من أوائل ما نزل بعد الهجرة، وهي أطول سورة في القرآن، إذ استغرقت جزئين ونصف جزء، وبلغ عدد آياتها ستا وثمانين ومائتي آية.
وقد سميت بهذا الإسم لأنها انفردت بذكر حادثة قتل وقعت في بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام، وكان للبقرة فيها شأن عجيب.
وقد ابتدأت هذه السورة بتفصيل ما انتهت إليه سورة الفاتحة، فذكرت أن القرآن هو مصدر الهدى، ذلك الكتاب لا ريب فيه. وبينت بالتفصيل من هم الذين أنعم الله عليهم بالرضا، والآخرين الذين غضب الله عليهم من الكفار والمنافقين.
وقد تحدثت السورة عن صدق القرآن، وأن دعوته حق لا ريب فيها.
وبعد أن بيّنت أصناف الناس الثلاثة : المؤمنين، والكافرين، والمنافقين- تحدثت عن الدعوة إلى عبادة الله وحده، وعن إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين. ثم إنها خصت بني إسرائيل بالدعوة والمراجعة، وذكّرتهم بأيام الله وبحوادثهم مع موسى، وبإبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة. وقد استغرق ذلك نحو نصف السورة، لكنه تخلله حديث موجه إلى المؤمنين للاعتبار بما حدث لليهود والنصارى.
ثم انتقل الحديث إلى خطاب المسلمين بذكر ما هو مشترك بينهم وبين قوم موسى من فضل إبراهيم وهدايته ونسبه. بعد ذلك جاء الحديث عن القِبلة وتحويلها عن القدس، واحتجاج أهل الكتاب على ذلك والرد عليهم، كما جاء ذكر التوحيد والتذكير بآيات الله الدالة عليه، ثم ذكر الشرك والمحرّم من الطعام على أساس أن التحرم والتحليل من حق الله وحده.
كذلك تعرضت سورة البقرة لبيان أصول البر بتفصيل عظيم، وبينت بعض التشريع، مع أحكام الصيام، والوصية، وأكل أموال الناس بالباطل، والقتال والقتل، والقصاص، والحج، والخمر والميسر، والنكاح، والطلاق، والرضاع، والعِدة، وغيرها. كما تعرضت للحديث عن العقائد العامة كالرسالة، والتوحيد، والبعث، وتحدثت عن الإنفاق، والربا، والتجارة، وكتابة الدّين. ثم خُتمت السورة بدعاء من المؤمنين لربهم.
هذا مجمل لمحتوى السورة، يمكن اعتباره تلخيصا وتعدادا.
من هذا نرى أن سورة البقرة من أجمع السور، فقد احتوت على أصول العقيدة، وعلى كثير من أدلة التوحيد، كما ذكرت مبدأ خلق الإنسان، ثم وجهت عنايتها إلى أمرين اقتضت الإفاضة فيهما حالة المسلمين عقب هجرتهم من مكة إلى المدينة...
أحدهما : أن المسلمين تركّزوا جماعة مستقلة في المدينة، حيث بنى النبي مسجده لأداء الصلوات المفروضة، وليكون بمثابة ندوة جامعة لهم، فهو مدرستهم ومحكمتهم ودار شوارهم. وذلك بعد أن آخى النبي بين المهاجرين والأنصار، وصاروا جبهة مؤمنة واحدة تحتاج إلى تشريع تنظم به شئونها.
وثانيهما : أن هجرتهم جعلت لهم جوارا في المدينة غير جوارهم في مكة، فهم الآن جيران اليهود بعد أن كانوا جيران المشركين من العرب.
بهذين الأمرين نجد أن السورة تهدف إلى غرضين رئيسَين غير ما سبق.
الأول : توجيه الدعوة إلى الجيران الجدد ومناقشتهم فيما كانوا يثيرونه حول رسالة محمد من تشكيك وشُبه.
والثاني : التشريع الذي اقتضته صيرورة المسلمين جماعة متميزة عن غيرها في عبادتها ومعاملاتها.
وقد تضمنت هذه السورة عدة قواعد منها :
أن اتّباع سبيل الله وإقامة دينه هما الموجبان للسعادة في الدنيا والآخرة، وأنه لا يليق بعاقل أن يدعو إلى البر والفضيلة وينسى نفسه، بل يجب إيثار الخير على الشر في كل حال. وأن أصول الدين ثلاثة وهي : الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالبعث، والعمل الصالح.
أما الجزاء فهو على الإيمان والعمل معا.
وأما شرط الإيمان فهو الإذعان النفسي والتسليم بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما الولاية العامة الشرعية فيجب أن تكون لأهل الإيمان والعدل وحدهم. ويستعان على تحقيق الأمور الجليلة بالصبر والصلاة، وبهما تنتصرُ القلة على الكثرة.
وبصدد ما أحله الله لعباده وما حرمه، فقد أحل لهم الطيبات من المطعم، وحرّم أشياء خبيثة محدودة. ومع ذلك فإن المحرّمات تباح للمضطر، لأن الضرورات تبيح المحظورات، وتقدّر بقدْرها. فالدين مبني على اليسر ورفع الحرج، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
أما الإكراه في الدين فهو ممنوع، فيما القتال مشروع للدفاع، ولتأمين حرية الدين، وسيادة الإسلام في مجتمعه.
وأن للمسلم أن يطلب حظه من الدنيا، كما يؤدي واجبه نحو الآخرة. وأن سدّ الذرائع وتقرير المصالح من مقاصد الشريعة. والإنسان في الإسلام مجزي بعمله لا بعمل غيره، فإذا كان في الأديان دين يجتبي القبيلة بنسبها أو المرء بمولده في أمة معينة، أو يحاسبه على خطيئته يزعم توارثها، فليس في الإسلام إنسان ينجو بالميلاد أو يهلك بالميلاد، ولكنه الدين الذي ترتبط فيه النجاة والهلاك بسعي المرء وعمله، ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ النجم : ٣٩.
ﰡ
وقد جاءت بدايات هذه السوَر على أنواع : منها ما هو حرف واحد، مثل :«ص. والقرآنِ ذي الذِكر »، «ق. والقرآن المجيد »، «ن. والقلمِ وما يسطُرون »، ومنها ما هو حرفان، مثل :«طه ما أنزلنا عليكَ القرآن لتشقى »، «يس والقرآنِ الحكيم »، «حم تنزيلُ الكتاب من اللهِ العزيزِ الحكيم »، ومنها ما هو ثلاثة أحرف أو أكثر، مثل :«ألم »، «المص »، «كهيعص »، و «حم عسق » الخ.
وهذه الحروف أربعة عشر حرفاً، جمعها بعضهم في عبارة «نصٌّ حكيم قاطع له سر ».
والعلماء في تفسير معنى هذه الحروف فريقان :
فريق يرى أنها مما استأثر الله بعلمه. ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم المراد منها، فالله أعلم بمراده.
وفريق يقول : لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما ليس مفهوماً للخلْق. وهؤلاء اختلفوا في تفسير هذه الحروف اختلافاً كثيرا. فبعضهم يقول إنها أسماء للسور التي بدئت بها، وبعضهم يعتبرها رموزاً لبعض أسماء الله تعالى أو صفاته، فالألف مثلاً إشارة إلى أنه تعالى «أحد، أول، آخر، أبدي، أزلي »، واللام مثلا إشارة إلى أنه «لطيف »، والميم إلى أنه «ملك، مجيد، منان » الخ..
أما الرأي الأشهر الذي اختاره المحققون فهو أنها حروف أنزلت للتنبيه على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وفي متناول المخاطَبين به من العرب، فهو يتحداهم أن يصوغوا من تلك الحروف مثله، وهم أمراء الكلام، واللغةُ لغتهم هم.
من هذه الحروف يصوغ البشر كلاما وشعرا، ومنها يجعل الله قرآنا معجزاً، فما أعظم الفرق بين صنع البشر وصنع الله !
ذلك : اسم إشارة للبعيد كنايةً عن الإجلال والرفعة، ولذا لم يقل سبحانه «هذا هو الكتاب ». والمعنى : هذا هو الكتاب الكامل، القرآن، الذي أنزلناه على عبدنا، لا يرتاب في ذلك عاقل منصف، ولا في صدق ما اشتمل عليه من حقائق وأحكام. وقد جعلنا فيه الهداية الكاملة للَّذين يخافون الله ويعملون بطاعته، قد سمت نفوسهم، فاهتدت إلى نور الحق والسعي في مرضاة الله.
و«فيه » هنا لا تفيد الحصر، بل الشمول، لكنه ليس كتاب علم، بالمعنى الحديث، وإنما هو كتاب كامل في الدين. أما ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ﴾ فإنها تعني : من شيء متعلق بالدين، لا بالعلوم الطبيعية التي يستجدّ منها كل عصر نصيب.
المتقون : جمع متقٍ، وهو المؤمن المطيع لأوامر الله. وأصلُ الاتقاء هو اتخاذ الوقاية التي تحجز عن الشر، فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر الله حاجزاً واقيا بينه وبين العقاب الإلَهي،
الذين يصدّقون بما غاب عنهم علمُه، كذات الله تعالى، وملائكته، والدار الآخرة وما فيها من بعث، ونشور، وحساب، وجنة، ونار.
ويقيمون الصلاة : يؤدون الصلاة المفروضة عليهم خاشعين لله، وقلوبهم حاضرة لمراقبة خالقهم. وإقامة الصلاة توفية حقوقها وإدامتها. وقد أمر الله تعالى بإقامة الصلاة، وطلب أن تكون تامة وافية الشروط، فقال :﴿ أَقِمِ الصلاة ﴾، و﴿ والمقيمين الصلاة ﴾.. وهذا يعني أنهم يوفونها حقها. وعندما ذم المنافقين قال :﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [ الماعون : ٤ ]. وفي ذلك تنبيه على أن المصلّين كثير، والمقيمين قليل.
وقد نوه القرآن كثيراً بالصلاة وحثّ على إقامتها في كثير من الآيات، لأثرها العظيم في تهذيب النفوس، والسموّ بها إلى الملكوت الأعلى. وسيأتي تفصيل ذلك في كثير من الآيات...
﴿ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ الرزق كل ما يُنتفع به من المال، والثمار، والحيوان، وغيره. والإنفاق : العطاء.. يعطون من أموالهم التي رزقهم إياها الله إلى المحتاجين، من الفقراء، والمساكين، وذوي القربى، واليتامى، وأمثالهم. وكذلك ينفقون في سبيل الله، للجهاد، وفي الدفاع عن الوطن، ولبناء المساجد، والمدارس، والمستشفيات، ومساعدة كل مشروع فيه نفع للناس. فكما أن الله يرزقهم، يجب عليهم أن ينفقوا، لأن الدنيا أخذ وعطاء. والواقع اليوم أن كثيراً من الناس قد بات همهم جمعَ المال وتكديسه، فأولئك ليسوا من المتقين. وآية الإنفاق هنا أن يكون في وجه الخير ونفع الناس، أما على الترف والمباهاة وفي طريق السفه، فإن الإنفاق تبذير ممجوج يمقته الله، وعلى المسلمين أن يوقفوه، ولو كان ذلك عن طريق العنف.
إن أموال الله التي في يد المسلمين هي لكافّتهم بالخير، لا لقلتهم بالضلالة.
والإنزال هنا : هو الوحي من العليّ القدير. وكذلك يؤمنون بما أُنزل من قبلك على الرسل الكرام من التوراة، والإنجيل، والزبور، والصحف. وبهذا يمتاز الإسلام عن غيره ويفضُله. لأن المسلم الحق يؤمن بجميع الديانات السماوية وجميع الأنبياء والرسل.
﴿ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ اليقين : حقيقةُ العلم، أيقن الأمرَ وبالأمر، تحققه. والذين يصدّقون حق اليقين بأن هناك حياة أخرى بعد الموت، فهم يؤمنون بها إيمانا قاطعاً لا تردد فيه. فهذه صفات المؤمن الحق : الإيمان بالغيب، مع التقوى، وإقامُ الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافاً وشعوراً بالإخاء، وسعة الضمير لموكب الإيمان العريق المتلاحق بالوحي، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن بنبيّ صاحب رسالة، ثم اليقين باليوم الآخر بلا تأرجح في هذا اليقين.
هذه صورة من ثلاثة صور استعرضها القرآن لثلاث فئات :
الأولى التي تقدَّم وصفها هي جماعة المؤمنين، وقد وصفهم الله تعالى في آيتين.
والثانية : الكافرون الجاحدون، وقد وصفهم تعالى أيضا في آيتين.
والفئة الثالثة : المنافقون، وقد ذكرهم الله تعالى في ثلاث عشرة آية.
بهذا يتبين لنا أن الناس أمام القرآن ثلاث طوائف : تقدمت الطائفة المؤمنة.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ٦ )
المفردات
الكُفر : ستر الشيء وتغطيته، ومن كفر فقد غطى الحقيقة، وستر نعم الله عليه، وجحد الإيمان.
إن هؤلاء الكافرين ميئوس منهم، سواء أخوّفتهم يا محمد أم لم تفعل، فهم لا يؤمنون.
الختم : الطبع، كأنما خُتم على قلوبهم فلا ينفذ إليها الإيمان.
والغشاوة : ما يغطى به الشيء.
لقد أُغلقت قلوبهم وطُبع عليها ففي سمعهم ثِقَل وعلى أعينهم حجاب. وذلك ما فسدت به فطرتهم من أوهامهم الضالة، وقصور استعدادهم لإدراك الحق. ﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إليه وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصّلت : ٥ ]. أولئك هم الكافرون، لهم عذاب أليم. فلا يؤثّر فيهم موعظة ولا تذكير ولا يرجى تغيير حالهم، ولا أن يدخل الإيمان في قلوبهم.
هذه هي صورة الطائفة الثانية، وقد بين الله أوصافها في كثير من آيات القرآن وعبر عنها بالكافرين، والفاسقين، والخاسرين، والضالين، والمجرمين.
لقد ظنّوا أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين، ومن ثمَ اتخذوا لأنفسهم وجهين. وما ابتُلي المسلمون في أي زمان ومكان بشّرِ من هذه الطائفة، إنها تدبر المكائد، وتروّج الأكاذيب، وتنفث سموم الشر والفتن. وقد اهتم القرآن بالحديث عنهم، والتحذير منهم، حتى لا نكاد نجد سورة مدنية تخلو من ذكرهم، بل وقد نزلت فيهم سورة كاملة سميت باسمهِم «المنافقون ».
أما هنا فقد جاء فيهم ثلاث عشرة آية تبيّنت فيها صفاتهم، وحقيقتهم، وخطتهم في الضلالة.
هذا شرح وتفصيل لأحوال المنافقين وخداعهم، وهم أخبث الناس، لأنهم ضموا إلى الكفر الاستهزاءَ والخداع والتمويه، فنعى الله عليهم مكرهم وخداعهم بقوله ما معناه : إن بعض الناس قوم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، وهم كاذبون. إنما يقولون ذلك نفاقاً وخوفا من المؤمنين. وهم بعملهم هذا يظنون أنهم يخادعون الله، ظناً منهم أنه غير مطلع على خفاياهم. لكنهم في الواقع إنما يخدعون أنفسهم، لأن ضرر عملهم لاحقٌ بهم. والله يعلم دخائل أنفسهم.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «يخادعون اللهَ والّذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفُسَهم »، وقرأ الباقون «وما يخدعون إلا أنفُسَهم ».
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨:والصورة الثالثة هي صورة المنافقين، الطائفة التي ظهرت في المدينة بعد الهجرة، وبعد أن تركّز المسلمون وقويت شوكتهم، فضعفت هذه الطائفة عن المجاهرة بالكفر والعناد. لذلك ظلوا كافرين في قلوبهم، وإن ظهروا بين المسلمين كالمسلمين، يقولون كلمة التوحيد، ويصلّون كما يفعل المسلمون.
لقد ظنّوا أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين، ومن ثمَ اتخذوا لأنفسهم وجهين. وما ابتُلي المسلمون في أي زمان ومكان بشّرِ من هذه الطائفة، إنها تدبر المكائد، وتروّج الأكاذيب، وتنفث سموم الشر والفتن. وقد اهتم القرآن بالحديث عنهم، والتحذير منهم، حتى لا نكاد نجد سورة مدنية تخلو من ذكرهم، بل وقد نزلت فيهم سورة كاملة سميت باسمهِم «المنافقون ».
أما هنا فقد جاء فيهم ثلاث عشرة آية تبيّنت فيها صفاتهم، وحقيقتهم، وخطتهم في الضلالة.
هذا شرح وتفصيل لأحوال المنافقين وخداعهم، وهم أخبث الناس، لأنهم ضموا إلى الكفر الاستهزاءَ والخداع والتمويه، فنعى الله عليهم مكرهم وخداعهم بقوله ما معناه : إن بعض الناس قوم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، وهم كاذبون. إنما يقولون ذلك نفاقاً وخوفا من المؤمنين. وهم بعملهم هذا يظنون أنهم يخادعون الله، ظناً منهم أنه غير مطلع على خفاياهم. لكنهم في الواقع إنما يخدعون أنفسهم، لأن ضرر عملهم لاحقٌ بهم. والله يعلم دخائل أنفسهم.
الفساد : خروج الشيء عن حد الاعتدال. والصلاح ضده.
وإذا قيل لهؤلاء المنافقين لا تفسدوا في الأرض بالصدّ عن سبيل الله، ونشر الفتن برّأوا أنفسهم من الفساد، وقالوا إنما نحن مصلحون. وما ذلك إلا لفرط غرورهم، الذي أعماهم عن حقيقة كونهم جراثيم الفساد، وأسباب الفتن والبلاء.
الفساد : خروج الشيء عن حد الاعتدال. والصلاح ضده.
وإذا قيل لهؤلاء المنافقين لا تفسدوا في الأرض بالصدّ عن سبيل الله، ونشر الفتن برّأوا أنفسهم من الفساد، وقالوا إنما نحن مصلحون. وما ذلك إلا لفرط غرورهم، الذي أعماهم عن حقيقة كونهم جراثيم الفساد، وأسباب الفتن والبلاء.
وإذا قيل لهم : ادخلوا في الإيمان بهذا الدين العظيم الذي دخل فيه الناس، قالوا ساخرين : أتريدون منا أن نكون مثل هؤلاء الضعفاء السفهاء، نصدّق الأوهام وننقاد للأضاليل ! وذلك لأن كثيراً من المسلمين كانوا من الفقراء والموالي والعبيد، مثل بلال، وصهيب، وسلمان الفارسي. وقد رد الله عليهم قولهم وتطاولهم، وحكَم عليهم بأنهم هم السفهاء، لكنهم لا يعملون حقاً أن النقص والسفه محصور فيهم.
ولقد روي أن عبد الله بن أبيّ بن سلول، رأسَ المنافقين، كان مع أصحابه فقدِم عليهم جماعة من الصحابة. فقال عبد الله لقومه : انظروا كيف أردُّ هؤلاء السفهاء عنكم. فأخذ بيد أبي بكر وقال : مرحبا بالصدّيق، سيد بني تيم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله في الغار. ثم أخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : مرحباً بسيد بني عديّ، والفاروق، القوي في دينه، الباذل نفسه وماله لرسول الله. ثم أخذ بيد عليّ رضي الله عنه فقال : مرحبا بابن عم رسول الله، وختَنِه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله.
فنزلت هذه الآية.
هذا هو عبد الله بن أُبيّ الذي كان الأوسُ والخزرجُ في يثرب يريدون أن يتوّجوه ملكاً عليهم قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما تمت الهجرة وأسلم معظم الخزرج وجميع الأوس، أُلغيت فكرة ملكيته، فحقد عبد الله على الإسلام، وحسد النبي صلى الله عليه وسلم على فضله، لكنه عجز عن إظهار حنقه فنافق، وأصبح يكيد للمسلمين سراً وإن جاهر بالإسلام زوراً.
المِثل والمثَل كالشِبه والشَبه والشبيه، يُستعمل في تمثيل حالة الشيء وبيانه. وللمَثَل وقع كبير مؤثر في الكلام. وقد أكثر القرآن من ضرب الأمثال ﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون ﴾ [ العنكبوت : ٢٩ ].
شبّه الله حال المنافقين بقومٍ أوقدوا ناراً لتضيء لهم وينتفعوا بها، فلما أنارت ما حولهم من الأشياء ذهب اللهُ بنورهم، وترك موقديها في ظلماتٍ كثيفة لا يبصرون معها شيئاً. وذلك لأن الله تعالى قدّم لهم أسباب الهداية فأبصروا وعرفوا الحق بالإيمان، ثم عادوا إلى النفّاق والكفر.
إنهم لم يتمسكوا بهداية الله، فصارت بصائرهم مطموسة بسبب نفاقهم وتذبذبهم، فاستحقوا أن يبقوا في الحيرة والضلال.
والله سبحانه وتعالَى لمّا وصفهم في هذه الآية بأنهم اشتروا الضلالة لأنفسهم بالهدى الذي تخلّوا عنه، مثّل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة لما حولها، ومثل الضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وبقائهم في ظلمات لا يبصرون.
وهذه صورة ناطقة لحال المنافقين، تلوح لهم الدلائل والآيات فتبهرهم أضواؤها، فيهمّون أن يهتدوا، لكنهم إذا خلَوا إلى شياطينهم من اليهود عادوا إلى الكفر والنفاق. ولو أراد الله لأذهب أسماعهم وأبصارهم من غير إرعاد ولا برق، فهو واسع القدرة لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لكنه جاء بالصورة المذكورة تقريباً لغير المحسوس بالمحسوس، ومن باب ضربِ المثل.
إنه مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب، فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة.. والحقّ أن الحركة التي تعمر المشهد كلَّه لَتصوّر موقف الاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون. فيا له من مشهدٍ حيّ يرمز لحالة نفسية، ويجسّم صورة شعورية. وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس.
يا أيها الناس اعبُدوا ربَّكم، الذي أنشأكم وخلقكم، كما خلق الأقوام الذين سبقوكم. إنه خالق هذا الكون وكل شيء فيه. اعبُدوه لعلكم تُعدون أنفسكم وتهيئونها لأن تتطهر بفضل عبادتها له، فيسهُل عليها أن تذعن للحق.
أما فوقنا، فقد جعل السماء وأجرامها وكواكبها المتراصة في نظرنا كالبنيان المشيد. ومن هذه السماء أمدّنا جلّ وعلا بسبب الحياة والنعمة، ألا وهو الماء. أنزله علينا يغيثنا به، فجعله سبباً لإخراج النبات والشجر المثمر.
لذا فإن من عمى البصيرة والبصر أيها الناس أن تجعلوا لله أندادا. فلا تفعلوه. إذ من الغيّ وحده أن تتصوروا أن لله نظراء، ثم تأخذون تعبدونهم كعبادته. إنه خالقكم، ليس له مثيل ولا شريك، وأنتم بفطرتكم الأصيلة تعلمون أنه لا مثيل له ولا شريك، فلا تحرّفوا هذه الطبيعة. نعم إن كثيراً من مشركي العرب كانوا يعتقدون بالإلَه، لكنهم يتذرعون بقولهم : إنما نعبد هذه الأصنام لتُقِّربنا إلى الله.. فهل الله في حاجة إلى وثن يتخذه واسطة بينه وبين عباده ! !
وفي هذه الآية جزء من دلائل الإعجاز في القرآن الكريم، وهو قوله تعالى ﴿ السماء بِنَآءً ﴾، ففي ذلك معنى، ما كان يمكن أن يعرفه النبي الأميّ، إلا بوحي من الله. فالسماء في المعنى العلمي هي : كل ما يحيط بالأرض في أي اتجاه،
وإلى أي مدى، وعلى أية صورة. ويشمل ذلك الجوّ المحيط بالأرض إلى ارتفاعات تنتهي حيث يبدأ الفراغ الكوني الشاسع، بما فيه من الأجرام السماوية المنتشرة في أعماقه السحيقة، على اختلاف أشكالها وأحجامها. وهي تتحرك في نظام بديع عجيب، على أساسه يتوالى ظهورها واختفاؤها لسكان الأرض. وهي جميعاً في دورانها وترابطها بقوى الجاذبية، كالبنيان في تماسكه واتزانه، وتدّرجه طبقة بعد طبقة.
وكل هذا لم يكن معروفاً للعلم في عصر محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي الجزء الأدنى من السماء، وهو الحد المحيط بالأرض، القريبُ منها مباشرة- توجد الطبقات الجوية المختلفة الواقية من الإشعاعات الضارة عن أرجاء الكون، والتي لا تسمح إلا للأشعة المنيرة منها بالنفاذ، فهي كالمضلات الواقية. وفي هذه الطبقة يكون السحاب ومنه المطر.
فإن لم تستطيعوا أن تأتوا بسورةٍ من مِثلِ سوَر القرآن، ولن تستطيعوا ذلك بحال من الأحوال، لأن القرآن كلام الله الخالق، فهو فوق طاقة المخلوقين- فالواجب عليكم أن تجتنبوا ما يؤدي بكم إلى عذاب الآخرة، وإلى النار التي سيكون وقودها الكافرين من الناس، والحجارة من أصنامكم، والتي أعدّها الله لتعذيب الجاحدين أمثالكم.
ولقد سجل القرآن على المشركين المكابرين واقع العجز الدائم عن الإتيان بمثل هذا القرآن، بل جزءٍ منه أو سورة واحدة. وذلك من إعجاز القرآن. لأن التحدي ظل قائماً في حياة الرسول الكريم، رغم وجود الفصحاء والبلغاء من خطباء العرب وشعرائهم وكبار متحدثيهم. ولا يزال قائماً إلى يومنا هذا، والى يوم الدين. وحيث عجز بلغاء ذلك العصر وفصحاؤه، فإن سواهم أعجز.
وفي هذا أكبر دليل على أن القرآن ليس من كلام البشر، بل هو من الخالق العظيم، أنزله تصديقاً لرسوله محمد بن عبد الله، الرسول الأميّ الذي لم يجلس إلى معلم، ولم يدخل أية مدرسة.
ضربُ المثل، إيرادهُ، ليُتمثل به، ويُتصوّر ما أراد المتكلم بيانه. يقال : ضرب الشيءَ مثلاُ، وضرب به مثلاً، وتمثّله به. وقد وردت عبارة ضرب المثل في القرآن في عدة آيات :﴿ واضرب لهُمْ مَّثَلاً ﴾ [ الكهف : ٣٢ ] ﴿ يا أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ... ﴾ [ الحج : ٧٣ ].. ﴿ واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية ﴾ [ يس : ١٣ ].
وهذه الآية جاءت رداً على الكفرة المعاندين، حيث قالوا : أما يستحي ربُّ محمد أن يضرب مثَلاً بالذباب والعنكبوت ! فبّين الله تعالى أنه لا يعتريه ما يعتري الناسَ من استحياء، فلا مانع من أن يصوّر لعباده ما يشاء من أمورٍ، بأي مثل مهما كان صغيرا، بعوضة فما فوقها. فالذين آمنوا يعلمون أن هذا حق من الله، أما الذين كفروا، فيتلقّونه بالاستنكار. وفي ذلك يكون المثل سبباً في ضلال الذين يجانبون الحق، وسبباً في هداية المؤمنين به.
وعهدُ الله هو العهد الذي أنشأه في نفوسهم بمقتضى الفطرة، تدركه العقول السليمة، وتؤيده الرسل والأنبياء.
أما نقضُهم له، فهو أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يكون موصولا، كوصل الأقارب وذوي الأرحام، والتوادّ والتراحم بين بني الإنسان، وسائر ما فيه عمل خير. وعلاوة على ذلك تجدُهم يفسدون في الأرض بسوء المعاملة، وإثارة الفتن، وإيقاد الحروب، وإفساد العمران.
وجزاء هؤلاء أنهم هم الخاسرون، لكل توادٍّ وتعاطف وتراحم بينهم وبين الناس في الدنيا، ولهم الخزي والعذاب في الآخرة.
والعبادة الكاملة هي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.
على هذا درج القرآن يوقظ العقول، وينبّه الناس إلى هذه الأصول. فهو يُوجّه الأنظار على الدوام إلى الأدلة الكونية الدالة على حقيقة الدعوة، واستبعاد أن يكفر إنسان ذو عقل بها، بعد ثبوتها في الأنفس والآفاق :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله.. ﴾ إن حالكم تثير العجب ! كيف تكفرون أيها المشركون والجاحدون ولا توجد شبهة تعتمدون عليها في كفركم ؟ إنكم لو نظرتم في أنفسكم، وعرفتم كيف كنتم وإلى أين سترجعون، لأفقتم من غفلتكم هذه.
لقد كنتم أمواتا في حالة العدم، فخلقكم الله ووهبكم هذه الحياة، جاعلاً إياكم في أحسن تقويم. ثم إنه تعالى يعيدكم أمواتا، ثم يعيدكم أحياء للحساب والجزاء يوم القيامة، إنّكم إليه لا إلى غيره تعودون.
ولكلمة «استوى » عدة معانٍ، فيقال : استوى الشيء أي، اعتدل، وسوّيت الشيءَ فاستوى : عدلته فاعتدل، واستوى الطعام : نضح، والعود : استقام، والرجل : انتهى شبابه وبلغ أشُدَّه واستقام أمره. واستوى على دابّته : استقر، وعلى سرير الملك : جلس واستولى عليه، واستوى إلى الشيء : قصد.
يصح أن يراد بِ «سَبْع سماواتٍ » الطبقات المختلفة لما يحيط بالأرض. وذلك أن الله تعالى بعد أن أكمل تكوين الأرض ودبّت الحياة على سطحها، كيَّف سبحانه جَوَّ الأرض المحيط بها بما يلائم هذه الحياة، ويحفظها من أهوال الفضاء. وهكذا كانت طبقات الجو المختلفة، ودوائر التأمين في الفراغ الكوني الذي يحدثنا العلم عن بعضها. والحق أن هذه الطبقات لم تُعرف إلا من جديد، ولا يزال علم الفلك حتى الآن في طفولته، فأنى لمحمد أن يعلم هذه الأمور إلا من الله العليّ الحكيم ! لقد بعثه بالحق، وأنزل عليه الوحي، وعلّمه بالقرآن ما لم يكن يعلم.
ويعتبر بعض العلماء هذا النوع من القصص في القرآن من المتشابه الذي لا يمكن حمله على ظاهره، ذلك أن هذه الآيات بحسب قانون التخاطب، إما أن تكون استشارة، وذلك محال على الله تعالى، وإما أن تكون إخباراً منه سبحانه وتعالى للملائكة واعتراضاً منهم ومحاجّة وجدالا، وذلك لا يليق بجلال الله ولا بملائكته الذين ﴿ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ].
وللعلماء في هذا النوع من المتشابه طريقتان :
الأولى : طريقة السلَف، وهي : التنزيه كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] وقوله تعالى :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ]، وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك، مع العلم بأن الله يعلّمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به من أعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرّب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيّلاتنا.
والثانية : طريقة الخلَف، وهي : التأويل، يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وُضعت على أساس العقل. فمن ثمَ لا يخرج شيء منها عن المعقول، فإذا ورد في القرآن أو الحديث شيء يخالف العقل حسُن تأويله، حتى يقرب إلى الأذهان.
وعلى هذا قالوا : إن قصة الخلق إنما وردت مورد التمثيل، لتقريبها من أذهان الناس، ولفْهم حالة خَلق الإنسان وحال النشأة الأولى. لذا بيّن الله سبحانه أنه هو الذي أحيا الإنسان ومكّن له في الأرض، ثم بين بعد ذلك أصل تكوين الإنسان وما أودع فيه من عِلم الأشياء وذكّره به... فاذكر يا محمد نعمةً أخرى من ربك على الإنسان، وهي أنه قال للملائكة : إني جاعل في الأرض من أمكّنه فيها وأجعله صاحب سلطان، وهو آدم وذريته. وإنها لمنزلة عظيمة وتكريم كبير لهذا الإنسان !
فاستفهم الملائكة عن سر ذلك قائلين : أتجعل في الأرض من يُفسد فيها بالمعاصي وسفك الدماء بالعدوان، لما في طبيعته من شهوات، بينما نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ونطهّر ذكرك ونمجّدك ؟ فأجابهم الله بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون من المصلحة في ذلك، لقد أودعتُ فيه من السر ما لم أودعه فيكم.
وفي هذا إرشاد للملائكة وللناس أن يعلموا أنّ أفعاله تعالى كلّها بالغةٌ غايةَ الحكمة والكمال، وإن لم يفهموا ذلك من أول وهلة.
وقال فريق من المفسرين : إن قول الملائكة :«أتجعل فيها من يُفسد في الأرض ويسفك الدماء » يُشعر بأنه كان في الأرض صنفٌ أو أكثر من نوع الحيوان الناطق، وأنه كان قد انقرض يوم خلْق الإنسان، وقدّر الملائكةُ أن الصنف المستخلَف الجديد، أي آدم وذريته، لن يسلك إلا مثل ما سلك سابقوه، وقاسوا فعله اللاحق على فعل السلف السابق، من إفساد وسفك دماء..
من ثم استنبطوا سؤالهم وكأنه اعتراض، مع أنه تقرير مبني على قياس. وإذا صحّ هذا، فليس آدم أول الصنف العاقل من الحيوان على هذه الأرض، وإنما كان أول طائفة جديدة من الحيوان الناطق تماثل الطائفة البائدة منه في الذات والمادة، كيما يصح القياس.
وهذه الآية تجلّي حجة الرسول ودعوته من حيث أنه : إذا كان الملائكة محتاجين إلى العلم، ويستفيدونه بالتعلم من الله تعالى بالطريقة التي تناسب حالهم، فإن البشر أولى منهم في إنكار مال لم يعرفوه حتى يعلموا، وأن الإفساد في الأرض وجحود الحق ومناصبة الداعي إليه العداءَ- ليس بدعاً من قريش، وإنما هو طبيعة البشر.
والملائكة والملائك جمع : مَلك، نؤمن بوجودهم، ولا نعرف عنهم إلا ما ورد في الكتاب، إنهم أرواح علوية مطهّرة، يعبدون الله، لا يعصون الله ما أمَرَهُم ويفعلون ما يُؤمرون.
ولفظة ملَك في اللغة مَعناها : الرسالة. ويقول الطبري : سُميت الملائكة ملائكةً بالرسالة، لأنها رُسل الله إلى أنبيائه.
نسبّح بحمدك : نصلّي لك، وننزهك، ونبرّئك مما يضيفه إليك أهل الشرك. ونقدس لك : نعظّمك ونمجّدك. وكل ذلك إقرارا بالفضل وشكرانا لله على خلقهم.
وقال السهيلي في «الروض الأُنُف » : قيل : إن آدم عربي، أو عبراني، أو سرياني، ( وهذا ظنّ مردود، والحقيقة لا يعلمها إلا الله ).
وعلّمه أسماء جميع الأشياء وخواصها، وأودع في نفسه علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين، ( ونحن نصرف ذلك إلى أنه أودع فيه القدرة على الإدراك والتمييز، لا علّمه لفظاتٍ معينة في لغة بعينها ).
وبعد أن علّمه أسماء الأشياء وخواصها، ليتمكن في الأرض- عرض هذه الأشياء على الملائكة، وقال لهم : أخبروني بأسماء هذه الأشياء وخواصها، إن كنتم صادقين في ظنّكم أنكم أحقُّ بخلافة الأرض من هذا المخلوق الجديد، انطلاقا من واقع طاعتكم لي وعبادتكم إياي.
فأجاب آدم وأظهر فضله عليهم، فقال الله تعالى مذكّراً لهم بإحاطة علمه : ألم أقل لكم إني أعلم كل ما غاب في السماوات والأرض، وأعلم ما تُظهرون في قولكم، وما تخفون في نفوسكم ! !
وفي هذه الآية دليل على شرف الإنسان على غيره من سائر المخلوقات، حتى الملائكة، وأنه أفضلهم. وفيها دليل على فضل العلم على العبادة، وأن العلم أساسٌ مهم في الخلافة في هذه الأرض، فالأعلم هو الأفضل، يؤيد ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الزمر : ٩ ]. ولقد قام الدين الإسلامي على العلم، فلمّا تأخر المسلمون عنه، تقدّمهم غيرُهم.
وقد جاء السجودُ في القرآن بمعنى غير العبادة كما هو هنا، وفي سورة يوسف ﴿ وَرَفَعَ أبويْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾ [ ١٠٠ ] أي : تحيةً، كما هي العادة التي كان الناس يتبعونها في تحية الملوك والعظماء.
ولقد سجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى وامتنع، لقد استكبر، فلم يطع أمر الحق، ترفعاً عنه، وزعماً بأنه خيرٌ من آدم، كما ورد في سورة الأعراف ﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ [ ١١ ]. وكان من الكافرين بِنِعم الله وحكمته وعلمه.
وقد التبسَ على بعض الغربيّين أمرُ السجود، وذلك ديدنُهُم في النقد كلّما وجدوا له فرصة في قصص القرآن. قال : " بابيني " الإيطالي صاحب كتاب " الشيطان " : " إنه يستغرب أن يؤْمر إبليس بالسجود لآدم مع غلوّ القرآن في تحريم الشِرك وتنزيه الوحدانية الإلَهية ". فهو إما أنه لا يعرف أن السجود قد يكون للتحية والتكريم، أو أنه من أولئك المتعصّبين الذين لا يريدون أن يفهموا. وهؤلاء لا حيلة لنا معهم، وهم في الغرب كثيرون.
وإبليس : أشهر اسم للشيطان الأكبر، ومن أشهر أسمائه في اللغات : " لوسيفر "
و " بعلزبول " و " مغستوفليس " و " عزازيل ". وقد تقدم أن الشيطانَ كل عاتٍ ومتمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء، وهذه الأسماء تمثل قوةَ الشر الكبرى في العالم في موقفها أمام عوامل الخير والكمال.
والشيطان كلمةٌ عربية أصيلة، لأن اللغة اشتملت على كل أصل يمكن أن يتفرع منه لفظ الشيطان، ففيها مادة شط وشاط وشطَنَ وشَوَط، وكل هذه الألفاظ تدل على البُعد والضلال والتلهُّب والاحتراق. وهي تستوعب أصول المعاني التي تُفهم من كلمة شيطان. وقد كان العرب يسمّون الثعبان الكبير شيطاناً، وبذلك فسّر بعض المفسّرين قوله تعالى :﴿ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين ﴾ [ الصافات : ٦٥ ] أي : الأفاعي، وورد كثيرا في الشعر العربي.
ويرى بعضهم أن " إبليس " مأخوذ من الإبلاس، ومعناه : النَّدم والحُزن واليأس من الخير.
فيما يقول بعضهم : إنه أعجمي..
لكنه على كل حال يدل على الفتنة والفساد.
وإبليس من الجن، لما ورد بصراحة في القرآن ﴿ وَإذا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [ البقرة : ٣٤.. ].
قال الزمخشري :«جنّيُّ الملائكةِ والجن واحد، لكن من خَبُثَ من الجن وتمرد شيطان، ومن تطهّر ملَك ». وقال الراغب :«الجن يقال على وجهين أحدهما للروحانيين المستترين عن الحواس كلها بإزاء الإنس، فعلى هذا تدخل فيه الملائكة كلها ».
ويقول في تفسير المنار :«وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة والجن فصلاً جوهرياً يميز أحدهما عن الآخر، وإنما هو اختلاف أصنافٍ عندما تختلف أوصاف، كما ترشد إليه الآيات. وعلى كل حال فإن جميع هذه المسمّيات بهذه الأسماء من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها »، فعلينا أن نؤمن بها كما وردت.
ولا يهمنا إن كان إبليس من الملائكة أو من الجن، فهذا جدلٌ لا طائل تحته، والمهم أنه عصى ربه، وأصبح عنواناً على الشر والطغيان.
أما الخلف فيلجأون إلى التأويل، وأمثلُ طرقه في هذا المقام التمثيل.
وقد مضت سنّة الله في كتابه أن يُبرز لنا الأشياء المعنوية في قوالب العبارة اللفظية، ويبين لنا المعارف المعقولة بالصور المحسوسة، تقريباً للأفهام. ومن ذلك أنه عرّفنا قيمة أنفسنا، وما أُودعته فطرتُنا مما تمتاز به على سائر المخلوقات. فعلينا والحال هذه أن نجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي خلقنا الله مستعدّين لها من دون الملائكة وسائر الخلق.. بذلك تظهر حكمته فينا، ونشرف، على معنى إعلام الله الملائكةَ بفضلِنا عليهم، ومعنى سجودهم لأصلنا.
فمجمل الآيات السابقة أن هذا العالَم لما استعدّ لوجود هذا النوع الانساني، واقتضت الحكمة الإلَهية استخلافه في الأرض- أعلم الله تعالى الملائكةَ بذلك، وقدّر الملائكة أنه يفسد النظام ويسفك الدماء، حتى أعلمهم الله أن علمهم لم يحط بمواقع حكمته. ثم أوجد آدم وفضّله بتعليمه الأسماء كلها، فيما كلُّ صنف من الملائكة لا يعلم إلا طائفة محدودة منها. لذلك أمرهم الله بالخضوع لآدم فأطاعوه، إلا روحاً واحداً هو مبعث الشر، أبى الخضوع، واستكبر عن السجود. فكان بذلك من الكافرين.
ومجمل الآيات هنا : أن الله تعالى لما خلق آدم وزوجته، أسكنهما الجنة، وقال لهما : اسكنا فيها، وكُلا منها ما تشاءان، من أي مكان وأي ثمر، ولا تقربا شجرة معينة، لتأكلا منها، وإلا كنتما من الظالمين العاصين.
والجنة المرادة هنا أمرٌ اختلف فيه المفسرون. فقال بعضهم : إنها جنة الخُلد، أي : دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة. قال ابن تيمية «وهذا قول أهل السنّة والجماعة، ومن قال غير ذلك فهو من الملحِدة »، ولا أدري كيف يجرؤ غفر الله له على هذا القول ويجعل من قال به ملحِدا، وعلى رأس القائلين بذلك إمامان جليلان هما : أبو حنيفة، والماتريدي، وكثيرون غيرهم.
وقال كثيرون : إن تلك الجنة بستان في الأرض وليست هي جنة الخلد. وعلى هَذا جرى أبو حنيفة، وتبعه أبو منصور الماتريدي في تفسيره حيث قال :«نحن نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين، كان آدم وزوجته منعمين فيها، وليس علينا تعيينها، ولا البحث عن مكانها ».
وقال الألوسي في تفسيره روح المعاني : ومما يؤيد هذا الرأي :
٠١ -أن الله خلق آدم في الأرض، ليكون خليفة فيها هو وذريته.
٠٢ - أنه تعالى لم يذكر أنه بعد خلْق آدم في الأرض عرج به إلى السماء، ولو حصل لذُكر، لأنه أمر عظيم.
٠٣- أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلاَّ المتقون المؤمنون، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة !
٠٤- أنها دار للنعيم والراحة، لا دار تكليف، - وقد كُلف آدم وزوجه ألا يأكلا من الشجرة.
٠٥- أنه لا يُمنع من في الجنة من التمتع بما يريد منها.
٠٦- أنه لا يقع فيها العصيان والمخالفة، لأنها دار طهر، ولا دار رجس.
وعلى الجملة، فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها لا تنطبق على هذه الجنة التي سكنها آدم، وطرد منها.... ».
أما الشجرة التي نُهي آدم وزوجه أن يأكلا منها، فلم يبيّن الله في كتابه نوعها، ولم يَرد في السنّة الصحيحة تعيينها، فلا نستطيع أن نعيّنها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع.
وقال الأستاذ العقاد في كتابه المرأة في القرآن :«إن قصة الشجرة الممنوعة التي أكل منها آدم وحواء، هي الصورة الإنسانية لوسائل الذكَر والأنثى في الصلة الجنسية بين عامة الأحياء، الرجل يريد ويطلب، والمرأة تتصدى وتغري. وتتمثل في القصة بداهة النوع في موضعها، أي حيث ينبغي أن تتمثل أول علاقة بين اثنين من نوع الإنسان.
وقد وردت القصة في القرآن في ثلاثة مواضع. ووردت في الإصحاح الثالث من سِفر التكوين. وفي الإصحاح الحادي عشر من العهد الجديد في كتاب كورنثوس الثاني، والإصحاح الثاني في تيموثاوس.
وهي تعبّر برموزها السهلة عن بداهة النوع المتأصلة في إدراكه للمقابلة بين الجنسين، وعن دور كل منهما في موقفه من الجنس الآخر، على الوجه الوحيد الذي تتم به إرادة النوع، والمحافظة على بقائه.
وخلاصة القول : إن ثمرات هذه الشجرة هي ثمرات التكليف بجميع لوازمه ونتائجه، وما كان الفارق بين آدم قبل الأكل منها وبعد الأكل، إلا الفارق بين الحياة في دعة وبراءة، والحياة المكلّفة التي لا تخلو من المشقة والشقاق، والامتحان بالفتنة، ومعالجة النقائص والعيوب. وكلّما تكررت القصة في الآيات القرآنية كان في تكرارها تثبيت لهذا المعنى على وجه من وجوهه المتعددة. يبدو ذلك جلياً من المقابلة بين ما تقدم، وما جاء عن هذه القصة في سورة الأعراف، وذلك حيث يُذكر التصوير بعد الخلق، أو إعطاء الصورة بعد إعطاء الوجود...
وأما قضية عصيان آدم ومخالفته، فقد تكلم فيها المفسرون والمستشرقون الغربيون، وتخبطوا في ذلك، والحق أن قليلاً من النقاد الغربيين من يفطن للخاصة الإسلامية التي تتمثل في قصة آدم هذه. إذ الغالب في أوساطهم أن يتكلموا عن زلة آدم فيسمّوها " سقوطا " ثم يرتبوا عليها ما يترتب على السقوط الملازم لطبيعة التكوين. هذا مع أنه ليس في القرآن أثر قط للسقوط بهذا المعنى في حق كائن من الكائنات العلوية أو الأرضية، وإنما هو انتقال الإنسان من حال إلى حال، أو من عهد البراءة والدعة إلى عهد التكليف والمشقة.
وجوهر المسألة في القصة أن القرآن الكريم لم يذكر قط شيئاً عن سقوط الخليقة من رتبة إلى رتبة دونها، ولا سقوط الخطيئة الدائمة بمعنى تلك التي يدان فيها الإنسان بغير عمله. إنه لا يعرف إرادةً معاندة في الكون لإرادة الله يكون من أثرها أن تنازعه الأرواحَ وتشاركه في المشيئة وتضع في الكون أصلاً من أصول الشر.
لقد جاء الإسلام بهذه الخطوة العظمى في أطوار الأديان، فقرر في مسألة الخير والشر والحساب والثواب أصحَّ العقائد التي يدين بها ضمير الإنسان، وقوام ذلك عقيدتان :
أولاهما : وحدة الإرادة الإلَهية في الكون.
والثانية : ملازمة التبعة لعمل العامل دون واسطة أخرى بين العامل وبين ضميره وربّه ».
وقد جاءت هذه الآيات ليعتبر الخلقُ ببيان الفطرة الآلهية التي فَطَر الله عليها الخلق، الملائكة والبشر، وليدركوا أن المعصية من شأن البشر، فكأنه تعالى يقول : لا تأسَ يا محمد على القوم الكافرين، ولا تبخع نفسك على أن لم يؤمنوا برسالتك، إن الضعف موجود في طبائعهم.
انظر ما وقع لآدم، وما كان منه، وسنّة الله لا تتبدل.
وقد استقر أمر البشر على أن سعادتهم في اتّباع الهداية الإلَهية، وشقاءهم في الانحراف عن سبلها.
وفيها يتبين أن من تمام التوكيد لحدود التكليف في هذه القصة أن خطاب آدم به لا يغني عن خطاب بنيه وأعقابه، فهو مكلَّف وهم مكلَّفون، وخطيئته لا تُلزمهم وتوبته لا تغنيهم. أما مولدهم منه فإنما يُخرجهم على سنَة الأحياء المولودين حيث يحيون وحيث يكّرمون ويموتون.
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ﴾ عن طريق رسولٍ مرشد، وكتاب مبين، فإن لكم الخيار. فمن تبع هداي الذي أشرعه، وسلَكَ صراطي المستقيم الذي أوضحه، ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ من وسوسة الشيطان، وما يعقبها من الشقاء والعذاب بعد يوم الحساب والعرض على الملك الديّان، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على فوت مطلوب، أو فقد محبوب، لأنهم يعلمون بهذه الهداية أن الصبر والتسليم، مما يرضى الله ويوجب مثوبته، فيكون لهم من ذلك خير عوض عما فاتهم، وأفضل تعزية عما فقدوه.
والهبوط في «اهبطوا » أصله : الانحدار على سبيل القهر، ويجوز أن يُقصد به هنا مجرد الانتقال، كما في قوله تعالى :«اهبطوا مصراً » أي : ارتحِلوا إليها.
وقد أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرّتين :
الأولى : للإشارة إلى أنهم يهبطون من الجنة إلى دار بلاء وشقاء، ودار استقرار في الأرض، للتمتع بخيراتها إلى حين.
والثانية : لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية، وأنهم ينقسمون فريقين : فريق يهتدي بهدى الله الذي أنزله وبلّغه للناس على لسان رسُله، وفريق سار في الضلال وكذّب بالآيات، فحق جزاؤهم في جهنم خالدين فيها أبدا. وهم المشار إليهم بقوله تعالى :﴿ والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتنَآ أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٨:أي : آدم وحوّاء وإبليس، فقد انتهى طور النعيم الخالص الذي كنتم فيه، وادخلوا في طور لكم فيه طريقان : هدًى وإيمان، وضلال وخسران.
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ﴾ عن طريق رسولٍ مرشد، وكتاب مبين، فإن لكم الخيار. فمن تبع هداي الذي أشرعه، وسلَكَ صراطي المستقيم الذي أوضحه، ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ من وسوسة الشيطان، وما يعقبها من الشقاء والعذاب بعد يوم الحساب والعرض على الملك الديّان، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على فوت مطلوب، أو فقد محبوب، لأنهم يعلمون بهذه الهداية أن الصبر والتسليم، مما يرضى الله ويوجب مثوبته، فيكون لهم من ذلك خير عوض عما فاتهم، وأفضل تعزية عما فقدوه.
والهبوط في «اهبطوا » أصله : الانحدار على سبيل القهر، ويجوز أن يُقصد به هنا مجرد الانتقال، كما في قوله تعالى :«اهبطوا مصراً » أي : ارتحِلوا إليها.
وقد أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرّتين :
الأولى : للإشارة إلى أنهم يهبطون من الجنة إلى دار بلاء وشقاء، ودار استقرار في الأرض، للتمتع بخيراتها إلى حين.
والثانية : لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية، وأنهم ينقسمون فريقين : فريق يهتدي بهدى الله الذي أنزله وبلّغه للناس على لسان رسُله، وفريق سار في الضلال وكذّب بالآيات، فحق جزاؤهم في جهنم خالدين فيها أبدا. وهم المشار إليهم بقوله تعالى :﴿ والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتنَآ أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
أما إسحاق، فمن أصل «يتسحك » العبري ومعناه : يضحك. وقد اعترض الكثير من علماء اللاهوت الأوروبيين على التسمية بصيغة «الفعل » حتى شكّوا في الأصل.
وبنوه : ذريته، وهم الأسباط الاثنا عشر، ويسمَّون العبرانيين أيضا لعبورهم نهر الأردن. وهم منتشرون في العالم كله، حيث اختصوا بالنشاطات السهلة الكبيرة المردود، وكانوا يقدَّرون قبل الحرب العالمية الثانية بنحو ستة عشر مليوناً، هلك منهم في الحرب نحو خمسة ملايين كما يزعمون. ويتكلم أكثرهم اللغة الإيديّة، وهي لغة أقلِّيَةٍ، أساسُها الألمانية ممتزجة بكلمات عبرية، والعبرية لغتهم الأولى وهي إحدى اللغات الساميّة.
ويبدأ تاريخهم المعروف بإقامة فريق منهم في «غوش » في الشمال الشرقي من مصر، منذ عدة قرون قبل المسيح، أيام رمسيس الثاني، وكانوا زرّعا، وقد لاقوا في مصر بعض العنَت إلى أن خرج بهم موسى، وفي طور سيناء أبلغهم الوصايا العشر فلم يحفظوها، ثم تاهوا في الصحراء سنين عديدة قبل أن يستولوا على قسمٍ من أرض كنعان استقروا فيه.
وكانوا منقسمين إلى قبائل، على رأس كل واحدة شيخ قبلي وكاهن يسمّونه القاضي، هذا هو نظام القضاة. ولقد حاربوا الفلسطينيين القادمين من كريت، بقيادة شاؤول، فهزمهم هؤلاء، ثم جاء داود ووحّدهم وانتصر بهم على أعدائه، وحقّق لشعبه السلام والرفاهية.
وعقبه سليمان الذي بنى أول هيكل، ثم انقسم بعده اليهود إلى أسباط الشمال بقيادة يربعام، وكونّوا مملكة السامرة، وأسباط الجنوب تحت قيادة ابن سليمان وكونوا مملكة يهوذا.
ودارت الحرب بين المملكتين مدة طويلة، ثم استولى الآشوريون على المملكتين، ونفوا كثيرا من اليهود، ثم استولى عليهما المصريون، ومن بعدهم البابليون الذين هدموا الهيكل سنة ست وثمانين وخمس مائة قبل الميلاد، وأخذوا اليهود أسرى إلى بابل. وقد بقوا هناك حتى سمح لهم قورش الفارسي بالعودة، وأعادوا بناء هيكلهم مرة أخرى سنة ستة عشر وخمس مائة قبل الميلاد.
وفي العصر الهليني كانوا جماعة دينية لا كيان لهم، واستعادوا استقلالهم السياسي تحت المكابيين. ثم أدى النضال بين الفريسيين والصدوقيين، وهما من أهم الفرق اليهودية، إلى أن تدخّل الرومان الذين استولوا على البلاد من البطالسة، وهدموا أورشليم سنة سبعين للميلاد.
وفي القرون الوسطى وقع على اليهود من قبل الأوروبيين اضطهاد شديد استمر حتى القرن الثامن عشرللميلاد. لقد حُرّم عليهم امتلاك الأرض، وممارسة كثير من المهن الحرة، ولم يُترك لهم إلا التجارة الصغيرة وتسليف النقود، لذا تجمعت شراذمهم في أحياء خاصة بهم.
وقد طرد كثير منهم من فرنسا وانجلترا واسبانيا والبرتغال، ولجأوا إلى هولندا وبلاد الإسلام حيث عاشوا آمنين.
ثم أخذت الرأسمالية بيدهم في القرن الثامن عشر للميلاد، وأصبحوا وراء الأعمال الاقتصادية الكبرى.
وقد أدى تحررهم التدريجي إلى ظهور تيارين متعارضين في أوساطهم : أولهما : يدعو إلى رسالة ثقافية، وعلى رأسه موسى مندلسون، والثاني : يدعو إلى رسالة سياسية هي الصهيونية، وعلى رأسه ثيودور هرتزل ١٨٩٦. وقد نشط التيار الثاني، وسعى معتنقوه إلى المطالبة بدولة يهودية في فلسطين، حتى نجحوا في ذلك بمساعدة الدول الغربية المسيحية، وما مساعدتها هذه إلا حركة امتداد للحروب الصليبية الغابرة.
هكذا وُجدت الحركة الصهيونية الرامية إلى إقامة دولة يهودية على غرار الدولة القديمة التي قضت عليها روما. وقد سعى زعيمها هرتزل سعياً حثيثاً لجمع المال والرجال وعقد أول مؤتمر لجماعته في مدينة بال بسويسرا، وفي ذلك المؤتمر قال هرتزل :«الآن خُلقت دولة إسرائيل »، فقد قرر المؤتمرون تكوين منظمات صهيونية في البلاد التي يقطنها عدد كاف من اليهود، وقام بأمر الصهيونية من بعده زعماء آخرون، أمثال : ماكسي نوردو، وحاييم، وايزمان. وتعاقبت مؤتمراتها، وتحمس لها يهود شرق أوروبا، وأمدها يهود أمريكا بالمال.
وتطلعت الصهيونية إلى فلسطين، ثم جاء وعد بلفورالوزير الانجليزي سنة ١٩١٧ الذي سمح لليهود أن يكون لهم وطن قومي في فلسطين، فعزز آمال الصهاينة، من ثم بدأت هجرة اليهود إلى فلسطين سنة ١٩٢٣، وزادت في عهد الانتداب الانجليزي بالتواطؤ، وقد شجّعت على ذلك حركات الاضطهاد في أوروبا كالحركة النازية.
وفي سنة ١٩٤٥ أوقف الانجليز الهجرة، ولكن بعد أن أصبح عدد اليهود في فلسطين خطرا على العرب. ثم كانت المشكلة الفلسطينية الكبرى التي عُرضت على هيئة الأمم، فقررت تقسيم فلسطين بين العرب واليهود في ١٤ يونيه ١٩٤٨.
ولم يقبل العرب هذا التقسيم لأنه هدرٌ لحقهم في وطنهم، ورغم ذلك أُعلنت الدولة اليهودية في ذلك التاريخ. وقامت الحرب بين أهل فلسطين واليهود حتى دخلت جيوش الدول العربية، ولم يكن العرب على استعداد للحرب، أما اليهود فكانوا قد أعدوا كل شيء، بفضل الدول الغربية. لذا أخذوا أكثر من القسم الذي خصصه لهم قرار التقسيم.
ولا تزال الحالة متوترة والحرب قائمة، ولن تهدأ حتى يسترد الفلسطينيون حقوقهم كاملة. والله نسأل أن يلهمنا رشدنا، ويوحّد صفوفنا بقوة من عنده. ولابد من نصرِنا عليهم طال الزمن أو قصر.
بعد أن استعرض سبحانه وتعالى في أوائل هذه السورة الكتابَ الحكيم، وأنه لا ريب فيه، بيّن أصناف البشر من مؤمن، وكافر، ومنافق. ثم طالب الناس بعبادته. ثم أقام الدليل على أن الكتاب مُنزل من عند الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى المرتابين أن يأتوا بمثله. ثم حاجّ الكافرين. ثم ذكر خلق السماوات والأرض، وأن جميع ما في الأرض من منافع هي للإنسان.
وهنا خاطب الشعوب والأمم التي ظهرت بينها النبوة، فبدأ بذِكر اليهود لسببين :
الأول : أنهم أقدم الشعوب التي أُنزلت عليها الكتب السماوية، والثاني : لأنهم كانوا أشد الناس حقداً على المؤمنين في المدينة المنورة، كان اليهود في المدينة وشمال الحجاز، في خَيبر وغيرها، يكيدون للإسلام، ويوغرون صدور المشركين على النبي والصحابة، فذكّرهم الله تعالى بنعمته عليهم، إذ جعل النبوة فيهم زمناً طويلا، وطلب إليهم القيام بواجب شكرها، وكأنه يسألهم أن أوفوا بوعدي الذي أخذتُه علكيم، وأقررتموه على أنفسكم، وهو الإيمان والعمل الصالح والتصديق بمن يجيء بعد موسى من الأنبياء- حتى أوفي بوعدي لكم، وهو حسن الثواب والنعيم المقيم.
وهذه الآية تشير إلى وجوب وفاء كلا المتعاقدين بما عليه من التزام، فإذا أخلّ أحدهما بالتزامه سقط وجوب الوفاء عن الآخر.
﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآياتي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ أي : لا تُعرِضوا عن التصديق بالنبيّ، وما جاء به، وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل، الذي يستفيده الرؤساء من مرؤوسيهم من مالٍ وجاه، ويرجوه المرؤوسون من الحظوة باتباع الرؤساء خشية سطوتهم إذا ما خالفوهم. كذلك اتقوني بالإيمان، واتّباع الحق، والإعراض عن لذات الدنيا متى شغلت عن أعمال الآخرة.
لقد بيّنت هذه الآية مسلكهم في الغرابة والإغراء... فرغم أنه قد جاء في الكتب التي بين أيديهم تحذير متكرر من أنبياء كذَبةٍ يُبعثون فيهم ويجترحون العجائب، وجاء فيها أيضاً أن الله تعالى يبعث فيهم نبياً من ولد إسماعيل وزوجه الجارية هاجر، فقد ظلّ الأحبار يكذبون على العامة ويقولون : إن محمداً واحد من أولئك الأنبياء الذين وصفتهم التوراة بالكذب. لقد ظلوا يكتمون ما يعرفون من أوصافه التي تنطبق عليه، وبذلك يحرّفون كثيرا من الكتب التي بين أيديهم.
﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ يعني : ألا يوجد فيكم عقل يردكم عن هذا السفه ؟
ومع أن الخطاب لليهود، وهذا حالهم، فإنه عامٌ وعبرة لغيرهم.
لذلك ورد الحث على الصلاة في كثير من الآيات، إن الصلاة قوة لا يقدّرها إلا العارفون والملهمون، ولذلك قال تعالى :﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين ﴾ أي : أن الصلاة ثقيلة شاقّة إلا على المؤمنين إيمانا حقيقياً، الخاشعين لله حقا.
﴿ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ أي : ليس لهم من يمنعهم من العذاب.
وقد كان اليهود يعتقدون ولا يزالون أنهم، بدعوى انتسابهم للأنبياء- لا يدخلون النار أو لا تمسّهم النار إلا أياماً معدودة، لأن لهم الجاه والتأثير يوم القيامة، كما أن أحبارهم يشفعون لهم، بل يمكنهم أن يخلّصوا مجرميهم بشتى الوسائل التي يستخدمونها في الدنيا.. فجاء الإسلام وسفّه هذه العقيدة، وعلّمنا أنه لا ينفع في ذلك اليوم إلا مرضاة الله بالإيمان والعمل الصالح الذي يتجلى في أعمال الجوارح.
ونأتي إلى معنى الشفاعة، إن شفاعة النبي عامةٌ لا يخص بها أشخاصاً معينين، وهي كما قال ابن تيمية «دعاء يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم، فيستجيبه المولى جلّ وعلا »، وهذا خلاف ما يعتقده اليهود كما مر آنفاً، انطلاقا من دعوى أنهم شعب الله المختار استناداً إلى ما جاء في كتبهم من هراء وكذب.
القراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿ ولا تقبل منها شفاعة ﴾ بالتاء.
وفرعون لقبٌ لمن ملك مصر قبل البطالسة، مثل : كسرى عند الفرس، وقيصر عند الروم، وتُبَّع في اليمن، والنجاشي في الحبشة.
وهذه القصة من خوارق العادات، ومن معجزات الأنبياء التي يؤيدهم الله بها حين يرسلهم. وخوارق العادات جائزةٌ عقلا، وهي خاضعة لإرادة الله وفق النواميس الطبيعية التي وضعها سبحانه وتعالى، لكن تفسيرها هو الذي يبدو خارقاً. فالحق أن السنن والقوانين الكونية لا تحكُم على واضعها ومبررها، بل هو الحاكم المتصرف فيها.
أما العجل فقد استعاروه من عبادة الكنعانيين.
والمراد بهذه الآيات هو تذكير أحفادهم بالنعمة وبيان كفرهم بها. وذلك ليظهر أن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ليس بغريب منهم، بل هو معهود فيهم. وهو دليل على أنهم عبيد المادة يجرون وراءها، هذا ديدنهم منذ أول أمرهم إلى الآن. ومن فعلَ هذا من الأمم الأخرى، فقد اكتسب بعض صفاتهم.. إنه تهوّد.
القراءات :
قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «واعدنا » والباقون «وعدنا ».
روي أن موسى لما رجع من ميقات ربه، رأى ما صنع قومه بعده من عبادة العجل، فغضب غضباً شديداً، ورمى بالألواح من يده، ثم أحرق العجل الذي صنعوه. ثم قال : من كان من حزب الرب فليُقبل إلي، فأجابه بنو لاوي، فأمرهم أن يأخذوا السيوف، ويقتل بعضهم بعضا. وإنها لكفارة عنيفة، وتكليف مرهق، كان لا بد منه لتطهُر تلك النفوس الشريرة المنغمسة في عبادة المادة المتجسدة بالعجل الذهبي. وإذ فعل بعضهم ما أمر به موسى، قُبلت توبتهم، وتدراكتهم رحمة الله التي تسع كل شيء.
قال المفسرون : إن الذين طلبوا رؤية الله هم السبعون الذين اختارهم موسى لميقات الله، كما جاء في سورة الأعراف آية ١٥٤ ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإن تَوَلَّوْاْ فإن الله لاَ يُحِبُّ الكافرين ﴾، فالحادثة واحدة هنا مختصرة، وفٌصلت وشرحت في الأعراف.
جعلنا السحاب لكم كالظُلَّة، يصونكم من حر الصحراء التي أنتم بها.
وأنزلنا عليكم المنّ، وهو طعام لذيذ حلو كالعسل، كان ينزل مع ندى الصباح، فيلتقطونه بسهولة، وكان لهم بدل الخبز.
أما السلوى، فهو طائر لحمه لذيذ يعرف بالسُّمّان، كان يأتيهم أسراباً كثيرة.
فلم يشكروا هذه النعم، بل كفروا بها. ولما كان كفرهم لا يضر الله وإنما يضرهم هم، فقد جاء قوله تعالى :﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.
الرغد : الهنيء، والسعة من العيش.
اذكروا يا بني إسرائيل، حين قلنا لكم : ادخلوا الأرض التي فيها تلك القرية التي عينها لكم موسى، فكلوا مما فيها، وعيشوا راغدين. ادخلوا من بابها خاشعين، وقولوا حُطّ عنا يا ربنا ذنوبنا، فإذا فعلتم ذلك، غفرنا لكم ذنوبكم، وللمحسنين منكم عندنا زيادة، فقالوا :﴿ ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فإن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فإنا دَاخِلُونَ ﴾ [ المائدة : ٢٢ ].
القراءات :
قرأ نافع «يغفر » بالياء. وقرأ ابن عامر «تغفر » بالتاء على البناء للمفعول.
هكذا خالف الظالمون أمر ربهم، وبدّلوا ما أُمروا به بالإحجام عن طاعة الأوامر، استهزاءً بالجزاء، فأنزل الله على الظالمين منهم عذابا من فوقهم.. جزاء لهم على فسقهم وخروجهم على أوامر ربهم.
القراءات :
قرئ «رُجزا » بضم الراء.
واذكروا يوم طلب موسى من ربه السقيا لكم، حين اشتد بكم العطش في التيه، فقلنا له اضرب بعصاك حجراً من أحجار الأرض. ويرى المفسرون أن في ذلك إشارة إلى حفر الأرض، لا مجرد الضرب بالعصا، فضربه، فنبع الماء منفجرا في اثني عشر مسرباً، على عدد أسباط بني إسرائيل، وتعين لكل سبط منهم مشربٌ خاص، حتى لا يقع بنيهم نزاع وخصام.
وقال لهم الله تعالى على لسان نبيه : الآن كلوا من المنّ والسلوى، واشربوا من هذا الماء العذب، وأنتم في هذه الصحراء المجدبة، ولا تنشروا الفساد في الأرض.
البقل من النبات : ما نبت من البذور. القثاء : الفقوس. الفوم : الثوم.
الأدنى : الدون الأخس. الهبوط إلى المكان : النزول إليه، والحلول به.
المصر : البلد العظيم. المسكنة : الفقر. باؤا بغضب : استحقوا الغضب.
واذكروا أيها اليهود أفعال أسلافكم يوم سيطر عليهم البطر، حيث كانوا في صحراء مجدبة لا شيء فيها، فأنعم الله عليهم بالماء والمن والسلوى، والغمام يظللهم، وكان قد أخرجهم من ديار الذل والاضطهاد- ومع كل هذا فإنهم يتضجّرون، فيقولون لنبيهم : إننا لا نطيق قَصر طعامنا على صنف واحد هو المن والسلوى، فاسأل ربك أن يخرج لنا ممن تنبت الأرض من الخضر والبقول والحبوب، إذ ذاك تعجّب موسى من ذلك، وأنكره عليهم، فقال لهم : أتفضّلون هذه الأصناف على ما هو أفضل وأحسن ! إذن، اتركوا سيناء، وادخلوا مدينة من المدن، فإنكم ستجدون فيها ما تريدون، لكنهم جبنوا عن ذلك. ومن ثم دهمهم الفقر والخنوع والذلة، واستحقوا غضب الله عليهم جزاء الكفر والعناد والعصيان.
القراءات :
قرئ :«اهبُطوا » بضم الباء، وهو جائز لغة.
ويقول ابن جرير الطبري :«اهبطوا مصرا »، بالألف والتنوين هي القراءة التي لا يجوز غيرها، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين، واتفاق قراءة القراء على ذلك.
وقد جاء في مصحف ابن مسعود «مصر » بدون تنوين، وهذا لا يعتمد، لأن الصحابة أجمعوا على مصحف عثمان، وتركوا ما عداه، والفرق في معنى القراءتين واضح.
إن لهم ما يعدهم الله من نعيم مقيم عنده.
وكل هذا قبل البعثة المحمدية. أما بعدها، فقد تقرر شكل الإيمان الأخير.
القراءات :
قرأ نافع وحده «الصابين » بالياء بدون همزة.
والصابئون : قوم يقرون بالله، وبالمعاد، وببعض الأنبياء، لكنهم يعتقدون بتأثير النجوم والأفلاك في الخير والشر، وتصريف مقدّرات الإنسان، ولذا فهم أقرب إلى الشِرك.
واذكروا حين أخذنا على أسلافكم العهد بالعمل بتوراة موسى، وقلنا لهم خذوا ما آتيانكم بجد ومواظبة على العمل بما فيه، ورفعنا فوقكم الجبل كالمظلَة- كل ذلك لعلكم تتقون بإيمانكم وعملكم العذابَ والخسران يوم القيامة..
القرد : الحيوان المعروف.
الخاسئ : المبعد المطرود من رحمة الله، الذليل.
النكال : العقوبة، نكل تنكيلا ونكالا.
الموعظة : التذكرة، وعظ يعظ وعظا وموعظة.
من تشريع موسى لليهود أن لا يعملوا يوم السبت، أي يوم الراحة والعبادة، لكن اليهود كما هو معهود بهم لا يثبتون على عهد، ولا يطيعون إلا أهواءهم.
هنا يذكّر الله اليهود الذين على زمن النبي، وفي كل زمان، ويقول لهم : لقد علمتم بلا ريب خبر أسلافكم الذين تجاوزوا الحد في السبت، بأن صادوا السمك فيه، وهو يوم راحة وعيد، العملُ فيه محرم، لذلك مسخناهم، وصيّرناهم مبعدين عن الخير، أذلاّء صاغرين، مطرودين، كالكلاب الخاسئين.
والمسخ كما يقول الطبري عن مجاهد : مسخٌ مجازي، أي : أنه ما مُسخت صورهم، ولكن مسخت قلوبهم، فلا تقبل وعظاً، ولا تعي زجراً. وهذا ما أكده ابن كثير حيث قال : الصحيح أن المسخ معنوي، كما قال مجاهد.
في هذه الآيات يقص علينا تعالى موضوعاً يبين فيه تعنت اليهود، ومماحكتهم واستهزاءهم بأوامر الله، وتعجيزهم لنبيهم، وتنطعهم بالدين.
وأصل القصة أن جريمة قتل وقعت في بني إسرائيل، ولم يعرف القاتل. فأتوا إلى موسى يطلبون حكمه فيها، فقال لهم : إن الله تعالى يأمركم أن تذبحوا بقرة، ليكون ذلك مفتاحاً لمعرفة القاتل. فقالوا : أتسخر منا يا موسى ! فقال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
عوان : نَصَف بين الكبيرة والصغيرة.
وهنا بدأ تعنتهم، إذ قالوا : اطلب لنا من ربك أن يبين لنا لون هذه البقرة، فأجابهم موسى : إن الله تعالى يقول : إنها بقرة صفراء لونها فاقع، تسر الناظرين، لصفاء لونها ووضوحه.
فقال لهم إن الله يقول : إنها بقرة لم تذلل بالعمل في حرث الأرض وقلبها للزراعة، ولم تعمل في سقي الأرض، وهي مسلَّمة بريئة من العيوب، ليس فيها أية علامة أو لون آخر. فقالوا : الآن جئت بالبيان الواضح، وأخذوا يبحثون عن البقرة التي بهذه الصفات، ووجدوها عند أيتام فقراء، فاشتروها بأضعاف ثمنها، ثم ذبحوها، وما كادوا يفعلون ذلك، لكثرة أسئلتهم وطول لجاجهم.
ثم يأتي إلى القصد الأول من ذبح البقرة، وهي قوله : قتل بعضكم نفساً، فود كل منكم أن يدفع عن نفسه التهمة، وتخاصمتم في ذلك، والله يعلم الحقيقة، وهو كاشفها ومظهرها، مع أنكم تكتمونها.
جميع المفسرين مجمعون على أن ضرب القتيل كان بجزء من البقرة، وإن اختلفوا في تعيين ذلك الجزء. ومعرفة هذا الجزء لا تنقص، ولا تزيد في قدر المعجزة، وإنما هي علم لا يفيد أحدا.
وقد خالف المرحوم عبد الوهاب النجار في تفسير «اضربوه ببعضها » في كتابه قصص الأنبياء ص ٢٥٩-٢٦٢ وقال : المراد : بعض أجزاء القتيل، يعني أن يضرب المتهم بجزء من جسم القتيل، هذا ما نفهم من كلامه، وهو يقول : إن قصة ذبح البقرة منفصلة عن قصة القتل، وكل واحدة على حدة. أما المراد بذبح البقرة، فهو أن بني إسرائيل كانوا مع المصريين الذين يقدسون البقر، وكانت فيهم بقية من هذا التقديس، بدليل أنهم عبدوا تمثال العجل، فكان لا بد لاقتلاع هذه البقية من نفوسهم، تكليفهم ذبح البقرة، فكان لذلك الأمرُ بالذبح، وكان لذلك المجادلة والتلكؤ منهم، فذبحوها وما كادوا يقومون بالذبح.
والرأي هنا أقرب إلى التعليل المنطقي، لا مجرد التفسير.
ويريكم آياته وهي الإحياء وما اشتمل عليه من الأمور البديعة من ترتيب الحياة على الضرب بعضو ميت، وإخبارُ الميت بقاتله، مما ترتب عليه الفصل في الخصومة وإزالة أسباب الفتن والعداوة، لعلكم تفقهون أسباب الشريعة وفائدة الخضوع لها.
يتفجر : يخرج بشدة ويسيل.
يتشقق : يتصدع. يهبط : ينزل ويتردى من خوف الله.
وصف الله بني إسرائيل في ذلك الزمان، وبعد أن رأوا الكثير من آيات الله التي عددها، بقساوة القلوب، وضعف الوازع الديني فيها، حتى أصحبت أشد من الحجارة قساوةً، لأن بعض الحجارة يتشقق، فيخرج منه النهر الخيّر والماء الزلال النافع، وبعضها يخرّ من خشية الله لو كان له عقل مثل بني الانسان.
أما هذه القلوب، فلم تتأثر بالعظات والعبر، ولم تنفذ إلى أعماقها النذر والآيات. وما الله بغافل عما تعملون، فهو يُحصيه عليكم، ثم يجازيكم بألوان من النقم.
ثم يقص علينا من مساوىء أفعال اليهود وأقاويلهم في زمان البعثة زهاء عشرين سبباً، لا تبقي مطمعاً لطامع في إيمانهم.
وهو لا يدع زعماً من مزاعمهم، الا قفى عليه بالرد والتفنيد.
وقد بدأ هذا الوصف بتقسيمهم فريقين :
علماء يحرّفون كلام الله، ويتواصون بكتمان ما عندهم من العلم، لئلا يكون حجة عليهم.
وجهلاء أميين، هم ضحايا التلبيس الذي يأتيه علماؤهم.
فمن ذا الذي يطمع في صلاح أمة جاهلها مضلَّل باسم الدين، وعالمها مضلِّل يكتب من عنده، ويقول هذا من عند الله !
لذلك ينبهنا الله إلى أنه : ما كان ينبغي لكم أيها المؤمنون أن تطمعوا في أن يؤمن اليهود بدينكم، وقد اجتمعت في مختلف فرقهم أشتات الرذائل. إن أحبارهم يسمعون كلام الله، ويفهمونه، ثم يحرّفونه عمداً.
والأماني جمع : أمنيَة. وهي في الأصل ما يقدّره الانسان في نفسه، ولذلك تطلق على الكذب، وعلى ما يُتمنى وما يُقرأ. وعلى ذلك يكون المعنى : إنهم يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليداً من المحّرفين، أو مواعيد فارغة سمعوها منهم، كقولهم إن الجنة قصرٌ على اليهود وحدهم، وأن النار لن تمسّهم إلا أياماً يتركونها بعدها إلى الجنة.
﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ أي : وما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن الواهي دون علم ولا فهم. ومع هذا فهم أكثر الناس جدلاً في الحق، وأشدهم كذباً وغرورا.
وقد جنى أحبار اليهود ثلاث جنايات : تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة، فهددهم الله على كل جناية بالويل والثبور.
المس واللمس بمعنى : وهو اتصال الشيء بالبشرة بحيث تتأثر الحاسة.
العهد : الخبر أو الوعد.
يزعم اليهود أنهم سيعذَّبون بالنار أربعين ليلة وذلك عدةُ أيام عبادتهم للعجل، وزعم بضعهم ان النار ستمسُّهم سبعة أيام فقط. وهنا يرد الله تعالى عليهم افتراءهم ويسألهم : هل تعاهدتم مع الله على ذلك، فاطمأننتم لأن الله لا يخلف عهده معكم ؟
القراءات :
قرأ ابن كثير وحفص : اتخذتم بإظهار الذال. وقرأ الباقون بالادغام. اتخذتم.
ثم يؤكد أن من كسَب سيئةً وأحاطت به خطيئةٌ، فأولئك أصحابُ النار هم فيها خالدون ».
فحْكم الله نافذ في خقله لا فرق بين يهودي وغيره إلا بما كسبت يداه.
القراءات :
قرأ نافع :«خطيئاته »، وقرئ : خطيته وخطياته.
بعد ما بسطت الآيات السابقة ما أنعم الله به على بني إسرائيل، جاء الكتاب هنا يبين أهم ما أُمر به أسلافهم من عبادات، وكيف كانوا يُصمّون أسماعهم عن سماع دعوى الحق.
فأول شيء وأهمه دعاؤهم إلى عبادة الله وحده، ثم الإحسان إلى الوالدين. ويترتب على ذلك ترابط الأسرة وتماسكها. فالأمة مكونة من مجموع الأسر والبيوت، وصلاح الأمة بصلاح الأسرة. وقد أكد القرآن على ترابط الأسرة، والحفاظ عليها، وتقويتها من برِّ الوالدين أولاً، ثم ذوي القربى، ثم الإحسان إلى اليتامى بحسن تربيتهم وحفظ حقوقهم من الضياع.
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :« أنا وكافلُ اليتيم في الجنة » رواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي عن سهل بن سعد، وفي رواية :« أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين » وأشار بالسّبابة والوسطى. فهل بعد ذلك منزلة أكبر !
ثم قال تعالى :﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾ فبعد ما أمر بالإحسان إلى الوالدين والأقربين والمساكين واليتامى، أمرنا إذا لم نستطع أن نحسن إلى جميع الناس بالفعل، فلنُحسن العِشرة، إذ أن الكلمة الطيبة صدقة كما ورد في الحديث الصحيح. ١
ثم بعد ذلك قال :﴿ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة ﴾ وهنا لم يقل «صلّوا » بل قال أقيموا الصلاة، أي : صلوها على أحسن وجوهها. وهاتان فريضتان من أهم الفرائض التي تنقّي النفوس من الأدران. فإذا صلحت النفوس صلَح المجتمع بأسره.
ثم ماذا حصل بعد أن أخذ الميثاق على أسلاف بني إسرائيل ؟
الذي حصل أنهم تولوا وأعرضوا ونقضوا الميثاق إلا قليلا منهم أذعن للحق.
القراءات :
قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب :«لا تعبدون » بالتاء الفوقية، وقرأ الباقون :«لا يعبدون » بالياء. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب :«حَسَنا » والباقون «حُسنا »، وقرئ :«حُسُنا » بضمتين. و«حسنى » كبشرى.
وقد روى الإمام أحمد ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئا. وإن لم تجد فالق
أخاك بوجه منطلق".
التظاهر : التعاون. الإثم، العدوان : تجاوز الحد في الظلم.
ذكّر الله بني إسرائيل في الآية السابقة بما أُمروا به من عبادة الله وحده والاحسان إلى الوالدين وذوي القربى، وأن يعاشروا الناس جميعاً بالحسنى..
ثم بيّن أنهم لم يطيعوا ما أُمروا به وتولَّوا وهم معرضون. وهنا يمضي السياق فيقص علينا عن حال اليهود ومواقفهم التي تجلى فيها العصيان، ويذكّرهم بأهم الأمور التي نُهوا عنها وقد أخذ الله عليهم العهد باجتنابها.
والخطاب هنا لليهود في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا في المدينة ثلاثة أحياء : بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس. وكان العداء بين الأوس والخزرج مستحكما، فهم في أغلب الأحيان في حرب دائمة. إذ ذاك كان يقاتل كلُّ فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه وبينهم اليهودي من الفريق الآخر.
وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله. وكانوا يخرجونهم من ديارهم إذا غُلب فريقهم وينهبون أموالهم ويأخذون سباياهم. وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم. ثم إذا انتهت الحرب يَفدون الأسارى، ويفكّون أسر المأسورين من اليهود، عملاً بحكم التوراة.
هذا هو التناقض الذي يواجههم به القرآن، وهو يسألهم باستنكار شديد ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ ؟ إن الكتاب ينص على تحريم القتل والإخراج من الديار وأنتم تنقضون ذلك.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي «تظاهرون » بحذف إحدى التاءين، وقرئ «تتظاهرون » بهما معاً.
وقرأ حمزة «أسرى » جمع أسير كجريح وجرحى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر :«تفدوهم ».
وقرأ عاصم في رواية المفضل «تردون » بالتاء.
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية ابن بكر وخلف ويعقوب « يعلمون » بالياء.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٤:السفك : إراقة الدماء.
التظاهر : التعاون. الإثم، العدوان : تجاوز الحد في الظلم.
ذكّر الله بني إسرائيل في الآية السابقة بما أُمروا به من عبادة الله وحده والاحسان إلى الوالدين وذوي القربى، وأن يعاشروا الناس جميعاً بالحسنى..
ثم بيّن أنهم لم يطيعوا ما أُمروا به وتولَّوا وهم معرضون. وهنا يمضي السياق فيقص علينا عن حال اليهود ومواقفهم التي تجلى فيها العصيان، ويذكّرهم بأهم الأمور التي نُهوا عنها وقد أخذ الله عليهم العهد باجتنابها.
والخطاب هنا لليهود في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا في المدينة ثلاثة أحياء : بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس. وكان العداء بين الأوس والخزرج مستحكما، فهم في أغلب الأحيان في حرب دائمة. إذ ذاك كان يقاتل كلُّ فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه وبينهم اليهودي من الفريق الآخر.
وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله. وكانوا يخرجونهم من ديارهم إذا غُلب فريقهم وينهبون أموالهم ويأخذون سباياهم. وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم. ثم إذا انتهت الحرب يَفدون الأسارى، ويفكّون أسر المأسورين من اليهود، عملاً بحكم التوراة.
هذا هو التناقض الذي يواجههم به القرآن، وهو يسألهم باستنكار شديد ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ ؟ إن الكتاب ينص على تحريم القتل والإخراج من الديار وأنتم تنقضون ذلك.
ثم بين الله تعالى ما كان حظ الرسل من بني إسرائيل فقال : أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفكسم استكبرتم عن اتّباعه وبغيتم في الأرض، ففريقاً كذبتموه، وفريقاً قتلتموه ! ! هكذا كان موقفهم من أنبيائهم.
القراءات :
قرئ «أيدناه » بمد الألف وفتح الياء بدون تشديد.
وقرأ ابن كثير «القدس » باسكان الدال في جميع القرآن.
بعد ذلك كله قالوا : إن قلوبنا مغلقة لا تنفذ إليها دعوة جديدة، كدعوة محمد، فلا نكاد نفقه شيئاً مما يقول.
ولم تكن قلوبهم كما يزعمون، لكنهم استكبروا وآثروا الضلالة على الهدى.. فلعنهم الله أي طردهم عن الهدى بسبب ذلك «فقليلاً ما يؤمنون » أي بسبب هذا الطرد.
كل هذا القصص الذي يقصه الله عن بني إسرائيل للمسلمين إنما يُقصد به تحذيرهم من الوقوع في مثله، حتى لا تُسلب منهم الخلافة في الأرض. والأمانة التي ناطها الله بهم.
﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله... ﴾ هذه الآية مرتبطة بالآية السابقة.. ﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾. ولما جاء رسولنا محمد بالقرآن، وهو كتاب من عند الله مصدّق لما أُنزل عليهم من التوراة، وعرفوا من التوراة نفسها صدق ما فيه كفروا به عناداً وحسداً. وذلك لأن من جاء به رسول من غير بني إسرائيل.
روى كثير من الصحابة أن الأوس والخزرج تغلبوا على اليهود، وأذلّوهم زمن الجاهلية فكانوا يقولون للعرب : إن نبيّاً الآن مبعثُه قد أظلّ زمانه، يقتلكم قتل عادٍ وإرمَ. وكان اليهود يستفتحون به على الكفار، يعني يستنصرون به، ويقولون : اللهمّ ابعث هذا النبي الذي نجده في التوراة. فلما بعث الله محمداً كفروا به. وقد قال لهم مُعاذ بن جبَل وبشرْ بن البراء : يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شِرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصِفونه بصفاته. فقال له سلام بن مشكم بن النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالّذي كنا نذكره لكم. فأنزل الله تعالى في ذلك :«ولما جاءهم، الآية... ».
ومعنى «مصدق لما معهم » : موافق له في التوحيد وأصول الدين والإيمان بالبعث واليوم الآخر.
البغي : الفساد.
بغضب : رجعوا محّملين بالغضب.
مهين : مذل.
ساء ما باعوا به أنفسهم، حين اختاروا الكفر على الإيمان، حسداً أن يأتي نبي من غير اليهود، منكِرين على الله أن يكون له مطلق الخيرة في أن يوحي لمن يشاء من عباده.
القراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب « أن ينزل » بالتخفيف، والباقون «أن ينزّل » بالتشديد.
وإذا قيل لهم، أي اليهود المعاصرين للنبي في الحجاز، صدِّقوا بما أنزل الله من القرآن على محمد واتبعوه، قالوا : نحن نؤمن بما أُنزل علينا من التوراة فحسب.. مع أن القرآن مصدق لما معهم من التوراة. وعلى هذا يكون كفرهم بهذا الكتاب المصدق لما في كتابهم كفراً بكتابهم نفسه.
ثم يخاطب الله الرسول الكريم بقوله تعالى : قل يا محمد لليهود، لمَ كنتُم تقتلون أنبياء الله في الماضي مع أنهم دعوا إلى ما أنزل عليكم ؟ إنّ قتلكم للأنبياء دليل قاطع على عدم إيمانكم برسالتهم.
قل يا محمد ليهود بني إسرائيل الحاضرين الذي يتبعون أسلافهم : بئس ما يأمركم به إيمانكم إن كان يأمركم بقتل الأنبياء والتكذيب بكتبه، وجحود ما جاء من عنده
إنْ صدَقَ قولكم فيما زعمتم من أن الله خصّكم وحدكم بالنعيم بعد الممات، وأن الجنة لكم لا يدخلها إلا من كان يهودياً، وأنكم شعب الله المختار- فتمَّنوا الموت الذي يوصِلكم إلى ذلك النعيم.
والله بصير بما يعملون. فالمرجع إليه، والأمر كله بيديه.
القراءات
قرأ حمزة والكسائي «جبريل »، وقرأ ابن كثير «جبريل » بفتح الجيم وكسر الراء، وقرأ عاصم برواية أبي بكر «جبريل »، وقرأ الباقون «جبريل » كقنديل.
القراءات
قرأ حمزة والكسائي «جبريل »، وقرأ ابن كثير «جبريل » بفتح الجيم وكسر الراء، وقرأ عاصم برواية أبي بكر «جبريل »، وقرأ الباقون «جبريل » كقنديل.
وكما تذبذبوا في العقيدة والإيمان، تذبذبوا كذلك فيما يبرمونه من عهود، فكانوا كلما عاهدوا النبي والمسلمين عهدا نقضه فريق منهم، لأن معظمهم لا يؤمنون بحرمة عهد ولا بقداسة ميثاق، وهذا ليس بغريب، فهو من صلب تعاليم تلمودهم، وأساسُ ما وضعه أحبارهم أن كل من عاداهم ليس له حرمة ولا ذمة، ولا يجوز أن يُبْرَم معه عهد. كذلك لا يرجى إيمان أكثرهم، لأن الضلال قد استحوذ عليهم، كما أن غرورهم بأنفسهم وتجبرّهم قد جعلاهم في طغيانهم يعمهون.
سحره : خدعه، ويقال أحيانا للشيء المعجب أو الحديث اللطيف. وقد جاء في الحديث «إن من البيان لسحرا ».
وماذا عملوا بعد ذلك ! لقد آثروا السِّحر، واتبعوا ما يقصُّه الشياطين عن عهد سليمان. وما يضللون به الناس من دعاوى مكذوبة، كزعمهم أن سليمان كان ساحراً، وأنه سخر الانس والجن عن طريق السحر الذي يستخدمه، وما كفَر سليمان وما كان ساحراً بل رسولاً من عند الله، ولكن الشياطين هم الذين كفروا وتقوّلوا على سليمان هذه الأقأويل، وأخذوا يعلّمون الناس السحر من عندهم.
﴿ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ في هذه الآية تفسيران : فبعض المفسرين يقول أن معناها : ولم ينزل الله على هاروت وماروت في بابل أي سحر. ويكون المعنى : واتَّبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا...
وقال بعضهم وهم أكثرون : يكون المعنى السحرَ الذي أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، مع أن هذين الملكين ما كانا يعلّمان أحدا حتى يقولا له إنما نعلّمك ما يؤدي إلى الفتنة والكفر فاعرفه ولا تعمل به.
ومن هنا أخذ بعض العلماء جواز تعلُّم السحر للعلم به وعدم العمل به.
ولكن الناس لم ينتصحوا بهذه النصيحة التي كان الملكان يقولانها لهم، فاستخدموا ما يتعلّمون منهما، وجعلوا يفرقون به بين المرء وزوجه.
وما هم بضارّين به من أحد إلا بإذن الله، وهذه قاعدة عظمى يقررها القرآن وهي : أن الضرر والنفع بإذن الله.
ولا يزال في وقتنا هذا مع ما تقدم العلم به من أبحاث كثيرٌ من السحر والشعوذة وغير ذلك من التنويم المغناطيسي والتلبثة. ونحن نجد كثيراً من الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد. ولقد رأيت كثيراً من هؤلاء المنوِّمين يأتون بالعجب العجاب، وقرأت الكثير من القصص عن أناس عندهم خصائص عجيبة. وكل ما استطاع العلم أن يقوله تجاه هذه الأمور وهذه القوى أنه اعترف بها وأعطاها أسماء، ولكنه عجز عن تفسيرها. وصدق الله العظيم :﴿ وَمَآ أوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً ﴾.
أما من هما الملكان هاروت وماروت ؟ وهل هما رجلان حقيقة ؟ فلا يوجد خبر صحيح يثبت شخصيتهما أو حقيقة جنسهما. وإنما كانت قصتهما معروفة مشهورة ووردت في القرآن أشارات مجملة عنها١، ولسنا مكلفين بالاستقصاء عنهما والأفضل عدم البحث في ذلك.
القراءات :
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ولكن الشياطين كفروا » بتخفيف النون من لكن، ورفع الشياطين. وقرأ الباقون «ولكنّ » بالشديد ونصب الشياطين.
سحره : خدعه، ويقال أحيانا للشيء المعجب أو الحديث اللطيف. وقد جاء في الحديث «إن من البيان لسحرا ».
وماذا عملوا بعد ذلك ! لقد آثروا السِّحر، واتبعوا ما يقصُّه الشياطين عن عهد سليمان. وما يضللون به الناس من دعاوى مكذوبة، كزعمهم أن سليمان كان ساحراً، وأنه سخر الانس والجن عن طريق السحر الذي يستخدمه، وما كفَر سليمان وما كان ساحراً بل رسولاً من عند الله، ولكن الشياطين هم الذين كفروا وتقوّلوا على سليمان هذه الأقأويل، وأخذوا يعلّمون الناس السحر من عندهم.
﴿ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ في هذه الآية تفسيران : فبعض المفسرين يقول أن معناها : ولم ينزل الله على هاروت وماروت في بابل أي سحر. ويكون المعنى : واتَّبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا...
وقال بعضهم وهم أكثرون : يكون المعنى السحرَ الذي أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، مع أن هذين الملكين ما كانا يعلّمان أحدا حتى يقولا له إنما نعلّمك ما يؤدي إلى الفتنة والكفر فاعرفه ولا تعمل به.
ومن هنا أخذ بعض العلماء جواز تعلُّم السحر للعلم به وعدم العمل به.
ولكن الناس لم ينتصحوا بهذه النصيحة التي كان الملكان يقولانها لهم، فاستخدموا ما يتعلّمون منهما، وجعلوا يفرقون به بين المرء وزوجه.
وما هم بضارّين به من أحد إلا بإذن الله، وهذه قاعدة عظمى يقررها القرآن وهي : أن الضرر والنفع بإذن الله.
ولا يزال في وقتنا هذا مع ما تقدم العلم به من أبحاث كثيرٌ من السحر والشعوذة وغير ذلك من التنويم المغناطيسي والتلبثة. ونحن نجد كثيراً من الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد. ولقد رأيت كثيراً من هؤلاء المنوِّمين يأتون بالعجب العجاب، وقرأت الكثير من القصص عن أناس عندهم خصائص عجيبة. وكل ما استطاع العلم أن يقوله تجاه هذه الأمور وهذه القوى أنه اعترف بها وأعطاها أسماء، ولكنه عجز عن تفسيرها. وصدق الله العظيم :﴿ وَمَآ أوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً ﴾.
أما من هما الملكان هاروت وماروت ؟ وهل هما رجلان حقيقة ؟ فلا يوجد خبر صحيح يثبت شخصيتهما أو حقيقة جنسهما. وإنما كانت قصتهما معروفة مشهورة ووردت في القرآن أشارات مجملة عنها١، ولسنا مكلفين بالاستقصاء عنهما والأفضل عدم البحث في ذلك.
القراءات :
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ولكن الشياطين كفروا » بتخفيف النون من لكن، ورفع الشياطين. وقرأ الباقون «ولكنّ » بالشديد ونصب الشياطين.
وللكافرين يوم القيامة عذاب أليم.
الإنساء : إذهاب الشيء من الذاكرة.
الولي : الصديق. النصير : المعين.
في هذه الآية ردٌّ على اليهود الذين كانوا يطعنون في الإسلام والقرآن والنبي عليه الصلاة والسلام. وكانوا لا يتركون فرصة دون أن يعترضوا ويحاولوا تشويه الحقائق. فكانوا يقولون : ما بال هذا النبي يأمر قومه بأمر ثم يبدله بعد ذلك ؟ فردَ الله تعالى عليهم بقوله :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيةٍ ﴾ أي ما نغير حكم آية أو نؤخرها الا أتينا بما هو خير منها. وذلك لمصلحة الناس واظهار الدِّين. وكل هذا من الله القادر على كل شيء.
القراءات : قرأ ابن عامر : ما نُنسخ من أنسخ الرباعي. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ننسأها » أي نؤخرها. وقرئ «تنسها ». و «تنسها » بالبناء للمفعول. وقرأ أبو عمرو « ناتِ » بدون همزة.
النصير : المعين.
والله هوالذي له ملك السماوات والأرض، يتصرف فيه كيف يشاء، وحسب مصلحة عباده.
ضل : حاد عن الطريق المستقيم.
السواء من كل شيء : الوسط.
السبيل : الطريق.
فلا تتعنتوا كما فعل اليهود من قبلكم حين سألوا رسولهم موسى أن يأتيهم بأشياء مستحيلة. وفي هذا نصيحة وتأديب للمسلمين أن يعملوا بما يأمرهم به نبيهم الكريم، وينتهوا عما ينهاهم عنه. أما من لا يتأدب، بل يترك الثقة بالبينات المنزلة حسب المصلحة، ويطلب غيرها- فقد اختار الكفر واستحبَ العمى على الهدى.
الصفح : الإعراض عن المذنب، وهو يشمل العقاب وترك اللوم.
الخطاب للمؤمنين تحذيراً من بعض أحبار اليهود مثل : كعب بن الأشرف وحييّ بن أخطب وأبي ياسر بن أخطب، وأمثالهم الذين كانوا أشد الناس عداوة للإسلام ولنبيّه صلى الله عليه وسلم.
بعد أن عرض الله حالة المنافقين والكافرين وناقش اليهود مناقشة طويلة. ثم أدّب المؤمنين كيف يخاطبون النبي، وعلمهم أن التعاليم والأوامر المنزلة من عند الله بعضُها عُرضة للتغير والتبديل حسب المصالح- جاء هنا يحذّر جماعة المسلمين من أن كثيرا من الهيود يودون أن يردوهم عن الإسلام حسدا لهم، بعد أن تبين لليهود من كتابهم نفسه أن المسلمين على الحق. وذلك لأنهم يخشون أن ينتقل السلطان منهم ويفلت من أيديهم.
بعد هذا يعلم القرآن المسلمين الأخلاق العظيمة، فيأمرهم سبحانه بضبط النفس، وأن يعاملوهم بالرفق واللين. كما وعدهم بأنهم إن تحلّوا بهذه الأخلاق فإنهم منصورون، وأكد ذلك بقوله ﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ فالله هو القادر على أن يهبكم من القوة ما تتضاءل دونه جميع القوى، فتتغلبوا على من يناوئكم.
﴿ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة ﴾ حافِظوا على شعائر دينكم، فأقيموا الصلاة على أحسن وجه من الخشوع وأداء أركانها، وأعطوا الزكاة إلى أهلها. بهذه الأعمال الطيبة ينصركم الله إنه عالم بجميع أعمالكم، لا تخفى عليه من أمركم خافية وهو مجازيكم عليها.
البرهان : الحجة والدليل.
في هذه الآية يبين الله تعالى دعوى كل من اليهود والنصارى في أن الجنة لهما ولأتباعهما فقط تلك أمانيّهم، وهي لا تتعدى أن تكون كذباً يزعمونه دون دليل. فقولوا لهم : هاتوا دليلكم إن كنتم صادقين.
بلى : حرف يأتي ردا للنفي.
والواقع أنه يدخل الجنة من لم يكن يهوديا ولا نصراينا إذا آمن بالله وأخلص نفسه له واتبع أوامره. ذلك أن رحمة الله لا تختص بشعب ولا ملّة ﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أو أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾ [ النساء : ١٢٣ ].
والذي يرجحه ابن جرير في تفسيره أن هذه الآية ليست منسوخة، بل إن حكمها باق ومعمول به على أساس أنه «أينما تولّوا وجوهكم في حال سيركم في أسفاركم في صلاتكم التطوّع، وفي حال مسايفتكم عدوَّكم، في تطوعكم ومكتوبتكم، فثم وجه لله » وفي هذا توسيع كبير.
في هذه الآية انتقال إلى موضوع جديد، هو نسبة الولد إلى الله، فقد قال اليهود : عُزَير ابن الله، وقالت النصارى : المسيح ابن الله. وقال المشركون قديما : الملائكة بنات الله.
وهنا ينفي سبحانه هذا كله، فيقول : إن له كل ما في السماوات والأرض، ومن كان هذا شأنه، وجميع ما في الكون مسخر لأمره، فهو أرفع من أن يحتاج إلى نسل أو يتخذ ولدا.
وكيف يتخذ ولدا من أبدع هذا الكون العجيب بما فيه من سماوات وأرض ونجوم وكواكب، وقد أذعن كل ما فيه لإرادته، وإذا أراد أمراً فإنما يقول له : كن فيكون ؟ ؟
ولقد أمعنوا في عنادهم فطلبوا من الرسول آية حسّية أو يكلمهم الله بنفسه. وهكذا طلبت الأمم السابقة من أنبيائهم، فقد قال بنو إسرائيل لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهارا.
وطلب أصحاب عيسى إليه أن ينزل عليهم مائدة من السماء.
أما نحن فقد بيّنّا للناس الآيات على يديك يا محمد، بما لا يدع مجالاً للريب لدى طالبي الحق بالدليل والبرهان.
القراءات :
قرأ نافع ويعقوب :﴿ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ﴾ بالنهي. والباقون «لا تسئلُ ».
الأهواء : جمع هوى، وأهل الأهواء أهل البدع، قال السيد الجرجاني «الهوى ميلان النفس إلى ما تستلذ من الشهوات من غير داعية للشرع ». ولا يستعمل في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه.
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يبادر أهلُ الكتاب إلى الإيمان به، فكبُر عليه إعراضهم عن إجابة دعوته، مع أنها موافقة لأصول دينهم.
وهنا يخاطبه الله تعالى بأنهم لن يرضوا عنه أبدا، فيقول له : لا ترهق نفسك في استرضاء المعاندين من اليهود والنصارى، فإن هؤلاء لن يرضوا عنك حتى تتبع دينهم الذي يزعمون أنه هو الصواب. ولا يوجد هدى حقيقي إلا ما أنزل الله على أنبيائه وما أنزلتُه عليك من الإسلام، لا ما أضافه اليهود والنصارى من تحريف وتغيير حتى فرّقوا دينهم وكانوا شيعا. ولئن اتبعتَ أهواءهم وما أضافوا إلى دينهم وجعلوه أصلاً من أصول شريعتهم، فإن الله لن ينصرك أو يساعدك على ذلك. وهذا إنذار شديد إلى الرسول الكريم الذي عصمه الله من الزيغ والزلل، ولكنه في الحقيقة موجه للناس كافة.
وقد جاء الكلام هنا على هذا الأسلوب الشديد، ليرشد من يأتي بعده أن يصدع بالحق ولا يبالي بمن خالفه، مهما قوي حزبه واشتد أمره. فمن عرف أن الله ناصره لا يخاف إنكار المعاندين.
أما من يكفر بما أُنزل اليك يا محمد بعد أن تبيَّّن له الحق- فأولئك هم الذين خسروا سعادة الدنيا ونعيم الآخرة.
يا بني إسرائيل، اذكروا نعتمي عليكم وإنقاذي إياكم من أيدي عدوكم فرعون وقومه، وإنزالي عليكم المنَّ والسلوى في تهيكم، واختصاصي الرسل منكم، وتفضيلي إياكم على غيركم ممن كانوا في ذلك الزمان.. وذلك كله حتى يترك اليهود المعاصرون للرسول تماديهم في الغي والضلال، ويتوبوا إلى رشدهم.
الكلمات : التكاليف من أمر ونهي وتشريع.
أتَمَّهن : قام بهن خير قيام.
واذكر يا محمد، لقومك المشركين وغيرهم أن الله تعالى اختبر إبراهيم ببعض الأوامر والنواهي، فقام بما أمره خير قيام، فقال له : إني جاعلك للناس رسولا يقتدى بهديك. قال إبراهيم : واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم. قال الله تعالى : أجبتك على ما طلبت، ولكن عهدي بالإمامة لا يناله الظالمون، فهم لا يصلحون أن يكونوا قدوة للناس. ذلك أن الإمامة الصالحة لا تكون إلا لذوي النفوس الفاضلة. وفي الآية إشارة إلى أنه سيكون من ذريته الأبرار والفجار.
القراءات :
قرأ ابن عامر : أبراهام بالألف جميع ما في هذه السورة.
مثابة : مرجعا يثوب إليه الناس.
مقام إبراهيم : هو الحجر الذي كان يقوم عليه حين بناء الكعبة، وقيل : إن الحرم كله مقام إبراهيم.
عهد : وصّى.
في هذه الآية يأتي الحديث عن إبراهيم وإسماعيل، وعن البيت الحرام وشعائره، لتقدير الحقائق الخالصة في ادعاءات اليهود والنصارى والمشركين جمعيا حول النسب الذي يمتُّ به ويحترمه أهل الكتاب ومشركو العرب، وهو ملة إبراهيم ونسبه إلى عقيدة المسلمين.
اذكروا قصة بناء إبراهيم مع ابنه اسماعيل لبيت الله الحرام بمكة، إذ جعلنا هذا البيت للخلَف ملاذا ومأمنا، وإذ أمرنا الناس أن يتخذوا منه مكاناً يصلّون فيه. وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أي : وصيناهم بتطهير البيت، وأن يصوناه من كل رجس معنوي كالشرك بالله وعبادة الأصنام، أو رجس حسي كاللغو والرفث والتنازع فيه، وقت أداء العبادات. كما أوصيناهما أن يجعلاه مهيَّأً للناس للطواف والصلاة والسعي.
ومقام إبراهيم الذي جاءت الإشارة إليه كان ملاصقاً للكعبة، وكان الحجاج أثناء الطواف يتزاحمون عنده، وربما حدث كثير من الانزعاج لبعضهم، مما حدا بالمسئولين أن يستفتوا العلماء لإبعاده قليلا، وقد أفتى بذلك جمهور من العلماء، فتمت زحزحته عن مكانه.
وهناك من المفسرين من يقول : مقام إبراهيم هو الحرم جميعه سماه الله بيته، لأنه أمر المصلّين أن يتوجهوا في عبادتهم إليه.
والحكمة في ذلك أن الناس في حاجة إلى التوجه إلى خالقهم لشكره والثناء عليه، لكنهم يعجزون عن التوجه إلى «ذات مجردة » لا تنحصر في جهة، فعيّن الله لهم هذا البيت المقدس نسبة إليه.
القراءات :
قرأ نافع وابن عام :«اتخذوا » بلفظ الماضي.
أما من كفر فإني أنا العلي القدير، أُمتِّعه في هذه الحياة الدنيا القصيرة الأمد، ثم أسوقه إلى عذاب النار يوم القيامة.
القراءات :
وقرأ ابن عامر :«فأمتعه » من أمتع الرباعي.
بعد ما مر من الآيات التي نوهت بالحرم والبيت، وأن الله جعله بلدا آمناً تجبى إليه الثمرات- انتقل التنويه إلى أن الذي بنى ذلك البيت هو إبراهيم بمعونة ولده إسماعيل. وكانا يدعوان بقولهما : ربنا تقبّل منا هذا العمل الخالص لوجهك الكريم، إنك أنت السميع لدعائنا العليم بنيّاتنا في جميع أعمالنا.
وفي الآية إشارة الى أن كل من عمل عملاً صالحاً أو أدى فريضة مقررة، وابتهل إلى الله بالدعاء طالبا القبول فإنه لا يرده خائبا.
والمناسك : جمع منسك العبادة، وأصبحت شائعة في عبادة الحج.
ويزكيهم : يطهر نفوسهم من دنس الشرك والمعاصي.
ربنا واجعلنا مخلصين لك بأن لا نتوجه بقلبنا إلا إليك، ولا نستعين بأحد إلا بك، ولا نقصد بعملنا الا مرضاتك. واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك، وعلّمنا طريقة عبادتنا الصحيحة لك في بيتك المحرم وما حوله في الحج وغيره،
ووفّقنا للتوبة إنك تقبل توبة عبادك، وتغفر لهم بفضل من رحمتك.
الحكمة : كلمة معامة تجمع معاني العلم والعدل والحلم وكل أنواع المعرفة التي تجعل المرء حكيما يسلك طريق السداد.
ربنا وابعث في ذريتنا رسولاً منهم، يقرأ آياتك، ويعلّمهم ما تُنزل من الوحي، ويبصّرهم بكل علم نافع وشريعة قويمة، ويطهرهم من ذميم الأخلاق، إنك أنت القوي الذي لا يُغلب، ولا يناله ضيم، والعزيز الحكيم الذي يفعل ما تقتضيه الحكمة والعدل والصلاح.
وقد أجاب الله دعاءهما وأرسل فيهم محمداً عليه الصلاة والسلام من ذرّية إسماعيل، فكوّن من العرب بفضل الإسلام أُمة كانت خير الأمم. وإذا كانت هناك الآن وحدة اسلامية عامة أو شيء يشبه هذه الوحدة، فإنما هي بفضل القرآن وُجدت وبفضل القرآن ستبقى، مهما تختلف الظروف وتدلهمّ الخطوب. فالقرآن هو أساس هذه الوحدة الجديدة كما كان أساسا للوحدة القديمة. والعرب أجدر أن يفهموه وينفذوه، فقد نزل فيهم، وأنزل بلغتهم، واتّجه إليهم أول ما أُنزل.
سفِه نفسه : أذلها واحتقرها.
اصطفيناه : اخترناه.
أسلم : أخلص العبادة لله.
هذه هي ملة إبراهيم الإسلام الخالص. ولَنِعم ما فعله إبراهيم وما دعا إليه ربه، فكيف تعرضون عنها، وتدعون أولياء من دون الله لا يملكون لكم ضراً ولا نفعا ! إنه لا يعرض عن ملة إبراهيم إلا من امتهن نفسه واحتقرها. ولقد اصطفينا إبراهيم من بين خلقنا في الدنيا، وجعلناه في الآخرة من المشهود لهم بالخير والصلاح.
القراءات :
«وصى بها إبراهيم » قرأ نافع وابن عامر«وأوصى بها ».
أم كنتم شهداء.. الآيتان ١٣٣-١٣٤.
روي أن اليهود قالوا للنبي الكريم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية ؟ فجاءت هذه الآية رداً عليهم. أكنتم هناك يوم حضرته الوفاة وعرفتم الملة التي مات عليها !
اعلموا أن يعقوب مات على دين إبراهيم، وكذلك أبناؤه بعده. فلقد سألهم : ماذا تعبدون من بعدي ؟ فأجأبوا : نعبد إلَهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، لا نشرك به شيئا ونحن له منقادون مسلمون.
وقد أرشدت الآية الكريمة إلى أن دين الله واحد في كل أمة، وعلى لسان كل نبي، وروحُه التوحيد والاستسلام لله والإذعان لِهَدْي الأنبياء.
حنيفا : مائلا عن الباطل إلى الحق، ثم صار علَما للاستقامة.
قال أهل الكتاب : كونوا أيها المؤمنون، يهوداً أو نصارى تهتدوا إلى الطريق السوي، فقل لهم يا محمد : بل نتبع ملة إبراهيم الذي لا تنازعون في هداه، ولم يكن من المشركين. ودين إبراهيم الحنيف هو الذي عليه محمد وأتباعه المؤمنون.
وذلك لأنهم يؤمنون بالله وبرسله كتبه، لذلك قال بعده هذه الآية : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا في القرآن، وآمنا بما أنزل إلى إبراهيم واسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى غير محرّفة، وبالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى غير محرف أيضاً، وآمنا بما أُتي النبيون من ربهم، لا نفرّق بين أحد منهم فنكفر ببعضهم ونؤمن ببعض، بل نشهد بأن الجميع رسل الله بعثهم بالحق والهدى، ونحن له مسلمون مذعنون بالطاعة والعبودية.
في شقاق : في نزاع.
فإن آمنوا بكل هذا، وتركوا ما هم عليه من تحريف كتبهم وادعائهم حلول الله في بعض البشر، فقد اهتدوا إلى الحق. أما إن أعرضوا عما تدعوهم إليه، وفرقوا بين رسل الله فاتركهم. فإنهم في شقاق وعداوة، والله سوف يكفيك أمرهم ويريحك من لجاجهم ونزاعهم.
إن ما ذكر آنفاً هو الإيمان الحقيقي، وهو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها. اختار الله هذه الرسالة وجعَلها آخر رسالاته إلى البشر لتقوم عليها وحدة إنسانية واسعة الآفاق، كل الناس فيها سواء، أفضلهم أتقاهم وأنفعهم.
ومن أحسنُ من الله صبغة ! وتختتم الآية بهذه العبارة اللطيفة «ونحن له عابدون » أي أن الله هدانا بهدايته، وأرشدنا إلى حجته، ونحن لا نخضع الا لله، ولا نتبع إلا ما هدانا وأرشدنا إليه، فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا يزيدون في ديننا وينقصون.
بعد أن بين الله تعالى أن الملة الصحيحة هي دين إبراهيم، وهي صبغة الله عز وجل، وأن محمداً جاء متبعاً لها متمماً للرسالات التي سبقته- شرع هنا يبطل الشبهات التي تعترض سبيل الحق، فقال : قل يا محمد، اتجادلوننا في الله زاعمين أنه لا يصطفي الأنبياء الا منكم، وهو ربكم ورب كل شيء لا يختص به قوماً دون قوم ! إن رب العالمين يصيب برحمته من يشاء، ويجزي كل قوم بأعمالهم، لنا أعمالنا، ولكم أعمالكم، ونحن له مخلصون.
القراءات :
قرأ بن عامر، وحمزة والكسائي وحفص «أم تقولون » بالتاء. والباقون :«أم يقولون » بالياء.
ولاه عن الشيء : صرَفه.
القبلة : ما يستقبل الإنسان.. ثم خصه بالجهة التي يستقبلها المسلمون في الصلاة. لما هاجر الرسول الكريم إلى المدينة مكث ستة أو سبعة عشر شهرا يصلي متوجهاً إلى بيت المقدس. وفي شهر رجب من السنة الثانية من الهجرة أوحي إليه أن يتوجه بالصلاة إلى الكعبة كما يقول ابن عباس. فغضب اليهود من تحويل القبلة هذا، وجاء نفر من أحبارهم منهم : رفاعة بن قيس وكعب بن الأشرف والربيع ابن أبي الحقيق، فقالوا : يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ؟ ! ارجع إلى قبلتك نتبعك ونصدقك. وما كانت أقوالهم هذه الا كذباً، وما أرادوا بذلك الا فتنة النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى :﴿ سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس.. ﴾ الآية.
سيقول الذين ضعُفت أحلامهم وأضلتهم أهواؤهم من اليهود والمنافقين والمشركين : أي شيء صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟.
قل يا محمد، إنّ جميع الجهات لله لا فضل لجهة على أُخرى، وليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور، وكذلك الكعبة والبيت الحرام. وإنما جعل الله للناس قبلة، لتكون جامعة لهم في عبادتهم، والله وحده هو الذي يختار ما يشاء ليكون قبلة للصلاة. وهو يهدي بمشيئته كل أمة من الأمم ويلهمها ما فيه الخير لها.
من ينقلب على عقبيه : يترك ما كان عليه من التقوى والاستقامة.
وكذلك جعلناكم أمة وسطاً خياراً عُدولا، جَمَعَ دينُها بين المادة والروح، فجاء وسطاً جامعاً بين حق الروح وحق الجسم. وخير الأمور الوسط. وذلك لتشهدوا يوم القيامة على جميع الناس الماديين الذي فرطوا في جنب الله، وأخلدوا إلى الملذات وعبادة المادة، وقالوا إِنْ هي الا حياتنا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر.. وكذلك الذين غلَوا في الدين وتخلّوا عن جميع اللذات الجثمانية وتعلقوا بالروحانيات فقط. لقد جعلناكم كذلك لتكونوا أمة وسطا بين هؤلاء وهؤلاء، وبكل معاني الوسط، سواء في الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو الاعتدال والقصد، أو التفكير والشعور.
﴿ وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ إذ هو المرتبة العليا لمرتبة الوسط.
﴿ وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ... ﴾ أما القبلة إلى بيت المقدس والتي شرعناها لك حيناً من الدهر، ثم أمرناك أن تتحول عنها، فإنما جعلناها امتحانا للمسلمين، ليتبين منهم من يطيع أوامر الله ويتبع الرسول الكريم، ومن يغلب عليه هواه فيضلّ عن سواء السبيل.
ولقد كان الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس ثم التحول إلى الكعبة شاقاً الا على الذي وفقهم الله إلى الإيمان. والله رؤوف بعباده، لأنه ذو رحمة واسعة، فلا يُضيع عمل عامل من عباده.
القراءات :
قرأ الحرميان، وابن عامر وحفص «لرؤوف » بالمد على وزن فعول. والباقون «رَؤُف » فَعُل.
الشطر : الجهة
كان النبي عليه الصلاة والسلام منذ وصوله المدينة يتطلع إلى أن يؤمر بأن تكون قبلته الكعبة، قبلة أبيه إبراهيم، فهي قبلة بني قومه، يعظمونها ويفتخرون بها. لذلك جعل يديكم النظر إلى السماء، راجيا أن يمنّ الله عليه بالوحي الذي يأمره بذلك، فأوحى الله تعالى إليه قوله ﴿ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء.... ﴾ فها نحن أولاء نؤتيك سؤلك، فاستقبل في صلاتك المسجد الحرام، واستقبلوه كذلك أيها المؤمنون، في أي مكان تكونون.
أما أهل الكتاب فإنهم يعلمون أن استقبال القبلة في المسجد الحرام هو الحق المنزل من الله على رسوله، ومع ذلك تجدهم يثيرون الشغب والفتنة، ويؤثّرون على الضعاف في دينهم، ويوهمونهم أن ما يقولونه مأخوذ من كتبهم، وما هو من كتبهم، ولكنهم يريدون بذلك الخداع والفتنة.
والله ليس غافلا عنهم، وهو يجزيهم بما يفعلون. ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد.
القراءات :
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «يعملون » بالياء. وبالباقون «تعملون » بالتاء.
ما صدقوا به ولا اتبعوك، لأن إنكارهم ما كان لشبهة تزيلها الحجة، بل هو عناد ومكابرة، فلا يُجدي معهم برهان ولا تقنعهم حجة.
وإذا كان اليهود يطمعون في رجوعك إلى قبلتهم، ويعلقون إسلامهم على ذلك، كما راجعك نفر منهم- فقد خاب رجاؤهم، ولن تتحول إلى قبلتهم.
إن اليهود لن يتركوا قبلتهم ويتوجهوا إلى المشرق، ولا النصارى تغير قبلتها وتتجه إلى المغرب.
﴿ وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم... ﴾ ولئن التمست يا محمد، رضا هؤلاء اليهود فاتبعت قبلتهم من بعدما أوحينا إليك أنهم مقيمون على باطل، فإنك إذّاك من الظالمين أنفسهم المخالفين لأمري.
والنهي في هذه الآية كالوعيد في الآية السابقة ﴿ وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم.. ﴾ الخطاب فيه موجه إلى النبي عليه السلام، والمراد به من كانوا غير راسخي الإيمان من أُمته.
وقد كرر سبحانه هذا الأمر ثلاث مرات تأكيدا لأهمية هذا الموضوع حتى تنقطع حجة أهل الكتاب والمشركين ومن تبعهم من المنافقين، إلا الذين ظلموا منهم فلن ينقطع جدالهم وضلالهم.
وسيظل اليهود يقولون : ما تحوّل إلى الكعبة الا حباً لبلده، ولو كان على حق للزم قبلة الأنبياء الذي قبله.
ويقول المشركون : رجع إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا.
ويقول المنافقين : إنه متردد مضطرب لا يثبت على قبلة.
لا تبالوا بمثل هؤلاء، فإن مطاعنهم لا تضركم، واخشوني ولا تخالفوا أمري، بذلك أتم نعمتي عليكم بإعطائكم قبلة مستقلة لكم، لعلكم تهتدون.
وكذلك بالصلاة، وهي الوقوف بين يدي الله تعالى ومناجاته بخشوع وتدبر، وطلب المعونة والهداية منه. بذلك يطهُر جسد المؤمن، كما تطهر روحه.
وقد خص الصبر والصلاة معاً، لأن الصبر أشد الأعمال الباطنية على البدن، والصلاة أشد الأعمال الظاهرة عليه. وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أمر صلّى ».
فالصبر والصلاة من أقوى عُدد المؤمن في هذه الحياة، إن الله مع الصابرين.
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هو ميت، فإنه حي عندي في حياة نعيم، وعيش هنيء.
فالشهداء أحياء في عالم غير عالمنا، ونحن لا نشعر بحياتهم، لأنها ليست في عالم الحس الذي يدرَك بالمشاعر. وقد صوّرها رسول الله أجمل تصوير رمزي فيما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود :«أن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعةً، فقال : ماذا تبغون ؟ فقالوا : يا ربنا، وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك ؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يُتركون من أن يُسألوا قالوا : نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نُقتل فيك مرة أخرى، لما رأوا من ثواب الشهادة، فيقول الرب جل جلاله : إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون ».
وقد وردت أحاديث كثيرة تشيد بالجهاد في سبيل الله، وفضل الشهداء والشهادة. وهل هناك أعظم من التضيحة في سبيل الله والوطن ! !
المصيبة : كل ما يؤذي الانسان في نفسه أو ماله أو أهله.
الصلاة من الله للفرد : التعظيم للإنسان وإعلاء منزلته.
والرحمة منه : اللطف بما يكون من حسن العزاء.
هذا إخبار من الله تعالى للمسلمين أنه مبتليهم بشدائد من الأمور ليُعلم من يتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وسيمتحنهم بشيء من الخوف من العدو، والجوع من القحط، ليختبرهم أيضاً. يومئذ تنقص أموالكم، وتكون حروب بينكم وبين الكفار، وتقع جدوب تنقص فيها ثماركم، ويومئذ يتبين الصادقون منكم في إيمانهم من الكاذبين فيه، ويُعرف أهل البصائر في دينهم منكم من أهل النفاق فيه. ولن يعصمكم في هذا الامتحان القاسي إلا الصبر. ولذلك بشّر يا محمد، الصابرين على امتحاني، والحافظين أنفسهم عن الإقدام على مخالفة أوامري، والذين يؤدون فرائضي مع ابتلائي إياهم،
هذه تربية ربانية عالية للمسلمين، ليعدّهم لأمر عظيم، وذلك الأمر هو نشر دينه القويم، ودعوته السماوية التي أخرجت الناس من الظلمات إلى النور.
وقد قاموا بحقها ووفوها بعز وإيمان. لقد أدوها يومذاك خير أداء، وهو ما يُطلب منا اليوم، أن نأخذ بهذه الآداب الربانية، ونلتف حول القرآن الكريم، لنستعيد مجدنا وكرامتنا، ونستحق الحياة في هذا الكون، ونكون من المهتدين.
شعائر الله والمشاعر : المناسك والعبادات.
الحج : الذهاب إلى بيت الله الحرام في أيام موقوتة وذلك على من استطاع. العمرة : معناها في اللغة : الزيارة، وفي الشرع : الزيارة لأداء مناسكها.
فلا جناح عليه : لا إثم عليه.
التطوع : التبرع بالخير.
كان بين الصفا والمروة سوق تجارية عامة، فكان في السعي بينهما بعض المتاعب، نتيجة لما يصادفه الساعي من الاحتكاك بالناس والحيوان. والمسافة بينهما نحو ستين وسبع مائة ذراعا. وقد أزيل السوق وضم إلى الحرم، ونظم السعي حيث جعل على قسمين : قسم للذهاب، وآخر للإياب، وبينهما حاجز. ومهما كان في السعي من زحام، فإن المرء يسعى بكل راحة واطمئنان.
وقد كان في زمن الجاهلية على كل من الصفا والمروة صنم يطوف به أهل مكة ويتبركون. فلما جاء الإسلام تحرج بعض المسلمين، وقالوا : كيف نطوف في هذا المكان، وقد كان المشركون يتبركون بالأصنام فيه ؟ كذلك كان أهل يثرب يحجون إلى مناة، الصنم المشهور، فقالوا بعد إسلامهم : يا رسول الله، إنا كنا في الجاهلية لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما ؟ فأنزل الله تعالى ﴿ إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله... ﴾ الآية.
إن هذين الموضعين من مناسك الحج والعمرة، فمن أدى فريضة الحج أو اعتمر فلا يتخوف من الطواف بينهما، ولا حرج على من زاد وأكثر من الطاعة في العبادة، فإن الله تعالى يجازيه على الإحسان إحسانا. وذلك أنه مهما استكثر المؤمن من عمل الخير، فإن الله يزيده من الأجر أضعافا مضاعفة.
وفي هذا تعليم لنا وتأديب كبير، فإذا كان الله تعالى يشكرنا على تأدية الواجبات وعمل الطاعات، فإن معنى هذا أن نشكر الله على ما أسبغ علينا من النعم الكثيرة. كذلك فيه تعليم لنا أن نشكر كل من أسدى إلينا معروفا، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
القراءات :
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب :«ومن يطَّوَّع » بالياء والإدغام.
البينات : الأدلة الواضحة.
الكتاب : يراد به الكتب المنزلة من عند الله.
اللعن : الطرد و الإبعاد.
الكلام هنا في عناد اليهود ومن تابَعهم من المنافقين. لذلك انتقل من بيان مشروعية الطواف بالصفا والمروة إلى الحملة على هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى. والظاهر أن هناك من اعترض منهم أيضاً على مناسك الحج، لكن حكم الآية ههنا شامل لكل من كتم علماً فرض الله بيانه للناس.
إن أهل الكتاب الذين كتموا أمر الإسلام، ونبوة محمد رغم أنهم يجدون ذلك لديهم في التوراة والانجيل، والذين عرفوا براهين صدق نبوته، ثم أخفوا هذه الدلائل، وكتموها عن الناس، أولئك يصب الله غضبه عليهم ويبعدهم من رحمته.
إنهم مطرودون من جميع المخلوقات، يرجون رحمة ربهم ولا يستطيع أحد أن يشفع لهم.
إنه الذي وسعت رحمتُه كل شيء، فحسْب المرء أن يرجو رحمته ولا يعتمد رحمة سواه.
وقد قرَن الوحدانيةَ مع الرحمة دون غيرهما من صفاته، ليبين لعباده أنه يرحم ويغفر أكبر الذنوب، يفعل ذلك ترغيباً في التوبة والرجوع إليه في كل حين.
كذلك ما يجري في البحر من السفن التي تحمل الناس والمتاع، ولا يسيّرها إلا الله.
كذلك فهو الذي يرسل الرياح التي تبعث المطر، فيحيي الحيوان ويسقي الأرض والنبات.
ومن خلقه أيضا ما ترونه من السحاب المعلّق بين السماء والأرض.
والآن، هل يعقل أن تقوم هذه الأشياء كلها، وبهذا الإتقان والإحكام من تلقاء نفسها ! أم هي صنع العليم القدير !
ويدلنا علم الفلك أن عدد نجوم السماء مثل عدد ذرات الرمال الموجودة على سواحل البحار في الدنيا كلها، فمنها ما هو أكبر من الأرض وما هو أصغر منها. لكن أكثرها كبير جداً، حتى ليمكن أن يعدِل أحدها ملايين النجوم التي في مثل حجم أرضنا هذه.
عندما تكون السماء صافية نستطيع أن نرى بالعين المجردة خمسة آلاف من النجوم، ولكن هذا العدد يتضاعف إلى أكثر من مليونين حين نستعمل تلكسوباً عادياً. ذلك أن الفضاء الكوني فسيح جداً، تتحرك فيه كواكب لا حصر لها، وبسرعة خارقة، فبعضها يواصل رحتله وحده، ومنها ما يسير مثنى مثنى، أو في مجموعات.
وأقرب حركة منا هي حركة القمر الذي يبعد حوالي ٢٤٠. ٠٠٠ ميل. وهو يكمل دورته حول الأرض من تسعة وعشرين يوماً ونصف يوم.
كذلك تبعد أرضنا عن الشمس مسافة ( ٠٠٠. ٠٠٠. ٩٢ ) ميل، وهي تدور حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة، وقطر فلكها ( ٠٠٠. ٠٠٠. ١٩٠ ) ميل تكمله مرة واحدة في السنة.
وهناك تسعة كواكب مع الأرض، وكلّها تدور حول الشمس بسرعة فائقة. فالمشتري مثلا يكمل دورة واحدة حول الشمس كل إحدى عشر سنة وستة وثمانين يوما. وزحل كل تسعة وعشرين سنة وستة وأربعين يوما. وأورانس كل أربعة وثمانين سنة ويومين. ونبتون كل أربع وستين ومائة سنة وسبعة وتسعين يوما. وأبعد هذه الكواكب السيّارة حول الشمس هو بلوتو الذي تستغرق دورة واحدة منه حول الشمس ٢٤٨ سنة و ٤٣ يوما. وحول هذه الكواكب يدور واحد وثلاثون قمرا.
ولا ننسى ذلك العملاق الذي نسميه «الشمس »، وهي أكبر من الأرض بمليون ومئتي ألف مرة. ثم إن هذه الشمس ليست بثابتة في مكانها، وإنما هي بدورها تدور مع كل هذه السيارات والنجميات في هذا النظام الرائع. وهناك آلاف من الأنظمة غير نظامنا الشمسي، يتكون منها ذلك النظام الذي يسمى المجرات.
وكأنها جميعا طبق عظيم تدور عليه النجوم والكواكب منفردة ومجتمعة كما يدور الخذروف يلعب به الطفل، ﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾.
ويقدّر علماء الفلك أن هذا االكون يتألف من خمسمائة مليون واحدة من هذه المجرات، ويرون ان هذا الكون الفسيح بأعداده الهائلة من الكواكب والنجوم إنما يسير بحركة منتظمة، طبقاً لنظام وقواعد محكمة لا يصطدم فيها بعضها ببعض. وأن العقل حين ينظر إلى هذا النظام العجيب، والتنظيم الدقيق الغريب، لا يلبث أن يحكم باستحالة أن يكون هذا قائما بنفسه، بل يجزم أن هناك قدرة هي التي تقيمه وتهيمن عليه. تلك هي قدرة الله الواحد القدير. أفليس في هذه العجائب والمشاهد عبر ومواعظ لمن يتدبر بعقله، ويستدل بما فيها من إتقان وإحكام على قدرة مبدعها وحكمته !
وقد قال بعض العلماء : إن لله كتابين : كتاباً مخلوقاً هو الكون، وكتابا منزلا مقروءاً هو القرآن، يرشدنا إلى طرق العلم بذلك، فمن اعتبر بهما فاز.
القراءات :
قرأ حمزة والكسائي «وتصريف الريح » على الإفراد.
بعد أن بين الله تعالى ظواهر الكون الدالة على قدرة الخالق وعظمته يقول هنا : رغم هذه الدلائل الواضحة، والآيات البيّنات اتخذ بعض الناس ممن ضلت عقولهم أرباباً متعددة غير الله، وجعلوهم أندادا له يطيعونهم ويعبدونهم ويحبونهم كحب المؤمنين لله، وقد يكون هؤلاء الأرباب من رؤسائهم الذين يتبعونهم ويتعلقون بهم، وقد يكونون أحجاراً أو أشجارا، أو نجوما وكواكب، أو ملائكة وشياطين، أو حيوانات وهذا شرك عظيم.
والذين آمنوا أشد حباً لله من كل ما سواه. والتعبير هنا بالحب جميل فوق أنه صادق. فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب والانقياد التي لا تنقطع، فهو يلجأ إلى الله دائما عند كل شدة أو نائبة.
ولو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها بالشرك ما سينالهم من العذاب يوم القيامة، يوم تكون القوة جميعها لله وحده ؛ وأنهم كانوا ضالين حين لجأوا إلى سواه، ويتحققون من أن الله شديد العذاب.
القراءات :
قرأ ابن عامر ونافع ويعقوب «ولو ترى الذين ظلموا » بالتاء، خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم. ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيماً. وقرأ ابن عامر «إذ يُرون العذاب » على البناء للمفعول. وقرأ يعقوب «إن القوة لله » بكسر همزة إن.
هذا نداء للناس جميعاً يدعوهم الله فيه فيقول : كلوا مما أحللتُ من الأطعمة على لسان رسولي إليكم، وهوكل طعام ما لم يكن ميتة أو دماً مسفوحا أو لحم خنزير أو ما أُهلّ به لغير الله، ما عدا هذا فهو حلال لكم. دعُوا طرائق الشيطان ومسالكه، فإنه عدو لكم، فهو منشأ الخواطر الرديئة، والمحرض على ارتكاب الجرائم والآثام.
القراءات :
قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر «خطوات » بتسكين الطاء.
الفحشاء : كل ما يَفحُش قبحه في أعين الناس.
ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وإفساده :﴿ إنما يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء ﴾، فهو يزين لكم ما هو سيء في ذاته، ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع، يدفعكم لأن تفعلوا ما يسوؤكم في دنياكم، ويخرب عليكم آخرتكم. وهو يأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون، فتحرّمون ما أباح الله، وتحللون ما حرّم. وفي ذلك كله اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان.
وإذا قيل لهؤلاء الذين اتبعوا خطوات الشيطان وتمسكوا بما توارثوا عن آبائهم في العقيدة والعمل : يا هؤلاء، اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحي الصادق، وما فيه من هدى ونور مبين، قالوا : لا نعدل عما وجدنا عليه آباءنا. وهكذا تجدهم قد أبطلوا فضل ما خصّ الله به الإنسان من الفكر. ذلك أن الله ميز الانسان بالعقل ليعرف الحق من الباطل في الاعتقاد، والصدق من الكذب في الأقوال، والجميل من القبيح في الأفعال. فلما حث الناسَ على تناول الحلال الطيب، ونهاهم عن متابعة الشيطان، وجانبَ الكفار الرشاد باتباعهم الآباء والأجداد قال :﴿ أولَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾، وهذا منتهى الذم والتوبيخ، فكيف يتبعون ما أَلْفوا عليه آباءهم وهم لا يعقلون ! !
بعد أن نعى سبحانه وتعالى على الكفار سوءَ حالهم، وتقليدَهم لآبائهم وساداتهم من الرؤساء دون استنادهم إلى برهان يعتمدون عليه، أعقب ذلك برسم صورة زرية لهذا الجمود، فصّور البهيمة السارحة التي تسمع صياح راعيها ولكنها لا تفهم ما يريد، وهذا مثلُ الكافرين في تقليدهم، وعدم تأملهم فيما يلقى إليهم. هؤلاء الكفار أضل من هذه البهائم، فهم عن الحق صم الآذان، عمي البصائر، خرس الألسنة، لا ينطقون بخير، ولا يصدون عن عقل.
وقد جعل الله تعالى هذه الأمة وسطاً تعطي الجسد حقه، والروح حقها. فأباح أن نتمتع بما طاب كسبه من الحلال ولا نمتنع عنه تديُّناً ولا تعذيباً للنفس، ولا نحرم بعضا ونحلل بعضا، تقليداً للرؤساء والحاكمين، فقال : يا أيها الذين آمنوا أبيحَ لكم أن تأكلوا من الطعام الطيب، فاشكروا الله على ما أولاكم من نعمة التمكين من الطيبات، ومن نعمة الطاعة والامتثال لأمره إن كنتم تعبدونه حقا.
وسأبيّن لكم المحرم عليكم، فلا تسمعوا للمشركين وما حرّموا، ولا لما زعمه اليهود وغيرهم.
إن المحرم عليكم هو ما مات من الحيوان ولم يذبح، فالميتة مؤذية للجسم. ونحن نعرف أن ما يموت بشيخوخة أو مرض يكون موته بسبب مواد سامة ضارة عجز جسمه عن دفع أذاها. أما في حال الاختناق أو الحرق والغرق، فإن الدم تتكون فيه مواد ضارة كثيرة.
والدم حرام عليكم أيضا، وكان العرب يأكلونه ويقدمونه لضيوفهم. كانوا يفصدون الحيوان، ويحشون ما يسيل من عِرقِه في مصران يشوونه ثم يأكلونه، وربما شربوا الدم طلباً للقوّة، فحرمه الله.
ولحم الخنزير، لأنه ضار وناقل للكثير من الأمراض الخطيرة، ولا سيما في البلاد الحارة.
وما أُهل به لغير الله، كان العرب يذبحون القرابين لأصنامهم وآلهتهم، ويرفعون أصواتهم باسم آلهتهم. وهذا شرك وكفر.
ثم يضع قاعدة جليلة هي إباحة هذه الممنوعات عند الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات. ولذلك قال تعالى :﴿ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلاا إثم عَلَيْهِ ﴾، فمن أُلجىء إلى أكل شيء مما حرم الله بأن لم يجد غيره، وخاف على نفسه الهلاك جوعاً، ولم يكن راغباً فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة، فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم.
الهدى : الرشاد. الشرائع التي أنزلها الله على لسان أنبيائه.
الشقاق : العداء. التنازع.
ذلك بأنهم تركوا الهدى الواضح الذي لا خلاف فيه، واتبعوا الضلال، واشتروا العذاب بالمغفرة، بذلك كانوا هم الجناة على أنفسهم، فما أصبرهم على حر جهنم !
وكتمان الحق يتناول كل إنسان من أية ملة كان : يهوديا أو نصرانيا أو مسلما، فهو حكمٌ عام مستمر في كل مكان وكل زمان.
أما بالنسبة إلى الله فهو : الثواب والرضا والمحبة الإلهية.
المساكين : مفرده مسكين وهو الذي لا يستطيع العمل، ولا يفطن أحد له لأنه لا يسأل الناس.
ابن السبيل : هو المسافر إذا انقطع فلا يجد ما يوصله إلى بلده.
السائلين : الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال، فاضطروا إلى التكفف.
في الرقاب : تحرير العبيد وإعانتهم على فك رقابهم.
البأساء : الشدة.
الضراء : كل ما يضر الانسان من مرض أو فقد حبيب من أهل أو مال.
حين البأس : وقت الحرب.
هذه أجمع الآيات في تحديد معنى البر من النواحي الواقعية.
فهي ترشد إلى أن البر لا يرتبط بشيء من المظاهر والصور والأشكال، وإنما بالحقائق ولب الأمور وروح التكاليف.
كما ترشد إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير : برٌّ في العقيدة، وبر في العمل، وبر في الخُلق.
يعلمنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن الخير ليس في الجدل في أمور لا تجدي، ولا هو متعلق بالتوجه إلى المشرق أو المغرب في صلاة مظهرية جوفاء، كلا، وإنما هو أولاً الإيمان بالله في ربوبيته ووحدانيته، والإيمان باليوم الآخر، حيث تتم المحاسبة على ما جنته الجوارح وما في القلوب والضمائر. بيد أن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يمكن للعقل البشري أن يصل إليه مستقلاًّ، بل لا بد من واسطة تدلنا عليه، وهي من ثلاثة عناصر : الملائكة الذين يتلقون عن الله مباشرة، والأنبياء الذين يتلقون عن الملائكة، والكتاب الذي يتلقونه ويبلّغون ما فيه من أحكام وتشريعات. وقد عبر الله عنها بالكتاب إشارة إلى وحدة الدين عند الله.
هذه الأمور الخمسة هي البر في العقيدة : الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.
أما البر في العمل، فله شُعب كثيرة ترجع كلها مهما تنوعت إلى بذل النفس والمال ابتغاء مرضاة الله، وإدخال السرور على خلق الله. والعمل هو مَدَدُ العقيدة، وفي نفس الوقت ثمرتها يحفظها وينمّيها، ويدل عليها. وقد ذكرت الآية بذل النفس في أعظم مظهر له، ذلك هو إقامة الصلاة، فالصلاة هي عماد الدين، والفارق بين المؤمن وغيره. إنها مناجاة العبد لربه، والناهية عن الفحشاء والمنكر، والعاصمة من الهلع والجزع. هذه هي الصلاة، إذا اقامها المرء على حقيقتها، فوقف بين يدي ربه وقد خلع نفسه من كل شيء في دنياه، وسلّم لله أموره ونسي ما عداه، بذلك يكون قد بذل نفسه لله، ووضعها بين يديه، فجاءت صلاته عهداً حقيقياً بينه وبين ربه.
ثم بين الله تعالى في الآية بذل المال في صورتين : أحدهما : قوله تعالى :﴿ وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب ﴾. والثانية : قوله تعالى :﴿ وآتىالزكاة ﴾، ويجب أن يفهم هنا بمقتضى هذا الوضع القرآني الكريم أن الزكاة المفروضة شيء، وأن إيتاء المال لهؤلاء الأصناف المذكورة شيء آخر، لا يندرج في الزكاة ولا تغني عنه الزكاة.
وقد قدّم الله تعالى الكلام في بذل المال لسد حاجة المحتاجين، ودفع ضرورة المضطرين، والقيام بمصالح المسلمين، وحث عليه وأكده لأنه هو البر الحقيقي. أما الزكاة فهي فرض من الفروض الواجبة على المسلم يؤديها طبقا لشروطها. فإذا لم يقم الأغنياء والقادرون ببذل المال على هذا الوجه، واكتفوا بدفع الزكاة فقط، فإنهم ليسوا على البر الذي أراده الله من عباده. وهذا أصل عظيم في تنظيم الحياة الاجتماعية يباح به لمن يولِّيه المسلمون أمرهم أن يشرّع ألوانا من الضرائب إذالم تفِ الزكاة بحاجة الأفراد والمجتمع.
﴿ وَآتَى المال على حُبِّهِ ﴾ أي : بذَلَه رغم فطرة حب المال عند الانسان، وبذلك يبرز معنى الإيثار ﴿ لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [ آل عمران : ٩٢ ] و ﴿ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [ الحشر : ٩ ]. وقد قال صلى الله عليه وسلم :«أفضل الصدقة أن تصَّدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقروتأمل الغنى » أخرجه البخاري عن أبي هريرة.
ذوي القربى : الأقرباء المحتاجين، وهم أحق الناس بالبر. وقد ورد في الحديث «أن الصدقة على المسكين صدقة. وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة، وصلة ».
واليتامى : وهم الصغار فقدوا آباءهم، وليس لهم عائل يرعاهم. وقد عني الإسلام بأمر اليتيم، والحث على تربيته، والمحافظة على نفسه وماله إذا كان له مال. وقد ظهرت عناية القرآن الكريم بشأن اليتيم منذ أن نزل إلى أن انقطع الوحي، وستمر بنا آيات كثيرة في ذلك. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «خير بيتٍ في المسلمين بيت فيه يتيم يحسَن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ».
والمساكين : هم الذين لا يستطيعون العمل، ولا يفطن الناس إليهم لأنهم
لا يسألون.
وابن السبيل : هو المسافر الذي انقطعت به الطريق فلا يوصله إلى أهله. والسائلين : الذين الجأتهم الحاجة إلى السؤال، فاضطروا إلى التكفف.
وفي الرقاب : أي : لتحرير الأرقاء. والإسلام أول دين شرّع «العتق ». لقد حث على تحرير العبيد ولم يشرع الرق، لأن هذا كان موجودا منذ أقدم العصور. لذا جعل من مصارف الزكاة إنفاقها في الرقاب، أي : فكاك الأسرى وعتق الرقيق. ولقد حث الرسول الكريم في كثير من وصاياه وأحاديثه على الرفق بالرقيق والعمل على تحريرهم.
والبر في الخُلق هو المبدأ الثالث في هذه الآية العظيمة، وهو يشمل :
مبدأ القيام بالواجب، وقد جاء التعبير عنه بقوله تعالى :﴿ والموفون بِعَهْدِهِمْ إذا عَاهَدُواْ ﴾.
ومبدأ مقاومة الطوارىء والتغلب على عقبات الحياة كما جاء في قوله تعالى :﴿ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ﴾.
والعهد لفظٌ شامل يجمع ألوانا من ارتباطات والتزامات لا غنى للناس عنها، ولا استقامة للحياة بدونها.
وهي على كثرتها ترجع إلى واحد من ثلاثة : عهد بين العبد وربه، وعهد بين الانسان وأخيه، وعهد بين دولة ودولة. أما مبدأ المقاومة فقد عبر عنه تعالى بقوله :﴿ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ﴾، الصبر كما قدمنا الكلام عنه في شرح ﴿ استعينوا بالصبر والصلاة ﴾ هو عدة النجاح في الحياة، والسبيل الوحيد للتغلب على جميع الصعاب. وقد ذكر سبحانه هنا ثلاث حالات هي أبرز ما يظهر فيه الهلع : البأساء والضراء وحين البأس. وقد تقدم تفسيرها.
هذه عناصر البر في العقيدة والعمل والخلق، تحدثت عنها هذه الآية الكريمة، وختمت حديثها بحصر الصدق والتقوى فيمن اتصف بهذه المبادىء من المؤمنين، ﴿ أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون ﴾، فالذين يجمعون هذه العقائد والأعمال الخيرة هم الذين صدقوا في إيمانهم.
وهذه الآية دستور شامل عظيم.
القراءات :
قرأ حمزة وحفص «ليس البر » بالنصب والباقون «ليس البر » بالرفع. وقرأ نافع وابن عامر «ولكن البر » بتخفيف لكن ورفع البر.
القصاص : أن يُقتل القاتل.
الألباب : جمع لب وهو العقل.
﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ ﴾ هذا نهج الآيات المدنية فإنها تصدر بهذا النداء، والحكم لجميع الناس. فُرض عليكم القصاص في القتلى... وهو قتْل من قَتل نفسا عامداً متعمداً، ففي ذلك العدل والمساواة.
لقد كان القصاص في الجاهلية خاضعاً لقوة القبائل وضعفها، فبعضهم كان لا يكتفي بقتل القاتل الفرد، بل يطلبون قتل رئيس القبيلة. وبعضهم كان يطلب قتل عدد من الأشخاص بدل المقتول. وهذا ظلم كبير. فجاء الإسلام بالعدل والمساواة، وفرض قتل القاتل فقط. ثم خصّصت الآية فنصّت على بعض الجزيئات ﴿ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾ تأكيداً لإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية من فرض عدم التساوي في الدماء. أما الحكم في الإسلام فهو أن يُقتَل القاتل سواء كان حراً قتل عبدا أو بالعكس. وذلك لأن هذا جاء واضحاً في قوله تعالى :﴿ النفس بالنفس ﴾ كما جاء في سورة المائدة.
ولكن إذا قتل رجل ولده، اختلف العلماء في ذلك :
فمنهم من رأى أن يُقتل الوالد كالإمام مالك، وذلك في حالة ما إذا أضجعه وذبحه بالسكين.
ومنهم من قال لا يُقتل به، وهم الأغلب.
وكذلك إذا قتل جماعة رجلاً واحداً.. فجمهور العلماء أنهم يقتلون به. كذلك فعل عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما.
واختلفوا في قتل المسلم ذميا، فبعضهم قال : لا يقتل به وهم الأغلب،
وقال البعض : يقتل به.
وبعد أن بين سبحانه وتعالى وجوب القصاص، وهو أساس العدل، ذكر تشريع العفو ليوجّه النفوس إليه، ويثير في سبيله عاطفة الأخوة الانسانية، فقال تعالى ما معناه : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه باحسان. وذلك أن القاتل إذا حصل له تجاوز عن جنايته من ولي الدم، فيجب أن يكون تعاملهما بما يشرح الصدور، ويذهب بالأحقاد، على أخيه أن يُتْبع عفوه بالمعروف، فلا يثقل عليه في البذل، ولا يحرجه في الطلب. أما القاتل المعفوّ له عن جنايته فعليه أن يقدر ذلك العفو، فلا يبخس صاحبه حقه، ولا يمطله في الأداء. وهنا تظهر عظمة الإسلام في القصاص، فقد نظر إلى أمرٍ لم ينظر إليه القانونيون، وهو أن جعل القصاص حقا لأولياء القتيل، كما جعل لهم الخيار بين العفو أو القصاص. فأساس القصاص هو رفع الاعتداء في القتل بقتل القاتل، فإن سمت نفوس أهل الدم فآثروا العفو، وجب لهم دية قتيلهم. وعلى أولياء الدم إتباع هذا الحكم بالتسامح، وعلى القاتل أداء الدية دون مماطلة أو بخس.
ذلك هو الحكم الذي شرعناه لكم من العفو عن القاتل والاكتفاء بقدر من المال، وهو تخفيف ورخصة من ربكم ورحمة لكم. فمن اعتدى وانتقم من القاتل بعد العفو والرضى بالدية، فله عذاب أليم من ربه يوم القيامة.
ولا ريب أن من علم أنه إذا قتَلَ قُتِل، وأن القصاص له بالمرصاد كفّ نفسه عن قتل صاحبه فسلم ذاك من القتل، وهذا من القصاص. وكذلك في تنفيذ القصاص على الوجه الذي شرع الله، وهو قتل القاتل وحده دون إسراف بقتل غيره.
وفي قوله تعالى :﴿ يا أولي الألباب ﴾ إشارة لطيفة إلى أن القصاص بجانبيه من شأن أولي العقول، الذين يقدّرون وسائل الحياة الصحيحة. وما إهمال الأمة في تشريع القصاص وإسرافها في الأخذ بالثأر إلا نقيض للعقل والإيمان.
ثم أشار سبحانه بعد ذلك إلى أن هذا التشريع من شأنه أن يعد النفوس للصلاح بدل الفساد، وللتقوى بدل العصيان، فقال :﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، فليتدبر أولو العقول مزية القصاص هذه.
خيرا : الخير كل ما يحقق نفعا أو سعادة، ويطلق على المال الكثير الطيب، وهو المقصود هنا.
الوصية : ما يكتبه الرجل ليُعمل به من بعده.
المعروف : الخير المتعارف به بين الناس.
كان الكلام في الآية السابقة عن القصاص في القتل، وفي هذه الآية جاء تشريع آخر هو الوصية عند الموت. والمناسبة بين هذه الآيات واضحة، والخطاب موجه إلى الناس كلهم بأن يوصوا بشيء من الخير، فيقول سبحانه : فرض عليكم إذا حضرت أسبابُ الموت وعلله أحداً من الناس، وكان عنده مال كثير، يوصي من هذا المال للوالدين وذوي القربى بشيء منه، على أن لا تزيد الوصية على ثلث مال الموصي. فأما إذا كان ماله قليلاً وله ورثة، فلا تجب عليه الوصية، لأن الله تعالى يقول :﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾ والخير : هو المال الكثير.
ونص الآية أن الوصية تجب للوالدين والأقربين. وهناك آية الميراث في سورة النساء التي تورّث الوالدين. وهناك حديث صحيح :«لا وصية لوارث »، رواه أصحاب السنن، ولذلك قال معظم العلماء : إن الوصية لا تجوز للوارث بما في ذلك الأب والأم ؟ وقال بعضهم : يجوز أن يوصي لبعض الورثة عملاً بهذه الآية. أما الأقربون الذين لا يرثون، فالوصية لهم جائزة بنص هذه الآية، وحكمها باق.
وحكمة الوصية للأقارب عظيمة، فهي لون من ألوان التكافل الاجتماعي. ولذلك قال تعالى ﴿ حَقّاً عَلَى المتقين ﴾ أي : أوجب ذلك حقا على المتقين.
وحكم الوصية عند جمهور العلماء : أنها مندوبة.
وقال بعض العلماء : إنها واجبة.
فإذا خرج الموصي في وصيته عن نهج الشرع فتنازع الموصى لهم في المال، أو مع الورثة، فتوسط بينهم من يعلم بذلك وأصلح، فلا إثم عليه في هذا التبديل، لأنه تبديل باطلٍ بحق، وإزالة مفسدة بمصلحة، إن الله غفور رحيم.
القراءات :
قرأ حمزة ويعقوب والكسائي وأبو بكر «موصّ » بتشديد الصاد من وصّى.
والصيام عبادة قديمة جاءت بها الأديان السابقة سماوية وغيرها. فقد كان قدماء المصريين يصومون، ومثلهم اليويان والرومان. وكان صيام في الديانة اليهودية، وورد في الأناجيل. ولا يزال الوثنيون من الهنود يصومون. ولذلك قال تعالى ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام... ﴾ ومعناه : فُرض عليكم الصيام كما فرض على أهل المِلل قبلكم، وذلك كيما يعدّكم الله للتقوى بترك الشهوات المباحة، بذلك تتربّى عندكم العزيمة والإرادة على ضبط النفس وترك الشهوات المحرمة. فالصوم من أجلّ العبادات التي تهذب النفوس، وتعوّدها ضبط النفس، وخشية الله في السر والعلن، لأن الصائم لا رقيب عليه سوى ضميره. هذا كما يتعود الإنسان الشفقة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة.
أما الفوائد الصحية فإنها كثيرة جدا، منها أن : الصوم المعتدل يذهِب السمنة وهي من أشد الأخطار على الصحة في العصر الحاضر، ويطهر الأمعاء من السموم، وفوائد أخرى جليلة تُطلب في الكتب الطبية.
وعلى الذين يطيقون الصيام لكن بشدة، افتداء إفطارهم بإطعام مسكين. وذلك مثل : الشيوخ الضعفاء، والمرضى الذين لا يرجى برء أمراضهم، والعمال الذين معاشهم الدائم بالعمل الشاق، والحبلى والمرضع إذا خافتا على ولديهما. فكل هؤلاء يفطرون، ويطعمون مسكينا عن كل يوم، ومن أوسط ما يطعمون أهليهم، بقدر كفايته، أكلة واحدة مشبعة.
وخلاصة ما تقدم أن المسلمين أمام الصوم أقسام ثلاثة :
المقيم الصحيح القادر على الصيام بلا ضرر ولا مشقة، فالصوم عليه واجب، وإذا أفطر أخلّ بأحد أركان الإسلام.
المريض والمسافر، ويباح لهما الإفطار مع وجوب القضاء، ولو كان السفر في البحر أو البر أو الطائرة. والمرض غير محدّد بل هو متروك للشخص يقدره. فقد روى طريف بن تمام العطاردي قال : دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال : وجعتْ أصبعي هذه. ومحمد بن سيرين من كبار العلماء المشهورين.
وقال البخاري : اعتللت بنيسا بور علة خفيفة، في رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي : أفطرت يا أبا عبد الله ؟ قلت : نعم. فقال : خشيت أن تضعُف عن قبول الرخصة.
وكما رخّص الله تعالى في المرض كمارخص في السفر. روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال :«خرج رسول الله في سفر في رمضان والناس مختلفون فصائم ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء، فشرب نهاراً ليراه الناس ».
وعن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً وقد رحلتْ راحلته ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له : سُنّة ؟ فقال : سنة، ثم ركب. رواه الترمذي.
وهذا من تمام نعمة الله على عباده وسيره بهم في طريق اليسر والسهولة، فلا ينبغي لمؤمن أن يضيق صدره برخَص الله، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه، إنه بعباده رؤوف رحيم.
الشيخ الكبير ومن يماثله ممن يشق عليهم الصوم لسبب من الأسباب التي لا يرجى زوالها. وهؤلاء أباح الله لهم أن يفطروا، وكلّفهم بالإطعام بدلاً عن الصوم. ومن تطوع فزاد في الفدية فذلك من عنده وهو خير له.
وفي حكم ما ذكرنا من الشيخوخة والمرض ما يزاوله بعض العمال والصناع من أعمال تكاد تكون مستمرة طوال العام، ويشق عليهم الصوم معها مشقة عظيمة. فإذا تعينت هذه الأعمال سبيلاً لعيشهم بأن لم يجدوا سواها، أو لم يحسنوا غيرها، فلهم أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكينا. ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ... ﴾. ﴿ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر... ﴾.
القراءات :
قرأ ابن عامر براوية ذكوان ونافع «فدية طعام مساكين » بإضافة فدية إلى طعام ومساكين بالجمع. وقرأ عامر برواية هشام «فدية طعام مساكين... » بدون إضافة.
القراءات :
قرأ عاصم برواية أبي بكر «ولتكمّلوا العدة » بالتشديد.
فإذا كنت قريبا مجيباً دعوة من دعاني، فليستجيبوا لي بالإيمان بي وتوجيه العبادات إليّ حتى أجيب دعاءهم، لعلهم يهتدون.
لباس لكم : الملابسة والمخالطة.
المباشرة : الجماع.
الاعتكاف : البقاء في المسجد للتعبد مدة.
تختانون أنفسكم : تخونون.
بعد أن بين لنا سبحانه كيفية الصيام، والأعذار المبيحة له، أردف في هذه الآية بقية أحكام الصوم، فقال :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ﴾ أي : إتيان نسائكم ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾، وهذا تعبير لطيف فيه كل معاني التستر حيث يعبر عن المخالطة والمعاشرة باللباس وفيه ستر ووِقاء. كذلك يجب أن تكون الصلة بين الزوجين عشرة حسنة وستراً من كل منهما على صاحبه. مع أن الله علم أنكم كنتم تخونون أنفسكم، أي : تنقصونها حظها من تمتعكم بنسائكم في ليالي رمضان، فقد تاب عليكم وعفا عنكم. فالآن لا تتحرجوا من الحلال وكلوا واشربوا في ليل رمضان حتى يظهر لكم الفجر متميزاً من ظلام الليل، ثم أتموا الصيام إلى الليل.
﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد ﴾ هذا حكم عام لا يختص برمضان.. فكلّ من اعتكف في المسجد يُمنع عليه أن يباشر امرأته أثناء الاعتكاف، حتى في الليل.
والاعتكاف عبادة قائمة بذاتها. وهو أن ينوي البقاء في المسجد مدة معينة للعبادة، من صلاة وذكر وقراءة قرآن وغيرها. وأقله يوم وليلة، ولا حدّ لأكثره. والأفضل أن يكون في العشر الأواخر من رمضان، لأن آخر اعتكاف للنبي كان كذلك. وله ثلاثة شروط : النية، والصيام، وترك مباشرة النساء. وعند الشافعي لا يشترط الصيام. ولا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لقضاء الحاجة.
﴿ تِلْكَ حُدُودُ الله ﴾ أي : أحكامه المشتملة على الإيجاب والتحريم والإباحة.
فلا تقربوها، أي : تتعدوها. وعلى هذا الطريق السوي من بيان أحكام الصيام جميعها يبين الله لكم آياته لتتقوها وتتجنبوا تبعاتها.
والإدلاء : الإلقاء، يقال : أدلى دلوه في البئر أرسلها، وأدلى إليه بمالٍ دفعه إليه، وأدلى بحجته أحضرها واحتج بها.
فريقا : طائفة أو قسما.
يقصد الله تعالى أن لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، فجعل تعالى أكْل المرء مالَ أخيه بالباطل كأكل مال نفسه بالباطل، وكثيرا ما يرد في القرآن هذا التعبير حتى يشعرنا الله بأن الناس كلهم إخوان. وذلك كقوله :﴿ وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ ﴾. لقد جعل الله المؤمنين إخوة، وعلى الإخوة أن يحفظوا مال بعضهم، وهو بذلك يؤدبنا بأرفع الآداب، ويحضنا على أن نكون أمناء فيما بيننا، فلا يعتدي بعضنا على بعض، ولا يظلم أحد منا غيره.
﴿ وَتُدْلُواْ بِهَا إلى الحكام ﴾ : تلقوا بأموالكم إلى الحكام ليُحكَم لكم بمال حرام، وتنتزعوا مال إخوانكم بشهادة باطلة أو بينة كاذبة أو رشوة خبيثة، وأنتم تعلمون أن هذا ليس بمالكم، وأنكم إنما ترتكبون معصية بشعة.
ويدخل تحت قوله تعالى «بالباطل » كل كسب حرام.
ثم أردف ذلك بقوله تعالى :﴿ وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ﴾.
وهذه إشارة إلى أن الأنصار كانوا إذا حجّوا فجاؤوا لم يدخلوا بيوتهم من قبل أبوابها بل من ظهورها، فجاء رجل منهم وخالف العادة فعُيِّر بذلك، فأبطل الله هذه العادة، وأمرهم أن يدخلوا البيوت من أبوابها دائما وفي كل الأحوال. ثم بين لهم أن البر الحقيقي هو الابتعاد عن المعاصي والتحلي بالفضائل واتّباع الحق وعمل الخير.
القراءات :
قرأ أبو عمرو وورش وحفص «ليس البر » بضم الباء، وقرأ الباقون «البر » بكسر الباء، وقرأ نافع وابن عامر «ولكن البر » بتخفيف لكن ورفع البر.
هذا أول أمر نزل للمؤمنين بالقتال، وهو كما نراه واضح محدد، فهو أن يقاتلوا الذين يعتدون عليهم، ولذلك قال : ولا تعتدوا بمبادأتهم، أو بقتل من لا يقاتل ولا رأي له في القتال، إن الله لا يحب المعتدين.
الفتنة : الابتلاء والشرك.
وإذا نشب القتال، فاقتلوا أولئك الذين بدأوكم بالقتال حيث وجدتموهم، وأخرجوهم من مكة، وطنكم التي أخرجوكم منها. ولا تتحرجوا من ذلك، فقد فعلوا ما هو أشد من القتل في المسجد الحرام، لقد فتنوا المؤمنين في مكة عن دينهم بالتعذيب، حتى فروا من وطنهم. ولكن، إن للمسجد الحرام حرمته فلا تنتهكوها إلا إذا انتهكوها هم، فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم وأنتم الغالبون بإذن الله.
الحرمات : كل ما يجب احترامه والمحافظة عليه.
القصاص : المقاصة والمقابلة بالمثل.
الأشهر الحرم : رجب، ذو القعدة، ذو الحجة، والمحرم. وكانت العرب تحرّم القتال في هذه الأشهر، ثم جاء الإسلام فأقر ذلك. وفي عام ست من الهجرة أعلن النبي للمؤمنين وللناس جميعا أنه يريد العمرة، ودعا الناس للخروج معه. وأحرم بالعمرة وساق معه سبعين بدنة هَدْياً إلى الله. وخرج معه ألف وأربعمائة من أصحابه. فلما بلغوا الحديبية، وهو مكان قرب مكة، خرجت قريش متأهبة للقتال ومنعته من دخول مكة. ثم جرت مفاوضات انتهت بالصلح على أن يرجع رسول الله من مكانه في ذلك العام، ويعود في العام المقبل ليؤدي العمرة. فنحر الهديَ في ذلك المكان، وحلق، وأمر أصحابه أن يفعلوا ذلك وعاد إلى المدينة. فلما كان العام المقبل خرج معتمرا ومعه أصحابه، ودخلوا مكة وأتموا العمرة ومناسكها ومكثوا فيها ثلاثة أيام ثم رجعوا إلى المدينة. وهذا معنى قوله : الشهر الحرام بالشهر الحرام.. يعني أن ذا القعدة الذي أوصلكم الله فيه إلى حرمه وبيته على كراهة مشركي قريش، حيث قضيتم مناسككم، لهو بالشهر الحرام الذي صدكم فيه مشركوا قريش قبل عام. وهكذا فقد أقصّكم الله منهم أيها المؤمنون، فإذا اعتدوا عليكم في الشهر الحرام وقاتلوكم فيه، فقابلوا ذلك بالدفاع عن أنفسكم فيه. إنه حرام عليهم كما هو حرام عليكم. وفي الحرمات والمقدسات شُرع القصاص والمعاملة بالمثل، فمن اعتدى عليكم في مقدساتكم، فادفعوا عدوانه بالمثل، واتقوا الله فلا تسرفوا في القصاص، واعلموا أن الله مع المتقين يعينهم وينصرهم.
وكان صلح الحديبية أول نصر سياسي كبير، وأعظم توفيق من الله لنبيه الكريم، وذلك باعتراف قريش به وبالمفاوضة معه وتوقيع الصلح.
لم يكن في بدء الإسلام جنود يأخذون رواتب، بل تطوُّع بالنفس وتطوع بالمال. وكان كثير من فقراء المسلمين الراغبين في الجهاد يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يزودهم بدابة تنقلهم، فإذا لم يجد ما يحملهم عليه ﴿ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع... ﴾ حزنا، حيث لم يجدوا ما ينفقون. فالله سبحانه وتعالى يعلّمنا في هذه الآية الكريمة درسا عظيماً، حيث يقول : وأنفقوا الأموال في الإعداد للقتال في سبيل الله، ولا تقعدوا عنه، فإنكم إن تقاعدتم وبخلتم، رَكبَكُم العدو وأذلّكم، فكأنما ألقيتم بأيديكم إلى الهلاك. وهذا ما قاله الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري كما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه قال :«إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الانصار لمّا أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً : إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعزّ الإسلام، وكثر ناصروه، فلو قمنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا ﴿ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأيدِيكُمْ إلى التهلكة... ﴾ فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى مات في القسطنيطينية ودُفن بها، وقبره عليه مسجد معروف فيها إلى اليوم.
فالجهاد بالمال أمر مهم، بل هو أساس كبير في دعم الجهاد والمحافظة على كيان الأمة.
في الآيات التي مرت معنا تحددت النقاط التالية :
* شُرع القتال لدفع الأعداء، لا لذاته ولا لحمل الناس على الإسلام.
* النهي عن الاعتداء فلا يُقتل من لا يحمل سلاحا ولا من استسلم، و لا تخرَّب الدور على أهلها، ولا تهدّم المدن.
* ملاحظة الفضيلة التي دل عليها الأمر بالتقوى، فلا تُنتهك الاعراض، ولا يمثّل بقتيل.
* أن القتال ينتهي إذا انتهى المشركون عن فتنة المؤمنين في دينهم.
* لا قتال في الأشهر الحرم، فإذا اعتدى المشركون وقاتلوا، وجب قتالهم.
* أن ترك الأعداء يقتلون بعضنا من غير أن نقاتلهم لهو هلاكٌ لنا. وهذا ما هو جار الآن بيننا وبين اليهود يعتدون ويقاتلون، ونحن واقفون ننظر ويلوم بعضنا بعضا.
* فإذا دققنا النظر في هذه المباىء نجد أن حرب الإسلام فاضلة في بواعثها، وعادلة في سيرها ومراميها.
والهَدي : هو ما يهديه الحاج إلى البيت الحرام من الأنعام.
المحل : مكان الحلول.
تقدمت الإشارة إلى الحج في الآية : ١٨٩. ثم إلى الأشهر الحرم والقتال فيها. وفي هذه الآية والآيات التي تليها يفصّل الله تعالى مناسك الحج، فيقول : وأدوا الحج والعمرة على وجه التمام قاصدين بهما وجه الله. والحج معروف وقته في التاسع من ذي الحجة والأيام الثلاثة التي تليه. ويشتمل الحج على الطواف بالبيت أول ما يصل الحاج إلى الحرم، ثم الوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، ثم النزول بالمشعَر الحرام، ثم الذهاب إلى مِنى ورمي الجمار والنحر، وبعد ذلك الذهاب إلى الحرم ليطوف طواف الإفاضة ثم يسعى بين الصفا والمروة، وبعد ذلك يحلق الحاج رأسه أو يقصّر من شعره، بذلك يتم الحج. وهو فرض مرةً واحدة على المستطيع.
وأما العمرة فإنها سنّة، ولا وقت معين لها، وهي تشتمل على الإحرام، ثم الطواف، ثم السعي، وبعد ذلك يحلق المعتمر شعره أو يقصّر، وينحر إذا كان عليه دم، هذه مناسك العمرة.
﴿ فإن أُحْصِرْتُمْ ﴾ مُنعتم وأنتم محرمون من إتمام الحج، وبسبب عدوّ أو مرض أو نحوهما، وأردتم أن تتحلّلوا فعليكم أن تذبحوا ما تيسّر لكم من الهدي، بقرة أو شاة أو بدنة.. ثم تتحللون. ويجب ذبح الهدي في المكان الذي حصل فيه المنع. ولا تحلقوا رؤوسكم قبل أن تقوموا بهذا النسك.
ومن كان محرماً وآذاه شعر رأسه لمرض أو هوامٍ في رأسه، فلا بأس أن يحلق، شريطة أن يصوم ثلاثة أيام، أو يتصدق على ستة من الفقراء بقوت يومٍ لكل واحد، أو أن يذبح شاة ويتصدق بها.
وإذا قصدتم الحج والعمرة، وبدأتم بالعمرة وأتممتم مناسكها وتحللتم، ثم أحرمتم للحج من مكة، فعليكم عند ذلك ذبح شاة، أو غيرها من الهدي. فمن لم يجد شاة، فإن عليه أن يصوم عشرة أيام : ثلاثة في الحج، وسبعة في وطنه عندما يرجع.. هذا إذا لم يكن من سكان الحرم. واتقوا الله أيها المؤمنون، وحافظوا على امتثال أوامره، واعلموا أنه شديد العقاب لمن انتهك حرماته.
الفسوق. الخروج عن الآداب التي حددها الشرع من جدل وسباب وخصام.
هنا بين لنا تعالى أن الحج يقع في أشهر معلومات هي : شوال وذو القعدة وذو الحجة. وهذه الأشهر معروفة من أيام إبراهيم عليه السلام. فمن فرض الحج على نفسه في هذه الأشهر وأحرم فيه، فعليه أن يراعي آدابه، ومن آداب الحج أن يبتعد عن النساء، وعن المعاصي من السباب والخصام والمراء مع رفقته في الحج، ويجتنب كل ما يجر إلى الشحناء والخصام.
﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله... ﴾ فاجتهدوا في فعل الخير وطلب الأجر منه فإنه مجازيكم. وتزوّدوا لآخرتكم بالتقوى فإنها أحسن زاد، واستشعروا خشية الله فيما تأتون وما تذرون يا أهل العقول السليمة، فهو خير لكم.
الإفاضة من المكان : الدفع منه والانطلاق.
عرفات : هو المكان المعروف الذي يتم فيه أكبر أركان الحج.
الذكر : الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد.
المشعر الحرام : موضع بالمزدلفة فيه مسجد، وقال مجاهد : مزدلفة كلها هي المشعر الحرام.
كان بعض الناس يتأثمون من كل عمل دنيوي في أيام الحج، فقال تعالى ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾، فلا إثم في مزاولة التجارة وابتغاء الرزق أيام الحج، أما التجرد للعبادة فإنه أفضل.
وإذا أفضتم من عرفات بعد الوقوف بها، ووصلتم المزدلفة ليلة عيد النحر، فاذكروا الله عند المشعر الحرام. وقد جاء النبي إلى المشعر الحرام بعد إفاضته من عرفات، فصلى المغرب ثم العشاء، وبات في المزدلفة ثم صلى الصبح. وبعد ذلك تابع سيره إلى مكة.. فمن فعل ذلك فقد تم حجه. وأكثر الفقهاء يقولون أن المبيت بالمزدلفة سنة لا فرض.
واستغفِروا الله مما أحدثتم من تغيير المناسك، وإدخال الشرك في عبادتكم أيها العرب، إن الله واسع المغفرة قابل للتوبة.
الخلاق : النصيب والحظ.
في هذه الآية يعلمنا سبحانه أن نترك عمل أهل الجاهلية، حيث كانوا إذا فرغوا من الحج ذهبوا إلى أسواق تقام في أماكن مختلفة، وشغلوا أنفسهم بالتفاخر بذكر الآباء ومآثرهم. هناك كانوا يتناشدون الأشعار والخطب ويعاقرون الخمر، وربما قامت من جراء ذلك منازعات تجر إلى الحروب والخصام. وهنا يرشدنا الله فيقول : فإذا فرغتم من أعمال الحج، فدعوا ما كنتم عليه، وما كان عليه آباؤكم في الجاهلية، وأشغلوا أنفسكم بذكر الله كما كنتم تذكرون آباءكم، بل اذكروه أكثر من ذكركم لهم، لأن الله أولى بالذكر منهم.
ثم يعرض علينا صورتين من أخلاق البشر، إحداهما ذميمة والأخرى خيرة، فيقول : إن بعض الناس همّه الدنيا فقط، فهو يقصُر دعاءه على عرض الدنيا وخيراتها الزائلة، هؤلاء لا حظ لهم في الآخرة ولا نصيب.
واتقوا الله تعالى حين أدائكم الحج، واعلموا أنكم ستحشرون إليه يوم القيامة، والعاقبة يومئذ للمتقين.
بهذه الآية تم الكلام على الحج ومناسكه وآدابه وبعض الآداب العامة.
ألد الخصام : أشد الخصام.
في هذه الآية الكريمة يعرض علينا تعالى نموذجا من صور البشر، هو : ذلك المنافق الشرير صاحب المظهر الحسن واللسان الذلق اللطيف، الذي يعجب به الناس. أما فعلُه فهو سيء قبيح. إنه يُشهد الله على أنه مؤمن صادق، لكنه كذاب آثم خدّاع شديد الخصومة. قال الطبري : نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، فقد جاء إلى النبي بالمسجد وأظهر الإسلام، وكان حسن المنظر فصيحا. لما خرج وتولى صادف في طريقه زرعاً للمسليمن فأحرقه، وبعضَ الحيوانات فقتلها.
وعلى أي حال فإن العبرة بعموم اللفظ، والآية تنطبق على كل خداع منافق غشاش.
الحرث والنسل : الزرع والولد.
فإذا انصرف من المجلس سعى في الفساد، فأحرق الزرع وأهلك النسل والحيوانات. إن الله تعالى لا يحب المفسدين، بل يمد لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
المهاد : الفراش.
وإذا دُعي ذاك الرجل إلى الصلاح والتقوى لم يرجع إلى الحق، بل تكبّر وشمخ بأنفه، وأخذته حمية الجاهلية. إن هذا الصنف من الناس مصيره إلى جهنم وبئس القرار.
ابتغاء مرضاة الله : من أجل رضاء الله.
في هذه الآية الكريمة يعرض علينا تعالى نموذجا آخر من صور البشر، هو : ذلك الذي يؤمن بالله إيماناً حقيقيا، ويبذل نفسه في سبيل إعلاء دينه، فلا يطلب عرض الدنيا وزخرفها. وأمثال هذا رضي الله عنهم وأعد لهم يوم القيامة جنات عدن يدخلونها، ورحمة من الله واسعة. ويقال إنها نزلت في صهيب الرومي، وقيل : فيه وفي غيره.
والعبرة كما قدمنا بعموم اللفظ، فهي عامة في كل من يبذل نفسه وماله في سبيل الله.
خطوات : جمع خطوة بضم الخاء، وهي المسافة ما بين قدمي الماشي، والمعنى هنا : آثار الشيطان واتباعه.
الزلل : عثرة القدم، وهنا معناه : الانحراف عن الحق.
البينات : الحجج.
بعد أن بين الله في الآيات السابقة أن الناس فريقان : فريق يسعى في الأرض بالفساد، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته، دعا الناس كافة في هذه الآية إلى الدخول في السلام وهو دين الإسلام. فإن الإسلام أساسه السلام، وشعاره «السلام عليكم ». فالله سبحانه يأمر الذين آمنوا بالعمل بشرائع الإسلام كلها... خذوا الإسلام بجملته، واعملوا به تكونوا قد دخلتم في السلام، واعتصتم بحبل الله. يومذاك تدخلون في عالم كله سلام، سلام مع النفس والضمير، ومع العقل والمنطق، سلام مع الناس ومع الوجود كله، سلام في الأرض وسلام في السماء.
ومعنى «كافة » أي : في جميع أحكام السلام والإسلام، لا في بعضها فقط، وكان بعض مؤمني أهل الكتاب يعظّمون السبت ويحرمون الإبل وألبانها، وغير ذلك مما كانوا يفعلون، فأمره الله تعالى أن يتركوا كل ما كان سابقا ويدخلوا في الإسلام ويعملوا بجميع شرائعه.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان ﴾ أي : لا تسيروا في طريق الشيطان الذي يدفعكم إلى الشقاق والنزاع.
﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾، هذه الآية نص واضح في دعوة المؤمنين إلى السلام، فالحرب والخصام سيرٌ وراء الشيطان. والآية تدعو المؤمنين إلى أن يكونوا مسالمين مع أنفسهم...
ويدلّ هذا النص على أن الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها هي السلم، ففي الوقت الذي كان فيه قانون الغاب يحدد العلاقات بين الدول جاء الإسلام بهذا المبدأ السامي، فالحرب التي شرعها الإسلام إنما هي لتثبيت دعائم السلم، وتحقيق العدل لا للعدوان على الآخرين.
القراءات :
قرأ ابن كثير ونافع والكسائي «السلم » بفتح السين والباقون «السلم » بكسرها، وخطوات بضم الطاء وسكونها قراءتان سبعيتان. تقدم ذلك في الآية ١٦٨.
﴿ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور ﴾ فجميعها في قبضته يصّرفها حيث شاء، فيضع كل شيء موضعه الذي قضاه، فإلى متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلام وهذا الفزع الأكبر ينتظرهم ! !
القراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم «ترجع الأمور » بالبناء للمجهول وقرأ الباقون «ترجع الأمور » بفتح التاء.
أوجّه انتباه القارىء هنا إلى أن اليهود دائما هم أصحاب الفتن ومثيرو القلاقل في العالم من قديم الزمان، هذه طبيعتهم. أليسوا الآن هم الذين أقلقوا العالم كله بفتنهم وتنكرهم لكل قيم ! لذلك يعود القرآن هنا إلى التحذير منهم، فيقول : سل يا محمد، بني إسرائيل : كم سقنا إليهم الأدلة القاطعة على صدق ما جئتَ به من عند الله، وفي ذلك نعمة هدايتهم إلى الله، فكفروا بهذه الأدلة وعمدوا إلى تبديلها. فبعد أن وُضعت الأدلة للهداية، أصبحت بالنسبة لكفر هؤلاء بها سبباً في زيادة ضلالهم وإثمهم.. ومن يبدل نعمة الله بهذه الصورة يحق عليه العذاب. إن الله شديد العقاب. وفي هذا عبرة لنا حيث بدلنا نعمة الله وهي الاعتصام بحبله، فحلّ بنا ما حل من تمزق وتشتت وتخاذل.
وستظل الحياة تعرف هذين الصنفين من الناس : المؤمنين الذي يتلقَّون قيمهم ومفاهيمهم من الله، فيرفعهم ذلك عن سفساف الحياة وأعراض الأرض. والكافرين الذين زُينت لهم الحياة الدنيا واستعبدتهم أعراضُها، فتبعوا مطامعهم وهبطوا إلى الحضيض.
﴿ والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ... ﴾، يعطي كثيرا بلا تضييق ولا تقتير لمن يشاء، فهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا لحكمة منه، ويعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا والآخرة. فالعطاء كله من عنده. لذلك ترك كثيرا من الأبرار ومن الفجار متمتعين بسعة الرزق، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين. ولكن المتقي يكون أكثر احتمالا، فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر، إذ هو بالتقوى يجد المخلّص من كل ضيق.
يبين الله في هذه الآية سبب الاختلاف بين الناس في العقائد والمذاهب والأخلاق، بعد أن كانوا أُمة واحدة في مبدأ خلقهم، يوم كانوا أُمة واحدة على الفطرة. فلما كثروا وانتشروا في الأرض وتطورت معايشهم، اختلفوا وتعددت وجهات النظر فيما بينهم، فبعث الله الأنبياء والرسل، مبشرين ومنذرين، لينبهوا أقوامهم إلى ما غفلوا عنه، ويحذروهم من شر الأعمال. وأنزل معهم الكتب لبيان أحكامه وشرائعه. وإذا كان الكتاب المنزل من عند الله هو الحَكَم، فإن التنازع ينقطع وينحسم كثير من الشر في هذا العالم.
ثم تبع بعض الناس أهوائهم، فاخلتفوا بعدما بين لهم الرسل طريق الحق والصراط المستقيم. وذلك بفعل الحكام والرؤساء والعلماء، لأنهم هم أهل النظر، القائمون على الدين بعد الرسل، وهم الذين أُتوا الكتاب ليقرِّروا ما فيه، ويراقبوا سير العامة عليه.
وقوله تعالى :«بغياً بينهم » أي : حسداً وظلما.
ثم أرشد إلى أن الإيمان الصحيح يهدي الناس إلى الحق في قوله ﴿ فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ... ﴾، فالمؤمنون يهتدون إلى ما اختلف الناس فيه من الحق. والله هو الذي يوفقهم إذا أخلصوا.
البأساء : الشدّة على الإنسان في ماله وفي نفسه ووطنه.
والضراء : ما يصيب الانسان في نفسه كالقتل والجرح والمرض.
الزلزال : الاضطراب في الأمر.
بعد أن أمر الله تعالى بالوفاق والسلام، وأرشد إلى حاجة البشر إلى معونة بعضهم بعضاً لكثرة المطالب وتعدد الرغبات، دعت الضرورة إلى شرع يحدد الحقوق ويهدي العقول إلى ما لا مجال للنزاع فيه.
وقد روى الطبري عن السدّي أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق. ومعنى الآية : أم حسبتم أيها المؤمنون، أن تدخلوا الجنة بمجرد إقراركم بكلمة الإسلام دون أن يصيبكم ما أصاب الذين من قبلكم من أتباع الرسل والأنبياء من الشدائد والمحن، وأن تُبتلوا بمثل ما ابتلوا به من البأساء وهي شدة الحاجة والفاقة، ومن الضراء وهي العلل والأمراض، ولم تُزلزَلوا، أي لم يصِبكم من أعدائكم كثير من الخوف والرعب ! كلا، إنكم مثلهم.
وقد أخذتهم الشدة حتى بلغ الأمر أن قالوا متى نصرُ الله ؟ ثم أخبرهم الله أن نصره قريب، وأنه جاعلهم فوق عدوّهم.
يسألك أصحابك يا محمد، أي شيء يتصدقون به من أموالهم وعلى من يتصدقون ؟ فقل لهم : إن الإنفاق يكون من المال الطيب، وتصدّقوا به على آبائكم وأمهاتكم وأقاربكم، وعلى اليتامى والمساكين، ومن انقطع عن ماله وأهله.
وما تفعلونه من خير إليهم يُحصيه الله لكم حتى يثيبكم عليه.
الكره : المشقة.
مضى الكلام في الآية السابقة على الإنفاق في سبيل الله، وللمحتاجين من الأسرة الإسلامية، وفي هذه الآية والتي بعدها يأتي الكلام على بذل الأرواح والأنفس. المال أخو الروح، بل هو أغلى عند كثير من الناس.
إذا كان في الإنفاق على الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وغيرهم حماية للمجتمع في داخله، فإن القتال حماية له من أعدائه في الخارج. لذلك فرض الله علكيم القتال لحماية دينكم والدفاع عن أنفسكم. وهو كرهٌ لكم، لما فيه من المشقة وتعريض الأنفس للموت، ولكن ربما كرهتم شيئاً يكون فيه خيركم، إن الله يعلم ذلك، وأنتم لا تعلمون.
وهذه أول آية فُرض فيها القتال، وقد نزلت في السنة الثانية من الهجرة.
الجهاد فرض كفاية إلا إذا دخل العدو بلاد المسلمين فاتحاً، فيكون الجهاد فرض عينٍ على الجميع. وهذه فلسطين، فقد احتلها العدو ولم يهبّ المسلمون لقتاله.
لقد أغفلوا فرض عين، وحكامهم هم المسؤولون. ولهم مع الله شأن.
الفتنة : الشرك وتعذيب المسلمين.
حبط عمله : بطل وفسد.
سببُ نزول هذه الآية أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش مع ثمانية من المهاجرين في جُمادى الآخرة، قبل وقعة بدرٍ بشهرين، ليترصّدوا عِيراً لقريش. فهاجموا قريشاً وقتلوا منهم عمرو بن عبد الله الحضرمي، كما أسروا عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكَم بن كيسان، ثم إنهم استاقوا العِير والأسيرين إلى المدينة المنورة، وكان ذلك في غُرة رجب، وهو من الأشهر الحُرم. وكانوا يظنونه آخر يوم من جمادى الآخرة. فقالت قريش : لقد استحلّ محمدٌ الشهر الحرام. وقامت اليهود تشهّر بالنبيّ والمسلمين، ويقولون : عمرو، عَمُرت الحرب، والحضرمي، حضرت الحرب، وواقد، وقدت الحرب.
وكان واقد بن عبد الله هو الذي قتل عمرو بنَ الحضرمي. فلما أكثر الناسُ في ذلك أنزل الله الآية :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام... ﴾ وتفسيرها :
يسألونك يا محمد، عن القتال في الشهر الحرام، فقل لهم : إن القتال فيه أمرٌ مستنكَر، لكن ما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله والصدّ عن بيته، وإخراج المسلمين منه، والشِرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم، كل ذلك أكبرُ عند الله من قتالكم في الشهر الحرام. لذلك أباح الله لنا القتال في الشهر الحرام لقمع هذه الشرور، على أساس اختيار أهون الشريّن. واعلموا أيها المسلمون، أن سبيل هؤلاء معكم سبيل التجني والظلم، وأنهم سيظلون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، إذ لا همّ لهم إلا منع الإسلام عن الانتشار.
إذن فإن انتظاركم إيمانهم بمجرد الدعوة طمعٌ منكم في غير مطمع، والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة عن الإسلام. ومن يضعف منكم أمام هجماتهم، ويرتد عن دينه ثم يموت على الكفر، فأؤلئك بطلت أعمالهم، وأولئك أهل النار هم فيها خالدون.
الميسر : القمار.
الإثم : الذنب.
العفو : الفضل والزيادة على الحاجة.
هذه أول آية نزلت في الخمر، ثم نزلت بعدها الآية التي في سورة النساء ﴿ يَا أيهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى ﴾، ثم نزلت الآية التي في المائدة. هكذا بالترتيب.
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر أنه قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا، فنزلت هذه الآية، فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافيا، فنزلت الآية التي في سورة النساء ﴿ يَا أيهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى ﴾، فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافيا. فنزلت الآية التي في المائدة ﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ إنما الخمر والميسر... الآية ﴾، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ قال عمر : انتهينا، انتهينا.
روى الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام.. الحديث ». فحرمةُ الخمر ثبتت بالإجماع، وهو المصدر الثالث.
يسألونك يا محمد، عن حكم الخمر والقمار، فقل : إن فيهما ضرراً كبيرا من إفساد الصحة وذهاب العقل والمال وإثارة العداوة والبغضاء بين الناس، وفيهما منافع كالتسلية والربح اليسير السهل.. ولكن ضررهما أكبر من نفعهما فاجتنبوهما.
وأصل الميسر هو : الجزور الناقةُ يقسمونها إلى عدة أقسام ويضربون عليها القِداح، وهي قطع من الخشب تسمّى الأزلام، وهي عشرة وأسماؤها كما يلي : الفذ، والتوءم، والرقيب، والحلس، والمسبل، والمعلّى، والنافس، والمنيح، والسفيح، والوغد، فكان لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم. ولا شيء للثلاثة الأخيرة. وكان المعلّى أعلاها حيث له سبعة أجزاء، ولذلك يضرب به المثل، فيقال :«له القِد المعلّى ». هذا هو قمار العرب في الجاهلية. وقد حرّمه الله لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل وما يجلب من المنازعات والفتنة.
وهذا النص القرآني العظيم يوضح لنا أن التشريع يراعى فيه منافع العباد، فما كثرت منافعه بجوار مضاره كان مطلوبا ومباحا، وما قلّت منافعه بجوار مضاره كان منهيّاً عنه.
وهو يومئ إلى أمر واقع في هذه الدنيا، وهو أن الأشياء يختلط خيرها بشرها، فليس هناك خير محض، ولا شر محض. فالخمر وهي أم الخبائث، فيها نفع للناس بجوار شرها الذي لا حدود له. والميسر الذي يشغل النفس ويصيبها باضطراب مستمر، فيه نفع للناس وآثام تفسد الحياة، ولقد كانت حكمة الله بالغة في تحريم الخمر على مراحل، وذلك لتعلُّق العرب بها في ذلك الزمان، ولأن تحريمها دفعة واحدة كان من الصعوبة بمكان.
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذا يُنفِقُونَ قُلِ العفو ﴾، ويسألونك يا محمد، أي جزء من أموالهم ينفقون وأياً يمسكون ؟ قل أنفقوا الزائد عن حاجتكم، وفي الصحيح قال :«خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول »، وأخرج مسلم عن جابر أن النبي قال :«ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل شيء عن ذي قرابتك، فهكذا وهكذا ».
وكان يكره للمرء أن يتصدق بجميع ماله، ويحبُّ أن يتصدق بما يزيد عن حاجته.
القراءات :
قرأ أبو عمرو «قل العفُو » بالضم.
وقوله تعالى ﴿ في الدنيا والآخرة ﴾ معناه : لعلكم تتفكرون فيما يعود عليكم من مصالح الدنيا وخير الآخرة، فهو مرتبط بما قبله. ويسألونك يا محمد، بشأن اليتامى وما يوجبه الإسلام حيالهم، فقل : الخير لكم ولهم في إصلاحهم، فضموهم إلى بيوتكم، وخالطوهم بقصد الإصلاح، فهم إخوانكم. إن اليتيم طفل فقد أباه والعائلَ الذي يرعاه، فما أحوجه إلى عناية رؤوم تنتشلُه وتجعل له متنفّساً يسرّي به عن نفسه ! وما أحوجه إلى تشريع حكيم، ووصية من رب رحيم تحفظ عليه نفسه، وله مالَه، وتعدّه كي يكون رجلاً عاملا في الحياة.
ولقد كان بعض الأوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم، وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جيمعا، وكان الغبن يقع أحيانا على اليتامى، فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام. مثل ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، وآية ﴿ إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ﴾ [ النساء : ٩ ]. عندئذ تحرّج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتامى عن طعامهم، فكان الرجل يكون في حجره اليتيم، يقدِّم له الطعام من ماله فإذا فضَل شيء منه بقي له حتى يعاود، أو يفسد فيُطرح. وهذا تشدد ليس من طبيعة الإسلام، فجاء القرآن هنا ليرد المسلمين إلى الاعتدال واليسر. فالصلاح لليتامى خير من إعزالهم، والمخالطة لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم. والله يعلم المفسد من المصلح، فليس المعوَّل عليه هو ظاهر العمل وشكله، بل النيَّةُ فيه وثمرته. ولو شاء الله لشقَّ عليكم فألزمكم رعاية اليتامى من غير أن تخالطوهم لكنهم إذ ذاك ينشأون على بغض الجماعة.
ويكون ذلك إفسادا لجماعتكم وإعناتاً لكم.. والله لا يريد إحراج المسلمين ولا المشقة عليهم فيما يكلفهم. وهو عزيز غالب على أمره، حكيم لا يشرّع إلا ما فيه مصلحتكم.
والحكمة في وصل السؤال عن اليتامى بالسؤال عن الإنفاق، وبالسؤال عن الخمر والميسر، أن السؤالين الأولين بيّنا حال طائفتين من الناس في بذلهم وإنفاقهم، فناسبَ أن يذكر بعدها السؤال عن طائفة هي أحق الناس للإنفاق عليها، وإصلاح شؤونها، وهم اليتامى. وكأن الله تعالى يذكّرنا بأنه حين مخالطتهم وإصلاح أمورهم يجب أن تكون النفقة من العفو الزائد على حاجتنا من أموالنا، ولا ينبغي أن نعكس ذلك ونطمع في أموالهم.
ولا تزوِّجوا الرجال المشركين من المؤمنات إلا إذا دخلوا في الإسلام. فإن العبد المؤمن خير من المشرك ولو أعجبكم شكله وعزته وماله.
﴿ أولئك يَدْعُونَ إلى النار ﴾، أي : أن المشركين يدعون من يعاشرهم إلى الشرك الذي يستوجب النار، فيما يدعوكم الله من اعتزالكم المشركين في النكاح، إلى ما فيه صلاحكم ورشادكم فتنالون الجنة والمغفرة.
والخلاصة أنه لا يجوز أن نتصل بالمشركين الذين لا يدينون بدين سماوي برابطة الصهر، لا بتزويجهم ولا بالتزويج منهم.
وأما الكتابيات كالنصرانيات واليهوديات فقد جاء في القرآن الكريم نص واضح على حل الزواج بهن ﴿ والمحصنات مِنَ الذين أوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ﴾.
الأذى : الضرر.
كثرت الأسئلة عن مخالطة النساءِ أيام مجيء العادة الشهرية عندهن، وذلك بسبب احتكاك المسلمين في المدينة باليهود وبسبب العادات الموروثة من الجاهلية. فقد كان اليهود لا يقربون المرأة أثناء حيضها، ويعتبرونها نجسة.
فلا يجوز للرجل أن يمس جسدها أو يقرب من فراشها، فإن فعل يغسل ثيابه بماء ويستحم ويكون نجسا إلى المساء. وإن اضطجع معها وهي حائض يكون نجسا سبعة أيام. وكان العرب في الجاهلية لا يساكنون الحائض، ولا يؤاكلونها كما كانت تفعل اليهود. أما النصارى فكانت تتهاون في أمور الحيض، فكان هذا الاختلاف مدعاة للسؤال عن حكم المحيض في الإسلام فنزلت الآية...
يسألونك يا محمد، عن إتيان الزوجات زمن الحيض فأجبهم : إنه أذى، فامتنعوا عنه حتى يطهُرن، فإذا تطهرن فأتوهن في المكان الطبيعي، ( لأنه لو كان يجوز إتيانهن في غيره لما قال تعالى :﴿ فاعتزلوا النسآء فِي المحيض ﴾ ). ومن كان وقع منه شيء من ذلك، فليتبْ إلى الله فإن الله يحب التوبة من عباده، وتطهُّرهم من الأقذار والفحش.
وقد أثبت العلم الحديث أن الحيض فيه أذى، إذ يكون المهبل آنذاك ميدانا مفتوحاً للجراثيم. فالاتصال الجنسي في الحيض يعمل على وصول هذه الجراثيم إلى المهبل، فتصيبه بمختلف الالتهابات التي قد تمتد إلى الجهاز التناسلي، فتتولد مضاعفات قد تؤدي إلى العقم.
وتعود العدوى إلى الرجل عن طريق قناته البولية، وقد تمتد الإصابة إلى المثانة والحالبين بل إلى قاعدة الكليتين، حتى تصاب البروستاتا والخصيتان بما قد ينتج عنه الضعف الجنسي أو العقم. والمرأة أثناء الحيض تكون راغبة عن الرجل، فالاتصال الجنسي بها في ذلك الوقت قد يؤثر في أعصابها من هذه الناحية. لذلك علّمنا القرآنُ الكريم أن نعتزل المرأة في وقت الحيض. أما مخالطتها ومسها والأكل معها والنوم في فراشها، فكل هذا جائز وغير ممنوع.
أنى شئتم : متى شئتم.
لا حرج عليكم في إتيان نسائكم بأي وضع شئتم إذا كان ذلك في موضع النسل، قد بيّنا لكم ما فيه رشدكم وهدايتكم، فقدِّموا لأنفسكم الخير الذي أمركم به ربكم، واتخذوا عنده به عهداً، لتجدوه حين تلقون ربكم يوم المعاد. واتقوه في معاصيه، واحذروا أن تخرجوا النساء عن كونهنّ حرثا بإضاعة مادة النسل أثناء الحيض أو بوضعها في غير موضع الحرث. وبشّر المؤمنين يا محمد بالفوز يوم القيامة.
اللغو : ما يقع من غير قصد.
ولا تجعلوا الحلف بالله مانعاً لكم من عمل الخير والتقوى والإصلاح بين الناس، فإذا حلفتم ألا تفعلوا، فكفّروا عن أيمانكم وأتوا الخير، لأن عمل البر أولى من المحافظة على اليمين. فالله لا يرضى أن يكون اسمه حجاباً دون الخير.
وكثيرا ما يتسرع الانسان إلى الحلف بالله بأن لا يفعل كذا ويكون خيرا، أو أن يفعل كذا ويكونُ شرا، فنهانا الله عن ذلك. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنه قال :«إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتُها »، وروى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله :«من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفِّر عن يمينه وليفعل الذي هو خير ».
ورأى بعض المفسرين في الآية معنى آخر، وهو النهي عن الجرأة على الله تعالى بكثرة الحلف به، وذلك أن مَن أكثر من ذكر شيء في معنى خاص فقد جعله عرضة.
عزموا الطلاق : صمَّموا في قصده.
للذين يحلفون أن لا يقربوا نساءهم أن ينتظروا أربعة أشهر، فإن رجعوا إلى نسائهم وحنثوا في اليمين أثناء هذه المدة فإن الله يغفر لهم، وعليهم الكفّارة.
وإن عزموا على الطلاق فإن الله سميع لحلفهم وطلاقهم.
والخلاصة : أن من حلف على ترك إتيان امرأته، لا يجوز له أن يمكث أكثر من أربعة أشهر، فإن عاد إليها قبل انقضاء المدة لم يكن عليه إثم، وإن أتمها تعيّن عليه أحد أمرين : الرجوع إلى المعاشرة الزوجية أو الطلاق. وعليه أن يراقب الله فيما يختاره منهما، فإن لم يطلِّق بالقول كان مطلِّقا بالفعل، أي أنها تطلق منه بعد انتهاء تلك المدة رغم أنفه. فإذا كانت المدة أقل من أربعة أشهر فلا يلزمه شيء. وقد فضّل الله تعالى الفيئة، أي الرجوع، على الطلاق، وجعل جزاءها المغفرة منه.
وقد كانت هذه العادة من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يحب امرأته ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف ألا يقربها أبدا، ويتركها لا هي مطلّقة ولا ذات بعل. وكان المسلمون في ابتداء الإسلام يفعلون مثل هذا فأزال الله ذلك الضرر عنهم بهذه الآية.
عزموا الطلاق : صمَّموا في قصده.
للذين يحلفون أن لا يقربوا نساءهم أن ينتظروا أربعة أشهر، فإن رجعوا إلى نسائهم وحنثوا في اليمين أثناء هذه المدة فإن الله يغفر لهم، وعليهم الكفّارة.
وإن عزموا على الطلاق فإن الله سميع لحلفهم وطلاقهم.
والخلاصة : أن من حلف على ترك إتيان امرأته، لا يجوز له أن يمكث أكثر من أربعة أشهر، فإن عاد إليها قبل انقضاء المدة لم يكن عليه إثم، وإن أتمها تعيّن عليه أحد أمرين : الرجوع إلى المعاشرة الزوجية أو الطلاق. وعليه أن يراقب الله فيما يختاره منهما، فإن لم يطلِّق بالقول كان مطلِّقا بالفعل، أي أنها تطلق منه بعد انتهاء تلك المدة رغم أنفه. فإذا كانت المدة أقل من أربعة أشهر فلا يلزمه شيء. وقد فضّل الله تعالى الفيئة، أي الرجوع، على الطلاق، وجعل جزاءها المغفرة منه.
وقد كانت هذه العادة من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يحب امرأته ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف ألا يقربها أبدا، ويتركها لا هي مطلّقة ولا ذات بعل. وكان المسلمون في ابتداء الإسلام يفعلون مثل هذا فأزال الله ذلك الضرر عنهم بهذه الآية.
القرء : الحيض أو الطهر من الحيض.
بعولة : جمع بعل وهو الزوج.
وعلى المطلقات اللاتي دخل بهنّ أزواجهن أن ينتظرن ثلاثة حيضات، لا يجوز للمرأة منهنّ أن تتزوج قبل انقضائها، وهي العدة. والحكمة في ذلك هي التأكد من أنها ليست ذات حمل. ولا يجوز لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الأولاد، أو دم الحيض.. ذلك أن بعض المطلقات يدّعين أن مدة الحيض طالت، فيطالبن بالنفقة عن تلك المدة.
وكانت المرأة في الجاهلية قد تتزوج بعد طلاقها دون أن تنتظر العدة، ثم يظهر أنها حبلى من الأول، فتُلحق الولد بالثاني.. وفي هذا اختلاط الأنساب وضياع لحقوق الناس. فلما جاء الإسلام حرّم هذا وشدّد في ذلك بقوله :﴿ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر ﴾ أي : إذا كن صادقات في الإيمان بالله واليوم الآخر.
والأزواج أحقّ من غيرهم في إرجاع مطلقاتهم إليهم قبل انقضاء العدة إذا قصدوا الإصلاح وحسن المعاشرة، أما إذا قصدوا الإضرار بالمرأة ومنعها من التزوج حتى تبقى كالمعلّقة فلا، ويكون الزوج آثماً عند الله.
﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف... ﴾ إن للرجال والنساء حقوقا الواحد منهم تجاه الآخر، وعليهم وعليهن واجبات. «وبالمعروف » تعني : أن هذه الحقوق والواجبات موكولة إلى اصطلاح ما يجري عليه العرف بينهم وما تعارفوا عليه من آداب وعادات. وقد أجمل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقوق عندما قضى بين ابنته فاطمة وزوجها عليّ، حيث قضى عليها بخدمة البيت، وعليه بما كان في خارجه من الأعمال.
وهذا ما تحكم به الفطرة في توزيع الأعمال بين الزوجين، فعلى المرأة تدبير شؤون المنزل، وعلى الرجل السعي والكسب في خارجه. ولا يمنع هذا من استعانة أي منهما بالخدم، ولا من مساعدة كل منهما للآخر.
أما قوله تعالى :﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ فقد فسرتها الآية الواردة في سورة النساء :﴿ الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾، فهذه الدرجة هي الرياسة ومسؤولية القيام على المصالح، والإنفاق على الأسرة.
إن الحياة الزوجية تقتضي وجود مسؤول يُرجع إليه عند اختلاف الآراء والرغبات، حتى لا يعمل كلٌّ ضد الآخر، فتنفَصِم عروة الوحدة الجامعة، والرجل هو الأحق بذلك.
﴿ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ فمن عزّته أن أعطى المرأة مثل ما أعطى الرجل من الحقوق بعد أن كانت كالمتاع لدى جميع الأمم. إنه هو الذي رفعها عما كانت عليه في كل شريعة من الشرائع الماضية. فلقد كانت المرأة عند الرومان مثلاً أمَة في بيت زوجها عليها واجبات، وليس لها حقوق.
ويرى الأستاذ سيد قطب أن هذه الدرحة مقيدة في هذا السياق بحق الرجل في هذا الموضع، وليست مطلقة الدلالة، كما يفهمها الكثيرون، ويستشهدون بها في غير موضعها.
افتدت : أي دفعت عن نفسها فدية لتخلصها بها.
حدود الله : أحكامه.
الاعتداء : تجاوز الحد.
شُرع الطلاق في الإسلام حينما تشتد الخصومة بين الزوجين إلى حد لا تجدي فيه محاولة الإصلاح. وقد عُرف الطلاق من قديم، فكان للمرأة عند العرب في جاهليتهم طلاق وعدة ومراجعة في العدة. لكنه لم يكن للطلاق حد ولا عدد، فكان الرجل يطلق زوجته ثم يطلقها إلى غير حد. تطليق فمراجعة، ثم تطليق فمراجعة وهكذا، لا يتركها لتتزوج غيره فتستريح، ولا يثوب إلى رشده فيحسن عشرتها، وإنما يتخذها ألعوبة في يده.
فأنزل الله تعالى :﴿ الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ والمعنى : أن الطلاق المشروع عند تحقق ما يبيحه، يكون على مرتين، مرة بعد مرة.
فإذا ما طلق الرجل زوجته المرة الأولى أو الثانية، كان عليه إما ردّها إلى عصمته مع إحسان عشرتها، وهذا هو الإمساك بالمعروف، وإما أن يتركها تنقضي عدتها وتنقطع علاقتها به، وذلك هو التسريح بالإحسان. فإن عاد الزوج بعد أن راجعها من الطلاق الثاني وطلقها ثالثة حرمت عليه، حتى تتزوج من غيره ويطلقها الأخير وتنقضي عدتها منه. بذلك تكون المدة التي انفصل عنها الأول فيها لا تقل عن ستة أشهر، وبعد ذلك يجوز له أن يتزوجها إن أرادت.
﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً... الآية ﴾ لا يحل للرجل أن يسترد شيئاً من صداقٍ أو نفقة أنفقها على زوجته في مقابل طلاقها، ما لم تجد هي أنها كارهة لا تطيق عشرته وتخاف معه أن تخرج عن حدود الله، فهنا يجوز لها أن تطلب الطلاق منه، وأن تعوضه عن تحطيم بيته. وذلك بأن ترد المهر الذي دفعه لها أو بعض النفقة عليها أو كلها.
وهكذا يراعى الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس، ويراعي مشاعر القلوب التي لا حيلة للإنسان فيها، ولا يجبر الزوجة على حياة تنفر منها، وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ماله بلا ذنب جناه.
وأول حادث حدث في الإسلام من هذا القبيل أن جميلة بنت أُبَيّ بن سلول كانت زوجة لثابت بن قيس، وقد جاءت إلى رسول الله وقالت له : يا رسول الله، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا، إني رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبلَ في عدة من الرجال فإذا هو أشدّهم سواداً وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها. وقال ثابت : يا رسول الله، إني أعطيتها أفضل مالي، حديقة، فلترد علي حديقتي. قال : ما تقولين ؟ قالت : نعم، وإن شاء زدته. ففرق النبي بينهما. وهذا معنى قوله تعالى ﴿ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله ﴾ وهو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر ذلك حلّ له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها. هذا ما سماه الفقهاء «خلعا » وهو طلاق، عدته كعدته.
تلك حدود الله، أوامره ونواهيه، فلا تتجاوزوا ما أحلّه لكم إلى ما حرمه عليكم. ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون لأنفسهم. والذي يظلم زوجته يكون قد خان أمانة الله. وظلم بذلك نفسه. والرابطة الزوجية أمتن الروابط وأحكمها، وهي أساس بناء المجتمع. ولقد حذّر النبي الكريم النساء من الإساءة إلى أزواجهن، فقد روى أحمد والترمذي والبيهقي عن ثوبان أنه صلى الله عليه وسلم قال :«أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة ».
ولا تمسكوهن ضِراراً : أي قصدَ الإضرار بهن.
وإذا طلقتم النساء وقرب انتهاء عدتهن، فاعزموا أحد الأمرين : إمساك بالمعروف، قاصدين إقامة العدل وحسن العشرة. أو طلاق بالمعروف حتى تذهب المرأة في حال سبيلها. ولا تمسكوهن ضِراراً لتعتدوا، إذ لا يجوز أن يكون القصد من المراجعة إلحاق الضرر بها حتى تلجئوها إلى افتداء نفسها.
ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه في الدنيا، بسلوك طريق الشر وحرمان نفسه سعادة الحياة الزوجية، واستحق سخط الله عليه.
﴿ وَلاَ تتخذوا آيات الله هُزُواً ﴾ وفي هذا وعيد لمن يتهاون في الأحكام التي شرعها الله لعباده.
﴿ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ ﴾ بتنظيم الحياة الزوجية تنظيما عاليا، وبما أنزل عليكم من كتاب مبين للرسالة المحمدية وما فيها من حكم وقصص تتعظون بها وتهتدون.
﴿ واتقوا الله ﴾ بامتثال أمره ونهيه في أمر النساء وتوثيق الصلة الزوجية.
﴿ واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ فلا يخفى عليه شيء مما يُسرّ العبد أو يعلنه، وهو مجازيكم بما كنتم تعملون.
أزكى : أطهر.
كان من عادات العرب في الجاهلية أن يتحكم الرجال في تزويج النساء، إذ لم يكن يزوّج المرأة إلا وليُّها، وقد يزوجها بمن تكره، ويمنعها ممن تحب، ولمصلحته هو.
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن معقل بن يسار قال : كان لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه. فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت عدتها. ثم خُطبت إلي فأتاني مع الخُطاب يخطبها، فقلت له : خُطبت إليّ فمنعتها الناس فآثرتك، ثم إنك طلقتها طلاقا لك فيه رجعة، فلما خُطبت إليَ أتيتني تخطبها مع الخطاب ! والله لا ترجع إليك أبدا. وكان لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله الآية. قال : ففيَّ نزلت، فكفّرت عن يميني وأنكحتها إياه.
ومعنى الآية : يا أيها الذين آمنوا، إذا طلقتم النساء وانقضت عدتهنّ وأراد أزواجهن أو غيرهم أن ينكحوهنّ وأردن هن ذلك، فلا تمنعوهن من الزواج.
هذا إذا رضي كل من الرجل والمرأة بالآخر زوجا، على حسن العشرة.
ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله وباليوم الآخر، وهو أدعى إلى تنمية العلاقات الشريفة في مجتمعكم، وأطهر في نفوسكم من الأدناس والعلاقات المريبة. والله يعلم من مصالح البشر وأسرار نفوسهم ما لا تعلمون.
الوسع : ما تتسع له القدرة.
الفصال : الفطام.
على جميع الوالدات، مطلقات أو غير مطلقات، أن يرضعن أولادهن مدة سنتين كاملتين، ويجوز إنقاص هذه المدة برضى الوالدين إذا رأيا ذلك من مصلحة المولود.
والآية تفيد وجوب الإرضاع على الأم، ولا يكون الاسترضاع إلا حيث لا يمكنها ذلك. وقد اتفق الفقهاء على وجوب الإرضاع عليها ديانةً، لأن لبن الأم هو الغذاء الأمثل للمولود. والرضاعة تفيد الأم ولا تضرها إلا في أحوال شاذة يقررها الطبيب الأمين الموثوق.
والفطام الطبيّ يكون تدريجيا، ويجوز أن يفطم الصغير لأقل من عامين كما قدمنا إذا كانت صحته تعاونه.
﴿ وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف ﴾ بما أن الوالدات حملن للوالد وأرضعن له، فعليه أن ينفق عليهن ما فيه الكفاية من طعام وشراب وكسوة، وذلك ليقمن بحق الولد ويحفظنه ويرعينه. ويكون ذلك الإنفاق حسب البيئة التي تعيش فيها المرأة ولا تلحقها منه غضاضة في نوعه، ولا في طرق أدائه. وهو على قدر طاقة الوالد بلا إسراف ولا تقتير.
﴿ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ ولا ينبغي أن يكون ذلك الإنفاق سبباً في إلحاق المولود ضرراً بأمه بأن يهضم حقها في نفقتها، ولا سبباً في إلحاق الضرر بأبيه بأن يكلَّف فوق طاقاته. وإذا مات الأب أو كان فقيراً عاجزا عن الكسب كانت النفقة على وارث الولد لو كان له مال. فإن رغب الوالدان بالتراضي في فطام الطفل قبل تمام العامين فلهما ذلك، لأنهما صاحبا الحق المشترك في الولد.
وإن شئتم أيها الآباء أن تتخذوا مراضع للأطفال غير أمهاتهم، فلا مانع من ذلك إذا أديتم لهن الأجور المتعارف عليها لأمثالهن، وإلا فإن المرضع لن تهتم بالطفل ولا بإرضاعه، ولا نظافته. واتقوا الله فلا تفرّطوا في شيء من هذه الأحكام وراقبوه في أعمالكم، واعلموا أنه مطلع عليها مجازيكم بها.
القراءات :
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب «لا تضار » بالرفع.
خطبة النساء بكسر الخاء : طلب الزواج منهنّ.
أكْنَنْتُم : أخفيتم.
ولا إثم على الرجال أن يلمّحوا للمرأة أثناء العِدة بالرغبة في الزواج، ولا فيما يكتمه الرجل في نفسه من رغبة في الزواج من المرأة أثناء عدّتها. إن الله يعلم أن الرجال لا يصبرون عن التحدث في شأنهن، ولهذا أباح التعريض دون التصريح. ولكن لا يجوز أن تواعدوهن على الزواج سراً، فإن المواعدة على هذه الحال مظنّةٌ للقيل والقال.
﴿ إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ لا يستحي منه أحد من الناس. فقد أخرج الطبري عن ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته سكينة بنت حنظلة، قالت : دخل عليَّ محمد بن علي زين العابدين ( المعروف بالإمام الباقر ) وأنا في عِدّتي فقال : يا ابنة حنظلة أنا من علمتِ قرابتي من رسول الله، وحقّ جدّي عليٍّ وقدمي في الإسلام. فقلت : غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي، وأنت يؤخذ عنك ؟ قال : أوَقد فعلت ؟ أنا أخبرتك بقرابتي من رسول الله وموضعي. وقد دخل رسول الله على أم سلمة بعد وفاة زوجها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله فما كانت تلك خِطبة.
﴿ وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ ﴾ ولا تبرموا عقد الزواج حتى تنقضي العدة. وإذا وقع العقد فإنه يكون باطلا. واعلموا أن الله يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم على ما لا يجوز، فاحذروا ولا تقدموا على ما نهاكم عنه، ولا تيأسوا من رحمته إن خالفتم، إنه واسع المغفرة حليم لا يعجَل بالعقوبة إمهالاً لإصلاح زلاّتكم.
ما لم تسموهن : ما لم تدخلوا بهن.
الفريضة : المهر.
متعوهن : أعطوهن عطية ينتفعن بها.
الموسع : الغنيّ.
المقتر : الفقير.
متاعاً : حقاً ثابتا.
المعروف : ما يتعارف عليه الناس.
مازال الحديث في قضايا الطلاق، وهنا يوضح لنا سبحانه وتعالى حالتين من صور الطلاق قبل الدخول :
الأول : لا ذنب عليكم إن طلّقتم النساء من قبل أن تدخلوا بهن أو تفرضوا لهن مهرا، فإن حدث ذلك من أحدكم فلميتّع المرأةَ بعطيّةٍ منه على قدر طاقته، الغني بحسب قدرته ومروءته، والفقير كذلك.
وهذه المتعة واجبة للمطلَّقة قبل الدخول التي لم يسمَّ لها مهر. والحكمة في شرعها أن في الطلاق قبل الدخول سوءَ سمعة للمطلقة، فإذا هو أعطاها عطية قيّمة تزول هذه الغضاضة، وتكون شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قِبله هو ولا علة فيها.
القراءات :
قرأ حمزة، والكسائي «تماسوهن » بضم التاء ومد الميم في جميع القرآن. وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن ذكوان «قدره » بفتح الدال.
الفضل : المودة والصلة.
الحالة الثانية : إذا عقد رجل على امرأة وسمى لها مهرا ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فيجب عليه في هذه الحالة أن يدفع لها نصف المهر المسمّى. ثم يترك القرآنُ الأمر بعد ذلك للمروءة والسماحة والفضل، فللزوجة أن تعفو إذا أرادت وتتنازل عن حقها أو بعضه، وللزوج أن يعفو عن باقي المهر، وحينئذ تأخذ الزوجة المهر كاملا.
ثم أتبع ذلك تعالى بعبارات رقيقة جميلة ﴿ وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ ﴾ فيحث على استبقاء المودة بأن يتسامح الطرفان ويعفوا عن هذه المادة الزائلة حتى تبقى القلوب صافية نقية موصولة بالله.
وختم الله الآية بقوله :﴿ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
قانتين : خاشعين لله ذاكرين.
في أثناء الكلام على تنظيم الأسرة يذكّرنا تعالى بالمحافظة على الصلاة عماد الدين، فيقول : داوموا على الصلوات الخمس جميعا وحافظوا عليها. ثم إنه أكد على الصلاة الوسطى وهي صلاة العصر، لأنها في أواخر النهار حين ينتهي الإنسان من عمله اليومي، فيقف بين يدي الله متضرعاً للخير وشاكرا على ما رزقه ووفّقه.
وقيل في الصلاة الوسطى هي : الظهر والمغرب والعشاء والفجر، وكلها بين صلاتين.
وهناك من قال أن الصلاة الوسطى هي الصلاة الفضلى المتقنة التي أقيمت وأُديت على أحسن وجه.
﴿ وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ ﴾ أي : خاشعين منصرفين بكل مشاعركم. وقد روى أحمد والشيخان عن زيد بن أرقم قال :«كنا يكلّم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت الآية ﴿ وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ ﴾ فأُمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ».
وصية : أي يوصون وصية.
وعلى الذين يُتوفون منكم ويتركون زوجات لهم بعدهم، أو يُوصون لهن أن يٌقمن في بيت الزوجية مدة عام كامل، لا يجوز لأحد أن يخرجهن منه في ذلك العام... عليهم أن يوصوا لهن بشيء من المال في تلك المدة.
فإن خرجن من تلقاء أنفسهن قبل ذلك، فلا إثم عليكم أيها الأولياء، أن تتركوهن يتصرفن في أنفسهن بما لا ينكره الشرع، والله عزيز غالبٌ على أمره. يعاقب من خالفه، وحكيمٌ يراعي في أحكامه مصالح العباد.
القراءات :
قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم «وصية » بالنصب، وقرأ الباقون «وصية » بالرفع.
والخلاصة- المطلَّقات أربعة أصناف.
١ ) مطلقة مدخول بها وقد فُرض لها مهر، وهذه لها كل المهر المفروض.
٢ ) مطلقة غير مدخول بها ولم يسمَّ لها مهر، وهذه يجب لها المتعة بحسب حال الزوج، ولا عدة لها.
٣ ) مطلقة مفروض لها مهر وغير مدخول بها. ولها نصف المهر المسمى، ولا عدة لها.
٤ ) مطلقة مدخول بها غير مفروض لها مهر. وهذه تأخذ مهر مثيلاتها من أسرتها وقريباتها.
وهنا يقص علينا القرآن خبر قوم لم يسمّهم ولم يَرِدْ فيهم خبر صحيح. وقد قال عدد من المفسرين أن هذا مثلٌ ضربه الله لا قصة واقعة. والمقصود منه تصحيح التصور عن الحياة والموت، وحقيقتهما الخافية، وردّ الأمر فيهما إلى قدرة الله، والمضيّ في حمل التكاليف والواجبات.
روي عن ابن عباس أن الآية عُني بها قوم كثيرو العدد خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد، فأماتهم الله ثم أحياهم، وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم. فكأن الآية ذُكرت ممهدةً للأمر بالقتال بعدها في قوله تعالى ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾. وعلى هذا يكون معناها : ألم تعلم يا محمد، هذه القصة العجيبة ؟ وهي حالة القوم الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد خشية الموت، فقضى الله عليهم بالموت والهوان من أعدائهم، حتى إذا استبسلت بقيتهم وقامت بالجهاد أحيا الله جماعتهم به.
والخلاصة أن موت الأمة يكون بتسليط الأعداء عليها والتنكيل بها، جزاء تخاذلها وتفرقها كما هو حاصل للعرب اليوم. أما إحياؤها فيكون بفعلٍ جماعة مؤمنة من أبنائها تسترد قواها، وتعيد لها ذلك المجد الضائع والشرف المسلوب، وهو أيضاً حاصل للعرب.
﴿ والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ هو الذي يعطي ويمنع، يضيّق على من يشاء من عباده في الرزق، ويوسعه على آخرين. لذلك لا تبخلوا في الإنفاق في سبيله بما وسّع عليكم، واعلموا أن المنفِق في هذا السبيل إنما يدافع عن نفسه، ويحفظ حقوقها. والإسلام دين التكافل الاجتماعي بحق، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة بقوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾، والحديث الشريف «مَثَل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا » إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
﴿ وَإليه تُرْجَعُونَ ﴾ وعندها يوفي الله كل إنسان بحسب ما قدم من خير أو شر.
القراءات :
قرأ نافع والكسائي والبزي وأبو بكر «يبصط » بالصاد، ومثلَ ذلك في سورة الأعراف في ﴿ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً ﴾.
كتب : فرض.
اصفطاه : اختاره.
السعة : الغنى.
البسطة في الجسم : العِظم والضخامة.
يبين لنا الله تعالى هنا في هذه القصة، كما في معظمم الآيات المتعلقة باليهود، نفسية بني إسرائيل وتعنتهم. فبعد موسى اجتمع أهل الرأي فيهم إلى نبي لهم لم يسمّه القرآن وطلبوا إليه أن ينصّب عليهم ملكاً ليقاتلوا تحت رايته. فقال لهم نبيهم وقد أراد أن يستوثق من صدق عزيمتهم : ألا يُنتظر منكم أن تجبُنوا عن القتال إذا فرض عليكم ؟ فأنكروا أن يقع ذلك منهم قائلين : وكيف لا نقاتل لاسترداد حقوقنا وقد أخرجَنا العدوّ من أوطاننا، وتركْنا أهلنا وأولادنا ! فلما أجاب الله رغبتهم وفرض عليهم القتال أعرضوا عنه وتخلّفوا، إلا جماعة قليلة منهم.
وكان إعراضهم وتخلفهم هذا ظلماً منهم لأنفسهم ونبيِّهم ودينهم، والله عليم بالظالمين.
فردّ عليهم نبيهم قائلا : إن الله اصطفاه من بينكم لأن فيه صفات ومزايا أهمَّ من المال والنسب، وهي السعة في العلم للتدبير وحسن القيادة، والخبرة بشؤون الحرب وسياسة الحكم، مع قوة الجسم. السلطانُ بيد الله يعطيه من يشاء من عباده ولا يعتمد على وراثة أو مال، والله واسع عليم.
السَّكينة : ما تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب.
في هذه الآيات الكريمة بقية قصة النبي الإسرائيلي الذي لم يُسّمَّ مع قومه، فقد قال لهم : إن دليل صدقي على أن الله اختار طالوت ملكاً عليكم هو أن يأتيكم بالتابوت الذي سُلب منكم تحمله الملائكة، وفي هذا التابوت بعض آثار
آل موسى وآل هارون، كالتوراة والعصا والألواح وأشياء أخرى توارثها علماؤكم. وفي ذلك علامة على عناية الله بكم، إن كنتم مؤمنين.
الطاقة : أدنى درجات القوة.
الفئة : الجماعة.
فلما خرج طالوت من البلد يصحبُه جنوده الكثيرون عطشوا، فقال لهم طالوت : إن الله مختبركم بنهرٍ في طريقكم، فلا تشربوا منه، بل اغرفوا بأيديكم قليلا منه فقط، فمن شرب منه أكثر من غَرفة، فإنه ليس من جيشنا لخروجه عن طاعة الله، فلم يصبروا على هذا الاختبار، وشربوا إلا جماعة قليلة صبرت وأطاعت. فاصطحب طالوت هذه القلة الصابرة واجتاز بها النهر. فلما ظهرت لهم كثرة عدوّهم قالوا : لن نستطيع اليوم أن نقاتل جالوت وجنوده، لكثرتهم وقلّتنا. فقال نفر منهم ثبَّتَ الله قلوبهم : لا تخافوا، كم من جماعة قليلة مؤمنة غلبت جماعةً كثيرة كافرة بإذن الله، والله مع الصابرين.
القراءات :
قرأ ابن عامر والكوفيون :«غرفة » بالضم، والباقون :«غرفة » بالفتح.
وقد جاء هؤلاء الرسل بالهدى ودين الحق. وكان مقتضى هذا أن يؤمن الناس جميعا، ولا يختلفوا ولا يقتتلوا. ولو شاء الله ما فعلوا، ولكن الله لم يشأ ذلك،
لهذا اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر. والله يفعل ما يريد لحكمة قدّرها.
يا أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر، أنفقوا من بعض ما رزقكم الله في وجوه الخير، فهو الذي ينجيكم يوم القيامة، يوم لا تستطيعون إدراك ما فاتكم في الدنيا، ولا بيع ولا شراء، يوم لا تنفع صداقة ولا شفاعة دون إذن الله، ولا يستطيع أحد أن يفدي أحدا. إن الكافرين هم الذين ظهر ظلمهم يومذاك، ولسوف يندمون على ما عملوا حيث لا تنفع الندامة.
لا تأخذه : لا تستولي عليه.
سنة : فتور يتقدم النوم، نعاس.
الكرسي : إما العرش، أو العِلم الإلَهي.
يئوده : يثقله.
في هذه الآية الكريمة التي اشتهرت باسم آية الكرسي تقرير أصول الدين في توحيد الله وتنزيهه حتى يستشعر العبد عظيم سلطانه، ووجوب طاعته، والوقوف عند حدوده. وقد جمعت هذه الآية أصول الصفات الإلَهية أيضاً، فهو واحد حيّ، قيُّوم لا يصيبه نعاس ولا نوم، له ما خفي من العالم وما بطن، مطلق التصرف لا يَرُدُّ حُكمه شفيع، عالم بخفيّات الأمور، لا يستطيع أحد أن يدرك شيئاً من علمه إلا ما أراد أن يُعلم به من يرتضيه، وسع علمُه كل شيء في السموات والأرض، ولا يشقّ عليه حفظهما وتدبيرهما، وهو العلي العظيم.
وإنها لآيةٌ تملأ القلب مهابة من الله وجلاله وكماله، حتى لا تدع موضعاً للغرور بالشفعاء. هي آية جليلة الشأن، عميقة الدلالة، وقد ورد في حديث أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بن يزيد :«إنها أعظم آية في كتاب الله وأنها مشتملة على اسم الله الأعظم ».
الرشد : بالضم والرشد، والرشاد : الهدى وكل خير.
الغي : الجهل.
الطاغوت : الشيطان، وكل ما يُعبد من دون الله.
العروة : من الدلو أو الكوز مقبضه.
الوثقى : الوثيقة المتينة.. والمراد بها هنا الإيمان بالله.
الانفصام : الانقطاع والانكسار.
لا يُكره أحد على الدخول في الإسلام، فقد وضح طريق الحق والهدى من طريق الغي والضلال. فمن هداه الله لأن يدخل في الدين ويكفر بالأوثان وكل ما سِوى الله، فقد استمسك بأمتن وسائل الحق، التي لا تنقطع، كما اعتصم بطاعة الله، فلا يخشى خذلانه إياه عند حاجته إليه في الآخرة.
وهذه الآية من أكبر الحجج التي تبيّن عظمة الإسلام، فهي نص صريح على أن مبدأه هو حرية الاعتقاد. وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته ومشاعره. لقد ترك أمره لنفسه فيما يختص في الاعتقاد. وحرية الاعتقاد هي أول حقوق الانسان. ومع حرية الاعتقاد هذه تتمشى الدعوة للعقيدة.
إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين، والذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه غيرهم على اعتناقه.
روى الطبري عن ابن عباس أن رجلاً من الأنصار يقال له الحصيني كان له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلما، فقال للنبي : ألا أُكرهمما على الإسلام ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
أما الذين يقولون إن الإسلام قد انتشر بالسيف، فإنهم من المغرضين المفترين على الله، ذلك أن الجهاد في الإسلام إنما فُرض لرد الاعتداء ولحماية العقيدة،
لا ليكرِه أحداً على الإسلام.
بهت : انقطع وسكت متحيرا.
ألم ينته إلى علمك يا محمد، قصة ذلك الملك الجبار الذي ادعى الربوبيّةَ وجادل إبراهيم خليل الله في ألوهية ربه ووحدانيته. لقد أبطره الملك فحمله على الإسراف والإعجاب بقدرته، حتى جادل إبراهيم، فعندما قال له إبراهيم : إن الله يحيي ويميت، وذلك بنفخ الروح في الجسم وإخراجها منه، قال الملك : أنا أيضاً أحيي وأميت، أعفو عمن حُكم عليه بالإعدام فأحييه، وأميت من شئت إماتته فآمرُ بقتله.
فقال إبراهيم ليقطع مجادلته : إن الله يُطلع الشمس من المشرق، فإن كنت تستطيع أن تغير شيئاً من نظام هذا الكون، فأطلع لنا الشمس من المغرب. عند ذاك بُهت الملك وانقطع، وسكت متحيرا. ومع هذا بقي على غيه وضلاله، وقال : إن هذا إنسان مجنون فأخرِجوه، ألا ترونه قد اجترأ على آلهتكم ؟
والله لا يهدي القوم الظالمين إلى اتباع الحق.
القراءات :
قرأ حمزة «رب » بحذف الياء. وقرأ نافع «أنا » من غير أن يمد الألف.
خاوية على عروشها : خالية وساقطة على سقوفها. ويقال العروش هي الأبنية أيضا.
لم يتسنّه : لم يتغير ولم يفسد.
ننشزها : نجعلها ترتفع، ثم نكسوها اللحم.
في هذه الآية الكريمة والتي بعدها يعرض علينا الله سبحانه وتعالى بعض أسرار الحياة والموت. فالموتُ نتيجة حتيمة لهذه الحياة، بل هو ظاهرة طبيعية مكملة لصفات الكائن الحي. فكما تتصف الأحياء بالنمو والتكاثر والحركة تتصف أيضاً بالضعف والفناء.
وبين الآية السابقة ﴿ أَلَمْ تَرَ إلى الذي حَآجَّ إبراهيم ﴾ وهذه الآية عطف. فيقول : ألم تعلم بهذه القصة العجيبة، قصة ذلك الرجل الذي مر على قرية متهدمة سقطت سقوفها وهلك أهلها، فقال متعجبا : كيف يحيي الله أهل هذه القرية بعد موتهم ! وكيف تعمرُ هذه القرية بعد خرابها ! فأماته الله مائة عام، ثم بعثه حتى يبيّن له سهولة البعث على الله. وبعد ذلك سُئل : كم المدة التي لبثْتَها ميتا ؟ قال، وهو لا يعلم : قد مكثت يوما أو بعض يوم. فقال له الله : بل مكثتَ مائة عام. ثم وجّه نظره إلى أمر آخر من دلائل قدرته فقال له : انظر إلى طعامك لم يفسد ولم يتغير، وكذلك شرابك. وانظر إلى حمارك أيضاً كيف نخرتْ عظامه وتقطعت أوصاله حتى تستيقن طول المدة الي مكثتها وتؤمن بالإحياء بعد الموت. ولنجعلَكَ آيةً ناطقة للناس بالبعث. انظر إلى العظم نركّبه ونجعله ينمو، ثم نكسوه اللحم، ثم ننفخ فيه الروح فتتحرك.
لقد أطلعناك على بعض آياتنا الدالة على قدرتنا على البعث، لتعلم أن الله تعالى قادر على أن يعيد العمران للقرية ويعمرها بالناس والحيوان. وأن ذلك القادر على الإحياء بعد مائة عام هو قادر عليه بعد آلاف السنين. و﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أولَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ﴾. فلما ظهر له إحياء الميت عياناً قال : إن الله على كل شيء قدير.
القراءات :
قرأ حمزة والكسائي «لم يتسن » بغير الهاء. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب «ننشرها » بالراء المهملة من أنشر، وقرأ حمزة والكسائي :«اعلم » بصيغة الأمر.
صرْهن : اضممهن.
سعيا : مسرعات.
وهذه الآية تتعلق بالحياة والموت أيضاً.
واذكر يا محمد، قصة إبراهيم يوم قال لربه : أرني بعيني كيف يكون إحياء الموتى، فقال له تعالى : أولمْ تؤمن بأني قادر على إحياء الموتى. ؟ قال : بلى، علمت وصدّقت، ولكن ليزداد إيماني ويطمئن قلبي. قال : خذ أربعة من الطير الحي فضمها إليك ثم جزِّئهنّ بعد ذبحهن واجعل على كل جبل من الجبال المجاورة جزءا، ثم نادهن فسيأتِينَك مسرعات وفيهن الحياة كما كانت، واعلم أن الله لا يعجز عن شيء وهو ذو حكمة بالغة في كل شيء.
وهذه الأمور من المعجزات التي لا تحدث إلا على أيدي الأنبياء. ولو أننا أمعنا النظر يومياً فيما حولنا لرأينا كثيرا من المعجزات في أنفسنا وفي نظام هذا الكون والحياة، لكنّا ألفنا هذه الأشياء، وأصبحت عندنا أمورا عادية. إن كثيرا من المخترعات الحديثة لو أخبرنا عنها أحد قبل مدة من الزمن لما صدقناه، مع أنها من صنع الانسان، فكيف بقدرة الله جل وعلا !
القراءات :
قرأ حمزة ويعقوب «فصرهن » بكسر الصاد، وهي لغة أيضاً. وقرأ أبو بكر «جُزوا » بالوأو.
مثَل الذين ينفقون المال يبتغون به الله وحسن ثوابه كمثل من يزرع زرعاً طيباً، فتُنبت الحبة الواحدة منه سبع سنابل في كل سنبلة منها مائة حبة. وهذا تصوير جميل لكثرة ما يعطيه الله من الأجر على الإنفاق في الدنيا، والله يضاعف عطاءَه لمن يشاء ويزيد.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على الإنفاق. ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. في الحديث القدسي «كل عمل ابن آدم يضاعَف، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أَجزي به ».
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والحاكم عن ابن مسعود قال : جاء رجل بناقة مخطومة فقال : هذه في سبيل الله. فقال رسول الله :« لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة ».
الأذى : أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه.
في هذه الآية يعلّمنا الله آداب الصدقات، بأن نؤدِّيَها عن طيبِ نفس ودون أن نمنّ على الذين نتصدق عليهم ولا نؤذيهم، وأن الكلام اللطيف الرقيق خير من الصدقة التي يتبعها أذى للمتصدَّق عليهم، فالله غني عن صدقة يأتي بعدها الأذى والمن والتنكيد.
وقد حث القرآن الكريم على الصدقات والتصرف بالمال وإنفاقه عن طيب نفس في آيات كثيرة، وذلك حتى يقوم المجتمع على أساس التكافل مع الأُخوة والمحبة، فيضل مجتمعاً سليماً متكافلا.
إن الذين يبذلون أموالهم في وجوه الخير المشروعة ولا يمنّون أو يتفاخرون على المحسَن إليهم، ولا يؤذيهم بالكلام الجارح والتطاول، لهم عند ربهم ثواب لا يقدَّر قدره، ولا خوف عليهم حين يخاف الناس، ولا هم يحزنون يوم يحزن البخلاء الممسكون.
هذا، وكلام طيب وردٌّ جميل على السائل تَطيب به نفسه، لهو أنفع لكم وأعظم فائدة من صدقة فيها الأذى. والبشاشة في وجهه خير له من الصدقة مع الإيذاء بسوء القول أو المقابلة. إن الله غني عن صدقة عباده، فهو لا يأمرهم ببذل المال لحاجة منه إليه، ولكن ليطهّرهم ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح شئونهم الاجتماعيّة.
الأذى : أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه.
رئاء الناس : مراءاة لأجلهم.
صفوان : حجر أملس.
الوابل : المطر الشديد.
صلد : أملس.
ثم أقبل تعالى يخاطب المؤمنين وينهاهم نهياً صارماً عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى ﴾ أي : لا تضيعوا ثواب صدقاتكم بإظهار فضلكم على المحتاجين إليها، فتكونوا كمن ينفقون أموالهم رياءً أمام الناس، بدافع الشهرة وحب الثناء. إن حال هؤلاء المرائين مثلُ حجر أملس عليه تراب، نزل عليه مطر شديد، فأزال التراب وتركه صلداً لا خير فيه. وكما أن المطر الغزير يزيل التراب الّذي ينبت فيه الزرع عن الحجر، فإن المن والأذى والرياء تبطل ثواب الصدقات. والله لا يهدي القوم الكافرين إلى ما فيه خيرهم ورشادهم.
وفي هذا تعريض بأن الرئاءَ والمن والأذى على الإنفاق لهي من صفات الكفار، فعلى المؤمن أن يتجنب هذه الصفات.
تثبيثا من أنفسهم : لتمكين أنفسهم من مراتب الإيمان والإحسان.
الربوة : المكان المرتفع من الأرض.
آتت أُكلها : أثمرت وأعطت إنتاجها الجيد.
بعد أن ذكر سبحانه حال الذين ينفقون أموالهم رياء، ثم يمنِّنون ويؤذون من أحسنوا إليهم، ذكر في هذه الآية الكريمة حال المؤمنين الصادقين الذين ينفقون أموالهم اتبغاء رضوان الله تعالى، وتمكيناً لأنفسهم في مراتب الإيمان. وقد جعلهم مثلَ بستان في أرض مرتفعة خصبة أصابه مطر جيد كثير فأعطى من الثمرات ضعفين، وحتى لو جاءه مطر خفيف فإنه يكتفي بذلك المطر.
وهكذا حال المؤمن الجواد المنفق، إن أصابه خير كثير تصدّق وأنفق بسخاء عن طيب خاطر، وإن أصابه خير قليل أنفق بقدر ما يستطيع.. فخيره دائم وبره لا ينقطع.
القراءات :
قرأ ابن عامر وعاصم «بربوة » بفتح الراء كما هو هنا والباقون «بربوة » بضم الراء. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «أكلها » بتسكين الكاف.
الربوة : المرتفع من الأرض.
الإعصار : ريح شديدة عاصفة دوّامة.
أيحب أحد منكم أن يكون له بستان فيه نخل وأعناب، تجري بين أشجاره الأنهار فتسقيها، وقد أثمر من كل الثمرات الطيبة، والرجل عجوز أوهنته الشيخوخة وعنده أبناء صغار لا يقدرون على الكسب ! وفي حين يرجو الرجل أن ينتفع من أرضه هذه إذا بإعصار فيه نار يحرقها عن آخرها ! إذ ذاك يبقى هو وأولاده حيارى لا يدرون ما يفعلون.
كذلك شأن من ينفق ويتصدق ثم يُتبع الصدقة بالمنّ والأذى، إنه يبطل ثوابه. وهو يأتي يوم القيامة وهو أشد حاجة إلى ثواب ما بذل، لكنه يجد أمامه إعصار الرياء والمن والأذى قد أحرق صدقاته وجعلها هباء منثورا. بمثل هذه الأمثال الواضحة يبين الله لكم أسرار شرائعه وفوائدها لتتفكروا فيها وتعتبروا بها.
تغمضوا : تتساهلوا.
تبين لنا هذه الآية الكريمة نوع المال الذي نتصدق به وطريقة الصدقة.
يا أيها المؤمنون، إذا تصدقتم فأنفقوا من جيد أموالكم، من كسبكم، ومن أحسن الثمرات التي تخرجها لكم أرضكم. إياكم أن تقصدوا الخبيث الرديء من أموالكم فتنفقوا منه. فلو قُدم إليكم لرفضتموه، إلا أن تُغمضوا فيه.. أي تتسامحوا وتتساهلوا بقبوله. واعلموا أن الله غني عن إنفاقكم فلا يصله منه شيء، وإنما يأمركم به لمنفعتكم، وهو مستحق لكل حمد، يتقبل الطيبات ويجزي عليها بالحسنى.
وقد رُوي في نزول هذه الآيات عدة روايات، منها ما وراه ابن أبي حاتم عن البراء قال : نزلت فينا. كنا أصحابَ نخلٍ، فكان الرجل منا يأتي من نخله بالقِنو، فيعلقه في المسجد. كان أهلُ الصُفّة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع فضرب بعصاه، سقط البُسر والتمر فيأكل. وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشَف والشيص، ( نوع من رديء التمر ) فيعلّقه. فنزلت الآية.. فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده.
المغفرة : الصفح عن الذنب.
الفضل : الرزق.
الشيطان يخوفكم من الفقر ويغريكم بالبخل، ويحاول أن يصرفكم عن صالح الأعمال، حتى لا تنفقوا أموالكم في وجوه الخير، بل في المعاصي. والله سبحانه وتعالى يضمن لكم على الإنفاق في سبيله مغفرة وعفواً عن ذنوبكم في الآخرة، وخلفاً من الجاه، وسمعةً حسنة بين الناس، ومالاً أزيَدَ مما أنفقتكم، في الدنيا. فأياً تتبعون ! إن الله واسع الرحمة والفضل، يحقق ما وعدكم به، وعليم بما تنفقون فلا يضيع أجركم عنده.
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا وملَكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أَعطِ منفِقاً خلفاً، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسِكاً تلفا ».
وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال :«ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ الا عِزاً، وما تواضع أحد لله الا رفعه ».
إن الله يعطي من أراد من عباده قدرة على معرفة الأشياء وإصابة الحق في القوة والعمل، ومن أُعطي هذه الحكمة فقد فاز بغنى الدارَين ونال خيرا كثيرا، لأن الإنسان إذا ذاك يفعل الخير فينتظم له أمر الدنيا والآخرة. ﴿ وما يذكّر الا أولو الألباب ﴾ ولا يتعظ بالعلم ويتأثر به إلا ذوو العقول السليمة والنفوس الطاهرة التي تدرك الحقائق وتستخرج منها ماهو نافع في هذه الحياة.
القراءات :
قرأ يعقوب «ومن تؤت الحكمة » بكسر التاء أي ومن يؤته الله الحكمة.
الكلام هنا عام في جميع أنواع النفقات وأعمال الخير، والنذور، ومعناه : أن أي نفقة من طرفكم في الخير أو الشر، ما أوجبتم على أنفسكم من النذور تقربا إلى الله، يعلمه اللهويجازي عليه، إن خيراً فخير، وإن شرا فشر. ونحن نقول :
أما من كانت نفقته وصدقته رياء للناس، ونذوره للشيطان، فإن الله يجازيه بالذي أوعده من العذاب، ما للظالمين من أعوان ينصرونهم يوم القيامة.
والنذر فيما حرّمه الله لا يجوز، فمن نذرَ فعل معصية حَرُمَ عليه عملها.. فلقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين عن رسول الله أنه قال :«النذر نذران : فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان ولا وفاء فيه، ويكفّره ما كفر اليمين ».
وإن أعطيتموها خفية وسراً حتى لا تُحرجوا الفقراء، وخوفاً من تدخُّل الرياء، فإن ذاك أفضل لكم، وبه تنقص ذنوبكم يوم القيامة.
وقد قال أكثر العلماء بأفضلية السر على العلانية في صدقة التطوّع، أما الزكاة المفروضة فالأفضل أن يعطيها علناً لأنها من شعائر الدين، وهذه يجب إظهارها حتى يقتدي بها الناس. والله تعالى يغفر لكم من خطاياكم وذنوبكم بسبب إخلاصكم في صدقاتكم، والله خبير بما تفعلون في صدقاتكم من الإسرار والإعلان.
القراءات :
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فنعم » بتفح النون وكسر العين، وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وقالون «فنعم » بكسر النون وسكون العين.
الخير : المال.
ابتغاء وجه الله : في طلب رضاه.
أحصروا في سبيل الله : حبسوا أنفسهم فوقفوها في سبيل الله.
لا يستطيعون ضربا في الأرض : يعجزون عن التكسب في التجارة أو العمل. التعفف : منع النفس مما تريد من الشهوات.
السيما : العلامة.
إلحافاً : إلحاحاً.
ليس عليك يا محمد، هدى المشركين إلى الإسلام حتى تمنعَهم صدقة التطوع، ولا تعطيهم منها إلا إذا دخلوا فيه. ما أنت إلا بشير ونذير. إن عليك الإرشاد والحث على الفضائل، والله يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفّقهم. إن أمْرَ الناس مفوَّض إلى ربهم لا إليك، فلا تمنعهم الصدقة.
أخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس قال :«كان النبي يأمرنا أن لا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية ».
ويا أيها المسلمون، إن جميع ما تنفقونه من خير وتبذلونه من معونة لغيركم، مهما كان دينه، لكم أنتم فائدته في الدنيا والآخرة، هذا إذا كنتم لا تقصدون بالإنفاق الا إرضاء الله لا لأجل جاهٍ أو مكانة، وفي تلك الحال يعود إليكم ثوابه كاملاً دون نقصان.
قيل نزلت هذه الآية في أهل الصُّفة، وكانوا أربعمائة رجل وقفوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله.
وسؤال الناس من غير حاجة محرَّم، وقد وردت عدة أحاديث في النهي عنه. ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال :«ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكينُ الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يُفطن له فيُتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس » وروى أبو داود والترمذي عن عبد الله ابن عمر عن النبي أنه قال :«لا تحلُّ الصدقة لغني ولذي مِرّة سويّ » والمِرة : القوة.
القراءات :
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «يحسَبهم » بفتح السين والباقون «يحسِبهم » بكسرها.
وبعد، فإن الإسلام لا يقيم حياة أهله على الصدقة، بل على تيسير العمل والرزق لكل قادر أولاً، وعلى حسن توزيع الثروة بين أهله على أساس التوفيق بين الجهد والجزاء ثانياً.
لكن هنالك حالات تختلف لأسباب استثنائية، وهي التي يعالجها بالصدقة. وقد رغّب الإسلام في الصدقة وحض عليها كثيرا. مرة في صورة فريضةٍ، وهي الزكاة، ومرة في صورة تطوع غير محدود هو الصدقة.
الربا : الزيادة.
يتخطبّه : يصرعه ويضربه.
المس : الجنون.
يمحق : ينقص.
يربي. يزيد.
ما سلف : ما تقدم.
يعتمد الإسلام في بناء المجتمع مبادىء قيمة، أهمها في الجانب المادي من الحياة مطالبةُ كل فرد من أفراد المجتمع بالعمل الذي يكفل له حاجته. لقد أشعرَ الأغنياء أن حق الانتفاع بهذا المال مشتركٌ بينهم وبين إخوانهم الفقراء. كما أوجب مدَّ يد المعونة إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين، إما بالبذل والعطاء أو بتهيئة العمل. كذلك أوجب على ذوي المال أن يدفعوا إلى أولياء الأمر ما يمكنّهم من إقامة المصالح التي تحقق الخير للمجتمع.
على هذه الأسس التي تقتضيها الأُخوة والتعاون، وتبادل الشعور بين الأفراد، امتلأ القرآن بآيات الحث على الإنفاق للفقراء والمساكين وفي سبيل الله، وفي هذا الوضع الذي انتهجه الإسلام في بناء المجتمع، كان من غير المعقول أن يبيح للغني من أهله أن يستقل بمتعة ماله دون أن يمد يده على المحتاج من إخوانه والمواطنين في دولته.
وإذا كان من غير المعقول في الإسلام أن يباح للغني أن يقبض يده عن معونة أخيه الفقير، فمن غير المعقول أشد أن يباح له استغلال أخيه وأخذ ماله بالربا وشد الخناق. لذلك عمد الإسلام إلى الإصلاح بتحريم الربا تحريماً قاطعا.
وقد جاء الإسلام في وقتٍ فرغت قلوب الناس فيه من معاني الرحمة والتعاون، كانوا يأكل قويهم ضعيفهم، ويستغل غنيهم فقيرهم، فأفرغ جهده في القضاء على منابع الشر، وإزالة الحواجز التي قطّعت ما بين الناس من صلات التراحم والتعاون، وأخذ يبني المجتمع بناءً واحداً متماسك الأطراف. وكان أول ما اتخذه من ذلك إيجاباً الحثُّ على التعاون والتراحم. ثم كان تحذيره الشديد فيما يخص الناحية السلبية، فحرَّم الربا والرشوة، بعد أن حرم الشحَّ والضن بحق الفقير والمسكين.
وربا الجاهلية الذي كان عليه الناس نوعان : الأول : ربا النسيئة، وهو أن يقرض الرجل أخاه من المال لزمن محدود على أن يدفعه له مع زيادة معينة. وقد نص القرآن على تحريمه، وجعل التعامل به من الكبائر. والنوع الثاني : ربا الفضل، وهو أن يبيع الرجل نوعا من السلعة بمثلها مع زيادة أحد العوضَين على الآخر، كأن يبيع قنطارا من القمح بقنطار وربع أو نصف.
وهذا أيضا من الربا المنصوص على تحريمه في الحديث الشريف لقوله صلى الله عليه وسلم «ولا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبُرَّ بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء، عينا بعين، يداً بيد » وقد اتفق الفقهاء على تحريمه، وأباحوا الزيادة إذا اختلف الجنس. وقد حرموا التأجيل في هذه الأصناف، واختلفوا في قياس غيرها عليها اختلافا كبيرا.
وتحريم الربا الذي جاء في القرآن الكريم، تنظيم اقتصادي عظيم، وهو يتفق مع قياس ما قرره الفلاسفة في الماضي، وما انتهت إليه النظم الاقتصادية الحديثة. فأرسطو يقرر أن الكسب بالفائدة نظام غير طبيعي، فالنقد لا يلد النقد.
والاقتصاديون يقررون أن طرق الكسب أربَع : ثلاثٌ منها منتجة والرابعة غير منتجة. فالثلاث المنتجة : العمل ويتبعه الصناعة، والزراعة، والمخاطرة في التجارة.. لأنها في نقل الأشياء من مكان إنتاجها إلى مكان استهلاكها تتعرض لمخاطر، وتزيد قيمتها بهذا الانتقال. وذلك في ذاته انتقال. وذلك في ذاته إنتاج. أما الرابعة فهي : الفائدة أو الربا، وهذه المخاطرة فيها، لأن القرض لا يتعرض للخسارة، بل له الكسب دائما ؛ ولأنه لا إنتاج إلا لِعملِ المقترض، فالفائدة نتيجةٌ لذلك، هذا كما أن إباحة الكسب بالفائدة تؤدي إلى تحكم رؤوس الأموال في العمل، وهذا غير سليم.
وتذكر الآية أن الذين يتعاملون بالربا لا يقومون يوم القيامة من قبورهم كبقية الناس، وإنما كالمجنون الذي أصابه مسّ من الشيطان فهو يتخبط بفعل الصرع. ولماذا ؟ لأنهم استحلّوا أكل الربا، وقالوا لا فرق بين البيع والربا، فكما يجوز بيع السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما بأجل، يجوز أن يعطي الإنسان أحد المحتاجين عشرة دراهم على أن يردها بعد أجلٍ، والسبب في كل من الزيادتين واحد هو الأجل. تلك حجتهم. وهم واهمون فيما قالوا، وقياسهم فاسد. فالله أحلّ الأرباح في الشراء البيع وحرّم الربا. ذلك أن البيع ملاحَظ فيه دائما انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعاً حقيقاً، أما الربا فهو إعطاء الدراهم ثم أخذُها بدون مخاطرة ولا تعب، كما أن الكسب فيها مضمون دائما بخلاف التجارة والعمل.
﴿ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فإنتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾، أي : فمن بلغه تحريم الله الربا فتركه فورا، فله ما كان قد أخذه من الربا فيما تقدم لا يكلَّف بردِّهِ إلى من دفعوه، وإنما عليه ألا يأخذ ربا بعد ذلك.. إن أمره موكول إلى الله يحكم فيه بعدله وعفوه. أما من عاد إلى أكل الربا بعد تحريمه، فأولئك الذين لم يتعظوا بموعظة من ربهم، فهم أصحاب النار هم فيها خالدون.
والله لا يحب لك من تمادى في إنكار ما أنعم الله به عليه من المال، كأن لا ينفق منه في سبيله، ولا يواسي المحتاجين من عباده.
والأثيم هو : المنهمك في ارتكاب الذنوب والمحرمات، فهو قد جعل ماله آلة لجذب ما في أيدي الناس إلى يده، فاستغلّ إعسارهم وأخذ أقواتهم وامتص دماءهم.
ذو عسرة : معسر لا يستطيع دفع ما عليه.
ميسرة : يسر.
هنا عاد التشديد في الربا والحث على تركه وعدم التعامل به، ومحاربة من يتعاطاه وكأنه يحارب الله ورسوله.
يا أيها المؤمنون، خافوا الله واستشعروا هيبته في قلوبكم، واتركوا ما بقي لكم من الربا عند الناس إن كنتم مؤمنين حقا.
وإن تبتم توبة صحيحة فلكم رؤوس أموالكم، دون زيادة مهما كانت، لأن الزيادة التي تأخذونها ظلم لغيركم، كما أن ترك جزء من رؤوس الأموال ظلم لكم. وهذا معنى قوله تعالى ﴿ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾.
هذه هي النظرة الكاملة، والسماح للمَدين المعسر، وفيها فوائد كثيرة. فهي تجعل الناس مترابطين متعاطفين، وتضامنَهم أقوى وأمتن. هذا ما يرشدكم إليه ربكم فاعملوا وفق ما تعلمون، وسامحوا إخوانكم. بذلك تبنون مجتمعاً مثالياً لا مثيل له.
وقد ختم سبحانه وتعالى آية الربا بآية بالغة الموعظة، إذا وعاها المؤمنون وعملوا بها هوّنت عليهم السماح بالمال والنفس وكل ما يملك المرء في هذه الدنيا.
قراءات :
قرأ عاصم «تصدقوا » بتخفيف الصاد، الباقون «تصدّقوا » بالتشديد.
وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عباس «فآذنوا بحرب » بالمد.
وقرأ نافع وحمزة «ميسرة » بضم السين.
فإذا تذكرتم أيها المؤمنون، ذلك اليوم، وفكرتم فيما أعد الله لعباده من الجزاء على قدر أعمالهم، خفف ذلك من غلوائهم ومال بكم إلى نشدان الحق والخير.
قال كثير من العلماء : إن هذه آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وعاش بعدها تسع ليال كما روى الطبري عن ابن عباس.
قراءات
قرأ أبو عمرو ويعقوب :«تَرجعون » بفتح التاء.
وليملل : الإملال والإملاء واحد، أملّ وأملى بمعنى واحد.
لا يبخس : لا ينقص.
السفيه : ضعيف الرأي.
الضعيف : الصبي الصغير، أو الشيخ الهرم.
شهيدين : شاهدين.
لا تسأموا : لا تلموا وتضجروا.
أقسط : أعدل.
يا أيها الذين آمنوا، إذا داين بعضُكم بعضاً بدَيْن مؤجل إلى وقت معلوم، فيجب عليكم أن تكتبوه حفظاً للحقوق، وتفاديا للنزاع. وعلى الكاتب أن يكون عادلاً في كتابته، ولا يجوز له أن يمتنع عن الكتابة كما علّمه الله. إذن لقد شرط الله في الكاتب العدالة، كما شرط فيه أن يكون عالما بأحكام الفقه وكتابة الدَّين وعليه أن يكتب حسب اعتراف المدين. وعلى المدين أن يتقي الله ولا يُنقص من الدين شيئا. فإن كان المدين لا يقدّر الأمور تقديراً حسنا، أو ضعيفا لصغر سنه أو مرض شيخوخة، أو لا يستطيع الإملاء لخرسٍ أو جهل بلغةِ الوثيقة، فعلى من يتولى أموره ( من وكيل أو قيم أو مترجم ) أن يملي بالعدل بلا زيادة ولا نقصان. وأشهدوا على ذلك الدَّين من رجالكم، فإن لم تجدوا شاهدَين، فأشهدوا رجلاً وامرأتين عدولاً، حتى إذا نسيت إحداهما ذكّرتها الأخرى. ولا يجوز الامتناع عن أداء الشهادة إذا ما طُلب من الشهود. ولا تتكاسلوا عن كتابة الدين قليلا كان أو كثيراً، ولا من أن تبيّنوا أجله المعيّن.. فالكتابة المستوفية الشروط أحفظ لحقوق الناس، وأحرى بإقامة العدل بين المتعاملين منكم، وأعونُ على إقامة الشهادة. إن هذا أقرب إلى درء الشكوك بينكم.
أما في حال تجارة حاضرة تدار بين المتعاملين، فلا حرج في ترك الكتابة، إذ لا يترتب عليه شيء من التنازع والتخاصم. وأشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة حسماً للنزاع. وتفادوا أن يلحق ضرر بكاتب أو شاهد، فذلك خروج على طاعة الله. واتقوا الله في جميع ما أمركم الله به ونهاكم عنه، فهو سبحانه يعلّمكم ما فيه صلاح حالكم في الدارّين، وهو العليم بكل شيء.
هذه آية الدَّين قد قررت مبادىء الإثبات : الكتابة، وأن القضاء لا يكون بأقل من شاهدين عدلين أو رجل وامرأتين، وأنه يختص بالكتابة كاتب عدل، ووجوب الإشهاد على الكتابة، وأنه يستغنى عن ذلك إذا كانت المعاملات متبادلة في ساعتها غير مؤجلة، ووجوب الولاية على من لا يحسنون التصرف، وأنه عند السفر يغني الرهن المقبوض عن الكتابة.
قراءات :
قرأ حمزة «إن تضل » إن شرطية جازمة «فتذكر » وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «فتذكر » من اذكر الرباعي. وقرأ عاصم «تجارة » بالنصب والباقون بالرفع.
وإن كنتم مسافرين، ولم تجدوا من يحسن الكتابة، فليكن ضمان الدَّين شيئاً من الرهن يأخذه الدائن من المدين. فإن كان الدائن يأمن المدين فلم يأخذ منه رهناً لحسن ظنه به، فليؤدِّ الذي اؤتمن أمانته ويؤكّد حسن ظن الدائن. وإذا دُعيتم إلى الشهادة فلا تكتموها، إن ذلك إثم كبير، والله مطلع عليكم وهو خير الشاهدين.
القراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو «فرُهُن » جمع رهن.
روى الامام أحمد ومسلم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله ﴾ اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله، فأتوا النبي وقالوا : لقد كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق كالصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت هذه الآية ولا نطيقها. فقال النبي :«قولوا سمعنا وأطعنا وسلَّمنا »، فألقى الله الإيمان في قلوبهم وأنزل ﴿ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا... الآية ﴾. فكانت الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين به. وصار الأمر إلى أن قضى الله تعالى أن للنفس ما اكتسبت من «القول والعمل ».
وهذا هو نهج الإسلام الصحيح العادل.
﴿ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ﴾ يغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له، ويعذب من يشاء، وهو تعالى على كل شيء قدير.
قراءات :
قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ﴾ برفع يغفر ويعذب كما هو هنا : وجزمهما الباقون عطفاً على جواب الشرط.
بهاتين الآيتين الكريمتين تُختتم هذه السورة الكبيرة التي هي أطول سورة في القرآن. هما تمثلان بذاتهما تلخيصاً وافياً لأعظم قطاعات السورة يصلح ختاماً لها متناسقاً مع موضوعاتها وجوّها وأهدافها.
فقد افتتح سبحانه هذه السورة العظيمة ببيان أن القرآن لا ريب فيه وأنه هدى للمتقين، وبيّن صفات هؤلاء، وأصول الإيمان التي أخذوها بها، ثم ذكر الكافرين والمنافقين، ثم أرشد إلى كثير من الإحكام كما قدمنا في أول السورة. وهنا اختتم السورة بالشهادة للرسول وللمؤمنين، كما لقّنهم من الدعاء ما يرضيه ويطهرُ نفوسهم من الأدناس. وأخيرا وصلوا إلى طريق السعادة، وفازوا بخير الدارين.. وهذا منتهى الكمال الانساني وغاية ما تصبوا إليه نفوس البشر.
آمن الرسول بما جاء به الوحي من عند الله، وآمن معه المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله. ومن فضيلة هذا الدين أن المؤمنين به يحترمون جميع الأنبياء والرسل لا يفرّقون بين أحد منهم، وهذه ميزة لهم على غيرهم من أهل الكتاب الذين يقولون : نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض.
ويقول المسلمون : لقد بلّغنا الرسولُ الكريم تنزيل الله المحكم، واستجبنا لما فيه وأطعنا أوامره، فاغفر لنا ربّنا ذنوبنا، إليك وحدك المرجع والمآب.
كسبت واكتسبت : الفرق بينهما أن كسبت تستعمل في الخير، واكتسبت في الشر. إصرا : حِملا ثقيلا، وهي التكاليف الشاقة التي كانت تفرض على الأمم السابقة لكثرة عنادها وتشددها.
مولانا : مالكنا ومتولي أمورنا.
وقد منّ الله على المؤمنين حيث قال :﴿ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾، أي :
لا يكلف عباده إلا ما يطيقون، فضلا منه ورحمة، فلكل نفس ما كسبت من قول أو فعل، وعليها ضرّ ما اكتسبت من شر.
ثم علّم الله المؤمنين كلمات يدعونه بها ترفع عنهم الحرج، وتخفف عنهم عبء الخطأ والنسيان فقال : قولوا ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تشدّد علينا فتكلّفنا ما يشق علينا كما شدّدت على بني إسرائيل بسبب تعنتهم وظلمهم.
ربنا لا تحمّلنا ما يشق علينا من الأحكام والتكاليف، واعفُ عنا بكرمك، واغفر لنا بفضلك، وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، إنك أنت مالكنا ومتولي أمورنا فانصرنا يا ربنا على القوم الكافرين حتى نقوم بنشر دينك وإعلاء كلمتك.
وقد روى الطبراني في آخر هذه السورة عن ابن عباس أن رسول الله عند قراءة هذه الآية قال «إن الله تعالى يقول قد فعلت، أي : عفوتُ عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على الكافرين، فأعطيتُ هذه الأمة خوايتم سورة لم تعطَها الأمم قبلها » فإذا اتخذ المسلمون العدّة، وقاموا ببذل الوسع في استكمال الوسائل التي أرشد إليها المولى سبحانه، فإنه يستجيب دعوتهم وينصرهم على أعدائهم. فلقد ورد في الأثر أن هذه الأمة لا تغلب من قلّة، لكنها قد تغلب لعدم قيام وُلاتها بالحق، وغفلة شعوبها عن واجباتهم.
نسأل الله تعالى أن يوفقَنا إلى العمل الصادق بكتابه وسنته وأن يجمعَ شملنا، ويوحدَ كلمتنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.