تفسير سورة الفرقان

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها في قول الجمهور. وقيل : باستثناء ثلاث آيات فهي مدنية. والسورة مبدوءة بهذه الآية العظيمة الذي يحمدُ الله فيها نفسه ؛ إذ أنزل هذا الفرقان على رسوله لينذر به العالمين.
وفي السورة تنديد شديد بالجاهلين السفهاء الذين يذعنون بالعبادة لآلهة موهومة بلهاء لا تضر ولا تنفع. والذين جحدوا نبوة رسولهم الصادق الأمين وافتروا على كتاب الله الحكيم بالزور والباطل، فقالوا معاندين مكابرين : إنه أساطير الأولين. وأولئك الضالون السفهاء يعجبون أن يكون الرسول مبعوثا من جنس البشر فهم يستهجنون أن يتصرف الرسول كما يتصرف البشر ؛ إذ يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ظنا منهم أن الله لا يبعث رسله من غير الملائكة. ذلك ظن الجاحدين الراسخين في الضلالة والباطل ؛ فهو بذلك ليس لهم من جزاء إلا السعير يُلقون فيها مقرّنين وهم يَدعون هنالك ثبورا. ثم يُرد عليهم بما يزيدهم تنكيلا وإياسا وحسرة ( لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ).
وفي السورة وعيد من الله للمشركين الظالمين بأن مصيرهم إلى النار والخسران، وأنهم نادمون بالغ الندامة على تفريطهم في دينهم وزيغهم عن صراط الله من غير أن تجديهم الندامة شيئا.
وفي السورة ذكر لعباد الرحمن وما يتجلى في أشخاصهم من جميل الخصال والسجايا مثل : التواضع والخشوع والاعتدال وإخلاص العبادة لله ودوام الدعاء لله بالنجاة والسلامة من عذاب النار. إلى غير ذلك من أخبار القيامة وما فيها من نوازل وأهوال.

بسم الله الرحمان الرحيم
قوله تعالى :﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ( ١ ) الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذوا ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا ( ٢ ) ﴾ ( تبارك )، يعني تمجد وتعظم وتقدس، وهو من البركة ؛ أي التزايد في الخير. فالمعنى : تزايد خيره وعطاؤه وكثر. وهي كلمة يعظم الله فيها نفسه ؛ فهو ( الذي نزل الفرقان ) ( الفرقان ) مصدر فرّق بين الشيئين إذا فصل بينهما. وسمي القرآن بالفرقان ؛ لأنه يفصل بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام. وقيل : لأنه لم ينزل جملة واحدة بل نزل مفرقا على نجوم، مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال كقوله :( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ).
قوله :( على عبده ) أي نبيه محمد ( ص ). وهذه صفة مدح وثناء من الله على رسوله عليه الصلاة والسلام. وذلك بإضافته إلى العبودية لله. لا جرم أن أشرف أوصاف المرء كونه مذعنا لله بالعبودية وهي الخضوع لأمره والاستسلام لجلاله العظيم. ويشهد بهذه الحقيقة ثناء الله على رسوله في أكرم حالاته وأقدس ساعاته المباركات لما أسري به إلى السماء، وهو قول تكريما له وتبجيلا ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) وغير ذلك من مثله من الآيات كثير.
قوله :( ليكون للعالمين نذيرا ) الضمير في ( ليكون ) عائد على ( عبده ). وقيل على ( الفرقان ). والأول أظهر لاستناد الفعل إليه ؛ فهو ( ص ) نذير للعالمين ؛ أي منذر لهم أو مخوف يبلغهم رسالة ربه ويدعوهم إلى عبادته وحده، ويخوفهم بطشه وانتقامه، ويتلو عليهم آيات الله البينات ذات الدلالات الواضحات والإعجاز المستبين. والمراد بالعالمين عموم الإنس والجن ؛ فإن محمدا ( ص ) مرسل من ربه إلى الثقلين كافة. وهذه إحدى خصائصه عليه الصلاة والسلام.
قوله :( الذي له ملك السماوات والأرض ) ( الذي ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره : هو الذي. أو على أنه بدل من قوله :( الذي نزل ) وذلك بيان من الله لا ريب فيه بأن كل شيء في الكون مملوك لله سبحانه ؛ فهو وحده مالك كل شيء. وهو المنزه عن اتخاذ الولد أو الصاحبة ؛ فليس له في ملكه شريك ولا نديد وهو قوله :( ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ).
قوله :( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) الله خالق كل شيء ومحدثه : فما من شيء سوى الله إلا هو مخلوق لله ومربوب له ( فقدره تقديرا ) أي هيأه لما يصلح له دون خلل فيه أو اضطراب، كخلق الإنسان على هيئته هذه التي نراها. هيئته الوافية المنسجمة المتكاملة لتناط به التكاليف والمصالح في الدين والدنيا١.
١ - تفسير النسفي جـ٣ ص ١٥٨ والبحر المحيط جـ ٦ ص ٤٤٠..
قوله تعالى :﴿ واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ﴾ ذلك تسفيه لأحلام المشركين الظالمين الذين ضلوا الطريق المستقيم. طريق الله الواحد، المتفرد بالألوهية والذي لا تنبغي العبادة لأحد غيره.
لكن هؤلاء التاعسين السفهاء قد عبدوا من دون الله آلهة مزعومة مصطنعة نحتوها من الحجارة فجعلوها تماثيل ظنوا أنها أرباب. وهي ليست غير أشباح وتماثيل ( لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ) هذه التماثيل المزعومة، خلقها الله فأنى لها أن تخلق شيئا. فما من شيء يكون خالقا ومخلوقا البتة.
قوله :( ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ) ما يعبد الظالمون المشركون إلا تماثيل مصنوعة من الأحجار والأخشاب أو غير ذلك من المواد المحدثة ؛ فهي كائنات جوامد لا تستطيع دفع الضر عن نفسها أو استجلاب النفع لها، فهي عاجزة جامدة خرساء.
قوله :( ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ) المراد بالموت هنا الإحياء، وبالحياة الإحياء، وبالنشور، البعث من القبور إلى حيث الحساب.
أي هذه الأصنام المعبودة من دون الله لا تملك أن تميت حيا أو تحيي موتا ؛ لأنها من جملة المخاليق الموتى التي أحدثها الله ؛ فهي بالغة العجز عن فعل شيء.
قوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا ( ٤ ) وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ( ٥ ) قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ( ٦ ) ﴾ المراد بالذين كفروا النضر بن الحارث. هذا الشقي الكفور الذي كان يتصدى لرسول الله ( ص ) وقرآنه المجيد، بما كان يثيره من الأقاويل والأباطيل والافتراءات. فقد كان النضر بن الحارث وأتباعه من المعاندين يختلقون الأكاذيب عن نبي الله ليثنوا عنه العرب، وليثيروا في نفوسهم الريبة فيما أنزل الله إليه من الآيات. فكانوا يقولون ( إن هذا إلا إفك افتراه ) والإفك، أسوأ الكذب ؛ أي ما هذا القرآن إلا أكاذيب اختلقها محمد من عنده ! !
قوله :( وأعانه عليه قوم آخرون ) أي استعان محمد ( ص ) على الإتيان بهذا القرآن بقوم آخرين من اليهود علموه أخبار السابقين. وقيل : المراد بقوم آخرين بعض الموالي والمستضعفين من غير العرب مثل عدّاس، مولى حويطب بن عبد العزى وغيره من الكتابيين الذين كانوا يقرأون التوراة ثم أسلموا.
قوله :( فقد جاءوا ظلما وزورا ) الضمير يرجع إلى الذين كفروا، هؤلاء الطغاة المعاندون الأشقياء الذين يهرفون بالباطل والكذب مما ليس لهم فيه أدنى برهان، إنه افتراء واختلاق وزور تتقيؤه حناجر المجرمين التاعسين الضالعين في التعس والرجس، كالنضر وأمثاله من الشياطين في كل زمان. وهم يعلمون أنهم مبطلون كاذبون. فقال سبحانه في دفع مقالتهم :( فقد جاءوا ظلما وزورا ) ذلك تنديد من الله بالغ بمقالة هؤلاء الأفاكين، ودفع لما قالوه وافتروه بأنه ظلم وزور. أما الظلم : فهو وضع الشيء في غير موضعه ؛ فقد جعلوا العربي يتلقن من العجمي كلاما فذا بالغ الفصاحة، نكص دونه العلماء والعظماء من العرب ؛ فأنى للأعاجم أن يصنعوا مثله ؟.
وأما الزور : فقد بهتوا رسول الله ( ص ) بما ليس فيه وهم يعلمون أن محمدا ( ص ) كان في غاية الصدق والأمانة والبراءة والرحمة والبر ؛ فقد لبث فيهم أربعين سنة قبل بعثه حتى سموه لفرط صدقه وبره واستقامته : الأمين.
قوله :( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها ) ( أساطير ) جمع أسطار وأسطورة. والأساطير، أحاديث المتقدمين وما كانوا يسطرونه من القصص والخرافات.
قوله :( اكتتبها ) يعني كتبها لنفسه. أو استكتبها ؛ أي كتبها له كاتب ؛ لأنه كان أميا ( فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) أي تقرأ عليه أول النهار وآخره ليحفظها. وذلك من جملة ما كان يهذي به المشركون عنادا ومكابرة. وهم في قرارة أنفسهم وفيما بينهم موقنون أن محمدا ( ص ) صادق، وأنه مرسل من لدن إله حكيم، وأن ما جاءهم به لا نظير له في الكلام، وأنهم لا قبل لهم أن يصطنعوا شيئا مثله.
قوله :( قل أنزله الله يعلم السر في السماوات والأرض ) أي قل لهم : إن الذي أنزل القرآن لهو علام الغيوب، الذي يعلم ما خفي من أسرار في العالمين ويعلم كل خبئ مستكن في السماوات أو الأرض. والقرآن قد تضمن من عجيب المعاني والأخبار والأسرار ما لم يكن يعلمه محمد ( ص )، فلا جرم أنه تنزيل من رب العالمين.
قوله :( إنه كان غفورا رحيما ) ذلك من لطف الله بالعباد ؛ إذ يبين للظالمين المعاندين أنه ممهلهم فلا يعاجلهم العقوبة ليزدجروا ويتوبوا إلى ربهم فيغفر لهم ما أظهروه من الكفر والعصيان. وذلك من فضل الله على عباده ورحمته بهم ؛ فإنه لا يعجل لهم العذاب بل يمهلهم ليتوبوا فإن تابوا وأنابوا نجوا، وإن لم يتوبوا باءوا الخسران وسوء المصير١.
١ - البحر المحيط جـ٦ ص ٤٤٢ وتفسير النسفي جـ ٣ ص ١٥٩..
قوله تعالى :( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ( ٧ ) أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( ٨ ) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيل ( ٩ ) ا تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ( ١٠ ) بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب الساعة سعيرا ( ١١ ) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ( ١٢ ) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ( ١٣ ) لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ( ١٤ ) ) الضمير في ( وقالوا ) عائد إلى المشركين من أهل مكة فقد سألوا- على سبيل الاستهزاء والتهكم- ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) ( ما )، استفهامية في محل رفع مبتدأ. والجار والمجرور بعدها في محل رفع خبر المبتدأ. و ( يأكل )، جملة فعلية حالية. وقد كتبت لام الجر مفصولة من مجرورها، وهو خارج عن قياس الخط١. على أن استفهام المشركين مستهجن يهذي به الظالمون السفهاء، وهم يحفزهم إلى ذلك عتادهم وضلالتهم وهوان أحلامهم ؛ إذ قالوا لرسول الله : ما لك وأنت مرسل من ربك تأكل الطعام وتقف بالأسواق متجرا ملتمسا المعاش والرزق ؟ وتسميتهم له بالرسول ليس عن تصديق ؛ بل على سبيل التهكم والسخرية. فقد قالوا : إن كان حقا نبيا، فما له يأكل الطعام كما نأكله نحن، ويتردد في الأسواق من أجل العمل والاتجار كما نعمل ونتّجر ؛ أي لزم أن يكون ملكا من الملائكة، ليكون مستغنيا عن السعي وطلب الرزق وتحصيل المعاش. وهذا هو مقتضى قوله :( لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ) رجعوا عن اقتراحهم بكونه ملكا إلى كونه إنسانا معه ملك يعززه في الإنذار والتبليغ والتخويف.
١ - الدر المصون جـ٨ ص ٤٥٨..
ثم رجعوا عن هذا الاقتراح كذلك إلى كونه مستغنيا بالمال يرفده به ربه، وهو قوله :( أو يلقى إليه كنز ) أي يلقى إليه من السماء كنز يستغني به فلا يحتاج إلى التردد في الأسواق طلبا للرزق والمعاش. ثم رجعوا عن ذلك إلى كونه رجلا له بستان يأكل منه ويستغني به عن العمل والسعي، وهو قوله :( أو تكون له جنة يأكل منها ).
قوله :( وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) المسحور، الذي غلب عقله السحر فجنّ. والمراد بالقائلين، النضر بن الحارث وأتباعه من أكابر المجرمين الظالمين. فقد قالوا للناس : إنكم لا تتبعون إلا رجلا قد غلبه السحر. وهم يبتغون بمقالتهم المنكرة هذه أن يثبطوا الناس عن دين الله تثبيطا، ولينثنوا عن اتباع رسول لله فيشاقوه فيما جاءه به فينقلبوا مدبرين مستكبرين.
قوله :( انظر كيف ضربوا لك الأمثال ) الأمثال يعني الأشباه.
أي قالوا فيك الأقوال واخترقوا لك الصفات الظالمة المكذوبة ؛ إذ رموك بالسحر والكهانة والشعر والكذب ( فضلوا ) أي تاهوا عن الحق ( فلا يستطيعون سبيلا ) أي ليس لهم طريق إلى الحق، فحيثما سلكوا أو ساروا فإنهم تائهون عن الحق فلا يمضون إلا مترددين حائرين، يخبطون في الظلام والتيه خبطا.
قوله :( تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك ) فقد روي أن النبي ( ص ) خيّر : إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها، وإن شئت جمعناه لك في الآخرة فقال : يجمع لي ذلك في الآخرة. فنزل قوله :( تبارك الذي إن شاء ) الآية. أي تكاثر وتزايد خيرا الذي إن شاء جعل لك خيرا مما قالوه واقترحوه. وهو أن يجعل الله لك من الجنات والقصور ما ليس لمثله نظير. ولكن يؤخره لك إلى يوم القيامة ؛ لأنه خير وأنفع لك وأدوم.
والإشارة في قوله :( ذلك ) عائدة إلى ما ذكره المشركون من الجنة والكنز في الدنيا.
قوله :( جنات تجري من تحتها الأنهار ) ( جنات )، بدل من قوله :( خيرا ) أو منصوب بإضمار الفعل أعني، وجملة ( تجري من تحتها الأنهار ) صفة١.
قوله :( ويجعل لك قصورا ) بإدغام لام ( ويجعل ) في لام ( لك ) وهو معطوف على محل الجزاء. والتقدير : إن يشأ يجعل.
١ - الدر المصون جـ ٨ ص ٤٥٩..
قوله :( بل كذبوا بالساعة ) أي لم يمنعهم من تصديقك والإيمان بدعوتك كونك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، بل منعهم تكذيبهم بقيام الساعة.
وذلك هو السبب الرئيسي في عداوة المشركين وكيدهم للمسلمين. وهو أنهم جاحدون مكذبون بيوم الدين فلا يجدون بعد كفرانهم هذا أيما غضاضة في التمالؤ على المسلمين والكيد لهم وإيذائهم أشد الإيذاء. وبذلك فإن انتفاء الإيمان من قلوب المجرمين جعلهم يرغبون في الكيد للمسلمين ليسوموهم البلاء والتنكيل كلما استطاعوا.
قوله :( واعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ) ذلك وعيد شديد من الله للمجرمين المكذبين بالساعة، بما أعده وهيأه لهم من عذاب السعير. وهي النار الحارقة المضطرمة، شديدة الاستعار
﴿ إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ﴾ يعني إذا كانت النار من المجرمين بمرأى الناظرين في البعد ؛ أي كانت من البعد بقدر ما يرى الرائي سمعوا صوت تغيظها وزفيرها. والمراد صوت غليانها. وقيل : إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا لفرط غضبهم عليهم. وذلك يكشف عن فظاعة الهول الذي ينتظر المجرمين يوم القيامة ؛ إذ يواجهون النار ليكبكبوا فيها.
قوله :( وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين ) ( مكانا )، منصوب على الظرف و ( منها )، في محل نصب على الحال. و ( مقرنين )، منصوب على الحال أيضا١.
والمعنى : إذا ألقوا من النار في مكان ضيق، لزيادة تعذيبهم، فإن الكرب مع الضيق، كما أن الراحة مع السعة ؛ فالمجرمون تضيق عليهم النار ليزدادوا نكالا وفوق ذلك فإنهم يكونون ( مقرنين ) أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل فيا لهول المنظر الرعيب الذي ترتعد منه الفرائص، ونحن نتخيل حال المجرمين الفظيعة وهم في الأصفاد والسلاسل مقيدون ليقذفوا في النار.
قوله :( دعوا هنالك ثبورا ) ( ثبورا )، مفعول به. أي يقولون : يا ثبوراه٢ أي تعال يا ثبور فهذا أوانك. والثبور معناه الهلاك. وقيل : الويل. والصحيح أن الثبور يجمع الهلاك والويل والعذاب والخسار. فهم يصطرخون في النار وينادون مذعورين آيسين : الهلاك والويل والخسران. وذلك في حالة من اشتداد الكرب واليأس والتنكيل مما لا تتصوره العقول ونسأل الله النجاة والسلامة.
١ - الدر المصون جـ٨ ص ٤٦٢..
٢ - الدر المصون جـ ٨ ص ٤٦٢..
ثم يقال لهم في تقريع وتعنيف :﴿ لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ﴾ أي وقعتم فيما هو ليس ثبورا واحدا بل إنه ثبور كثير. أو لا تقتصروا على حزن واحد بل احزنوا حزنا كثيرا. وذلك لديمومة العذاب ؛ فهو مستديم ومتجدد١.
١ - البحر المحيط جـ ٦ ص ٤٤٤، ٤٤٥ وتفسير النسفي جـ ٣ ص ١٦٠..
قوله تعالى :﴿ قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا ( ١٥ ) لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا ( ١٦ ) ﴾ الاستفهام على سبيل التقريع والتوبيخ والتهكم.
والإشارة بقوله :( أذالك ) عائد إلى صفة النار والعذاب الفظيع الذي تبين في الفقرات السابقة ؛ أي هل ذلك خير أم جنة الخلد التي وعدها الله عباده المؤمنين المتقين إذ جعلها لهم جزاء وعاقبة ؛ أي عاقبة لنجاة وحسن الثواب بما قدموه من طاعة لله.
قوله :( لهم فيها ما يشاءون خالدين ) أعد الله للمؤمنين المتقين كل ما يبتغونه من أنواع النعيم وهم يهنأون في الجنة ماكثين خالدين، لا يظعنون ولا يتحولون.
قوله :( كان على ربك وعدا مسؤولا ) اسم كان هو ضمير ما يشاءون. وقيل : يعود على الوعد المستفاد من قوله :( وعد المتقون ) ١ و ( مسؤولا )، أي يسأله الناس في دعائهم ؛ إذ كانوا يقولون ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ) أو الملائكة يدعون الله للمؤمنين بدخول الجنة والنجاة من النار٢.
١ - الدر المصون جـ ٨ ص ٤٦٣..
٢ - البحر المحيط جـ٦ ص ٤٤٥ وتفسير النسفي جـ٣ ص ١٦٠..
قوله تعالى :﴿ ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل ( ١٧ ) قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا ( ١٨ ) فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ( ١٩ ) ﴾ أي واذكر حين يجمع الله ليوم الحشر الظالمين الذين عبدوا آلهة من دون الله، ويحشر معهم معبوديهم في الدنيا وهم الملائكة وعزير والمسيح. وقيل : يحشر جميع المعبودين من العقلاء وغير العقلاء كالأصنام ؛ إذ ينطقها الله يوم القيامة. والمعنى الأول أظهر.
قوله :( فيقول أأنتم أظللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل ) ( هؤلاء ) نعت لعبادي. أو بدل١. أي يسأل الله المعبودين من الملائكة والإنس على سبيل التبكيت للعبدة المشركين، وزيادة لهم في التحسر : أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال حتى زاغوا عن صراطي بما فتنتموهم به من أسباب الغواية والتضليل والفتنة، أم أنهم ضلوا عن صراطي من تلقاء أنفسهم ؟
١ - الدر المصون جـ٨ ص ٤٦٤..
قوله :( قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء ) ( سبحانك )، ننزهك عن الأنداد والشركاء. ما كان يصح لنا ولا يستقيم أن نحمل أحدا على عبادتنا دونك بل أنت المعبود دون سواك، ونحن لك عابدون مستسلمون. وذلك إعلان منهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة أنهم مبرأون من إضلال المشركين، مستعيذين بالله أن يكونوا من المضلين.
قوله :( ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر ) لكن، حرف استدراك. فقد ذكروا سبب ضلال هؤلاء المشركين، هو أنك يا ربنا متعتهم وآباءهم بالأموال والأولاد وأعطيتهم ما راموا من نعم الحياة الدنيا حتى أوغلوا في الشهوات والملذات فانشغلوا بذلك عن ذكر الله وعن منهجه ودينه ( وكانوا قوما بورا ) ( بورا ). جمع بائر. وقيل : مصدر في الأصل، فيستوي فيه المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. وهو من البوار ومعناه الهلاك. وقيل : من الفساد. وقال الحسن البصري : هو من قولهم : أرض بور ؛ أي لا نبات بها. وهو يرجع إلى معنى الهلاك والفساد وهذه حقيقة المجرمين أولي الطبائع الملتوية، الذين فسدت فيهم الفطرة أيما فساد فباتوا لا يتقبلون الحق أو الصواب ولا يروق ؛ لأنفسهم منهج الله المستقيم وإنما تروق لهم مناهج الباطل والضلال. مناهج الكفر والظلم والزيغ عن سواء السبيل. وأولئك هم الضالون الذين أعطيت فيهم النفس والفطرة فانقلبوا منكوبين بورا لا خير فيهم ولا يرتجى لهم الصلاح والسداد.
قوله :( فقد كذبوكم بما تقولون ) وهذا من قول الله للمشركين موبخا لهم ومقرّعا ؛ أي كذبكم الذين عبدتموهم من دون الله بقولكم إنهم أولياؤكم من دون الله، وإنهم يقربونكم إلى الله زلفى.
قوله :( ما تستطيعون صرفا ولا نصرا ) أي فما تستطيعون بعد ذلك صرف العذاب عنكم ولا نصر أنفسكم.
قوله :( ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ) الظلم معناه الشرك. وذلك وعيد من الله لمن يتلبس بشرك وهو أن يجعل المخلوق شريكا للخالق في العبادة. ومن فعل ذلك فقد باء بالعذاب الوجيع وهو الخلود في النار١.
١ - البحر المحيط جـ ٦ ص ٤٤٩ وتفسير النسفي جـ ٣ ص ١٦٢..
قوله تعالى :( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ( ٢٠ ) }.
جملة ( إلا أنهم ليأكلون ) في محل نصب صفة لمفعول محذوف تقديره : وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين. وقيل : الجملة في محل نصب على الحال. والتقدير : إلا وإنهم. فقدرت معها الواو بيانا للحالية.
وقد كسرت إن، لوجود اللم في خبرها١.
وذلك احتجاج على المشركين الخاطئين بزعمهم أن الرسول لا يأكل كما يأكلون ولا يمشي في الأسواق متكسبا متجرا كما يمشون. وهو كذلك تسلية من الله لرسوله ( ص ) ؛ إذ يخبره أن النبيين الذين أرسلهم من قبله لهداية الناس ما كانوا إلا بشرا يأكلون الطعام كما يأكل الناس، ويمشون في الأسواق طلبا للرزق والمعاش كما يفعل الناس. فليس في ذلك ما يثير التعجب أو الاستهجان. فالنبيون من جنس البشر يأكلون كما يأكلون وينامون كما ينامون، ويموتون كما يموتون. لكنهم مع صفاتهم الآدمية هذه ؛ فإنهم أناس أفذاذ مصطفون مميزون بخصائص جليلة فيها من عظيم السمات النفسية والروحية والخلقية ما لا يبلغ دون معشاره البشر.
إن النبيين والمرسلين قد أوتوا من حظوظ الكمال الخلقي والخلقي، والجمال الروحي والفطري ما يسمو بهم فوق مستويات الناس كافة ؛ فهم بذلك أخيار وأبرار وأطهار قد اصطفاهم الله على العالمين. بما بث في كينونتهم وفطرتهم من رسوخ الإيمان والتقوى، وجلال الطبع الرهيف الرفاف، بما ينبغي القطع في يقين أن هؤلاء نخبة مختارة مصطفاة للوحي والرسالة.
قوله :( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ) الفتنة، البلاء والمحنة. وهذا تصبير لرسول الله ( ص ) على ما قاله المشركون واستهجنوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد أن احتج الله عليهم بسائر المرسلين ؛ إذا كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وهم مرسلون من ربهم لهداية الناس.
على أن الحقيقة الراسخة هنا هي جعل الله الناس بعضهم لبعض فتنة. فقد ابتلى بعضهم ببعض. كما ابتلى أو امتحن الفقراء بالأغنياء، والمرضى بالأصحاء، والأغنياء بأولي الفطانة الأذكياء، ابتلى العلماء بالجهلاء، مثلما ابتلى النبيين المرسلين الذين بعثهم الله لهداية الناس، ولإخراجهم من ظلام الباطل والضلال إلى نور الحق واليقين والفضيلة –ابتلاهم الله بالذين أرسلوا إليهم من الأمم الضالة الفاسقة الذين اسكتبروا وأعرضوا عن دين الله فناصبوا رسلهم العداء وآذوهم شر إيذاء، ووضعوا في طريقهم الأشواك والمعوقات. لا جرم أن ذلك ابتلاء من الله امتحن به عباده الأبرار من النبيين والمرسلين.
وكذلك الذين يدعون إلى الله مخلصين على بصيرة ؛ فإنهم يصطدمون غالبا في طريقهم بالمثبطين المعوقين من الناس الذي يروق لهم العيش في الفسق والفحش والرذيلة، والذين لا يرغبون لمنهج الله أن يشيع أو يذيع. أولئك شرار الناس الذين مردت نفوسهم على الهوى والباطل والتلبس بالكفر والعصيان، وقد ابتلى الله بهم المصلحين من المسلمين الذين يأمرون الناس بالمعروف وينهونهم عن المنكر. وبذلك فإن الناس، بعضهم لبعض فتنة، فما من أحد في الغالب إلا هو فتنة لغيره. القوي فتنة للضعيف، والطيب فتنة للخبيث، والنشيط فتنة للعاجز المتثاقل، والمحسود فتنة للحسود. فكل مفتون بغيره. والمفلح من نجاه الله من الفتنة ودفع عنه أذى الأشرار وجعله من الصابرين الأخيار. جعلنا الله بفضله ورحمته منهم.
قوله :( أتصبرون ) الاستفهام بمعنى الأمر ؛ أي اصبروا. أو أتصبرون على هذه الفتنة فتؤجروا أم لا تصبرون فتزدادوا اغتماما ؟ على أن هذه الجملة الاستفهامية ذات الإيقاع الخاص المؤثر، تتضمن من التحريض على الصبر ما يكشف عن الأهمية البالغة لهذه الخصلة الفضلى وهي الصبر. ويكشف عن درجة التكريم التي يحتلها الصابرون على البلاء والمحن من أذى الأشرار، وسفه الجاهلين، وحسد الحاسدين، ونحو ذلك من ضروب المحن.
قوله :( وكان ربك بصيرا ) الله عليم بأحوال الناس وبما يستكن في قلوبهم من مختلف الطوايا والمقاصد. وعليم بالذين يصبرون على البلايا والمحن مما يكيده لهم الظالمون على اختلاف صفاتهم، ويعلم الذين لا يصبرون فيجزعون عند مواجهة الفتن.
١ - الدر المصون جـ٨ ص ٤٦٩..
قوله تعالى :﴿ وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ( ٢١ ) يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا ( ٢٢ ) وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباء منثورا ( ٢٣ ) أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ( ٢٤ ) ﴾ يقول الكافرون الذين لا يرجون لقاء الله ؛ أي لا يأملون لقاءه بالخير بسبب كفرهم بالبعث وإنكارهم يوم القيامة ( لولا أنزل علينا الملائكة ) أي هلا أنزل علينا الملائكة فيكونوا رسلا إلينا من دون البشر فنراهم عيانا. أو أنهم يشهدون بصدق نبوة محمد ( ص ) وأنه مرسل حقا من ربه ( أو نرى ربنا ) اشترطوا لإيمانهم بنبوة رسول الله، أن يروا الله جهرة فيخبرهم بصدق رسالة محمد ( ص )، ويأمرهم باتباعه. لا جرم أن ذلك طغيان فادح وشنيع لا يهوي إلى منزلقه إلا العتاة المتجبرون من أكابر العصاة والمجرمين. فقال الله في حقهم :( لقد استكبروا في أنفسهم ) لقد أضمروا في أنفسهم من الاستكبار ما بلغوا به غاية الكفران والمعاندة ( وعتوا عتوا كبيرا ) ( عتو )، مصدر. والعتو، شدة الطغيان ومجاوزة الحد في الظلم ؛ أي أنهم كفروا وأفحشوا في الجحود والتمرد. وغالوا في الظلم والعصيان ما تجاوزوا به كل تصور من تصورات الضلال والباطل.
قوله :( يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ) ( يوم ) منصوب بفعل تقديره : اذكر. والمراد باليوم هنا ساعة الاحتضار وهو الموت. وقيل : حين تقوم القيامة ( لا بشرى يومئذ للمجرمين ) أي لا يرى المجرمون الملائكة في يوم خير لهم. بل يرونهم عندما يبشرونهم بالنار والويل وسوء المصير.
والمعنى : اذكر حين يرى المكذبون ملائكة الموت أو العذاب يوم القيامة فلا بشرى حينئذ لهم ؛ أي يمنعون التبشير بالفوز أو النجاة.
قوله :( ويقولون حجرا محجورا ) والحجر، مصدر وهو المنع. ويأتي الحجر بمعنى العقل ؛ لأنه يمنع صاحبه. و ( محجورا )، تأكيد المعنى الحجر١ ؛ أي تقول لهم الملائكة : حراما محرما عليكم البشرى بالخير أو الفلاح. وإنما البشرى للمؤمنين ؛ إذ تستقبلهم الملائكة بما يسرهم ويبهجهم من البشائر الحسنة.
١ - الدر المصون جـ٨ ص ٤٧٤..
قوله :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ﴾ ( قدمنا ) من القدوم. والقدوم الحقيقي لا يجوز في حق الله. وإنما المراد به هنا إنفاذ أمره وحكمه في أعمال الكافرين التي عملوها حال كفرهم، من صلة رحم وإغاثة ملهوف وإتحاف ضيف وعون مضطرب وغير ذلك من وجوه المكارم وأفعال الخير، فإنها جميعا لا تنفعهم عند الله وليس لهم في مقابلتها من أجر ولا مثوبة. وهو قوله :( فجعلناه هباء منثورا ) الهباء معناه التراب الدقيق وهو مثل الغبار الداخل في الكوّة يتراءى مع ضوء الشمس. والمنثور معناه المفرّق. نثرت الشيء أي فرّقته. وقال ابن عباس : الهباء المنثور : ما تُسفي به الرياح وتبثه.
وحاصل ذلك : التنبيه على المقصود من الآية وهو أن الكافرين والمنافقين والمرائين يعملون الأعمال النافعة في الدنيا وهم يعتقدون أنهم على شيء. لكن أعمالهم في ميزان الله لا تساوي شيئا بالكلية، فقد شبّهت بذرات التراب أو الرماد المفرّق المبعثر في الهواء، والذي لا يقدر صاحبه منه على شيء لفرط حقارته وهوانه.
والأصل في ذلك كله : أن قبول الأعمال مرهون بشرطين أساسيين :
أحدهما : الإخلاص لله فيها ؛ وهو أن يبتغي صاحب العمل بعمله مرضاة الله. فإن ابتغى غير ذلك كان رياء فهو بذلك متدرج في دائرة الحبوط والبطلان.
وأما الشرط الثاني : فهو موافقة الشرع ؛ فأيما عمل مخالف للشرع كان مردودا. وذلك للخبر : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " وأعمال الكافرين لا تخلو من انعدام أحد الشرطين أو كليهما. وأعتى من ذلك وأنكى، كفرانهم برسالة الإسلام وتكذيبهم نبوة محمد ( ص ) فأنى لهم أن يتقبّل الله لهم عملا ؟ !.
قوله :﴿ أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ﴾ ( مستقرا ) و ( مقيلا )، كل منهما تمييز منصوب. والمستقر مكان الاستقرار في أكثر الأوقات من أجل المجالسة والحديث.
وأما المقيل : فهو المكان الذي يأوي فيه المؤمنون للاسترواح إلى الأزواج. وهذه حال المؤمنين في الجنة ؛ إذ يصيرون إلى الدرجات العاليات من الجنة حيث النعيم والراحة وطيب المقام. بخلاف الكافرين الذين يصيرون إلى الخسار حيث النكال والنار، ساءت مستقرا ومقاما١.
١ - البحر المحيط جـ٦ ص ٤٥٢ وتفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٣١٤، ٣١٥..
قوله تعالى :﴿ ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ( ٢٥ ) الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا ( ٢٦ ) ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيل ( ٢٧ ) ا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليل ( ٢٨ ) ا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا ( ٢٩ ) ﴾.
ذلك إخبار من الله عن بعض أهوال القيامة. وهي أهوال مثيرة تعانيها البشرية إيذانا بفناء الحياة الدنيا وقيام الساعة. وذلك ما تكشف عنه هذه الآيات البينات ( ويوم تشقق السماء بالغمام ) الغمام، معناه السحاب. والباء يراد بها السببية ؛ أي بسبب الغمام. يعني بسبب طلوعه. وقيل : للحال ؛ أي متلبسة بالغمام١.
والمعنى : اذكر يوم تشقق السماء بسبب طلوع الغمام منها، أو حال كونها متغيمة ( ونزل الملائكة تنزيلا ) أي ينزلون إلى الأرض وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. أو لوقوع الحساب والجزاء.
١ - الدر المصون جـ ٨ ص ٤٧٦..
قوله :( الملك يومئذ الحق للرحمان ) قيل في إعراب ذلك عدة وجوه أظهرها :( الملك ) مبتدأ. ( يومئذ ) ظرف. ( الحق ) نعت للملك. ( للرحمان )، خبر١. و ( الحق )، معناه الثابت. ذلك أن كل ملك لغير الله يزول. وإنما المالك يومئذ هو الله وحده، والناس محشورون شاخصون واجمون لا يملكون شيئا إلا الهوان وطول التربص والتحسر واشتداد الخوف من هول الموقف. وهو قوله :( وكان يوما على الكافرين عسيرا ) والمراد باليوم. وقفة المحشر انتظارا للحساب ومعاينة الموازين، وما يتخلل ذلك من فظاعة الكرب واشتداد الضيق والبلاء.
ويُفهم من تعسير هذا اليوم على الكافرين، تيسيره على المؤمنين ؛ إذ يهوّنه الله عليهم تهوينا.
١ - الدر المصون جـ ٨ ص ٤٧٨..
قوله :( ويوم يعض الظالم على يديه ) ( يعض ) بفتح العين، وهو مضارع عضّ، من العض. وهو كناية عن شدة الغيظ والحسرة١ وقيل : مجاز، عبّر به عن التحير والاغتمام والندم والتفجع من شدة ما يجده من الأهوال. واللام في الظالم للعهد، والمراد به عقبة بن أبي مُعيط. هذا التاعس الظلوم الذي آذى رسول الله ( ص ) أشد إيذاء فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : " لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف " فقتل يوم بدر صبرا ؛ إذ أمر عليا فضرب عنقه.
وقيل : اللام للجنس، ليشمل اللفظ عموما الظالم. فأيما مشرك زاغ عن طريق الله واستنكف عن منهجه الحكيم العدل فقد ظلم نفسه وهو من الظالمين. وكذلك الذي يوشك أن يهتدي ويجنح إلى الإسلام ثم يفتنه غيره من المجرمين المضلين ليغويه ويضله عن الحق ؛ فإنه في زمرة النادمين يوم القيامة الذين يعضون على أيدهم من فرط ما يجدونه من شديد الحسرة والحزن والندم والخسران.
قوله :( يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ) الجملة في موضع الحال ؛ أي قائلا يا ليتني. والمعنى : أن الظالم الذي خسر نفسه يوم القيامة وأيقن أنه من أهل النار، يتمنى حينئذ لو سلك طريق الرسول ( ص ) وهو الإسلام فيكون مع المفلحين الآمنين الذين يصيرون إلى السلامة والنجاة. وهذه هي حال الأشقياء الخاسرين يوم القيامة الذين غرتهم الحياة الدنيا بلذائذها وزخارفها، وغرهم الشيطان من الجن والإنسان ؛ إذ سوّل لهم الكفران والعصيان وفعل المنكرات.
١ - الدر المصون جـ٨ ص ٤٧٨..
قوله :﴿ يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ﴾ وقرئ ( يا ويلتي )، بالياء وهو الأصل. وذلك أن الرجل ينادي : ياويلته. وهي هلكته، يقول لها : تعالي فهذا أوانك ( ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ) وسواء كانت أل للعهد أو للجنس، فالمراد الذي صرف هذا الخاسر النادم عن دين الله ففتنه فتنة ساقته إلى الضلالة والمعصية ثم أودت به إلى النار وسوء المصير. وحينئذ تجتاحه الحسرة والندامة، متمنيا- دون جدوى- أن لو لم يتخذ هذا المضل الذي أضله وأغواه ( خليلا ) أي جليسا وصديقا.
قوله :( لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ) يقول في ندامة وتحسر وإياس : لقد أغواني المضلون من شياطين الجن والإنس ؛ إذ أعموني عن الذكر وهو القرآن أو الإسلام بعقيدته السمحة وتشريعه الكامل ومُثُله وقيمه وتعاليمه الجليلة في الأخلاق والسلوك. أعماني الشيطان من الجن والإنس عن حقيقة الإسلام بعد أن جاءني من الله، وذلك بما سوّله لي من مناهج الكفر والباطل فأضلني إضلالا موبقا.
قوله :( وكان الشيطان للإنسان خذولا ) من الخذلان وهو التخلي عن الخاسر في المهالك بعد إضلاله. وذلك هو ديدن الشيطان من الجن والإنس ؛ فإنه يفتن الإنسان المغرور المضلل بمختلف الأساليب حتى إذا أغواه وأودى به في الخسران والمهالك تركه وحيدا يلاقي مصيره التاعس المظلم١.
١ - البحر المحيط جـ٦ ص ٤٥٤ وتفسير النسفي جـ٣ ص ١٦٤..
قوله تعالى :{ وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ( ٣٠ ) وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ( ٣١ ) يخبر الله تعالى عن شكاية رسوله ( ص ) في الدنيا وعن بثّه إليه مما لقيه من قومه من شديد الهجر والصد والاستنكاف. فقد كان المشركون لا يُصغون للقرآن ولا يستمعونه. بل كانوا إذا تليت عليهم آياته ألغوا فيه ؛ أي أكثروا اللّغط والكلام الصاخب المختلط لدى تلاوته كيلا يُسمع ولا يٌفهم. وهو قوله :( إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا )
( مهجورا )، مفعول ثان. أو حال. وهو من الهجر ؛ أي الترك والبُعد. وذلك بمختلف الأساليب التي تفضي إلى هجران القرآن. ويشمل ذلك كل وجوه الترك والابتعاد، كترك العمل به، وعدم امتثال أوامره والعدول إلى غيره من الملل والشرائع والنظم التي بنيت على الأهواء والشهوات والماديات. وفي ذلك إقصاء للقرآن وتعاليمه ونظمه وروائعه عن حياة البشر ليستعاض عنه بغيره من ضروب الكفر وهي كثيرة ومختلفة وفاسدة.
ذلك هو شأن الضالين المخدوعين من أبناء المسلمين الذين غرتهم المادية الحديثة ببريقها اللامع وسرابها الساطع المخادع. المادية الحديثة الضالة التي أغرقت البشرية في أوحال الرجس والدنس والظلم. وأطفأت فيها كل أثر لنسمة الروح المشعة في الإنسان، ومسخت فيها براءة الفطرة الأصيلة حتى تحولت الإنسانية بذلك إلى أشتات من الأسر المضطربة والبيوت المتداعية الخاوية، والطبائع التي طغت عليها الغرائز واستحوذت عليها الأنانيات وعبادة الذات والشهوات.
تلك هي البشرية المضطربة المترنحة الضالة التي هجرت منهج القرآن إلى مناهج الضلال والباطل. وهي لا تفتأ تضطرب وتضل حتى تسقط في الهاوية أو تفيء إلى القرآن بعقيدته وتعاليمه وروائعه. وثمة الأمن والاستقرار والنجاة.
قوله :( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ) ذلك إيناس من الله وتسلية لرسوله الكريم ( ص )، إذ كان مبتلى بقومه المعاندين. والله جل وعلا يواسيه ويؤنسه بإخباره أن كل نبي من قبلك كان مبتلى بعداوة المجرمين الذين يفتنون الناس ليضلوهم عن صراط الله المستقيم ويبعدوهم عن دينه الحق القويم. فليس على المؤمنين الداعين إلى الله إذا ألمت بهم الشدائد وعداوة المجرمين المضلين إلا أن يتضرعوا إلى ربهم مبتغين منه النصر والتأييد والتثبيت على الحق ( وكفى بربك هاديا ونصيرا )، منصوبان على الحال أو التمييز١ ؛ أي يكفيك أن يكون الله هاديا لك إلى طريق الحق وناصرك على القوم المجرمين وقاهر الذين يحادونك ليكونوا في الأذلين الخاسرين٢.
١ - الدر المصون جـ ٨ ص ٤٨١..
٢ - تفسير البيضاوي ص ٤٧٩ وتفسير النسفي جـ٣ ص ١٦٥..
قوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ( ٣٢ ) ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ( ٣٣ ) الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ( ٣٤ ) ﴾.
هذه الآية جاءت ردا لمقالة المشركين من قريش واليهود إذا اعترضوا قائلين ( لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) ( جملة )، منصوب على الحال من القرآن، أي مجتمعا. يعني هلا أنزل هذا القرآن على محمد دفعة واحدة وفي وقت واحد كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب السماوية، فلم ينزل منجما على التفاريق. لا جرم أن هذا اعترضا جهول وتعنت بالغ الإسفاف، فضلا عن كونه ضربا من الاعتراض الفضولي الفارغ، الذي لا طائل تحته وليس من ورائه أيما فائدة معتبرة.
ويُحتج على هؤلاء المعاندين الجهلة بأن الإعجاز في القرآن لا يختلف بنزوله جملة واحدة. فيستوي في كونه معجزا أن ينزل مفرقا على نجوم، أو أن ينزل دفعة واحدة. بل إن نزوله مفرقا على نجوم أظهر في الإعجاز وأبلغ في الدلالة على كونه من عند الله. ووجه ذلك : أنهم كانوا مطالبين بمعارضة سورة واحدة من القرآن أيا كانت هذه السورة. فلو نزل جملة واحدة وطُولبوا بمعارضته لكانوا أشد عجزا منهم حين طولبوا بمعارضة سورة واحدة فعجزوا.
قوله :( كذلك لنثبت به فؤادك ) الكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف. والإشارة عائدة إلى التفريق. وقيل : الكاف في محل نصب على الحال ؛ أي أنزل مثل ذلك التفريق ( لنثبت به فؤادك ) اللام للتعليل. أي لنقوي بتفريقه فؤادك لكي تعيه وتحفظه. فالمتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شيء وجزءا عقيب جزء. ولو ألقي عليه جملة واحدة لعجز عن حفظه. ومن أجل ذلك نزل عليه منجما في عشرين سنة أو في ثلاث وعشرين. فكان ينزل عليه حسب الحوادث وأجوبة للسائلين.
قوله :( ورتلناه ترتيلا ) الترتيل : التفريق ومجيء الكلمة بعد الأخرى بسكون يسير دون قطع النفس. أو التبيين والتفسير في ترسل وتثبت.
قوله :﴿ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ﴾ أي لا يأتونك بشبهة أو سؤال أو حجة، ولا يقولون قولا يعارضون به الحق إلا أتيناك بالجواب الحق ثم هو أوضح بيانا وتفصيلا.
قوله :﴿ الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ﴾ ( الذين )، خبر لمبتدأ محذوف. أي هم الذين. ويجوز نصبه على الذم.
ويجوز أن يرتفع بالابتداء، وخبره الجملة من قوله :( أولئك شر مكانا ) ١ وذلك إخبار من الله عن حال المجرمين وتعسهم وسوء مصيرهم يوم القيامة بما كذبوا الله وجحدوا قرآنه واعترضوا عليه بسخيف الاعتراضات، كقولهم : هلا أنزل دفعة واحد. فأولئك يلاقون سوء العذاب، والتنكيل الفظيع وهو قوله :( الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم ) وحشرهم على وجوههم أن يسحبوا على وجوههم سحبا وهم يساقون إلى جهنم زيادة في التنكيل الفظيع.
قوله :( أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ) هؤلاء المجرمون المكذبون والمعترضون الذين يظنون خاطئين أنهم راشدون وأنهم على طريق مستقيم- هم شر مسكنا ومنزلا وأخطأ طريقا ؛ فهم بذلك يسحبون على وجوههم إلى النار٢.
١ - الدر المصون جـ٨ ص ٤٨٢..
٢ - البحر المحيط جـ٦ ص ٤٥٦ والدر المصون جـ٨ ص ٤٨١، ٤٨٢..
قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا ( ٣٥ ) فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا ( ٣٦ ) وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية واعتدنا للظالمين عذابا أليما ( ٣٧ ) وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا ( ٣٨ ) وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ( ٣٩ ) ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا ( ٤٠ ) ﴾.
ذلك وعيد من الله للمشركين المكذبين الذين جحدوا نبوة محمد ( ص )، واعترضوا على كيفية نزول القرآن بالاعتراض الفاسد، غير ذي الأهمية أو المعنى يتوعد الله هؤلاء الضالين المضلين ويحذرهم من عقابه الأليم في الدنيا قبل الآخرة، كالذي حل بالأمم الضالة من السابقين الأولين، كقوم موسى ونوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وآخرين غيرهم من الأمم الماضية التي فسقت عن أمر الله. وهو قوله سبحانه :( ولقد آتينا موسى الكتاب ) أي التوراة لتكون للناس هداية ونورا ( وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا ) ( هارون ) بدل أو عطف بيان.
( وزيرا )، مفعول ثان١ والوزير من الوزر وهو الملجأ والثقل ؛ فقد جعل الله مع موسى أخاه هارون ليكون نبيا موازرا ومؤيدا وناصرا ؛ أي يوازره في الدعوة إلى الله.
١ - الدر المصون جـ٨ ص ٤٨٢..
قوله :( فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا ) أمرهما ربهما أن يذهبا إلى فرعون وقومه من القبط لتبليغهم رسالة الحق، ولتحذير فرعون من سوء صنيعه في قومه ؛ إذ أذلهم إذلالا، وعبّد بني إسرائيل شر تعبيد فذبّح أبناءهم واستحيى نساءهم. وأعتى من ذلك وأفظع دعواه الألوهية لنفسه. وذلك طغيان شنيع ليس بعده طغيان.
أما موسى وأخوه هارون فقد بادروا الذهاب إلى فرعون وملئه دون تردد أو إبطاء فأبلغاهم دعوة الله ناصحين محذرين. لكن القوم كذبوا واستكبروا وعتا فرعون عتوا كبيرا فأخذهم الله بالعذاب المهين وهو قوله :( فدمرناهم تدميرا ) أي أهلكهم الله شر إهلاك ؛ إذ أغرقهم في البحر إغراقا.
قوله :( وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم ) ( وقوم ) منصوب بمضمر تقديره اذكر. فقد بعث الله نوحا إلى قومه المشركين الظالمين فلبث يدعوهم إلى الله وحده ألف سنة إلا خمسين عاما. وقد لقي خلال هذه المدة الطويلة من ألوان الصد والقهر والإيذاء ما لا يحتمله غير المصطفين الأخيار من البشر، كنوح عليه الصلاة والسلام، فضلا عن تكذيبهم وإعراضهم عن دين الله الحق. وهو قوله :( لما كذبوا الرسل ) وتكذيبهم واحدا من المرسلين يعني تكذيبهم لسائر النبيين. ووجه ذلك هو وجوب الإيمان بالنبيين أجمعين.
وتكذيب أحدهم إنما هو تكذيب بالجميع. ولما كذبوا أغرقهم الله في الطوفان ؛ إذ الماء من السماء نازل منهمر، ومن الأرض دافق متفجر ؛ فصارت الأرض بحرا هادرا هائجا تتلاطم فيه الأمواج العاتية الهائلة فغرّقهم الله أشنع تغريق.
قوله :( وجعلناهم للناس آية ) أي جعل الله من قوم نوح ومهلكهم عبرة تتذكرها الأمم فتعتبر وتزدجر.
قوله :( واعتدنا للظالمين عذابا أليما ) أي أعددنا وهيأنا للظالمين وهم قوم نوح ( عذابا أليما ) وهي النار ؛ فهم بذلك مُعاينون العذاب في كلتا الدارين. دار الدنيا حيث الطوفان والتغريق والخزي. ثم الدار الآخرة حيث النار اللاهبة المستعرة.
قوله :( وعادا وثمودا وأصحاب الرس ) ( عادا ) معطوف على قوم نوح. وقيل : معطوف على الضمير، هم، مفعول ( وجعلناهم ). وأصحاب الرس، قوم ثمود ؛ لأن الرس، البئر التي لم تطو. وقيل : إنهم أناس عبدة أصنام قتلوا نبيهم ورسوه في بئر. أي دسوه فيه١ وقيل غير ذلك في حقيقة أهل الرس.
وخلاصة القول فيهم أنهم ظالمون كذبوا نبيهم ثم قتلوه فأهلكهم الله ودمّر عليهم شرّ تدمير.
قوله :( وقرونا بين ذلك كثيرا ) ( ذلك )، إشارة إلى الذين تقدم ذكرهم من الأمم ؛ أي ثمة أمم كثيرة بين هؤلاء المذكورين قد كذبوا وعتوا فأهلكهم الله بكفرهم وعصيانهم.
١ - الدر المصون جـ ٨ ص ٤٨٣..
قوله :﴿ وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ﴾ ( كلا )، منصوب بفعل يفسره ما بعده ؛ أي وحذرنا كلا أو ذكّرنا كلا. ( كلا ) الثانية مفعول به مقدم للفعل ( تبرنا ) أي بينا لكل أمة من هذه الأمم القصص العجيبة من قصص الأولين ووصفنا لهم عاقبة تكذيبهم أنبياءهم ليتدبروا أو يتعظوا ويهتدوا من ضرب الأمثال لكنهم لم يعتبروا ولم يزدجروا فأهلكناهم إهلاكا.
قوله :( ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ) ( مطر )، مفعول ثان. وقيل : مصدر محذوف الزوائد ؛ أي إمطار السوء. وقيل : صفة لمصدر محذوف ؛ أي مطرت إمطارا مثل مطر السوء١ ويخبر الله بذلك عن قريش أنهم كانوا يمرون على سدوم من قرى قوم لوط في سفرهم متاجرين إلى الشام. وكانت قراهم خمسا. أعظمها سدوم. وقد أهلك الله منها أربعا وبقيت واحدة لم يكن أهلها يعملون الخبائث وهو قول ابن عباس. و ( مطر السوء ) يعني الحجارة التي أمطرت عليهم من السماء فهلكوا.
قوله :( أفلم يكونوا يرونها ) استفهام تعجيب ؛ أي فلم ينظروا إلى آثار هؤلاء الهلكة الذين دمّر الله عليهم، فيتعظوا ويعتبروا ( بل كانوا لا يرجون نشورا ) بل كانوا كفرة مجرمين لا يؤمنون بالبعث ولا يصدقون بيوم الدين فلم ينظروا ولم يتفكروا أو يتدبروا٢.
١ - الدر المصون جـ٨ ص ٤٨٤..
٢ - البحر المحيط جـ ٦ ص ٤٥٧، ٤٥٨ وتفسير النسفي جـ ٣ ص١٦٦، ١٦٧..
قوله تعالى :﴿ وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ( ٤١ ) إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ( ٤٢ ) أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ( ٤٣ ) أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ( ٤٤ ) ﴾ ( إن )، حرف نفي. و ( هزوا )، مفعول به ثان١. والله جل وعلا يخبر عن المشركين الضالين أنهم كانوا إذا رأوا رسول الله ( ص ) سخروا منه وعابوه انتقاضا لقدره وازدراء بمقامه الكريم. مع أنهم موقنون في أعماق قلوبهم أن محمدا ( ص ) صادق وأنه كريم قد ميزه الله بخصائص جليلة لا نظير لها في الرجال. وهذه حقيقة قد استيقنتها أنفسهم ولكن كذبتها ألسنتهم التي يندلق منها بذاءة القول وسوء الحديث. وليس أدل على ثقتهم به وإدراكهم لحقيقة أمره، من تسميتهم له قبل بعثه، بالأمين. وفي ذلك يقص الله علينا خبر هؤلاء المكابرين المعاندين ( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ) الاستفهام للإنكار والتهكم. ( رسولا ) منصوب على الحال٢ والإشارة إلى رسول الله ( ص ) على سبيل الاستصغار له والازدراء. فهم يقولون ذلك وهو على غاية الجحود والاستكبار والسخرية قبحهم الله.
١ - الدر المصون جـ ٨ ص ٤٨٥..
٢ - الدر المصون جـ ٨ ص ٤٨٥..
قوله :( إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) ( إن ) مخففة من الثقيلة واللام فارقة ؛ أي كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام لولا اصطبارهم عليها. ويفهم من ذلك ما بذله رسول الله ( ص ) من بالغ الجهد في دعوة هؤلاء المشركين إلى دين الله ؛ إذ بذل في هذه الوجيبة قصارى وسعه وطاقته مع ما حمله إليهم من الدلائل الواضحات والمعجزات الظاهرات حتى أوشكوا بزعمهم أن يتركوا دينهم ليدخلوا في دين الإسلام لولا فرط معاندتهم وشدة جحودهم ولجاجهم، فاستمسكوا بعبادة أصنامهم ؛ أي لم يصدهم عن دين الله الحق إلا إفراطهم في محبة الأصنام وجنوحهم للأهواء.
قوله :( وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ) ذلك وعيد من الله وتهديد لهؤلاء المعاندين الضالين بما ينتظرهم من العذاب ؛ فإنهم لا مندوحة لهم من لحاق العذاب بهم ؛ لأنه وعيد من الله فلا يغرنهم التأخير وسوف يظهر لهم يومئذ من هو الضال.
قوله :( أرأيت من اتخذ إلهه هواه ) الاستفهام للإنكار ( إلهه )، مفعول أول للفعل ( اتخذ ). و ( هواه ) مفعول ثان١. والمعنى : أن هذا الضال الظالم لنفسه إنما يعبد هوى نفسه ؛ فهو ليس على جادة الحق في عبادته ؛ بل إنه يعبد ما تشتهيه نفسه، ويميل إليه قلبه وهواه ؛ فهو بذلك متقلب في عبادته بتقلب مزاجه وهواه ؛ فكلما أحب شيئا استدار بقلبه ومشاعره وأعصابه ليحبه ويرغب فيه دون غيره. سواء كان المحبوب أمرا أو شخصا أو صنما من الأصنام. هكذا كان شأن الجاهليين. وفي ذلك قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول.
وهو كذلك شأن الإنسان المتقلب المتأرجح في كل زمان سواء في الجاهلية أو فيما يعقبها من الأدهار والأزمان. ذلك هو الإنسان الذي أفرغ قلبه من العقيدة الثابتة الصحيحة أو الإيمان الراسخ السليم ؛ فهو مضطرب ومتلجلج ومتأرجح، لا يسير إلا تبعا لهواه أو ما يميل إليه قلبه وما تشتهيه نفسه. فحيثما مال قلبه وهواه، مضى بشخصه فتصرف واتبع ؛ فهو بذلك مستديم التقلب تبعا لتقلب هواه وما تميل إليه نفسه مما يروق لها أو يشغفها رغبة وحبا.
قوله :( أفأنت تكون عليه وكيلا ) الاستفهام للإنكار. والوكيل بمعنى الحفيظ ؛ أي هل تستطيع أن تحفظه من عبادة ما يهواه، أو تصرفه عن الهوى إلى الإسلام والهدى. فمثل هذا الإنسان الذي يميل إلى ما يهواه ولا يعبد إلا هواه – لا تستطيع الكلمة الطيبة السديدة أن تلج إلى قلبه فتغيره تغييرا أو تحوّله عن اتباع الهوى إلى اتباع الحق. لا يملك الداعون إلى الله بحديثهم الجيد وخطابهم السديد النافذ أن يكفكفوا لوثة الهوى الجامح عن قلوب الخائرين من أهل الشهوات وعبّاد الهوى الذين لا يعبأون بغير منافعهم وملذاتهم وأهوائهم.
١ - الدر المصون جـ ٨ ص ٤٨٦..
قوله :( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ) ( أم )، المنقطعة بمعنى بل والهمزة ؛ أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون الحق أو يعقلون البينات والحجج فيرشدون ويهتدون. وذلك أشده مذمة من المذمة التي تقدمت حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماء والعقول ؛ فهم بذلك كالأنعام في عدم الاستفادة من السمع والعقل، بل إنهم أشد ضلالة من الأنعام ؛ لأن هذه تنقاد لمن يتعهدها وتدرك بغريزتها وطبيعتها من يحسن إليها، ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتتجنب ما يضرها، فضلا عن أنها تسبح ربها. أم هؤلاء الضالون الذين يعبدون أهواءهم ؛ فإنهم جاحدون لأنعم الله عليهم، منكرون لفضله وإحسانه إليهم، وإنما يركضون جامحين خلف الشيطان من الإنس والجن يبتغون إرضاءه ويسلكون وراءه مسالك الضلال والباطل.
وبذلك كان المجرمون من المشركين والضالين والظالمين أشد من الأنعام ضلالا. وهو قوله :( بل هم أضل سبيلا ) ١.
١ - تفسير البيضاوي ص ٤٨١ وتفسير النسفي جـ٣ ص ١٦٨ والبحر المحيط جـ٦ ص ٤٥٩..
قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ( ٤٥ ) ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ( ٤٦ ) وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ( ٤٧ ) ﴾ هذه جملة من الدلائل الواضحة التي تكشف عن قدرة الصانع وعن بالغ حكمته وتدبيره للكون والكائنات. فقال سبحانه :( ألم تر إلى ربك ) يعني ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته ( كيف مد الظل ) المراد بالظل في قول الجمهور : ما كان من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وفي هذه الفترة الوادعة من الزمان يبسط الله الظل على الأرض ليثير فيها من نداوة الرحمة وطيب الأجواء الرخيّة الغامرة ما ينشر في الحياة السعادة، ويثير في القلوب البهجة والاستئناس. وهو يشبه ظل الجنة ؛ فهو ظل ممدود لا شمس فيه ولا ظلام.
قوله :( ولو شاء لجعله ساكنا ) أي لجعل الظل دائما لا يزول ولا تذهبه الشمس كما قال ابن عباس. أو لا تصيبه الشمس ولا يزول، أو لتركه ظلا كما هو على الدوام. وهي أقوال متقاربة تبين قدرة الصانع الحكيم في الخلق.
قوله :( ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ) أي جعل الله الشمس دليلا على الظل ؛ فإن الظل إنما يُعرف بالشمس ولولا الشمس لما عرف الظل. وذلك أن الأشياء تعرف بأضدادها. فإذا طلعت الشمس دلت على زوال الظل الذي يأخذ في النقصان بطلوع الشمس.
قوله :﴿ ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ﴾ القبض ؛ الامتناع والإمساك وهو ضد البسط. قبضه بيده أي أمسكه١. والمعنى : أزلنا الظل بإيقاع شعاع الشمس موضعه. فعبر عن إحداث الظل بالمد، وهي يعني البسيط. كما عبر عن إزالته بالقبض إلى نفسه وهو يعني الكف ؛ فقد قبضه قبضا يسيرا ؛ أي كفه قليلا قليلا، حسب ارتفاع الشمس ؛ لتنتظم بذلك حركة الكون وتتحصل به منافع الأحياء في الحياة الدنيا باستقرار الأوقات من الزمان، وهو يمر على الحياة والأحياء منسجما منتظما رتيبا لا عوج فيه ولا خلل. كل ذلك يدل على عظمة الصانع المقتدر الحكيم.
١ - القاموس المحيط ص ٤٨٠..
قوله :( وهو الذي جعل لكم الليل لباسا ) شبه ظلام الليل باللباس الساتر ؛ فهو يرخي سدوله على العباد ليناموا فترتاح أبدانهم وهو قوله :( والنوم سباتا ) والسبات، من السبت وهو القطع والراحة. والسبات، النوم. والمسبت الذي لا يتحرك. والمسبوت، الميت١.
وقوله :( وجعل النهار نشورا ) النشور، الانبعاث من النوم للحركة والجد والعمل طلبا للمعاش وذلك عقب الاسترخاء والركون للراحة والانقطاع والدعة خلال الليل وما يتخلله من سبات وتفكر وتلاوة ودعاء وعبادة. وذلك شبيه ببعث الموتى ونشورهم لملاقاة الحساب والمساءلة. فهاتان ظاهرتان متتامتان، تكمل إحداهما الأخرى. ظاهرة الليل حيث الدعة والاستقرار وراحة الأبدان وسكينة الأعصاب. ثم ظاهرة النهار حيث النشور والنشاط والحركة والمعاش٢.
١ - القاموس المحيط ص ١٩٥..
٢ - البحر المحيط جـ ٦ ص ٤٦٠ وتفسير النسفي جـ ٣ ص ١٦٩..
قوله تعالى :﴿ وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا ( ٤٨ ) لنحيي بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ( ٤٩ ) ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ( ٥٠ ) ﴾. الرياح في القرآن إيذان بنزول الرحمة، وهي هنا بمعنى المطر، بخلاف الريح بالإفراد، فقد وردت الريح في القرآن بمعنى العذاب. والمعنى : أن الله جل وعلا يرسل الرياح قدام المطر مبشرات بنزوله.
قوله :( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) أنزل الله برحمته وفضله على العباد مطرا من السماء منهمرا طهورا. وهو مبالغة في الطهور والطهارة.
وقد جمع الله في الماء اللطافة وخصوصية التطهير ؛ لتتم به الطهورية، ويتحقق باستعماله الاسترواح والابتهاج. وهو من جهته مزيل للأوساخ والقاذورات والنجاسات على اختلاف أنواعها. فيكون المرء به نظيفا طاهرا نقيا من الأوضار والأدران. لاجرم أن هذه نعمة كبيرة أنعم الله به على الإنسان. وهي دليل قدرته وعظمته. وذلك برهان يضاف إلى براهين كثيرة تشهد على عظمة الصانع القهار، جاعل الليل والنهار، وخالق الأحقاب والفصول والأدهار.
قوله :( لنحيي به بلدة ميتا ) أي أنزل الله المطر من السماء على الأرض ليجعلها عامرة بالنبات، وذلك هو إحياؤها بعد أن كانت هامدة قفرا مواتا لا حياة فيها ولا نبات. وقد ذكر ميتا على معنى البلد. فالبلدة بمعنى البلدة أو المكان.
قوله :( ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ) أي يسقي الله الماء الأنعام والناس. وأناسي، جمع إنسان. والأصل : إنسان وأناسين، فأبدلت النون ياء وأدغم فيها الياء قبلها. وهو قول سيبويه. وقيل : جمع إنسي. وفيه نظر١ وقد نكرت الأنعام والأناسي ؛ لأن عِلية الناس وجلّهم منيخون بالأودية والأنهار فيهم غنية عن سقي الماء. أما أعقابهم- وهم كثير منهم- إنما يعيشون بما ينزل الله من السماء من مطر. وهو قول الزمخشري وذلك من فضل الله على الناس ورحمته بالخلق ؛ إذ أنزل عليهم القطر من السماء ليستقوا ولتنبت لهم الأرض من خيراتها مما أنعم الله به وقدّره تقديرا.
١ - الدر المصون جـ٨ ص ٤٨.
قوله :( ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ) الهاء، على الماء ؛ أي صرفناه بين العباد في مختلف البلدان والأزمان، وعلى اختلاف الكيفيات والصفات المتفاوتة من وابل زاخر هاطل، وطل خفيف نازل، أو رذاذ غامر منتشر. وغير ذلك من وجوه الإمطار.
قال ابن كثير رحمه الله في هذا المعنى : أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقا والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء.
وقيل : الهاء عائدة على القرآن. والقول الأول أظهر، لما يدل عليه السياق.
قوله :( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) أكثر الناس لم يتعظوا ولم ينتفعوا بهذه الظواهر الكونية العجيبة التي تشهد على قدرة الصانع الحكيم ؛ بل جحدوا ذلك وعتوا ولجوا في غفلتهم وضلالهم منتكسين ظالمين خاسرين١.
١ - تفسير البيضاوي ص ٤٨٢ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٢١..
قوله تعالى :﴿ ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ( ٥١ ) فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ( ٥٢ ) وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ( ٥٣ ) وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ( ٥٤ ) ﴾ يتجلى في هذا الخطاب الرباني الكريم التسلية والمواساة لرسول الله ( ص ) لما كابده من أذى قومه، وبما لقيه في تبليغهم دعوة الله من ألوان الصد والقهر.
فقال عز من قائل :( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ) أي لو أراد الله لبعث في كل قرية نبيا ينذرهم ويدعوهم إلى الحق، ليخفف عنك الأمر وليهون عليك وجيبة التبليغ. ولكن الله إنما أراد أن يُعظم لك الأجر والإجلال والتشريف فتكون معظما مكرما ولك من جليل القدر وعلو المكانة ما لم يبلغه أحد في العالمين ؛ إذ جعلك الله منذرا للناس كافة ورسولا للعالمين أجمعين. وفي الصحيحين : " بعثت إلى الحمر والأسود " وفيها أيضا : " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ".
قوله :﴿ فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ﴾ يحذر الله نبيه محمدا ( ص ) من طاعة المشركين فيما يدعونه إليه من موافقتهم ومداهنتهم ؛ فإنهم كانوا قد استمعوا إليه ورغبوا منه في أن يرجع إلى دين الآباء والأجداد وله في مقابلة ذلك أن يملكوه عليهم، وأن يجمعوا له المال فيكون أعظمهم مالا. فنهاه الله تعالى عن طاعتهم وحذره الجنوح إلى قولهم ؛ فإنه على الحق المبين، واليقين الناصع المستقيم. أما هم فإنهم على الباطل والضلالة والتخمين. ثم أمره ربه أن يجهادهم به جهادا كبيرا ؛ أي يجاهدهم بالقرآن وما حواه من ظواهر شتى في الإعجاز على تعدد صوره وضروبه، أو يجاهدهم بالإسلام فيبين لهم صلوح هذا الدين الكامل الشامل. الدين الذي تترسخ فيه قواعد الخير والعدل والرحمة للبشرية لتمضي في حياتها سالمة آمنة مطمئنة تفيض فيها الرحمة والمودة والإخاء، وتجللها المهابة ووحدة الكلمة والصف والأوطان. وهذه مجاهدة عظيمة يكبر حملها والاضطلاع بها لما يجده المجاهدون في سبيل الله ومن أجل دعوة الإسلام وإعلاء راية القرآن، من المعوقات والمصاعب على الطريق. المصاعب التي يزرعها خصوم الحق وأعداء الإسلام، وهم كثيرون منتشرون في كل بقاع الدنيا.
قوله :( وهو الذي مرج البحرين ) ( مرج البحرين )، أي خلالهما لا يلتبس أحدهما بالآخر١ أو خلاهما متجاورين متلاصقين. وقد سمي الماءين الكثيرين الواسعين بحرين ( هذا عذاب فرات وهذا ملح زجاج ) أي خلق الماءين وهما الحلو والملح. فالحلو كالأنهار والآبار والعيون. وهذا هو البحر الحلو العذب الفرات. فقد جعله نعمة للخلق والعباد ليشكروه ولا يكفروه ؛ فهم محتاجون إلى هذا الماء ؛ إذ يستقون منه شرابا عذبا زلالا ويسقون منه الحرث والأنعام. فلولاه لكانت الأرض يبسا قفرا لا حياة فيها ولا نبات ولا نماء، و ( فرات ) صفة لقوله :( عذب ) أي شديد العذوبة.
أما الملح الأجاج، فهو المالح المر لشدة ملوحته٢ وذلك كالبحار المعروفة في مشارق الأرض ومغاربها. ومنها المسماة بالمحيطة كبحر الأطلسي والهادي وغيرهما من المحيطات والبحار الكبيرة : كبحر الروم وبحر الخزر والبحر الأحمر وما شاكلها من البحار الملحة. وهي ساكنة راكدة لا تجري لكنها تضطرب وتتلاطم فيها الأمواج، وخصوصا في الشتاء وعند اشتداد الرياح. ومن عجيب صنع الله وبالغ حكمته التي يتدبرها أولو النهى والحجا، أن خلق الله هذه البحار الساكنة ملحة كيلا يأتي عليها التعفن والنتن فتفسد بفسادها الدنيا.
ومعلوم أن نسبة البحار الملحة في الدنيا تعدل ثلثي الأرض. فكيف إذا خالطت العفونة والنتن هذا الشطر الأكبر من مساحة العالم. لكنها بكونها ملحة ؛ فإنها تظل سليمة من الفساد والنتن، ويظل ماؤها طيبا طهورا ؛ فقد روى كثير من الأئمة وأهل السنن عن رسول الله ( ص ) أنه قال في البحر : " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ".
وفي مقابل ذلك جعل الله المياه الجارية عذبة ؛ لأنها بجريانها وحركتها وتبدلها لا يأتي عليها التعفن أو الفساد. فلا جرم أن تكون هذه حكمة الصانع العليم، مما يشير إلى عظيم قدرته وتدبيره في خلقه. أفلا يدل ذلك كله على وجود الإله الصانع المقتدر ؟ !.
قوله :( وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ) البرزخ والحجر، بمعنى الحاجز من الأرض والسد يحجز بينهما. وقيل : البرزخ، بمعنى البلاد والقفار، فلا يختلطان إلا بزوال الحاجز يوم القيامة. وقال أكثر المفسرين : المراد بالحاجز، المانع أو الحائل من قدرة الله يفصل بينهما ويمنعهما من التمازج. فهما في الظاهر مختلطان وفي الحقيقة منفصلان ؛ أي منفصلان بقدرة الله.
ويعضد هذا القول ما أثبتته النظريات العلمية الحديثة في الجاذبية المتوازنة بين الأرض والشمس أو غيرهما من الكواكب. أو في عملية المد والجزر التي تنعكس على البحار في الأرض بسبب الجاذبية بينها وبين القمر. وبذلك تدور الحركة الكونية في انسجام متسق، وفي انتظام موزون لا يتعثر ولا يضطرب ولا يعرف الخلل أو الفوضى. وذلك كله بقدرة الله ومن صنعه وحكمته البالغة.
١ - القاموس المحيط ص ٢٦٢..
٢ - القاموس المحيط ص ٢٢٩..
قوله :( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا ) البشر، عموم بني آدم. فقد خلق الله الإنسان من نطفة مهينة مستقذرة ؛ إذ جعلها تمر في مراحل متعاقبة، طورا بعد طور. بدءا بالجنين، وانتهاء بالإنسان المكتمل ذي السمع والبصر والحس والعقل والإرادة.
قوله :( فجعله نسبا وصهرا ) النسب والصهر يعمان كل قربى بين آدميين. وذلك قسمان : ذوو نسب١ أي ذكور، يُنسب إليهم. وذوو صهر. أي إناث يصاهر بهن.
قال ابن كثير في هذا المعنى : هو في ابتداء أمره ولد نسيب ثم يتزوج فيصير صهرا ثم يصير له أصهار وأختان٢ وقرابات، وكل ذلك من ماء مهين.
قوله :( وكان ربك قديرا ) ودليل قدرته ما ذكره من عجيب صنعه ؛ إذ جعل من النطفة المهينة المستقذرة بشرا بنوعيه : الذكر والأنثى، فكانت الحياة بأطوارها ومراحلها، وصوره من الأمن والاستقرار والبحبوحة والرحمة. أو خلاف ذلك من الخوف والاضطراب والشظف والظلم. وكذلك كان الناس بشعوبهم وقبائلهم وأفرادهم ومجتمعاتهم. وكل ذلك يدل على قدرة الصانع الحكيم٣.
١ - النسب: القرابة. انظر القاموس المحيط ص ١٧٦..
٢ - أختان: جمع ختن بسكون التاء. أي أصهار. انظر القاموس المحيط ص ١٥٤٠..
٣ - البحر المحيط جـ٦ ص ٤٦٤ وتفسير البيضاوي ص ٤٨٣ وتفسير النسفي جـ٣ ص ١٧١..
قوله تعالى :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا ( ٥٥ ) وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ( ٥٦ ) قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ( ٥٧ ) وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا ( ٥٨ ) الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمان فاسأل به خبيرا ( ٥٩ ) وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ( ٦٠ ) ﴾.
ذلك تعجيب من ضلال المشركين وفساد قلوبهم وعقولهم ؛ إذ يعبدون آلهة فارغة مصطنعة من دون الله، لا تضر ولا تنفع. ولئن كانت آلهتهم من شياطين الجن والإنس فإنها تضر ولا تنفع، وذلك بإغوائها وإغرائها وإضلالها ووساوسها، فهي بذلك تودي بالعابدين السخفاء إلى التعس والشقاء في الدنيا والآخرة. وهم إنما يعبدون آلهة من دون الله سفها وجهالة ؛ إذ لا برهان لهم بذلك ولا حجة إلا التشهي واتباع الهوى والجنوح للزيغ والباطل. وذلك هو شأن الإنسان التاعس الذي يمضي في طريق الكفر والباطل ويظاهر المجرمين وأعوان الشياطين على أولياء الله من المؤمنين والمتقين، وهو قوله :( وكان الكافر على ربه ظهيرا ) والظهير والمظاهر بمعنى المعين أو المعاون. والمراد أن الكافر يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة والشرك والإفساد. ومظاهرة الإنسان للشيطان طاعته في معصية الله.
والمراد بالكافر، الجنس. فالكافرون بعضهم من بعض، وهم بعضهم أولياء بعض، فإنهم يوالون الشيطان من الإنس والجن لمعاداة أولياء الله، فيحادونهم أشد محادّة، ويحاربون أعنف حرب.
قوله :﴿ وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ﴾ أي ما أرسلناك حفيظا عليهم، وإنما أرسلناك لتبشر الطائعين بالنجاة والسعادة والفوز بالجنة، وتنذر العصاة والمجرمين بالعذاب الشديد.
قوله :( قل ما أسألكم عليه من أجر ) أي لم أطلب منكم أجرة على تبليغكم دعوة الله ( إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ) استثناء منقطع ؛ أي لكن من يشاء منكم أن يتخذ إلى الله طريقا يسلكه بإنفاقه من ماله في سبيل الله وتقربا إليه فليفعل.
قوله :( وتوكل على الحي الذي لا يموت ) التوكل على الله، إظهار العجز أمام جلاله وعظيم سلطانه، والاعتماد عليه والاستسلام إليه. والاسم التكلان١ وهو اعتماد القلب على الله في كل الأمور. وما الأسباب بعد ذلك إلا وسائط ومقدمات أمر الله بها دون الاعتماد عليها.
كذلك يكون المسلم ؛ فإنه يعتمد على الله في شأنه كله. لكن الله قد تعبّده باتخاذ الأسباب والمقدمات من أعمال واستعداد ومجاهدة ونحو ذلك. وهو سبحانه يقضي بما يشاء ؛ فهو الكبير الفعال لما يريد، وهو المقتدر الذي له الحياة الدائمة، المنزّه عن نقيصة الموت.
قوله :( وسبح بحمده ) التسبيح معناه التنزيه ؛ أي نزّه الله عما يصفه به المشركون والمفترون مما لا يليق بجلاله العظيم. واذكره في نفسك توسلا وخشية واشكره على ما منّ به عليك من جزيل النّعم.
قوله :( وكفى به بذنوب عباده خيرا ) ( وكفى به )، أي كفاك. فحذف المفعول به وهو الكاف، والباء زائدة. و ( خبيرا )، منصوب على التمييز، أو الحال٢ ؛ أي حسبك بمن صفته الكمال هو الحي الذي لا يموت، عليما بذنوب العباد ؛ فإنه لا يخفى عليه منها شيء، وهو مطلع عليها ومحصيها عليهم جميعا ليجازيهم بها يوم القيامة. وفي ذلك من مخاطبة القلوب ما يثير فيها الخشية من الله وينشر فيها المزيد من اليقظة ودوام الترقب والحذر من معاصي الله الذي يعلم السر ولا تغيب عنه الأخبار والخوافي.
١ - البحر المحيط جـ٦ ص ٤٦٤ وتفسير البيضاوي ص ٤٨٣٦ وتفسير النسفي جـ٣ ص ١٧١..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٢٠٦..
قوله :( الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في سنة أيام ) ( الذي )، في محل جر صفة للحي. وقال عن السماوات والأرض ( بينهما ) ولم يقل بينهن ؛ لأنه أراد الصنفين والشيئين، وذلك ذكر لصفة الله العظمى في الخلق ؛ فهو سبحانه خالق السماوات والأرض وهما خلقان هائلان في امتدادهما، وسعتهما، وبينهما من الخلائق الكاثرة والمختلفة من نجوم وكواكب وبحار وأطيار وجبال وأحياء ومختلف الأجرام، ما لا يعلم حقيقته وكثرته ومداه وتعدد أصنافه وأنواعه وألوانه إلا الله. لقد خلق الله ذلك كله في ستة أيام. وهو سبحانه أعلم بحقيقة هذه الأيام، إن كانت من أيامنا في دنيانا هذه المعهودة، أم هي أيام محسوبة بحساب الله وميزانه الذي يعلمه هو.
قوله :( ثم استوى على العرش ) أي خلقه ورفعه. وبينا القول في معنى العرش فيما سبق من الآيات.
قوله :( الرحمان فاسأل به خبيرا ) ( الرحمان ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ؛ أي هو الرحمان. وقيل : مبتدأ، وخبره ( فاسأل به ) وقيل : بدل من المضمر في قوله :( استوى ) ١.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٢٠٧..
قوله :( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان ) إذا دعاهم رسول الله ( ص ) لعبادة الله وحده وان يخلعوا عن قلوبهم وأذهانهم حب الأوثان والآلهة المزيفة ليعبدوا الرحمان وحده دون غيره ( قالوا وما الرحمان ) والاستفهام للإنكار والتعجب ؛ أي ما نعرف الرحمان إلا رحمان اليمامة، يريدون بذلك مسيلمة الكذاب، قبحهم الله.
قوله :( أنسجد لما تأمرنا ) الاستفهام للإنكار كذلك ؛ أي أنسجد لما تأمرنا أنت بالسجود له ( وزادهم نفورا ) زادهم الأمر بالسجود للرحمان وعبادته وحده دون غيره من الأنداد والشركاء نفورا وبعدا عن الحق وعن صراط الله المستقيم١.
١ - تفسير الطبري جـ ١٨ ص ١٩ وتفسير الرازي جـ ٢٤ ص ١٠٤ وتفسير البيضاوي ص ٤٨٣..
قوله تعالى :﴿ تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سرجا وقمرا منيرا ( ٦١ ) وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ( ٦٢ ) ﴾ يعظم الله نفسه، ويمجد ذاته الكريمة ؛ إذ ( جعل في السماء بروجا ) أي كواكب عظاما لا يعلم عظمتها واتساعها إلا هو سبحانه.
قوله :( وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ) المراد بالسراج الشمس. يقال : أسرجت السراج أي أوقدته١، والشمس كتلة هائلة من النار المستعرة المتوقدة خلقها الله في حجمها العظيم المذهل وجعلها في مكان مناسب موزون. فليست أدنى من موضعها الراهن فتحترق الخلائق وتزول الحياة على الأرض. ولا هي أبعد من موضعها فيأتي على الأحياء البرودة والجمد، فضلا عن اضطرابات كونية تقع لو لم ما تكن الشمس في مكانها الملائم المقدور. والشمس للخليقة والأحياء مبعث للضوء والدفء والحرارة ليشيع في الأرض النشاط والجد والعمل.
قوله :( وقمرا منيرا ) أي يضيء الأرض بنوره الوضاء وينشر في الدنيا البهجة والاسترواح، ويثير في النفس الحبور والإحساس بجمال الطبيعة التي صنعها الله. لا جرم أن هذا الجرم المشرق الجميل آية من آيات الله الدالة على عظيم صنعه وقدرته.
١ -المصباح المنير جـ١ ص ٢٩٢ والمعجم الوسيط جـ ١ ص ٤٢٥..
قوله :( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ) أي جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه، إذ يتعاقبان لا يفتران. فإذا ذهب هذا جاء هذا. وإذا جاء هذا ذهب هذا.
وقيل : جعل كل واحد منهما خلفا من الآخر في أن ما فات في أحدهما من عمل يُعمل فيه لله، أدرك قضاءه في الآخر. والمعنى الأول أظهر، استنادا إلى ظاهر اللفظ ؛ إذ كل واحد منهما يخلف الآخر ويأتي عقيبه. ومنه خلقة النبات. وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف.
قوله :( لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) أي يتذّكر عجيب صنع الله وما ذرأه من عجائب المخلوقات الكثيرة والمبثوثة في أرجاء الكون، فينيب إلى ربه عابدا مستسلما ( أو أراد شكورا ) أي يشكر نعمة ربه التي أنعمها عليه وهي نعم كثيرة ومختلفة ومبسوطة لا تحصى١.
١ - تفسير الطبري جـ ١٩ ص ٢١ وفتح القدير جـ٣ ص ٨٥..
قوله تعالى :﴿ وعباد الرحمان الذين يشمون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ( ٦٣ ) والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ( ٦٤ ) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ( ٦٥ ) إنها ساءت مستقرا ومقاما ( ٦٦ ) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يفتروا وكان بين ذلك قواما ( ٦٧ ) ﴾.
( وعباد الرحمان )، مرفوع لأنه مبتدأ. و ( الذين يمشون ) خبره١.
وهذه جملة من خصال المؤمنين وصفاتهم الحميدة التي تميزهم من غيرهم من الفاسقين والمنافقين والسفهاء. وقد سماهم الله بعباد الرحمن ؛ لأن تسميتهم بالعباد ووصفهم بالعبودية، أقصى مراتب التكريم في حق الإنسان ؛ فهم عابدون للرحمان منيبون إليه مخلصون في طاعته، وأول هذه السجايا التي تتجلى في عباد الرحمان هي في قوله :( الذين يمشون على الأرض هونا ) الهون معناه الرفق واللين. ومنه الحديث : " أحبب حبيبك هونا ما " وكذلك الحديث : " المؤمن هيّن ليّن ".
والمعنى : أن مشيهم يكون في لين وسكينة ووقار وتواضع ؛ فهم لا يتبخترون خيلاء، ولا يمشون مشية المستكبرين المرحين البطرين، وإنما مشية القصد والاتئاد. وهذه الصفات من أخلاق النبوة. ويجلي هيئة المشي المشروع ما ذكره الرسول ( ص ) من سكينة الذاهب إلى الصلاة ؛ إذ قال : " إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم منها فصلوا، وما فاتكم فأتموا ".
وما ينبغي أن يُفهم من ذلك أن عباد الرحمان يمشون متضعفين كالمرضى، أو متكلفين مرائين. فما هذه مشية المؤمنين المتقين، وإنما مشيتهم ما بيناه آنفا. وأصدق ما ورد في هذا الصدد، ما كان من سيرة الرسول ( ص ) في كيفية مشيته ؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا مشى كأنما ينحط من صبب٢ وكأنما الأرض تطوى له.
على أن المشي في تصنع وتضعف مكروه. وفي ذلك روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا فقال : ما بالك ؟ أأنت مريض ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة.
قوله :( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) ( سلاما )، منصوب على المصدر، أي تسليما. فسلام في موضع تسليم٣ والمعنى : إذا سفه الجاهلون على المؤمنين بسيء القول وقبحه، رد عليهم المؤمنون بالسداد من القول، وهو معنى قوله :( سلاما ) أي قالوا لهم كلاما يدفعونهم به برفق وتوءدة. وذلك هو خلق المسلمين المتقين ؛ إذ يقابلون الإساءة بالإحسان والصفح، يوردون بالتي هي أحسن السيئة ؛ ليكونوا من أهل العفو والفضل والحلم. وليس ذلك عن إحساس بضعف أو خور ولا بهزيمة للنفس من داخلها. ولا بغية التزلف أو تحصيل منفعة من المنافع. ليس العفو من المؤمنين عن الفاسقين والعاصين والسفهاء مبعثه الذل والنفاق والجبن، بل مردهم من ذلك الاستعلاء على حظ النفس التي تجنح للانتقام. وكل ذلك ابتغاء مرضاة الله.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٠٨..
٢ - الصبب: ما انحدر من الأرض. انظر المعجم الوسيط جـ١ ص ٥٠٥..
٣ - البيان لابن الانباري جـ٢ ص ٢٠٨..
قوله :﴿ والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ﴾ ذلك وصف لسيرة المؤمنين في الليل بعد أن وصف خلقهم مع الناس في النهار. فهم في الليل ( يبيتون لربهم سجدا وقياما ) بات الرجل يبيت ويبات بيتوتة ؛ إذا أدركه الليل سواء نام أم لم ينم. كما يقال : بات فلان قلقا. وبات يفعل كذا ؛ إذا فعله ليلا١.
واختلفوا في معنى المبيت سجدا وقياما. فقال بعضهم : من قرأ شيئا من القرآن في صلاة وإن قلّ ؛ فقد بات ساجدا وقائما. وقيل : من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا وقائما، وهو قول ابن عباس. وقيل : من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء ؛ فقد بات ساجدا وقائما. والظاهر- كما قال الزمخشري : أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره.
١ -مختار الصحاح ص ٧٠ وتفسير الرازي جـ٢٤ ص ١٠٨..
قوله :( والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم ) المؤمنون دائمو الإشفاق والخوف من عذاب الله ؛ فهم من طاعتهم وامتثالهم واستسلامهم لا يبرح قلوبهم القلق والوجل من العذاب أن يصيبهم يوم القيامة.
وبذلك فإن المؤمنين يتضرعون إلى ربهم في كل آن كي يدفع عنهم عذاب جهنم ( وإن عذابها كان غراما ) والغرام، معناه الشر الدائم، والعذاب اللازم أو الهلاك المستديم.
قوله :﴿ إنها ساءت مستقرا ومقاما ﴾ ( مستقرا ومقاما )، حال أو تمييز والمؤمنون يسألون ربهم أن يدفع عنهم عذاب جهنم لأمرين. أولهما : أن عذابها غرام ؛ أي شديد وداهم وملازم. وثانيهما : أنها ساءت مستقرا ومقاما ؛ أي بئس المستقر وبئس المقام. ويمكن أن يكون ذلك من كلام الله. ويمكن أن يكون حكاية لقولهم.
قوله :﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ﴾ ( لم يسرفوا )، من الإسراف وهو مجاوزة الحد في النفقة. ولم يقتروا من القتر والإقتار والتقتير. وهو التضييق الذي هو نقيض الإسراف١.
وقد اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية أو في المراد بالإسراف والتقتير وثمة قولان أساسيان في ذلك.
القول الأول : وهو لابن عباس وآخرين وهو أن الإسراف يعني الإنفاق في معصية الله تعالى. والإقتار منع حق الله تعالى. فلو أنفق أحدهم مثل جبل ذهبا في طاعة الله تعالى لم يكن ذلك سرفا. ولو أنفق صاعا في معصية الله تعالى كان سرفا.
على أنه يُعترض على هذا التفسير، بأن الإنفاق في معصية الله معلوم أنه حرام وقد حظرت الشريعة قليله وكثيره. وإنما المراد في هذه الآية التأديب في نفقة الطاعات في المباحات. وهو ما يبينه.
القول الثاني : وهو أن المراد بالسرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا وإن كان من حلال. فإن ذلك مكروه ؛ لأنه يفضي إلى الخيلاء. أما الإقتار فهو التضييق.
فالإفراط في الأكل فوق الشبع بحيث يمنع من القدرة على العبادة سرف. وإن أكل بقدر ما دون الحاجة أو أفرط في الشح على عياله حتى أجاعهم فهو إقتار.
قوله :( وكان بين ذلك قواما ) اسم كان مضمر. و ( قواما ) خبر كان. والتقدير : كان الإنفاق ذا قوام بين الإسراف والإقتار٢ أو كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قواما. والقوم، معناه العدل والاستقامة٣ والمراد بذلك : النفقة بالعدل والمعروف دون مجاوزة عن حد الله ولا تقصير عما فرضه الله.
وفي جملة ذلك كله قال الطبري رحمه الله. إذا أكل آكل من الطعام فوق الشبع ما يضعف بدنه وينهك قواه ويشغله عن طاعة ربه وأداء فرائضه ؛ فذلك من السرف. وأن يترك الأكل وله إليه سبيل حتى يضعف ذلك جسمه وينهك قواه ويضعفه عن أداء فرائض ربه ؛ فذلك من الإقتار، وبين ذلك القوام. فأما اتخاذ الثوب للجمال يلبسه عند اجتماعه مع الناس وحضوره المحافل والجمع والأعياد دون ثوب مهنته، أو أكله من الطعام ما قوّاه على عبادة ربه مما ارتفع عما قد يسد الجوع مما هو دونه من الأغذية ؛ فذلك خارج عن معنى الإسراف بل ذلك من القوام ؛ لأن النبي ( ص ) قد أمر ببعض ذلك وحض على بعضه كقوله : " ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين، ثوبا لمهنته، وثوبا لجمعته وعيده " وكقوله : " إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن يرى أثره عليه " وما أشبه ذلك من الأخبار٤.
١ - مختار الصحاح ص ٥٢١ وتفسير الرازي جـ ٢٤ ص ١٠٩..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٠٨..
٣ -مختار الصحاح ص ٥٥٨ وتفسير الرازي جـ ٢٤ ص ١١٠..
٤ - تفسير الطبري جـ ١٩ ص ٢٤، ٢٥ والكشاف جـ ٣ ص ٩٩ وتفسير الرازي جـ ٢٤ ص ١٠٨، ١٠٩..
قوله تعالى :﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ( ٦٨ ) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ( ٦٩ ) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ( ٧٠ ) ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ( ٧١ ) ﴾ روي في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا عليه الصلاة والسلام فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن. لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) إلى قوله :( غفورا رحيما ) ١.
وروى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : سئل رسول الله ( ص ) أي الذنب أكبر ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قال : ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قال : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " قال عبد الله : وأنزل الله تصديق ذلك ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) الآيات٢. على أن كبرى الصفات المميزة لعباد الله المؤمنين : أنهم يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا. ذلك أن الشرك ظلم فادع ومريع ومهلك ؛ إذ يفضي بالمشرك الظلوم إلى جهنم ليجد مقامه فيها خالدا مع الخالدين. ومن صفاتهم أيضا أنهم ( لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ) فقتل النفس المؤمنة البريئة ظلما يأتي في غاية البشاعة والنكر من الموبقات ؛ فإنه لا يجترئ على قتل المؤمنين الأبرياء إلا المجرمون وأكابر العصاة الفاسقين الذين تحل بهم اللعائن من الله وملائكته قبل أن يُصار بهم إلى جهنم وبئس المصير.
ثم استثنى من التحريم ما كان بالحق ؛ أي بما يحق أن يقتل به النفوس، من قود، أو كفر بعد إيمان وهو الارتداد عن ملة الإسلام، أو زنا بعد إحصان. وفي ذلك روى البيهقي وأبو داود عن عبد الله قال : قال رسول الله ( ص ) : " لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا أحد ثلاثة نفر : النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة ".
قوله :( ولا يزنون ) من صفات المؤمنين مجانبتهم للزنا ؛ فهم لا يستحلون الفروج بغير نكاح مثلما كان يفعل الجاهليون ؛ إذ كانوا لا يعبأون بكيفية الوطء وإنما يعبأون بفعله سواء كان من نكاح أو من سفاح. لكن الإسلام نهى عن هذه المعصية النكراء وشدد عليها التنديد والنكير بأنها فاحشة، وأنها صورة مقبوحة من السلوك القذر الذي يفضي إلى تدمير البيوت والأسر وإفساد المياه والأنساب، وإشاعة الظنون والفوضى بين الناس. ولهذا ثبت في حد الزنا القتل لمن كان محصنا، والجلد مائة جلدة لمن كان غير محصن.
قوله :( ومن يفعل ذلك يلق أثاما ) جاء في تأويل الأثام عدة أقوال. فقد قيل : الأثام، جزاء الإثم. وقيل : الأثام والإثم بمعنى واحد. أي جزاء الأثام. وقيل : الأثام اسم من أسماء جهنم، أو واد في جهنم.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٢٦..
٢ - تفسير ابن كثير جـ ٣ ٣٢٦.
قوله :( يضاعف له العذاب ) ( يضاعف )، بالجزم، على البدل، من قوله :( يلق ) ١ وهو تفسير للأثام أو الجزاء الذي يلقاه من يفعل ذلك ؛ أي يكرر عليه العذاب ويغلظ.
قوله :( ويخلد فيه مهانا ) أي يخلد في العذاب المضاعف إلى ما لا نهاية، وهو مهين ذليل خاسئ.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٠٩..
قوله :( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) الاستثناء منقطع ؛ أي لكن من تاب وآمن. والاستثناء عام في الكافر والزاني، فالتائب منهما، توبته صحيحة وذلك ما لا خلاف فيه. أما القاتل ففي توبته خلاف. والراجح صحة التوبة من المسلم القاتل استنادا إلى هذه الآية ( إلا من تاب وآمن ).
على أنه لا تعارض بين هذه الآية وآية النساء ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) فهذه مطلقة فتحمل على من لم يتب. أنا الآية هنا فهي مقيدة بالتوبة. ويعزز القول بصحة التوبة من القاتل قوله تعالى :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وعلى هذا، من تاب وأناب وأطاع الله وترك ما نهى الله عنه، وآمن وصدق بما أنزل على رسوله ( ص ) وأتْبع إيمانه وتصديقه بالعمل الصالح ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) واختلفوا في المراد بهذه الآية على وجوه :
الوجه الأول : أن التبديل إنما يكون في الدنيا، فيبدّل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين. وبالزنا عفة وإحصانا ؛ أي أن الله يبشر التائبين بأنهم موقفهم لصالح الأعمال ليستوجبوا بها الثواب. وهو قول ابن عباس وآخرين.
الوجه الثاني : أن السيئة بعينها لا تصير حسنة، ولكن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة.
الوجه الثالث : أن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة، استنادا إلى هذه الآية واحتجاجا بما ورد في ذلك من الأخبار والآثار. وهو المعنى الراجح. ويعززه قوله سبحانه :( وكان الله غفورا رحيما ) الله غفار للذنوب والخطايا، تواب رحيم بعباده المؤمنين ؛ إذ يحوطهم ببالغ فضله ورحمته.
قوله :﴿ ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ﴾ ( متابا ) منصوب على المصدر. وهو مصدر مؤكد. وأصل متاب، متوب، قلبت الواو ألفا فصارت متابا١ وتاب متابا ؛ أي تاب حق التوبة وهي التوبة النصوح. ومتابا مصدر معناه التأكيد. أي فإنه يتوب إلى الله حقا. كقوله :( وكلم الله موسى تكليما ) وذلك وعد من الله للتائبين المنيبين إلى ربهم والذين يتبعون إيمانهم وتصديقهم بالطاعات وفعل الصالحات ؛ فإنهم تائبون حق التوبة. وهي التوبة الصادقة المتقبلة٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٠٩..
٢ - تفسير الرازي جـ ٢٤ ص ١١١، ١١٢ وفتح القدير جـ ٣ ص ٨٨ تفسير الطبري جـ ١٩ ص ٢٩..
قوله تعالى :﴿ والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما ( ٧٢ ) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ( ٧٣ ) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزوجانا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ( ٧٤ ) ﴾ هذه بضع من الصفات الجليلة لعباد الرحمان. فهم ( لا يشهدون الزور ) والزور في اللغة بمعنى الكذب. ازورّ عن الشيء ازورارا ؛ أي عدل عنه وانحرف١ وجاء في تأويل الزور في الآية عدة أقوال منها : أنه الشرك. وقيل : أعياد أهل الذمة. وقيل : الغناء. وأظهرها أنه الكذب. والمعنى : أن المؤمنين لا يحضرون مجالس الكذب والباطل. ويحتمل أن يكون معنى الزور إقامة الشهادة الباطلة. فيكون المعنى أنهم لا يشهدون شهادة الزور.
قوله :( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) منصوب على الحال من واو ( مروا ) ٢ اللغو، كل كلام أو فعل باطل أو سقط لا أصل له ولا حقيقة. فيدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك مما يستقبح من القول. ويدخل فيه كذلك سفه المشركين، وأذاهم المؤمنين. وكذلك ذكر النساء بالسفه من القول. فإذا مر المؤمنين بشيء من ذلك فسمعوه أو رأوه ( مروا كراما ) أي أعرضوا عنه منكرين، لا يرضونه ولا يجالسون أهله. بل يكرمون أنفسهم بالترفع عن مجالسة أهل اللغو من فارغ القول وسقط الكلام.
١ - القاموس المحيط جـ٢ ص ٤٣ ومختار الصحاح ص ٢٧٨..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٠٩..
قوله :﴿ والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ﴾ وهذه صفة أخرى من صفات المؤمنين الذين هم عباد الرحمان ؛ فإنهم إذا سمعوا التذكرة من المواعظ والحجج والأدلة، أو سمعوا آيات الله تتلى عليهم، فإنهم لا يتغافلون عنها ولا يعرضون عن الاتعاظ بها. ولكنهم يتذكرون ويعتبرون وتغمرهم العظة والخشية من الله ؛ فهم ليسوا كالكافرين والفاسقين أولي القلوب الغُلْف والآذان الصم الذين لا يتعظون ولا يزدجرون. وهو قوله سبحانه :( لم يخروا عليها صما وعميانا ) أي لا يتغافلون عنها كأنهم صم لا يسمعون الموعظة أو السداد من القول، أو عمي لا يبصرون الحق والهدى ؛ فإنهم إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم فوقعوا ساجدين بُكاة ولم يقعوا صمّا وعميا.
قوله :( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) فإن من صفات المؤمنين : الدعاء إلى الله والتضرع في تذلل وخشوع. لا جرم أن مزية الدعاء كبرى المزايا التي تتجلى في المؤمنين الصادقين المنيبين. وهؤلاء هم عباد الرحمان الذين يسألون الله جل وعلا أن يهبهم الأزواج الصلحاء والذرية المؤمنة الطائعة ذات الإيمان الراسخ والخلق الحميد ليكونوا لهم ( قرة أعين ) و ( قرة ) في الآية منصوب على المفعولية. وذلك من القرار، وهو بحصول السكينة والسرور والرضى.
والمؤمنون يتمنون بالغ التمني ويبتغون أشد الابتغاء من الله أن يهبهم الزوجات الصالحات الفضليات والأولاد والأحفاد من الذكران والإناث الصالحين ليكونوا لهم قرة أعين ؛ أي مبعث سكينة وطمأنينة وحبور لهم في هذه الدنيا. ويوم القيامة يكونون بجوارهم في جنات الخلد. وهنالك تتحقق السعادة الكبرى، ويكتمل الابتهاج الغامر. وهبنا الله من الأزواج والذريات ما تقرّ به أعيننا فنسعد ونبتهج ونستقر في دنيانا وأخرانا.
قوله :( واجعلنا للمتقين إماما ) ( إماما )، واحد أريد به الجمع ؛ أي أئمة كثيرا. واكتفى بالواحد عن الجمع للعلم به١ والمعنى : اجعلنا أئمة يقتدي بنا الناس من بعدنا في الخير والطاعات. أو اجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك ويجتنبون نواهيك ويخشون عقابك، أئمة هداة دعاة إلى الخير فيأتمون بنا في الخيرات وعمل الصالحات.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢١٠..
قوله تعالى :﴿ أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما ( ٧٥ ) خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ( ٧٦ ) قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ( ٧٧ ) ﴾ الإشارة ( أولئك ) في موضع رفع خبر لقوله :( وعباد الرحمان ) وما تخلل بين المبتدأ وخبره، أوصاف عباد الرحمان. وقد ذكر القرطبي رحمة وهي إحدى عشرة : التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف والإقتار، والنزاهة عن الشرك، والزنا والقتل، وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله١.
قوله :( يجزون الغرفة ) أي الجنة. وقيل : الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها.
قوله :( بما صبروا ) أي بسبب صبرهم على أوامر الله ؛ إذا أطاعوا فيما أمرهم به، وانتهوا عما نهاهم عنه صابرين على ذلك محتسبين. وكذلك صبرهم على مواجهة الصعاب والكروب في حياتهم الدنيا، من فقر وفاقة وأسقام وهموم وغير ذلك من شدائد الدنيا.
قوله :( ويلقون فيها تحية وسلاما ) أي تبتدرهم الملائكة في الجنة بالتحية والسلام والإكرام والاحترام ؛ ليكونوا فيها سعداء آمنين محبورين.
١ - تفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٨٣..
قوله :﴿ خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ﴾ ( خالدين ) منصوب على الحال. أي مقيمين في الجنة لا يبرحونها ولا يظعنون عنها ولا يبغون عنها حولا أو بدلا.
قوله :( قل ما يبعؤا بكم ربي لولا دعاؤكم ) ( يبعؤا )، يبالي. ما عبأ به ؛ أي ما بالى به. وهو من العبء وهو الثقل١، و ( ما )، نافية. أي لا يبالي الله ولا يكترث بكم لولا عبادتكم إياه. فهم بذلك لولا عبادتهم لله، لم يعتدّ بهم الله البتة، ولم يساووا عنده شيئا. والدعاء، بمعنى العبادة. وقيل :( ما )، للاستفهام. فيكون المعنى : أي وزن يكون لكم عند ربكم لولا عبادتكم إياه. فأنتم لا تستأهلون شيئا من التكريم لولا عبادتكم.
قوله :( فقد كذبت فسوف يكون لزاما ) الخطاب لمشركي قريش ؛ أي كذبتم رسولكم الذي جاءكم بالحق وخالفتم ما أمركم به الله على لسان رسوله الأمين وفي آياته البينات. فسوف يكون تكذيبكم هذا هلاكا ملازما لكم في الدنيا والآخرة٢.
١ - مختار الصحاح ص ٤٠٧..
٢ - تفسير الطبري جـ ١٩ ص ٣٤- ٣٦ والكشاف جـ ٣ ص ١٠٣ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٤١٩..
Icon