ﰡ
وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ تقول القادة من الجن والإنس للأتباع : ما الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان، قابلة للكفر والعصيان، ﴿ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ اي من حجة على صحة ما دعوناكم إليه، ﴿ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ ﴾، أي بل كان فيكم طغيان ومجاوزة للحق، فلهذا استجبتم لنا وتركتم ا لحق الذي جاءتكم به الأنبياء، ﴿ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾، يقول الكبراء للمستضعفين : حقت علينا كلمة الله إنا من الأشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة، ﴿ فَأَغْوَيْنَاكُمْ ﴾ أي دعوناكم إلى الضلالة ﴿ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾، أي فدعوناكم إلى ما نحن فيه فاستجبتم لنا، قال تعالى :﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ ﴾ أي الجميع في النار كل بحسبه، ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين * إِنَّهُمْ كانوا ﴾ أي في الدار الدنيا ﴿ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي يستكبرون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون.
وفي الحديث :« أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال : لا إله إلا الله قد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عزّ وجلّ » وروى ابن أبي حاتم عن أبي العلاء قال : يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : نعبد الله وعزيراً، فيقال لهم : خذوا ذات الشمال؛ ثم يؤتى بالنصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : نعبد الله والمسيح، فيقال لهم : خذوا ذات الشمال، ثم يؤتى بالمشركين فيقال لهم : لا إله إلا الله فيستكبرون، ثم يقال لهم : لا إله إلا الله، فيستكبرون، ثم يقال لهم : لا إله إلا الله، فيستكبرون، فيقال لهم : خذوا ذات الشمال، قال أبو نضرة : فينطلقون أسرع من الطير، قال أبو العلاء : ثم يؤتى بالمسلمين فيقال لهم : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : كنا نعبد الله تعالى، فيقال لهم : هل تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون : نعم، فيقال لهم : فكيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون نعلم أنه لا عدل له، قال : فيتعرف لهم تبارك وتعالى وتقدس وينجي الله المؤمنين.
فما زالت الكأس تغتالنا... وتذهب بالأول الأول
وقال سعيد بن جبير : لا مكروه فيها ولا أذى، والصحيح قول مجاهد : أنه وجع البطن، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾ قال مجاهد : لا تذهب عقولهم، وقال ابن عباس : في الخمر أربع خصال :( السكر، والصداع، والقيء، والبول )، فذكر الله تعالى خمر الجنة، فنزّهها عن هذه الخصال، وقوله تعالى :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف ﴾ أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن، كذا قال ابن عباس ومجاهد، وقوله تبارك وتعالى :﴿ عِينٌ ﴾ أي حسان الأعين، وقيل : ضخام الأعين، وهي النجلاء العيناء، فوصف عيونهن بالحسن والعفة، كقول زليخا في يوسف عليه السلام ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم ﴾
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا | ص ميزت من جوهر مكنون |
وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾، قال ابن عباس : يعني شرب الحميم على الزقوم، وعنه :﴿ شَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾ مزجاً من حميم، وقال غيره : يعني يمزج لهم الحميم بصديد وغساق، مما يسيل من فروجهم وعيونهم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ أنه كان يقول :« يقرب يعني إلى أهل النار ماء فيتكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه فيه، فإذا شربه قطع أمعاءه، حتى تخرج من دبره » وروى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال :« إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم، فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرفهم بوجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش، فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم، التي سقطت عنها الجلود ويصهر ما في بطونهم، فيمشون تسيل أمعاؤهم، وتتساقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور »، وقوله عزّ وجلّ :﴿ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم ﴾ أي ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج، وجحيم تتوقد، وسعير تتوهج، كما قال تعالى :
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما أمر لما أمر إبراهيم عليه السلام بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي فسابقه، فسبقه إبراهيم ﷺ، ثم ذهب به جبريل عليه السلام إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات، حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات، وثم تلَّه للجبين، وعلى إسماعيل ﷺ قميص أبيض : فقال له : يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفني فيه، فعالجه ليخلعه، فنودي من خلفه :﴿ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ﴾ فالتفت إبراهيم، فإذا بكبش أبيض أقرن أعين.
وقوله تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ﴾ أي قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، وذكر السيد وغيره أنه أمرَّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئاً، بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس، ونودي إبراهيم ﷺ عند ذلك ﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين ﴾ أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً كقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢-٣ ]، قال تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين ﴾ أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى ذلك، مستسلماً لأمر الله تعالى منقاداً لطاعته ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى ﴾ [ النجم : ٣٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ عن علي رضي الله عنه قال : بكبش أبيض أعين أقرن قد ربط بسمرة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : كان الكبش يرتع في الجنة، حتى شقق عنه ثبير، وكان عليه عهن أحمر، قال مجاهد : ذبحه بمنى عند النحر، وقال الثوري، عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ قال : وعل، وقال الحسن : ما فدي إسماعيل عليه السلام إلا بتيس من الأروى، أهبط عليه من ثبير.
( ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل ﷺ وهو الصحيح المقطوع به )
تقدمت الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق ﷺ، وروى مجاهد وعطاء وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ( إسماعيل ) ﷺ، وروى ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، أنه قال : المفدى إسماعيل عليه السلام، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود، وروى مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : الذبيح إسماعيل، وقال مجاهد : هو إسماعيل ﷺ، وقد رأيت قرني الكبس في الكعبة، وقال محمد بن إسحاق، عن الحسن البصري : أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم ( إسماعيل ) عليه السلام، قال ابن إسحاق : وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول : إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه ( إسماعيل ) وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى، وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابنَيْ إبراهيم قال تعالى ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ﴾، ويقول الله تعالى :
وقال أبن أبي حاتم، وسمعت أبي يقول : الصحيح أن الذبيح إسماعيل ﷺ، قال : وروي عن علي، وابن عمر، وأي هريرة، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح رضي الله عنهم أنهم قالوا : الذبيح إسماعيل، وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى :﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ﴾ فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله تعالى :﴿ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ ﴾ [ الذاريات : ٢٨ ]، وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم، بل هو بعيد جداً، والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه ( إسماعيل ) أثبت وأصح وأقوى، والله أعلم.
﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ أي ألا تخافون الله عزّ وجلّ في عبادتكم غيره، ﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين ﴾ ؟ قال ابن عباس ومجاهد :﴿ بَعْلاً ﴾ يعني رباً، قال عكرمة وقتادة : وهي لغة أهل اليمن، وقال ابن إسحاق : أخبرني بعض أهل العلم أنهم كانوا يعبدون امرأة اسمها بعل، وقال عبد الرحمن بن زيد : هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها بعلبك غربي دمشق، وقال الضحّاك : هو صنم كانوا يعبدونه، وقوله تعالى :﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلاً ﴾ ؟ أي أتعبدون صنماً، ﴿ وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين * الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ الأولين ﴾ أي هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، قال الله تعالى :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾ أي للعذاب يوم الحساب، ﴿ إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين ﴾ أي الموحدين منهم، وهذا استثناء منقطع، وقوله تعالى :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين ﴾ أي ثناء جميلاً ﴿ سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ ﴾، كما يقال في إسماعيل إسماعين، وهي لغة بني أسد، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين ﴾ قد تقدم تفسيره، والله أعلم.
وفي « صحيح مسلم » عن حذيفة رضي الله عنه قال :« قال رسول الله ﷺ :» فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجداً، وتربتها طهوراً « » الحديث، ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون ﴾ أي نصطف فنسبح الرب ونمجده ونقدسه وننزهه عن النقائص، فنحن عبيد له فقراء إليه خاضعون لديه، وقال ابن عباس ومجاهد :﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ الملائكة، ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون ﴾ الملائكة ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون ﴾ الملائكة تسبح الله تعالى وقال قتادة :﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون ﴾ يعني المصلون يثبتون بمكانهم من العبادة. وقوله جل وعلا :﴿ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين * لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين ﴾، أي قد كانوا يتمنون أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله، وما كان من أمر القرون الأولى ويأتيهم بكتاب الله كما قال جلّ جلاله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴾ [ فاطر : ٤٢ ]، وقال تعالى :﴿ أَن تقولوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٦ ] ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ وعيد أكيد وتهديد شديد، على كفرهم بربهم عزّ وجلّ وتكذيبهم رسوله ﷺ.