاً على قوله ﴿وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين﴾ إشارة إلى إقبالهم على الخصام، حين تمام القيام، والأخذ في تحريك الأقدام، بالسير على هيئة الاجتماع والازدحام، إلى مواطن النكد والاغتمام، ولم يعطفه بالفاء لأنه ليس مسبباً عن القيام، ولا عن الإيقاف للسؤال، بخلاف ما يأتي عن أهل الجنة: ﴿وأقبل بعضهم﴾ أي الذين ظلموا ﴿على بعض﴾ أي بعد إيقافهم وتوبيخهم، وعبر عن خصامهم تهكماً بهم بقوله: ﴿يتساءلون *﴾ أي سؤال خصومة.
ولما كان كأنه قيل: عما ذا؟ أجيب بقوله: ﴿قالوا﴾ أي الأتباع لرؤسائهم مشيرين بأداة الكون إلى المداومة على إضلالهم مؤكدين لأجل تكذيب الرؤساء لهم: ﴿إنكم كنتم﴾ ولما كانوا يستغوونهم ويغرونهم
211
بما تقبله عقولهم على ما جرت به عوائدهم بحيث يقطعون بذلك قطع من كان يريد الذهاب إلى أمر فتطير بالسانح والبارح، فرأى ما يحب فأقدم عليه وهو قاطع بحصوله، أشاروا إلى ذلك بقوله: ﴿تأتوننا﴾ مجاوزين لنا ﴿عن اليمين *﴾ أي عن القوة والقهر والغلبة والسلطان في حملكم لنا على الضلال، ففعلنا في طاعتكم فعل من خرج لحاجة، فرأى ما أوجب إقدامه عليها، فهذا كان سبب كفرنا، وكان هذا التفاؤل مما نسيت العرب كيفيته لما نسخه الشرع كما وقع في الميسر فاضطرب كلام أهل اللغة في تفسيره، قال صاحب القاموس: البارح من الصيد ما مر من ميامنك إلى مياسرك، وسنح الظبي سنوحاً ضد برح. وقال ابن القطاع في كتاب الأفعال: وسنح الشيء سنوحاً: تيسر، والطائر والظبي: جرى عن يمينك إلى يسارك وهو يتيمن به، وقال في مادة «برح» : وبرح الطائر والظبي وغيرهما ضد سنح، وهو ما أراك ميامنه، وأهل الحجاز يتشاءمون به، وغيرهم يتيمنون به ويتشاءمون بالسانح، وقال ابن مكتوم في الجمع بين العباب والمحكم في مادة «برح» : والبارح خلاف السانح، وقد برح الظبي - إذا والاك مياسره يمر من ميامنك إلى مياسرك، والعرب يتطير بالبارح وفي
212
مادة «سنح» : والسانح ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك والبارح: ما أتاك من ذلك عن يسارك وقيل: السانح ما والاك ميامنه والبارح ما والاك مياسره وقيل السانح ما يجيء عن يمينك فتلي مياسره مياسرك والعرب تختلف في عيافة ذلك، فمنهم من يتيمن بالسانح ويتشاءم بالبارح، وعلى هذا المثل: من لي بالسانح بعد البارح، قال في القاموس: أي بالمبارك بعد المشؤوم، ومنهم من يتشاءم بالسانح، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في مادة «سنح» : والسانح من الطير والظباء وغيرهما هو الذي يأتيك عن يمينك أخذاً على يسارك فيوليك مياسره فيمكنك رميه وأكثر العرب يتيمن به وقال في مادة «برح» : والبارح من الطير والظبي هو خلاف السانح وهو الذي يلقاك وشمائله عن شمائلك، وهو مما يتيمن به أهل العالية، ويتشاءمون بالسانح، والسانح هو الذي يلقاك وميامنه عن ميامنك، وهو مما يتيمن به أهل نجد ويتشاءمون بالبارح، والبارح أبين في التشاؤم من السانح، لأن البارح هو الذي يأخذ عن يسارك إلى يمينك فلا يمكنك طعنه، فيتشاءم به لتعذره على الطاعن أو الرامي، ولذلك قال أبو داود: قلت: لما برز أمن فيه كذب العير وإن كان برح، يقول: كذب إذ طمع أن ينجو، وإن كان قد برح وصعب
213
على إمكان طعنه، وتطير ومن تيمن به بسلامته وخلاصة من الطاعن، وتطير من تيمن بالسانح بأنه يأتي من ميامنك إلى مياسرك، فيمكنك من طعنه، ومن تشاءم به تطير بقلة سلامته ووقوعه فيما يكره، ومن الطير الجابه وهو الذي يلقاك مواجهة، ومنه الناطح أيضاً ومنه القعيد، وهو الذي يأتيك من خلفك - انتهى ما وقفت عليه من كلام أهل اللغة في ذلك فافهم، والظاهر كما تفهمه الآية أن العرب مطبقة على أن ما أتى عن اليمين كان مباركاً سواء كان أتى من قدام مواجهاً لك ومر إلى جهة الخلف فوليتك ميامته، أو أتى من الجانب الأيمن سواء كان ابتداء إتيانه من خلف أو لا فمر من قدامك عرضاً إلى جهة اليسار، فوليتك في الحالتين مياسره، وما أتى من جهة اليسار على ضد ذلك كان مشؤوماً، وكأنهم اختلفوا في التسيمة فأكثرهم سمى الأول سانحاً من السنح بالضم وهو اليمن والبركة، وهو من قولهم: سنح لي رأي: تيسر - لشهرة معنى اليمن عندهم في ذلك، والثاني بارحاً من البرح، وهو الشدة والشر لشهرة هذا المعنى عندهم في مادة برح، وبعهضم عكس فسمى الأول بارحاً من البرحة، وهي الناقة تكون من خيار الإبل لشهرة ذلك عندهم، وسمى الثاني سانحاً من قولهم: سنحه عما أراد: صرفه، وسنح بالرجل وعليه: أخرجه
214
أو أصابه بشر، فمن الاختلاف في التسمية أتى الخلاف، ولذلك عبر سبحانه وتعالى بالمعنى دون الاسم، لأن كلامه سبحانه لا يخص قوماً دون غيرهم، وأما التعليل بإمكان الطعن والرمي فلا معنى له لأن الإنسان ينفتل عن هيئة وقوفه بأدنى حركة فينعكس بالنسبة إليه أمر المياسر والميامن، ويتغير حال الطعن والرمي، هذا إذا سلم أن الطعن والرمي يعسر من جهة المياسر على أنه غير مسلم، ولو كان المعنى دائراً عليه لما اختلف فيه إلا بالنسبة إلى الأعسر وغيره، لا بالنسبة إلى أهل العالية وغيرهم، وأما البيت الذي استدل به فيمكن حمله على أن قائله كان في حاجة له لا بد له منها، فرأى البارح فلم يتطير منه ولج في أمره ذلك تكذيباً له فيما دل عليه عند العرب، وأما الجابه وغيره فأسماء أخر لبعض أنواع كل من السانح والبارح - والله أعلم، وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتابه الزينة: العيافة والقيافة والزجر نوع من الكهانة إلا أنه أخف في الكراهة وذلك أن الكاهن كان بمنزلة الحاكم وكان من الكهان من يعبد كما يعبد الصنم، وكانوا سدنة الأصنام، قلت: والكاهن في اللغة من يقضي بالغيب وذلك هو غاية العلم، فهو وصف يدل على التوغل في العلم - انتهى، قال أبو حاتم: وسمعت بعض أهل الأدب قال: الكاهن بالعبرانية العالم، وكانوا يسمون هارون عليه السلام كهناً رباً، معناه عالم الرب، ثم قال:
215
إن الكهانة والسحر كان عند المتقدمين نوعاً من العلم، فكان الساحر والكاهن اسمين محمودين، فلما جاء الله بالإسلام صار هذان الاسمان مذمومين عند المسلمين لما كشف لهم ما في ذلك من الشر، ثم قال: فأما العائف والقائف والزاجر فلم يكن سبيلهم كذلك - يعني كالكاهن في أنه ربما عبد، قال: وإنما كره لأنه كان يخبر بشيء غائب فكره كما كره أمر النجوم توقياً أن يكون مثل الدعوى في علم الغيب، والعائف هو الذي يعيف الطير ويزجرها ويعتبر بأسمائها وأصواتها ومساقطها ومجاريها، فإذا سمع صوت طائر أو جرى من يمينه إلى شماله أو من شماله إلى يمينه قضى في ذلك بخير أو بشر في الأمر الذي يريد أن يفعله، فإذا قضى فيه بشر تجنب ذلك الأمر، يقال: عاف يعيف - إذا فعل ذلك، ومعنى عاف أي امتنع وتجنب، يقال: عافت الإبل الماء - إذا لم تشرب، وكذلك يقال في غير الإبل الزاجر أيضاً: هو مثل العائف، يقال: يزجر أيضاً زجراً، وذلك أنه ينظر إلى الطير فيقضي فيها مثل العائف، فإذا رأى شيئاً كرهه رجع عن أمر يريد أن يشرع فيه أو حاجة يريد قضاءها، والزاجر معناه الناهي، فكأن الطير قد زجره عن ذلك الفعل، أو أن من عاف له زجره عن ذلك، ويكون المعنى الزجر أيضاً أنه إذا رأى منها شيئاً
216
صاح بها وطردها، فكان طرده إياها زجراً لها، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أقروا الطير على مكناتها»، قلت: إنهم كانوا إذا لم يروا سانحاً ولا بارحاً نفروا الطير لينظروا إلى أيّ جهة تطير - والله أعلم، وقال أبو حاتم: والأصل في هذا انهم كانوا يزجرون الطير ثم كانوا يزجرون الظبي والثعلب، وبصوت الإنسان يستدلون بلفظه وبغير ذلك، ثم نسبت كلها إلى الطير فقيل: يتطير، أي يستدل بالطير، وروي عن الأصعمي قال: سألت ابن عون: ما الفال؟ فقال: هو أن تكون مريضاً فتسمع: يا سالم، وتكون باغياً فتسمع يا واجد، قال: وكان ابن سيرين يكره الطيرة ويحب الفال، وفي الحديث:
«أصدق الطير الفال» والفال مأخوذ من الفيال، وهي لعبة يتقامرون بها، كانوا يأخذون الدراهم فيخلطونها بالتراب ثم يجمعونه طويلاً ثم يقسمونه بنصفين ويتقارعون عليه، فمن أصابه القرعة اختار من القسمين واحداً، فلما كان المفايل يختار منهما ما أحب سمي الفال، لأنه يتفاءل بما يحبه، وكان هذا في العرب كثيراً، وأكثره في بني أسد، قال الأصمعي:
«أقروا الطير على مكناتها»، قلت: إنهم كانوا إذا لم يروا سانحاً ولا بارحاً نفروا الطير لينظروا إلى أيّ جهة تطير - والله أعلم، وقال أبو حاتم: والأصل في هذا انهم كانوا يزجرون الطير ثم كانوا يزجرون الظبي والثعلب، وبصوت الإنسان يستدلون بلفظه وبغير ذلك، ثم نسبت كلها إلى الطير فقيل: يتطير، أي يستدل بالطير، وروي عن الأصعمي قال: سألت ابن عون: ما الفال؟ فقال: هو أن تكون مريضاً فتسمع: يا سالم، وتكون باغياً فتسمع يا واجد، قال: وكان ابن سيرين يكره الطيرة ويحب الفال، وفي الحديث:
«أصدق الطير الفال» والفال مأخوذ من الفيال، وهي لعبة يتقامرون بها، كانوا يأخذون الدراهم فيخلطونها بالتراب ثم يجمعونه طويلاً ثم يقسمونه بنصفين ويتقارعون عليه، فمن أصابه القرعة اختار من القسمين واحداً، فلما كان المفايل يختار منهما ما أحب سمي الفال، لأنه يتفاءل بما يحبه، وكان هذا في العرب كثيراً، وأكثره في بني أسد، قال الأصمعي:
217
أخبرني سعد بن نصر أن نفراً من الجن تذاكروا عيافة بني أسد فأتوهم فقالوا: ضلت لنا ناقة، فلو أرسلتم معنا من يعيف، فقالوا لغليم لهم: انطلق معهم، فاستردفه أحدهم، ثم ساروا فلقيتهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغليم فبكى فقالوا له: ما لك؟ فقال: كسرت جناحاً، ورفعت جناحاً، وحلفت بالله صراحاً، ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحاً. وكانوا يسمون الذي يجيء عن يمينك فيأخذ إلى شمالك سانحاً، والذي يجيء عن يسارك فيأخذ غلى يمينك بارحاً، والذي يستقبلك ناطحاً وكافحاً، والذي يجيء من خلفك قعيداً، والذي يعرض في كل وجه متيحاً، فمنهم من كان يتشاءم بالبارح ويتيمن بالسانح، ومنهم من كان يتيمن بالبارح ويتشاءم بالسانح، قال زهير:
وقال الكميت:
وكانوا يزجرون بعضب القرن وصحته، والأعضب الذي له قرن واحد، وأما القائف فهو الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل في
جرت سنحاً فقلت لها أجيزي | نوى مشمولة فمتى اللقاء |
ولا السانحات البارحات عشية | أمر سليم القرن أم مر أعضب |
218
ولده، ويروى عن عوسجة ابن معقب القائف: قال: كنا تسرق نخلنا فنعرف آثارهم، فركبوا الحمر فعرفنا بمس أيديهم والعذوق، فكان القائف سمي قائفاً لأنه يقفو الأثر، يقال: قفا الأثر وقاف الأثر أي تبعه، قال الأصمعي عن أبي طرفة الهذلي قال: رأى قائفان أثر بعير وهما منصرفان من عرفة بعد الناس بيوم أو يومين فقال أحدهما: ناقة، وقال الآخر: جمل، فاتبعاه فإذا هما به، فاطافا به فإذا هو خنثى، ويقال للرجل إذا كان فطناً عارفاً بالأمور: هو عائف وقائف، وكان قوم من العرب لا يتطيرون ولا يتهيبون الطيرة ويفتخرون بتركه ويعدون تركه شجاعة وإقداماً، قال بعض شعرائهم:
ولقد غدوت وكنت لا... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا... من والأيامن كالأشائم
وقال آخر:
ولست بهياب إذا اشتد رحله... يقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدماً... إذا صد عن تلك الهناة الخثارم
ولقد غدوت وكنت لا... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا... من والأيامن كالأشائم
وقال آخر:
ولست بهياب إذا اشتد رحله... يقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدماً... إذا صد عن تلك الهناة الخثارم
219
الخثارم: المطير، وقيل: العيافة والقيافة، الطرق والخط، وهو أيضاً نوع من الكهانة، وهو أن يخط في الأرض خططاً في الطول، ثم يخط عليها خططاً في العرض، ثم يطرق بالحصى او بالشعير أو بخشبات، ولا يزال يخط ويمحو ويعيد ثم يتكهن عليه، ومن هذا الباب أيضاً علم الكتف وهو أن ينظر في كتف شاة فيحدث بأشياء تكون في العالم مثل الحروب والأمطار والرياح والجدب والخصب وغير ذلك، وهذا يقال له: الكتاف، كأنه أشتق له اسم من الكتف مثل العراف لأن العراف من جنس العيافة، والعيافة والعرافة، سواء، فهذه الأشياء كلها من السحر والكهانة والقيافة والعيافة والخط والطرق والكتف وما أشبهها، قد جاءت فيها الأخبار والروايات، ويطول الخطب بها، وهي كلها مكروهة حرام، فمنها ما جاء فيها التشديد مثل السحر، والكهانة، ومنها ما جاء في القليل منها الرخص والتخفيف مثل القيافة والعيافة والكتف - انتهى.
وهو مسلم له في القيافة، وأما غيرها فمنازع فيه، ثم قال: فأكثر هذه الأشياء أصولها من الأنبياء عليهم السلام، فإذا استعملت بعد النسخ وبعد ما جاء فيها النهي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت حراماً تدعو إلى الكفر والتعطيل وغير ذلك من أنواع الفساد، ثم قال: وما كان من أمر مشركي العرب فقد درس دروساً لا يعرف ولا يحتاج إلى ذكر كيفيته إذ كان متلاشياً لا أثر له،
وهو مسلم له في القيافة، وأما غيرها فمنازع فيه، ثم قال: فأكثر هذه الأشياء أصولها من الأنبياء عليهم السلام، فإذا استعملت بعد النسخ وبعد ما جاء فيها النهي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت حراماً تدعو إلى الكفر والتعطيل وغير ذلك من أنواع الفساد، ثم قال: وما كان من أمر مشركي العرب فقد درس دروساً لا يعرف ولا يحتاج إلى ذكر كيفيته إذ كان متلاشياً لا أثر له،
220
ولكن لا يستغني الفقهاء والعلماء عن معرفته إذ كان له في القرآن ذكر، وإذ كان واجباً على العلماء تعلم ما في القرآن على حسب طاقتهم، والجهل به نقص عليهم - والله أعلم بالصواب.
221
ولما أشار سبحانه بتسمية كلامهم هذا سؤالاً إلى أن مرادهم: فهل أنتم مغنون عنا شيئاً أو حاملون عنا جزءاً من العذاب؟ وكان كأنه قيل: بم أجاب الرؤساء بعد هذا القول من الأتباع؟ قيل: ﴿قالوا بل﴾ أي لم يكن كفرهم سبباً بل: ﴿لم تكونوا مؤمنين *﴾ أي عريقين في هذا الوصف بجبلاتكم فلذلك تابعتمونا فيما أمرناكم به لأنه كان في طبعكم، وهذا دليل على أن من لم يكن راسخاً في الإيمان كان منهم، ثم أكدوا هذا المعنى بقوله نافين لما أشاروا باليمين إليه: ﴿وما كان﴾ أي كوناً ثابتاً ﴿لنا عليكم﴾ وأعرقوا في النفي بقولهم: ﴿من سلطان﴾ أي فأكرهنا بذلك السلطان، إنما تبعتمونا باختياركم وهو معنى ﴿بل كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿قوماً﴾ أي ذوي قوة وكفاية لما تحاولونه من الأمور ﴿طاغين *﴾ أي مجاوزين لمقاديركم غالين في الكفر مسرفين في المعاصي والظلم، ولذلك أنكم خلق
221
لا تحتاجون فيه إلى كبير تحرك ﴿فحق علينا﴾ أي كلنا نحن وأنتم بسبب ذلك، وعبروا بما يدل على ندمهم فقالوا: ﴿قول ربنا﴾ أي الذي قابلنا إحسانه إلينا وتربيته لنا بالكفران، وقوله هو الحكم بالضلال لما في قلوبنا من القابلية له والإباء للإيمان، فالحكم بالعذاب.
ولما تصوروا ما صاروا إليه من الخطأ الفاحش عن الطريق الواضح، وعلموا أن مثل ذلك لا يتركه أحد إلا بقهر قاهر فتصوروا أنه ما قسرهم عليه إلا حقوق الكلمة العليا علموا أنهم مثل ما صاروا إلى حكمها في الكفر يصيرون إلى حكمها في العذاب، فقالوا لما دهمهم من التحسر مريدين بالتأكيد قطع أطماع الأتباع عما أفهمه كلامهم من أن الرؤساء يغنون عنهم شيئاً: ﴿إنا﴾ أي جميعاً ﴿لذائقون *﴾ أي ما وقع لنا به الوعيد من سوء العذاب.
ولما قضوا علالة التحسر والتأسف والتضجر، رجعوا إلى إتمام ذلك الكلام فقالوا: ﴿فأغويناكم﴾ أي أضللناهم وأوقعناكم في الغي بسبب حقوق ذلك القول علينا، ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكدين أيضاً لرد ما ادعاه الأتباع من أنه ما كان سبب إغوائهم إلا الرؤساء: ﴿إنا﴾ أي جميعاً ﴿كنا غاوين *﴾ أي في طبعنا الغواية، وهي العدول عن الطريق المثلى إلى المهالك.
ولما تصوروا ما صاروا إليه من الخطأ الفاحش عن الطريق الواضح، وعلموا أن مثل ذلك لا يتركه أحد إلا بقهر قاهر فتصوروا أنه ما قسرهم عليه إلا حقوق الكلمة العليا علموا أنهم مثل ما صاروا إلى حكمها في الكفر يصيرون إلى حكمها في العذاب، فقالوا لما دهمهم من التحسر مريدين بالتأكيد قطع أطماع الأتباع عما أفهمه كلامهم من أن الرؤساء يغنون عنهم شيئاً: ﴿إنا﴾ أي جميعاً ﴿لذائقون *﴾ أي ما وقع لنا به الوعيد من سوء العذاب.
ولما قضوا علالة التحسر والتأسف والتضجر، رجعوا إلى إتمام ذلك الكلام فقالوا: ﴿فأغويناكم﴾ أي أضللناهم وأوقعناكم في الغي بسبب حقوق ذلك القول علينا، ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكدين أيضاً لرد ما ادعاه الأتباع من أنه ما كان سبب إغوائهم إلا الرؤساء: ﴿إنا﴾ أي جميعاً ﴿كنا غاوين *﴾ أي في طبعنا الغواية، وهي العدول عن الطريق المثلى إلى المهالك.
222
ولما قال لهم الرؤساء ما هو الحق من أمرهم مما أوجب الحكم باشتراكهم، سبب عنه قوله تعالى مؤكداً دفعاً لمن يتوهم اختصاص العذاب بالسبب: ﴿فإنهم﴾ أي الفريقين بسبب ما ذكروا عن أنفسهم ﴿يومئذ﴾ أي يوم إذ كان هذا التقاول بينهم ﴿في العذاب﴾ أي الأكبر ﴿مشتركون *﴾ أي في أصله، وهم مع ذلك متفاوتون في وصفه على مقادير كفرهم كما كانوا متشاركين في السبب متفاوتين في شدتهم فيه ولينهم - هذا وقد قال البخاري في صحيحه في تفسير حم السجدة: وقال المنهال عن سعيد: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال ﴿فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون﴾ ﴿وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون﴾ ﴿ولا يكتمون الله حديثاً﴾ ﴿والله ربنا ما كنا مشركين﴾ فقد كتموا في هذه الآية، وقال: ﴿السماء بناها﴾ إلى قوله: ﴿دحاها﴾ فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال ﴿أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين﴾ إلى ﴿طائعين﴾ فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء، وقال: ﴿وكان الله غفوراً رحيماً﴾ ﴿عزيزاً حكيماً﴾ ﴿سميعاً بصيراً﴾ فكأنه كان ثم مضى، فقال: ﴿فلا أنساب بينهم﴾ في النفخة الأولى ثم ينفخ في الصور
223
فصعق من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وأما قوله ﴿ما كنا مشركين﴾ ﴿ولا يكتمون الله حديثاً﴾ فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فنختم على أفواههم فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثاً، وعنده يود الذين كفروا - الآية، وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض، و ﴿دحاها﴾ أي أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله ﴿دحاها﴾ وقوله: خلق الأرض في يومين، فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين، وكان الله غفوراً رحيماً، سمى نفسه ذلك، وذلك قوله، أي لم يزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلاًّ من عند الله.
وقال في سورة المرسلات: وسئل ابن عباس رضي الله عنهما ﴿هذا يوم لا ينطقون﴾ ﴿والله ربنا ما كنا مشركين﴾ ﴿اليوم نختم على أفواههم﴾ فقال: إنه ذو ألوان، مرة ينطقون ومرة يختم عليهم.
وقال في سورة المرسلات: وسئل ابن عباس رضي الله عنهما ﴿هذا يوم لا ينطقون﴾ ﴿والله ربنا ما كنا مشركين﴾ ﴿اليوم نختم على أفواههم﴾ فقال: إنه ذو ألوان، مرة ينطقون ومرة يختم عليهم.
224
ولما أخبر سبحانه باشتراكهم، استأنف الإخبار بما يهول أمر عذابهم ويشير إلى عمومه في الدارين لكل من شاركهم في الإجرام، فقال مؤكداً دفعاً لظن من ينكر القيامة وظن من يرى الإملاء للمجرم في الدنيا نعمة وينفي كونه نقمة، أو يفعل في التمادي في الإجرام فعل المنكر؛ ﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا يفوتها شيء ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الفعل العظيم الشأن ﴿نفعل﴾ بهم - هكذا كان الأصل، ولكنه علق بالوصف تعميماً وتعليلاً فقال: ﴿بالمجرمين *﴾ أي كل قاطع لما أمر الله به أن يوصل في الدنيا والآخرة، نمهل ثم نأخذ أخذاً عنيفاً يصير به المشتركون في الظلم أعداء يتخاصمون، ويحيل بعضهم على بعض ثم لا ينفعهم ذلك، بل نشارك بينهم في العقوبة، ثم علل تعذيبه لهم بقوله مؤكداً للتعجب منهم لأن فعلهم هذا أهل لأن ينكر لأن هذه الكلمة لا يصدق عاقل أن أحداً يستكبر عليها لأنه لا شيء أعدل منها: ﴿إنهم كانوا﴾ أي دائماً ﴿إذ قيل لهم﴾ أي من أيّ قائل كان: ﴿لا إله﴾ أي يمكن، وإذا نفي الممكن كان الموجود أولى فإنه لا يوجد إلا ما يمكن وجوده وإن كان واجباً ﴿إلا الله﴾ أي الملك الأعلى المباين لجميع الموجودات في ذاته وصفاته وافعاله كما
225
هو الحق ليفردوه بالإلهية كما تفرد بالخالقية كما لا يخفى على من له أدنى مسكة بصفات الكمال، وقدم النفي لأن التحلية لا تكون إلا بعد التخلية ﴿يستكبرون *﴾ أي يوجدون الكبر عن الإقرار بهذا الحق الذي لا أعدل منه وعن متابعة الداعي إليه، استكبار من هو طالب للكبر من نفسه ومن غيره لما فيه من العراقة والعتو، فلم يكن لهم مانع من أبواب جهنم السبعة التي جعلت كل كلمة من هذه الكلمة مع قرينتها الشاهدة بإرساله مانعة من باب منها وإلا كان في شيء من ساعات أيامهم - التي هي بعدد حروفهما أربعة وعشرون - خير ينجيهم من المكارة.
ولما أخبر أنهم استكبروا على توحيد الإله، أتبعه الإخبار بأنهم تكلموا في رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما لا يرضاه: فقال: ﴿ويقولون﴾ أي كل حين ما دلوا به على بعدهم عن الإيمان كل البعد بسوقهم لقولهم ذلك في استفهام إنكاري مؤكداً: ﴿إئنا لتاركوا آلهتنا﴾ أي عبادتها، وكان تأكيد أصل الكلام للإشارة إلى أن تكذيبهم صادر منهم مع علمهم بأن كل عالم بحالهم يراهم جديرين بترك ما هم عليه لما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك أعلم بأن ما هم عليه عناد بسوق تكذيبهم على وجه معلوم التناقض بالبديهة بقوله: ﴿لشاعر مجنون *﴾ فإن الجنون
ولما أخبر أنهم استكبروا على توحيد الإله، أتبعه الإخبار بأنهم تكلموا في رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما لا يرضاه: فقال: ﴿ويقولون﴾ أي كل حين ما دلوا به على بعدهم عن الإيمان كل البعد بسوقهم لقولهم ذلك في استفهام إنكاري مؤكداً: ﴿إئنا لتاركوا آلهتنا﴾ أي عبادتها، وكان تأكيد أصل الكلام للإشارة إلى أن تكذيبهم صادر منهم مع علمهم بأن كل عالم بحالهم يراهم جديرين بترك ما هم عليه لما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك أعلم بأن ما هم عليه عناد بسوق تكذيبهم على وجه معلوم التناقض بالبديهة بقوله: ﴿لشاعر مجنون *﴾ فإن الجنون
226
لا نظام معه، والشعر يحتاج إلى عقل رصين وقصد قويم، وطبع في الوزن سليم، أو للإشارة إلى أن إنكار المؤكد إنكار لغيره بطريق الأولى.
ولما كان مرادهم بذلك أن كلامه باطل، فإن أكثر كلام الشاعر غلو وكذب وكلام المجنون تخليط، كان كأنه قال في جوابهم: إنه لم يجىء بشرع ولا بجنون: ﴿بل جاء بالحق﴾ أي الكامل في الحقية.
ولما كان ما جاء به أهلاً لكونه حقاً لأن يقبل وإن خالف جميع أهل الأرض، وكان موافقاً مع ذلك لمن تقرر صدقهم واشتهر اتباع الناس لهم، فكان أهلاً لأن يقبله هؤلاء الذين أنزلوا أنفسهم عن أوج معرفة الرجال بالحق إلى حضيض معرفة الحق على زعمهم بالرجال، فكان مآل أمرهم التقليد قال: ﴿وصدق المرسلين *﴾ أي الذين علم كل ذي لب أنهم أكمل بدور أضاء الله بهم الإكوان في كل أوان، وتقدم في آخر سورة فاطر أنهم عابوا من كذبهم ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم أحد منهم ليؤمنن به فكذبوا﴾ بأن كذبوا سيدهم بهذا الكلام المتناقض.
ولما كان مرادهم بذلك أن كلامه باطل، فإن أكثر كلام الشاعر غلو وكذب وكلام المجنون تخليط، كان كأنه قال في جوابهم: إنه لم يجىء بشرع ولا بجنون: ﴿بل جاء بالحق﴾ أي الكامل في الحقية.
ولما كان ما جاء به أهلاً لكونه حقاً لأن يقبل وإن خالف جميع أهل الأرض، وكان موافقاً مع ذلك لمن تقرر صدقهم واشتهر اتباع الناس لهم، فكان أهلاً لأن يقبله هؤلاء الذين أنزلوا أنفسهم عن أوج معرفة الرجال بالحق إلى حضيض معرفة الحق على زعمهم بالرجال، فكان مآل أمرهم التقليد قال: ﴿وصدق المرسلين *﴾ أي الذين علم كل ذي لب أنهم أكمل بدور أضاء الله بهم الإكوان في كل أوان، وتقدم في آخر سورة فاطر أنهم عابوا من كذبهم ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم أحد منهم ليؤمنن به فكذبوا﴾ بأن كذبوا سيدهم بهذا الكلام المتناقض.
227
ولما وصلوا إلى هذا الحد من الطغيان، والزور الظاهر والبهتان، تشوف السامع إلى جزائهم فاستأنف الإخبار بذلك مظهراً له في أسلوب الخطاب إيذاناً بتناهي الغضب، فقال في قالب التأكيد نفياً لما يترجمونه
227
من العفو بشفاعة من ادعوا أنهم يقربونهم زلفى، ووعظاً لهم ولأمثالهم في الدنيا فيما ينكرونه حقيقة أو مجازاً: ﴿إنكم﴾ أي أيها المخاطبون على وجه التحقير المجرمين ﴿لذائقوا﴾ أي بما كنتم تضيقون أولياء الله ﴿العذاب الأليم *﴾.
ولما كان سبحانه الحكم العدل فلا يظلم أحداً مثقال ذرة فلا يزيد في جزائه شيئاً على ما يستحق مع أن له أن يفعل ما يشاء ولا يكون فعله - كيفما كان - إلا عدلاً قال: ﴿وما﴾ أي والحال أنكم ما ﴿تجزون﴾ أي جزءاً من الجزاء ﴿إلا ما﴾ أي مثل ما. ولما كانوا مطبوعين على تلك الخلال السيئة، بين أنها كانت خلقاً لهم لا يقدرون على الانفكاك عنها بالتعبير بأداة الكون فقال: ﴿كنتم تعملون *﴾ نفياً لوهم من قد يظن أنهم فعلوا شيئاً بغير تقديره سبحانه. ولما كان في المخاطبين بهذا من علم الله أنه سيؤمن، واستثنى من واو «ذائقوا» قوله مرغباً لهم في الإيمان مشيراً إلى أنهم لا يحملهم على الثبات على ما هم عليه من الضلال إلا غش الضمائر بالرياء وغيره، فهو استثناء متصل بهذا الاعتبار الدقيق: ﴿إلا عباد الله﴾ فرغبهم بوصف العبودية الذي لا أعز منه، وأضافهم زيادة في الاستعطاف إلى الاسم
ولما كان سبحانه الحكم العدل فلا يظلم أحداً مثقال ذرة فلا يزيد في جزائه شيئاً على ما يستحق مع أن له أن يفعل ما يشاء ولا يكون فعله - كيفما كان - إلا عدلاً قال: ﴿وما﴾ أي والحال أنكم ما ﴿تجزون﴾ أي جزءاً من الجزاء ﴿إلا ما﴾ أي مثل ما. ولما كانوا مطبوعين على تلك الخلال السيئة، بين أنها كانت خلقاً لهم لا يقدرون على الانفكاك عنها بالتعبير بأداة الكون فقال: ﴿كنتم تعملون *﴾ نفياً لوهم من قد يظن أنهم فعلوا شيئاً بغير تقديره سبحانه. ولما كان في المخاطبين بهذا من علم الله أنه سيؤمن، واستثنى من واو «ذائقوا» قوله مرغباً لهم في الإيمان مشيراً إلى أنهم لا يحملهم على الثبات على ما هم عليه من الضلال إلا غش الضمائر بالرياء وغيره، فهو استثناء متصل بهذا الاعتبار الدقيق: ﴿إلا عباد الله﴾ فرغبهم بوصف العبودية الذي لا أعز منه، وأضافهم زيادة في الاستعطاف إلى الاسم
228
الأعظم الدال على جميع صفات الكمال، وزاد رغباً بالوصف الذي لا وصف أجلّ منه فقال: ﴿المخلصين *﴾.
ولما خلصهم منهم، ذكر ما لهم فقال معظماً لهم بأداة البعد: ﴿أولئك﴾ أي العالو القدر بما صفوا أنفسهم عن أكدار الأهوية ﴿لهم رزق معلوم﴾ أي يعلمون غائبه وكائنه وآتيه وطعمه ونفعه وقدره وغبّه وجميع ما يمكن علمه من أموره، وليسوا مثل ما هم عليه في هذه الدار من كدر الأخطار ﴿لا تدري نفس ماذا تكسب غداً﴾ لأن النفس إلى المعلوم أسكن، وبالأنس إليه أمكن.
ولما كان أهل الجنة لا يأكلون تقوتأً واحتياجاً، بل تنعماً والتذاذاً وابتهاجاً، لأن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد، فهي غير محتاجة إلى حفظ الصحة قال: ﴿فواكه﴾ أي يتنعمون بها بما كدروا من عيشهم في الدنيا. ولما كان الذي هو نعيم الجسم لا يحمد غاية الحمد إلا مع العز الذي هو غذاء الروح قال: ﴿وهم مكرمون *﴾ بناه للمفعول إشارة إلى أن وجود إكرامهم من كل شيء أمر حتم لا يكون غيره أصلاً.
ولما كان الإكرام لا يتم إلا مع طيب المقام قال: ﴿في جنات النعيم *﴾ أي التي لا يتصور فيها غيره.
ولما كان التلذذ لا يكمل إلا مع الأحباب، وكانت عادة الملوك الاختصاص بالمحل الأعلى، بين أنهم كلهم ملوك فقال: ﴿على سرر متقابلين *﴾ أي ليس فيهم أحد وجهه إلى غير وجه
ولما خلصهم منهم، ذكر ما لهم فقال معظماً لهم بأداة البعد: ﴿أولئك﴾ أي العالو القدر بما صفوا أنفسهم عن أكدار الأهوية ﴿لهم رزق معلوم﴾ أي يعلمون غائبه وكائنه وآتيه وطعمه ونفعه وقدره وغبّه وجميع ما يمكن علمه من أموره، وليسوا مثل ما هم عليه في هذه الدار من كدر الأخطار ﴿لا تدري نفس ماذا تكسب غداً﴾ لأن النفس إلى المعلوم أسكن، وبالأنس إليه أمكن.
ولما كان أهل الجنة لا يأكلون تقوتأً واحتياجاً، بل تنعماً والتذاذاً وابتهاجاً، لأن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد، فهي غير محتاجة إلى حفظ الصحة قال: ﴿فواكه﴾ أي يتنعمون بها بما كدروا من عيشهم في الدنيا. ولما كان الذي هو نعيم الجسم لا يحمد غاية الحمد إلا مع العز الذي هو غذاء الروح قال: ﴿وهم مكرمون *﴾ بناه للمفعول إشارة إلى أن وجود إكرامهم من كل شيء أمر حتم لا يكون غيره أصلاً.
ولما كان الإكرام لا يتم إلا مع طيب المقام قال: ﴿في جنات النعيم *﴾ أي التي لا يتصور فيها غيره.
ولما كان التلذذ لا يكمل إلا مع الأحباب، وكانت عادة الملوك الاختصاص بالمحل الأعلى، بين أنهم كلهم ملوك فقال: ﴿على سرر متقابلين *﴾ أي ليس فيهم أحد وجهه إلى غير وجه
229
الآخر على كثرة العدد. ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالشراب، وكان المقصود الطواف فيه، لا كونه من معين، قال: ﴿يطاف﴾ بالبناء للمفعول وكأنها يدلى إليهم من جهة العلو ليكون أشرف لها وأصون، فنبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال: ﴿عليهم﴾ أي وهم فوق أسرتهم كالملوك ﴿بكأس﴾ أي إناء فيه خمر، قالوا: وإن لم يكن في الزجاجة خمر فهي قدح، ولا تسمى كأساً إلا والخمر فيها ﴿من معين *﴾ أي من خمر جارية في أنهارها، ظاهرة للعيون تنبع كما تنبع الماء لا يعالجونها بعصير، ولا يحملهم على الرفق بها والتقصير فيها نوع تقصير، قال الرازي: إنما سميت به إما من ظهروها للعين أو لشدة جريها من الإمعان في السير أو لكثرتها من المعن، وهو الكثير، وسمي الماعون لكثرة الانتفاع به، ويقال: مشرب ممعون: لا يكاد ينقطع.
230
ولما كان أول ما يختار في الشراب لونه ثم طعمه، قال واصفاً ما في الكأس من الخمر استخداماً: ﴿بيضاء﴾ أي مشرقة صافية هي في غاية اللطافة تتلألأ نوراً، وأعرق في وصفها بالطيب بجعلها تفسيراً للمعنى في قوله: ﴿لذة للشاربين *﴾ بما كانوا يتجرعون من كأسات الأحزان والأنكاد، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف،
230
وجمع إشارة إلى أنهم لا يعلونها إلا كذلك بما فيه من مزيد اللذة.
ولما كان قد أثبت لها الكمال، نفى عنها النقص فقال: ﴿لا فيها غول﴾ أي فساد من تصديع رأس أو إرخاء مفصل أو إخماء كبد أو غير ذلك مما يغتال أي يهلك، أو يكون سبباً للهلاك ﴿ولا هم عنها﴾ أي عادة بعد شربها ﴿ينزفون *﴾ أي يذهب شيء من عقولهم وإن طال شربهم وكثر لئلا ينقص نعيمهم ولا ينفذ شرابهم أو ما عندهم من الجدة لكل ما يسر به - على قراءة حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف - مبنياً للفاعل مثل أقل وأعسر - إذا صار قليل المال، أو ذهب عقله، وقراءة الجماعة بالبناء للمفعول يحتمل أن تكون من نزف، وحينئذ يحتمل أن تكون من نفاذ الشراب من قولهم: نزفت الركية، اي ذهب ماؤها، وأن تكون من ذهاب العقل من قولهم: نزف الرجل بالبناء للفاعل ونزف بالبناء للمفعول بمعنى: ذهب عقله بالسكر ويحتمل أن تكون من أنزف وحينئذ يحتمل أن تكون من ذهاب العقل من أنزف الرجل - إذا ذهب عقله بالسكر، وأن تكون من عدم الشراب من قولهم: نزف الرجل الخمرة - سواء
ولما كان قد أثبت لها الكمال، نفى عنها النقص فقال: ﴿لا فيها غول﴾ أي فساد من تصديع رأس أو إرخاء مفصل أو إخماء كبد أو غير ذلك مما يغتال أي يهلك، أو يكون سبباً للهلاك ﴿ولا هم عنها﴾ أي عادة بعد شربها ﴿ينزفون *﴾ أي يذهب شيء من عقولهم وإن طال شربهم وكثر لئلا ينقص نعيمهم ولا ينفذ شرابهم أو ما عندهم من الجدة لكل ما يسر به - على قراءة حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف - مبنياً للفاعل مثل أقل وأعسر - إذا صار قليل المال، أو ذهب عقله، وقراءة الجماعة بالبناء للمفعول يحتمل أن تكون من نزف، وحينئذ يحتمل أن تكون من نفاذ الشراب من قولهم: نزفت الركية، اي ذهب ماؤها، وأن تكون من ذهاب العقل من قولهم: نزف الرجل بالبناء للفاعل ونزف بالبناء للمفعول بمعنى: ذهب عقله بالسكر ويحتمل أن تكون من أنزف وحينئذ يحتمل أن تكون من ذهاب العقل من أنزف الرجل - إذا ذهب عقله بالسكر، وأن تكون من عدم الشراب من قولهم: نزف الرجل الخمرة - سواء
231
كان مبنياً للفاعل أو للمفعول - إذا أفناها.
ولما كان ذلك كله لا يكمل إلا بالجماع، والخمر أدعى شيء إليه، وهو لا يكمل النعيم به إلا بالاختصاص قال: ﴿وعندهم﴾ نساء من أهل الدنيا وغيرها ﴿قاصرات الطرف﴾ أي لا تطرف واحدة منهن إلى غير زوجها ولا يدعه تناهي حسنها وفرط جمالها طرفها يطرف إلى غيرها ﴿عين *﴾ أي نجل العيون، جمع عيناء، كسرت عينه لمناسبة الياء.
ولما كان أحسن الألوان لا سيما عند العرب الأبيض الأحمر المشرب صفرة أكتسبته صفاء وإشراقاً وبهاء، قال: ﴿كأنهن بيض﴾ أي بيض نعام ﴿مكنون *﴾ أي مصون من دنس يلحقه، وغبار يرهقه، ولمحبة العرب لهذا اللون كانت تقول عن النساء بيضات الخدور لأنه لونه أبيض مشرباً صفرة صافية، وقد صرح امرؤ القيس بهذا في لاميته المشهورة فقال:
ولما كان ذلك كله لا يكمل إلا بالجماع، والخمر أدعى شيء إليه، وهو لا يكمل النعيم به إلا بالاختصاص قال: ﴿وعندهم﴾ نساء من أهل الدنيا وغيرها ﴿قاصرات الطرف﴾ أي لا تطرف واحدة منهن إلى غير زوجها ولا يدعه تناهي حسنها وفرط جمالها طرفها يطرف إلى غيرها ﴿عين *﴾ أي نجل العيون، جمع عيناء، كسرت عينه لمناسبة الياء.
ولما كان أحسن الألوان لا سيما عند العرب الأبيض الأحمر المشرب صفرة أكتسبته صفاء وإشراقاً وبهاء، قال: ﴿كأنهن بيض﴾ أي بيض نعام ﴿مكنون *﴾ أي مصون من دنس يلحقه، وغبار يرهقه، ولمحبة العرب لهذا اللون كانت تقول عن النساء بيضات الخدور لأنه لونه أبيض مشرباً صفرة صافية، وقد صرح امرؤ القيس بهذا في لاميته المشهورة فقال: