ﰡ
تَفْسِيرُ
سُورَةِ الصَّافَّاتِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ النَّسَائِيُّ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ- يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ- عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ أخبرنا الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِالتَّخْفِيفِ وَيَؤُمُّنَا بِالصَّافَّاتِ، تَفَرَّدَ بِهِ النَّسَائِيُّ «١».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ٥]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥)
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا وهي الملائكة فَالزَّاجِراتِ زَجْراً هي الْمَلَائِكَةُ فَالتَّالِياتِ ذِكْراً هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَكَذَا قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما وَمَسْرُوقٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ قَتَادَةُ: الْمَلَائِكَةُ صُفُوفٌ فِي السَّمَاءِ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ «٢» حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الأرض كلها مسجدا وجعل لنا ترابها طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سمرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟» قُلْنَا وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْمُتَقَدِّمَةَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» «٣» وقال السدي وغيره معنى قوله تعالى:
فَالزَّاجِراتِ زَجْراً أَنَّهَا تَزْجُرُ السَّحَابَ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فَالزَّاجِراتِ زَجْراً مَا زَجَرَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ، وَكَذَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فَالتَّالِياتِ ذِكْراً قَالَ السُّدِّيُّ
(٢) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٤.
(٣) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ١١٩، وأبو داود في الصلاة باب ٩٣، وابن ماجة في الإقامة باب ٥٠، والنسائي في الإمام باب ٢٨.
هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا إله إلا هو رب السموات وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أَيْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَرَبُّ الْمَشارِقِ أَيْ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْخَلْقِ بِتَسْخِيرِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ كَوَاكِبَ ثَوَابِتَ وَسَيَّارَاتٍ تَبْدُو مِنَ الْمَشْرِقِ وَتَغْرُبُ مِنَ الْمَغْرِبِ. وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَشَارِقِ عَنِ الْمَغَارِبِ لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ وَقَدْ صرح بذلك في قوله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ [المعارج: ٤٠] وقال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرَّحْمَنِ: ١٧] يَعْنِي فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦ الى ١٠]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ زَيَّنَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا لِلنَّاظِرِينَ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ، قُرِئَ بِالْإِضَافَةِ وَبِالْبَدَلِ وَكِلَاهُمَا بِمَعْنًى واحد فالكواكب السيارة والثوابت يثقب ضوؤها جِرْمَ السَّمَاءِ الشَّفَّافَ فَتُضِيءُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا قال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الْمُلْكِ: ٥] وَقَالَ عز وجل وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [الحجر: ١٦- ١٨] فقوله جل وعلا هاهنا: وَحِفْظاً تَقْدِيرُهُ وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ يَعْنِي الْمُتَمَرِّدَ الْعَاتِيَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِقَ السَّمْعَ أَتَاهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ فَأَحْرَقَهُ وَلِهَذَا قال جل جلاله لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أَيْ لِئَلَّا يصلوا إلى الملأ الأعلى وهي السموات وَمِنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِذَا تَكَلَّمُوا بِمَا يوحيه الله تعالى بما يَقُولُهُ مِنْ شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تبارك وتعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: ٢٣] ولهذا قال تعالى:
وَيُقْذَفُونَ أَيْ يُرْمَوْنَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ أَيْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ يَقْصِدُونَ السَّمَاءَ مِنْهَا دُحُوراً أَيْ رَجْمًا يُدْحَرُونَ بِهِ وَيُزْجَرُونَ وَيُمْنَعُونَ مِنَ الوصول إلى ذلك ويرجمون وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لَهُمْ عَذَابٌ دَائِمٌ مُوجِعٌ مُسْتَمِرٌّ كَمَا قَالَ جلت عظمته وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك: ٥].
وقوله تبارك وتعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ أَيْ إِلَّا مَنِ اخْتَطَفَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْخَطْفَةَ وَهِيَ الْكَلِمَةُ يَسْمَعُهَا مِنَ السَّمَاءِ فَيُلْقِيهَا إِلَى الَّذِي تَحْتَهُ وَيُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى الَّذِي تَحْتَهُ فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا بِقَدَرِ اللَّهِ تعالى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الشِّهَابُ فَيُحْرِقَهُ فَيَذْهَبُ بِهَا الْآخَرُ إِلَى الْكَاهِنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ وَلِهَذَا قَالَ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ
أَيْ مُسْتَنِيرٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ للشياطين مقاعد في السماء قال فَكَانُوا يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ قَالَ وَكَانَتِ النُّجُومُ لَا تَجْرِي وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَا تُرْمَى قَالَ فَإِذَا سَمِعُوا الْوَحْيَ نَزَلُوا إِلَى الْأَرْضِ فَزَادُوا فِي الْكَلِمَةِ تِسْعًا قَالَ فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الشَّيْطَانُ إِذَا قصد مقعده جاءه شِهَابٌ فَلَمْ يُخْطِئْهُ حَتَّى يُحْرِقَهُ قَالَ فَشَكَوْا ذلك إلى إبليس لعنه الله فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ أَمْرٍ حَدَثَ قال فبعث جُنُودَهُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْ نَخْلَةَ قَالَ وَكِيعٌ يَعْنِي بَطْنَ نَخْلَةَ «٢» قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى إِبْلِيسَ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ هَذَا الَّذِي حَدَثَ، وَسَتَأْتِي إن شاء الله تعالى الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ مَعَ الْآثَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْجِنِّ أَنَّهُمْ قَالُوا وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن: ٨- ١٠].
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١ الى ١٩]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)
يقول تعالى: فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيهما أشد خلقا هم أم السموات وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْمَخْلُوقَاتِ العظيمة؟ وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه «أَمْ مَنْ عَدَدْنَا» «٣» فَإِنَّهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ؟ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ مَا هو أعظم مما أنكروا كما قال عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِرٍ: ٥٧] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ شَيْءٍ ضَعِيفٍ فَقَالَ: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الْجَيِّدُ الَّذِي يلتزق بعضه ببعض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة هو اللزج الجيد، وَقَالَ قَتَادَةُ هُوَ الَّذِي يَلْزَقُ بِالْيَدِ «٤».
وَقَوْلُهُ عز وجل: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ أَيْ بَلْ عَجِبْتَ يَا محمد من تكذيب هؤلاء
(٢) بطن نخلة: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة.
(٣) تفسير الطبري ١٠/ ٤٧٤، وفيه: وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود: «أهم أشدّ خلقا أم من عددنا».
(٤) انظر تفسير الطبري ١٠/ ٤٧٥- ٤٧٦.
قَالَ قَتَادَةُ: عَجِبَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَخِرَ ضُلَّالُ بَنِي آدَمَ «١».
وَإِذا رَأَوْا آيَةً أَيْ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى ذَلِكَ يَسْتَسْخِرُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ يَسْتَهْزِئُونَ وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ إِنْ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إلا سحر مبين أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ يَسْتَبْعِدُونَ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُونَ بِهِ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ نَعَمْ تُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ مَا تَصِيرُونَ تُرَابًا وَعِظَامًا وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ أَيْ حقيرون تحت القدرة العظيمة كما قال تبارك وتعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النَّمْلِ: ٨٧] وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِرٍ: ٦٠]. ثم قال جلت عظمته: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي فإنما هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَدْعُوهُمْ دَعْوَةً وَاحِدَةً أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْأَرْضِ، فإذا هم بَيْنَ يَدَيْهِ يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، والله تعالى أعلم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَقالُوا يَا وَيْلَنا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)
مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَيْلِ الْكَفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، فَإِذَا عَايَنُوا أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ نَدِمُوا كُلَّ النَّدَمِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ وَقالُوا يَا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ فتقول الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَهَذَا يُقَالُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التقريع والتوبيخ ويأمر الله تعالى الْمَلَائِكَةَ أَنْ تُمَيِّزَ الْكُفَّارَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَوْقِفِ فِي مَحْشَرِهِمْ وَمَنْشَرِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْنِي بِأَزْوَاجِهِمْ أَشْبَاهَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَأَبُو العالية وزيد بن أسلم، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سِمَاكٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ قَالَ إِخْوَانَهُمْ «٢». وَقَالَ شَرِيكٌ عَنْ سِمَاكٍ عَنِ النُّعْمَانِ قَالَ:
سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ قال: أشباههم. قال يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الخمر مع أصحاب
(٢) اللفظ كما في تفسير الطبري ١٠/ ٤٧٩ نظراؤهم.
وقوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أَيْ أَرْشَدُوهُمْ إِلَى طَرِيقِ جَهَنَّمَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الْإِسْرَاءِ: ٩٧] وَقَوْلُهُ تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أَيْ قِفُوهُمْ حَتَّى يُسْأَلُوا عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمُ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي احْبِسُوهُمْ إِنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قال سمعت ليثا يحدث عن بشير عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى شَيْءٍ كَانَ مَوْقُوفًا مَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُغَادِرُهُ وَلَا يُفَارِقُهُ وَإِنْ دَعَا رَجُلٌ رَجُلًا» ثُمَّ قرأ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «١» مِنْ حَدِيثِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُعْتَمِرٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ رَجُلٍ عن أنس رضي الله عنه مَرْفُوعًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ زَائِدَةَ يَقُولُ إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الرَّجُلُ جُلَسَاؤُهُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ أَيْ كَمَا زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ أي ينقادون لِأَمْرِ اللَّهِ لَا يُخَالِفُونَهُ وَلَا يَحِيدُونَ عَنْهُ، والله أعلم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٧ الى ٣٧]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧)
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَلَاوَمُونَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ كَمَا يَتَخَاصَمُونَ فِي دَرَكَاتِ النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [غَافِرٍ: ٤٧- ٤٨] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٤٨٠.
وَقَالَ قَتَادَةُ قَالَتِ الْإِنْسُ لِلْجِنِّ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالَ مِنْ قِبَلِ الْخَيْرِ فَتَنْهُونَا عَنْهُ وَتُبْطِئُونَا عَنْهُ «٢»، وَقَالَ السدي تأتوننا من قبل الحق وتزينون لَنَا الْبَاطِلَ وَتَصُدُّونَا عَنِ الْحَقِّ «٣» وَقَالَ الْحَسَنُ في قوله تعالى: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ إِي وَاللَّهِ يَأْتِيهِ عِنْدَ كُلِّ خَيْرٍ يُرِيدُهُ فَيَصُدُّهُ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ مَعْنَاهُ تَحُولُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخَيْرِ وَرَدَدْتُمُونَا عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِالْخَيْرِ الَّذِي أَمَرَنَا بِهِ «٤»، وَقَالَ يَزِيدُ الرِّشْكُ مِنْ قِبَلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَالَ خُصَيْفٌ يَعْنُونَ مِنْ قِبَلِ مَيَامِنِهِمْ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ قَالَ مِنْ حَيْثُ نأمنكم.
وقوله تعالى: قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ تَقُولُ الْقَادَةُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِلْأَتْبَاعِ مَا الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ بَلْ كَانَتْ قُلُوبُكُمْ مُنْكِرَةً لِلْإِيمَانِ قَابِلَةً لِلْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أَيْ مِنْ حُجَّةٍ عَلَى صِحَّةِ مَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَيْهِ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أَيْ بَلْ كَانَ فِيكُمْ طُغْيَانٌ وَمُجَاوَزَةٌ لِلْحَقِّ فَلِهَذَا اسْتَجَبْتُمْ لَنَا وَتَرَكْتُمُ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَتْكُمْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَأَقَامُوا لَكُمُ الْحُجَجَ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءُوكُمْ بِهِ فَخَالَفْتُمُوهُمْ.
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ يَقُولُ الْكُبَرَاءُ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ حَقَّتْ عَلَيْنَا كَلِمَةُ اللَّهِ إِنَّا من الأشقياء الذائقين للعذاب يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَغْوَيْناكُمْ أَيْ دَعَوْنَاكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ أي فدعوناكم إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَاسْتَجَبْتُمْ لَنَا، قَالَ الله تبارك وتعالى: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ.
أَيِ الْجَمِيعُ فِي النَّارِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كانُوا أَيْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ أَيْ يَسْتَكْبِرُونَ أَنْ يَقُولُوهَا كَمَا يَقُولُهَا المؤمنون قال ابن أبي حاتم حدثنا عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنَا عمي حدثنا الليث عن ابن مسافر
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٤٨١.
(٣) تفسير الطبري ١٠/ ٤٨١.
(٤) تفسير الطبري ١/ ٤٨٢، ولفظه: والعمل بالخير الذي أمر الله به.
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أَيْ أَنْحَنُ نَتْرُكُ عِبَادَةَ آلِهَتِنَا وَآلِهَةِ آبَائِنَا عَنْ قَوْلِ هَذَا الشَّاعِرِ الْمَجْنُونِ يَعْنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَكْذِيبًا لَهُمْ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِالْحَقِّ فِي جميع شرعة الله تعالى لَهُ مِنَ الْإِخْبَارِ وَالطَّلَبِ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أَيْ صدقهم فيما أخبروا عَنْهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، وَالْمَنَاهِجِ السَّدِيدَةِ، وَأَخْبَرَ عن الله تعالى في شرعه وَأَمْرِهِ كَمَا أَخْبَرُوا مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ [فصلت: ٤٣].
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٣٨ الى ٤٩]
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
يَقُولُ تَعَالَى مخاطبا للناس: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عِبَادَهُ الْمُخْلَصِينَ كما قال تعالى:
(٢) لا عدل له: أي لا نظير ولا مثيل له.
وقوله جل وعلا: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ يَعْنِي الْجَنَّةَ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَواكِهُ أي متنوعة وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي يخدمون وَيُرَفَّهُونَ وَيُنَعَّمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ قال مجاهد لا ينظر بعضهم إلى قَفَا بَعْضٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدَكَ الْقَزْوِينِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وقوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ كما قال عز وجل في الآية الأخرى طُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ
[الْوَاقِعَةِ: ٣٨- ٣٩] نزه الله سبحانه وتعالى خمر الجنة عَنِ الْآفَاتِ الَّتِي فِي خَمْرِ الدُّنْيَا مِنْ صُدَاعِ الرَّأْسِ وَوَجَعِ الْبَطْنِ وَهُوَ الْغَوْلُ وَذَهَابِهَا بِالْعَقْلِ جُمْلَةً فَقَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أَيْ بِخَمْرٍ مِنْ أَنْهَارٍ جَارِيَةٍ لَا يَخَافُونَ انْقِطَاعَهَا وَلَا فَرَاغَهَا. قَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: خَمْرٌ جَارِيَةٌ بَيْضَاءُ أَيْ لَوْنُهَا مُشْرِقٌ حَسَنٌ بَهِيٌّ لَا كَخَمْرِ الدُّنْيَا فِي مَنْظَرِهَا الْبَشِعِ الرَّدِيءِ مِنْ حُمْرَةٍ أَوْ سَوَادٍ أَوِ اصْفِرَارٍ أَوْ كُدُورَةٍ «١» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُنَفِّرُ الطَّبْعَ السَّلِيمَ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أَيْ طَعْمُهَا طَيِّبٌ كَلَوْنِهَا وَطِيبُ الطَّعْمِ دَلِيلٌ عَلَى طِيبِ الرِّيحِ بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وقوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ يعني لا تؤثر فيها غولا وهو وجع البطن قاله ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ كَمَا تَفْعَلُهُ خَمْرُ الدُّنْيَا مِنَ الْقُولَنْجِ «٢» وَنَحْوِهُ لِكَثْرَةِ مَائِيَّتِهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْغَوْلِ هَاهُنَا صُدَاعُ الرَّأْسِ وَرُوِيَ هَكَذَا عَنِ ابن
(٢) القولنج: كلمة عجمية، مرض مشهور معوي، يعثر معه خروجه الثفل والريح.
فَمَا زَالَتِ الْكَأْسُ تَغْتَالُنَا | وَتَذْهَبُ بِالْأَوَّلِ الْأَوَّلِ «١» |
وقوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَيْ عَفِيفَاتٌ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وقوله تبارك وتعالى: عِينٌ أَيْ حِسَانُ الْأَعْيُنِ وَقِيلَ ضِخَامُ الْأَعْيُنِ وهو يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ وَهِيَ النَّجْلَاءُ الْعَيْنَاءُ فَوَصَفَ عُيُونَهُنَّ بِالْحُسْنِ وَالْعِفَّةِ كَقَوْلِ زَلِيخَا فِي يُوسُفَ عليه الصلاة والسلام حِينَ جَمَّلَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ عَلَى تِلْكَ النِّسْوَةِ فَأَعْظَمْنَهُ وَأَكْبَرْنَهُ وَظَنَنَّ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِحُسْنِهِ وَبَهَاءِ مَنْظَرِهِ قَالَتْ: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ
[يُوسُفَ: ٣٢] أَيْ هُوَ مَعَ هَذَا الْجَمَالِ عَفِيفٌ تَقِيٌّ نَقِيٌّ وَهَكَذَا الْحُورُ الْعِينُ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرَّحْمَنِ: ٧٠]. وَلِهَذَا قال عز وجل: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ وقوله جل جلاله:
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ وَصَفَهُنَّ بِتَرَافَةِ الْأَبْدَانِ بِأَحْسَنِ الْأَلْوَانِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ يَقُولُ اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ «٢» وَيُنْشَدُ هَاهُنَا بَيْتُ أبي دهبل الشاعر وهو قوله في قصيدة له: [الخفيف]
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغواص | مِيزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُونِ «٣» |
الْبَيْضُ فِي عُشِّهِ مَكْنُونٌ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ يَعْنِي بَطْنَ الْبَيْضِ وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ هُوَ السِّحَاءُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ قِشْرَتِهِ الْعُلْيَا وَلِبَابِ الْبَيْضَةِ، وقال السدي كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ
وما زالت الخمر تغتالنا
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٤٨٩.
(٣) البيت لأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص ٦٩، ولسان العرب (خصر)، (سنن)، ولأبي دهبل أو لعبد الرحمن بن حسان في الكامل ص ٣٨٨. [.....]
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ الصَّدَفِيِّ الدِّمْيَاطِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي كَرِيمَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أم سلمة رضي الله عنهما قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ قول الله عز وجل: حُورٌ عِينٌ قال:
«العين الضخام الْعُيُونِ شُفْرُ الْحَوْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحِ النَّسْرِ» قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ قَالَ: «رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الْجِلْدَةِ التي رأسها فِي دَاخِلِ الْبَيْضَةِ الَّتِي تَلِي الْقِشْرَ وَهِيَ الفرقئ». وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ لَيْثٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا حَزِنُوا، وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وأنا أكرم ولد آدم على الله عَزَّ وَجَلَّ وَلَا فَخْرَ، يَطُوفُ عَلِيَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُنَّ الْبَيْضُ الْمَكْنُونُ- أَوِ اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ-»، والله تعالى أعلم بالصواب.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥٠ الى ٦١]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ أَيْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَكَيْفَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا وَمَاذَا كَانُوا يُعَانُونَ فِيهَا وَذَلِكَ مِنْ حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم فِي مَجَالِسِهِمْ وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى السُّرُرِ وَالْخَدَمِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَسْعَوْنَ وَيَجِيئُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ عَظِيمٍ مِنْ مَآكِلَ وَمُشَارِبَ وَمَلَابِسَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ قَالَ مُجَاهِدٌ يَعْنِي شيطانا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما هُوَ الرَّجُلُ الْمُشْرِكُ يَكُونُ لَهُ صَاحِبٌ مِنْ أَهَّلَ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ كلام مجاهد وابن عباس رضي الله عنهما فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَكُونُ مِنَ الْجِنِّ فَيُوَسْوِسُ فِي النَّفْسِ وَيَكُونُ مِنَ الْإِنْسِ فَيَقُولُ كَلَامًا تَسْمَعُهُ الأذنان وكلاهما يتعاونان قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الْأَنْعَامِ: ١١٢] وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوَسْوِسُ كما قال الله عز وجل:
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ لَمُحَاسَبُونَ. وَقَالَ ابْنُ عباس رضي الله عنهما ومحمد بن كعب القرظي لمجزيون بأعمالنا وكلاهما صحيح قال تعالى:
قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ أَيْ مُشْرِفُونَ يَقُولُ الْمُؤْمِنُ لِأَصْحَابِهِ وَجُلَسَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَخُلَيْدٌ الْعَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وعطاء الخراساني يَعْنِي فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ كَأَنَّهُ شِهَابٌ يَتَّقِدُ، وَقَالَ قَتَادَةُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ اطَّلَعَ فَرَأَى جَمَاجِمَ الْقَوْمِ تَغْلِي، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ قَالَ فِي الْجَنَّةِ كُوًى إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَدُوِّهِ فِي النَّارِ اطَّلَعَ فِيهَا فَازْدَادَ شُكْرًا قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ يَقُولُ الْمُؤْمِنَ مُخَاطِبًا لِلْكَافِرِ وَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُهْلِكُنِي لَوْ أَطَعْتُكَ.
وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَيْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيَّ لَكُنْتُ مِثْلَكَ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ حَيْثُ أَنْتَ مُحْضَرٌ مَعَكَ فِي الْعَذَابِ وَلَكِنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيَّ وَرَحِمَنِي فَهَدَانِي لِلْإِيمَانِ وَأَرْشَدَنِي إِلَى تَوْحِيدِهِ وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ [الأعراف: ٤٣]. وقوله تعالى:
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِ مُغْبِطًا نفسه بما أعطاه الله تعالى مِنَ الْخُلْدِ فِي الْجَنَّةِ وَالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الكرامة بلا موت فيها ولا عذاب ولهذا قال عز وجل: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطُّورِ: ١٩] قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما قوله عز وجل: هَنِيئاً أَيْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا فَعِنْدَهَا قَالُوا: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «١» وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ نَعِيمٍ فَإِنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُهُ فَقَالُوا: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قيل لا إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
وقوله جل جلاله لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ قَالَ قَتَادَةُ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَاهُ لِمِثْلِ هَذَا النَّعِيمِ وَهَذَا الْفَوْزِ فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ فِي
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٤٩٣.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عرفة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الأبار أخبرنا أَبُو حَفْصٍ قَالَ سَأَلْتُ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ قَالَ فَقَالَ لِي مَا ذَكَّرَكَ هَذَا؟ قُلْتُ قَرَأْتُهُ آنِفًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ فَقَالَ:
أَمَا فَاحْفَظْ، كَانَ شَرِيكَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنٌ وَالْآخَرُ كَافِرٌ فَافْتَرَقَا على ستة آلاف دينار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ثم افترقا فمكثا مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَمْكُثَا، ثُمَّ الْتَقَيَا فَقَالَ الْكَافِرُ لِلْمُؤْمِنِ مَا صَنَعْتَ فِي مَالِكَ؟ أَضَرَبْتَ بِهِ شَيْئًا «٣» أَتَّجَرْتَ بِهِ فِي شَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُؤْمِنُ لَا فَمَا صَنَعْتَ أَنْتَ؟ فَقَالَ اشْتَرَيْتُ بِهِ أَرْضًا وَنَخْلًا وَثِمَارًا وأنهارا بألف دينار- قال:
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٤٩٠.
(٣) أضربت به شيئا: أي أكسبت به شيئا؟
قال: ثُمَّ أَصْبَحَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمَسَاكِينِ- قَالَ- فَبَقِيَ الْمُؤْمِنُ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ. قَالَ فَلَبِسَ قَمِيصًا مِنْ قُطْنٍ وَكِسَاءً مِنْ صُوفٍ ثُمَّ أَخَذَ مَرًّا «١» فَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ يَعْمَلُ الشَّيْءَ وَيَحْفِرُ الشيء بقوته. قال فجاءه رجل فقال: له يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتُؤَاجِرُنِي نَفْسَكَ مُشَاهَرَةً شَهْرًا بِشَهْرٍ تَقُومُ عَلَى دَوَابٍّ لِي تَعْلِفُهَا وَتَكْنُسُ سرقينها قال نعم أفعل قَالَ فَوَاجَرَهُ نَفْسَهُ مُشَاهَرَةً شَهْرًا بِشَهْرٍ يَقُومُ عَلَى دَوَابِّهِ، قَالَ فَكَانَ صَاحِبُ الدَّوَابِّ يَغْدُو كُلَّ يَوْمٍ يَنْظُرُ إِلَى دَوَابِّهِ فَإِذَا رَأَى مِنْهَا دَابَّةً ضَامِرَةً أَخَذَ بِرَأْسِهِ فَوَجَأَ عُنُقَهُ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ سَرَقْتَ شَعِيرَ هَذِهِ الْبَارِحَةَ قال فَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُ هَذِهِ الشِّدَّةَ قَالَ لَآتِيَنَّ شَرِيكِيَ الْكَافِرَ فَلَأَعْمَلَنَّ فِي أَرْضِهِ فَيُطْعِمُنِي هَذِهِ الكسرة يوما بيوم وَيَكْسُونِي هَذَيْنَ الثَّوْبَيْنِ إِذَا بَلِيَا، قَالَ فَانْطَلَقَ يُرِيدُهُ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِهِ وَهُوَ مُمْسٍ فَإِذَا قَصْرٌ مُشَيَّدٌ فِي السَّمَاءِ وَإِذَا حَوْلَهُ الْبَوَّابُونَ فَقَالَ لَهُمُ اسْتَأْذِنُوا لِي صَاحِبَ هَذَا الْقَصْرِ فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ سَرَّهُ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ انْطَلِقْ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَنَمْ فِي نَاحِيَةٍ فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَتَعَرَّضْ لَهُ. قَالَ فَانْطَلَقَ الْمُؤْمِنُ فَأَلْقَى نِصْفَ كِسَائِهِ تَحْتَهُ وَنِصْفَهُ فَوْقَهُ ثُمَّ نَامَ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى شَرِيكَهُ فَتَعَرَّضَ لَهُ فَخَرَجَ شَرِيكُهُ الْكَافِرُ وَهُوَ رَاكِبٌ فَلَمَّا
قَالَ ثُمَّ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنُ شَرِيكَهُ الْكَافِرَ فَيَقُولُ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ فَالْجَنَّةُ عَالِيَةٌ وَالنَّارُ هَاوِيَةٌ قَالَ فيريه الله تعالى شَرِيكَهُ فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ النَّارِ فَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُ عَرَفَهُ فَيَقُولُ: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ بِمَثَلِ مَا مَنَّ عَلَيْهِ. قَالَ فَيَتَذَكَّرُ الْمُؤْمِنُ مَا مَرَّ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّدَّةِ فَلَا يَذْكُرُ مِمَّا مَرَّ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشدة أشد عليه من الموت «٢».
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٢ الى ٧٠]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنْ مَآكِلَ وَمُشَارِبَ وَمَنَاكَحَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَاذِّ خَيْرٌ ضِيَافَةً وَعَطَاءً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ أَيِ الَّتِي في جهنم وقد يحتمل أن يكون
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٤٩٤.
وقوله عز وجل: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ قَالَ قَتَادَةُ ذُكِرَتْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فَافْتَتَنَ بِهَا أَهْلُ الضَّلَالَةِ وَقَالُوا صَاحِبُكُمْ يُنْبِئُكُمْ أَنَّ فِي النَّارِ شَجَرَةً وَالنَّارُ تأكل الشجر فأنزل الله تعالى:
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ غذيت مِنَ النَّارِ وَمِنْهَا خُلِقَتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا الزَّقُّومُ التَّمْرُ وَالزُّبْدُ أَتَزَقَّمُهُ.
قُلْتُ وَمَعْنَى الْآيَةِ إِنَّمَا أَخْبَرْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِشَجَرَةِ الزقوم اختبارا نختبر بِهِ النَّاسَ مَنْ يُصَدِّقُ مِنْهُمْ مِمَّنْ يُكَذِّبُ كقوله تبارك وتعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً [الإسراء: ٦٠]. وقوله تعالى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أَيْ أَصْلُ مَنْبَتِهَا فِي قَرَارِ النَّارِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ تَبْشِيعٌ لَهَا وَتَكْرِيهٌ لِذِكْرِهَا. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ شُعُورُ الشَّيَاطِينِ قَائِمَةٌ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا شَبَّهَهَا بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ أَنَّ الشَّيَاطِينَ قَبِيحَةُ الْمَنْظَرِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بذلك ضرب من الحيات رؤوسها بَشِعَةُ الْمَنْظَرِ، وَقِيلَ جِنْسٌ مِنَ النَّبَاتِ طَلْعُهُ فِي غَايَةِ الْفَحَاشَةِ وَفِي هَذَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ نَظَرٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى وَأُولَى، والله أعلم.
وقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ. ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الَّتِي لَا أَبْشَعَ مِنْهَا وَلَا أَقْبَحَ مِنْ مَنْظَرِهَا مَعَ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَالطَّبْعِ فَإِنَّهُمْ لَيَضْطَرُّونَ إِلَى الْأَكْلِ مِنْهَا لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ إِلَّا إِيَّاهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: يْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي بِحَارِ الدُّنْيَا لَأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَعَايِشَهُمْ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامَهُ؟» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ «١».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَعْفَرٍ وَهَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ إِذَا جَاعَ أَهْلُ النَّارِ اسْتَغَاثُوا بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ فَأَكَلُوا مِنْهَا فَاخْتَلَسَتْ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ فَلَوْ أَنَّ مَارًّا يَمُرُّ بِهِمْ يَعْرِفُهُمْ لَعَرَفَ وُجُوهِهِمْ فِيهَا ثُمَّ يَصُبُّ عَلَيْهِمُ الْعَطَشَ فَيَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ فَإِذَا أَدْنَوْهُ مِنْ أَفْوَاهِهِمُ اشْتَوَى مِنْ حَرِّهِ لُحُومُ وُجُوهِهِمُ الَّتِي قَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْجُلُودُ وَيُصْهَرُ مَا فِي بُطُونِهِمْ فَيَمْشُونَ تَسِيلُ أَمْعَاؤُهُمْ وَتَتَسَاقَطُ جُلُودُهُمْ ثُمَّ يُضْرَبُونَ بِمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ فَيَسْقُطُ كُلُّ عُضْوٍ عَلَى حِيَالِهِ يَدْعُونَ بالثبور.
وقوله عز وجل: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ أَيْ ثُمَّ إِنَّ مَرَدَّهُمْ بَعْدَ هَذَا الْفَصْلِ لَإِلَى نَارٍ تَتَأَجَّجُ وَجَحِيمٍ تَتَوَقَّدُ وَسَعِيرٍ تَتَوَهَّجُ فَتَارَةً فِي هَذَا وَتَارَةً فِي هَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرَّحْمَنِ: ٤٤] هَكَذَا تَلَا قَتَادَةُ هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ «٣» وَهُوَ تَفْسِيرٌ حَسَنٌ قَوِيٌّ، وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قراءة عبد الله رضي الله عنه «ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» «٤» وَكَانَ عَبْدُ الله رضي الله عنه يَقُولُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الْفُرْقَانِ: ٢٤] وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ مَيَسَرَةَ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ هَؤُلَاءِ وَيَقِيلَ هَؤُلَاءِ قَالَ سُفْيَانُ أَرَاهُ ثُمَّ قَرَأَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان: ٢٤] ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ قُلْتُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَكُونُ ثم عاطفة لخبر على خبر. وقوله تعالى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ أَيْ إِنَّمَا جَازَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ فَاتَّبَعُوهُمْ فِيهَا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَلِهَذَا قَالَ: فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ شَبِيهَةٌ بِالْهَرْوَلَةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير يسفهون.
(٢) أخرجه الترمذي في صفة جهنم باب ٤، وأحمد في المسند ٥/ ٢٦٥.
(٣) انظر تفسير الطبري ١٠/ ٤٩٥.
(٤) تفسير الطبري ١٠/ ٤٩٥، بلفظ: «ثم إنّ منقلبهم لإلى الجحيم». وانظر أيضا الدر المنثور ٥/ ٥٢٣. [.....]
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧١ الى ٧٤]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ فِيهِمْ مُنْذِرِينَ يُنْذِرُونَ بَأْسَ اللَّهِ وَيُحَذِّرُونَهُمْ سَطْوَتَهُ وَنِقْمَتَهُ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَعَبَدَ غَيْرَهُ وَأَنَّهُمْ تَمَادَوْا عَلَى مُخَالَفَةِ رُسُلِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ فَأَهْلَكَ الْمُكَذِّبِينَ وَدَمَّرَهُمْ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ وَنَصَرَهُمْ وَظَفَّرَهُمْ وَلِهَذَا قال تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَنْ أَكْثَرِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْ سَبِيلِ النَّجَاةِ شَرَعَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فذكر نوحا عليه الصلاة والسلام وَمَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ مَعَ طُولِ المدة لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ تَكْذِيبُهُمْ، وكلما دعاهم ازدادوا نفرة فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، فغضب الله تعالى لغضبه عليهم، ولهذا قال عز وجل: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أَيْ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ لَهُ وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالْأَذَى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما يَقُولُ: لَمْ تَبْقَ إِلَّا ذُرِّيَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ «١».
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ في قوله تبارك وتعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قَالَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ «٢» وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قَالَ سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ من صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «٤» عَنْ بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَقَدِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ سَعِيدٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ، قَالَ الحافظ أبو عمر بن عبد البر،
(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٧، باب ٣.
(٣) مسند أحمد ٥/ ٩.
(٤) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٧، باب ٤.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ مُفَسِّرٌ لِمَا أَبْقَى عليه الذِّكْرِ الْجَمِيلِ وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَالْأُمَمِ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أَيْ هَكَذَا نَجْزِي مَنْ أَحْسَنَ مِنَ العباد في طاعة الله تعالى ونجعل لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ يُذَكَرُ بِهِ بَعْدَهُ بِحَسَبِ مرتبته في ذلك ثم قال تعالى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أَيِ الْمُصَدِّقِينَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُوقِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَمْ تَبْقَ مِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ وَلَا ذِكْرَ لَهُمْ وَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ، وَلَا يُعَرَفُونَ إِلَّا بهذه الصفة القبيحة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٧]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧)
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَلَى مِنْهَاجِهِ وَسُنَّتِهِ «٣».
إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَعْنِي شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عَوْفٍ قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ؟ قَالَ يعلم أن الله حق وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: سَلِيمٌ مِنَ الشِّرْكِ وقال عروة لا يكون لعانا.
وقوله تعالى: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَنْكَرَ عليهم عبادة الأصنام والأنداد ولهذا قال عز وجل أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ قال قتادة يعني ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم معه غيره.
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٤٩٨.
(٣) تفسير الطبري ١٠/ ٤٩٩.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٨ الى ٩٨]
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢)فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)
إِنَّمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْمِهِ ذَلِكَ لِيُقِيمَ فِي الْبَلَدِ إِذَا ذَهَبُوا إِلَى عِيدِهِمْ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَزِفَ خُرُوجُهُمْ إِلَى عِيدٍ لَهُمْ فأحب أن يختلي بآلهتهم فيكسرها فَقَالَ لَهُمْ كَلَامًا هُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ سَقِيمٌ عَلَى مُقْتَضَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ قَالَ قَتَادَةُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ تَفَكَّرَ نَظَرَ فِي النُّجُومِ، يعني قتادة أنه نظر إلى السَّمَاءِ مُتَفَكِّرًا فِيمَا يُلْهِيهِمْ بِهِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ أَيْ ضَعِيفٌ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «١» هَاهُنَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنِي هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرَ ثَلَاثِ كذبات: ثنتين في ذات الله تعالى، قَوْلُهُ إِنِّي سَقِيمٌ وَقَوْلُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وَقَوْلُهُ فِي سَارَةَ هِيَ أُخْتِي» «٢» فَهُوَ حَدِيثٌ مُخَرَّجٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ مِنْ طَرُقٍ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْكَذِبِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يُذَمُّ فَاعِلُهُ حَاشَا وَكَلَّا وَإِنَّمَا أُطْلِقَ الْكَذِبُ عَلَى هَذَا تَجُوُّزًا وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمَعَارِيضِ فِي الْكَلَامِ لِمَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ دِينِيٍّ كَمَا جَاءَ في الحديث «إن الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ» «٣» وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَلِمَاتِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام الثَّلَاثِ الَّتِي قَالَ مَا مِنْهَا كَلِمَةٌ إِلَّا ما حل بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى: فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ وقال بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وقال للملك حين أراد امرأته هِيَ أُخْتِي. قَالَ سُفْيَانُ فِي قَوْلِهِ إِنِّي سَقِيمٌ يَعْنِي طَعِينٌ وَكَانُوا يَفِرُّونَ مِنَ الْمَطْعُونِ فَأَرَادَ أَنْ يَخْلُوَ بِآلِهَتِهِمْ، وَكَذَا قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قوله تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَقَالُوا لَهُ وَهُوَ فِي بَيْتِ آلِهَتِهِمْ: اخْرُجْ فَقَالَ إِنِّي مَطْعُونٌ فَتَرَكُوهُ مَخَافَةَ الطَّاعُونِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ رَأَى نَجْمًا طَلَعَ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ كَابَدَ نَبِيُّ اللَّهِ عَنْ دِينِهِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ «٤». وَقَالَ آخَرُونَ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُسْتَقْبَلُ يعني مرض
(٢) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٨، والنكاح باب ١٢، ومسلم في الفضائل حديث ١٥٤، وأبو داود في الطلاق باب ١٦، والترمذي في تفسير سورة ٢١ باب ٣، وأحمد في المسند ٢/ ٤٠٣.
(٣) أخرجه البخاري في الأدب باب ١١٦.
(٤) تفسير الطبري ١٠/ ٥٠١.
وَقَوْلُهُ تعالى: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ قَالَ الْفَرَّاءُ مَعْنَاهُ مَالَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْجَوْهَرِيُّ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ. وَإِنَّمَا ضَرَبَهُمْ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ وَأَنْكَى وَلِهَذَا تَرَكَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ كَمَا تَقَدَّمَ في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تفسير ذلك. وقوله تعالى هَاهُنَا: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَيْ يُسْرِعُونَ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ هَاهُنَا مُخْتَصَرَةٌ وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ مَبْسُوطَةٌ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا مَا عَرَفُوا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى كَشَفُوا وَاسْتَعْلَمُوا فَعَرَفُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا جَاءُوا لِيُعَاتِبُوهُ أَخْذَ فِي تَأْنِيبِهِمْ وَعَيْبِهِمْ فَقَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ أَيْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ مَا أَنْتُمْ تَنْحِتُونَهَا وَتَجْعَلُونَهَا بِأَيْدِيكُمْ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مصدرية فيكون تقدير الكلام خَلَقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي تَقْدِيرُهُ وَاللَّهُ خَلْقَكُمْ وَالَّذِي تَعْمَلُونَهُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ متلازم، والأول أظهر لما رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عن أبي مالك عن ربعي بن خراش عن حذيفة مرفوعا قال: «إن الله تعالى يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ» وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ عَدَلُوا إِلَى أَخْذِهِ بِالْيَدِ وَالْقَهْرِ فَقَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ وَأَظْهَرَهُ عَلَيْهِمْ وَأَعْلَى حَجَّتَهُ وَنَصَرَهَا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩٩ الى ١١٣]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)
وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨)
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ حَتَّى نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَمَا أَظُنُّ ذَلِكَ تُلُقِّيَ إِلَّا عن أحبار أهل الكتاب وأخذ ذلك مسلم مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ شَاهِدٌ وَمُرْشِدٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْبِشَارَةَ بغلام حليم وَذَكَرَ أَنَّهُ الذَّبِيحُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَمَّا بَشَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْحَاقَ قَالُوا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الْحِجْرِ:
٥٣].
وَقَالَ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هُودٍ: ٧١] أَيْ يُولَدُ لَهُ فِي حَيَاتِهِمَا وَلَدٌ يُسَمَّى يَعْقُوبُ فَيَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ عَقِبٌ وَنَسْلٌ وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُؤْمَرَ بِذَبْحِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَهُمَا بِأَنَّهُ سَيُعْقَبُ وَيَكُونُ لَهُ نَسَلٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ بُعْدَ هَذَا أَنْ يُؤْمَرَ بِذَبْحِهِ صَغِيرًا وَإِسْمَاعِيلُ وصف هاهنا بالحلم لأنه مناسب لهذا المقام؟.
وقوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أَيْ كَبِرَ وَتَرَعْرَعَ وَصَارَ يَذْهَبُ مَعَ أَبِيهِ وَيَمْشِي مَعَهُ وَقَدْ كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يَذْهَبُ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَتَفَقَّدُ وَلَدَهُ وَأُمَّ ولده ببلاد فاران «١»
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْكَرَنْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْرَائِيلَ بْنِ يُونُسَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ فِي الْمَنَامِ وَحْيٌ» لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنَّمَا أَعْلَمُ ابْنَهُ بِذَلِكَ لِيَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ وَلِيَخْتَبِرَ صَبْرَهُ وَجَلَدَهُ وَعَزْمَهُ مِنْ صِغَرِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ أَبِيهِ قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ أَيِ امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ مِنْ ذَبْحِي سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أَيْ سَأَصْبِرُ وَأَحْتَسِبُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَدَقَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِيمَا وَعَدَ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم: ٥٤- ٥٥]. وقال تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أَيْ فَلَمَّا تَشَهَّدَا وَذَكَرَا اللَّهَ تَعَالَى إِبْرَاهِيمُ عَلَى الذَّبْحِ وَالْوَلَدُ عَلَى شَهَادَةِ الْمَوْتِ وَقِيلَ أَسْلَمَا يَعْنِي استسلما وانقادا، إبراهيم امتثل لأمر الله تعالى وإسماعيل لطاعة الله وأبيه قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمْ وَمَعْنَى وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أَيْ صَرَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَذْبَحَهُ مِنْ قَفَاهُ وَلَا يُشَاهِدَ وَجْهَهُ عِنْدَ ذَبْحِهِ لِيَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أَكَبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ وَيُونُسُ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الْغَنَوِيِّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قال لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بِالْمَنَاسِكِ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ السَّعْيِ فَسَابَقَهُ فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم ذهب به جبريل عليه الصلاة والسلام إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتِ وَثَمَّ تله للجبين وعلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام قَمِيصٌ أَبْيَضُ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَتِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي ثَوْبٌ تُكَفِّنُنِي فِيهِ غَيْرُهُ فَاخْلَعْهُ حَتَّى تُكَفِّنَنِي فِيهِ فَعَالَجَهُ لِيَخْلَعَهُ فَنُودِيَ مِنْ خَلْفِهِ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا فَالْتَفَتَ إِبْرَاهِيمُ فَإِذَا بِكَبْشٍ أَبْيَضَ أَقْرَنَ أَعْيَنَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَتْبَعُ ذَلِكَ الضَّرْبَ مِنَ الْكِبَاشِ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي المناسك بطوله.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تبارك وتعالى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قَالَ خَرَجَ عَلَيْهِ كَبْشٌ مِنَ الْجَنَّةِ قَدْ رَعَى «١» قَبْلَ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ خريفا فأرسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ابْنَهُ وَاتَّبَعَ الْكَبْشَ فَأَخْرَجَهُ إِلَى الْجَمْرَةِ الْأَوْلَى فرماه بسبع حصيات ثم أفلته عندها فجاء إلى الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى فَأَخْرَجَهُ عِنْدَهَا فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ثم أفلته عندها فجاء إلى الجمة الْوُسْطَى فَأَخْرَجَهُ عِنْدَهَا فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ثُمَّ أَفْلَتَهُ فَأَدْرَكَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَأَخْرَجَهُ عِنْدَهَا ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَتَى بِهِ المنحر من منى فذبحه فو الذي نَفْسُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كَانَ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ وَإِنَّ رَأْسَ الْكَبْشِ لَمُعَلَّقٌ بِقَرْنَيْهِ فِي ميزاب الكعبة حتى وحش يَعْنِي يَبِسَ «٢».
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ قَالَ اجْتَمَعَ أَبُو هريرة وكعب فجعل أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ كَعْبٌ يُحَدِّثُ عَنِ الْكُتُبِ فَقَالَ أَبُو هريرة رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً وَإِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «٣» فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي- أَوْ فِدَاهُ أَبِي وَأُمِّي- أفلا أخبرك عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ إِنَّهُ لَمَّا أُرِيَ ذَبْحَ ابْنِهِ إِسْحَاقَ قَالَ الشَّيْطَانُ إِنْ لَمْ أَفْتِنْ هَؤُلَاءِ عِنْدَ هَذِهِ لم أفتنهم أبدا فخرج إبراهيم عليه الصلاة والسلام بِابْنِهِ لِيَذْبَحَهُ فَذَهَبَ الشَّيْطَانُ فَدَخَلَ عَلَى سَارَةَ فَقَالَ أَيْنَ ذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ بِابْنِكِ؟ قَالَتْ غَدَا به لبعض حاجته قال فإنه لم يغد به لحاجة إنما ذَهَبَ بِهِ لِيَذْبَحَهُ قَالَتْ وَلِمَ يَذْبَحُهُ؟ قَالَ زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ قَالَتْ فَقَدْ أَحْسَنَ أَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ فَذَهَبَ الشَّيْطَانُ فِي أَثَرِهِمَا فَقَالَ لِلْغُلَامِ أَيْنَ يَذْهَبُ بِكَ أَبُوكَ، قال لبعض حاجته قال فإنه لَا يَذْهَبُ بِكَ لِحَاجَةٍ وَلَكِنَّهُ يَذْهَبُ بِكَ لِيَذْبَحَكَ قَالَ وَلِمَ يَذْبَحُنِي؟ قَالَ زَعَمَ أَنَّ ربه أمره بذلك قال فو الله لئن كان الله تعالى أمره بذلك ليفعلن قال فيئس منه فتركه ولحق بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فَقَالَ أَيْنَ غَدَوْتَ بِابْنِكَ، قَالَ لِحَاجَةٍ قَالَ فَإِنَّكَ لَمْ تَغْدُ بِهِ لِحَاجَةٍ وَإِنَّمَا غَدَوْتَ بِهِ لِتَذْبَحَهُ قَالَ وَلِمَ أَذْبَحُهُ؟ قَالَ تَزْعُمُ أن ربك أمرك
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٥١٦.
(٣) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في التوحيد باب ٣١، والدعوات باب ١، ومسلم في الإيمان حديث ٣٣٤- ٣٤٥، والترمذي في الدعوات باب ١٣٠، وابن ماجة في الزهد باب ٣٧، والدارمي في السير باب ٢٨، والرقاق باب ٨٥، ومالك في القرآن حديث ٢٦، وأحمد في المسند ١/ ٢٨١، ٢٩٥، ٢/ ٢٧٥، ٣٨١، ٣٩٦، ٤٢٦، ٣/ ١٣٤، ٢٠٨، ٢١٨، ٢١٩، ٢٥٨، ٢٧٦، ٢٩٢، ٣٨٤، ٣٩٦، ٥/ ١٤٥، ١٤٨.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «١» عَنْ يُونُسَ بن وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شهاب قال أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ وأوحى الله تعالى إِلَى إِسْحَاقَ أَنِّي أَعْطَيْتُكَ دَعْوَةً أَسْتَجِيبُ لَكَ فيها قال إسحاق اللهم إني أدعوك أَنْ تَسْتَجِيبَ لِي أَيُّمَا عَبْدٍ لَقِيَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئًا فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن الله تبارك وتعالى خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَغْفِرَ لِنِصْفِ أُمَّتِي وَبَيْنَ أن يجيب شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعلم لِأُمَّتِي وَلَوْلَا الَّذِي سَبَقَنِي إِلَيْهِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ لتعجلت فيها دعوتي إِنِ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَّجَ عَنْ إِسْحَاقَ كَرْبَ الذَّبْحِ قِيلَ لَهُ يَا إِسْحَاقُ سَلْ تعط فَقَالَ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَتَعَجَّلَنَّهَا قَبْلَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، اللَّهُمَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئًا فَاغْفِرْ لَهُ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مُنْكَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ مُدْرَجَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ إِنِ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَّجَ عَنْ إِسْحَاقَ إِلَى آخِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَالْأَشْبَهُ أَنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَإِنَّمَا حَرَّفُوهُ بِإِسْحَاقَ حَسَدًا مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِلَّا فَالْمَنَاسِكُ وَالذَّبَائِحُ إِنَّمَا مَحِلُّهَا بِمِنَى مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ حَيْثُ كَانَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ بِبِلَادِ كَنْعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أَيْ قَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ من رؤياك واضجاعك وَلَدَكَ لِلذَّبْحِ وَذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ أَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَى رَقَبَتِهِ فَلَمْ تَقْطَعْ شَيْئًا بَلْ حال بينها وبينه صفحة من نحاس ونودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا. وقوله تعالى: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أَيْ هَكَذَا نَصْرِفُ عَمَّنْ أَطَاعَنَا الْمَكَارِهَ وَالشَّدَائِدَ وَنَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطَّلَاقِ: ٢- ٣] وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَالْقِصَّةِ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ عَلَى صِحَّةِ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ خِلَافًا لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالدَّلَالَةُ مِنْ هَذِهِ ظاهرة لأن الله تعالى شرع لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ذَبْحَ وَلَدِهِ ثُمَّ نَسَخَهُ عَنْهُ وَصَرَفَهُ إِلَى الْفِدَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِهِ أَوَّلًا إِثَابَةَ الْخَلِيلِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى ذَبْحِ وَلَدِهِ وَعَزْمِهِ عَلَى ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أَيِ الِاخْتِبَارُ الْوَاضِحُ الْجَلِيُّ حَيْثُ أُمِرَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ فَسَارَعَ إِلَى
٣٧].
وقوله تعالى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قَالَ بِكَبْشٍ أَبْيَضَ أَعْيَنَ أَقْرَنَ قَدْ رُبِطَ بِسَمُرَةٍ قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: وَجَدُوهُ مَرْبُوطًا بِسَمُرَةٍ فِي ثَبِيرٍ «١»، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَبْشٌ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ الْعَطَّارُ عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ الصَّخْرَةُ الَّتِي بِمِنَى بِأَصْلِ ثَبِيرٍ هِيَ الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء إسحاق ابْنِهِ هَبَطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبِيرٍ كَبْشٌ أَعْيَنُ أَقْرَنُ لَهُ ثُغَاءٌ فَذَبَحَهُ وَهُوَ الْكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَهُ ابْنُ آدَمَ فَتُقُبِّلَ مِنْهُ فَكَانَ مَخْزُونًا حَتَّى فُدِيَ بِهِ إِسْحَاقُ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ الْكَبْشُ يرتع في الجنة حَتَّى فُدِيَ بِهِ إِسْحَاقُ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ الْكَبْشُ يرتع في الجنة حتى شقق عَنْهُ ثَبِيرٌ وَكَانَ عَلَيْهِ عِهْنٌ أَحْمَرُ، وَعَنِ الحسن البصري أنه قال كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جَرِيرٌ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ذَبَحَهُ بِالْمَقَامِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ ذَبَحَهُ بِمِنَى عِنْدَ الْمَنْحَرِ. وَقَالَ هُشَيْمٌ عَنْ سَيَّارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ أَفْتَى الَّذِي جَعَلَ عَلَيْهِ نَذْرًا أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ فَأَمَرَهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَوْ كُنْتُ أَفْتَيْتُهُ بِكَبْشٍ لَأَجْزَأَهُ أَنْ يَذْبَحَ كَبْشًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.
وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ فُدِيَ بِكَبْشٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قَالَ وَعْلٌ «٢» وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَا فُدِيَ إِسْمَاعِيلُ عليه السلام إِلَّا بِتَيْسٍ مِنَ الْأَرْوَى «٣» أُهْبِطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبِيرٍ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حدثني مَنْصُورٌ عَنْ خَالِهِ مُسَافِعٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَلَدَتْ عَامَّةَ أَهْلِ دَارِنَا أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ طلحة رضي الله عنه، وقالت مَرَّةً إِنَّهَا سَأَلَتْ عُثْمَانَ لِمَ دَعَاكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي كُنْتُ رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ حِينَ دَخَلْتُ البيت فنسيت أن آمرك أن تخمر هما فَخَمِّرْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ» قَالَ سُفْيَانُ لَمْ يزل قرنا الكبش
(٢) الوعل: هو تيس الجبل.
(٣) الأروي: قيل: هي أنثى الوعل، وقيل هي الشاة الواحدة من شياه الجبل.
(٤) المسند ٤/ ٦٨، ٥/ ٣٨٠.
[فَصْلٌ] فِي ذِكْرِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ السَّلَفِ فِي أَنَّ الذَّبِيحَ مَنْ هُوَ
[ذِكْرُ مَنْ قَالَ هُوَ إِسْحَاقُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام] قَالَ حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ رَحِمَهُ الله قال: قال يوسف عليه الصلاة والسلام لِلْمَلِكِ فِي وَجْهِهِ تَرْغَبُ أَنْ تَأْكُلَ مَعِي وَأَنَا وَاللَّهِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ «١»، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنِ ابْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْمَلِكِ كَذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قال موسى عليه الصلاة والسلام يَا رَبِّ يَقُولُونَ يَا إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فَبِمَ قَالُوا ذَلِكَ؟ قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَعْدِلْ بِي شَيْءٌ قَطُّ إِلَّا اخْتَارَنِي عَلَيْهِ، وَإِنَّ إِسْحَاقَ جَادَ لِي بِالذَّبْحِ وَهُوَ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَجْوَدُ، وَإِنَّ يَعْقُوبَ كُلَّمَا زِدْتُهُ بَلَاءً زَادَنِي حُسْنَ ظَنٍّ».
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ قَالَ افْتَخَرَ رجل عند ابن مسعود رضي الله عنه فَقَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ابْنُ الْأَشْيَاخِ الكرام، فقال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاكَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ الله ابن إبراهيم خليل الله. وهذا صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، وكذا روى عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ إسحاق، وعن أبيه العباس وعن علي بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو مَيْسَرَةَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ وَالزُّهْرِيُّ وَالْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ وَمَكْحُولٌ وَعُثْمَانُ بْنُ حَاضِرٍ وَالسُّدِّيُّ والحسن وقتادة وأبو الهذيل وابن سابط وهذا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَتَقَدَّمَ رِوَايَتُهُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ حارثة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ هُوَ إِسْحَاقُ «٢».
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ كُلُّهَا مَأْخُوذَةٌ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ جَعَلَ يُحَدِّثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ كتبه قديما فَرُبَّمَا اسْتَمَعَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَرَخَّصَ النَّاسُ فِي اسْتِمَاعِ مَا عِنْدَهُ وَنَقَلُوا ما عنده عَنْهُ غَثَّهَا وَسَمِينَهَا وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَاجَةٌ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِمَّا عِنْدَهُ وَقَدْ حَكَى الْبَغَوَيُّ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ إِسْحَاقُ عن عمر وعلي وابن مسعود
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٥١١.
[ذِكْرُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَقْطُوعُ بِهِ] قَدْ تَقَدَّمَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ إسحاق عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم وقال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ إسماعيل عليه الصلاة والسلام وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» حَدَّثَنِي يُونُسُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الْمُفْدَى إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَزَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ وَكَذَبَتِ الْيَهُودُ، وَقَالَ إِسْرَائِيلُ عَنْ ثور عن مجاهد عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ هُوَ إسماعيل عليه السلام وَكَذَا قَالَ يُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وَقَدْ رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل عليه السلام قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ وَهُوَ يَقُولُ إِنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تعالى إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ مِنِ ابْنَيْهِ إِسْمَاعِيلُ وَإِنَّا لَنَجِدُ ذلك في كتاب الله تعالى وذلك أن الله تعالى حِينَ فَرَغَ مِنْ قِصَّةِ الْمَذْبُوحِ مِنِ ابْنَيْ إبراهيم قال الله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ويقول اللَّهُ تَعَالَى:
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ يَقُولُ بِابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ فَلَمْ يَكُنْ ليأمره بذبح إسحاق وله فيه الْمَوْعِدُ بِمَا وَعَدَهُ وَمَا الَّذِي أَمَرَ بِذَبْحِهِ إلا إسماعيل قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيرا، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بِرَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ خَلِيفَةٌ إِذْ كَانَ مَعَهُ بِالشَّامِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا كُنْتُ أَنْظُرُ فِيهِ، وَإِنِّي لَأَرَاهُ كَمَا قُلْتَ ثُمَّ أرسل إلى رجل كان عنده بالشام
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ سَأَلْتُ أبي عن الذبيح هل هُوَ إِسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ الصَّحِيحُ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ عليه الصلاة والسلام قَالَ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي الطُّفَيْلِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وأبي صالح رضي الله عنهم أَنَّهُمْ قَالُوا الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبَ وَالسُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَكَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «١» فِي ذَلِكَ حَدِيثًا غَرِيبًا فَقَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْخَطَّابِيُّ عَنْ عُبَيْدِ الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ كُنَّا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَذَكَرُوا الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ فَقَالَ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتُمْ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عُدْ عَلَيَّ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا الذَّبِيحَانِ؟ فَقَالَ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَمَّا أمر بحفر زمزم نذر الله إن سهل الله له أَمْرَهَا عَلَيْهِ لَيَذْبَحَنَ أَحَدَ وَلَدِهِ قَالَ فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَمَنَعَهُ أَخْوَالُهُ وَقَالُوا افْدِ ابْنَكَ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ فَفَدَاهُ بِمِائَةٍ من الإبل والثاني إسماعيل «٢».
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَقَدْ رَوَاهُ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ حَدَّثَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حدثنا الصنابحي قال حضرنا مجلس معاوية رضي الله عنه فَتَذَاكَرَ الْقَوْمُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَذَكَرَهُ، كَذَا كَتَبْتُهُ مِنْ نُسْخَةٍ مَغْلُوطَةٍ وَإِنَّمَا عَوَّلَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي اخْتِيَارِهِ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ عَلَى قَوْلِهِ تعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فجعل
(٢) لفظ الطبري: ففداه بمائة من الإبل، وإسماعيل الثاني.
وقوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ لَمَّا تَقَدَّمَتِ الْبِشَارَةُ بِالذَّبِيحِ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ عَطَفَ بِذِكْرِ الْبِشَارَةِ بِأَخِيهِ إِسْحَاقَ وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي سُورَتَيْ هُودٍ والحجر «١»، وقوله تعالى: نَبِيًّا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ سَيَصِيرُ مِنْهُ نَبِيٌّ صالح.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ دَاوُدَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ قال وقوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قال بشر بنبوته قال وقوله تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مَرْيَمَ: ٥٣] قَالَ كَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى وَلَكِنْ أَرَادَ وَهَبَ لَهُ نُبُوَّتَهُ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ دَاوُدَ يُحَدِّثُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ إِنَّمَا بَشَّرَ بِهِ نَبِيًّا حِينَ فداه الله عز وجل مِنَ الذَّبْحِ وَلَمْ تَكُنِ الْبِشَارَةُ بِالنُّبُوَّةِ عِنْدَ مَوْلِدِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ دَاوُدَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ بُشِّرَ بِهِ حين ولد وحين نبىء وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ في قوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ؟؟ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ لَمَّا جَادَ لِلَّهِ تعالى بنفسه وقال الله عز وجل وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وقوله تعالى: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ [هود: ٤٨].
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٤ الى ١٢٢]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٥١٦. [.....]
أَيْ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ أَيْ أَبْقَيْنَا لَهُمَا مِنْ بَعْدِهِمَا ذِكْرًا جميلا وثناء حسنا ثم فسره بقوله تعالى: سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٢٣ الى ١٣٢]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
قَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ يُقَالُ إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ هُوَ إِلْيَاسُ بْنُ يَاسِينَ بْنِ فِنْحَاصَ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ بن عمران بعثه الله تعالى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ حِزْقِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَكَانُوا قَدْ عَبَدُوا صَنَمًا يُقَالُ لَهُ بَعْلٌ فدعاهم إلى الله تعالى وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَكَانَ قَدْ آمَنَ بِهِ مَلِكُهُمْ ثُمَّ ارْتَدَّ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ضَلَالَتِهِمْ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَدَعَا اللَّهَ عَلَيْهِمْ فَحَبَسَ عَنْهُمُ الْقَطْرَ ثَلَاثَ سِنِينَ ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَكْشِفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَوَعَدُوهُ الْإِيمَانَ بِهِ إِنْ هُمْ أَصَابَهُمُ الْمَطَرُ، فَدَعَا الله تعالى لَهُمْ فَجَاءَهُمُ الْغَيْثُ فَاسْتَمَرُّوا عَلَى أَخْبَثِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ نَشَأَ عَلَى يَدَيْهِ اليسع بن أخطوب عليهما الصلاة والسلام فَأُمِرَ إِلْيَاسُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَمَهْمَا جَاءَهُ فَلْيَرْكَبْهُ وَلَا يَهَبْهُ فَجَاءَتْهُ فرس من نار فركب وألبسه الله تعالى النُّورَ وَكَسَاهُ الرِّيشَ وَكَانَ يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ مَلَكًا إِنْسِيًّا سَمَاوِيًّا أَرْضِيًّا هَكَذَا حَكَاهُ وَهْبٌ بن منبه عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ «١».
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَيْ أَلَا تَخَافُونَ الله عز وجل فِي عِبَادَتِكُمْ غَيْرَهُ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ بَعْلًا يَعْنِي رَبًّا. قَالَ عكرمة وقتادة وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قتادة قال: وهي لغة أزد
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أَيْ ثَنَاءً جَمِيلًا سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ كَمَا يُقَالُ فِي إِسْمَاعِيلَ إِسْمَاعِينُ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ، وَأَنْشَدَ بعض بني نمير في ضب صاده: [رجز]
يَقُولُ رَبُّ السُّوقِ لَمَّا جِينَا | هَذَا وَرَبِّ البيت إسرائينا «١» |
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قد تقدم تفسيره، والله أعلم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٨]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ بَعَثَهُ إِلَى قَوْمِهِ فَكَذَّبُوهُ فنجاه الله تعالى مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ هُوَ وَأَهْلُهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا هَلَكَتْ مَعَ مَنْ هَلَكَ مِنْ قَوْمِهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعُقُوبَاتِ وَجَعَلَ مَحِلَّتَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً قَبِيحَةَ الْمَنْظَرِ وَالطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَجَعَلَهَا بِسَبِيلٍ مُقِيمٍ يَمُرُّ بها المسافرون ليلا ونهارا ولهذا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
أَيْ أَفَلَا تَعْتَبِرُونَ بِهِمْ كَيْفَ دَمَّرَ اللَّهُ عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها.
هذا لعمر الله إسرائينا وهو في تفسير الطبري ١٠/ ٥٢٤، والرجز لأعرابي في المقاصد النحوية ٢/ ٤٤٥، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٤٥٦، والدرر ٢/ ٢٧٢، وسمط اللئالي ص ٦٨١، وشرح الأشموني ١/ ١٥٦، وشرح التصريح ١/ ٢٦٤، وشرح ابن عقيل ص ٢٢٩، ولسان العرب (فطن) (يمن)، والمعاني الكبير ص ٦٤٦، وهمع الهوامع ١/ ١٥٧، وجمهرة اللغة ص ٢٩٣، وتاج العروس (فطن)، (يمن)، (سرو).
والمخصص ١٣/ ٢٨٢.
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٥٢٤.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٨]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
قَدْ تَقَدَّمَتْ قصة يونس عليه الصلاة والسلام فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» «١» وَنَسَبَهُ إِلَى أُمِّهِ وفي رواية إلى أبيه. وقوله تعالى: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
قَالَ ابْنُ عباس رضي الله عنهما هُوَ الْمُوَقَّرُ أَيِ الْمَمْلُوءُ بِالْأَمْتِعَةِ.
فَساهَمَ
أَيْ قَارَعَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
أَيِ الْمَغْلُوبِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّفِينَةَ تَلَعَّبَتْ بِهَا الْأَمْوَاجُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَأَشْرَفُوا عَلَى الْغَرَقِ فَسَاهَمُوا عَلَى مَنْ تَقَعُ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ لِتَخِفَّ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَهُمْ يَضِنُّونَ بِهِ أَنْ يُلْقَى مِنْ بَيْنِهِمْ فَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ لِيُلْقِيَ نَفْسَهُ وَهُمْ يَأْبَوْنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى حُوتًا مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ أَنْ يَشُقَّ الْبِحَارَ وَأَنْ يَلْتَقِمَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يُهَشِّمَ لَهُ لَحْمًا وَلَا يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا فَجَاءَ ذَلِكَ الْحُوتُ وَأَلْقَى يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسَهُ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَذَهَبَ بِهِ فَطَافَ بِهِ الْبِحَارَ كُلَّهَا. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ يُونُسُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ حَسَبَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ وَرَجْلَيْهِ وَأَطْرَافَهُ فَإِذَا هُوَ حَيٌّ فَقَامَ يُصَلِّي فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ دُعَائِهِ يَا رَبِّ اتَّخَذْتُ لَكَ مَسْجِدًا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا لَبِثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فَقِيلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَالَهُ قتادة. وقيل سبعة قاله جعفر الصادق رضي الله عنه، وَقِيلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَالَهُ أَبُو مَالِكٍ. وَقَالَ مجاهد عن الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية، والله تعالى أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ، وَفِي شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أبي الصلت: [الطويل]
وَأنْتَ بِفَضْلٍ منْكَ نَجَّيْتَ يُونُسَا | وَقَدْ بَاتَ في أضعاف حوت لياليا «٢» |
(٢) البيت في السيرة النبوية لابن هشام ١/ ٢٢٨.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ الله ابن أخي بن وَهْبٍ حَدَّثَنَا عَمِّي حَدَّثَنَا أَبُو صَخْرٍ أَنَّ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه- وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّ أَنْسًا يَرْفَعُ الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «إن يونس النبي عليه الصلاة والسلام حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذِهِ الْكَلَمَّاتِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَقْبَلَتِ الدَّعْوَةُ تَحُفُّ بِالْعَرْشِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا رَبِّ هَذَا صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بلاد بعيدة غريبة فقال الله تعالى أَمَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا يَا رَبِّ وَمَنْ هو؟ قال عز وجل عَبْدِي يُونُسُ قَالُوا عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ قَالُوا يَا رَبِّ أَوَلَا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنَجِّيهِ فِي الْبَلَاءِ، قَالَ بَلَى فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بِالْعَرَاءِ» «١».
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ، زَادَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ أَبُو صَخْرٍ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ قُسَيْطٍ وَأَنَا أُحَدِّثُهُ هَذَا الْحَدِيثَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: طرح بالعراء وأنبت الله عز وجل عَلَيْهِ الْيَقْطِينَةَ قُلْنَا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَمَا الْيَقْطِينَةُ، قَالَ شَجَرَةُ الدُّبَّاءِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: وَهَيَّأَ اللَّهُ لَهُ أُرْوِيَّةً «٣» وَحْشِيَّةً تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ «٤» أَوْ قَالَ:
هَشَاشِ الْأَرْضِ- قَالَ فتنفسخ «٥» عَلَيْهِ فَتَرْوِيهِ مِنْ لَبَنِهَا كُلَّ عَشِيَّةٍ وَبُكْرَةٍ حَتَّى نَبَتَ وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ في ذلك بيتا من شعره وهو: [الطويل]
فَأَنْبَتَ يَقْطِينًا عَلَيْهِ بِرَحْمَةٍ | مِنَ اللَّهِ لَوْلَا الله ألقي ضاحيا «٦» |
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٥٣٠.
(٣) الأرويّة: الشاة الجبلية.
(٤) خشاش الأرض أهوامها وحشراتها.
(٥) تتفشّخ: أي تفرج ما بين رجليها.
(٦) البيت في تفسير الطبري ١٠/ ٥٣٠.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ رَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إنما كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» حدثني الحارث حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ عَنْ شَهْرٍ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِمَهُ الْحُوتُ.
(قُلْتُ) : وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أَوَّلًا أُمِرَ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحُوتِ فَصَدَّقُوهُ كُلُّهُمْ وَآمَنُوا بِهِ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى أُمَّةٍ أُخْرَى بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحُوتِ كانوا مائة ألف أو يزيدون وقوله تعالى: أَوْ يَزِيدُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ:
بَلْ يَزِيدُونَ وَكَانُوا مِائَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَعَنْهُ مِائَةَ أَلْفٍ وَبِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وعنه مائة ألف وبضعة وأربعين ألفا والله أعلم، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَزِيدُونَ سَبْعِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ مَكْحُولٌ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَعَشَرَةَ آلَافٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٤» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ زُهَيْرًا يحدث عمن سمع أبا العالية يقول حدثني أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تَعَالَى:
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قَالَ يَزِيدُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِهِ وَقَالَ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ به. قال ابن جرير «٥» : وكان
(٢) أخرجه البخاري في الأطعمة باب ٤، ٢٥، ٣٥- ٣٧، والترمذي في الأطعمة باب ٤١، والدارمي في الأطعمة باب ١٩، ومالك في النكاح حديث ٥١.
(٣) تفسير الطبري ١٠/ ٥٣٢. [.....]
(٤) تفسير الطبري ١٠/ ٥٣٢.
(٥) تفسير الطبري ١٠/ ٥٣٢.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٩ الى ١٦٠]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ في جعلهم لله تعالى الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ أَيْ مِنَ الذُّكُورِ أَيْ يَوَدُّونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْجَيِّدَ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل: ٥٨] أي يسوؤه ذَلِكَ وَلَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ إِلَّا الْبَنِينَ، يَقُولُ عز وجل فَكَيْفَ نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْقِسْمَ الَّذِي لا يختارونه لأنفسهم ولهذا قال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَيْ سَلْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ كقوله عز وجل: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم: ٢١- ٢٢].
وقوله تبارك وتعالى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ أَيْ كَيْفَ حَكَمُوا عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ وَمَا شاهدوا خلقهم كقوله جل وعلا وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [الزُّخْرُفِ: ١٩] أَيْ يُسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وقوله جلت عظمته: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أَيْ مِنْ كَذِبِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ أَيْ صَدَرَ مِنْهُ الْوَلَدُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فذكر الله تعالى عَنْهُمْ فِي الْمَلَائِكَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ، فَأَوَّلًا جَعَلُوهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ فَجَعَلُوا لله ولدا تعالى وتقدس، وَجَعَلُوا ذَلِكَ الْوَلَدَ أُنْثَى ثُمَّ عَبَدُوهُمْ مِنْ دون الله تعالى وتقدس وَكُلٌّ مِنْهَا كَافٍ فِي التَّخْلِيدِ فِي نَارِ جهنم.
ثم قال تعالى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ أَيْ أيّ شيء يحمله على أن يختار البنات دون البنين كقوله عز وجل: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً [الْإِسْرَاءِ: ٤٠] وَلِهَذَا قَالَ تبارك وتعالى: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَيْ مَا لَكُمْ عُقُولٌ تَتَدَبَّرُونَ بِهَا مَا تَقُولُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أَيْ حُجَّةٌ عَلَى
أَيْ هَاتُوا بُرْهَانًا عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَنِدًا إِلَى كِتَابٍ مُنَزَّلٍ مِنَ السَّمَاءِ عَنِ اللَّهِ تعالى أَنَّهُ اتَّخَذَ مَا تَقُولُونَهُ فَإِنَّ مَا تَقُولُونَهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُهُ إِلَى عَقْلٍ بَلْ لَا يجوزه العقل بالكلية. وقوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً قَالَ مُجَاهِدٌ:
قال المشركون الملائكة بنات الله تعالى فقال أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَنْ أُمَّهَاتُهُنَّ، قَالُوا بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وابن زيد ولهذا قال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أَيِ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَيْهِمْ ذَلِكَ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أَيْ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمُحْضَرُونَ فِي الْعَذَابِ يَوْمَ الْحِسَابِ لِكَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ وَافْتِرَائِهِمْ وَقَوْلِهِمُ الْبَاطِلَ بِلَا عِلْمٍ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً قَالَ زَعَمَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ وَإِبْلِيسُ أخوان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، حكاه ابن جرير «١».
وقوله جلت عظمته: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَعَمَّا يصفه به الظالمون الملحدون علوا كبيرا. قوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ من مثبت إلا أن يكون الضمير قي قوله تعالى: عَمَّا يَصِفُونَ عائد إلى الناس جميعهم ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وَهُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلْحَقِّ المنزل على كل نبي مرسل، وَجَعَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَفِي هَذَا الذي قاله نظر «٢» والله سبحانه وتعالى أعلم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦١ الى ١٧٠]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْمُشْرِكِينَ: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي إنما ينقاد لمقالتكم وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْعِبَادَةِ الْبَاطِلَةِ من هو أضل منكم ممن ذرئ لِلنَّارِ «٣» لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٩٧] فَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يَنْقَادُ لِدِينِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ والضلالة كما قال تبارك وتعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذَّارِيَاتِ: ٨- ٩] أَيْ إِنَّمَا يَضِلُّ بِهِ مَنْ هو مأفوك ومبطل، ثم قال تبارك وتعالى مُنَزِّهًا لِلْمَلَائِكَةِ مِمَّا نَسَبُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْكُفْرِ بِهِمْ وَالْكَذِبِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أَيْ لَهُ موضع مخصوص في السموات ومقامات العبادات
(٢) تفسير الطبري ١٠/ ٥٣٦.
(٣) ذرئ للنار: أي خلق للنار.
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ لِمُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَ مِمَّنْ بَايَعَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال يَوْمًا لِجُلَسَائِهِ: «أَطَّتِ «١» السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعَ قَدَمٍ إِلَّا عَلَيْهِ ملك راكع أو ساجد» «٢» ثم قرأ ﷺ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِهِ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ قَالَ كَانَ مَسْرُوقٌ يَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا مَوْضِعٌ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ ساجد أو قائم» فذلك قوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «٣».
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ في السموات لَسَمَاءٍ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا عَلَيْهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ أَوْ قَدَمَاهُ ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ الله رضي الله عنه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَالَ قَتَادَةُ كَانُوا يُصَلُّونَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا حَتَّى نَزَلَتْ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فَتَقَدَّمَ الرِّجَالُ وَتَأَخَّرَ النِّسَاءُ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أَيْ نَقِفُ صُفُوفًا فِي الطَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تبارك وتعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات: ١] قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُغِيثٍ قَالَ كَانُوا لَا يصفون في الصلاة حتى نزل وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ فَصُفُّوا وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ كان عمر رضي الله عنه إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ اسْتَوُوا قِيَامًا يُرِيدُ اللَّهُ تعالى بِكُمْ هَدْيَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ يَقُولُ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ تَأَخَّرْ يَا فُلَانُ تَقَدَّمْ يَا فُلَانُ ثم يتقدم فيكبر. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ «٤».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا» «٥» الْحَدِيثَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أَيْ نَصْطَفُّ فَنُسَبِّحُ الرَّبَّ وَنُمَجِّدُهُ وَنُقَدِّسُهُ وَنُنَزِّهُهُ عَنِ النَّقَائِصِ فَنَحْنُ عَبِيدٌ لَهُ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ خَاضِعُونَ لَدَيْهِ. وقال ابن عباس رضي الله عنهما وَمُجَاهِدٌ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ الْمَلَائِكَةُ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ الْمَلَائِكَةُ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ الملائكة تسبح اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ يَعْنِي الْمُصَلُّونَ يَثْبُتُونَ بِمَكَانِهِمْ مِنَ الْعِبَادَةِ كما قال تبارك وتعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
(٢) أخرجه الترمذي في الزهد باب ٩، وابن ماجة في الزهد باب ١٩، وأحمد في المسند ٥/ ١٧٣.
(٣) تفسير الطبري ١٠/ ٥٣٨.
(٤) تفسير الطبري ١٠/ ٥٣٩.
(٥) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٤، وأحمد في المسند ٥/ ٣٨٣.
٢٦- ٢٩] وقوله جل وعلا: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أَيْ قَدْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ يَا مُحَمَّدُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَنْ يُذَكِّرُهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مَنْ أَمْرِ الْقُرُونِ الْأَوْلَى ويأتيهم بكتاب الله كما قال جل جلاله وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فَاطِرٍ:
٤٢] وَقَالَ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام: ١٥٦- ١٥٧] ولهذا قال تعالى هَاهُنَا: فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَعِيدٌ أَكِيدٌ وتهديد شديد على كفرهم بربهم عز وجل وتكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧١ الى ١٧٩]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩)
يَقُولُ تبارك وتعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أَيْ تَقَدَّمَ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: ٢١] وقال عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غَافِرٍ: ٥١] وَلِهَذَا قَالَ جل جلاله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ نُصْرَتِهِمْ عَلَى قَوْمِهِمْ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ وَكَيْفَ أَهْلَكَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ وَنَجَّى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
أَيْ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ. وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ أَيِ اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ لَكَ وَانْتَظِرْ إِلَى وَقْتٍ مُؤَجَّلٍ فَإِنَّا سَنَجْعَلُ لَكَ الْعَاقِبَةَ وَالنُّصْرَةَ والظفر، ولهذا قال بعضهم غيّا «١» ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ وَمَا بَعْدَهَا أَيْضًا في معناها.
وقوله جلت عظمته وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَيْ أَنْظِرْهُمْ وَارْتَقِبْ مَاذَا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك ولهذا قال تعالى عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أَيْ هُمْ إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك فإن الله تعالى يَغْضَبُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَيُعَجِّلُ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ وَمَعَ هَذَا أَيْضًا كَانُوا مِنْ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ يَسْتَعْجِلُونَ العذاب والعقوبة. قال الله تبارك وتعالى: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عن أنس بن مالك عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا صَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَقَدْ أَخَذُوا مَسَاحِيَهُمْ وَغَدَوْا إلى حروثهم وأرضهم، فَلَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نكصوا مُدْبِرِينَ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ» لَمْ يخرجوه من هذه الْوَجْهِ وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَقَوْلُهُ تعالى: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٢]
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
يُنَزِّهُ تبارك وتعالى نفسه ويقدسها ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون تعالى وتنزه وَتَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا وَلِهَذَا قَالَ تبارك وتعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ أَيْ ذِي الْعِزَّةِ الَّتِي لَا تُرَامُ عَمَّا يَصِفُونَ أَيْ عَنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِينَ الْمُفْتَرِينَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ أَيْ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ فِي رَبِّهِمْ وَصِحَّتِهِ وَحَقِّيَّتِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلَمَّا كَانَ التَّسْبِيحُ يَتَضَمَّنُ التَّنْزِيهَ وَالتَّبْرِئَةَ مِنَ النَّقْصِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَيَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ الْكَمَالِ كَمَا أَنَّ الْحَمْدَ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ مُطَابَقَةً وَيَسْتَلْزِمُ التَّنْزِيهَ مِنَ النَّقْصِ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ ولهذا قال تبارك وتعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إِذَا سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ فَسَلِّمُوا عَلَى الْمُرْسَلِينَ فَإِنَّمَا أنا رسول من المرسلين». هكذا
(٢) المسند ٤/ ٢٨- ٢٩.
وَقَدْ أَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْأَعْيَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ صَاعِقَةٌ قَالَا: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أبي طلحة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ فَسَلَّمُوا عَلَى الْمُرْسَلِينَ» وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا نُوحٌ حدثنا أبو هارون عن أبي سعيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا أراد أن يسلم قَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ثُمَّ يُسَلِّمُ، إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَقُلْ آخِرَ مَجْلِسِهِ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُتَّصِلٍ مَوْقُوفٍ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أخبرنا أبو سعيد أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَهْلَوَيْهِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَبِي صَفِيَّةَ عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَكُنْ آخِرُ كَلَامِهِ فِي مَجْلِسِهِ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَخْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ «مَنْ قَالَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَدِ اكْتَالَ بِالْجَرِيبِ «٢» الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ» «٣» وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. وَقَدْ أَفْرَدْتُ لَهَا جزءا على حدة والله سبحانه وتعالى أعلم.
(٢) الجريب: مكيال.
(٣) الحديث في الدر المنثور ٥/ ٥٥٤.
بلفظ: «فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر».