تفسير سورة الصافات

اللباب
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الصافات
مكية١. وهي مائة واثنتان وثمانون آية، وثمانمائة وستون كلمة، وثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا.
١ في قول الجميع قرره القرطبي ١٥/٦١ وابن الجوزي في زاد المسير ٧/٤٤، والبغوي في معالم التنزيل ٦/١٧..

قوله تعالى: ﴿والصافات صَفَّا﴾ قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء من «الصَّافَّاتِ» و «الزَّاجرَاتِ» و «التَّاليَاتِ» في صاد «صفاً» وزاي «زجراً» وذال «ذكراً» وكذلك فعلا في ﴿والذاريات ذَرْواً﴾ [الذاريات: ١] وفي ﴿فالملقيات ذِكْراً﴾ [المرسلات: ٥]، وفي ﴿والعاديات ضَبْحاً﴾ [العاديات: ١] بخلافٍ عن خَلاَّدٍ في الأخيرين وأبو عمرو جار على أصله في إدغام المتقاربين كما هو المعروف من أصله وحمزة خارج عن أصله والفرق بين مذهبيهما أن أبا عمرو يجيز الروم وحمزة لا يجيزه وهذا كما اتفقا في إدْغَام ﴿بَيَّتَ طَآئِفَةٌ﴾ [النساء: ٨١] وإن كان ليس من أصل حمزة إدغام مثله وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك.
قال الواحدي: إدغام التاء في الصاد حسن مقاربة الحرفين، ألا ترى أنهما من
270
طَرَف اللسان وأصول الثنايا يسمعان في الهمس والمدغم فيه يزيد على المدغم بالإطباق والصّفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتاً في الأنقص.
وأيضاً إدغام التاء في الزاي في قوله: ﴿فالزاجرات زَجْراً﴾ حسن لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة وفيها زيادة صفير كما كان في الصاد وأيضاً حَسُنَ إدغام التاء في الذال في قوله: ﴿فالتاليات ذِكْراً﴾ لاتفاقهما في أنهما من طَرَفِ اللسان وأصول الثنايا. وأما من قرأ بالإظهار فلاختلاف المَخَارج ومفعول «الصَّافَّاتِ» «والزَّاجِرَاتِ» غير مراد إذ المعنى الفاعلات لذلك وأعرب أبو البقاء «صَفًّا» مفعولاً به على أنه قد يقع على المصفوف وهذا ضعيف وقيل: وهو مراد والمعنى والصافات أنفسها وهم الملائكة، أو المجاهدون أو المصلون أو الصفات أجنحتها وهي الطير، كقوله: ﴿والطير صَآفَّاتٍ﴾ [النور: ٤١] والزاجرات: السحاب أو العصاة إن أريد بهم العلماء، والزجر الدفع بقوة وهو قوة التصويت وأنشد:
٤١٨٩ - زَجْر أبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إِذَا أشْفَق أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم
وَزَجرت الإبلَ والغَنَمَ إذَا فَزِغَتْ مِنْ صَوْتِكَ وأما «والتَّالِيَاتِ» فيجوز أن يكون «ذكراً» مفعوله، والمراد بالذكر القرآن وغيره من تسبيح وتحميدٍ، ويجوز أن يكون «ذكراً» مصدراً أيضاً من معنى التَّالِيَاتِ، وهذا أوفق لما قبله قال الزمخشري: الفاء في «فالزاجرات» (وفي) فالتاليات إما أن تدل على ترتيب معانيهما في الوجود كقوله:
271
٤١٩٠ - يَا لَهْفَ زيَّابَة لِلْحَارِث الصْ صَابِحِ فَالغَانِم فَالآيِب
أي الذي صبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) :«رَحِمَ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ فَالمُقَصِّرِينَ» فأما هنا فإن وجدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، فإذا كان الموحد الملائكة فيكون الفضل للصف ثم للزجر، ثم للتلاوة وعلى العكس وإن ثَلَّثْتَ الموصوف فترتب في الفضل، فيكون «الصافات» ذوات فضل والزجرات أفضل (والتاليات أبهر فضلاً أو على العكس يعني بالعكس فيال موضعين أنك ترتقي من أفضل) إلى فاضل إلى مفضول أو تبدأ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل.
والواو في هذه للقسم، والجواب قوله: ﴿إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ﴾.
وقد ذكر الكلام في الواو (و) الثانية والثالثة هي للقسم أو للعطف.

فصل


قال ابن عباس والحسن وقتادة: والصَّافَّات صفًّا هم الملائكة في السماء يصفون كصوفوف الخلق في الدنيا للصلاة وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «أَلاَ تَصُفُّونَ تَصُفُّ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ» ؟ قُلْنَا: وَكَيْفَ تصفُّ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ: يُتمُّونَ الصُّفُوفَ المُقَدَّمة وَيَتَرَاصُّون في الصَّفِّ «وقيل: هم الملائكة تصُفُّ أجْنِحَتَهَا في الهواء واقفة
272
حتى يأمر (ها) الله بما يريد، وقيل: هي الطير لقوله تعالى» والطّير صَافَّاتِ «» فالزاجرات زجراً «يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه، وقال قتادة: هي زواجر القرآن تنهي وتزجر عن القبيح» فالتاليات ذكراً «هم الملائكة يتلون ذكر الله وقيل: هم جماعة قُرَّاء القرآن، وهذا كله قسم، وقيل: فيه إضمار، أي ورَبَّ الصّافّاتِ والزاجرات والتاليات.

فصل


قال أبو مسلم الأصفهاني لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة لأنها مُشْعِرَةٌ بالتأنيث والملائكة مبرأون عن هذه الصفة، وأجيب بوجهين:
الأول: أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال جماعة صافة، ثم يجمع على صافات.
والثاني: أنهم مبرأون عن التأنيث المعنوي وأما التأنيث اللفظي فلا وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة.

فصل


اختلف الناس ههنا في المقسم به على قولين:
أحدهما: أن المقسم به خالق هذه الأشياء لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الحلف بغير الله تعالى ولأن الحلف في مثل هذا الموضع تعظيم للمحلوف به، ومثل هذا التعظيم لا يليق إلا بالله تعالى ومما يؤكِّد هذا أنه تعالى صرح به في قوله: ﴿والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ [الشمس: ٥ - ٧]
الثاني: أن المقسم به هو هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلافُ الدليل وأما قوله تعالى: ﴿وَمَا بَنَاهَا﴾ فإنه علق لفظ القسم بالسماء ثم عطف عليه القسم بالباء في السماء ولو كان لامراد من القسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التَّكرار في موضع واحد وأنه لا يجوز وأيضاً لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم الله تعالى بهذه الأشياء التنبيه على شرف ذَوَاتِهَا.
273
فإن قيل: ذكر الحَلِف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه:
الأول: أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو عند الكافر. والأول باطل لأن المؤمن مُقرٌّ به من غير حلق.
والثاني: باطل لأن الكافر لا يقر به سواء حصل الحلق أو لم يحصل فهذا الحلق عديم الفائدة على كلّ تقدير.
الثالث: أنه تعالى أقسم في أول هذه السورة على أن الإله واحد وأقسم في أول سورة الذاريات على أن القيامة حق فقال: ﴿والذاريات ذَرْواً﴾ [الذاريات: ١] إلى قوله: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات: ٥، ٦] وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف لايليق بالعقلاء.
فالجواب: من وجوه:
الأول: أنه قَرَّر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور بالدلائل اليقينية فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها بذكر القسم تأكيداً لم تقدم لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلق واليمين طريقة مألوفة عند العرب.
الثاني: أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى: «إن إلهكم لواحد» ذكر عقيبه ما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحداً وهو قوله تعالى: ﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق﴾ وذلك لأنه تعالى بين في قوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الانبياء: ٢٢] أنَّ انتظام أحوال السماوات والأرض يدل على أن الإله واحدٌ فههنا لما قال: «إنَّ إلهكم لواحد» أردفه: «رَبِّ السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق» كأنه قيل: بيَّنَّا أن النظر في انتظام هذه العالم يدل على كون الإله واحداً فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد.
الثالث: أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم: بأنها آلهة فكأنه قيل: إن هذا المذهب قد بلغ في السقوط والرَّكَاكَة إلى حيث يكفي في إبطاله مثلُ هذه الحُجَّة.
قوله: ﴿رَّبُّ السماوات﴾ يجوز، يكون خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً من «لَوَاحِدٌ» وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، وجمع المشارق والمغارب باعتبار جميع
274
السنة فإن للشمس ثلثمائةٍ وستين مشرقاً وثلثمائة وستين مغرباً، وأما قوله: «المَشْرِقَيْنِ والمَغْرِبَيْنِ» فباعتبار الصَّيْفِ والشِّتَاءِ، وقيل: المراد بالمشارق مشارق الكواكب، لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً، (وقيلك كل موضع شرقت عليه الشمس فو مشرق ولك موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب كأنه أراد رب جميع ما شرقت عليه الشمسُ وغربت)
فإن قيل: لم اكتفى بذكر المشارق؟.
فالجواب: من وجهين:
الأول: أراد المشارق والمغارب كما قلا في موضع آخر ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب﴾ [المعارج: ٤٠] وأنه اكتفى بذكر المشارق كقوله: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١].
والثاني: أن الشروق قوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً من الغروب فذكر المشرق بيهما على كثرة إحسان الله تعالى على عباده. ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - بالمشرق فقال: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق﴾ [البقرة: ٢٥٨].

فصل


دَلّ قوله تعالى: ﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد، لأن أَعْمَالَ العباد موجودة فيما بين السموات والأرض وهذه الأية دلت على أن كل ما حصل بين السموات والأرض فاللَّه ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله.
فإن قيل: الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السموات والأرض لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حَيِّزٍ وجهةٍ والأعراض ليست كذلك.
قلنا: إنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حالصة بين السموات والأرض.
275
قوله :﴿ رَّبُّ السماوات ﴾ يجوز أن يكون١ خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً من «لَوَاحِدٌ »٢ وأن يكون خبر٣ مبتدأ مضمر، وجمع المشارق والمغارب باعتبار جميع السنة فإن للشمس ثلثمائةٍ وستين مشرقاً وثلثمائة وستين مغرباً، وأما قوله :«المَشْرِقَيْنِ والمَغْرِبَيْنِ » فباعتبار الصَّيْفِ والشِّتَاءِ، وقيل : المراد بالمشارق مشارق الكواكب، لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً، ( وقيل٤ : كل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب كأنه أراد رب جميع ما شرقت عليه الشمسُ وغربت )٥.
فإن قيل : لم اكتفى بذكر المشارق ؟.
فالجواب : من وجهين :
الأول : أراد المشارق والمغارب كما قال في موضع آخر :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب ﴾ [ المعارج : ٤٠ ] وأنه اكتفى بذكر المشارق كقوله :﴿ تَقِيكُمُ الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ].
والثاني : أن الشروق قوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً من الغروب فذكر المشرق بينهما على كثرة إحسان الله تعالى٦ على عباده. ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم - عليه ( الصلاة و ) السلام- بالمشرق فقال :﴿ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ].

فصل


دَلّ قوله تعالى :﴿ رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد، لأن أَعْمَالَ العباد موجودة فيما بين السموات والأرض وهذه الآية دلت على أن كل ما حصل بين السموات والأرض فاللَّه ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله.
فإن قيل : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السموات والأرض لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حَيِّزٍ وجهةٍ والأعراض ليست كذلك.
قلنا : إنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حاصلة بين السموات٧ والأرض.
١ الكشاف ٣/٣٣٤ والقرطبي ١٥/٦٣ والسمين ٤/٥٣٨..
٢ القرطبي والسمين وأبو البقاء ١٠٨٧..
٣ الكشاف ٣/٣٣٤ والمراجع السابقة..
٤ ما بين الأقواس سقط من ب..
٥ انظر البغوي ٦/١٨..
٦ انظر الرازي ٢٦/١١٨..
٧ نقله الإمام الرازي في التفسير الكبير ١١٨ و ١١٩ ج ٢٦..
قوله: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب﴾ قرأ عاصم براية أبي بكر: «بِزينَةٍ» منونة ونصب «الكواكب» وفيه وجهان:
275
أحدهما: أن تكون الزنية مصدراً وفاعله محذوف بأن زين الله الكواكب في كونها مضيئةً حسنةً في أنفسها.
والثاني: أن الزينة اسم لما يزان به كاللِّيقَةِ اسم لما يُلاَقُ به الدَّوَاة فتكون الكواكب على هذا منصوبة بإضمار أعني أو يكون بدلاً من (ال) سَّمَاء الدُّنْيَا بدل اشتمال أي كواكبها أو من محل «بزينَةٍ» وحَمْزةُ وحفصٌ كذلك إلا أنهما خفضا الكواكب على أن يراد بزينة ما يزان به، والكواكب بدل أو بيان للزينة وهي قراءة مسروق بن الأجدع قال الفراء: وهو رد معرفة على نكرة كقوله: «بالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ» فرد نكرة على معرفة وقال الزجاج: الكواكب بدل من الزينة لأنها هي كقولك: «مَرَرْتُ بأَبِي عَبْد اللَّه زَيْدٍ» والباقون بإضالة زينَة إلى الكواكب وهي تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون إضافة أعم إلى أخص فتكون للبيان نحو: ثَوْبُ خَزَّ.
الثاني: أنها مصدر مضاف لفاعله أي بأن زَيَّنَتِ الكَوَاكِبُ السَّمَاءَ بضَوْئِهَا.
والثالث: أنه مضاف لمفعوله أي بأن زينها الله بأن جعلها مشرقة مضئية في نفسها وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها وبرفع الكواكب فإن جَعَلْتَهَا مصدراً
276
ارتفع الكواكب به، وإن جعلتها اسماً لما يزان به فعلى هذا ترفتع «الكواكب» بإضمار مبتدأ أي هي الكواكب. وهي في قوة البدل ومنع الفراء إعمال المصدر المنون ورغم أنه لم يُسْمعْ وهو غلط لقوله تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ [البلد: ١٤] كما سيأتي إن شَاءَ اللَّهُ. قوله: «وَحِفْظاً» منصوب على المصدر، بإضمار فعل أي حَفِظْنَاهَا حِفظاً، وإما على المفعول من أجله على زيادة الواو والعامل فيه زَيَّنَّا أو على أن يكون العامل مقدراً أي لحِفْظِهَا زَيَّنَّا أو على الحمل على المعنى المتقدم أي: إنا خلقنا السماء الدينا زينةً وحفظاً، و «مِنْ كُلّ» ويجوز أن يكون صفةً «لِحفْظاً» قال المبرد: إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصرد فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله كقولك: أفْعَلُ وكَرَامَةً لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف فكان المعنى أفْعَل ذَاكَ واُكْرِمُكَ كَرَامَةً.

فصل


قال ابن عباس «زينا السماء الدينا» بضوء الكواكب «وحفظناها من كل شيطان مارد» متمرد يرمون بها، وتقدم الكلام على المارد عن قوله: ﴿مَرَدُواْ عَلَى النفاق﴾ [التوبة: ١٠١] واعمل أنه تعالى بين أنه زين السماء لمنفعتين:
إحداهما: تحصل الزينة.
والثانية: الحفظ من الشيطان المارد.
فإن قيل: ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات السِّتَّةِ المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب؟.
277
فالجواب: أن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدو (نَ) هَا مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب﴾ وأيضاً فكون هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن لم يتم دليل الفلاسفة عليه.
فن قيل: هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله المساء بها أم لا؟ والأول باطل لأن هذه الشهب تَبْطُل وتَضْمَحِّل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقة لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير ألبتة وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض وإن كانت هذه الشهب جنساً آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو أيضاً مُشْكِل لأنه تعالى قال في سورة الملك: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: ٥] فالضمير في قوله: «وَجَعَلْنَاهَا» عائد إلى المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعينها.
فالجواب: أن الشهبَ غير تلك الكواكب الثاتبة وأما قوله تعالى: «ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين» فنقو (ل) كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الأرض آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين إلى حيث يعلمون وبهذا يزول الإشكال.
فإن قيل: كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة وهل يمكن أن يصدر (مثل) هذا الفعل عن عاقل فكيف من الشياطين الذين لهم مَزِيَّة في معرفة الحِيل الدقيقة؟.
فالجواب: أن حصول هذه الحال ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز ان يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنهم لا تصيبهم الشهب فيما كما يجوز فيمن سَلَك البَحْرَ أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه يغلب على ظنه حصول النجاة. هذا ما ذكره أبو عَلِيٍّ الجُبَّائي في الجواب عن (
278
هذا) السؤال في تفسيره وفي هذا الجواب نظر فإن السموات ليس فيها موضع خال من الملائكة لقوله - عليه (الصلاة و) السلام -: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إلاَّ وَفيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ سَاجِدٌ»
قال ابن الخطيب ولقائل أن يقول: إنهم إذا صعدوا إما أن يَصِلوا إلى مواضع (الملائكة) وإلى غير (تلك) المواضع فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احترقوا وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصود أصلاً وعلى كلا التقديرين فالمقصود غير حاصل. وإذا كان الفوز بالمقصود محالاً وجب أن يمتنعوا عن هذا الفعل وألا يقدموا عليه أصلاً بخلاف حال المسافر في البحر فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود وأما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الإحراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة وإذا لم يصل إلى ذلك الموضع لم يفز بالمقصود فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل البتة والأقرب في الجواب أن يقال هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب نُدْرَتِهَا فيما بين الشياطين. والله أعلم فإن قيل: دلتنا التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ولذلك) فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه وإذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امتنع حمله على مجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أجاب القاضي بأن الأقرب أنَّ هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولكنها كثرت في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصارت بسبب الكثرة معجزةً.
فإن قيل: الشيطان مخلوق من النار كما حكي عن قول إبليس ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ﴾ [الأعراف: ١٢] وقال: ﴿والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم﴾ [الحجر: ٢٧] ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار؟.
فالجواب: يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النِّيران إلا أنَّها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالاً منهم ولا جَرَمَ صار الأقوى للأضعف مبطلاً، ألا ترى أن السراج
279
الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ فكذلك ههنان.
قوله: ﴿لاَّ يَسَّمَّعُونَ﴾ قرأ الأخوان وَحفصٌ بتشديد السين (فالميم) والصل يَسْتَمِعُونَ فأدغم، والباقون بالتخفيف فيهما. واختار أبو عُبَيْدٍ الأولى وقال: لو كان مخففاً لم يتعد بإِلى. وأجيب عنه بأن معنى الكلام لا يسمعون إلى الملأ، وقال مكي: لأنه رجى مجرى مُطَاوِعِهِ وهو يسّمعون فكما كان يسمع يتعدى «بإلى» تعدى سَمِع بإلى، وفَعِلْتُ وافْتَعَلْتُ في التعيدي سواء فتسع مطاوع سمع واستع أيضاً مطاوع سمع فتعدى سمع تعدّي مطاوعه وهذه الجملة منقطعة عما قلها ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير التقدير: مِنْ شَيْطَانٍ مَارِدٍ غير سامع أو مستمع وهو فاسد، ولا يجوز أن يكون جواباً لسؤال سائل: لم تحفظ من الشياطين؟ إذ يفسد معنى ذلك وقال بعضهم: وأصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت «اللام وأن» فارتفع الفعل وفيه تعسف وقَدْ وَهِمَ أبو البقاء فيجوَز أن تكون صفة وأن تكون حالاً وأن تكون مستأنفة فالأولان ظاهِرَا الفساد والثَّالث إنْ غني به الاستنئاف البياني فهو فاسد أيضاً.
وإن أراد الانقطاع على ما تقدم فهو صحيح.

فصل


واحتجوا لقراءة التخفيف بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ﴾ [الشعراء: ٢١٢] وروى مجاهد عن ابن عباس: أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون ولا يسمعون وللأولين أن يجيبوا فيقولوا التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضاً عن التسمع بدلالة هذه الآية بل هذا أقوى في رَدْع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء فإن الذي منع من الاستماع بأن يكون ممنوعاً
280
عن السمع أولى واعلم أن الفرق بين قوله: سَمِعْتُ حَدِيثَ فُلاَن وبين قولك: سمِعْتُ إلى حَدِيثه أنّ قولك: سِمِعْتُ حديثَه يفيد الإدراك وسمعت إلى حديثه يفيد الإصفاء مع الإدراك وفي قوله: «لا يسمعون إلى الملأ الأعلى» قولان أشهرهما: أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا، فلما حذف الناصب صار كقوله: ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦] وقوله: ﴿رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥] قال الزمخشري: حذف اللام وإن كل واحد منهما جائز بانفراده وأما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صون القرآن عنها، قال الزمخشري: إنه كلام منقطع عما قبله وهو حكاية المُسْتَرِقِينَ السمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن المقصود. والملأ الأعلى هم الملائكة الكتبة سكان السموات ومعنى يُقْذَفُونَ يُرْمَوْنَ من كل جانب من آفاق السماء.
قوله: ﴿دُحُوراً﴾ العامة على ضم الدال وفي نصبه أوجه:
أحدهما: المفعول له أي لأجل الطرد.
الثاني: مصدر ليقذفون أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً أو يُقْذَفُون قذفاً فالتجوز إما في الأول وإما في الثاني.
الثالث: أنه مصدر لمقدر أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً.
الرابع: أنه في موضع الحال أي ذَوِي دُحُورٍ أو مَدْحُورِينَ وقيل: هو جمع دَاحِر قَاعِد وقُعُودٍ فيكون حالاً بنفس من غير تأويل قال مجاهد: دحوراً مطرودين. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ ويَقْذِقُونَ مبنياً للفاعل وقرأ علِيُّ والسُّلَمِّي وابنُ أَبِي عَبْلَةَ دَحْوراً بفتح الدال وفيها وجهان:
281
أحدهما: أنه صفة لمصدر مقدر أي قَذْفاً دَحُوراً. وهو كالصَّبُور والشَّكُورِ.
والثاني: أنه مصدر كالقبُول والوَلُوع وقد تقدم أنه محصور في ألفظ، والدُّحُور قال المبرد: أشد الصغار والذل. وقال ابن قتيبة: دَحَرْتُهُ دُحُوراً ودَحْراً أي دَفَعْتُهُ وطَرَدْتُهُ وتقدم في الأعراف عند قوله: ﴿مَذْءُوماً مَّدْحُوراً﴾ [الأعراف: ١٨].
قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ﴾ قال مقاتل: دائم إلى النفخة الأولى وتقدم في سورة النحل في قوله: ﴿وَلَهُ الدين وَاصِباً﴾ [النحل: ٥٢].
قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مرفوع المحل بدلاً من ضمير «لا يَسَّمَّعُونَ» وهو أحسن لأنه غير موجب.
والثاني: أنه منصوب على أصل الاستثناء، والمعنى: أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف قال شهاب الدين: ويجوز أن يكون «من» شرطية وجوابها: «فَأَتْبَعَهُ» أو موصولة وخبرها «فَأَتْبَعَهُ» وهو استثناء منقطع وقد نصوا على أن مثل هذه الجملة تكون استثناء منقطعاً كقوله: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ﴾ [الغاشية: ٢٢، ٢٣] والخَطْفَةُ مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية، وقرأ العامة خَطِفَ بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة، وقتادةُ والحسنُ بكسرهما وتشديد الطاء وهي لغة تميم بن مُرة وبكرة بن وائل وعنهما أيضاً وعن عيسى: بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة وعن الحسن (أيضاً) خطف كالعامة وأصل القراءتين اختطف
282
فلما أريد الإدغام سكنت التاء وقبلها الخاء ساكنة فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين ثم كسرت الطاء إتبعاً لحركة الخاء وهو مفقود وقد وجه على التَّوَهُّم وذلك أنهم لما أرادوا الإدغام نقوا حركة التاء إلى الخاء ففتحت وهم يتوهمون أنهم مكسورة لالتقاء الساكنين - كما تقدم تقريره - فاتبعوا الطاء لحركة الخاء المتوهمة، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في مقتضيات الإعراب فلأن يَفْعَلُوه في غيره أولى. وبالجملة فهو تعليل شذوذ وقرا ابنُ عَبَّاسٍ خِطِفَ بكسر الخاء والطاء خفيفةً وهو إتباع كقولهم: نِعِمْ بكسر النون والعين وقرئ فاتَّبعه بالتشديد.

فصل


ومعنى الخطف أي اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقةً «فأتبعه» أي لحقه شهاب ثاقب كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقلته أو يحرقه قيل: سمي ثاقباً لأنه يَثْقُبُ بنوره سَبْع سمواتٍ. وقال عطاء: سمي النجم الذي يرمي به الشياطين ثاقباً لأنه يَثْقُبُهُمْ وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعاً في السلامة ونيل المراد كراكب البَحْر.
قوله: ﴿فاستفتهم﴾ يعني كفار مكة أي سَلْهُمْ «أهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا» يعني السموات والأرض والجبال. وهو استفهام بمعنى التقرير أي هذه الأشياء أشد خلقاً كقوله: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس﴾ [غافر: ٥٧] وقوله: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا﴾ [النازعات: ٢٧] (وقيل: معنى) أَمَّنْ خَلَقْنَا (يعني) : من الأمم الخالية لأن مَن تذكر لمن يعقل والمعنى أن هؤلاء ليسوا بأحكَم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم في ذنوبهم فما الذين يُؤمِّنُ هؤلاء من العذاب.
قوله: ﴿أَم مَّنْ خَلَقْنَآ﴾ العامة على تشديد الميم الأصل أَمْ مَنْ وهي «أَمْ» المتصلة
283
عطفت «من» على «هم» وقرأ الأعمش بتخفيفها وهو استفهام ثانٍ فالهمزة للاستفهام أيضاً و «مَنْ» مبتدأ وخبره محذوف أي الذين خلقناهم أشد، فهما جملتان مستلقتان وغلب من يعقل على غيره ولذلك أتى «بمن» قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ أي جيّد حر لاصق يعْلِقُ باليد. واللازبُ والازمُ بمعنى وقد قرئ: لاَزمٌ لأنه يلزم اليد، وقيل: اللازِبُ اللَّزج.
وقال مجاهد والضحاك: مُنْتِن، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في اللازب بدل من الميم.

فصل


وجه النظم: أنه قد تقرر أن المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيّات والمَعَاد والنُّبُوة وإثبات القَضَاء والقدر فافتتح تعالى هذه السورة بإثبات ما يدل على وُجُود الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته وهو خالق السموات والأرض وما بينهما وَربّ المشارق، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن نم قدر على ما هو أصعب وأشق وجب أن يقدر على ما هو دونه وهو قوله: ﴿فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ﴾ فمن قدر على ما هو أشد وأصعب فبِأن يكونَ قادراً على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى. وأيضاً فقوله: «إنا خلقناهم من طين لازب» يعني أن هذه الأجساد قابلة للحياة إذ لو تكن قابلةً للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والمراد بقوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ يعني أصلهم وهو آدم - عليه (الصلاة و) السلام - رُوِيَ أنَّ القوم قالوا: كيف يعقل تولد الإنسان لا من أبوين ولا من نطفة؟ فكأنه تعالى قال لهم: إنكم لما أقررتم بحُدوثِ العَالَم واعترفتم بأن السموات والأرض وما
284
بينهما إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه فلا بد وأن يعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين فإن اعْتَرَفْتُمْ به فقد سقط قولكم: إن الإنسان كيف يحث من غير نطفة ومن غير الأبوين؟ وأيضاً فقد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من طين لازب ومن قدر على خلق الحياة من الطين اللازب كيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات ويمكن أن يكون المراد بقوله: «إنا خلقناهم من طين لازب» أي كل الناس ووجهه أن الحيوان إنما يتولد من المَنِي ودَم الطَّمْثِ والمني إنما يتولد من الدَّم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغِذَاء، والغذاء إما حيوانيّ وإما نباتيّ، وأما تولد الحيوان الذي صرا غذاءً فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان فثبت أن الأصل في الأغذية هو النبات والنبات إنما تولد من امتزاد الأرض بالماء وهو الطين اللازب فظهر أن كل الخلق (منه) مُتَوَلِّدُونَ من الطِّينِ اللازب وهو قابل للحياة والله تعالى قادر عليها. وهه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصفة في كل الأوقات، وهذه بيانات ظاهرة.
285
قوله :﴿ لاَّ يَسَّمَّعُونَ ﴾ قرأ الأخوان وَحفصٌ بتشديد السين ( فالميم )١ والأصل يَسْتَمِعُونَ فأدغم، والباقون بالتخفيف٢ فيهما. واختار أبو عُبَيْدٍ الأولى وقال : لو كان مخففاً لم يتعد بإِلى٣. وأجيب عنه بأن معنى الكلام لا يسمعون إلى الملأ، وقال مكي : لأنه جرى مجرى مُطَاوِعِهِ وهو يسّمعون فكما كان يسمع يتعدى٤ «بإلى » تعدى سَمِع بإلى، وفَعِلْتُ وافْتَعَلْتُ في التعدي سواء فتسمع مطاوع سمع واستمع أيضاً مطاوع سمع فتعدى سمع تعدّي مطاوعه٥. وهذه الجملة منقطعة عما قبلها ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير٦ التقدير : مِنْ كل شَيْطَانٍ مَارِدٍ غير سامع أو مستمع وهو فاسد، ولا يجوز أن يكون جواباً لسؤال سائل : لم تحفظ من الشياطين ؟ إذ يفسد معنى ذلك٧. وقال بعضهم : أصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت «اللام وأن » فارتفع الفعل وفيه تعسف٨. وقَدْ وَهِمَ أبو البقاء فيجوَز أن تكون صفة وأن تكون حالاً وأن تكون مستأنفة٩ فالأولان ظاهِرَا الفساد والثَّالث إنْ عني به الاستئناف١٠ البياني فهو فاسد أيضاً. وإن أراد الانقطاع على ما تقدم فهو صحيح١١.

فصل


واحتجوا لقراءة التخفيف بقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢١٢ ]. وروى مجاهد عن ابن عباس : أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون ولا يسمعون وللأولين أن يجيبوا فيقولوا التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضاً عن التسمع١٢ بدلالة هذه الآية بل هذا أقوى في رَدْع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء فإن الذي منع من الاستماع بأن يكون ممنوعاً عن السمع أولى١٣ واعلم أن الفرق بين قولك : سَمِعْتُ حَدِيثَ فُلاَن وبين قولك : سمِعْتُ إلى حَدِيثه أنّ قولك : سِمِعْتُ حديثَه يفيد الإدراك وسمعت إلى حديثه يفيد الإصفاء مع الإدراك١٤، وفي قوله :«لا يسمعون إلى الملأ الأعلى » قولان أشهرهما : أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا، فلما حذف الناصب صار كقوله :﴿ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] وقوله :﴿ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [ النحل : ١٥ ]. قال الزمخشري : حذف١٥ اللام وإن كل واحد منهما جائز بانفراده وأما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صون القرآن عنها، قال الزمخشري : إنه كلام منقطع عما قبله وهو حكاية المُسْتَرِقِينَ السمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن المقصود١٦. والملأ الأعلى هم الملائكة الكتبة سكان السموات ومعنى يُقْذَفُونَ يُرْمَوْنَ من كل جانب من آفاق السماء١٧.
١ سقط من ب..
٢ من القراءات المتواترة انظر: السبعة ٥٤٧ والإتحاف ٣٦٨، والقرطبي ١٥/٦٥ والنشر ٢/٣٥٦ ومعاني الفراء ٢/٣٨٣..
٣ القرطبي ١٥/٦٥ والسمين ٤/٥٣٩..
٤ في ب: تعدى..
٥ قاله في مشكل إعراب القرآن ٢/٢٣٤، وانظر أيضا الكشف له ٢/٢٢٢..
٦ في ب: يعتبر..
٧ هذا توجيه الزمخشري في الكشاف ٣/٣٣٥ و ٣٣٦ وأبي حيان في البحر ٧/٢٥٢ و ٣٥٣ وانظر: الدر المصون ٤/٥٣٩..
٨ نقلته المراجع الثلاثة السابقة..
٩ التبيان ١٠٨٨..
١٠ هو أن تكون الثانية –أي الجملة الثانية- بمنزلة جواب لسؤال اقتضته الجملة الأولى، الإيضاح للقزويني ١١٥-١١٧ وهذا ليس منه بالطبع..
١١ الكشاف ٣/٣٣٦ والدر المصون ٤/٥٤٠..
١٢ في ب: التسميع..
١٣ الرازي ٢٦/١٢٢..
١٤ الكشاف ٣/٣٣٦. والرازي ٢٦/١٢٢..
١٥ سبق أنه في ٣/٣٣٦..
١٦ المرجع السابق..
١٧ انظر: البغوي ٦/١٩ وزاد المسير لأبي الفرج ابن الجوزي ٧/٤٧ والقرطبي ١٥/٦٥..
قوله :﴿ دُحُوراً ﴾ العامة على ضم الدال. وفي نصبه أوجه :
أحدها : المفعول له أي١ لأجل الطرد.
الثاني : مصدر ليقذفون أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً أو يُقْذَفُون قذفاً فالتجوز إما في الأول وإما٢ في الثاني.
الثالث : أنه مصدر لمقدر أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً٣.
الرابع : أنه في موضع الحال أي ذَوِي دُحُورٍ أو مَدْحُورِينَ٤. وقيل : هو جمع دَاحِر نحو قَاعِد وقُعُودٍ فيكون حالاً بنفسه من غير تأويل٥. قال مجاهد : دحوراً مطرودين. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ ويَقْذِقُونَ مبنياً للفاعل٦ وقرأ علِيُّ والسُّلَمِّي وابنُ أَبِي عَبْلَةَ دَحْوراً بفتح٧ الدال وفيها وجهان :
أحدهما : أنه صفة لمصدر مقدر أي قَذْفاً دَحُوراً. وهو كالصَّبُور والشَّكُورِ.
والثاني : أنه مصدر كالقبُول والوَلُوع٨ وقد تقدم أنه محصور في ألفاظ، والدُّحُور قال المبرد : أشد الصغار٩ والذل. وقال ابن قتيبة : دَحَرْتُهُ دُحُوراً ودَحْراً أي دَفَعْتُهُ وطَرَدْتُهُ١٠. وتقدم في الأعراف عند قوله :﴿ مَذْءُوماً مَّدْحُوراً ﴾ [ الأعراف : ١٨ ].
قوله :﴿ وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ ﴾ دائم١١، قال مقاتل : دائم إلى النفخة الأولى١٢. وتقدم في سورة النحل في قوله :﴿ وَلَهُ الدين وَاصِباً ﴾ [ النحل : ٥٢ ].
١ هذا رأي الكشاف وصاحبه ٣/٣٣٦..
٢ قاله أيضا صاحب الكشاف ونقله أبو حيان في البحر ٧/٣٥٢ قال صاحب الكشاف: أو لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى فكأنه قيل: يدحرون (دحورا أو يقذفون) قذفا. الكشاف ٣/٣٣٦ وهذا رأي قال به أبو البقاء أيضا هو وسابقه. التبيان ١٠٨٨..
٣ قاله في البيان في غريب إعراب القرآن ٢/٣٠٣ وأما المشكل في الإعراب ٢/٢٣٥ فقد جعله مصدرا ليقذفون التوجيه السابق. وأورد هذا الرأي أيضا التبيان ١٠٨٨..
٤ الكشاف والتبيان المرجعان السابقان..
٥ قاله أبو البقاء ١٠٨٨ وانظر في هذا كله السمين ٤/٥٤٠..
٦ البحر ٧/٣٥٣ والسمين ٤/٥٤٠ ونسبها في المختصر إلى السلمي ١٢٨..
٧ المحتسب ٢/٢١٩ وابن خالويه ١٢٧ والكشاف ٣/٣٣٦ والفراء ٢/٣٨٣..
٨ قال بالوجهين الزمخشري في الكشاف ٣/٣٣٦ وبالثاني فقط ابن جني في المحتسب ٢/٢١٩ وأجاز الفراء وابن جني في نصبه أن يكون على نزع الخافض أي ويقذفون من كل جانب بداحر..
٩ الرازي ٢٦/١٢٣..
١٠ غريب القرآن ٣٦٩..
١١ قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٣٦٩ وأبو عبيدة في المجاز ٢/١٦٦ و ١٦٧..
١٢ البغوي ٦/١٩..
قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه مرفوع المحل بدلاً من ضمير «لا يَسَّمَّعُونَ »١ وهو أحسن لأنه غير موجب.
والثاني : أنه منصوب على أصل الاستثناء، والمعنى : أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف٢، قال شهاب الدين : ويجوز أن يكون «من » شرطية وجوابها :«فَأَتْبَعَهُ »٣ أو موصولة٤ وخبرها «فَأَتْبَعَهُ ». وهو استثناء منقطع وقد نصوا على أن مثل هذه الجملة تكون استثناء منقطعاً كقوله :﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ ﴾٥ [ الغاشية : ٢٢، ٢٣ ] والخَطْفَةُ مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية٦، وقرأ العامة خَطِفَ بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة، وقتادةُ والحسنُ بكسرهما وتشديد الطاء٧. وهي لغة تميم بن مُرة وبكرة بن وائل٨. وعنهما أيضاً وعن عيسى : بفتح الخاء وكسر الطاء٩ مشددة وعن الحسن ( أيضاً )١٠ خطف كالعامة١١. وأصل القراءتين اختطف فلما أريد الإدغام سكنت التاء وقبلها الخاء ساكنة فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين ثم كسرت الطاء إتباعاً لحركة الخاء وهذه [ الأولى ] واضحة. وأما الثانية١٢ فمشكلة جدا لأن كسر الطاء إنما كان لكسر الخاء وهو مفقود. وقد وجه على التَّوَهُّم وذلك أنهم لما أرادوا الإدغام نقوا حركة التاء إلى الخاء ففتحت وهم يتوهمون أنهم مكسورة لالتقاء الساكنين - كما تقدم تقريره- فأتبعوا الطاء لحركة١٣ الخاء المتوهمة، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في مقتضيات الإعراب فلأن يَفْعَلُوه في غيره أولى. وبالجملة فهو تعليل شذوذ١٤ وقرا ابنُ عَبَّاسٍ خِطِفَ بكسر الخاء والطاء خفيفةً١٥. وهو إتباع كقولهم : نِعِمْ بكسر النون والعين وقرئ فاتَّبعه بالتشديد١٦.

فصل


ومعنى الخطف أي اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقةً «فأتبعه » أي لحقه شهاب ثاقب كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقتله١٧ أو يحرقه، قيل : سمي ثاقباً لأنه يَثْقُبُ بنوره سَبْع١٨ سمواتٍ. وقال عطاء : سمي النجم الذي يرمى به الشياطين ثاقباً لأنه يَثْقُبُهُمْ وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعاً في السلامة ونيل المراد كراكب البَحْر.
١ قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣/٣٣٦ والبحر ٧/٣٥٣ والسمين في الدر ٤/٥٤٠..
٢ أي إن الاستثناء في تلك الحال متصل وفيه الوجهان المعهودان النصب على الاستثناء والرفع على البدلية أو الإتباع عامة إذا كان تاما منفيا كآيتنا هذه. وقال بالوجه الأول والأخير أيضا أبو البقاء في التبيان ١٠٨٨ وانظر: البحر والكشاف والدر المراجع السابقة أيضا..
٣ فتكون في محل جزم..
٤ مبتدأ..
٥ الدر المصون للسمين ٤/٥٤٠..
٦ قاله أبو البقاء ٢/١٠٨٨..
٧ من الأربع فوق العشرة المتواترة انظر: الإتحاف ٣٦٨ والكشاف ٣/٣٣٦..
٨ البحر ٧/٣٥٣..
٩ البحر ٧/٣٥٣ والكشاف ٣/٣٣٦..
١٠ سقط من ب..
١١ ابن خالويه ١٢٧ ويقصد بالقراءتين خطف وخطف السابقين وانظر تلك القراءات كلها في الدر المصون ٤/٥٤١..
١٢ يقصد بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة خطف..
١٣ في ب: بحركة..
١٤ قاله في البحر ٧/٣٥٣ والسمين في الدر ٤/٥٤١ والبناء في إتحاف فضلاء البشر ٣٦٨..
١٥ من القراءات الشاذة غير المتواترة وانظرها في مختصر ابن خالويه ١٢٧ والبحر ٧/٣٥٣ والسمين ٤/٥٤١ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤١٢..
١٦ لم يعزها كل من أبي حيان والزمخشري في مرجعيهما السابقين وقد عزاها صاحب الشواذ- شواذ القرآن- إلى قتادة والحسن وانظره ص ٢٠٥..
١٧ في ب: فيقتله..
١٨ رأي الرازي ٢٦/٢٤..
قوله :﴿ فاستفتهم ﴾ يعني كفار مكة أي سَلْهُمْ «أهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا » يعني السموات والأرض والجبال. وهو استفهام بمعنى التقرير أي هذه الأشياء أشد خلقاً١ كقوله :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ﴾ [ غافر : ٥٧ ] وقوله :﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا ﴾ [ النازعات : ٢٧ ]. ( وقيل٢ : معنى ) أَمَّنْ خَلَقْنَا ( يعني٣ ) : من الأمم الخالية لأن مَن تذكر لمن يعقل. والمعنى أن هؤلاء ليسوا بأحكَم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم في ذنوبهم فما الذين يُؤمِّنُ هؤلاء من العذاب٤.
قوله :﴿ أَمَّنْ خَلَقْنَآ ﴾ العامة على تشديد الميم. الأصل أَمْ مَنْ وهي «أَمْ » المتصلة عطفت «من » على «هم »٥ وقرأ الأعمش بتخفيفها٦ وهو استفهام ثانٍ٧، فالهمزة للاستفهام أيضاً و «مَنْ » مبتدأ وخبره محذوف أي الذين خلقناهم أشد، فهما جملتان مستقلتان٨، وغلب من يعقل على غيره ولذلك أتى «بمن »٩ قوله :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾ أي جيّد حر لاصق يعْلِقُ باليد. واللازبُ واللازمُ بمعنى١٠. وقد قرئ : لاَزمٌ١١، لأنه يلزم اليد، وقيل : اللازِبُ اللَّزج١٢.
وقال مجاهد والضحاك : مُنْتِن١٣، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في اللازب بدل من الميم١٤.

فصل


وجه النظم١٥ : أنه قد تقرر أن المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيّات والمَعَاد والنُّبُوة وإثبات القَضَاء والقدر فافتتح تعالى هذه السورة بإثبات ما يدل على وُجُود الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته وهو خالق السموات والأرض وما بينهما وَربّ المشارق، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن من قدر على ما هو أصعب وأشق وجب أن يقدر على ما هو دونه وهو قوله :﴿ فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ ﴾ فمن قدر على ما هو أشد وأصعب فبِأن يكونَ قادراً على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى. وأيضاً فقوله :«إنا خلقناهم من طين لازب » يعني أن هذه الأجساد قابلة للحياة إذ لو تكن قابلةً للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والمراد بقوله :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾ يعني أصلهم وهو آدم - عليه ( الصلاة و ) السلام - رُوِيَ أنَّ القوم قالوا : كيف يعقل تولد الإنسان لا من أبوين ولا من نطفة ؟ فكأنه تعالى قال لهم : إنكم لما أقررتم بحُدوثِ العَالَم واعترفتم بأن السموات والأرض وما بينهما إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه فلا بد وأن يعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين فإن اعْتَرَفْتُمْ به فقد سقط قولكم : إن الإنسان كيف يحدث من غير نطفة ومن غير الأبوين ؟ وأيضاً فقد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من طين لازب ومن قدر على خلق الحياة من الطين اللازب كيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات ويمكن أن يكون المراد١٦ بقوله :«إنا خلقناهم من طين لازب » أي كل الناس ووجهه أن الحيوان إنما يتولد من المَنِي ودَم الطَّمْثِ والمني إنما يتولد من الدَّم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغِذَاء، والغذاء إما حيوانيّ وإما نباتيّ، أما تولد الحيوان الذي صار غذاءً فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان فثبت أن الأصل في الأغذية هو النبات والنبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب فظهر أن كل الخلق ( منه )١٧ مُتَوَلِّدُونَ من الطِّينِ اللازب وهو قابل للحياة والله تعالى قادر عليها. وهذه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصفة في كل الأوقات، وهذه بيانات ظاهرة. ١٨
١ انظر: معالم التنزيل للبغوي ٦/١٩..
٢ سقطا من نسخة ب..
٣ سقطا من نسخة ب..
٤ نقله الإمام البغوي في تفسيره أيضا ٦/١٩ كما نقله الخازن في لباب التأويل عن البغوي ٦/١٩ أيضا..
٥ من قوله تعالى: ﴿أهم أشد خلقا﴾..
٦ أي أمن ولم ترو هذه القراءة عنه إلا في الشواذ فلم أجدها في الكتب المتواترة ونسبها إليه أبو حيان والسمين ولم ينسبها الزمخشري. انظر: البحر ٧/٣٥٤ والدر ٤/٥٤١ والكشاف ٣/٣٣٧..
٧ يقصد بالأول: أهم أشد خلقا وبالثاني: أم من خلقنا..
٨ قاله الزمخشري في المرجع السابق والسمين في الدر ٤/٥٤١..
٩ المرجعين السابقين..
١٠ قاله أبو إسحاق الزجاج في المعاني ٤/٢٩٩..
١١ نقلها صاحب الكشاف قراءة لا لغة انظر: الكشاف ٣/٣٣٧ وانظرها كقراءة في الدر المصون ٤/٥٤١..
١٢ نقله الرازي في تفسيره ٢٦/١٢٥..
١٣ السابق وانظر البغوي ٦/١٩..
١٤ لتقارب المخارج وانظر مجاز القرآن ٢/١٦٧ وغريب القرآن ٣٦٩ والقرطبي ١٥/٦٨ و ٦٩. وحكى الفراء عن قيس أنهم يقولون لازب ولاتب. واللاتب الثابت. المعاني ٢/٣٨٤ وانظر: اللسان :"ل ز ب" ٤٠٢٦ و "ل ز م" ٤٠٢٧ ولزب أفصح من لزم..
١٥ قال بهذا الإمام الرازي في التفسير الكبير ٢٦/١٢٤..
١٦ في ب: من قوله..
١٧ زيادة من "أ" لا معنى لها..
١٨ وانظر في هذا كله تفسير الرازي ٢٦/١٢٤ و ١٢٥..
قوله: ﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾ قرأ الأَخَوَانِ بضم التاء والباقون بفتحها فالفتحُ ظاهر وهو ضمير الرسول أو كل من يصح منه ذلك وأما الضم فعلى صرفه للمخاطب أي قُلْ يا محمد بل عَجِبْتُ أنا، أو على إسناده للباري تعالى على ما يليق به وقد تقدم هذا في البقرة وما ورج منه في الكتابِ والسنة. وعن شُرَيْحٍ أنه أنركها وقال: اللَّهُ لا يَعجَبُ فبلغت إبْرَهِيمَ النَّخَعِيِّ فقال: إنَّ شريحاً كان مُعْجَباً برأيه قرأها مَنْ هو أعلم (منه) ؛
285
يعني عبد اللَّهِ بن مسعود وابن عباس والعَجَبُ من الله ليس كالتَّعَجُّب من الآدميين كما قال: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ [التوبة: ٧٩] وقال: ﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧] فالعجب من الآدميين إنكاره وتعظيمه والعُجْب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذَّمِّ وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث: «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ شَابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ» وقوله: «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِن إِلِّكُمْ وقُنُوطِكِمْ وسُرْعَةِ إجَابتِهِ إيَّاكُمْ» وسُئِلَ جُنَيْدٌ من هذه الآية فقال: إن الله لا يعجب من شيءولكن اللَّهَ وافق رسولَه لمَّا عِجِبَ رسولُهُ وقال: ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ أي هو كما تقوله.
قوله: ﴿وَيَسْخُرُونَ﴾ يجوز أن يكون استئنافاً وهو الأظهر وأن يكون حالاً والمعنى أي عجبت من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك، وقالد قتادة: عَجِبَ نَبِيُّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن فسخروا منه ولم يؤمنوا عجب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ذلك فقال الله تعالى: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ﴾ وَإِذَاَ ذُكِّرُوا لاَ يّذْكُرُونَ «أي إذا وَعِظُوا بالقرآن لا يَتَّعِظُونَ.
وقرأ (جَنَاحُ) بن حبيش»
ذُكِرُوا «مخففاً» وإذا رأوا آية «قال ابن عباس ومقاتل: يعني انْشِقَاقَ القمر» يَسْتَسْخِرُون «يسخرون ويستهزئون، وقيل: يستدعي بعضُهم عن بعض السخرية وقرئ» يستستخرون «بالحاء المهملة» وَقَالُوا إنْ هَذَا
286
إلاَّ سِحْر مُبينٌ « (أي سحر بَيِّن) يعني إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها لاعتقادهم أنها من باب السحر.

فصل


قال ابن الخطيب: والذي عندي في هذا الباب أن يقال: القوم كانوا يَسْتَبْعِدثون الحَشْر والقيامة وبقولون من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه؟ وبقوا في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يخسرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك ولا طريق إلى إزالة هذا الاستباد إَلاَّ من وجهين:
أحدهما: أن يذكر لهم الدليل على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم: هل تعلمون أن القادر عل الأصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل.
فهذا الدليل وإن كان جَلِيًّا قويًّا إلا أن (ذكر) أولئك المنكرين إذا عرض على قلوبهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يتذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جَرَمَ لم ينتفعوا بهذا الدليل.
والطريق الثاني: أن يثبت الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رسالته بالمعجزات ثم يقول: لما ثبت بالمعجزة كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حَقٌّ ثم إنّ أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة وآية باهرة حملوها على أنها سِحْرٌ وسَخِرُوا منها واسْتَهْزَأُوا بها وهذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وقالوا إِن هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾
قوله: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ وهذا بيان للسَّبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط (بتراب) الأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم. فهذا الإنسان كيف يعقل عَوْدُه بعينه حيًّا ثانياً؟! ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال: قُلْ (لَهُمْ) يا محمد «نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُون»
أي نعم تبعثون وأنتم صاغرون، والدخور أشد الصغار وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي على أنه (أمر) ممكن وإذا ثبت الجواب القطعي فلا سبيل
287
إلى القطع بالوقوع إلا بأخبار المخبر الصادق فلما قامت المعجزات على صدق محمد - عليه (الصلاة و) السلام - كان واجب الصدق فكان مجرد قوله: «نَعَمْ» دليلاً قاطعاً على الوقوع.
قوله: ﴿أَوَ آبَآؤُنَا﴾ قرأ ابنُ عَامر وقالون: بسكون الواو على أنها «أَوْ» العاطفة المقتضية للشك والباقون بفتحها على أنها همزة استفهام دخلت على واو العطف، وهذا الخلاف جار أيضاً في «الواقعة» وتقدم مثل هذا في الأعراق في قوله: ﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى﴾ [الأعراف: ٩٨] فمن فتح الواو أجاز في: «آبَاؤُنَا» وجهين:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على محل إن واسمها.
والثاني: أن يكون معطوفاً على الضمير المستتر في: «لَمَبْعُوثُونَ» واستغني بالفصل بهمزة الاستفهام، ومن سكنها تعين فيما الأول دون الثاني على قول الجمهور لعدم الفاصل، وقد أَوْضَحَ هذا الزمخشريُّ حيث قال: «أو آباؤنا» معطوف على محل إنَّ واسمها أو على الضمير في: «لَمَبْعُوثُونَ» والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام قال أبو حيان: أما قوله معطوف على محل «إنّ» واسمها فمذهب سيبويه خلافه فإن قولك: «إنَّ زَيْداً قَائِمٌ وعمرو» وعمرو فيه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، وأما قوله: أو على الضمير في لمبعوثون (الخ...
.. فلا يجوز أيضاً؛ لأن همزة
288
الاستفهام لا تدخل إلى على الجمل لا على المفرد؛ لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بواسطة حرف العطف وهمزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما بعدها، فقوله: ﴿أَوَ آَبَاؤُنَا﴾ مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا قلت: أما الرد الأول: فلا يلزم لأنه لا يُلْتَزَمُ مذهب سيبويه وأما الثاني: فإن الهمزة مؤكدة للأولى فهي داخلة في الحقيقة على الجملة إلا أنه فصل بين الهمزتين بإنّ واسْمِهَا وخبرها. ويدل على هذا ما قاله هو في سورة الواقعة فإنه قال: دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف، فإن قلت: كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون) من غير تأكيد بنحن؟ قلت: حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله: ﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] لفصل (لا) المؤكدة للنفي لأن لا مؤكدة للنفي المتقدم بما إلا أن هذا مشكلٌ بأن الحرف إذا كرر للتأكيد لم يُعَدْ في الأمر العام إلا بإعادة ما اتصل به أولاً أو بضميره. وقد مضى القول فيه وتحصل في رفع «آباؤنا» ثلاثة أوجه: العطف على الابتداء والخبر مضمر والعامل في «إذا» محذوف أي: أَنُبْعَثُ إذَا مِتْنَا هذا غذا جعلتها ظرفاً غير متضمن لمعنى الشرط، فإن جعلتها شرطية كان جوباها عاملاً فيها أي إذا متنا بُعِثْنَا أوْ حُشِرْنَا.
وقرئ «إذَا» دون استفام وقد مضى القول فيه في الرعد.
289
قوله: ﴿وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ﴾ جملة حالية العامل فيها الجملة القائمة مقامها «نعَمْ» أي تبعثون وأنتم صاغرون أذلاَّء قال أبو حيان: وقرأ ابن وَثّاب «نِعِمْ» بكسر العين تقدم أن الكسائي قرأها كذلك حيث وقَعتْ وكلامه هنا موهم أن ابن وثاب منفردٌ بها.
290
وقرأ ( جَنَاحُ )١ بن حبيش «ذُكِرُوا » مخففاً٢، «وإذا رأوا آية » قال ابن عباس ومقاتل : يعني انْشِقَاقَ القمر٣ «يَسْتَسْخِرُون » يسخرون ويستهزئون، وقيل : يستدعي بعضُهم عن بعض السخرية٤ وقرئ «يستسحرون » بالحاء المهملة٥. «وَقَالُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْر مُبينٌ » ( أي سحر٦ بَيِّن ) يعني إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها لاعتقادهم أنها من باب السحر.

فصل


قال ابن الخطيب : والذي عندي في هذا الباب أن يقال : القوم كانوا يَسْتَبْعِدون الحَشْر والقيامة ويقولون من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه ؟ وبقوا٧ في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يسخرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك ولا طريق إلى إزالة هذا الاستبعاد إَلاَّ من وجهين :
أحدهما : أن يذكر لهم٨ الدليل على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم : هل تعلمون أن القادر على الأصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل.
فهذا الدليل وإن كان جَلِيًّا قويًّا إلا أن ( ذكر )٩ أولئك المنكرين إذا عرض على قلوبهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يتذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جَرَمَ لم ينتفعوا بهذا الدليل.
والطريق الثاني : أن يثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسالته بالمعجزات ثم يقول : لما ثبت بالمعجزة كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حَقٌّ ثم إنّ أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة١ وآية باهرة حملوها على أنها سِحْرٌ وسَخِرُوا منها واسْتَهْزَأُوا بها. وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وقالوا إِن هذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾
١ سقط من ب..
٢ من الشاذات غير المتواترات. ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٧ كما ذكرها أبو حيان في البحر ٧/٣٥٥ والسمين في الدر المصون ٤/٥٤٢..
٣ زاد المسير ٧/٥١ ومعالم التنزيل ٦/٢٠..
٤ السابق. وقال ابن قتيبة: يقال سخر واستسخر كما يقال: قر واستقر. ومثله : عجب واستعجب. الغريب ٣٧٠ والمجاز ٢/١٦٧..
٥ من السحر. ولم يحدد أبو حيان ومن بعده السمين من قرأ بها. البحر ٧/٣٥٥ والدر ٤/٥٤٢..
٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٧ في تفسيره وبلغوا..
٨ كذا في (أ) والرازي. وفي ب: لهما. تحريف..
٩ زيادة على تفسيره..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:وقرأ ( جَنَاحُ )١ بن حبيش «ذُكِرُوا » مخففاً٢، «وإذا رأوا آية » قال ابن عباس ومقاتل : يعني انْشِقَاقَ القمر٣ «يَسْتَسْخِرُون » يسخرون ويستهزئون، وقيل : يستدعي بعضُهم عن بعض السخرية٤ وقرئ «يستسحرون » بالحاء المهملة٥. «وَقَالُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْر مُبينٌ » ( أي سحر٦ بَيِّن ) يعني إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها لاعتقادهم أنها من باب السحر.

فصل


قال ابن الخطيب : والذي عندي في هذا الباب أن يقال : القوم كانوا يَسْتَبْعِدون الحَشْر والقيامة ويقولون من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه ؟ وبقوا٧ في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يسخرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك ولا طريق إلى إزالة هذا الاستبعاد إَلاَّ من وجهين :
أحدهما : أن يذكر لهم٨ الدليل على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم : هل تعلمون أن القادر على الأصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل.
فهذا الدليل وإن كان جَلِيًّا قويًّا إلا أن ( ذكر )٩ أولئك المنكرين إذا عرض على قلوبهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يتذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جَرَمَ لم ينتفعوا بهذا الدليل.
والطريق الثاني : أن يثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسالته بالمعجزات ثم يقول : لما ثبت بالمعجزة كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حَقٌّ ثم إنّ أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة١ وآية باهرة حملوها على أنها سِحْرٌ وسَخِرُوا منها واسْتَهْزَأُوا بها. وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وقالوا إِن هذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾
١ سقط من ب..
٢ من الشاذات غير المتواترات. ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٧ كما ذكرها أبو حيان في البحر ٧/٣٥٥ والسمين في الدر المصون ٤/٥٤٢..
٣ زاد المسير ٧/٥١ ومعالم التنزيل ٦/٢٠..
٤ السابق. وقال ابن قتيبة: يقال سخر واستسخر كما يقال: قر واستقر. ومثله : عجب واستعجب. الغريب ٣٧٠ والمجاز ٢/١٦٧..
٥ من السحر. ولم يحدد أبو حيان ومن بعده السمين من قرأ بها. البحر ٧/٣٥٥ والدر ٤/٥٤٢..
٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٧ في تفسيره وبلغوا..
٨ كذا في (أ) والرازي. وفي ب: لهما. تحريف..
٩ زيادة على تفسيره..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:وقرأ ( جَنَاحُ )١ بن حبيش «ذُكِرُوا » مخففاً٢، «وإذا رأوا آية » قال ابن عباس ومقاتل : يعني انْشِقَاقَ القمر٣ «يَسْتَسْخِرُون » يسخرون ويستهزئون، وقيل : يستدعي بعضُهم عن بعض السخرية٤ وقرئ «يستسحرون » بالحاء المهملة٥. «وَقَالُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْر مُبينٌ » ( أي سحر٦ بَيِّن ) يعني إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها لاعتقادهم أنها من باب السحر.

فصل


قال ابن الخطيب : والذي عندي في هذا الباب أن يقال : القوم كانوا يَسْتَبْعِدون الحَشْر والقيامة ويقولون من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه ؟ وبقوا٧ في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يسخرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك ولا طريق إلى إزالة هذا الاستبعاد إَلاَّ من وجهين :
أحدهما : أن يذكر لهم٨ الدليل على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم : هل تعلمون أن القادر على الأصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل.
فهذا الدليل وإن كان جَلِيًّا قويًّا إلا أن ( ذكر )٩ أولئك المنكرين إذا عرض على قلوبهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يتذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جَرَمَ لم ينتفعوا بهذا الدليل.
والطريق الثاني : أن يثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسالته بالمعجزات ثم يقول : لما ثبت بالمعجزة كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حَقٌّ ثم إنّ أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة١ وآية باهرة حملوها على أنها سِحْرٌ وسَخِرُوا منها واسْتَهْزَأُوا بها. وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وقالوا إِن هذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾
١ سقط من ب..
٢ من الشاذات غير المتواترات. ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٧ كما ذكرها أبو حيان في البحر ٧/٣٥٥ والسمين في الدر المصون ٤/٥٤٢..
٣ زاد المسير ٧/٥١ ومعالم التنزيل ٦/٢٠..
٤ السابق. وقال ابن قتيبة: يقال سخر واستسخر كما يقال: قر واستقر. ومثله : عجب واستعجب. الغريب ٣٧٠ والمجاز ٢/١٦٧..
٥ من السحر. ولم يحدد أبو حيان ومن بعده السمين من قرأ بها. البحر ٧/٣٥٥ والدر ٤/٥٤٢..
٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٧ في تفسيره وبلغوا..
٨ كذا في (أ) والرازي. وفي ب: لهما. تحريف..
٩ زيادة على تفسيره..

قوله :﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾١ وهذا بيان للسَّبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط ( بتراب )٢ الأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم. فهذا الإنسان كيف يعقل عَوْدُه بعينه حيًّا ثانياً ؟ ! ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال : قُلْ ( لَهُمْ )٣ يا محمد «نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُون » أي نعم تبعثون وأنتم صاغرون، والدخور أشد الصغار وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي٤ على أنه ( أمر )٥ ممكن وإذا ثبت الجواب القطعي فلا سبيل إلى القطع بالوقوع إلا بأخبار المخبر٦ الصادق فلما قامت المعجزات على صدق محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام - كان واجب الصدق فكان مجرد قوله :«نَعَمْ » دليلاً قاطعاً على الوقوع. ٧
١ وانظر تفسيره ٢٦/١٢٧ و ١٢٨..
٢ سقط من ب..
٣ زيادة من ب..
٤ في "أ" القطع والرازي هنا موافق ل "ب"..
٥ سقط من ب..
٦ في ب: للمخبر..
٧ وانظر: التفسير الكبير للإمام الرازي ٢٦/١٢٨..
قوله :﴿ أَوَ آبَآؤُنَا ﴾ قرأ ابنُ عَامر وقالون : بسكون الواو على أنها «أَوْ »١ العاطفة المقتضية للشك والباقون بفتحها٢ على أنها همزة استفهام دخلت على واو العطف، وهذا الخلاف جار أيضاً في «الواقعة »٣ وتقدم مثل هذا في الأعراف في قوله :﴿ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى ﴾٤ [ الأعراف : ٩٨ ] فمن فتح الواو أجاز في :«آبَاؤُنَا » وجهين :
أحدهما : أن يكون معطوفاً على محل إن واسمها. ٥
والثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير المستتر في :«لَمَبْعُوثُونَ »٦. واستغني بالفصل بهمزة الاستفهام، ومن سكنها تعين فيما الأول دون الثاني على قول الجمهور لعدم الفاصل، وقد أَوْضَحَ هذا الزمخشريُّ حيث قال :«أو آباؤنا » معطوف على محل إنَّ واسمها أو على الضمير في :«لَمَبْعُوثُونَ » والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام٧. قال أبو حيان : أما قوله معطوف على محل «إنّ » واسمها فمذهب سيبويه خلافه٨، فإن قولك :«إنَّ زَيْداً قَائِمٌ وعمرو » وعمرو فيه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، وأما قوله : أو على الضمير في لمبعوثون ( الخ. . .
. . فلا يجوز أيضاً ؛ لأن همزة الاستفهام لا تدخل إلى على الجمل لا على المفرد ؛ لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بواسطة حرف العطف وهمزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما بعدها، فقوله :﴿ أَوَ آَبَاؤُنَا ﴾ مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا٩. قلت١٠ : أما الرد الأول : فلا يلزم لأنه لا يُلْتَزَمُ١١ مذهب سيبويه١٢، وأما الثاني : فإن الهمزة مؤكدة للأولى فهي داخلة في الحقيقة على الجملة إلا أنه فصل بين الهمزتين بإنّ واسْمِهَا وخبرها. ويدل على هذا ما قاله هو١٣ في سورة الواقعة فإنه قال : دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف، فإن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون )١٤ من غير تأكيد بنحن ؟ قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله :﴿ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] لفصل ( لا )١٥ المؤكدة بالنفي انتهى١٦. فلم يذكر هنا غير هذا الوجه وتشبيهه بقوله لفصل ( لا )١٧ المؤكدة للنفي لأن لا مؤكدة للنفي المتقدم بما إلا أن هذا مشكلٌ بأن الحرف إذا كرر للتأكيد لم يُعَدْ في الأمر العام إلا بإعادة ما اتصل به أولاً أو بضميره. وقد مضى القول فيه١٨. وتحصل في رفع «آباؤنا » ثلاثة أوجه : العطف على محل " إن " واسمها، والعطف على الضمير المستكن في " لمبعوثون ". والرفع على الابتداء والخبر مضمر١٩، والعامل في «إذا » محذوف أي : أَنُبْعَثُ إذَا مِتْنَا. هذا إذا جعلتها ظرفاً غير متضمن لمعنى الشرط، فإن جعلتها شرطية كان جوابها عاملاً فيها٢٠ أي إذا متنا بُعِثْنَا أوْ حُشِرْنَا٢١.
وقرئ «إذَا » دون استفهام٢٢، وقد مضى القول فيه في الرعد٢٣.
١ في ب: الواو..
٢ من القراءات المتواترة. وانظر في ذلك السبعة ٢٨٧ و ٢٨٦ والإتحاف ٣٦٨ والنشر ٢/٣٥٧ والكشاف ٣/٣٣٧..
٣ عند قوله تعالى: ﴿أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون﴾ الآية ١٠..
٤ الآية ٩٨ منها: ﴿أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون﴾ فقرىء بأو وبالواو على العطف والاستفهام أيضا..
٥ من قوله: "أئنا لمبعوثون" وانظر الكشاف ٣/٣٣٧ والسمين ٤/٥٤٢..
٦ المرجع السابق وانظر: الكشاف ٣/٣٣٧..
٧ المرجع السابق..
٨ فالزمخشري قد مشى في رحا الكوفيين وقليل من البصريين الذين لم يشترطوا المحرز وهو الطالب للمحل، ولأن "إن" لم تعمل عندهم في الخبر شيئا بل هو مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها. وفي الكتاب لسيبويه أنه يجيز رأي الكوفيين هذا ولكنه رأي ضعيف ومفضول. قال: "هذا باب ما يكون محمولا على إن فيشاركه فيه الاسم الذي وليها ويكون محمولا على الأول فأما ما حمل على الابتداء فقولك: إن زيدا ظريف وعمرو، وإن زيدامنطلق وسعيد يرتفعان لوجهين فأما الوجه الحسن فأن يكون محمولا على الابتداء وأما الوجه الآخر الضعيف فأن يكون محمولا على الاسم المضاف في المنطلق". الكتاب ٢/١٤٤..
٩ قاله في البحر ٧/٣٥٥..
١٠ هذا رد شهاب الدين فيما نقله عنه المؤلف ٤/٥٤٣..
١١ في ب: لا يلزم..
١٢ بدليل أن سيبويه صرح بالرأيين الجائزين وفضل أحدهما على الآخر وهذا ما أميل إليه في تجويز الرأيين..
١٣ أي جار الله الزمخشري..
١٤ ما بين القوسين كله سقط من أ الأصل..
١٥ زيادة من الكشاف من قول الزمخشري..
١٦ الكشاف ٤/٥٥..
١٧ زيادة لتوضيح السياق وتكميله..
١٨ في الأنعام عند تلك الآية السابقة..
١٩ وهذا ما توحي به عبارة سيبويه في الكتاب المرجع السابق. والأولان قال بهما جار الله الزمخشري. ونقلهما شهاب الدين السمين في الدر ٤/٥٤٢..
٢٠ ولذلك يقولون في إعراب "إذا" ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه..
٢١ تفسير الإمام شهاب الدين السمين ٤/٥٤٣..
٢٢ من القراءات المتواترة السبعية فهي قراءة عبد الله بن عامر انظر: الإتحاف ٣٦٨. وفي السبعة لابن مجاهد لم يذكرها وانظر: البحر ٧/٣٥٥ والسمين ٤/٥٤٣..
٢٣ يشير إلى قوله تعالى: ﴿أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد﴾ الآية ٥. وبين هناك أن كل القراء يقرأون بالاستفهام فيهما: "أئذا- وأئنا"، وأن ابن عامر قرأ وحده بالإخبار..
قوله :﴿ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ﴾ جملة حالية العامل فيها الجملة القائمة مقامها «نعَمْ » أي تبعثون١ وأنتم صاغرون أذلاَّء٢. قال أبو حيان : وقرأ ابن وَثّاب «نِعِمْ » بكسر العين٣ وتقدم أن الكسائي قرأها كذلك حيث وقَعتْ. وكلامه هنا موهم أن ابن وثاب منفردٌ بها٤.
١ هو قول الزمخشري في الكشاف ٣/٣٣٨ والسمين في الدر ٤/٥٤٤..
٢ قاله في اللسان دخر ١٣٤٠ وغريب القرآن ٣٧٠ ومجازه ٢/١٦٨..
٣ البحر ٧/٣٥٥ والإتحاف ٣٦٨ والسمين ٤/٣٤٤..
٤ المرجع السابق وقد وقعت في [الأعراف: ٤٤، ١١٤] [الشعراء: ٤٢]، [الصافات: ١٨]..
قوله: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ﴾ قال الزمخشري: «فَإنَّما هِيَ» جواب شرط مقدر تقديره إذا كان كذلك فما هي إلا زجره واحدة قال أبو حيان: وكثيراً ما تضمَّن جملة الشرط قبل فاء إذا ساغ تقديره ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب للأمر والنهي وما ذكر معهما، أمَّا اتبداءً فلا يجوز حذفه.

فصل


«هي» ضمير البعثة المدلول عليها بالسِّياق لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازاً، قال الزَّمَخْشَرِيُّ «هي» مبهمة يوضحها خبرها، قال أبو حيان: وكثيراً ما يقول هو ابن مالك: إن الضمير يفسره خبره ووقف أبو حاتم على «يَا وَيْلَنا» وجعل
290
مع ما بعده من قوله الباري تعالى، وبعضهم جعل «هَذَا يَوْمُ الدِّينِ» من كلام الكفار الكفرة فيقف عليه، وقوله: ﴿هذا يَوْمُ الفصل﴾ من قول الباري تعالى: وقيل: الجمع من كلامهم وعلى هذا فيكون قوله: ﴿تُكَذَّبُونَ﴾ إما التفاتاً من التكلم إلى الخطاب وإما مخاطبة بعضهم لبعض.

فصل


لما بين في الآية المتقدمة ما يدل على إنكار البعث والقيامة وأرْدَفَهُ بما يدل على وقوع القيامة ذكر في هذه الآيات بعض تفاصيل أحوال القيامة فمنها قوله: «فإنما هي زجرة واحدة» أي صيحة واحدة وهي نفخة البعث فإذا هم ينظرون أي إحياء ينظر بعضهم إلى بعض، وقيل: ينتظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به والزجرة هي الصيحة التي زجرها كالزجرة بالنَّعَمِ والإبل عند الحثّ، ثُمَّ كثر استعمالها حتى صارت بمعنى الصيحة، قال ابن الخطيب: ولا يبعد أن يقال تلك الصحية إذا سميت زجرة لأنها تزجر الموتى عن الرقود في القبور وتحثهم على القيام من القبور إلى الحضور في موقف القيامة.
فإن قيل: فما الفائدة في هذه الصحية للأموات وهذه النفخة جاية مَجْرَى السبب ليحاتهم فتكون مقدمة على حياتهم فلزم أن هذه الصيحة إنما تكون حالاً لكونهم أمواتاً فتكون الصيحة عديمة الفائدة فهي عَبَثٌ والعبث لا يجوز في فِعل الله؟
فالجواب: على قول أهل السنة يفعل الله ما يشاء وأما المعتزلة فقال القاضي: فيه وجهان:
الأول: أن يعتبر بها الملائكة.
والثاني: أن تكون فائدتها التخويف والإرهاب (انتهى) وهذه الصيحة لا تأثير لها في الحياة بدليل أن الصيحة الأولى استعقبها الموت والثانية الحياة وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت والحياة هوا لله (وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها «كما قال: ﴿الذي خَلَقَ الموت والحياة﴾
[الملك: ٢] روي أن الله تعالى يأمرنا سراً قيل فينادى أَيَّتَّها العِظَامُ النَّخِرَة، والجُلُودُ البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى. الحالة الثانية من تفاصيل أحوال القيامة قولهم بعد القيام من القبور: «يا ويلنا هذا يوم الدين»
أي يوم الحساب ويوم الجزاء. قال الزجاج: الويل كلمة
291
يقولها القائل وقت الهَلَكَةِ ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: «هذا يوم الدين» أي يوم الحساب القيمة المذكرو في قوله: ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ [الفاتحة: ٤] أي لا مالك في ذلك اليوم إلا الله تعالى وأما قوله: ﴿هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ تَقَدَّم الكلام على قائله هل هو من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة أو من كلام المؤمنين أو من كلام الكفار.
قوله: ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ﴾ هذا من كلام الملائكة والمراد اجْمَعُوا الذين أشركوا إلى الموقف للحساب والجزاء.
فإن قيل: ما معنى احشروا مع أنهم قد حشروا من قبل وحَضَروا مَحْفِل القيامة وقالوا: هذا يوم الدين وقالت الملائكة لهم: بل هذا يوم الفصل؟
أجاب القاضي عنه وقال: المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار، ولذلك قال بعده: «فَاهْدُهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيم» أي دُلُّوهُمْ على ذلك الطريق، ثم سأل نفسه وقال: كيف يصح ذلك وقد قال بعده: «وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسؤُلُونَ» ومعلوم أن (مَ) حْشَرَهُمْ إلى الجحيم إنما يكون بعد المسألة وأجاب بأنه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب ولا يمتنع أن يقال احْشُرُوهُمْ وقِفُوهم مع أما بعقولنا نعلم أن الوقوف كان قبل الحشر. قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال: إنهم إذا قاموا من قبورهم لم يَبْعُدْ أن يقفوا هناك لحيرَةٍ تَلْحَقُهُمْ لمعاينتهم أهوالَ القيامة، ثم إن الله تعالى يقول للملائكة: احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجحيم، أي سُوقُوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك ويحصل السؤال هناك ثُمّ (مِنْ) هنا (ك) يساقون إلى النار.
قوله: ﴿وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ العامة على نصب وفيه وجهان:
أحدهما: العطف على الموصول.
والثاني: أنه مفعول معه قال أبو البقاء: وهو في المعنى أقوى، وإنما قال في المعنى لأنه في الصناعة ضعيف لأنه أمكن العطف لا يُعْدَلُ عنه، وقرأ عيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الحِجَازيّ بالرفع عطفاً على ضمير «ظَلموا» وهو ضعيف لعدم
292
العامل، وقوله: ﴿وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ لا يجوز فيه هذا لأنه لا ينسب إليهم ظلم إن لم يرد بهم الشياطين وإن أريد بهم ذلك جاز فيه الرفع أيضاً على ما تقدم.
قوله: ﴿إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ العامة على الكسر على الاستئناف المفيد للعلة، وقرئ بفتحها على حذف لام العلة أي قِفُوهُمْ لأجْل سُؤَال الله إيَّاهم.

فصل


المراد بالأزواج أشباههم وأمثالهم وأتباعهم. قال قتادة والكلبي: كل من نعمل مثل عملهم فأهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنا مع أهل الزنا واليهوديّ مع اليهوديّ والنَّصْرَانيّ مع النصراني لقوله تعالى:
﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً﴾ [الواقعة: ٧] أي أشكالاً وأشباهاً، وتقول «عندي من هذا أزواج» أي أمثال، وتقول: زَوْجَان من الخُفِّ لأن كل واحد منهما نظير الآخر وكذلك الرجل والمرأة يُسَمَّيَانِ زَوْجَيْنِ متشابهين، وكذلك العدد الزوج، وقال الضحاك ومقاتل قرناؤهم من السوء الشياطين كل كافر مع شيطانه في سلسلة وقال الحسن: أزواجهم: المشركات، وما كانوا يعبدون من دون الله في الدنيا يعني الأوثان والطواغيت. وقال مقاتل: يعني إبليسَ وجنودَه لقوله: «ألاَّ تَعْبُجُوا الشَّيْطَانَ» «فاهْدُوهم إٍلى صراط الجحيم»، قال ابن عباس: دلوهم إلى طريق النَّارِ. وقال ابن كيسان والأَصَمّ قدموهم والعرب تسمي السابق هادياً. وقال الواحدي: وهذا وهم لأنه يقال هَدَى إذا تقدم ومنه الهَادِيَةُ والهَوَادِي، وهَادِيَاتُ الوحش، ولا يقال هَدَى بمعنى قدم. «وَقِفُوهُمْ» يقال وَقَفْتُ الدَّابَة أَقِفُها وَقْفاً فوَقَفَتْ هي وُقُوفاً قال المفسرون: لما سِيقُوا إلى النار حبسوا عند الصراط لأن السؤال عند الصراط فقال: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ قال ابن عباس: عن أقوالهم وأفعالهم.
293
وقيل: تسألهم الخزنة: «ألم يأتكم نذير رسل منكم»، (رسل) بالبينات قولوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين. ويجوز أن يكون هذا السؤال هو قوله بعد ذلك: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ﴾ (أي لا تسألون) (توبيخاً لهم فيقال) : ما لكمن لا يتناصرون قال ابن عباس: لا ينصر بعضُكم بعضاً كما كنتم في الدنيا وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحْن جميعٌ منتصر فقيل لهم يوم القيامة: ما لكم لا تَنَاصَرُون، وقيل: يقال للكفار: ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب.
قوله: ﴿مَا لَكُمْ﴾ يجوز أن يكون منقطعاً عما قبله والمسؤول عنه غير مذكور ولذلك قدره بعضهم عن أعمالهم ويجوز أن يكون هو المسؤول عنه في المعنى فيكون معلقاً للسؤال و «لاَ تَنَاصَرُونَ» جملة حالية العامل فيها الاستقرار في «لكم» وقيل: بل هي على حذف حَرْفِ الجرِّ وأن الناصبة فلما حذفت «أن» ارتفع الفعل. والأصل في أن لا وتقدمت قراءة البَزِّي لا تناصرون بتشديد التاء وقرئ تَتَنَاصَرُونَ على الأصل.
قوله (تعالى) :﴿بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ﴾ قال ابن عباس: خاضعون. وقال الحسن منقادون، يقال اسْتسْلَمَ للشيء إذا انقاد له وخضع والمعنى هم اليوم أذلاّء منقادون لا حِيلَة لهم في دفع تلك المضارّ.
294
ووقف أبو حاتم على «يَا وَيْلَنا » وجعل مع ما بعده من قول الباري تعالى١، وبعضهم جعل «هَذَا يَوْمُ الدِّينِ » من كلام الكفار الكفرة فيقف عليه،
١ انظر: البحر المحيط ٧/٣٥٦ والدر المصون ٤/٥٤٤..
وقوله :﴿ هذا يَوْمُ الفصل ﴾ من قول الباري تعالى : وقيل : الجميع من كلامهم وعلى هذا فيكون قوله :﴿ تُكَذَّبُونَ ﴾ إما التفاتاً من التكلم إلى الخطاب وإما مخاطبة بعضهم لبعض١.

فصل


لما بين في الآية المتقدمة ما يدل على إنكار البعث والقيامة وأرْدَفَهُ بما يدل على وقوع القيامة ذكر في هذه الآيات بعض تفاصيل أحوال القيامة فمنها قوله :«فإنما هي زجرة واحدة » أي صيحة واحدة وهي نفخة البعث فإذا هم ينظرون أي أحياء ينظر بعضهم إلى بعض، وقيل : ينتظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به والزجرة هي الصيحة التي يزجرها كالزجرة بالنَّعَمِ والإبل عند الحثّ، ثُمَّ كثر استعمالها حتى صارت بمعنى الصيحة، قال ابن الخطيب : ولا يبعد أن يقال تلك الصيحة إذا سميت زجرة لأنها تزجر الموتى عن الرقود في القبور وتحثهم على القيام من القبور إلى الحضور في موقف القيامة.
فإن قيل : فما الفائدة في هذه الصيحة للأموات وهذه النفخة جارية مَجْرَى السبب لحياتهم فتكون مقدمة٢ على حياتهم فلزم أن هذه الصيحة إنما تكون حالاً لكونهم أمواتاً فتكون الصيحة عديمة الفائدة فهي عَبَثٌ والعبث لا يجوز في فِعل الله ؟
فالجواب : على قول أهل السنة يفعل الله ما يشاء وأما المعتزلة فقال القاضي : فيه وجهان :
الأول : أن يعتبر بها الملائكة.
والثاني : أن تكون فائدتها التخويف والإرهاب ( انتهى )٣. وهذه الصيحة لا تأثير لها في الحياة بدليل أن الصيحة الأولى استعقبها الموت والثانية الحياة وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت٤ والحياة هو الله ( وذلك يدل على٥ أن الصيحة لا أثر لها ) كما قال :﴿ الذي خَلَقَ الموت والحياة ﴾
[ الملك : ٢ ] روي أن الله تعالى يأمرنا سراً قيل فينادى أَيَّتَّها العِظَامُ النَّخِرَة، والجُلُودُ البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى. الحالة الثانية من تفاصيل أحوال القيامة قولهم بعد القيام من القبور :«يا ويلنا هذا يوم الدين » أي يوم الحساب ويوم الجزاء. قال الزجاج : الويل كلمة يقولها القائل وقت الهَلَكَةِ٦، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم :«هذا يوم الدين » أي يوم الحساب القيامة المذكور في قوله :﴿ مالك يَوْمِ الدين ﴾ [ الفاتحة : ٤ ] أي لا مالك في ذلك اليوم إلا الله تعالى وأما قوله :﴿ هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ تَقَدَّم الكلام على قائله هل هو من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة أو من كلام المؤمنين أو من كلام الكفار.
١ المرجعان السابقان..
٢ في ب: متقدمة وكذا هي في الرازي كما في "أ" وانظر: تفسير الرازي ٢٦/١٢٩..
٣ زيادة من ب، عن "أ"..
٤ في "أ" السموات وما في ب هنا هو الموافق للمعنى وللرازي..
٥ زيادة من "أ" عن الرازي و "ب"..
٦ قاله في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠١..
قوله :﴿ احشروا الذين ظَلَمُواْ ﴾ هذا من كلام الملائكة والمراد اجْمَعُوا الذين أشركوا إلى الموقف للحساب والجزاء.
فإن قيل : ما معنى احشروا مع أنهم قد حشروا من قبل وحَضَروا مَحْفِل القيامة وقالوا : هذا يوم الدين وقالت الملائكة لهم : بل هذا يوم الفصل ؟
أجاب القاضي١ عنه وقال : المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار، ولذلك قال بعده :«فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيم » «فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيم » أي دُلُّوهُمْ على ذلك الطريق، ثم سأل نفسه وقال : كيف يصح ذلك وقد قال بعده١ :«وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسؤُولُونَ » ومعلوم أن ( مَ )٢ حْشَرَهُمْ إلى الجحيم إنما يكون بعد المسألة وأجاب بأنه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب ولا يمتنع أن يقال احْشُرُوهُمْ وقِفُوهم مع أنا بعقولنا نعلم أن الوقوف كان قبل الحشر. قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال : إنهم إذا قاموا من قبورهم لم يَبْعُدْ أن يقفوا هناك لحيرَةٍ تَلْحَقُهُمْ لمعاينتهم أهوالَ القيامة، ثم إن الله تعالى يقول للملائكة : احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجحيم، أي سُوقُوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك ويحصل السؤال هناك ثُمّ ( مِنْ ) هنا ( ك )٣ يساقون إلى النار.
قوله :﴿ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ العامة على نصب وفيه وجهان :
أحدهما : العطف على الموصول.
والثاني : أنه مفعول معه٤. قال أبو البقاء : وهو في المعنى أقوى٥، وإنما قال في المعنى لأنه في الصناعة ضعيف لأنه أمكن العطف فلا يُعْدَلُ عنه٦، وقرأ عيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الحِجَازيّ٧ بالرفع عطفاً على ضمير «ظَلموا »٨. وهو ضعيف لعدم العامل٩، وقوله :﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾ لا يجوز فيه هذا لأنه لا ينسب إليهم ظلم إن لم يرد١٠ بهم الشياطين وإن أريد بهم ذلك جاز فيه الرفع أيضاً على ما تقدم. ١١
قوله :﴿ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾ العامة على الكسر على الاستئناف المفيد١٢ للعلة، وقرئ بفتحها١٣ على حذف لام العلة أي قِفُوهُمْ لأجْل سُؤَال الله إيَّاهم.

فصل


المراد بالأزواج أشباههم وأمثالهم وأتباعهم. قال قتادة والكلبي : كل من عمل مثل عملهم فأهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنا مع أهل الزنا واليهوديّ مع اليهوديّ والنَّصْرَانيّ مع النصراني لقوله تعالى :
﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ﴾ [ الواقعة : ٧ ] أي أشكالاً وأشباهاً، وتقول «عندي من هذا أزواج » أي أمثال، وتقول : زَوْجَان من الخُفِّ لأن كل واحد منهما نظير الآخر وكذلك الرجل والمرأة يُسَمَّيَانِ زَوْجَيْنِ متشابهين، وكذلك العدد الزوج١٤، وقال الضحاك ومقاتل قرناؤهم من السوء الشياطين كل كافر مع شيطانه في سلسلة. وقال الحسن : أزواجهم : المشركات١٥، وما كانوا يعبدون من دون الله في الدنيا يعني الأوثان والطواغيت. وقال مقاتل : يعني إبليسَ وجنودَه لقوله :«ألاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ». «فاهْدُوهم إٍلى صراط الجحيم »، قال ابن عباس : دلوهم إلى طريق١٦ النَّارِ. وقال ابن كيسان والأَصَمّ١٧ : قدموهم١٨ والعرب تسمي السابق هادياً. قال الواحدي١٩ : وهذا وهم لأنه يقال هَدَى إذا تقدم ومنه الهَادِيَةُ والهَوَادِي، وهَادِيَاتُ الوحش، ولا يقال هَدَى بمعنى قدم.
١ سبق التعريف به أنه كبير المعتزلة..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:قوله :﴿ احشروا الذين ظَلَمُواْ ﴾ هذا من كلام الملائكة والمراد اجْمَعُوا الذين أشركوا إلى الموقف للحساب والجزاء.
فإن قيل : ما معنى احشروا مع أنهم قد حشروا من قبل وحَضَروا مَحْفِل القيامة وقالوا : هذا يوم الدين وقالت الملائكة لهم : بل هذا يوم الفصل ؟
أجاب القاضي١ عنه وقال : المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار، ولذلك قال بعده :«فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيم » «فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيم » أي دُلُّوهُمْ على ذلك الطريق، ثم سأل نفسه وقال : كيف يصح ذلك وقد قال بعده١ :«وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسؤُولُونَ » ومعلوم أن ( مَ )٢ حْشَرَهُمْ إلى الجحيم إنما يكون بعد المسألة وأجاب بأنه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب ولا يمتنع أن يقال احْشُرُوهُمْ وقِفُوهم مع أنا بعقولنا نعلم أن الوقوف كان قبل الحشر. قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال : إنهم إذا قاموا من قبورهم لم يَبْعُدْ أن يقفوا هناك لحيرَةٍ تَلْحَقُهُمْ لمعاينتهم أهوالَ القيامة، ثم إن الله تعالى يقول للملائكة : احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجحيم، أي سُوقُوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك ويحصل السؤال هناك ثُمّ ( مِنْ ) هنا ( ك )٣ يساقون إلى النار.
قوله :﴿ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ العامة على نصب وفيه وجهان :
أحدهما : العطف على الموصول.
والثاني : أنه مفعول معه٤. قال أبو البقاء : وهو في المعنى أقوى٥، وإنما قال في المعنى لأنه في الصناعة ضعيف لأنه أمكن العطف فلا يُعْدَلُ عنه٦، وقرأ عيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الحِجَازيّ٧ بالرفع عطفاً على ضمير «ظَلموا »٨. وهو ضعيف لعدم العامل٩، وقوله :﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾ لا يجوز فيه هذا لأنه لا ينسب إليهم ظلم إن لم يرد١٠ بهم الشياطين وإن أريد بهم ذلك جاز فيه الرفع أيضاً على ما تقدم. ١١
قوله :﴿ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾ العامة على الكسر على الاستئناف المفيد١٢ للعلة، وقرئ بفتحها١٣ على حذف لام العلة أي قِفُوهُمْ لأجْل سُؤَال الله إيَّاهم.

فصل


المراد بالأزواج أشباههم وأمثالهم وأتباعهم. قال قتادة والكلبي : كل من عمل مثل عملهم فأهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنا مع أهل الزنا واليهوديّ مع اليهوديّ والنَّصْرَانيّ مع النصراني لقوله تعالى :
﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ﴾ [ الواقعة : ٧ ] أي أشكالاً وأشباهاً، وتقول «عندي من هذا أزواج » أي أمثال، وتقول : زَوْجَان من الخُفِّ لأن كل واحد منهما نظير الآخر وكذلك الرجل والمرأة يُسَمَّيَانِ زَوْجَيْنِ متشابهين، وكذلك العدد الزوج١٤، وقال الضحاك ومقاتل قرناؤهم من السوء الشياطين كل كافر مع شيطانه في سلسلة. وقال الحسن : أزواجهم : المشركات١٥، وما كانوا يعبدون من دون الله في الدنيا يعني الأوثان والطواغيت. وقال مقاتل : يعني إبليسَ وجنودَه لقوله :«ألاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ». «فاهْدُوهم إٍلى صراط الجحيم »، قال ابن عباس : دلوهم إلى طريق١٦ النَّارِ. وقال ابن كيسان والأَصَمّ١٧ : قدموهم١٨ والعرب تسمي السابق هادياً. قال الواحدي١٩ : وهذا وهم لأنه يقال هَدَى إذا تقدم ومنه الهَادِيَةُ والهَوَادِي، وهَادِيَاتُ الوحش، ولا يقال هَدَى بمعنى قدم.
١ سبق التعريف به أنه كبير المعتزلة..

«وَقِفُوهُمْ » يقال وَقَفْتُ الدَّابَة أَقِفُها وَقْفاً فوَقَفَتْ هي وُقُوفاً٢٠. قال المفسرون : لما سِيقُوا إلى النار حبسوا عند الصراط لأن السؤال عند الصراط فقال٢١ :﴿ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾. قال ابن عباس : عن أقوالهم وأفعالهم٢٢.
وقيل : تسألهم الخزنة٢٣ :«ألم يأتكم نذير رسل منكم »، ( رسل )٢٤ بالبينات قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين. ويجوز أن يكون هذا السؤال٢٥ هو قوله بعد ذلك :﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ﴾ ( أي لا تسألون )٢٦ ( توبيخاً لهم٢٧ فيقال ) : ما لكم لا تناصرون قال ابن عباس : لا ينصر بعضُكم بعضاً كما كنتم في الدنيا وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر : نحْن جميعٌ منتصر فقيل لهم يوم القيامة : ما لكم لا تَنَاصَرُون، وقيل : يقال للكفار : ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب. ٢٨
٢٠ المرجع السابق "وقف" ٤٨٩٨..
٢١ في ب: فيقال..
٢٢ البغوي ٦/٢٠..
٢٣ نقله الرازي في تفسيره ٢٦/١٣٢..
٢٤ سقط من ب، فهو زيادة من "أ"..
٢٥ المرجع السابق..
٢٦ سقط من ب..
٢٧ سقط أيضا من ب..
٢٨ الرازي ٢٦/١٣٢ و ١٣٣ وانظر: البغوي ٦/٢١..
قوله :﴿ مَا لَكُمْ ﴾ يجوز أن يكون منقطعاً عما قبله والمسؤول عنه غير مذكور ولذلك قدره بعضهم عن أعمالهم١، ويجوز أن يكون هو المسؤول عنه في المعنى فيكون معلقاً للسؤال و «لاَ تَنَاصَرُونَ » جملة حالية العامل فيها الاستقرار في «لكم »٢. وقيل : بل هي على حذف حَرْفِ الجرِّ وأن الناصبة فلما حذفت «أن » ارتفع الفعل. والأصل في أن لا٣. وتقدمت قراءة البَزِّي لا تناصرون بتشديد التاء٤. وقرئ تَتَنَاصَرُونَ على الأصل٥.
١ كما قاله ابن عباس والكلبي ومحمد بن كعب. وانظر: البحر المحيط ٧/٣٥٦ و ٣٥٧ والسمين ٤/٥٤٥..
٢ التبيان ١٠٨٩ والبيان ٢/٣٠٣ والمشكل ٢/٢٣٥..
٣ قاله العكبري في المرجع السابع وانفرد به..
٤ القرطبي ١٥/٧٤ والسمين ٤/٥٤٥ والكشاف ٣/٣٣٨..
٥ المرجعان الأخيران..
قوله ( تعالى )١ :﴿ بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ ﴾ قال ابن عباس٢ : خاضعون. وقال الحسن منقادون، يقال اسْتسْلَمَ للشيء إذا انقاد له وخضع. والمعنى هم اليوم أذلاّء منقادون لا حِيلَة لهم في دفع تلك المضارّ.
١ زيادة من ب..
٢ انظر: زاد المسير ٧/٥٣ والبغوي ٦/٢٠ و ٢١..
قوله: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ قيل: الأتباع والرؤساء يتساءلون متخاصمون. وقيل: هم والشياطين يقولولن إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين أي من قبل الدين فتضلوننا عنه. قاله الضحاك، وقال مجاهد: من الصراط الحق واليمين عبارة عن الدِّين والحق كما أخبر الله عن إبليس: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فليس عليه الحق، واليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات لأن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر إجماعاً، ولا تباشر الأعمال الشريفة إلا باليمين ويتفاءلون بالجانب الأيمن ويسمونه البَارِح وكان - عليه (الصلاة و) السلام - يحب التيامن في شأنه كله وكاتب الحسنات من الملائكة على اليمين ووعد الله المحسن أن يعطيه الكتاب باليمين. وقيل: إن الرؤساء كانوا يحلفون للمستضعفين أن ما يدعونهم إليه هوا لحق فوثقوا بأيمانهم، وقيل: عن اليمين أي عن القوة والقدرة كقوله: ﴿لأََخَذْنَا مِنْهُ باليمين﴾ [الحاقة: ٤٥].
قوله: ﴿عَنِ اليمين﴾ حال من فاعل: «تَأتُوتَنَا» واليمين إما الجارحة عبّر بها عن القوة وإما الحلف لأن المتعاقدين بالحلف يمسح كل منهما يمين الآخر فالتقدير على الأول وتأتوننا أقوياء وعلى الثاني مُقْسِمينَ حَالِفينَ.
قوله: ﴿بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ وهذا جواب الرؤساء للأتباع أي ما كنتم موصوفين بالإيمان حتى يقال: إنا أَزَلْنَاكم عنه وإنما الكفر من قبلكم ﴿وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ من قوة وقُدْرة حتى نقهركم ونجْبِرَكم «بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ» ضالين «فَحَقَّ عَلَيْنَا» وجب علينا جمعياً «قَوْلُ رَبَّنَا» يعني كلمة العذاب وهو قوله: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٩].
قوله: «إنَّا لَذَائِقُوا الْعَذَابِ» الظاهر أنه من إخبار الكفرة المتبوعين أو الجن بأنهم ذائقون العذاب. ولا عدول في هذا الكلام وقال الزمخشري ولزمنا قول ربنا إنا لذائقون يعني وعيد الله بأنا لذائقون لعذابه لا محالة ولو حكى الوعيد كما هو لقال إنكم
295
لذائقون ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم ونحوه قول القائل:
٤١٩١ - لَقَدْ عَلِمَتْ هَوَزِانُ قَلَّ مَالِي........................
ولو حكمى قولها لقال: قَلَّ مَالُكَ، ومنه قول المحلف للحالف احلف (لأخْرُجَنَّ) ولَتَخْرُجَنَّ، الهمزة لحكاية الحالف، والتاء لإقبال المحالف على المحلف.
قوله: ﴿فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ أي إنما أقدمنا إغوائكم لأنا كنا موصفين في أنفسنا بالغِوَايَةِ. وفيه دقيقة أخرى كأنهم قالوا: إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاوٍ آخر لزم التسلسل. وذلك محال فعلمنا أن حصول الغواية والرشاد ليس من قِبَلِنَا بل من قِبَل غيرنا. وذلك الغير هو الذي فيما قبل وهو قوله: ﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ﴾ ثم قال تعالى بعده: ﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ﴾ يعني الرؤساء والأتباع يومئذ يُسْأَلُو (نَ) ويُرَاجِعُو (نَ) الكلام فيما بينهم ثم قال: ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي الكفار.
قال ابن عباس: الذين جعلوا لله شركاء ثم وصفهم بأنهم «إذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ» يتكبرون عن كلمة التوحيد ويمتنعون منها ﴿وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقرأ ابن كثير أينا لتاركوا برهمزة وياء بعدها خفيفة وألف ساكنة بلا مدة وقرأ نافع في رواية قالون وأبو عمرو كذلك، ويمدان والباقون بهمزتين بلا مد، ثم إنه تعالى كذبهم في ذلك الكلام بقوله: ﴿بَلْ جَآءَ بالحق﴾ أي جاء بالدين الحق.
قوله: ﴿وَصَدَّقَ المرسلين﴾ أي صدقهم محمد - عليه (الصلاة و) السلام - يعني
296
صدقهم فقي مجيئهم بالتوحيد، وقرأ عبد الله صَدَقَ خفيف الدال «الْمُرْسَلُونَ» فاعلاً به أي دصقوا فيما جاءوا به ثم التفت من الغيبة إلى الحضور فقال: ﴿إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم﴾ [الصافات: ٣٨].
297
قوله :﴿ عَنِ اليمين ﴾ حال من فاعل :«تَأتُوتَنَا ». واليمين إما الجارحة عبّر بها عن القوة وإما الحلف لأن المتعاقدين بالحلف يمسح كل منهما يمين الآخر فالتقدير على الأول وتأتوننا أقوياء وعلى الثاني مُقْسِمينَ حَالِفينَ٤.
قوله :﴿ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ وهذا جواب الرؤساء للأتباع أي ما كنتم موصوفين بالإيمان حتى يقال : إنا أَزَلْنَاكم عنه وإنما الكفر من قبلكم
﴿ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ من قوة وقُدْرة حتى نقهركم ونجْبِرَكم «بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ » ضالين
«فَحَقَّ عَلَيْنَا »١ وجب علينا جميعاً «قَوْلُ رَبَّنَا » يعني كلمة العذاب وهو قوله :﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ [ هود : ١١٩ ].
قوله :«إنَّا لَذَائِقُوا الْعَذَابِ » الظاهر أنه من إخبار الكفرة المتبوعين أو الجن بأنهم ذائقون العذاب. ولا عدول في هذا الكلام٢. وقال الزمخشري ولزمنا قول ربنا إنا لذائقون يعني وعيد الله بأنا لذائقون لعذابه لا محالة ولو حكى الوعيد كما هو لقال إنكم لذائقون ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم ونحوه قول القائل :
٤١٩١- لَقَدْ عَلِمَتْ٣ هَوَزِانُ قَلَّ مَالِي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ٤
ولو حكى قولها لقال : قَلَّ مَالُكَ، ومنه قول المحلف للحالف احلف ( لأخْرُجَنَّ )٥ ولَتَخْرُجَنَّ٦، الهمزة لحكاية الحالف، والتاء لإقبال المحالف٧ على المحلف. ٨
١ البغوي ٦/٢١..
٢ البحر والدر المرجعان السابقان..
٣ في الكشاف زعمت..
٤ من تمام الوافر وذلك صدر بيت وعجزه:
............................ وهل لي غير ما أنفقت مال
ويروى: ألا زعمت. وهو مجهول القائل وجيء به شاهدا للعدول والالتفات من الخطاب إلى التكلم فكان مسار الكلام وحكاية قولها وهي هوازن قل مالك، وانظر: البحر ٧/٣٥٧ والدر المصون ٤/٥٤٦ والكشاف ٣/٣٣٩ وشرح شواهده ٥٠٠..

٥ زيادة من أ والكشاف عن ب..
٦ في ب: ليخرجن بالياء..
٧ تصحيح من الكشاف عن النسختين ففيهما المحلف..
٨ انظر الكشاف ٣/٣٣٩..
قوله :﴿ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾ أي إنما أقدمنا١ إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغِوَايَةِ. وفيه دقيقة أخرى كأنهم قالوا : إن اعتقدتم أن غوايتكم٢ بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاوٍ آخر لزم التسلسل. وذلك محال فعلمنا أن حصول الغواية والرشاد ليس من قِبَلِنَا بل من قِبَل غيرنا. وذلك الغير هو الذي ذكره فيما قبل وهو قوله :﴿ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ ﴾٣
١ في ب: قدمنا..
٢ في ب: إغوائكم وما هنا موافق للرازي..
٣ الرازي ٢٦/١٣٥..
ثم قال تعالى بعده :﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ ﴾ يعني الرؤساء والأتباع يومئذ يُسْأَلُو ( نَ )١ ويُرَاجِعُو ( نَ ) الكلام فيما بينهم
١ تصحيح لغوي لا بد منه على النسختين..
ثم قال :﴿ إنا كذلك نفعل بالمجرمين ﴾ أي الكفار.
قال ابن عباس : الذين جعلوا لله شركاء
ثم وصفهم بأنهم «إذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ » يتكبرون عن كلمة التوحيد ويمتنعون منها
﴿ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ﴾ يعني النبي - صلى الله عليه وسلم١ - وقرأ ابن كثير أينا لتاركوا بهمزة وياء بعدها خفيفة وألف ساكنة بلا مدة٢. وقرأ نافع في رواية قالون وأبو عمرو كذلك، ويمدان. والباقون بهمزتين٣ بلا مد،
١ انظر: معالم التنزيل ٦/٢١..
٢ من القراءات الأربع فوق العشرة. انظر: الإتحاف ٣٦٩ والرازي ٢٦/١٣٥..
٣ المرجعان السابقان، الإتحاف والرازي..
ثم إنه تعالى كذبهم في ذلك الكلام بقوله :﴿ بَلْ جَآءَ بالحق ﴾ أي جاء بالدين الحق.
قوله :﴿ وَصَدَّقَ المرسلين ﴾ أي صدقهم محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام- يعني صدقهم في مجيئهم بالتوحيد، وقرأ عبد الله١ صَدَقَ خفيف الدال «الْمُرْسَلُونَ » فاعلاً به أي صدقوا فيما جاءوا به٢. ثم التفت من الغيبة إلى الحضور فقال :﴿ إِنَّكُمْ لَذَآئِقُوا العذاب الأليم ﴾ [ الصافات : ٣٨ ].
١ ونسبت أيضا للحسن وهي من الأربع فوق العشرة. انظر: الإتحاف ٣٦٩ ومختصر ابن خالويه ١٢٨ والسمين ٤/٥٤٦ والبحر المحيط ٧/٣٥٨..
٢ من بشارتهم به عليه السلام..
قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم﴾ العامة على حذف النون والجر. وقرأ بعضهم بإثباتها والنصب هو الأصل وقرأ أبان بن تَغْلِب - عن عاصم وأبو السِّمِّال في رواية - بحذف النون والنصب أَجْرَى النون مُجْرَى التنوين في حذفها لالتقاء الساكنين كقوله: ﴿أَحَدٌ الله الصمد﴾ [الإخلاص: ١ - ٢] (و).
٤١٩٢ - وَلاَ ذَاكِر اللَّه إلاَّ قَلِيلاً... وقال أبو البقاء: قرئ شاذا بالنصب وهو سهو من قارئه لأن اسم الفاعل يحذف منه النون وينصب إذا كان فيه الألف واللام، قال شهاب الدين: وليس بسهو لما تقدم، وقرأ أبو السمال أيضاً لذائق بالإفراد والتنوين الْعَذَابَ نصباً وتخريجه.
297
على حذف اسم جمع هذه صفته أي إنكم لفريقٌ أو لجمعٌ ذائقٌ ليتطابق الاسم والخبر في الجَمْعِيَّة ثم كأنه قيل: فكيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده؟ فأجاب بقوله: ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي «إلا جزاء ما كنتم تعملون».
قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله﴾ استثناء منقعطع أي لكن عباد الله المخلصين الموحدين، وقوله: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ﴾ بيان لحالهم، وقد تقدم في فتح اللام وكسرها من المْخْلَصِينَ قراءتان فمن قرأ بالفتح فالمعنى أن الله تعالى أخلصهم واصطفاهم بفضله. والكسر هو أنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى والرزق المعلوم قيل: بُكْرَةً وعَشِيًّا لقوله: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم: ٦٢] فيكون المراد منه معلوم الوقت وهو مقدار غَدْوَةٍ أو عَشْوَة وإن لم يكن ثم بكرة ولا عشية. وقيل: ذلك الرزق معلوم الصفة أي مخصوصاً بصفات من يطب طعم ولذة وحسن منظر. وقيل معناه أنهم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وقد (بين أنه) تعالى يعطيهم غير ذلك تَفَضُّلاً.
قوله: ﴿فَوَاكِهُ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من «رزقٍ» وأن يكون خبراً ابتداء مضمر أي ذلك الرزق فَوَاكِهُ وفي الْفَوَاكِهِ قَوْلاَنِ:
أحدهما: أنها عبارة عما يؤكل للتلذذ لا للحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحّة بالأقوات فإن أجسامهم محكومة ومخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ.
والثاني: أن المقصود بذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى، لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان المأكول للغذاء أولى بالحضور.
298
قوله: ﴿وَهُم مُّكْرَمُونَ﴾ قرأ العامة مُكْرَمُونَ خفيفة الراء و (ابن) مِقْسِم بتشديدها والمعنى وهم مُكَرَّمُونَ بثواب الله في جنات النعيم لما ذكر مأكولهم ذكر مسكنهم وقوله «فِي جَنَّاتِ» يجوز أن يتعلق «بمُكْرَمُونَ» وأن يكون خيراً ثانياً وأن يكون حالاً.
قوله: ﴿على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ العامة على ضم الراء. وأبو السَّمَّال بفتحها وهي لغة بعض كَلْبٍ، وتميم يفتحون عين «فُعُلٍ» جمعاً إذا كان اسماً مضاعفاً. وأما الصفة نحو: ذُلُل ففيها خلاف.
والصحيح أنه لا يجوز لأنَّ السماع ورد في الجوامد دون الصفات. و «عَلَى سُرُور مُتَقَابيلن» حال، ويجوز أن يتعلق «عَلَى سُرُر» بمتقابلين و «يُطَافُ» صفة «لمكرون» أو حال من الضمير في: «متقابلين» أو من الضمير في أحد الجَارِّيْن إذا جعلناه حالاً.
ومعنى متقابلين لا يرى بعضُهم قَقَا بعض، ولما ذكر المأكل والمسكن ذكره بعده صفة المشرب فقال: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾ والكأس من الزجاج ما دام فيها شراب وإلا فهو قَدَح. وقد يطلق الكأس على الخمر نفسها وهو مجاز سائغٌ وأنشد:
٤١٩٣ - وَكَأس شَرِبْتُ عَلَى لذَّةٍ وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
و «مِنْ مَعين» صفة «لكأسٍ» والمعين معناه الخَمر الجارية في الأنهار، أي ظاهرة تراها العيون وتقدم الكلام في مَعِين وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي
299
الخَمْر وقوله: ﴿مِنْ مَعِين﴾ أي من شراب مَعِينٍ أو من نَهْرٍ مَعِينٍ. المَعِينُ مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي (م) عِيناً لظهوره، يقال: عَانَ الماءُ إذا ظهر جارياً، (قاله ثعلب) فهو مَفْعُول من العَيْن نحو: مَبِيع ومَكِيلٍ، وقيل: سمي معيناً لأنه يجري ظاهر العين كا تقدم. ويجوز أن يكون فعيلاً من المعين وهو الماء الشديد الجري، ومنه أمْعَنَ في الجَرْيِ إذا اشتد فيه.
قوله: ﴿بَيْضَاءَ﴾ صفة لكأس وقال أبو حيان: صفة «لكاس» أو «للخمر» قال شهاب الدين: لم يذكر الخمر اللهم إلا أن يعني بالمعين الخمر. وهو بعيد جداً ويمكن أن يجاب بأن الكاس إنما، سميت كأساً إذا كان فيها الخمر.
وقرأ عبد الله: صَفْرَاءَ وهي مخالفة للسواد، إلا أنه جاء وصفها بهذا اللون وأنشد لبعض المولدين:
٤١٩٤ - صَفْرَاء لاَتَنْزِلُ الأَحْزَانُ سَاحَتَهَا لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ
و «لذة» صفة أيضاً وصفت بالمصدر مبالغة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال: فُلاَنٌ جُودٌ وكَرَمٌ إذا أرادوا المبالغة.
وقال الزجاج: أو على حذف المضاف أي ذات لذَّة، أو على تأنيث «لَذَّ» بمعنى لذيذ فيكون وصفاً على «فَعْلِ» كصَعْب يقال: لَذَّ الشَّيءُ يَلَذُّ لَذًّ فهو لَذَيدُ وَلَذٌّ وأنشد:
300
وقال آخر:
٤١٩٥ - بِحَدِيثَها اللَّذِّ الَّذِي لَوْ كَلَّمْتْ أُسْدَ الْفَلاَةِ بِهِ أَتَيْنَ سِرَاعَا
٤١٩٦ - لَذٌّ كَطَعْم الصَّرخَدِيِّ تَرَكْتُهُ بأَرْضِ العِدَا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثَانِ
واللذيد كل شيء مستطابٌ. وأنشد:
٤١٩٧ - يَلذُّ لِطَعْمِهِ وَتَخَالُ فِيهِ إذَا نَبَّهْتَهَا بَعءدَ الْمَنَامِ
و «للشَّارِبينَ» صفة «لِلَذّةِ» وقال اللَّيْث: اللَّذَّة واللَّذِيذَة يجريان مَجْرَى واحداً في النعت يقال: شَرَابٌ لَذَّ ولذيدٌ قال تعالى: ﴿بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾ [محمد: ١٥] وعلى هذا «لَذَّة» بمعنى لذيذ.
قوله: ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ صفة أيضاً وبطل عمل لا وتكررت لتقدم خبرها، وتقدم أول البقرة فائدة تقيم مثل هذا الخبر، والبحثُ مع أبي حيان فيه.
قال الفراء: العرب تقول ليس فيها غِيلَةٌ وغائلةٌ وغُول (وغَوْل) سواء وقال عبيدة: الغَوْلُ أن غتال عقولهم وأنشد قول مطيع بن إياس:
301
٤١٩٨ - وَمَا زَالَتِ الْكَأسُ تَغْتَالُهُمْ وَتَذْهَبُ بالأَوَّل فَالأّوَّلِ
وقال الليث: الغول الصداع والمعنى لي فيها صدع كما في خمر الدنيا، وقال الواحدي: الغَوْل حقيقته الإهلاك، يقال: غَالَهُ غَوْلاً واغْتَالَهُ أهْلَكَهُ، والغَوْل والغَائلُ المهلك وسُمِّي (وَطْءُ) المرضع غَوْلاً لأنه يؤدي إلى الهلاك، والغوب كلُّ ما اغتالك أي أهلَكك، ومنه الغُولُ بالضم شيء تَوَهَّمَتْهُ العرب ولها فيه أشعار كالعَنْقَاء يقال: غَالِني كذا ومنه الغِيلَة في العقل والرضاع قال:
٤١٩٩ - مَضَى أَوَّلُونَا نَاعِمِينَ بِعَيْشِهِمْ جَمِعياً وَغَالتُنِي بِمَكَّةَ غُولُ
فالغول اسم لجميع الأذى. وقال الكلبي: لا فيها إثمٌ وقال قتادة: وَجَعُ البطن وقال أهل المعاني: الغول فساد يلحق أمره في خفية، وخمر الدنيا يحصل فيها أنواع من الفساد منها السُّكْرُ وذَهَابُ العقل ووجع البطن والصُّدَاع والقيءُ والبَوْل ولا يوجد شيء من ذلك من خمر الجنة.
قوله: ﴿وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ قرأ الأخوان «ينزقون» هنا، وفي الواقعة، بضم الياء وكسر الزاي. وافقهما عاصمٌ على ما في الوقعة فقط. والباقون بضم الياء وفتح الزاي وابن إسحاق بالفتح والكسر وطلحة بالفتح والضم فالقراءة الأولى من أَنْزَفَ الرَّجُلُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ من السكر فهو نَزِيفٌ وَمنزُوفٌ، وكان قياسه مُنِزْفٌ كمُكْرِم، ونَزَفَ الرجلُ الخمْرةَ فَأنْزَفَ هو ثُلاَثيُّهُ متعددٌ ورباعية بالهمزة قاصر وهو نحو: كَبَيْتُهُ فأَكَبَّ وقَشعَت الريحُ السَّحابَ فَأَقْشَعَ أي دخلا في الكَبِّ والقَشْعِ وقال الأسود:
302
٤٢٠٠ - لَعْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُم أَوْ صَحَوْتُمُ لَبْئِسَ النَّدَامَى أَنْتُمْ آلَ أَبْجَرَا
ويقال: أنزف أيضاً أي نَفِذَ شَرَبُهُ. وأما الثانية فمن نزف أيضاً بالمعنى المتقدم وقيل هو من قولهم: نَزَفتِ الرَّكِيَّةُ أي نَزَحَتْ ماءها. والمعنى أنهم لا تذهب خمورهم بل هي باقية أبداً، وضمن يَنْزِفُونَ معنى يصدون عنها بسبب النَّزِيفِ.
وأما القراءاتان الأخيرتان فيقال: نَزِف الرجلُ ونَزُفَ بالكسر والضم بمعنى ذهب عقله بالسّكر، ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقيبه صفة منكوحهم فقال: «وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ» «قاصرات الطرف» يجوز أن يكون من باب الصّفة المشبهة أي قاصراتٌ أطرافُهن كمُنْطَلِقُ اللّسانِ، وأن يكون من باب إطلاق اسم الفاعل على أصله فعلى الأول المضاف إليه مرفوع المحل وعلى الثاني منصوبه أي قَصَرْنَ أطْرَافَهُنَّ على أزواجهن. وهو مدح عظيم قال امرؤ القيس:
٤٢٠١ - مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَو دَبّ مُحْوِلٌ مِنَ الذِّرِّ فَوْقَ الإتْبِ مِنْهَا لأَثّرَا
ومعنى القصر في اللغة الحبس ومنه قوله تعالى: ﴿مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام﴾ [الرحمن: ٧٢] والمعنى أنهن يَحْبسْنَ نظرهُنَّ ولا ينظرن إلى غير أزواجهن، والعِينُ جمع عَيْنَاءَ وهي الواسعة العينين والذَّكَرُ أعْيَنُ قال الزجاج كِبَارُ الأعْين حِسَانُها يقال رَجُلٌ أَعَيْنُ، وامرأة عَيْنَاهُ، ورجالٌ ونِسَاءٌ عِينٌ.
قوله: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ والبيضُ جمع بَيْضَة وهو معروف والمراد به هنا بيض
303
النَّعَامِ، والمكنون المصون المستور من كَنَنْتُهُ أي جعلته في كِنّ والعرب تشبه المرأة بها في لونها وهو بياض مشوبٌ ببعض صُفرة والعرب تحبه.
قال امرؤ القيس:
٤٢٠٢ - وَبَيْضَةِ خِذْ (رٍ) لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَا تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ معجلِ
كَبِكْرِ مُقَانَاةِ البَيَاضِ بصُفْرَةٍ غَذَاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ المُحَلَّلِ
وقال ذو الرمة:
٤٢٠٣ - بَيْضَاءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَاءُ فِي غَنَجٍ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّها ذَهَبُ
وقال بعضهم: إنما شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة للأخرى. وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء حيث قال:
٤٢٠٤ - تَنَاسَبَت الأَعْضَاءُ فِيهَا فَلاَ تَرَى بِهِنّ اخْتِلاَفاً بَلْ أَتَيْنَ عَلَى قَدْرِ
ويجمع البيض على بُيُوض قال:
٤٢٠٥ - بِتَيْهَاءِ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأّنَّهَا قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
قال الحسن: شب (هـ) هن ببيض النّعام تكنُّها بالرِّيش عن الريح والغبار فلونها أبيض في صفرة.
304
يقال: هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة بيضاء مُشْرَبةً صفرةً (وإنما ذكر المكنون والبيض جمع مؤنث لأنه رده إلى اللفظ).
305
ثم كأنه قيل : فكيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده ؟ فأجاب بقوله :﴿ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي «إلا جزاء ما كنتم تعملون١ ».
١ الرازي ٢٦/١٣٥..
قوله :﴿ إِلاَّ عِبَادَ الله ﴾ استثناء منقطع١ أي لكن عباد الله المخلصين الموحدين،
١ السمين ٤/٥٤٦..
وقوله :﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ ﴾ بيان لحالهم، وقد تقدم في فتح اللام وكسرها من المْخْلَصِينَ١ قراءتان فمن قرأ بالفتح٢ فالمعنى أن الله تعالى أخلصهم واصطفاهم بفضله. والكسر٣ هو أنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى٤. والرزق المعلوم قيل : بُكْرَةً وعَشِيًّا لقوله :﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٢ ] فيكون المراد منه معلوم الوقت وهو مقدار غَدْوَةٍ أو عَشْوَة وإن لم يكن ثم بكرة ولا عشية. وقيل : ذلك الرزق معلوم الصفة أي مخصوصاً بصفات من طيب طعم ولذة وحسن منظر. وقيل معناه أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى ينقطع وقيل : معلوم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وقد ( بين٥ أنه ) تعالى يعطيهم غير ذلك تَفَضُّلاً٦.
١ يشير إلى الآية ٢٤ من يوسف و ٤٠ من الحجر..
٢ وهم نافع وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف، والباقون بالكسر انظر: الإتحاف ٣٦٩..
٣ في ب: بالكسر..
٤ الرازي ٢٦/١٣٦..
٥ بياض في ب، وتكملة من أ وفي الرازي بين الله تعالى..
٦ الرازي المرجع السابق..
قوله :﴿ فَوَاكِهُ ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من «رزقٍ » وأن يكون خبر ابتداء مضمر أي ذلك الرزق فَوَاكِهُ١ وفي الْفَوَاكِهِ قَوْلاَنِ :
أحدهما : أنها عبارة عما يؤكل للتلذذ لا للحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحّة بالأقوات فإن أجسامهم محكومة ومخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ.
والثاني : أن المقصود بذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى، لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان المأكول للغذاء أولى بالحضور٢.
قوله :﴿ وَهُم مُّكْرَمُونَ ﴾ قرأ العامة مُكْرَمُونَ خفيفة الراء. و ( ابن )٣ مِقْسِم بتشديدها٤. والمعنى وهم مُكَرَّمُونَ بثواب الله في جنات النعيم لما ذكر مأكولهم ذكر مسكنهم.
١ قاله السمين في الدر ٤/٥٤٦ وأبو البقاء في التبيان ١٠٨٩ وقال ابن الأنباري في البيان بالأول ٢/٣٠٤..
٢ الرازي ٢٦/١٣٦ و ١٣٧..
٣ تصحيح على النسختين ففيهما أبو. والصحيح ما أثبت أعلى، محمد بن الحسين بن يعقوب بن الحسن بن الحسين بن مقسم أبو بكر البغدادي الإمام المقرىء النحوي أخذ عن إدريس بن عبد الكريم وداود بن سليمان روى عنه ابن مهران وغيره. مات سنة ٣٥٤ هـ، الغاية ٢/١٢٣: ١٢٥..
٤ نقلها أبو حيان في بحره ٧/٣٥٩ وكذلك صاحب التبيان ١٠٨٩ ولكن بدون عزو..
وقوله «فِي جَنَّاتِ » يجوز أن يتعلق «بمُكْرَمُونَ » وأن يكون خيراً ثانياً وأن يكون حالاً١.
١ ذكر الأوجه الثلاثة العكبري في تبيانه ١٠٨٩ كما ذكرها صاحب الدر ٤/٥٤٧..
قوله :﴿ على سُرُرٍ ﴾ العامة على ضم الراء. وأبو السَّمَّال بفتحها١. وهي لغة بعض كَلْبٍ٢، وتميم يفتحون عين «فُعُلٍ » جمعاً إذا كان اسماً مضاعفاً. وأما الصفة نحو : ذُلُل ففيها خلاف.
والصحيح أنه لا يجوز لأنَّ السماع ورد في الجوامد دون الصفات٣. و «عَلَى سُرُور مُتَقَابلين » حال، ويجوز أن يتعلق «عَلَى سُرُر » بمتقابلين و «يُطَافُ » صفة «لمكرمون » أو حال من الضمير في :«متقابلين » أو من الضمير في أحد الجَارِّيْن إذا جعلناه حالاً. ٤
ومعنى متقابلين لا يرى بعضُهم قَفَا بعض٥،
١ ذكرها أبو حيان والسمين المرجعان السابقان..
٢ البحر المرجع السابق..
٣ المرجعان السابقان. وانظر المجاز لأبي عبيدة ٢/١٦٩ وشرح الشافية للإمام الرضي ٢/١٣١ و ١٣٢..
٤ ذكر هذه الأوجه كلها أيضا العكبري في التبيان وزادها إيضاحا وكثرة السمين في الدر ٤/٥٤٧..
٥ قاله أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٣ وأبو حيان في البحر ٧/٣٥٨ والكشاف ٣/٣٤٠..
ولما ذكر المأكل والمسكن ذكر بعده صفة المشرب فقال :﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴾. والكأس من الزجاج ما دام فيها شراب وإلا فهو قَدَح. وقد يطلق الكأس على الخمر نفسها وهو مجاز سائغٌ١ وأنشد :
٤١٩٣- وَكَأس شَرِبْتُ عَلَى لذَّةٍ. . . وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا٢
و «مِنْ مَعين » صفة «لكأسٍ »٣. والمعين معناه الخَمر الجارية في الأنهار، أي ظاهرة تراها العيون وتقدم الكلام في مَعِين٤. وعن الأخفش : كل كأس في القرآن فهي الخَمْر٥ وقوله :﴿ مِنْ مَعِين ﴾ أي من شراب مَعِينٍ أو من نَهْرٍ مَعِينٍ. المَعِينُ مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء، وسمي ( م )٦ عِيناً لظهوره، يقال : عَانَ الماءُ إذا ظهر جارياً، ( قاله٧ ثعلب ) فهو مَفْعُول من العَيْن نحو : مَبِيع ومَكِيلٍ، وقيل : سمي معيناً لأنه يجري ظاهر العين كما تقدم. ويجوز أن يكون فعيلاً من المعين وهو الماء الشديد الجري، ومنه أمْعَنَ في الجَرْيِ إذا اشتد فيه٨.
١ قاله الرازي ٢٦/١٣٧ والنحاس في الإعراب ٣/٤١٩ والزجاج في المعاني ٤/٣٠٣..
٢ البيت من المتقارب وهو للأعشى ميمون وقد ذكره الرازي في ٢٦/١٣٧ والبحر في ٧/٣٥٩، والبيضاوي ٢/٥٦ والزمخشري في ٣/٣٤٠ وشرح شواهده ٥٦١ وديوانه ٢٤ دار صادر بيروت..
٣ قاله السمين ٤/٥٤٨..
٤ عند قوله :"وآويناهما إلى ربوة ذات قرارا ومعين"، [المؤمنون: ٥٠] وقال هناك المعين الماء الظاهر الجاري ولنا أن نجعل ميمها أصلية ونجعلها فعيلا من الماعون أو مفعولا من العيون وانظر: اللباب ميكروفيلم..
٥ نقله عنه الرازي والكشاف المراجع السابقة..
٦ الميم سقط من ب..
٧ سقط من "ب" و "أ" أيضا فهو تصحيح من الرازي واللسان. وانظر: اللسان: "م ع ن" ٤٢٣٧ فقد نقل الهروي في فصل "عين" عن ثعلب أنه قال: عان الماء يعين إذا جرى ظاهرا. اللسان المرجع السابق..
٨ اللسان والرازي السابقان..
قوله :﴿ بَيْضَاءَ ﴾ صفة لكأس١. وقال أبو حيان : صفة «لكأس » أو «للخمر »٢، قال شهاب الدين : لم يذكر الخمر اللهم إلا أن يعني بالمعين الخمر. وهو بعيد جداً. ويمكن أن يجاب بأن الكأس إنما، سميت كأساً إذا كان فيها الخمر٣.
وقرأ عبد الله : صَفْرَاءَ٤ وهي مخالفة للسواد، إلا أنه جاء وصفها بهذا اللون وأنشد لبعض المولدين :
٤١٩٤- صَفْرَاء لاَتَنْزِلُ الأَحْزَانُ سَاحَتَهَا. . . لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ٥
و «لذة » صفة أيضاً وصفت بالمصدر مبالغة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال : فُلاَنٌ جُودٌ وكَرَمٌ إذا أرادوا المبالغة٦.
وقال الزجاج : أو على حذف المضاف أي ذات٧ لذَّة، أو على تأنيث «لَذَّ » بمعنى لذيذ فيكون وصفاً على «فَعْلِ » كصَعْب٨ يقال : لَذَّ الشَّيءُ يَلَذُّ لَذًّا فهو لَذَيدُ وَلَذٌّ وأنشد :
٤١٩٥- بِحَدِيثَها اللَّذِّ الَّذِي لَوْ كَلَّمْتْ. . . أُسْدَ الْفَلاَةِ بِهِ أَتَيْنَ سِرَاعَا٩
وقال آخر :
٤١٩٦- لَذٌّ كَطَعْم الصَّرخَدِيِّ تَرَكْتُهُ. . . بأَرْضِ العِدَا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثَانِ١٠
واللذيذ كل شيء مستطابٌ. وأنشد :
٤١٩٧- يَلذُّ لِطَعْمِهِ وَتَخَالُ فِيهِ. . . إذَا نَبَّهْتَهَا بَعدَ الْمَنَامِ١١
و «للشَّارِبينَ » صفة «لِلَذّةِ ». وقال اللَّيْث : اللَّذَّة واللَّذِيذَة يجريان مَجْرَى واحداً في النعت يقال : شَرَابٌ لَذَّ ولذيدٌ قال تعالى :﴿ بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾ وقال تعالى :﴿ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾١٢ [ محمد : ١٥ ] وعلى هذا «لَذَّة » بمعنى لذيذ١٣.
١ التبيان ١٠٨٩ والسمين ٤/٥٤٨..
٢ البحر ٧/٣٥٩..
٣ الدر المصون ٤/٥٤٨..
٤ وقد وافقه الحسن والضحاك وانظر المختصر لابن خالويه ١٢٨، وانظر: البحر المحيط ٧/٣٥٩ والدر المصون ٤/٥٤٨. وهي شاذة غير متواترة كما هو واضح..
٥ من البسيط وهو لأبي نواس الحسن بن هانىء الشاعر الحكمي. وأتى بالبيت حتى يدلنا على أن الصفراء صفة من صفات الخمر وأيدت تلك قراءة عبد الله بن مسعود. وانظر: الديوان ٦، والبحر المحيط ٧/٣٥٩ والدر المصون ٤/٥٤٨..
٦ نقله الرازي ٢٦/١٣٧ والسمين ٤/٥٤٨ والبحر المحيط ٧/٣٥٩ والكشاف ٣/٣٤٠..
٧ معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٣ وانظر أيضا إعراب النحاس ٣/٤١٩ وانظر أيضا المراجع السابقة..
٨ الكشاف والبحر والدر والرازي المراجع السابقة..
٩ من الكامل، ولم أعثر على قائله وشاهده: أن اللذ مصدر للذ. ويروى: بحديثك اللذ. على الخطاب يقول: إن سحر حديثها يجذب أي إنسان حتى ولو كان أسد الغاب وذلك مبالغة. وانظر: الدر المصون ٤/٤٥٨ والبحر ٧/٣٥٠ وفتح القدير ٤/٣٩٣..
١٠ من الطويل وقد نسبه صاحب اللسان إلى الراعي وجاء كذا في مادة لذذ فيه، واللذ النوم الممتع كإمتاع الشراب المنسوب إلى صرخد وهو مكان بالشام. ومعنى البيت: أن الرجل ترك النوم اللذيذ خشية غدر الأعداء به. وانظر: اللسان ٢٤٢٦، ٤٠٢٤ والكشاف ٣/٣٤٠ وجاء في اللسان العجز في مادة: صرخد: طرحته عشية حمس القوم والعين عاشقة. وهذا هو الموافق للديوان ١٨٦. وانظر: القرطبي ١٥/٧٨ والدر ٤/٥٤٨..
١١ البيت من الوافر وهو للنابغة. ويروى: تلذ بطعمه وجيء بالبيت على أن اللذيذ بمعنى المستطاب الطيب. انظر: الديوان ١٣٢ والبحر المحيط ٧/٣٥٠ والدر المصون ٤/٥٤٨ وتمهيد القواعد ٢/٣٠٠..
١٢ [محمد: ١٥] وتمامها: ﴿وأنهار من خمر لذة للشاربين﴾..
١٣ وانظر رأي الليث هذا في تفسير الإمام الرازي ٢٦/١٣٧..
قوله :﴿ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ﴾ صفة أيضاً١ وبطل عمل لا وتكررت لتقدم٢ خبرها، وتقدم٣ أول البقرة فائدة تقديم مثل هذا الخبر، والبحثُ مع أبي حيان فيه.
قال الفراء : العرب تقول ليس فيها غِيلَةٌ وغائلةٌ وغُول ( وغَوْل )٤ سواء٥، وقال أبو عبيدة : الغَوْلُ أن تغتال٦ عقولهم٧ وأنشد قول مطيع بن إياس :
٤١٩٨ - وَمَا زَالَتِ الْكَأسُ تَغْتَالُهُمْ. . . وَتَذْهَبُ بالأَوَّل فَالأّوَّلِ٨
وقال الليث : الغول الصداع والمعنى ليس فيها صداع كما في خمر الدنيا٩، وقال الواحدي : الغَوْل حقيقته الإهلاك، يقال : غَالَهُ غَوْلاً واغْتَالَهُ أهْلَكَهُ، والغَوْل والغَائلُ المهلك وسُمِّي ( وَطْءُ )١٠ المرضع غَوْلاً لأنه يؤدي إلى الهلاك، والغول كلُّ ما اغتالك أي أهلَكك، ومنه الغُولُ بالضم شيء تَوَهَّمَتْهُ العرب ولها فيه أشعار١١ كالعَنْقَاء١٢ يقال : غَالِني كذا ومنه الغِيلَة في العقل والرضاع قال :
٤١٩٩- مَضَى أَوَّلُونَا نَاعِمِينَ بِعَيْشِهِمْ. . . جَمِعياً وَغَالتنِي بِمَكَّةَ غُولُ١٣
فالغول اسم لجميع الأذى. وقال الكلبي : لا فيها إثمٌ١٤، وقال قتادة : وَجَعُ البطن١٥. وقال أهل المعاني : الغول فساد يلحق أمره في خفية، وخمر الدنيا يحصل فيها أنواع من الفساد منها السُّكْرُ وذَهَابُ العقل ووجع البطن والصُّدَاع والقيءُ والبَوْل ولا يوجد شيء من ذلك من خمر١٦ الجنة.
قوله :﴿ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾ قرأ الأخوان «ينزفون » هنا، وفي الواقعة١٧، بضم الياء وكسر الزاي. وافقهما عاصمٌ على ما في الواقعة فقط. والباقون بضم الياء وفتح الزاي١٨. وابن أبي إسحاق بالفتح والكسر١٩. وطلحة بالفتح والضم٢٠ فالقراءة الأولى من أَنْزَفَ الرَّجُلُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ من السكر فهو نَزِيفٌ وَمنزُوفٌ، وكان قياسه مُنِزْفٌ كمُكْرِم، ونَزَفَ الرجلُ الخمْرةَ فَأنْزَفَ هو ثُلاَثيُّهُ متعددٌ ورباعيه بالهمزة قاصر وهو نحو : كَبَبْتُهُ فأَكَبَّ وقَشعَت الريحُ السَّحابَ فَأَقْشَعَ أي دخلا في الكَبِّ والقَشْعِ٢١ وقال الأسود :
٤٢٠٠- لَعْمرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُم أَوْ صَحَوْتُمُ. . . لَبْئِسَ النَّدَامَى أَنْتُمْ آلَ أَبْجَرَا٢٢
ويقال : أنزف أيضاً أي نَفِذَ٢٣ شَرَابُهُ. وأما الثانية فمن نزف أيضاً بالمعنى المتقدم وقيل هو من قولهم : نَزَفتِ الرَّكِيَّةُ أي نَزَحَتْ٢٤ ماءها. والمعنى أنهم لا تذهب خمورهم٢٥ بل هي باقية أبداً، وضمن يَنْزِفُونَ معنى يصدون عنها بسبب النَّزِيفِ.
وأما القراءتان الأخيرتان٢٦ فيقال : نَزِف الرجلُ ونَزُفَ بالكسر والضم بمعنى ذهب عقله بالسّكر،
١ قاله السمين ٤/٥٤٩ فتحصل أن هناك صفات خمسا "لكأس" هي: "من معين" و "بيضاء" ولذة، وللشاربين و "لا فيها غول"..
٢ وهو: "فيها". ومعروف أن لا النافية للجنس تعمل إذا كان اسمها نكرة وكذلك الخبر إذا لم يتقدم خبرها على اسمها وإذا قصد بها النفي العام وأن لا يفصل بين لا والنكرة بشيء وأن لا تكون النكرة غير معمولة لغير لا..
٣ عند قوله: ﴿فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ الآية ٣٨ وبين هناك أن التقديم لتأكيد المعنى وتثبيته أول الأمر كما بين أن أناسا يجيزون إعمال لا والحالة هذه من هؤلاء الرماني فقد جوز النصب في قوله: "لا فيها غولا" وقد حكى: لا كذلك رجلا، ولا كزيد رجلا ولا كالعشية زائرا وأجيب بالتأويل. اللباب ١/٥٨..
٤ زيادة من المعاني..
٥ المعاني ٢/٣٨٥..
٦ كذا هي في المجاز وما في ب: يغتال..
٧ المجاز ٢/١٦٩..
٨ من المتقارب وانظر: البحر ٧/٣٥٠ والمجاز ٢/١٦٩ والقرطبي ١٥/٧٩ ومجمع البيان ٧/٦٩٠ وابن كثير ٤/٧ وفتح القدير ٤/٣٩٣ والرازي ٢٦/١٣٧ والطبري ٢٣/٣١ واللسان: "غ و ل" ٣٣١٩..
٩ اللسان "غ و ل" ٣٣١٧..
١٠ زيادة من أ..
١١ اللسان ٣٣١٩..
١٢ وهي طائر ضخم ليس بالعقاب. انظر: اللسان " ع ن ق" ٣١٣٦..
١٣ من الطويل ولم أعرف قائله وشاهده أن الغول العوائق أي عاقتني عوائق وانظر: البحر ٧/٣٥٠..
١٤ نقله القرطبي ١٥/٧٩..
١٥ السابق..
١٦ انظر: معالم التنزيل للبغوي ٦/٢٣..
١٧ الآية ١٩ منها، وهي: ﴿لا يصدعون عنها ولا ينزفون﴾..
١٨ من القراءات المتواترة وانظر: حجة ابن خالويه ٣٠٢ والكشف ٢/٢٢٤ والسبعة ٥٤٧ والإتحاف ٣٦٩ والنشر ٢/٣٥٧ ومعاني الفراء ٢/٢٨٥..
١٩ نقلها صاحب البحر ٧/٣٦٠، والدر ٤/٥٤٩..
٢٠ المرجعان السابقان وانظر أيضا الكشاف ٣/٣٤٠..
٢١ السابق وانظر أيضا الكشف لمكي ٢/٢٢٤ ولسان العرب (نزف) ٤٣٩٧ و ٤٣٩٨..
٢٢ البيت مختلف في نسبته فقد نسب في المجاز ٢/١٦٩ إلى الأبيرد ونسبه القرطبي للحطيئة والسمين وأبو حيان إلى الأسود العنسي. وشاهده: استعمال (أنزف) رباعيا قاصرا وغير متعد. وانظر: القرطبي ١٥/٧٩ والبحر ٧/٣٥٠ والسمين ٤/٥٤٩، والمحتسب ٢/٣٠٨ والكشاف ٣/٣٤٠..
٢٣ في ب: فقد. وانظر: المعاني ٢/٣٨٥..
٢٤ الكشاف ٣/٣٤٠ والكشف ٢/٢٢٤ والركية: البئر تحفر؛ اللسان "ركا" ١٧٢٢ و ٤٣٩٧ "ن ز ف"..
٢٥ في ب: جمودهم. لحن وخطأ..
٢٦ وهي قراءة ينزفون بفتح الياء وكسر الزاي، وينزفون بالفتح والضم وانظر: الدر المصون ٤/٥٠٠..
ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقيبه صفة منكوحهم فقال :«وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ». «قاصرات الطرف » يجوز أن يكون من باب الصّفة المشبهة١ أي قاصراتٌ أطرافُهن كمُنْطَلِقُ اللّسانِ، وأن يكون من باب إطلاق اسم الفاعل٢ على أصله. فعلى الأول المضاف إليه مرفوع المحل٣ وعلى الثاني منصوبه٤ أي قَصَرْنَ أطْرَافَهُنَّ على أزواجهن. وهو مدح عظيم قال امرؤ القيس :
٤٢٠١- مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَو دَبّ مُحْوِلٌ. . . مِنَ الذِّرِّ فَوْقَ الإتْبِ مِنْهَا لأَثّرَا٥
ومعنى القصر في اللغة الحبس ومنه قوله تعالى :﴿ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام ﴾ [ الرحمن : ٧٢ ]. والمعنى أنهن يَحْبسْنَ نظرهُنَّ ولا ينظرن إلى غير أزواجهن، والعِينُ جمع عَيْنَاءَ وهي الواسعة العينين والذَّكَرُ أعْيَنُ٦، قال الزجاج كِبَارُ الأعْين حِسَانُها٧، يقال رَجُلٌ أَعَيْنُ، وامرأة عَيْنَاهُ، ورجالٌ ونِسَاءٌ عِينٌ. ٨
١ حيث إنها تدل على الثبوت والدوام بخلاف..
٢ اسم فاعل فإنه يدل على التجدد والحدوث..
٣ على اعتبار أن الطرف هو القاصر أي قصر طرفهن..
٤ على اعتبار أن الطرف مقصور والفاعل ضمير في اسم الفاعل، كما أول: "قصرن أطرافهن"..
٥ له من الطويل والمحول: الصغير من الذر وهو ضرب من النمل، والإتب القميص ويروى فوق الخد. وهو يقول لا تنظر إلا إلى بعلها فقط والشاهد "قاصرات الطرف" فإنه اسم فاعل أضيف إلى مفعوله فهو منصوب وقد تقدم..
٦ قاله أبو عبيدة ٢/١٧٠..
٧ معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٤..
٨ اللسان عين ٣١٩٦، ٣١٩٧..
قوله :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ والبيضُ جمع بَيْضَة وهو معروف والمراد به هنا بيض النَّعَامِ، والمكنون المصون المستور من كَنَنْتُهُ أي جعلته في كِنّ١ والعرب تشبه المرأة بها في لونها وهو بياض مشوبٌ٢ ببعض صُفرة والعرب٣ تحبه.
قال امرؤ القيس :
٤٢٠٢- وَبَيْضَةِ خِذْ ( رٍ ) لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَا. . . تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ معجلِ
كَبِكْرِ مُقَانَاةِ البَيَاضِ بصُفْرَةٍ. . . غَذَاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ المُحَلَّلِ٤
وقال ذو الرمة :
٤٢٠٣- بَيْضَاءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَاءُ فِي غَنَجٍ. . . كَأَنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّها ذَهَبُ٥
وقال بعضهم : إنما شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة للأخرى. وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء حيث قال :
٤٢٠٤- تَنَاسَبَت الأَعْضَاءُ فِيهَا فَلاَ تَرَى. . . بِهِنّ اخْتِلاَفاً بَلْ أَتَيْنَ عَلَى قَدْرِ٦
ويجمع البيض على بُيُوض قال :
٤٢٠٥- بِتَيْهَاءِ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأّنَّهَا. . . قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا٧
قال الحسن : شب ( ه )٨ هن ببيض النّعام تكنُّها٩ بالرِّيش عن الريح والغبار فلونها أبيض في صفرة.
يقال : هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة بيضاء مُشْرَبةً صفرةً١٠ ( وإنما١١ ذكر المكنون والبيض جمع مؤنث لأنه رده إلى اللفظ )١٢.
١ اللسان كنن ٣٩٤٢، ٣٩٤٣..
٢ كذا في "أ" مشوب..
٣ انظر اللسان: " ب ي ض" ٣٩٨..
٤ هما من البحر الطويل له من معلقته المشهورة والخباء ما كان على عمودين أو ثلاثة، ولا يرام خباؤها كناية عن عزتها ومنعتها والخدر: بيت المرأة وهنا شبهها في ملمسها وصفائها بالبيضة ومن هنا جاء البيت، والبكر: أول بيضة تضعها النعام، والمقاناة المخالطة التي قوني بياضها بصفرة أي خلط. ويروى المقاناة البياض. وفي تلك الحال يجوز خفض البياض ونصبه على اختلاف بين البصريين والكوفيين في النصب كما يجوز رفعه. وقد تقدم..
٥ من البسيط له في وصف الخمر، والبرج شدة البياض والظهور. والغنج الدل. وشاهده بيضاء فإن بياض الخمر مشرب بصفرة. وقد تقدم..
٦ من الطويل ولم يعرف قائله. وأتى به استئناسا للمعنى قبله من تشبيه المرأة بالبيضة. وانظر: البحر ٧/٣٦٠ و ٨/٢٩٨ والدر المصون ٤/٥٥١..
٧ البيت من بحر الطويل أيضا وهو لعمرو بن أحمر والتيهاء الصحراء، والقفر الخالي. والقطا: طير سريع الطيران والحزن الأرض الغليظة. يصف سرعة المطي بأنها مثل سرعة القطا في طيرانه. والشاهد أن البيوض جمع بيضة. وانظر: الأشموني ١/٢٣٠ وابن يعيش ٧/١٠٢، والدر المصون ٤/٥٥١ واللسان عرض والخزانة ٩/٢٠١..
٨ الهاء ساقطة من ب ففيها شبهن..
٩ في ب: لكنها تحريف وغير مراد ورأي الحسن موافق لرأي أبي إسحاق الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٤..
١٠ نقله الإمام أبو الفرج بن الجوزي في زاد المسير ٧/٥٨..
١١ ما بين القوسين سقط من ب..
١٢ فلفظ البيض مذكر وهو اسم جنس له مفرد من لفظه بالتاء بيضة..
قوله: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ وهذا على عطف قوله: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ﴾ [الصافات: ٤٥] والمعنى يشربو فيتحادثون على الشراب قال:
٤٢٠٦ - وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّات إلاَّ مُحَادَثَةُ الكِرَامِ علَى المُدَام
وأتى بقوله «فَأَقْبَلَ» ماضياً لتحقق وقوعه، كقوله ﴿ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة﴾ [الأعراف: ٥٠] وقوله: ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾ حال من فاعل «أقْبَلَ» والمعنى: أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن حاله في الدنيا.
قوله: ﴿قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾ أي في الدنيا ينكر البعث. و ﴿يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين﴾ أي كان يوبِّخني على التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجباً: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ أي لمحاسبون ومُجَازوْنَ، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار. واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشرب ويتحدثون كانت من جملة كَلِمَاتهم أنهم يتذكرون ما كان قد حصل لهم في الدنيا مما يوج الوقوع في عذاب الله ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية. قال مجاهد: كان ذلك القرين شيطاناً، وقيل: كان من الإنس، وقال مقاتل: كانا أخَوَيْنِ وقيل: كانا شريكين حصل لهما ثمانية آلاف دينار
305
فَتَقَاسَمَاها واشترى أحدهما داراً بألف دينار فأراها صاحبه وقال كيف ترى حسنها؟ (فقال: مَا أَحْسَنَهَا)، ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال: اللهم إنَّ صاحبي قد اتباع هذه الدار بألف دينار فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحُورِ العِينِ ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار، ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلب في الجنة.
وقيل: كان أحدهما كافراً اسمه نُطْرُوس والآخر مؤمن اسمه يَهُودَا وهما اللذان قص الله خبرهما في سورة الكهف: ﴿واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ﴾ [الكهف: ٣٢].
قوله: ﴿لَمِنَ المصدقين﴾ العامة على التخفيف الصاد من التصديق أي لمن المصدِّقِين بلقاء الله. وقرئ بتشديدها من الصَّدَقَة واختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة وهي قوله: ﴿أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين﴾ ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً﴾ ﴿أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير مهموسة والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. (ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين وابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام) والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة وأبو عمرو مطولة وحمزة وعاصم بهمزتين.

فصل


ثم إن الرجل يقول لجالسائه يدعوهم إلى كَمَال السُّرُور بالاطِّلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته ﴿قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ﴾ إلى النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به منا «فاطّلع أنت» قال ابن عباس: إنَّ في الجنة كُوًى ينظر أهلها منها إلى النار.
قوله: ﴿مُطَّلِعُونَ﴾ قرا العامة بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون فاطَّلَعَ ماضياً مبنياً للفاعل افتعل من الطلوع. وقرأ ابن عباس في آخرين - ويروى عن أبي عمرو - بسكون الطاء وفتح النون «فأُطْلِعَ» بقطع (ال) همزة مضمومة وكسر اللام ماضياً مبنياً
306
للمفعول، ومطلعون على هذه القراءة يحتمل أن يكون قاصراً أي مقبلون من قولك: اطلع علينا فلان أي أقبل، وأن يكون متعدياً ومفعوله محذوف أي أصْحَابَكُمْ وقرأ أبو البَرَهسم وحماد بن أبي عمار: مُطْلِعُونَ خفيفة الطاء مكسورة النون فأُطْلِعَ مبنياً للمفعول، ورد أبو حاتم وغيرُه هذه القراءة من حيث الجمع بين النون وضمير المتكلم إذْ كَانَ قياسها مُطْلِعِيَّ، والأصل مُطْلِعُوي فأبدل فأدغم نحو: جاء مُسْلِمِيَّ القَاطِنُونَ وقوله عليه - (الصلاة و) السلام - «أَوَ مُخْرِجيَّ هُمْ» وقد وجهها ابن جني على أنها أجري فيها اسم الفاعل مُجْرى المضارع يعني في إثبات النون مع الضمير وأنشد الطبري على ذلك:
٤٢٠٧ - وَمَا أَدْرِي وَظَنِّي كُلَّ ظَنِّي أَمْسْلِمُنِي إلى قَوْمِي شَرَاحِ
وإليه نحا الزمخشري قال: أوشبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخِ بينهما (كأنه) قال يُطْلِعُونَ وهو ضعيف لا يقع إلا في شعر وذكر فيه فيه تَوْجيهاً آخَر فقال: أراد مُطْلعُونِ إياي فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله:
307
٤٢٠٨ - هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ...........................
ورده أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع المنفصل حتى يدعي أن المتصل وقع موقعه لا يجوز: «هِنْدٌ زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّاهَا» ولا «زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّايَ» قال شهاب الدين: وإنما لم يجز ما ذكر لأنه إذا قدر على المتصل لم يُعْدَل إلى المنفصل ولِقَائلٍ أن يقول: لا أسلم أنه يقدر على المتصل حالة ثبوت النون أو التنوين قبل الضمير بل يصير الموضع موضع الضمير المنفصل فيَصحّ ما قال (هـ) الزمخشري، وللنحاة في اسم الفاعل المنوّن قبل ياء المتكلم نحو البيت المتقدم وقول الآخر:
٤٢٠٩ - فَهَلْ فَتًى مِنْ سَرَاةِ الْقَوْمِ يَحْمِلُنِي وَلَيْسَ حَامِلُنِي إلاَّ ابْنُ حَمَّالِ
وقول الآخر:
٤٢١٠ - وَلَيْسَ بمُعْيِيني وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ صَدِيقٌ وَقَدْ أَعْيَى عَلَيَّ صَدِيقُ
قولان:
أحدهما: أنه تنوين وأنشد شذ ثبوته مع الضمير. وإن قلنا: إن الضمير بعده في محل نصب.
308
والثاني: أنه ليس تنويناً وإنما هو نون وقاية.
واستدل ابن مالك على هذا بقوله: وليس بمعييني، وبقوله أيضاً:
٤٢١١ - وَلَيْسَ الْمُوَافِينِي (وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ صَدِيقٌ إذَا أعْيَا عَلَيَّ صديق)
ووجه الدلالة من الأول أنه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذف الياء قله لأنه منقوص منون، والمنقوص المنون تحذف ياءؤه رفعاً وجراً لالتقاء الساكنين، ووجهها من الثاني أن الألف واللام لا تجماع التنوين. والذي يرجح لاقول الأول ثبوت لانون في قوله: ﴿وَالآمِرُونَهُ﴾ وفي قول الآخر:
٤٢١٢ - وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ جَمِيعاً وَأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُه
فإن النون قائمة مقام التنوين تثنية وجمعاً على حدها، وقال أبو البقاء «وتقرأ بكسر النون» وهو بعيد جداً؛ لأن النون إنْ كانت للوقاية فلا تحلق الأسماء وإن كانت نون الجمع لا تثبت في الإضافة وهذا الترديد صحيح لولا ما تقدم من الجواب عنه مع تكلف فيه وخروج عن القواعد.
(وقُرِئَ مُطّلعون بالتشديد كالعامة فأَطْلُعَ مضارعاً «منصوباً (بإضمار» أَنْ «على
309
جواب الاستفهام). وقرئ مُطْلِعُونَ بالتخفيف فأطْلِعَ فَأطْلِعَ مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً على ما تقدم يُقالُ: طَلَع عَلَيْنَا فلانٌ وأَطْلَعَ كأَكْرَمَ واطَّلَعَ بالتشديد بمعنى واحد وأما قراءة من بني الفعل للمفعول ففي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه مصدر الفعل أي اطَّلَعَ الاطِّلاَع.
الثَّانِي: الجار المقدر.
الثَّالِثُ: - وهو الصحيح - أنه ضمير القائل لأصحابه ما قاله لأنه يقال: طَلَعَ زَيْدٌ وأَطْلَعَهُ غَيْرَهُ فالهمزة فيه للتعدية، وأما الوجهان الأولان فذهب إليهما أبو الفضل الرازي في لَوَامِحِهِ فقال: طلع واطّلع إذا بدا وظهر واطّلع اطّلاعاً إذا جاء وأقبل. ومعنى ذلك: هل أنت مقبلون فأُقْبِل، وإنما أقيم المصدر فيه مُقَامَ الفاعل بتقدير فاطلع الاطلاع، أو بتقدير حرف الجر المحذوف أي أُطْلِعَ بِهِ لأن أَطْلََ لازم كما أن أقبل كذلك ورد عليه أبو حيان هذين الوجهين فقال قد ذكرنا أن» أطْلَعَ «بالهمزة معدًّى بها من طلع اللازم. وأما قوله أو حرف الجر المحذوف أي اطلع به فهذا لا يجوز لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه لأنه نائب عنه فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله، فكذلك هذا لو قلت:» زَيْدٌ مَمْرُورٌ أو مغْضُوبٌ «تريد» بِهِ «أو» عَلَيْهِ «لم يجز.
قال شهاب الدين: أبو الفضل لا يَدَّعي أن النائب عن الفاعل محذوف وإنما قال: بتقدير حرف الجر المحذوف. (ومعنى ذلك) أنه لما حذف حرف الجر اتَّسَاعاً انقلب الضمير مرفوعاً فاستتر في الفعل كما يدعى ذلك في حذف عائد الموصول المجرور عند عدم شروط الحذف ويُسَمَّى الحذف على التدريج.
310
قوله: ﴿فَرَآهُ﴾ عطف على» فَاطَّلَعَ «و» سَوَاءُ الجَحِيم «وسطها وأحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس سمي بذلك لاستواء المسافة منه إلى الجوانب وعن عيسى بن عُمَر أنه قال لأبي عُبَيْدَةَ: كنت أكتب حتى ينقطع سوائي.
قوله: ﴿تالله﴾ قسم فيه تعجب، و»
إنْ «مخففة أو نافية واللام في» لَتُرْدِين «فارقة أو بمعنى إلا. وعلى التقديرين فهي جواب القسم أعني إن وما في خبرها.

فصل


قال المفسرون: إنه ذهب إلى أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار فَرَآهُ فِي سَوَاء الجَحِيم أي وسط الجحيم فقال له توبيخاً: ﴿تالله إنْ كدت لتردين﴾ أي والله لقد كِدتَ أن تهلكني.
وقال مقاتل: والله لقد كدتَ أن تُغْويَنِي ومن أغوى إنساناً فقد أهلكه، والرَّدَى الهلاك أي لتهلكني بدعائك إيَّاي إلى إنكار البعث والقيامة ﴿وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي﴾ أي رحمة ربي وإنعامه عليّ بالإسلام ﴿لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ معك في النار ولما تمم الكلام مع قرينه الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة وقال: ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ﴾ قال بعضهم: إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كَبْشٍ أمْلَحَ وذُبحَ يقول أهل الجنة للملائكة: «أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ»
؟ فتقول الملائكة: لا فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون. وعلى هذا فالكلام حصل قبل ذبح الموت وقيل: إن الذي تكاملت سعادته إذا عظم تعجُّبُهُ بها يقول ذلك. والمعنى أهذا لي على جهة الحديث بنعمة الله عليه وقيلي: يقوله المؤمن لقرينِهِ توبيخاً له بما كان ينكره.
قوله: ﴿بِمَيِّتِينَ﴾ قرأ زيدٌ بنُ علي بمَائِتين وهما مثل ضَيِّق، وضاَئِق كما
311
تقدم، وقوله «أَفَمَا» فيه الخلاف المشهور، فقدَّره الزمخشري أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ مُنَعَّمُونَ فما نحن بميتين وغيره يجعل الهمزة متقدمة على الفاء.
قوله: ﴿إِلاَّ مَوْتَتَنَا﴾ منصوب على المصدر، والعامل فيه الوصف قبله، ويكون استثناء مُفرّغاً وقيل: هوا ستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى﴾ [الدخان: ٥٦] وفيها هناك بحث حسن.
قوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم﴾ وهذا قول أهل الجنة عند فراغهم من (هذه) المحادثات. وقوله: ﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون﴾ قيل: إنه من بقية كلامهم، وقيل: إنه ابتداء كلام من الله تعالى اي لمثل هذا النعيم الذي ذكرناه.
312
قوله :﴿ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ أي في الدنيا ينكر البعث.
و ﴿ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين ﴾ أي كان يوبِّخني على١ التصديق بالبعث والقيامة
١ في ب: عن..
ويقول تعجباً :﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ أي لمحاسبون ومُجَازوْنَ، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار. واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشرب ويتحدثون كانت من جملة كَلِمَاتهم١ أنهم يتذكرون ما كان قد حصل لهم في الدنيا مما يوجب الوقوع في عذاب الله ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية. قال مجاهد : كان ذلك القرين شيطاناً، وقيل : كان من الإنس، وقال مقاتل : كانا أخَوَيْنِ٢. وقيل : كانا شريكين٣ حصل لهما ثمانية آلاف دينار فَتَقَاسَمَاها واشترى أحدهما داراً بألف دينار فأراها صاحبه وقال كيف ترى حسنها ؟ ( فقال٤ : مَا أَحْسَنَهَا )، ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال : اللهم إنَّ صاحبي قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك دارا من دور الجنة ثم إن صاحبه تزوج امرأة حسناء بألف دينار، فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحُورِ العِينِ ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار، ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلب في الجنة.
وقيل : كان أحدهما كافراً اسمه نُطْرُوس والآخر مؤمن اسمه يَهُودَا وهما اللذان قص الله خبرهما في سورة٥ الكهف :﴿ واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ ﴾ [ الكهف : ٣٢ ].
قوله :﴿ لَمِنَ المصدقين ﴾ العامة على التخفيف الصاد من التصديق أي لمن المصدِّقِين بلقاء الله. وقرئ بتشديدها من الصَّدَقَة٦، واختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة وهي قوله :﴿ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين ﴾ ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً ﴾ ﴿ أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير مهموسة٧ والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. ( ووافقه٨ الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين وابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام ) والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة وأبو عمرو مطولة وحمزة وعاصم بهمزتين٩.
١ في ب: كلامهم..
٢ وانظر: الرازي ٢٦/١٣٩ وزاد المسير ٧/٥٩..
٣ وهو رأي مقاتل، انظر: زاد المسير ٧/٥٩ وانظر: معالم التنزيل والرازي ٢٦/١٣٩..
٤ سقط من نسخة ب..
٥ المرجع السابق..
٦ من القراءة المتواترة فقرأ حمزة بالتشديد، وانظر: زاد المسير ٧/٥٩، فيما رواه عن حمزة بكر بن عبد الرحمن القاضي، وانظر: البحر المحيط ٧/٣٦٠، وكذلك الكشاف ٣/٣٤١ بدون نسبة أيضا..
٧ كذا هنا في أ و في ب مهموزة وفي الرازي ممدودة..
٨ ما بين المعقوفتين كله سقط من نسخة ب..
٩ وانظر: الفخر الرازي ٢٦/١٤٠ وإتحاف فضلاء البشر ٢٦٩..

فصل


ثم إن الرجل يقول لجالسائه يدعوهم إلى كَمَال السُّرُور بالاطِّلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته ﴿ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ ﴾ إلى النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به١ منا «فاطّلع أنت ». قال ابن عباس : إنَّ في الجنة كُوًى ينظر أهلها منها إلى النار.
قوله :﴿ مُطَّلِعُونَ ﴾ قرأ العامة بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون فاطَّلَعَ ماضياً مبنياً للفاعل افتعل من الطلوع. وقرأ ابن عباس في آخرين - ويروى عن أبي عمرو - بسكون الطاء وفتح النون «فأُطْلِعَ » بقطع ( ال )٢ همزة مضمومة وكسر اللام ماضياً مبنياً للمفعول٣، ومطلعون على هذه القراءة يحتمل أن يكون قاصراً أي مقبلون من قولك : اطلع علينا فلان أي أقبل٤، وأن يكون متعدياً ومفعوله محذوف أي أصْحَابَكُمْ٥، وقرأ أبو البَرَهسم وحماد بن٦ أبي عمار : مُطْلِعُونَ خفيفة الطاء مكسورة النون فأُطْلِعَ مبنياً للمفعول٧، ورد أبو حاتم وغيرُه٨ هذه القراءة من حيث الجمع بين النون وضمير المتكلم إذْ كَانَ قياسها مُطْلِعِيَّ، والأصل مُطْلِعُوي فأبدل فأدغم نحو : جاء مُسْلِمِيَّ القَاطِنُونَ وقوله عليه - ( الصلاة و ) السلام- «أَوَ مُخْرِجيَّ هُمْ »٩، وقد وجهها ابن جني على أنها أجري فيها اسم الفاعل مُجْرى المضارع يعني في إثبات النون فيه مع الضمير١٠ وأنشد الطبري على ذلك :
٤٢٠٧- وَمَا أَدْرِي وَظَنِّي. . . كُلَّ ظَنِّي أَمْسْلِمُنِي١١ إلى قَوْمِي شَرَاحِ١٢
وإليه نحا الزمخشري قال : أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخِ بينهما ( كأنه )١٣ قال يُطْلِعُونَ١٤ وهو ضعيف لا يقع إلا في شعر١٥. وذكر فيه فيه تَوْجيهاً آخَر فقال : أراد مُطْلعُونِ إياي فوضع المتصل موضع المنفصل١٦ كقوله :
٤٢٠٨- هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ١٧
ورده أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع المنفصل حتى يدعي أن المتصل١٨ وقع موقعه لا يجوز :«هِنْدٌ زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّاهَا » ولا «زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّايَ ». قال شهاب الدين : وإنما لم يجز ما ذكر لأنه إذا قدر على المتصل لم يُعْدَل إلى المنفصل١٩. ولِقَائلٍ أن يقول : لا أسلم٢٠ أنه يقدر على المتصل حالة ثبوت النون أو التنوين قبل الضمير بل يصير الموضع موضع الضمير المنفصل فيَصحّ ما قال ( ه )٢١ الزمخشري، وللنحاة في اسم الفاعل المنوّن قبل ياء المتكلم نحو البيت المتقدم وقول الآخر :
٤٢٠٩- فَهَلْ فَتًى مِنْ سَرَاةِ الْقَوْمِ يَحْمِلُنِي. . . وَلَيْسَ حَامِلُنِي إلاَّ ابْنُ حَمَّالِ٢٢
وقول الآخر :
٤٢١٠- وَلَيْسَ بمُعْيِيني وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ. . . صَدِيقٌ وَقَدْ أَعْيَى عَلَيَّ صَدِيقُ٢٣
قولان :
أحدهما : أنه تنوين وأنشد شذ ثبوته مع الضمير. وإن قلنا : إن الضمير بعده في محل نصب٢٤.
والثاني : أنه ليس تنويناً وإنما هو نون وقاية٢٥.
واستدل ابن مالك على هذا بقوله : وليس بمعييني، وبقوله أيضاً :
٤٢١١- وَلَيْسَ الْمُوَافِينِي ( وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ. . . صَدِيقٌ إذَا أعْيَا عَلَيَّ صديق )٢٦
ووجه الدلالة من الأول أنه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذف الياء قبله لأنه منقوص منون، والمنقوص المنون تحذف ياؤه رفعاً وجراً لالتقاء الساكنين، ووجهها من الثاني أن الألف واللام لا تجامع التنوين. والذي يرجح القول الأول ثبوت النون في قوله :﴿ وَالآمِرُونَهُ ﴾٢٧، وفي قول الآخر :
٤٢١٢- وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ. . . جَمِيعاً وَأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُه٢٨
فإن النون قائمة مقام التنوين تثنية وجمعاً على حدها، وقال أبو البقاء «وتقرأ بكسر النون ». وهو بعيد جداً ؛ لأن النون إنْ كانت للوقاية فلا تلحق الأسماء وإن كانت نون الجمع لا تثبت في الإضافة٢٩ وهذا الترديد صحيح لولا ما تقدم من الجواب عنه مع تكلف فيه وخروج عن القواعد٣٠.
( وقُرِئَ٣١ مُطّلعون بالتشديد كالعامة فأَطْلُعَ مضارعاً ) منصوباً ( بإضمار٣٢ «أَنْ » على جواب الاستفهام ). وقرئ مُطْلِعُونَ بالتخفيف فأطْلِعَ َ مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً على ما تقدم يُقالُ : طَلَع عَلَيْنَا فلانٌ وأَطْلَعَ كأَكْرَمَ واطَّلَعَ بالتشديد بمعنى واحد٣٣. وأما قراءة من بنى الفعل للمفعول ففي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مصدر الفعل أي اطَّلَعَ الاطِّلاَع. ٣٤
الثَّانِي : الجار المقدر٣٥.
الثَّالِثُ :- وهو الصحيح- أنه ضمير القائل لأصحابه ما قاله لأنه يقال : طَلَعَ زَيْدٌ وأَطْلَعَهُ غَيْرَهُ فالهمزة فيه للتعدية٣٦، وأما الوجهان الأولان فذهب إليهما أبو الفضل الرازي في لَوَامِحِهِ فقال : طلع واطّلع إذا بدا وظهر واطّلع اطّلاعاً إذا جاء وأقبل. ومعنى ذلك : هل أنتم مقبلون فأُقْبِل، وإنما أقيم المصدر فيه مُقَامَ الفاعل بتقدير فاطلع الاطلاع، أو بتقدير حرف الجر المحذوف أي أُطْلِعَ بِهِ لأن أَطْلََع لازم كما أن أقبل كذلك٣٧. ورد عليه أبو حيان هذين الوجهين فقال قد ذكرنا أن«أطْلَعَ » بالهمزة معدًّى بها من طلع اللازم. وأما قوله أو حرف الجر المحذوف أي اطلع به فهذا لا يجوز لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه لأنه نائب عنه٣٨ فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله٣٩، فكذلك هذا لو قلت :«زَيْدٌ مَمْرُورٌ أو مغْضُوبٌ » تريد «بِهِ » أو «عَلَيْهِ » لم يجز٤٠.
قال شهاب الدين : أبو الفضل لا يَدَّعي أن النائب عن الفاعل محذوف وإنما قال : بتقدير حرف الجر المحذوف. ( ومعنى٤١ ذلك ) أنه لما حذف حرف الجر اتَّسَاعاً٤٢ انقلب الضمير مرفوعاً فاستتر في الفعل كما يدعى ذلك في حذف عائد الموصول المجرور عند عدم شروط الحذف ويُسَمَّى الحذف على التدريج٤٣.
١ في ب: بنا منا. وانظر البغوي ٦/٢٢..
٢ زيادة من أ..
٣ من القراءات المتواترة فقد رواها ابن مجاهد في السبعة ٥٤٨ كما رويت في الإتحاف ٣٦٩ وانظر أيضا المحتسب ٢/٢١٩ ومختصر ابن خالويه ١٢٧ و ١٢٨..
٤ قاله ابن جني في المحتسب ٢/٢١٩ و ٢٢٠ والسمين في الدر ٤/٥٥٢..
٥ قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٩٠..
٦ لم أقف على ترجمة له..
٧ انظر: الكشاف ٣/٣٤١ والبحر ٧/٣٦١ والتبيان ١٠٩٠ والبيان ٢/٣٠٤ وإعراب الزجاج ٤/٣٠٤ و ٣٠٥..
٨ تكاد كل الكتب التي رجعت إليها تضعف هذه القراءة لهذه العلة المذكورة حيث الجمع بين الإضافة "الواو" والنون. قال بذلك الزجاج في معاني القرآن ٤/٣٠٤ و ٣٠٥ والنحاس في الإعراب ٣/٤٢٢ ومعاني الفراء ٢/٣٨٥ والتبيان ٢/١٠٩٠ والبيان ٢/٣٠٤ و ٣٠٥ ومشكل إعراب مكي ٢/٢٣٦ والقرطبي ١٥/٨٣ والبحر ٧/٣٦١، والسمين ٤/٥٥٢..
٩ ذكره الإمام البخاري في صحيحه ١/٧ من حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها..
١٠ قال في المحتسب ٢/٢٢٠: والأمر على ما ذهب إليه أبو حاتم إلا أن يكون على لغة ضعيفة وهو أن يجرى اسم الفاعل مجرى الفعل المضارع لقربه منه، فيجرى "مطلعون" مجرى يطلعون وعليه قال بعضهم:
أرأيت إن جئت به أملودا مرحلا ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا
فوكد اسم الفاعل بالنون وإنما بابها الفعل كقوله تعالى ﴿لترون الجحيم﴾..

١١ في ب: أسلمني وهو ما يخالف روايته..
١٢ من تمام الوافر وهو ليزيد بم محرم الحارثي وشاهده: "أمسلمني" حيث بقيت نون الوقاية مع اسم الفاعل وهي لا تكون إلا مع الفعل لأنها تقيه من الكسر الذي يخص الاسم. وذلك الذي نرى شاذ وقياسه أمسلمي كمخرجي السابق وقد تقدم..
١٣ سقط من ب فقط..
١٤ في الكشاف تطلعون..
١٥ الكشاف ٣/٣٤١..
١٦ الكشاف ٣/٣٤١..
١٧ يروى: القائلون الخير ويروى: الآمرون الخير. من الطويل وهو مجهول القائل عجزه:
................ إذا ما خشوا مع محدث الأمر معظما
والشاهد: الجمع بين النون (نون جمع المذكر) والإضافة (الهاء) وحكم المضمر أن يعاقب النون والتنوين لأنه بمنزلتهما في الاتصال والضعف وقد عاقب المظهر النون والتنوين مع قوته وانفصاله. وقد زعم سيبويه أنه مصنوع وانظر: الكتاب ١/١٨٨ وابن يعيش ٢/١٢٥ ومجالس ثعلب ١٢٣ ومعاني الفراء ٢/٣٨٦ والكشاف ٣/٣٤١ والدر ٤/٥٥٣ والخزانة ٤/٢٦٩ وكامل المبرد ١/٣٦٤ والبحر ٧/٣٦١..

١٨ المرجع السابق..
١٩ الدر ٤/٥٥٣..
٢٠ في ب: لا نسلم، وهذا رأي السمين الحلبي وعرضه في كتابه الدر. وقد رجح أبو حيان في البحر تخريج أبي الفتح وهو شبه الاسم للفعل. انظر: البحر ٧/٣٦١ والسمين ٤/٥٥٣..
٢١ الهاء زيادة من أ..
٢٢ من البسيط من أبيات لأبي محلم السعدي ويروى: ألا فتى من بني ذبيان. وشاهده حاملني حيث جاءت نون الوقاية مع اسم الفاعل والأصح: حاملي، كمسلمي ومخرجي، فالنون مع الفعل لهدف وهنا مع ياء المتكلم الذي مع الاسم لا هدف لها، ومن ثم تحتم الشذوذ، وانظر: الإنصاف ١٢٩ والبحر ٧/٣٦١ والدر ٤/٥٥٣، وشرح الرضي على كافية ابن الحاجب ١/٢٨٣ والكامل ١/٣٦٣، ٣٦٤. والرواية فيه يحملني وعليه فلا شذوذ فيه والخزانة ٤/٢٦٥ والبيان ٢/٣٠٥..
٢٣ من الطويل مجهول القائل. وشاهده كسابقيه في "معييني" وانظر: البحر ٧/٣٦١ والأشموني ١/١٣٦ والدر المصون ٤/٥٥٤..
٢٤ نسب ابن هشام في المغني هذا الرأي إلى هشام الكوفي قال: وزعم هشام أن الذي في "أمسلمني" ونحوه تنوين لا نون وبنى ذلك على قوله في "ضاربني" أن الياء منصوبة. المغني ٣٤٥..
٢٥ ظاهر كلام ابن مالك في التسهيل ص ٢٥ قال وقد تلحق نون الوقاية مع اسم الفاعل وأفعل التفضيل..
٢٦ الواقع أن ما بين القوسين كله تخليط من الناسخ لبيت آخر هو السابق عليه وإنما البيت المعني هو:
وليس الموافيني ليرفد خائبا فإن له أضعاف ما كان له أملا
وهو من الطويل مجهول القائل والموافيني اسم فاعل من وافى كعادى وقاضىويرفد يعطي من الرفد وهو العطاء والشاهد: الموافيني فقد استدل ابن مالك على أن النون نون الوقاية لا تنوين لأنه لا يجامع الألف واللام. وانظر: توضيح المقاصد ١/١٦٦ والأشموني ١/١٢٦ والمغني ٣٤٥ والمقاصد الكبرى للعيني ١/٣٨٧ وأجاز رواية آملا والدر المصون ٤/٥٤٤..

٢٧ قد سبق عما قريب..
٢٨ من الطويل مجهول القائل. وروي: يرتهق بدل يرتفق. واحتضر بمعنى حضر وشهد والارتفاق الاتكاء والرواهق الذين جاءوه والمعتفي طالب المعروف يقول إنه لم يشغل عن قضاء حاجة الملهوف مهما كان الأمر وشاهده "محتضرونه" فقد جمع بين الواو جمع المذكر والهاء "الإضافة". والشاهد الآخر الذي نحن بصدده الآن أن هذا تأييد لوجهة نظر هشام الذي يقول: إن النون هي التنوين بدليل ثبوتها جمعا وتثنية. وانظر: الدر المصون ٤/٥٥٤ وابن يعيش ٢/١٢٥ وشرح الكافية ١/٢٨٣ والخزانة ٤/٢٧١ وكامل المبرد ٢/٣٦٤ وكتاب سيبويه ١/١٨٨ وقد اتفقوا على أن هذا البيت من المصنوعات كما سبق في نظيره "الآمرونه"..
٢٩ التبيان ١٠٩٠..
٣٠ انظر: الدر المصون ٤/٥٥٤..
٣١ ما بين القوسين كله سقط من نسخة ب وقد روى أبو الفتح في المحتسب ٢/٢١٩، ٢٢٠ قراءة مطلعون فأطلع وانظر أيضا الدر المصون ٤/٥٥٤..
٣٢ ما بين القوسين الصغيرين سقط من ب وما بين الكبيرين كله ساقط من أ..
٣٣ الكشاف السابق والبحر ٧/٣٦١..
٣٤ هذا رأي ابن جني في المحتسب المرجع السابق قال: "فالفعل إذا الذي هو اطلع مسند إلى مصدره أي فاطلع الاطلاع كقولك: قد قيم أي قيم القيام، وقد قعد أي قعد القعود"..
٣٥ نقله أبو حيان عن أبي الفضل الرازي. انظر: البحر ٧/٣٦١..
٣٦ هذا رأي أبي حيان في البحر المرجع السابق..
٣٧ المرجع السابق..
٣٨ كذا في أ والبحر وفي ب عن الفاعل..
٣٩ كذا الأصح منهما أيضا وفي ب فاعله تحريف..
٤٠ ورأي أبي حيان هذا سديد فثبت من هذا أن الفعل إذا بني للمجهول فإن النائب عن الفاعل هو ضمير القائل لأصحابه وانظر: البحر ٧/٣٦٢، ٣٦٣ ونفس رأي أبي حيان هو رأي الفراء في معانيه ٢/٣٨٧ وانظر أيضا البيان ٢/١٠٥ ومشكل الإعراب ٢/٢٣٦، ٢٣٧ وإعراب النحاس ٣/٤٢٣ ومعاني الزجاج ٤/٣٠٤..
٤١ كذا هي في الدر المصون و "أ". وحذفت من ب..
٤٢ وحروف الجر والظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها..
٤٣ قاله في الدر المصون ٤/٥٥٥..
قوله :﴿ فَرَآهُ ﴾ عطف على «فَاطَّلَعَ »١. و «سَوَاءُ الجَحِيم » وسطها٢، وأحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس سمي بذلك لاستواء المسافة منه إلى الجوانب٣، وعن عيسى بن عُمَر أنه قال لأبي عُبَيْدَةَ٤ : كنت أكتب حتى٥ ينقطع سوائي. ٦
١ السابق..
٢ المجاز ٢/١٧٠..
٣ البحر ٧/٣٦٢..
٤ في ب: أبو عبيد تحريف..
٥ في ب: عند..
٦ المجاز السابق ٢/١١٧٠ وانظر الكشاف للزمخشري ٣/٣٤١ وانظر: اللسان (سوى) ١٢٦٣..
قوله :﴿ تالله ﴾ قسم فيه تعجب١، و «إنْ » مخففة٢ أو نافية٣. واللام في «لَتُرْدِين » فارقة أو بمعنى إلا. وعلى التقديرين فهي جواب القسم أعني إن وما في خبرها٤.

فصل


قال المفسرون : إنه ذهب إلى أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار فَرَآهُ فِي سَوَاء الجَحِيم أي وسط الجحيم فقال له توبيخاً :﴿ تالله إنْ كدت لتردين ﴾ أي والله لقد كِدتَ أن تهلكني.
١ قاله أبو حيان في البحر ٧/٣٦٢..
٢ من الثقيلة. وعليه فاسمها ضمير الشأن محذوف..
٣ بمعنى ما أي ما كدت..
٤ السمين ٤/٥٥٥..
وقال مقاتل : والله لقد كدتَ أن تُغْويَنِي ومن أغوى إنساناً فقد أهلكه، والرَّدَى١ الهلاك أي لتهلكني بدعائك إيَّاي إلى إنكار البعث والقيامة. ﴿ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي ﴾ أي رحمة ربي وإنعامه عليّ بالإسلام ﴿ لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ معك في النار. ولما تمم الكلام مع قرينه الذي هو في النار عاد٢ إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة
١ المجاز ٢/١٧٠..
٢ في ب: دعا. وانظر: زاد المسير ٧/٦٠ والقرطبي ١٥/٨٣، ٨٤..
وقال :﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ﴾ قال بعضهم : إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كَبْشٍ أمْلَحَ وذُبحَ يقول أهل الجنة للملائكة :«أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ » ؟ فتقول الملائكة : لا. فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون. وعلى هذا فالكلام حصل قبل ذبح الموت١. وقيل : إن الذي تكاملت سعادته إذا عظم تعجُّبُهُ بها يقول ذلك. والمعنى أهذا لي على جهة الحديث بنعمة الله عليه٢، وقيل : يقوله المؤمن لقرينِهِ توبيخاً له بما كان ينكره. ٣
قوله :﴿ بِمَيِّتِينَ ﴾ قرأ زيدٌ بنُ علي بمَائِتين٤، وهما مثل ضَيِّق، وضاَئِق كما تقدم٥، وقوله «أَفَمَا » فيه الخلاف المشهور، فقدَّره الزمخشري أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ مُنَعَّمُونَ فما نحن بميتين٦، وغيره يجعل الهمزة متقدمة على الفاء.
١ ذكره الكلبي. وانظر: تفسير العلامة ابن الجوزي ٧/٦٠، ٦١..
٢ السابق..
٣ السابق: ونسب هذا القول إلى الثعلبي..
٤ هذه القراءة نسبها أبو حيان في البحر ٧/٣٦٢ ولم ينسبها الزمخشري كعادته في الكشاف انظر: الكشاف ٣/٣٤١ وانظر: الدر المصون ٤/٥٥٦..
٥ من قوله تعالى: ﴿فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك﴾ [هود: ١٢] وهي من القراءات الشاذة أقصد قوله: "بمائتين"..
٦ الكشاف ٣/٣٤١ فهو ومن تبعه يقدرون محذوفا حتى يقولوا إن الهمزة في موضعها الأصلي فلم تتقدم على حرف العطف. وهذا غير مذهب سيبويه والجمهور الذين يقولون: إنها تتقدم على العاطف تنبيها على أصالتها في التصدير. (بتصرف من المغني ١٥، ١٦)..
قوله :﴿ إِلاَّ مَوْتَتَنَا ﴾ منصوب على المصدر، والعامل فيه الوصف قبله١، ويكون استثناء مُفرّغاً٢، وقيل : هو استثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا٣. وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى ﴾ [ الدخان : ٥٦ ]. وفيها هناك بحث حسن.
١ قاله ابن الأنباري في البيان ٢/٣٠٥ وأبو البقاء في التبيان ١٠٩٠ ومشكل الإعراب ٢/٢٣٧ والإعراب للنحاس ٣/٤٢٤..
٢ السمين ٤/٥٥٦..
٣ المشكل والإعراب والتبيان المراجع السابقة..
قوله :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم ﴾ وهذا قول أهل الجنة عند فراغهم من ( هذه )١ المحادثات.
١ سقط من ب..
وقوله :﴿ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون ﴾ قيل : إنه من بقية كلامهم، وقيل : إنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لمثل هذا النعيم الذي ذكرناه. ١
١ الدر المصون ٤/٥٥٦..
قوله: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً﴾ أي أذلك الذي ذكره لأهل الجنة خيرٌ نزلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّوم. (فنزلاً) تمييز «لِخَيْرِ» والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره والزقوم شجرة مسموة يخرج لها لبن متى مَسَّ جِسْمَ أحد تورم فمات. والتزقم البلع بشدة وجهد للأشياء الكريهة، وقول أبي جهل وهو العرب: لا نعرف الزقوم إلا بالتمر والزبد من العناد والكذب البحث.
312

فصل


لما ذكر ثواب أهل الجنة ووصفها وذكر مآكل أهل الجنة ومشاربهم وقال: «لِمثْلِ هذا فليعمل العاملون أتبعَهُ بقوله:» قُلْ «يا محمد أذلك خيرٌ أم شجرة الزقوم ليصير ذلك زاجراً لهم عن الكفر. وذكر مآكل أهل النار ومشاربهم. والنُّزُل الفضلُ الواسع في الطعام؛ يقال: طعام كثيرُ النُّزُلِ، و (استعير) للحاضر من الشيء؛ ويقال: أرسل الأميرُ إلى فلان نُزُلاً وهو الشيء الذي يحصل حال من نزل بسببه. وإذا عرف هذا فحاصل الرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم والغمُّ. ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الجزائيَّة إلا أنه جاء هذا الكلام إما على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم العظيم والكافرين اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم قيل لهم ذلك توبيخاً لهم على اختيارهم.
قال الكلبي: لما نزلت هذه الآية ابن الزَّبَعْرَى: أكثر الله في بيوتكم الزقوم فإن أهل اليمن يسمون التّمر والزُّبْدَ بالزقوم فقال أبو جهل لجاريته: زَقِّمِينَا فأتته بزُبْد وتَمْرِ وقال تَزَقَّمُوا قال الواحدي: ومعلوم أن الله تعالى لم يرد بالزقوم ههنا التمر والزُبْد قال ابن دُرَيْدٍ لم يكن للزقُّوم اشتقاق من الزّقْم وهو الإفراط في أكل الشيء حتى يكره ذلك، يقال: بَاتَ فُلانٌ يَتَزقمُ وظاهر لفظ القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم منتنة الرائحة شديدة الخشونة موصوفة بصفات رديَّة وأنه تعالى يكره أهل النار على أكلها.
قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ﴾ أي الكافرين وذلك أن الكفار لما سمعوا هذه الآية قولوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؟ فأجيبوا: بأن خالق النار قادر على أنْ يمنع النار من إحراق الشجر؛ لأنه إذا جاز أن تكونَ في النار زبانية والله تعالى يمنع النار عن إحراقهم فَلِمَ لا يجوز مثله في هذه الشجرة؟
فمعنى كون شجرةِ الزقوم فتنةً للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وبقيت تلك الشبهةُ في قلوبهم وصارت سبباً لتماديهم في الكفر فهو المراد من كونها فتنةً لهم. أو بكون المراد صيرورةَ هَذِهِ الشجرة فتنةً لهم من النار لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك
313
عليهم فحينئذ يصير ذلك فتنةً في حقِّهم.
أو يكون المراد من الفتنة الامتحان والاختبار فإن هذا شيء بعيد عن العُرْف والعادة. وإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على الزِّنْدِيقِ توسل به إلى الطَّعن في القرآن والنبوة. ثم إنه تعالى وصف هذه الشجرة بصفاتس الأولى قوله: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم﴾ قال الحسن: أصلها في قَعْر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دَرَكَاتِهَا.
الصفة الثانية قوله: «طَلْعُها» أي ثمرها سمي طَلْعاً لطُلُوعه قال الزمخشري: الطَّلْعُ للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية، قال ابن قتيبة: سمي طلْعاً لطُلُوعِهِ كُلَّ سنة فلذلك قيل: طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره.
قوله: ﴿رُءُوسُ الشياطين﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه حقيقة، وأن رؤوس الشياطين شجرةٌ معينة بناحية اليمن تسمى الأستن قال النابغة:
٤٢١٣ - تَحِيدُ عَنْ أسْتن سُودٍ أَسَافِلُهَا مِثْل الإمَاءِ الغَوَادِي تَحْمِلُ الحُزَمَا
وهو شجر منكر الصورة سَمَّتْهُ العرب بذلك تشبيهاً برُؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلاً يشبه به. وقيل: الشياطين صنف من الحيات ولهن أعراف قال:
٤٢١٤ - عُجَيْزٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ كَمِثْلِ شَيْطَانِ الْحَمَاطِ أَعْرَفُ
وقي: شجر يقال له: الصوم ومنه قول ساعدة بْن جُؤَيَّةَ:
314
فعلى هذا قد خوطبت العرب بما تعرفه، وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة، والثاني أنه من باب التخيل والتمثيل وذلك أنه كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يره والشياطين وإن كانوا موجودين غَيْرَ مَرئيِّين للعرب إلا أنه خاطبهم بما أَلِفُوهُ من الاستعارات التخييليه كقول امرئ القيس: [البسيط]
٤٢١٥ - مُوَكّلٌ بشُدُوفِ الصَّوْمِ يرْقُبُهَا مِنَ الْمَعَازِبِ مَخْطُوفُ الحَشَا زَرِمُ
٤٢١٦ - أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرِفيُّ مُضَاجِعِي ومَسْنُونَةٌ رُزْقٌ رُزْقٌ كَأَنْيَابِ أَعْوَالِ
ولم ير أنيابها؛ بل ليست موجودة ألبتة، قال ابن الخطيب: وهذا هو الصحيح؛ وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسير فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النساء: ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: ٣١] فكذلك حَسُنَ التشبيه برؤوس الشياطين بالقبح وتشيوه الخلقة، ويؤكد هذا أن العقلاء إذَا رأوا شيئاً (شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا: إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً) حَسَناً قالوا: إنه ملكٌ من الملائكة قال ابن عباس: هم الشياطين بأعيانهم شبه بها لقُبْحِهِ.
قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون﴾ والمِلْءُ حَشْوُ الوِعَاء بما لا يحتمل الزِّيادة عليه.
فإن قيل: كيف يأكلونها مع نهاية خُشُونتها ونَتَنَيها ومرارة طعمها؟
فالجواب: أن المضطر ربما استروح من الضِّرَر بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم
315
الله الجُوعَ الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء. أو يقال: إن الزبانية يُكْرهُونَهم على الأَكل من تلك الشجرة تكميلاً لعذابهم.
قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ﴾ قرأ العامة بفتح الشين وهو مصدر على أصله.
وقيل: يُراد به اسم المفعول ويدل لَه قراءة شَيْبَانَ النَّحْوي لَشُوباً - بالضم - قال الزجاج: المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقض بمعنى المنقوض وعطف «بثُمَّ» لأحد معينين إما لأنه يؤخر ما يظنونه يُرْوِيهمْ من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى «بِثُمَّ» المقتضية للتراخي، وإما لأن العادة تقضي بتَرَاخِي الشرب عن الأكل فعمل على ذلك المِنْوال وأما ملء البطن فيعقب الأكل فلذلك عطف على ما قبله بالفاء.
قال الزجاج: الشوب اسم عام في كل ما خلط بغيره، والشًّوْب الخلْط والمزج، ومنه شَابَ اللبنَ يَشوبُهُ أي خَلَطَهُ وَمَزَجَهُ والحميم: الماء الحار والمتناهي في الحرارة. و «مِنْ حَميم» صفة «لشوباً» واعلم أن الله تعالى وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها: ﴿وَغَسَّاقاً﴾ [النبأ: ٢٥] ومنها: ﴿وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥] ومنها المذكور في هذه الآية ولما ذكر الطعام بتلك الشناعة والكراهة وصف الشراب بما هو أشنع منه وسماه شِوْباً أي خَلْطاً ومَزْجاً من حميم من ماءٍ حار، فإذا أكلوا الزَّقُّومَ وشَرِبُوا عليه الحَمِيمَ فيشرب الحميم في بطونهم فيصير شوباً له.
قوله: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم﴾ قال مقاتل: أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم. وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون
316
الحميم في موضع خارج عن الجحيم فهم يُورَدُونَ الحميم لأجل الشرب كما تُوردَ الإبلُ إلى الماء ثم يَرِدُونَ إلى الجحيم؛ ويدل عليه قوله: ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرحمن: ٤٤] وقرأ ابن مسعود: «ثُمَّ إنَّ مَقِيلَهُمْ لإلَى الجَحِيم» «إنَّهُمْ أَلْفَوْا» وجدوا ﴿فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ قال الفراء: الإهراء الإسراع يقال: هَرَعَ وأَهْرَعَ إذا استحث والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعاً في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم. وقال الكلبي: يعملون مثل عملهم، ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يسليه في كفرهم وتكذيبهم فقال: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين﴾ من الأمم الخالية.
317
قوله :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ﴾ أي الكافرين وذلك أن الكفار لما سمعوا هذه الآية قولوا : كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر ؟ فأجيبوا : بأن خالق النار قادر على أنْ يمنع النار من إحراق الشجر ؛ لأنه إذا جاز أن تكونَ في النار زبانية والله تعالى يمنع النار عن إحراقهم فَلِمَ لا يجوز مثله في هذه الشجرة ؟
فمعنى كون شجرةِ الزقوم فتنةً للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وبقيت تلك الشبهةُ في قلوبهم وصارت سبباً لتماديهم في الكفر فهو المراد من كونها فتنةً لهم. أو بكون المراد صيرورةَ هَذِهِ الشجرة فتنةً لهم من النار لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك عليهم فحينئذ يصير ذلك فتنةً في حقِّهم.
أو يكون المراد من الفتنة الامتحان والاختبار فإن هذا شيء بعيد عن العُرْف والعادة. وإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على الزِّنْدِيقِ توسل به إلى الطَّعن في القرآن والنبوة.
ثم إنه تعالى وصف هذه الشجرة بصفات الأولى قوله :﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم ﴾ قال الحسن : أصلها في قَعْر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دَرَكَاتِهَا.
الصفة الثانية قوله :«طَلْعُها » أي ثمرها سمي طَلْعاً لطُلُوعه١. قال الزمخشري : الطَّلْعُ للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية٢، قال ابن قتيبة : سمي طلْعاً لطُلُوعِهِ كُلَّ سنة٣ فلذلك قيل : طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره.
قوله :﴿ رُءُوسُ الشياطين ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه حقيقة، وأن رؤوس الشياطين شجرةٌ معينة٤ بناحية اليمن تسمى الأستن قال النابغة :
٤٢١٣- تَحِيدُ عَنْ أسْتن سُودٍ أَسَافِلُهَا. . . مِثْل الإمَاءِ الغَوَادِي تَحْمِلُ الحُزَمَا٥
وهو شجر منكر الصورة سَمَّتْهُ العرب بذلك تشبيهاً برُؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلاً يشبه به. وقيل : الشياطين صنف من الحيات ولهن أعراف قال :
٤٢١٤- عُجَيْزٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ. . . كَمِثْلِ شَيْطَانِ الْحَمَاطِ أَعْرَفُ٦
وقيل : شجر يقال له : الصوم ومنه قول ساعدة بْن جُؤَيَّةَ :
٤٢١٥- مُوَكّلٌ بشُدُوفِ الصَّوْمِ يرْقُبُهَا. . . مِنَ الْمَعَازِبِ مَخْطُوفُ الحَشَا زَرِمُ٧
فعلى هذا قد خوطبت العرب بما تعرفه، وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة، والثاني أنه من باب التخيل والتمثيل وذلك أنه كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يره والشياطين وإن كانوا موجودين غَيْرَ مَرئيِّين للعرب إلا أنه خاطبهم بما أَلِفُوهُ من الاستعارات التخييليه٨ كقول امرئ القيس :[ البسيط ]
٤٢١٦- أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرِفيُّ مُضَاجِعِي. . . ومَسْنُونَةٌ زرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ٩
ولم ير أنيابها ؛ بل ليست موجودة ألبتة، قال ابن الخطيب : وهذا هو الصحيح ؛ وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسيرة فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النساء :﴿ إِنْ هذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٣١ ] فكذلك حَسُنَ التشبيه برؤوس الشياطين بالقبح وتشويه الخلقة، ويؤكد هذا أن العقلاء إذَا رأوا شيئاً ( شديد١٠ الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا : إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً ) حَسَناً قالوا : إنه ملكٌ من الملائكة١١. قال ابن عباس : هم الشياطين بأعيانهم شبهه بها لقُبْحِهِ.
١ المرجع السابق..
٢ الكشاف ٣/٣٤٢..
٣ انظر: غريب القرآن له ٣٧٢ وتأويل المشكل له أيضا ٣٠٢ وانظر: القرطبي ١٥/٨٦..
٤ في السمين: شجر بعينه ووصفه اللسان بذلك ولم يحدد مكانه..
٥ من البسيط وهو له يصف ناقة تعدل في سيرها وتبعد عن هذا الشجر كأنها خائفة منه والأستن –كما جاء في اللسان- شجر يفشو في منابته ويكثر وإذا نظر إليه الناظر من بعد شبههه بشخوص الناس ولذلك يسمى برؤوس الشياطين. انظر اللسان: "س ت ن" ١٩٣٦ والدر المصون ٤/٥٥٦ وكامل المبرد ٣/١٩٣، وديوانه (٦٥)..
٦ رواية البيت هنا كما في البحر المحيط ٧/٣٦٣ والدر المصون ٤/٥٥٧ ورواه الفراء في المعاني: عنجرد تحلف.. إلخ. والحماط: شجر تألفه الحيات، وأعرف: ذو عرف والمراد بشيطان الحماط: الحية التي تسكنه. يهجو امرأته بأنها عنجرد أي عجوز شمطاء وهي خبيثة وداهية تشبه تلك الحية التي تسكن هذا الشجر. والشاهد: إطلاق العرب لفظ الشيطان على نوع معين من الحيات. بقي أن أقول: إن البيت من تمام الرجز ولم أعرف قائله. وانظر: معاني الفراء ٢/٣٨٧ واللسان عنجرد ٣١٢٣ والدر المصون ٤/٥٥٧ والبحر المحيط ٧/٣٦٣ والقرطبي ١٥/٨٧..
٧ من البسيط وهو مجهول القائل. والصوم شجر على شكل شخص الإنسان كريه المنظر جدا يقال لثمره رؤوس الشياطين ويعنى بها الحيات وأكثر ما ينبت في بلاد بني شبابة. والمعازب الأماكن البعيدة، والشدوف: الشخوص ومخطوف الحشا ضامره، وزرم: لا يثبت في مكان ومعناه أنه يرقب شخوص هذه الأشجار يحسبها ناسا وهو في خوف لا يكاد يستقر في مكان وأتى بالبيت يقول: إن رؤوس الشياطين يطلق على ثمر هذا الشجر المسمى بالصوم. وانظر: اللسان "ص و م" ٢٥٣٠ والبحر ٧/٣٦٣ وأمالي القالي ١/٢٥ والخصائص ٣/٧٩ وديوان الهذليين ١/١٩٤ وانظره هو وما قبله في مجمع البيان ٧/٩٦، وورد في مجمع البيان: المعارم: وهي النقط السوداء في أذن الشاة الضائنة وورد فيه يرقبه..
٨ الكشاف ٣/٣٤٣ والبحر ٧/٣٦٣..
٩ من الطويل والمشرفي نسبة إلى مشارف الشام كانت تصنع في قراها السيوف والمسنون المحدد المصقول. وشاهده بلاغي حيث شبه تشبيها وهميا وهو غير المدرك بإحدى الحواس الخمس فإن أنياب الغول مما لا يدركه الحس لدم تحققها. وانظر: دلائل الإعجاز ١٤٩ ومعاهد التنصيص ١/١٣٤ والبحر ٧/٣٦٣ وكامل المبرد ٣/٩٦ وفتح القدير للشوكاني ٤/٣٩٨ ومجمع البيان للطبرسي ٦٩٧ وديوانه ٣٣..
١٠ ما بين المعقوفتين كله ساقط من "ب" وهو في الرازي و "أ"..
١١ الرازي ٢٦/١٤٢ وانظر بيت امرىء القيس أيضا فيه وفي زاد المسير ٧/٦٣ واللسان: "غ و ل"..
قوله :﴿ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون ﴾ والمِلْءُ حَشْوُ الوِعَاء بما لا يحتمل الزِّيادة عليه. ١
فإن قيل : كيف يأكلونها مع نهاية خُشُونتها ونَتَنها ومرارة طعمها ؟
فالجواب : أن المضطر ربما استروح من الضِّرَر٢ بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم الله الجُوعَ الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء. أو يقال : إن الزبانية يُكْرهُونَهم على الأَكل من تلك الشجرة تكميلاً٣ لعذابهم.
١ قاله في اللسان: "م ل أ" ٤٢٥٢..
٢ في الرازي: استروح منه إلى ما يقاربه في الضرر..
٣ كذا في الرازي أيضا وفي ب تكيلا وانظر: الرازي ٢٦/١٤٢، ١٤٣..
قوله :﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾ قرأ العامة بفتح الشين وهو مصدر على أصله.
وقيل : يُراد به اسم المفعول١. ويدل لَه قراءة شَيْبَانَ النَّحْوي٢ لَشُوباً - بالضم٣ - قال الزجاج : المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقض بمعنى المنقوض٤، وعطف «بثُمَّ » لأحد معينين إما لأنه يؤخر ما يظنونه يُرْوِيهمْ من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى «بِثُمَّ » المقتضية للتراخي، وإما لأن العادة تقضي٥ بتَرَاخِي الشرب عن الأكل فعمل على ذلك المِنْوال وأما ملء البطن فيعقب الأكل فلذلك عطف على ما قبله بالفاء٦.
قال الزجاج : الشوب اسم عام في كل ما خلط بغيره٧، والشًّوْب الخلْط والمزج، ومنه شَابَ اللبنَ يَشوبُهُ أي خَلَطَهُ وَمَزَجَهُ والحميم : الماء الحار والمتناهي في الحرارة٨. و «مِنْ حَميم » صفة «لشوباً »٩ واعلم أن الله تعالى وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها :﴿ وَغَسَّاقاً ﴾ [ النبأ : ٢٥ ] ومنها :﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾ [ محمد : ١٥ ] ومنها المذكور في هذه الآية١٠، ولما ذكر الطعام بتلك الشناعة والكراهة وصف الشراب بما هو أشنع منه وسماه شِوْباً أي خَلْطاً ومَزْجاً من حميم من ماءٍ حار، فإذا أكلوا الزَّقُّومَ وشَرِبُوا عليه الحَمِيمَ فيشرب١١ الحميم في بطونهم فيصير شوباً له.
١ الدر المصون ٤/٥٥٧..
٢ هو شيبان بن معاوية النحوي روى عن عاصم وعنه موسى بن هارون مات سنة ١٦٤ هـ. انظر: الغاية ١/٣٢٩..
٣ من الشواذ غير المتواترة. انظر: المحتسب ٢/٢٢٠ وابن خالويه ١٢٨..
٤ بالمعنى من المعاني له ٤/٣٠٧..
٥ في ب: تقتضي..
٦ انظر: الكشاف للزمخشري ٣/٣٤٣، والبحر ٧/٣٦٣..
٧ قال: أي الخلط ومزاجا ويقرأ: لشوبا من حميم، الشوب المصدر، والشوب الاسم والخلط المخلوط. ومعاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٧ وانظر أيضا المجاز ٢/١٧٠ وغريب القرآن لابن قتيبة ٣٧٢ واللسان: "ش و ب" ٢٣٥٥..
٨ السابق ١٠٠٨..
٩ قاله السمين ٤/٥٥٨..
١٠ وهو الشوب من الحميم..
١١ كذا هي هنا في أ وفي الرازي وفي ب فيشوب أي يشوب الزقوم بالحميم نعوذ بالله منهما..
قوله :﴿ ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ﴾ قال مقاتل : أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم. وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون الحميم في موضع خارج عن الجحيم فهم يُورَدُونَ١ الحميم لأجل الشرب كما تُوردَ الإبلُ إلى الماء ثم يَرِدُونَ٢ إلى الجحيم ؛ ويدل عليه قوله :﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴾ [ الرحمن : ٤٤ ] وقرأ ابن مسعود :«ثُمَّ إنَّ٣ مَقِيلَهُمْ لإلَى الجَحِيم »
١ قال صاحب اللسان: الورد النصيب من الماء وأورده الماء جعله يرده، والموردة مأتاة الماء، وقيل: الجادة قال طرفة:
كأن علوب النسع في دأباتها موارد من خلقاء في ظهر قردد
وفي الحديث: اتقوا البراز في الموارد أي المجاري والطرق. وانظر: اللسان "و ر د" ٤٨١١..

٢ كذا في النسختين وفي الرازي يوردون بالبناء للمجهول..
٣ لم أجدها في الشواذ ولا المتواتر وفي الكشاف ثم إن منقلبهم، ثم إن مصيرهم، ثم إن منقذهم، قراءات ٣/٣٤٣..
«إنَّهُمْ أَلْفَوْا » وجدوا ﴿ آباءهم ضالين فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾ قال الفراء : الإهراع الإسراع١ يقال : هَرَعَ وأَهْرَعَ إذا استحث٢. والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعاً في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم. وقال الكلبي : يعملون مثل عملهم،
١ معاني القرآن ٢/٣٨٧..
٢ اللسان: " ه ر ع" ٤٦٥٤ والغريب ٣٧٢ والقرطبي ١٥/٨٨ والمجاز ٢/١٧١..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٩:«إنَّهُمْ أَلْفَوْا » وجدوا ﴿ آباءهم ضالين فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾ قال الفراء : الإهراع الإسراع١ يقال : هَرَعَ وأَهْرَعَ إذا استحث٢. والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعاً في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم. وقال الكلبي : يعملون مثل عملهم،
١ معاني القرآن ٢/٣٨٧..
٢ اللسان: " ه ر ع" ٤٦٥٤ والغريب ٣٧٢ والقرطبي ١٥/٨٨ والمجاز ٢/١٧١..

ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يسليه في كفرهم وتكذيبهم فقال :﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين ﴾ من الأمم الخالية.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ﴾ فبين تعالى أن إرساله الرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف فوجب أن يكون له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسوةٌ بهم حتى يصبرَ كما صبروا ويستمر على الدعاء إلى الله وإن تمردوا فليس عليه إلا البلاغ ثم قال: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين﴾ الكافرين أي كان عاقبتهم العذابُ وهذا الخطاب وإن كان ظاهره مع الرسول - عليه (الصلاة و) السلام - إلا أن المقصودَ منه خطابُ الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرة على قوم نوح وعادٍ وثمودَ وغيرهم من أنواع العذاب فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظنّ وخوف يحتمل أن يكون زاجراً لهم عن كفرهم.
قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله﴾ استثناء من قوله: «المنذرين» استثناء منقطعاً لأنه وعيد وهم لم يدخلوا (في) هذا الوعيد وقيل: استثناء من قوله: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين﴾
317
والمراد بالمُخْلَصِينَ: الموحدين نجوا من العذاب وتقدم الكلام على هذا الإخلاص في سورة الحِجْر عند قوله تعالى: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [الحجر: ٤٠].
318
ثم قال :﴿ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين ﴾ الكافرين أي كان عاقبتهم العذابُ وهذا الخطاب وإن كان ظاهره مع الرسول - عليه ( الصلاة و ) السلام- إلا أن المقصودَ منه خطابُ الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرى على قوم نوح وعادٍ وثمودَ وغيرهم من أنواع العذاب فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظنّ وخوف يحتمل أن يكون زاجراً لهم عن كفرهم١.
١ انظر الرازي ٢٦/١٤٣، ١٤٤..
قوله :﴿ إِلاَّ عِبَادَ الله ﴾ استثناء من قوله :«المنذرين » استثناء منقطعاً لأنه وعيد وهم لم يدخلوا ( في )١ هذا الوعيد٢، وقيل : استثناء من قوله :﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين ﴾٣. والمراد بالمُخْلَصِينَ : الموحدين نجوا من العذاب. وتقدم الكلام على هذا الإخلاص في سورة الحِجْر عند قوله تعالى :﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين ﴾٤ [ الحشر : ٤٠ ].
١ سقط من ب..
٢ قاله أبو حيان في البحر ٧/٤٦٤ والسمين في الدر ٤/٥٥٨ والرازي في التفسير الكبير ٢٦/١٤٣..
٣ مع قوله: فانظر كيف كان عاقبة المنذرين فإنها كانت أقبح العواقب وأفظعها إلا عاقبة عباد الله المخلصين فإنها مقرونة بالخير والراحة. وقد قال بهذا الرازي ٢٦/١٤٤..
٤ وبين هناك معنى مخلصين بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم لعبادته وبين معنى مخلصين الموحدين كما تقدم أن قراءة المخلصين بالفتح قراءة نافع وأهل الكوفة حيث وقع سواء أكان في يوسف أو الحجر أو الصافات أو أي مكان في القرآن والباقون بالكسر بالبناء للفاعل، انظر: اللباب ٣/١١٧..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ﴾ الآية. لما قال: ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين وقال: «فانظر كيف كان عاقبة المنذرين» أبتعه بشرح وقائع الأنبياءَ - عليهم (الصلاة و) السلام - فقال: «وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ» أي نادى ربه أن ينجيه مَعَ من نَجْا من الغَرق، وقيل: نادى ربه أي اسْتَنْصَرهُ على كفار قومه، فأجاب الله دعاءه.
قوله: ﴿فَلَنِعْمَ المجيبون﴾ جواب لقسم مقدر أي فوالله ومثله:
٤٢١٧ - لَعَمْرِي لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وُجدتُمَا.........................
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره أي نَحْنُ أجَبْنَا دُعَاءه وأهلكنا قومه ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم﴾ واعلم أن هذه الإجابة كانت من النعم العظيمة وذلك من وجوه:
أحدهما: أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ﴾ والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم.
وثانيها: أنه أعاد صيغة الجمع في قوله: فلنعم المجيبون (من ذلك أيضاً يدل على تعظيم تلك النعمة لا سيما وقد وصف تلك الإجابة بأنها نعمة الإجابة.
وثالثها: أن الفاء في قوله: ﴿فَلَنِعْمَ المجيبون﴾ يدل على أن محصول هذه الإجابة
318
مرتب على ذلك النداء والحكم المرتب على الوصف المناسب يقتضي كونه معلّلاً به وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة ثم إنه تعالى لما بين أنه نعم المجيب بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة بقوله: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم﴾ والكرب: هو الخوف الحاصل من الغَرَقِ والكَرْب الحاصل من أذى قومه ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين﴾ وذلك يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فَنَوْا، قال ابن عباس: ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء وإلا ولدَه ونسَاءَهُمْ.
قوله: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾ أي أبقينا له ثناءً حَسَناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.
قوله: ﴿سَلاَمٌ على نُوحٍ﴾ مبتدأ وخبر، وفيه أوجه:
أحدهما: أنه مفسر «لِتَرَكْنَا».
والثاني: أنه مفسر لمفعوله، أي تركنا عليه ثناءً وهو هذا الكلام وقيل: ثَمَّ قول مقدر أي فَقُلْنَا سلامٌ.
وقيل: ضمن تركنا معنى قلنا، وقيل: سلط «تركنا» على ما بعده قال الزمخشري: وتركنا عليه في الآخرين «هذه الكلمة» وهي «سَلاَمٌ عَلَى نَوح» يعني يسلمون عليه تسليماً ويَدْعُونَ لَهُ، وهو من الكلام المحكيِّ كقولك: «قَرَأتُ سورة أَنْزَلْنَاهَا».
319
وهذا الذي قاله قولُ الكوفيين جعلوا الجملة في محل نَصْب مفعولاً بتركنا لا أنه ضمن معنى القول بل وعلى معناه بخلاف الوجه قبله. وهذا أيضاً من أقوالهم وقرأ عبد الله «سلاماً» وهو مفعول به «بتَرَكْنَا» و «كَذَلِكَ» نعت مصدر أو حال من ضمير كما تقدم تحريره.

فصل


المعنى: سلامٌ عليه في العالمين، وقيل: تركنا عليه في الآخرين أن يُصَلَّى عليه إلى يوم الدين ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي إنما خصَّصْنا نوحاً - عليه (الصلاة و) السلام - بهذه التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن تبقية ذِكْرِهِ الحَسَنِ في ألسنة العالمين لأجل كونه محسناً، ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً.
320
ثم إنه تعالى لما بين أنه نعم المجيب بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة بقوله :﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم ﴾. والكرب : هو الخوف الحاصل من الغَرَقِ والكَرْب الحاصل من أذى قومه١
١ قاله الإمام القرطبي في الجامع ١٥/٨٩..
﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين ﴾ وذلك يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فَنَوْا، قال ابن عباس : ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس١، وحام أبو السودان٢ ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج٣، قال ابن عباس : لما خرج نوح من السفينة مات٤ من كان معه من الرجال والنساء إلا ولدَه ونسَاءَهُمْ.
١ والروم..
٢ من المشرق إلى المغرب السند والهند والنوبة والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم. انظر المرجع السابق والسودان يوافق التفسير وفي ب السواد..
٣ والصقالبة. انظر: المرجع السابق وانظر: الرازي ٢٦/١٤٥ والخزر: قال عنه صاحب اللسان "جيل خزر العيون وفي حديث حذيفة: كأني بهم خنس الأنوف وخزر العيون، والخزرة انقلاب الحدقة نحو اللحاظ". انظر: اللسان "خ ز ر" ١١٤٨ وفي ب الخزرج لا الخزر..
٤ في ب: مرات. وهو تحريف..
قوله :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين ﴾ أي أبقينا له ثناءً حَسَناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة١.
١ قاله الزجاج ٤/٣٠٨..
قوله :﴿ سَلاَمٌ على نُوحٍ ﴾ مبتدأ وخبر، وفيه أوجه :
أحدها : أنه مفسر «لِتَرَكْنَا ».
والثاني : أنه مفسر لمفعوله، أي تركنا عليه ثناءً وهو هذا الكلام١، وقيل : ثَمَّ قول مقدر أي فَقُلْنَا سلامٌ. ٢
وقيل : ضمن تركنا معنى٣ قلنا، وقيل : سلط «تركنا » على ما بعده٤. قال الزمخشري : وتركنا عليه في الآخرين «هذه الكلمة » وهي «سَلاَمٌ عَلَى نَوح » يعني يسلمون عليه تسليماً ويَدْعُونَ لَهُ، وهو من الكلام المحكيِّ كقولك :«قَرَأتُ سورة أَنْزَلْنَاهَا ». ٥
وهذا الذي قاله قولُ الكوفيين جعلوا الجملة في محل نَصْب مفعولاً بتركنا لا أنه ضمن٦ معنى القول بل هو على معناه٧ بخلاف الوجه٨ قبله. وهذا أيضاً من أقوالهم٩، وقرأ عبد الله «سلاماً »١٠ وهو مفعول به «بتَرَكْنَا »١١ و «كَذَلِكَ » نعت مصدر١٢ أو حال من ضمير١٣. كما تقدم تحريره.

فصل


المعنى : سلامٌ عليه في العالمين، وقيل : تركنا عليه في الآخرين أن يُصَلَّى عليه إلى يوم الدين١٤
١ قال بهذين الوجهين أبو البقاء في التبيان ١٠٩٠..
٢ السابق وهو رأي الكسائي وانظر: مشكل الإعراب ٢/٢٣٧، ٢٣٨ وتفسير النحاس ٤/٤٢٧..
٣ التبيان المرجع السابق..
٤ وهو قول الزمخشري في الكشاف ٣/٣٤٣..
٥ السابق وانظر الرأيين الأخيرين في القرطبي ١٥/٩٠ والرأي الأخير في البحر ٧/٣٦٤ والآراء كلها في السمين ٤/٥٥٨..
٦ في ب: يضمن..
٧ لم يتعرض أبو إسحاق الزجاج في كتابه إعراب القرآن ومعانيه لهذه القضية. ولقد نقل أبو جعفر النحاس في الإعراب ٣/٤٢٧ عن الكسائي كلاما حول هذه الآية قال: زعم الكسائي أن فيه تقديرين: أحدهما : وتركنا عليه في الآخرين يقال: سلام على نوح أي تركنا عليه هذا الثناء قال: وهذا مذهب أبي العباس المبرد، بينما قال الفراء في المعاني ٢/٣٨٧، ٣٨٨ يقول أبقينا له ثناء حسنا في الآخرين ويقال: تركنا علي في الآخرين سلام على نوح. أي تركنا عليه هذه الكلمة كما تقول: قرأت من القرآن ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ فيكون في الجملة في معنى نصب ترفعها بالكلام كذلك: "سلام على نوح" ترفعه بعلى وهو في تأويل نصلي. ولو كان: تركنا عليه سلاما كان صوابا. وقد سبق عن قريب رأي الزمخشري في الكشاف أنه موافق لرأيهم. .
٨ وهو تضمين تركنا معنى قلنا..
٩ الدر ٤/٥٥٩..
١٠ البحر ٧/٣٦٤..
١١ معاني الفراء ٢/٣٨٨ والتبيان ١٠٩٠..
١٢ السابق..
١٣ السمين ٤/٥٥٨..
١٤ في ب: إلى يوم القيامة..
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين ﴾ أي إنما خصَّصْنا نوحاً - عليه ( الصلاة و ) السلام- بهذه التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن تبقية١ ذِكْرِهِ الحَسَنِ في ألسنة العالمين لأجل كونه محسناً،
١ في ب: بقية..
ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً٢.
القصة الثانية: قصة إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - قوله تعالى: {وَإِنَّ مِن
320
شِيعَتِهِ} أي من أهل دينه وسنته وفي الضمير وجهان:
أظهرهما: أنه يعود على «نوح» أي ممن كان يشايعه أي يتبعه على دينه والتصلب في أمر الله.
الثاني: أنه يعود على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو قول الكلبي والشيعة قد تطلق على المتقدم كقوله:
٤٢١٨ - وَمَا لِي إلاَّ آلَ أَحْمد شِيعَةٌ وَمَا لِي إلاَّ مِشْعَبَ الْحَقِّ مِشْعَبُ
فجعل (آل) أحمد وهم متقدمون عليه وهو تابع لهم شيعة له، قال الفراء والمعروف أن الشيعة تكون في المتأخر. قالوا كان بين نوحٍ وإبراهيم (نبيان هود وصالح، وروى الزمخشري أنه كان بين نوحٍ وإبراهيمَ) ألفان وستمائة وأربعون سنةً.
قوله: ﴿إذْ جَاءَ﴾ في العامل فيه وجهان:
أحدهما: اذْكر مقدراً. وهو المتعارف.
والثاني: قال الزمخشري: ما في الشيعة من معنى المشايعة يعني وإن مِمَّنْ شَايَعَهُ على دينه وتقواه حين جاء رَبَّهُ، قال أبو حيان: (لا يجوز لأن فيه) الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو «لإبْرَاهِيمَ» ؛ (لأنه أجنبي مِنْ «شِعَتِهِ» ومن «إذْ» وزاد المنع أن قدره ممن شايعه حين جاء لإبراهيم) ؛ (لأنه قدر ممن شايعه فجعل العامل قبله صلة لموصول، وفصل بينه «إذْ» بأجنبي وهو «لإبْرَاهِيمَ» )، وأيضاً فلام الابتداء تمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها لو قلت: إنَّ ضَارِباً لَقَادِمٌ عَلَيْنَا زَيْداً تقديره: أن ضَارباً زيداً قَادِمٌ علينا لم يجز.
321

فصل


قال مقاتلٌ والكَلْبِيُّ: المعنى أنه سليم من الشِّرك؛ لأنه أنكر على قومه الشِّرْكَ لقوله: ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ وقال الأصليون: معناه أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل معصية.
قوله: ﴿إذْ قَالَ﴾ بدل من «إذْ» الأُولَى، أو ظرف لسَلِيم أي سلم عليه في وقت قوله كَيْتَ وكَيْتَ، أو ظرف لجَاءَ، ذكره أبو البقاء وقوله: ﴿مَاذَا تعْبُدُونَ﴾ استفهام توبيخ وتهجين لتلك الطريقة وتقبيحها.
قوله: ﴿أَإِفْكاً﴾ فيه أوجه:
أحدهما: أنه مفعول من أجله، أي أتريدون آلهةً دون الله إفكاً، فآلهة مفعول به، ودون ظرف «لتُريدُونَ» وقدمت معمولات الفعل اهتماماً بها، وحَسَّنَهُ كون العامل رأس فاصلة، وقدم المفعول من أجله على المفعول به اهتماماً به لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري.
الثاني: أن يكون مفعولاً وتكون «آلهة» بدلاً منه جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها عنه وفسره بها ولم يذكر ابنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهُ.
الثالث: أنه حال من فاعل «تُرِيدُونَ» أي تريدون آلهة أَفِكِينَ أو ذَوِي إفْكٍ، وإليه نحا الزمخشري.
قال أبو حيان: وجعل المصدر حالاً لا يطرد إلى مع أَمَّا نحو: أَمَّا علماً فَعَالم، والإفك أسوأ الكَذِب.
قوله: ﴿فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين﴾ أي أتظنون بِرَبِّ العالَمِين أنه جوز جعل هذه الجمادات مشاركة في المعبودية، أو تظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى
322
جعلتموها مساوية له في المعبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء. أو فما ظنكم برب العالمين إذا لَقِيتُمُوه وقد عبدتم غيره أنه يصنع بكم؟
قوله: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ قال ابن عباس: كان قومه يتعاطون على النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليزمهم الحجة في أنها غير معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياً في بيت الأصنام فَيْقِدرَ على كسرها.
فإن قيل: النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أخبرهم بخلاف حاله؟
فالجواب: من وجوه.
الأول: أن نظره في النجوم أي في أوقات الليل والنهار، وكانت تأتيه الحُمَّى في بعض ساعات الليل والنها فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال: إني سقيم فجعله عذارً في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقاً فيما قال، لأن السُّقم كان يأتيه في ذلك الوقت.
الثاني: أنهم كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على أمورهم فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي في علم النجوم كما تقول: «نَظَرَ فُلانٌ في الفِقْه» أي في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في علمهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال: إني سقيم سَكَنُوا إلى قوله، وأما قوله: إنِّي سقيم فمعناه سأسقم كقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ (وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ) ﴾ [الزمر: ٣٠] أي ستموت.
الثالث: أن نظره في النجوم هو قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ (الليل) رَأَى كَوْكَباً﴾ [الأنعام: ٧٦] إلى آخر الآيات فكان نظره لتعرف أحوال هذه الكواكب هل هي قديمة أو محدثة؟ وقوله: «إنِّي سِقِيمٌ أي سقيم القلب أي غير عارف بربِّي، وكان ذلك قبل البلوغ.
الرابع: قال ابن زيد: كان له نجم مخصوص طلع على صفة مخصوصة مَرِضَ إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال: إني سقيم أي هذا السَّقم واقع لا محالة.
الخامس: أن قوله: إن سقيم أي مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ [الكهف: ٦].
السادس: أنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخَاصِّية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم لأن قوله: إني سقيم على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا يَنْفَكُّ في أكثر حاله عن حصول حالة
323
مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سَقَم.
السابع: قال ابن الخطيب: قال بعضم ذلك القول عن إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - كذباً وأوردوا فيه حديثاً عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «مَا كَذَبَ غبْرَاهِيمُ إلاَّ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ».
قلتُ: لبعضهم: هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل لأن فيه نسبه الكذب (إلى إبراهيم فقال ذلك الرجل فكيف نحكم بكذب الرَّاوِي العدل؟) فقلت: لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل عليه (الصلاة و) السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى. ثم نقول: لِمَ لاَ يجوز أن يكون المراد من قوله: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم﴾ أي في نجوم كلامهم ومتفرَّقات أقوالهم، فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال: إنها مُنَجَّمة أي متفرقة. ومنه نَجَمْتُ الكِتَابَةَ، والمعنى: أنه لما جمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يسخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم، فلم يد عذراً أحسن من قوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ ؛ (والمراد: أنه لا بدّ من أن أصير سقيماً كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر: إنك مسافر، ولما قال: إني سقيم) تَوَلَّوا عنهم مدبرين وتركوه، وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم.
قوله: ﴿فَرَاغَ﴾ أي مال في خفية، وأصله من رَوَغَانِ الثعلب، وهو تردده وعدم ثبوته بمكان، ولا يقال: رَاغَ حتى يكون صاحبه مخفياً لذهابه ومجيئه، فقال استهزاء بها: ﴿أَلا تَأْكُلُونَ﴾ يعين الطعام الذي كان بين أيديهم ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ﴾ قاله أيضاً استهزاء، فراغ عليهم مال عليهم مستخفياً.
قوله: ﴿ضَرْباً﴾ مصدر وقاع موقع الحال أي فراغ عليهم ضارباً، أو مصدر لفعل ذلك الفعل حال تقديره فراغ يَضْرِبُ ضَرْباً أو ضمن راغ معنى «يضرب» وهو بعيد،
324
و «باليَمِينِ» متعلق «بضَرْباً» إن لم تجعله مؤكداً وإلا فلعامله واليمين يجوز أن يراد بها إحدى اليدين وهو الظاهر وأن يراد بها القوة، فالباء على هذا للحال أي ملبساً بالقوة، وأن يراد بها الحَلِف وفاءً، بقوله: ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٥٧] والباء على هذا للسبب وعدي «راغ» الثاني «بعلى» لما كان مع الضرب المستولي عليهم من فوقهم إلى أسفلهم بخلاف الأول فإنه مع توبيخ لهم، وأتى بضمير العقلاء في قوله: «عَلَيْهِمْ» جرياً على ظن عبدتها أنها كالعُقَلاَءِ.
قوله (تعالى) :﴿يَزِفُّونَ﴾ حال من فاعل «أقْبَلُوا» و «إلَيْهِ» يجوز تعلقه بما قبله أو بما بعده، وقرأ حمزة يُزِقُّونَ بضم الياء من أَزَفَّ وله معنيان:
أحدهما: أنه من أزف يُزِفّ أي دخل في الزفيف وهو الإسراع، أو زِفاف العَرُوس، وهو المشى على هَيْئَةٍ؛ لأن القوم كانوا في طمأنينة من أمرهم، كذا قيل.
وهذا الثاني ليست للتعدية.
والثاني: أنه من أزَفَّ غَيْرَهُ أي حمله على الزفيف وهو الإسراع، أو على الزِّفَاف، وقد تقدم ما فيه، وباقي السبعة بفتح الياء من زفَّ الظليمُ يَزِفُّ أي عَدَا بسُرعة وأصل الزفيف للنعام وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة: يَزِفُونَ من وَزَفَ يَزِفُ أي أسرع إلا أنَّ الكِسائيِّ والفراءَ قالا لا نعرفها بمعنى زَفَّ وقد عرفها غيرهما، قالم جاهد - وهو بعض من قرأ بها -: الوزيفُ
325
النسلان، وقرئ: يُزَقُّونَ مبنياً للمفعول ويَزْفُونَ كَيرمُونَ من زَفَاهُ بمعنى حداه كأن بعضهم يَزْفُو بعضاً لتسارعهم إليه، وبين قوله: ﴿فَأَقْبَلَوا﴾ وقوله ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ﴾ جمل محذوفة يدل عليها الفَحْوى أي فبلغهم الخبر، فرجعوا من عيدهم ونحو هذا.
قال ابن عرفة: من قرأ بالنصب فهو من زَفّ يَزِفُّ (ومن قرأ بالضم فهو من: أَزَفَّ يزف) قال الزجاج: يَزِفُون بسرعون، وأصله من زفيف النعامة وهو من أشدّ عَدْوِهَا.
قوله: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ لما عابتوا إبراهيمَ على كسر الأصنام ذكر لهم الدليل الدال على فساد عباتها فقال: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ ووجه الاستدلال: أن الخشب والحجر قبل النحت والإصلاح ما كان معبوداً البتة فإذا نحته وشكله على الوحه المخصوص لم يحدث فيه الآثار تصرفه فلو صار معبوداً عند ذلك لكان معناه أن الشيء الذي لم يكن معبوداً إذا حصلت آثارُ تَصَرُّفَاتِهِ فيه صار معبوداً (إلى (ذلك)) وفساد ذلك معلوم ببديهة العقل.
قولهك ﴿وَمَا تَعْمَلُون﴾ في «ما» هذه أربعة أوجه:
أجودها: أنها بمعنى الذي أي وخلق الذي تصنعونه، فالعمل هنا التصوير والنحت نحو: عمل الصانع السِّوار الذي صَاغَه. ويرجح كونها بمعنى الذي تقدم «ما» قبلها فإنها بمعنى الذي أي أتعبدون الذي تنحتون والله خلقكم الذي تعملون (هـ) بالنحت.
326
والثاني: أنها مصدرية أي خلقكم وأعمالكم، وجعلها الأشعريَّة دليلاً على خلق أفعال العباد لله تعالى وهو الحق، إلا أن دليل من هنا غير قوي لما قتدم من ظهور كونها بمعنى الذي، قال مكي: يجب أن تكون ما والفعل مصدراً جيء به ليفيد أن الله خالقُ الأشياء كلها. وقال أيضاً: وهذا أليق لقوله: ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق: ٢] أجمع القراء على الإضافة فدل على أنه خالق الشر وقد فَارَقَ عمرو بنُ عُبَيد الناس فقرأ مِنْ شَرِّ بالتنوين ليثبت مع الله خالقين، وشنع الزمخشري على القائل هنا بكونها مصدريةً.
والثالث: أنها استفهامية وهو استفهام توبيخ، أي: (و) أيُّ شَيْءٍ تَعْمَلُونَ؟
الرابع: أنها نافية، أي أن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم (لا) تعملون شيئاً، والجملة من قوله: ﴿والله خَلَقَكُمْ﴾ حال ومعناها حسن أي أتبعدون الأصنام على حالة تُنَافِي ذلك وهي أن الله خالقكم وخالقهم جميعها، ويجوز أن تكون مستأنفة.

فصل


دلت الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ (ما) مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله: ﴿وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ معناه وعملكم، وعلى هذا فيصير معنى الآية: والله خلقكم وخلق عملكم.
فإن قيل: هذه الآية حجة عليكم من وجوه:
الأول: أنه تعالى قال: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة
327
الفِعل إلى الفاعل ولو كان ذلك دافعاً بتخليق الله لاستحال كونه فعلاً (للعبد).
الثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخاً لهم على عبادة الأصنام؛ لأنه تعالى لما ذكر هذه الآية بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق، فلما تركوا عبادته - سبحانه وتعالى - وهو خالقهم وعبدوا الأصنام لا جَرَمَ أنه سبحانه وبَّخَهُمْ على هذا الخطأ العظيم فقال: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ ولو لم يكونوا فاعلين لأعمالهم لما جاز توبيخهم عليها سلمنا أن هذه الآية ليست حجة عليكم ولكن لا نسلم أنها حجة لكم فقولكم: لفظ ما مع ما بعدها في تقدير المصدر قلنا: ممنوع لأن سيبويه والأخفش اختلفا هل يجوز أن يقال: أعْجَبَنِي مَا قُمْتَ أي قيامُكَ، فجوزه سيبويه ومنعه الأخفش، وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي وذلك يدل على أن ما مع ما بعده في تقدير المفعول عند الأخفش سَلَّمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر لكنه أيضاً قد يكون بمعنى المفعول. ويدل عليه وجوه:
الأول: قوله: ﴿﴾ والمراد بقوله: «ما تنحتون» المنحوت لا النحت لأنهم ما عبدوا النحت فوجب أن يكون المراد بقوله: ﴿وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ المعمول لا العمل حتى يكون كُلُّ واحدٍ من هذين اللفظين على وَفْقِ الآخر.
الثاني: أنه تعالى قال: ﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ [الأعراف: ١١٧] وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك بل أراد العُصيِّ والحبَال التي هي متعلقات ذلك الإفك فكذا ههنا.
الثالث: إن العرب تسمي محلّ العمل عملاً، يقال في الباب والخاتم: هذا عملُ فُلانٍ والمراد محل عمله فثبت بهذه الوجوه أن لفظ (ما) مع ما بعده كما يجيء بمعنى المصدر قد يجيء أيضاً بمعنى المفعول فكان حمله ههنا على المفعول أولى؛ لأن المقصود في الآية تزييفُ مذهبهم في عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون أفعال أنفسهم
328
لأن الذي جرى ذكره من أول الآية إلى هذا الموضع فهو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال قال ابن الخطيب: و (اعلم أن) هذه (ال) سُّؤَالاَتِ قوية فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية.
قوله: ﴿قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً﴾ لما أورد عليهم الحدة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريقة الإيذاء (فقالوا: ابْنُوا (لَهُ) بُنْيَاناً) قال ابن عباس: بنوا حائِطاً من حجر طلوه في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرونَ ذارعاً وملأوه ناراً وطرحوه فيها وذلك هو قوله: ﴿فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم﴾ وهي النار العظيم قال الزجاج: كل نار بعضها فوق فهي جحيم، والألف والَلام في الجحيم يدل على النهاية (والمعنى في جحيمه أي في جحيم ذلك البنيان ثم قال تعالى: ﴿فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين﴾ ) والمعنى أن في وقت المحاجة حصلت الغلبة له وعندما ألقوه من النار صرف الله عنه ضَرَرَ النار فصار هو الغالب عليهم «وأرادوا كَيْداً» أي شواءً وهو أن يَحْرِقُوه ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين﴾ المقهورين من حيث سلم الله إبراهيم ورد كيدهم، ولمَّا انقضت هذه الواقعة قال إبراهيم: «إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ» ونظير هذه الآية قوله تعالى:
﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي﴾ [العنكبوت: ٢٦] والمعنى أهجر دار الكفر أي أذهب إلى موضع دين ربي، وقوله: ﴿سَيَهْدِينِ﴾ أي إلى حيث أمرني بالمصير إليه وهو الشام، وهذا يدل على أن الهداية لا تحصل إلاَّ من الله تعالى. ولا يمكن حمله على وضع الأدلَة وإزاحة الأعذار لن ذلك كان حاصلاً في الزمان الماضي، قال مقاتل: فلما قَدِمض الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالحِين» أي هب لي ولداً صالحاً، لأن لفظ الهِبَةِ غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً﴾ [مريم: ٥٣].
329
قوله :﴿ إذْ جَاءَ ﴾ في العامل فيه وجهان :
أحدهما : اذْكر مقدراً. وهو المتعارف.
والثاني : قال الزمخشري : ما في الشيعة من معنى المشايعة يعني وإن مِمَّنْ شَايَعَهُ على دينه وتقواه حين جاء١ رَبَّهُ، قال أبو حيان :( لا يجوز٢ لأن فيه ) الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو «لإبْرَاهِيمَ » ؛ ( لأنه أجنبي٣ مِنْ «شِعَتِهِ » ومن «إذْ » وزاد المنع أن قدره ممن شايعه حين جاء لإبراهيم ) ؛ ( لأنه قدر ممن٤ شايعه فجعل العامل قبله صلة لموصول، وفصل بينه وبين «إذْ » بأجنبي وهو «لإبْرَاهِيمَ » )، وأيضاً فلام الابتداء٥ تمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها لو قلت : إنَّ ضَارِباً٦ لَقَادِمٌ عَلَيْنَا زَيْداً٧ تقديره : أن ضَارباً زيداً قَادِمٌ علينا. لم يجز. ٨

فصل


قال مقاتلٌ والكَلْبِيُّ : المعنى أنه سليم من الشِّرك ؛ لأنه أنكر على قومه الشِّرْكَ لقوله :﴿ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ﴾. وقال الأصوليون : معناه أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل معصية. ١
١ قال الزمخشري بالوجهين أيضا المرجع السابق وانظر: التبيان ١٠٩١..
٢ سقط من ب فقط..
٣ ما بين القوسين أيضا ساقط من ب بسبب انتقال النظر أيضا..
٤ ما بين القوسين زيادة من الشارح شرحا لكلام أبي حيان..
٥ في البحر لام التوكيد..
٦ في ب: ضارب رفعا غير مراد..
٧ وفيها زيد رفعا أيضا غير مراد..
٨ وانظر: البحر ٧/٢٦٥..
قوله :﴿ إذْ قَالَ ﴾ بدل من «إذْ » الأُولَى، أو ظرف لسَلِيم أي سلم عليه في وقت قوله كَيْتَ وكَيْتَ، أو ظرف لجَاءَ، ذكره أبو البقاء٢، وقوله :﴿ مَاذَا تعْبُدُونَ ﴾ استفهام توبيخ وتهجين لتلك الطريقة وتقبيحها. ٣
٢ التبيان ١٠٩١ وانظر: الدر المصون ٤/٥٥٩..
٣ قاله الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٦/١٤٦..
قوله :﴿ أَإِفْكاً ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أنه مفعول من أجله، أي أتريدون آلهةً دون الله إفكاً، فآلهة مفعول به، ودون ظرف «لتُريدُونَ » وقدمت معمولات الفعل اهتماماً بها، وحَسَّنَهُ كون العامل رأس فاصلة، وقدم المفعول من أجله على المفعول به اهتماماً به لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري١.
الثاني : أن يكون مفعولاً وتكون «آلهة » بدلاً منه٢، جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها عنه وفسره بها٣. ولم يذكر ابنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهُ٤.
الثالث : أنه حال من فاعل «تُرِيدُونَ » أي تريدون آلهة أَفِكِينَ أو ذَوِي إفْكٍ، وإليه نحا الزمخشري٥.
قال أبو حيان : وجعل المصدر حالاً لا يطرد إلى مع أَمَّا نحو : أَمَّا علماً فَعَالم٦، والإفك أسوأ الكَذِب.
١ انظر هذا في الزمخشري في كشافه ٣/٣٤٤ والتبيان لأبي البقاء ١٠٩١ والدر للسمين ٤/٥٥٩ والبحر ٧/٣٦٥..
٢ ذكره أبو حيان في البحر عن ابن عطية ٧/٣٦٥ والسمين في الدر وابن الأنباري في البيان ٢/٣٠٦ ومكي في مشكل الإعراب ٢/٢٣٨ والزمخشري في الكشاف ٣/٣٤٣، ٣٤٤..
٣ السمين ٤/٥٥٩، ٥٦٠..
٤ المرجع السابق وهو البحر المجيط..
٥ الكشاف ٣/٣٤٤ وانظر: البحر أيضا المرجع السابق..
٦ السابق..
قوله :﴿ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين ﴾ أي أتظنون بِرَبِّ العالَمِين أنه جوز جعل هذه الجمادات مشاركة في المعبودية، أو تظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في المعبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء. أو فما ظنكم برب العالمين إذا لَقِيتُمُوه وقد عبدتم غيره أنه يصنع بكم ؟
قوله :﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ قال ابن عباس : كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياً في بيت الأصنام فَيْقِدرَ على كسرها.
فإن قيل : النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أخبرهم بخلاف حاله ؟
فالجواب : من وجوه.
الأول : أن نظره في النجوم أي في أوقات الليل والنهار، وكانت تأتيه الحُمَّى في بعض ساعات الليل والنهار فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال : إني سقيم فجعله عذراً في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقاً فيما قال، لأن السُّقم كان يأتيه في ذلك الوقت.
الثاني : أنهم كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على أمورهم فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي في علم النجوم كما تقول :«نَظَرَ فُلانٌ في الفِقْه » أي في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في علمهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال : إني سقيم سَكَنُوا إلى قوله، وأما قوله : إنِّي سقيم فمعناه سأسقم كقوله :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ ( وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ) ﴾ [ الزمر : ٣٠ ] أي ستموت.
الثالث : أن نظره في النجوم هو قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ( الليل )١ رَأَى كَوْكَباً ﴾ [ الأنعام : ٧٦ ] إلى آخر الآيات فكان نظره لتعرف أحوال هذه الكواكب هل هي قديمة أو محدثة ؟ وقوله :«إنِّي سِقِيمٌ أي سقيم القلب أي غير عارف بربِّي، وكان ذلك قبل البلوغ.
الرابع : قال ابن زيد : كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مَرِضَ إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال : إني سقيم أي هذا السَّقم واقع لا محالة.
الخامس : أن قوله : إني سقيم أي مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد- صلى الله عليه وسلم - :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ﴾ [ الكهف : ٦ ].
السادس : أنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام ؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخَاصِّية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم لأن قوله : إني سقيم على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا يَنْفَكُّ في أكثر حاله عن حصول حالة مكروهة٢ إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سَقَم. ٣
السابع : قال ابن الخطيب : قال بعضم ذلك القول عن إبراهيم- عليه ( الصلاة و ) السلام – كذباً. وأوردوا فيه حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :«مَا كَذَبَ إبْرَاهِيمُ إلاَّ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ ». ٤
قلتُ٥ لبعضهم : هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل لأن فيه نسبة الكذب ( إلى إبراهيم٦ فقال ذلك الرجل فكيف نحكم بكذب الرَّاوِي العدل ؟ ) فقلت : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل عليه ( الصلاة و ) السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى. ثم نقول : لِمَ لاَ يجوز أن يكون المراد من قوله :﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم ﴾ أي في نجوم كلامهم ومتفرَّقات أقوالهم، فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال : إنها مُنَجَّمة٧ أي متفرقة. ومنه : نَجَمْتُ٨ الكِتَابَةَ، والمعنى : أنه لما جمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم، فلم يجد عذراً أحسن من قوله :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ ؛ ( والمراد : أنه لا بدّ٩ من أن أصير سقيماً كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر : إنك مسافر، ولما قال : إني سقيم ) تَوَلَّوا عنه مدبرين وتركوه، وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم.
١ سقط من ب..
٢ كذا في الرازي وفي ب وفي أ مكررة..
٣ وانظر الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره ٢٦/١٤٧، ١٤٨..
٤ وانظر الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره ٢٦/١٤٧، ١٤٨..
٥ هذا قول الرازي في تفسيره ٢٦/١٤٨..
٦ ما بين القوسين ساقط من ب بسبب انتقال النظر..
٧ كذا هي في الرازي وفي أ أما في ب فهي نجمة..
٨ في الرازي و ب نجوم وهو الأصح..
٩ ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٨:قوله :﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ قال ابن عباس : كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياً في بيت الأصنام فَيْقِدرَ على كسرها.
فإن قيل : النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أخبرهم بخلاف حاله ؟
فالجواب : من وجوه.
الأول : أن نظره في النجوم أي في أوقات الليل والنهار، وكانت تأتيه الحُمَّى في بعض ساعات الليل والنهار فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال : إني سقيم فجعله عذراً في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقاً فيما قال، لأن السُّقم كان يأتيه في ذلك الوقت.
الثاني : أنهم كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على أمورهم فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي في علم النجوم كما تقول :«نَظَرَ فُلانٌ في الفِقْه » أي في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في علمهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال : إني سقيم سَكَنُوا إلى قوله، وأما قوله : إنِّي سقيم فمعناه سأسقم كقوله :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ ( وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ) ﴾ [ الزمر : ٣٠ ] أي ستموت.
الثالث : أن نظره في النجوم هو قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ( الليل )١ رَأَى كَوْكَباً ﴾ [ الأنعام : ٧٦ ] إلى آخر الآيات فكان نظره لتعرف أحوال هذه الكواكب هل هي قديمة أو محدثة ؟ وقوله :«إنِّي سِقِيمٌ أي سقيم القلب أي غير عارف بربِّي، وكان ذلك قبل البلوغ.
الرابع : قال ابن زيد : كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مَرِضَ إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال : إني سقيم أي هذا السَّقم واقع لا محالة.
الخامس : أن قوله : إني سقيم أي مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد- صلى الله عليه وسلم - :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ﴾ [ الكهف : ٦ ].
السادس : أنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام ؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخَاصِّية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم لأن قوله : إني سقيم على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا يَنْفَكُّ في أكثر حاله عن حصول حالة مكروهة٢ إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سَقَم. ٣
السابع : قال ابن الخطيب : قال بعضم ذلك القول عن إبراهيم- عليه ( الصلاة و ) السلام – كذباً. وأوردوا فيه حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :«مَا كَذَبَ إبْرَاهِيمُ إلاَّ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ ». ٤
قلتُ٥ لبعضهم : هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل لأن فيه نسبة الكذب ( إلى إبراهيم٦ فقال ذلك الرجل فكيف نحكم بكذب الرَّاوِي العدل ؟ ) فقلت : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل عليه ( الصلاة و ) السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى. ثم نقول : لِمَ لاَ يجوز أن يكون المراد من قوله :﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم ﴾ أي في نجوم كلامهم ومتفرَّقات أقوالهم، فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال : إنها مُنَجَّمة٧ أي متفرقة. ومنه : نَجَمْتُ٨ الكِتَابَةَ، والمعنى : أنه لما جمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم، فلم يجد عذراً أحسن من قوله :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ ؛ ( والمراد : أنه لا بدّ٩ من أن أصير سقيماً كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر : إنك مسافر، ولما قال : إني سقيم ) تَوَلَّوا عنه مدبرين وتركوه، وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم.
١ سقط من ب..
٢ كذا في الرازي وفي ب وفي أ مكررة..
٣ وانظر الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره ٢٦/١٤٧، ١٤٨..
٤ وانظر الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره ٢٦/١٤٧، ١٤٨..
٥ هذا قول الرازي في تفسيره ٢٦/١٤٨..
٦ ما بين القوسين ساقط من ب بسبب انتقال النظر..
٧ كذا هي في الرازي وفي أ أما في ب فهي نجمة..
٨ في الرازي و ب نجوم وهو الأصح..
٩ ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر..

قوله :﴿ فَرَاغَ ﴾ أي مال في خفية، وأصله من رَوَغَانِ الثعلب، وهو تردده وعدم ثبوته بمكان، ولا يقال : رَاغَ١ حتى يكون صاحبه مخفياً لذهابه ومجيئه، فقال استهزاء بها :﴿ أَلا تَأْكُلُونَ ﴾ يعني الطعام الذي كان بين أيديهم
١ في ب: أراغ بهزة التعدية وهو غير المراد. وانظر: اللسان ١٧٧٩ ومعاني الفراء ٢/٣٨٨..
﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ ﴾ قاله أيضاً استهزاء،
فراغ عليهم مال عليهم مستخفياً١.
قوله :﴿ ضَرْباً ﴾ مصدر واقع موقع الحال أي فراغ عليهم ضارباً، أو مصدر لفعل ذلك الفعل حال تقديره فراغ يَضْرِبُ ضَرْباً٢، أو ضمن راغ معنى «يضرب » وهو بعيد٣، و «باليَمِينِ » متعلق «بضَرْباً » إن لم تجعله مؤكداً وإلا فلعامله٤، واليمين يجوز أن يراد بها إحدى اليدين وهو الظاهر وأن يراد بها القوة٥، فالباء٦ على هذا للحال أي ملبساً٧ بالقوة، وأن يراد بها الحَلِف وفاءً، بقوله :﴿ وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ﴾٨ [ الأنبياء : ٥٧ ] والباء على هذا للسبب٩، وعدي «راغ » الثاني «بعلى » لما كان مع الضرب المستولي عليهم من فوقهم إلى أسفلهم بخلاف الأول فإنه مع توبيخ لهم، وأتى بضمير العقلاء في قوله :«عَلَيْهِمْ » جرياً على ظن عبدتها أنها كالعُقَلاَءِ١٠.
١ وانظر كل هذا في الرازي ٢٦/١٤٨..
٢ قال بالقول الأول الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٩ وبالأقوال الثلاثة أبو حيان في البحر ٧/٣٦٦ والسمين في الدر ٤/٥٦٠، وكذا الزمخشري في الكشاف ٣/٣٤٥ بينما قال بالثاني والثالث أبو البقاء في التبيان ١٠٩١ وبالثالث فقط مكي في المشكل ٢/٢٣٨..
٣ قال بالقول الأول الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٩ وبالأقوال الثلاثة أبو حيان في البحر ٧/٣٦٦ والسمين في الدر ٤/٥٦٠، وكذا الزمخشري في الكشاف ٣/٣٤٥ بينما قال بالثاني والثالث أبو البقاء في التبيان ١٠٩١ وبالثالث فقط مكي في المشكل ٢/٢٣٨..
٤ السمين ٤/٥٦٠..
٥ الكشاف ٣/٣٤٥ والقرطبي ١٥/٩٤..
٦ في ب: غالبا. وهو تحريف..
٧ كذا في أ و في ب ملتبسا وهما قريبان..
٨ أصنامكم سقط من ب..
٩ بالمعنى من الكشاف ٣/٣٤٥ واللفظ من السمين ٤/٥٦٠..
١٠ السابق..
قوله ( تعالى ) :﴿ يَزِفُّونَ ﴾ حال من فاعل «أقْبَلُوا ». و «إلَيْهِ » يجوز تعلقه بما قبله أو بما بعده١، وقرأ حمزة يُزِفُّونَ بضم الياء٢ من أَزَفَّ. وله معنيان :
أحدهما : أنه من أزف يُزِفّ أي دخل في الزفيف٣ وهو الإسراع، أو زِفاف العَرُوس، وهو المشى على هَيْئَةٍ ؛ لأن القوم كانوا في طمأنينة من أمرهم، كذا قيل.
وهذا الثاني ليس بشيء، إذ المعنى أنهم لما سمعوا بذلك بادروا مسرعين، فالهمزة على هذا ليست للتعدية٤.
والثاني : أنه من أزَفَّ غَيْرَهُ أي حمله على الزفيف وهو الإسراع، أو على الزِّفَاف٥، وقد تقدم ما فيه، وباقي السبعة بفتح الياء من زفَّ الظليمُ٦ يَزِفُّ أي عَدَا بسُرعة٧. وأصل الزفيف للنعام. وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد٨ والضحاك وابن أبي عبلة : يَزِفُونَ من وَزَفَ يَزِفُ أي أسرع إلا أنَّ الكِسائيِّ والفراءَ قالا لا نعرفها بمعنى زَفَّ٩. وقد عرفها غيرهما، قال مجاهد- وهو بعض من قرأ بها- : الوزيفُ النسلان١٠، وقرئ : يُزَفُّونَ مبنياً للمفعول ويَزْفُونَ كَيرمُونَ من زَفَاهُ بمعنى حداه كأن بعضهم يَزْفُو بعضاً لتسارعهم إليه١١، وبين قوله :﴿ فَأَقْبَلَوا ﴾ وقوله ﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ﴾ جمل محذوفة يدل عليها الفَحْوى أي فبلغهم الخبر، فرجعوا من عيدهم ونحو هذا. ١٢
قال ابن عرفة١٣ : من قرأ بالنصب١٤ فهو من زَفّ يَزِفُّ ( ومن١٥ قرأ بالضم فهو من : أَزَفَّ يزف )١٦ قال الزجاج : يَزِفُون يسرعون، وأصله من زفيف النعامة وهو من أشدّ١٧ عَدْوِهَا.
١ السابق أيضا..
٢ من المتواتر انظرها في السبعة ٥٤٨ ومعاني الفراء ٢/٣٨٨ والكشاف ٣/٣٤٥ وحجة ابن خالويه ٣٠٢ والنشر ٢/٣٥٧..
٣ وأزف عن ابن الأعرابي وقال اللحياني: أزف بعد اللغتين اللسان ١٨٤٢..
٤ البحر ٧/٣٦٦ والسمين ٤/٥٦١..
٥ الكشف ٢/٢٢٥ والكشاف ٣/٣٤٥ وقد تعرض للأول أيضا..
٦ ذكر النعام..
٧ وانظر السبعة ٥٤٨..
٨ هو عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن القرشي المقرىء البصري ثم المكي إمام كبير في الحديث ومشهور في القراءات ثقة روى الحروف عن عاصم، وله اختيار في القراءة ينسب إليه. مات سنة ٢١٣ هـ. انظر: طبقات القراء ١/٤٦٣ وانظر قراءته هو ومن تبعه في المختصر لابن خالويه ١٢٨ والمحتسب لابن جني ٢/٢٢١ والكشاف ٣/٣٤٥ والدر المصون ٤/٥٦١..
٩ قال في المعاني: "وقد قرأ بعض القراء يزفون بالتخفيف كأنه من وزف يزف، وزعم الكسائي أنه لا يعرفها. وقال الفراء: لا أعرفها أيضا إلا أن تكون لم تقع إلينا". المعاني ٢/٣٨٩..
١٠ انظر: البحر المحيط ٧/٣٦٦ والدر المصون ٤/٥٦١ وانظر أيضا اللسان: "وزف" ٤٨٢٦..
١١ لم ينسب أبو حيان ولا الزمخشري هاتين القراءتين في البحر ٧/٣٦٦ والكشاف ٣/٣٤٥ ونسب ابن منظور الأولى للأعمش ونسبها صاحب الشواذ لابن مقسم ونسب الثانية لابن أبي عبلة الشواذ ٢٠٦، وانظر معنى الثانية في الكشاف..
١٢ وهو ما يسمى بإيجاز الحذف. انظر: الدر المصون ٤/٥٦٢، ٥٦٣..
١٣ أبو عبد الله إبراهيم بن محمد الواسطي كان عالما بالحديث والعربية أخذ عن ثعلب والمبرد وغيرهما مات سنة ٣٣٣ انظر: نزهة الألباء ١٧٥: ١٧٧..
١٤ يقصد نصب الياء..
١٥ ما بين القوسين سقط من ب..
١٦ وانظر: الرازي ٢٦/١٤٨..
١٧ في المعاني: ابتداء. وانظر: المعاني ٤/٣٠٩..
قوله :﴿ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴾ لما عاتبوا إبراهيمَ على كسر الأصنام ذكر لهم الدليل الدال على فساد عبادتها فقال :﴿ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ( * ) والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ووجه الاستدلال : أن الخشب والحجر قبل النحت والإصلاح ما كان معبوداً البتة فإذا نحته وشكله على الوجه المخصوص لم يحدث فيه الآثار تصرفه فلو صار معبوداً عند ذلك لكان معناه أن الشيء الذي لم يكن معبوداً إذا حصلت آثارُ تَصَرُّفَاتِهِ١ فيه صار معبوداً ( إلى٢ ( ذلك ) )، وفساد ذلك معلوم ببديهة العقل.
قوله :﴿ وَمَا تَعْمَلُون ﴾ في «ما » هذه أربعة أوجه :
أجودها : أنها بمعنى الذي أي وخلق الذي تصنعونه٣، فالعمل هنا التصوير والنحت نحو : عمل الصانع السِّوار الذي صَاغَه. ويرجح كونها بمعنى الذي تقدم «ما » قبلها فإنها بمعنى الذي أي أتعبدون الذي تنحتون والله خلقكم وخلق الذي تعملون ( ه )٤ بالنحت. ٥
والثاني : أنها مصدرية أي خلقكم وأعمالكم٦، وجعلها الأشعريَّة دليلاً على خلق أفعال العباد لله تعالى وهو الحق، إلا أن دليل ذلك من هنا غير قوي لما تقدم من ظهور كونها بمعنى الذي٧، وقال مكي : يجب أن تكون ما والفعل مصدراً جيء به ليفيد أن الله خالقُ الأشياء كلها. وقال أيضاً : وهذا أليق لقوله :﴿ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ [ الفلق : ٢ ] أجمع القراء على الإضافة فدل على أنه خالق الشر. وقد فَارَقَ عمرو بنُ عُبَيد٨ الناس فقرأ مِنْ شَرِّ بالتنوين٩ ليثبت مع الله خالقين١٠، وشنع الزمخشري على القائل هنا بكونها مصدريةً.
والثالث : أنها استفهامية١١ وهو استفهام توبيخ، أي :( و ) أيُّ شَيْءٍ تَعْمَلُونَ ؟
الرابع : أنها نافية١، أي أن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم ( لا )٢ تعملون شيئاً،
١ تصحيح من الرازي ففي النسختين تصرفاتي..
٢ ما بين القوسين الكبيرين سقط من ب وما بين القوسين الصغيرين سقط من أ. وانظر: الرازي ٢٦/١٤٩..
٣ في ب: يصنعونه. وقال بموصولية ما الزمخشري في الكشاف ٣/٣٤٥ وأبو البقاء في التبيان ١٠٩١ ونقلها مكي في المشكل ٢/٢٣٩ ورجحه أبو حيان في البحر ٧/٣٦١ والسمين في الدر ٤/٥٦٣..
٤ الهاء سقطت من ب..
٥ وانظر المرجع الأخير السابق..
٦ مشكل الإعراب ٢/٢٣٩. وهو اختياره ورجحه على غيره. وانظر أيضا البيان ٢/٣٠٦ والإعراب ٣/٤٣٠ والتبيان ١٠٩١ والسمين ٤/٥٦٢..
٧ السابق وانظر: مشكل الإعراب ٢/٢٣٩..
٨ هو عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري وردت عنها الرواية في حروف القرآن روى عن الحسن وسمع منه وعنه بشار بن أيوب مات سنة ١٤٤ هـ انظر: غاية النهاية ٢/٦٠٢..
٩ نقلها أبو حيان في بحره عن ابن عطية البحر ٨/٥٣٠ وكذلك صاحب الإعراب ٢/٢٣٩ ونسبها ابن خالويه إلى عمرو بن فائد ص ١٨٢..
١٠ انظر: مشكل الإعراب لمكي المرجع السابق..
١١ المرجع السابق وانظر: التبيان ١٠٩١ والبيان ٢/٣٠٦ والإعراب ٣/٤٣٠ ومشكل إعراب القرآن ٢/٢٤٠ والبحر المحيط ٧/٣٦٧ والدر المصون ٤/٥٦٢..
والجملة من قوله :﴿ والله خَلَقَكُمْ ﴾ حال. ومعناها حسن أي أتعبدون الأصنام على حالة تُنَافِي ذلك وهي أن الله خالقكم وخالقهم جميعها، ويجوز٣ أن تكون مستأنفة.

فصل


دلت الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ ( ما ) مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله٤ :﴿ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ معناه وعملكم، وعلى هذا فيصير معنى الآية : والله خلقكم وخلق عملكم.
فإن قيل : هذه الآية حجة عليكم من وجوه :
الأول : أنه تعالى قال :﴿ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴾ أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة الفِعل إلى الفاعل ولو كان ذلك دافعاً بتخليق الله لاستحال كونه فعلاً ( للعبد ). ٥
الثاني : أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخاً لهم على عبادة الأصنام ؛ لأنه تعالى لما ذكر هذه الآية بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق، فلما تركوا عبادته - سبحانه وتعالى - وهو خالقهم وعبدوا الأصنام لا جَرَمَ أنه سبحانه وبَّخَهُمْ على هذا الخطأ العظيم فقال :﴿ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ولو لم يكونوا فاعلين لأعمالهم لما جاز توبيخهم عليها سلمنا أن هذه الآية ليست حجة عليكم ولكن لا نسلم أنها حجة لكم فقولكم : لفظ ما مع ما بعدها في تقدير المصدر قلنا : ممنوع لأن سيبويه والأخفش اختلفا هل يجوز أن يقال : أعْجَبَنِي مَا قُمْتَ أي قيامُكَ، فجوزه سيبويه٦ ومنعه الأخفش، وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي وذلك يدل على أن ما مع ما بعده في تقدير المفعول٧ عند الأخفش سَلَّمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر لكنه أيضاً قد يكون بمعنى المفعول. ويدل عليه وجوه٨ :
الأول : قوله :﴿ أتعبدون ما تنحتون ﴾ والمراد بقوله :«ما تنحتون » المنحوت لا النحت لأنهم ما عبدوا النحت فوجب أن يكون المراد بقوله :﴿ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ المعمول لا العمل حتى يكون كُلُّ واحدٍ من هذين اللفظين على وَفْقِ الآخر.
الثاني : أنه تعالى قال :﴿ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ [ الأعراف : ١١٧ ] وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك بل أراد العُصيِّ والحبَال التي هي متعلقات ذلك الإفك فكذا ههنا.
الثالث : إن العرب تسمي محلّ العمل عملاً، يقال في الباب والخاتم : هذا عملُ فُلانٍ والمراد محل عمله فثبت بهذه الوجوه أن لفظ ( ما )٩ مع ما بعده كما يجيء بمعنى المصدر قد يجيء أيضاً بمعنى المفعول فكان حمله ههنا على المفعول أولى ؛ لأن المقصود في الآية تزييفُ مذهبهم في عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون أفعال أنفسهم لأن الذي جرى ذكره من أول الآية إلى هذا الموضع فهو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال١٠. قال ابن الخطيب : و ( اعلم١١ أن ) هذه ( ال ) سُّؤَالاَتِ قوية فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية.
٣ قاله السمين أيضا في الدر ٤/٥٦٢ فإن كانت حالا فهي في محل نصب، وإن كانت مستأنفة فلا محل لها من الإعراب كما هو العهد والعرف..
٤ تصحيح من السياق والرازي ففي النسختين (بقوله)..
٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٦ قال في الكتاب ١/٣٦٧: "ومثل ذلك أيضا من الكلام فيما حدثنا أبو الخطاب : ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر، فما مع الفعل بمنزلة اسم نحو النقصان، والضر كما بعد إلا في ذا الموضع" وقال في ١/٤١٠: "ومن ذلك قولهم: ائتني بعد ما تفرغ مما وتفرغ بمنزلة الفراغ وتفرغ صلة". وقال في ص ٣٧٧ وتقول: أتاني القوم ما عدا زيدا، وأتوني ما خلا زيدا، فما هنا اسم..
٧ يقول أبو العباس المبرد في المقتضب ٣/٢٠٠: "فأما اختلاف الأخفش وسيبويه في (ما) إذا كانت والفعل مصدرا فإن سيبويه كان يقول: أعجبني ما صنعت فهو بمنزلة قولك: أعجبني أن قمت... والأخفش يقول: أعجبني ما صنعت أي ما صنعته كما تقول: أعجبني الذي صنعته ولا يجيز: أعجبني ما قمت لأنه لا يتعدى، وقد خلط أي الأخفش فأجاز مثله، والقياس والصواب رأي سيبويه" انظر: المقتضب ٣/٢٠٠..
٨ مجيء ما بمعنى المفعول مع ما بعده رأي الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٦/١٥٠. وانظر مقولته تلك في نفس المرجع..
٩ سقط من ب..
١٠ الرازي المرجع السابق..
١١ ما بين الأقواس زيادة من تفسير الرازي المشار إليه أعلى..
قوله :﴿ قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً ﴾ لما أورد عليهم الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريقة الإيذاء ( فقالوا : ابْنُوا ( لَهُ ) بُنْيَاناً ) قال ابن عباس : بنوا حائِطاً من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرونَ ذراعاً وملأوه ناراً وطرحوه فيها وذلك هو قوله :﴿ فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم ﴾ وهي النار العظيمة١. قال الزجاج : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم٢، والألف والَلام في الجحيم يدل على النهاية٣ ( والمعنى٤ في جحيمه أي في جحيم ذلك البنيان.
١ انظر: القرطبي ١٥/٩٧..
٢ قاله في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣١٠..
٣ في ب: الكفاية..
٤ ما بين القوسين كله سقط من ب بسب انتقال النظر..
ثم قال تعالى :﴿ فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين ﴾ ) والمعنى أن في وقت المحاجة١ حصلت الغلبة له وعندما ألقوه في النار صرف الله عنه ضَرَرَ النار فصار هو الغالب عليهم «وأرادوا كَيْداً » أي شواءً وهو أن يَحْرِقُوه ﴿ فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين ﴾ المقهورين من حيث سلم الله إبراهيم ورد كيدهم،
١ في ب: الحاجة..
ولمَّا انقضت هذه الواقعة قال إبراهيم :«إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ » ونظير هذه الآية قوله تعالى :
﴿ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي ﴾ [ العنكبوت : ٢٦ ] والمعنى أهجر دار الكفر أي أذهب إلى موضع دين ربي، وقوله :﴿ سَيَهْدِينِ ﴾ أي إلى حيث أمرني بالمصير إليه وهو الشام، وهذا يدل على أن الهداية لا تحصل إلاَّ من الله تعالى. ولا يمكن حمله على وضع الأدلَة وإزاحة الأعذار لأن ذلك كان حاصلاً في الزمان والماضي،
قال مقاتل : فلما قَدِم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال :«رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالحِين » أي هب لي ولداً صالحاً، لأن لفظ الهِبَةِ غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ﴾ [ مريم : ٥٣ ].
﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ﴾ في كِبَرِهِ ففيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش وينتهي إلى سنَّ يُوسُفَ
329
بالحِلْم، وأيّ حلم أعظم من أنه عرض عليه أبوه الذبح فقال ﴿ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ ؟!.
قوله: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ﴾ (مَعَهُ «متعلق بمحذوف على سبيل البيان كأن قلائلاً قال: مَعَ (مَنْ) بلغ السعي؟ فقيل: مع أبيه ولا يجوز تعلقه» ببَلَغَ «؛ لأنه يقتضي بلوغهما معاً حدّ السعي؛ ولا يجوز تعلقه بالسعي لأنه صلة المصدر لا تتقدم عليه، فتعين ما تقدم. قال معناه الزمخشري ومن يتسع في الظرف يجوز تعلقه بالسَّعِي.

فصل


قال ابن عباس وقتادة: معنى بلغ السعي أي المشي معه إلى الجبل، قال مجاهد عن ابن عباس: لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم والمعنى أن ينصرف معه ويعينه في علمه قال الكلبي: يعني العمل لله. وهو قول الحسن؛ ومقاتل وابن حبان وابن زيد قالوا: هو العبادة واختلفوا في سنه، فقيل: كان ابنَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سنةً، وقيل: كان ابنَ سَبْعِ سِنينَ.
قوله: ﴿إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ قال المفسرون: لما بُشِّر إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - بالولد قبل أن يولدَ له فقال: هو إذن لله ذبيح، فقيل لإبراهيم: قد نذرَت نذراً فأوف بنذرك فلما أصبح قال يا بُنَيَّ: إنّ أَرَى فِي المَنَام أَنِّي أَذْبَحَكُ، وقيل: رأى في ليلة التروية في منامه كأن قائلاً يقول: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح تروى في لك من الصباح إلى الرَّوَاح، أمِنَ الله أو من الشيطان؟ فلذا سمي يومَ التروية، فلما رأى ذلك أيضاً عرف أنه من الله تعالى فسمي يوم عَرَفَةَ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهمَّ بالنحر فسمي يوم النَحْر. وهو قول أكثر المفسرين. وهذا يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقضة، وعلى هذا فتقدير اللفظ رأى في المنام ما يُوجب أَنِّي أذْبَحُكَ.

فصل


اختلفوا في الذبيح، فقيل: إِسْحَاق. وهو قول عمر، وعليِّ، وابن مسعود،
330
والعباد بن عبد المطلب، وكعب الأحبار، وقتادة، وسعيد بن جبير، ومسروق، وعكرمة والزهري، والسدي، ومقاتل، وهي رواية عكرمة، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس. وقالوا: وكانت هذه القصة بالشام وقيل: إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن، والشعبي، ومجاهد، والكلبي، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي وهي رواية عطاء بن أبي رباح ويُوسف بن (مِهْرَانَ) عن ابن عباس، وكذا القولين رُويا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واحتجَّ القائلون بأنه إسماعيل بقوله عليه (الصلاة و) والسلام:» «أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْن» وقال له أعرابي: با ابْنَ الذَّبِيحَيْن فتبسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسئل عن ذلك فقال: «إنّ عبد المطلب لما حَفَر بئْر زَمْزَم نَذّرَ إنْ سهل الله أمرها ليذبحن أحَدَ وَلَده، فخرج السَّهم على عبدِ الله فمنعه أخواله وقالوا له: افْد ابنك بمائةٍ من الإبل». والذبيح الثاني إسماعيل «
ونقل الأصمعيُّ أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال يا أصمعي: أني عَقْلُكَ؟ ومتى كان إسحاقُ بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكةَ وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحرُ بمكة وقد وصف الله إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين﴾ [الأنبياء: ٨٥] وهو صبره على الذبح، ووصفه أيضاً بصدق الوعد فقال: ﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد﴾ [مريم: ٥٤] لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح، ووصفه أيضاً بصدق الوعد فقال: «سَتَجِدُونِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»
وقال قتادة: «فَبَشَّرْنَاهاَ بإِسْحَاق ومَنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ» فكيف تقع البشارة المتقدمة؟! وقال الإمام أحمد: الصحيح أن الذبيح هو إسماعيل وعليه جمهور العلماء من السَّلف والخلق، قال ابن عباس: وذهبت اليهود أنه إسحاق وكَذَبَت اليهودُ، وروى ابن عباس أنه هبط عليه الكبش من بشير فذبح وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل مه فذبحه بمنى وقيل بالمَقَام، وروي: أنه كان وعلاً. وقيل: كان تَيْساً من الأروى، قال سفيان: لم يزل قرنا الكبش في البيت حتى أُحْرِقَ فاحْتَرَقَا. وروى ابن عباس: أن الكبش لم يزل معلقاً عند مِيزَاب الكعبة حتى وحش وأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى عثمان بن طلحة فقالت امرأة عثمان لم دعاك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ قال: إن كنت رأيت قَرْنَي الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن أريك أين نحرها فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل الصلي، وهذا يدل على أن الذبيح كان إسماعيل لأنه الذي كان مقيماً بمكة، وإسحاق لا يعمل أنه
331
كان قدمها في صغره وهذا ظاهر القرآن لأنه ذكر قصة الذبيح، ثم قال بعده: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ [الصافات: ١١٢] قال ابن كثير: من قال: إنه إسحاق فإنما أخذه - والله أعلم - من كعب الأحبار أو من صحف أهل الكتاب وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى ينزل لأجله ظاهر الكتاب العزيزُ.
قوله: ﴿مَاذَا ترى﴾ يجوز أن تكون «ماذا» مركبة مُغَلَّباً فيها الاستفهام فتكون منصوبة وهي وما بعدها في محل نصب «بانظر» لأنها معلّقة له، وأن تكون «ما» استفهامية و «ذا» موصولة فتكون مبتدأ وخبراً. والجملة معلقة أيضاً وأن تكون ماذا بمعنى الذي فيكون معمولاً لانْظُرْ. وقرأ الأخوان تُرِي بالضم والكسر، والمعُولانِ محذوفانِ أي تُرِينِ إيَّاهُ من صبْرك واحتمالِك وباقي السبعة تَرَى - بفتحتين - من الرَّأي.
وقرأ الأعمش والضحاك تُرضى بالضّمِّ والفتح، بمعنى ما يُخَيَّل إليك ويسنح لخاطرك.
قوله: ﴿مَا تُؤمَرُ﴾ يجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي، والعائد مقدر، أي تُؤمَرهُ والأصل: تُؤْمَرُ به، ولكن حذف الجار مطرد فلم يحذف الجر مطرد فلم يحذف العائد إلا وهو منصوب المحل، فليس حذفه هنا كحذفه (في) قولك: جاء الذي مَرَرْتُ وأن تكون مصدرية، قال الزمخشري: أو أمرك على إضافة المصدر للمفعول وتسمية المأمور به أمراً يعني بقوله المفعول أي الذي لم يُسَمَّ فاعله، إلاّ أن في تقدير المصدرية (بفعل) بمني للمفعلول خلافاً مشهوراً.
332
قوله: ﴿ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ لما تؤمر. إنما علق المشيئة لله تعالى على سبيل التبرك والتيمن فإنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قولة على طاعة الله إلاَّ بتَوْفِيقِ اللَّهِ.

فصل


اختلف الناس في أنَّ - عليه (الصلاة و) السلام - كان مأموراً بهذا وهذا الاختلاف يتفرع عليه مسألة أصولية وهي أنه هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور وقت الامْتِثَال، فقال بعضهم: إنه يجوز، وقالت المعتزلة وبعض الشافعية والحنفية: إنه لا يجوز فعلى الأول أنّ الله تعالى أمره بالذبح، ثم إن الله تعالى فسخ هذا التكليف قبل حضور وقته، وعلى الثاني أن الله تعالى ما أمره بذبح ولده بل إنما أمر بمقدّمات الذبح وهي إضجاعه، ووضع السكني على حلقه، والعزم الصحيح في الإتيان بذلك الفعل، ثم إن الله تعالى أخبر عنه بأنه أتى بما أمر به لقوله: ﴿ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ﴾ فدل على أنه تعالى إنما أمره بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح. وايضاً فإن الذبح عبارة عن قطع الحلقوم، فلعل إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - قطع الحُلْقُومَ إلا أنه كلما قطع جزءاً أعاد الله تأليفه ولهذا السبب لم يحصل الموت. وأيضاً فإنه تعالى لو أمر شخصاً معيناً بإيقاع فعلٍ معين في وقت معين فهذا يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت حسن فلو حصل النهي في عقيب ذلك الأمر لزم أحد أمرين إما أن يكون عالماً بحال ذلك الفعل فيلزم أن يقال: إنه أمر بالقبيح أو نهى عن الحسن، وإن لم يكن عالماً به لزم جهل الله (تعالى) وأنه محال، والجواب عن الأول أنه تعالى إنما أمره بالذَّبح لظاهر الآية واما قولهم كلما قطع إبراهيم عليه (الصلاة و) السلام جزءاً أعاد الله تأليفه فهذا باطل لأن إبراهيم عليه (الصلاة و) السلام لو أتى بكل ما أمر به لما احتاج إلى الفداء وحيث احتاج إليه علمنا أنه لم يأت بكل ما أمر به، وأما قولهم: يلزم إما الأمر بالقبيح وإما الجهل فنقول: هذا بناء على أن الله لا يَأمر إلا بما يكون حسناً في ذاته ولا يَنْهَى إلا عما يكون قبيحاً في ذاته فذلك مبني على تحسين العقل وتقبيحه.
وهو باطل فإن سَلَّمْنَا ذلك فَلِمَ (ى) يجوز أن يكون الأمر بالشيء تارةً حسناً لكون المأمور به حسناً في ذلك الوقت لمصلحةٍ من المصالح وإن لم يكن المأمور به حسناً كما إذا أراد السيد اختبار طاعة العبد فيقول له: افعل الفعل الفُلاَنِيّ في يوم الجُمْعَة ويكون ذلك الفعل شاقّاً ويكون مقصود السيد ليس أن يأيت العبد بذلك الفعل بل أن يُوَطن العبد نفسه على الانقياد
333
والطاعة ثم إن السيد علم منه توطين نفسه على الطاعة فقد يزيد (الألم عنه) بذلك التكليف فكذا ههنا.

فصل


احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه، لأنه تعالى لو أراد وقوعه لوقع الذبح لا محالة.

فصل في الحكمة في ورود هذا التكليف في النوم لا في اليقضة


وذلك من وجوه:
الأول: أن هذا التكليف في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح فورد أولاً في النوم حتى يصير ذلك كالمفيد لورُود هذا التكليف الشاقّ، ثم يتأكد ذلك بأحوال اليقضة لكيلا يهجم هذا التكليف الشاق على النفس دفعة واحد بل على التدريج.
الثاني: أن الله تعالى جَعَلَ رؤيا الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام - حقاً، قال تعالى: ﴿لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق﴾ [الفتح: ٢٧] وقال عن يوسف: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] وقول إبراهيم: «إنِّي أَرَى فِي المَنَام أَنِّي أَذْبَحُكَ». والمقصود من هذا تقوية الدلالة على كونهم صادقين فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق دل ذلك نهاية كونهم محقين في كل الأحوال.

فصل


والحكمة في مشاورة الابن في هذا الأمر ليظهر له صبره في طاعة الله فيكون فيه قوة عَيْن لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحكمة إلى هذا الحدِّ العظيم في الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية ويحصل للابن الثوابُ العظيمُ في الآخرة والثناء الحَسَن في الدُّنْيَا.
قوله: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ في جوابها ثلاثة أوجه:
أظهرهما: أنه محذوف أي ذَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ أو ظَهَرَ صَبْرُهُمَا، أو أجزلنا لهما أجرهما وقدره بعضهم: بعد الرؤيا؛ أي كان ما كان مما يَنْطِقُ به الحال والوصف مما لا يدرك كُنْهُهُ ونقل ابن عطية: أن التقدير فَلَما أسْلَمَا أسْلَمَا وَتَلَّهُ كقوله:
334
٤٢١٩ - فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى بِنَا بَطْنُ خبْتٍ ذِي قِفَافِ عَقَنْقَل
أي فلما أجزنا أجزنا وانتحى ويُعْزَى هذا لسيبويه وشيخه الخلِيلِ وفيه نظَر من حيث اتخاذ الفعلين الجَاريَيْنِ مَجْرَى الشَّرْط والجواب، إلا أنْ يُقَال: جعل التغاير في الآية بالعطف على الفعل وفي البيت بعمل الثاني في «ساحة» وبالعطف عليه أيضاً، والظاهر أن مثل هذا لا يكفي في التغاير.
الثاني: أنه «وَتَلَّهُ لِلْجَبِين» والواو زائدة وهو قول الكوفيين والأخفش.
والثالث: أنه «وَنَادَيْنَاهُ» والواو زائدة أيضاً كقوله: ﴿وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ﴾ [يوسف: ١٥] فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْت الرؤيا. تَمَّ الكلام هنا. ثم ابتدأ: إنَّ كَذَلِكَ (نَجْزِي المُحْسِنِينَ) وقرأ عَلِيُّ وعبدُ الله وابنُ عباس سلّما وقرئ: اسْتَسْلَمَا «وتله» أي صرعه وأضْجَعَهُ على شِقِّه، وقيل: هو الرمي بقوة وأصله من رمى به على التلِّ وهو المكان المرتفع أو من التَّليل وهو العُنُق، أي رماه على عُنُقِهِ، ثم قيل لكُلّ إسقاط وإن لم يكن على تَلِّ ولا عنق والتَّلُّ الرِّيح الذي يُتَلُّ به،
335
و «الجَبِينُ» ما انكشف من الجبهة من هنا ومن هنا، وشذ جمعه على أجْبُن، وقياسه في القلة أَجْبِنَه كَأرْغفَةِ وفي الكثرة جُبُن وجُبْنَان كرَغِيفٍ ورُغُفٍ وَرُغْفَان.

فصل


والمعنى سلم لأمره الله، وأَسْلَم واسْتَسْلَمَ بمعنًى واحد أي انقاد وخضع. والمعنى أخلص نفسه لله وجعلها سالمة خالصة وكذلك استسلم استخلص نفسه لله، وعن قتادة في سلما: أسلم هذا ابنه، وهذا نفسه، وقوله: ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أي صرعه على شِقِّه فوقع أحد جبينيه للأرض وللوجه جَبِينَانِ والجبهة بينهما. قال ابن الأعرابي: التَّلِيلُ والمَتْلُون المَصْرُوع والمُتلُّ الذي يُتَلُّ به أي يُصْرَعُ والمعنى أنه صرعه على جبينه وقال مقاتل: كبه على جبهته وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ﴾.
فإن قيل: لِمَ قَالَ: صَدَّقْت الرؤيا وكان قد رأى الذبح لم يُذْبَحْ؟ قيل: جعله مصدقاً لأنه قد أتى بما أمكنه والمطلوب إسلامها لأمر الله وقد فَعَلاَ. وقيل: قد كان رأى في النوم مصالحة ولم ير إراقَهَ دَم وقد فعل في اليقظة ما رأى في النوم ولذلك قال: قد صدقت الرؤيا، قال المحققون: السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله فلما كلَّفه هذا التكليف الشاقّ الشديد وظهر منه كمالُ الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال الله تعالى: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ﴾ وقوله: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ ابتداء إخبار من الله تعالى والمعنى إنما كما عَفوْنا عن ذبح ولده كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ولده ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين﴾ الاختبار البَيِّنُ الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنةَ أصعبُ منها، وقال مقاتل: البلاء ههنا النِّعمة وهو أن فدى ابنه بالكبش، وقوله: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ الدِّبْحُ مصدر ذَبَحْتُ والذِّبح أيضاً ما يذبح وهو المراد في هذه الآية وسمي عظيماً لِسمنِهِ وعِظَمِهِ، وقال سعيد بن جبير: حق
336
له أن يكون عظيماً لِعِظَمِ قَدْرِهِ حيث قبله الله فداء ولد إبراهيم وتقدم الكلام على نظير بقيَّة القصة.
337
قوله :﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ﴾ ( مَعَهُ )١ «متعلق بمحذوف على سبيل البيان كأن قائلاً قال : مَعَ ( مَنْ )٢ بلغ السعي ؟ فقيل : مع أبيه ولا يجوز تعلقه «ببَلَغَ » ؛ لأنه يقتضي بلوغهما معاً حدّ السعي ؛ ولا يجوز تعلقه بالسعي لأنه صلة المصدر لا تتقدم عليه، فتعين ما تقدم. قال معناه الزمخشري٣ ومن يتسع في الظرف يجوز تعلقه بالسَّعِي٤.

فصل


قال ابن عباس وقتادة : معنى بلغ السعي أي المشي معه إلى الجبل٥، قال مجاهد عن ابن عباس : لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم٦ والمعنى أن ينصرف معه ويعينه في عمله٧، قال الكلبي : يعني العمل لله. وهو قول الحسن٨ ؛ ومقاتل وابن حبان وابن زيد قالوا : هو العبادة٩ واختلفوا في سنه، فقيل : كان ابنَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سنةً١٠، وقيل : كان ابنَ سَبْعِ سِنينَ.
قوله :﴿ إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ ﴾ قال المفسرون : لما بُشِّر إبراهيم - عليه ( الصلاة و ) السلام- بالولد قبل أن يولدَ له فقال : هو إذن لله ذبيح، فقيل لإبراهيم : قد نذرَت نذراً فأوف بنذرك فلما أصبح قال يا بُنَيَّ : إنّ أَرَى فِي المَنَام أَنِّي أَذْبَحَكُ، وقيل : رأى في ليلة التروية في منامه كأن قائلاً يقول : إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرَّوَاح، أمِنَ الله أو من الشيطان ؟ فلذا سمي يومَ التروية، فلما رأى ذلك أيضاً عرف أنه من الله تعالى فسمي يوم عَرَفَةَ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهمَّ بالنحر فسمي يوم النَحْر. وهو قول أكثر المفسرين. وهذا يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقضة، وعلى هذا فتقدير اللفظ أرى في المنام ما يُوجب أَنِّي أذْبَحُكَ. ١١

فصل


اختلفوا في الذبيح، فقيل : إِسْحَاق. وهو قول عمر، وعليِّ، وابن مسعود، والعباد بن عبد المطلب، وكعب الأحبار، وقتادة، وسعيد بن جبير، ومسروق، وعكرمة والزهري، والسدي، ومقاتل، وهي رواية عكرمة، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس. وقالوا : وكانت هذه القصة بالشام١٢، وقيل : إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن، والشعبي، ومجاهد، والكلبي، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي وهي رواية عطاء بن أبي رباح ويُوسف بن ( مِهْرَانَ )١٣ عن ابن عباس١٤، وكذا القولين رُويا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحتجَّ القائلون بأنه إسماعيل بقوله عليه ( الصلاة و ) والسلام :«أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْن »١٥ وقال له أعرابي : با ابْنَ الذَّبِيحَيْن فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - فسئل عن ذلك فقال :«إنّ عبد المطلب لما حَفَر بئْر زَمْزَم نَذّرَ إنْ سهل الله أمرها ليذبحن أحَدَ وَلَده، فخرج السَّهم على عبدِ الله فمنعه أخواله وقالوا له : افْد ابنك بمائةٍ من الإبل »١٦. والذبيح الثاني إسماعيل ونقل الأصمعيُّ أنه قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال يا أصمعي : أين١٧ عَقْلُكَ ؟ ومتى كان إسحاقُ بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكةَ وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحرُ بمكة وقد وصف الله إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله :﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين ﴾ [ الأنبياء : ٨٥ ] وهو صبره على الذبح، ووصفه أيضاً بصدق الوعد فقال :﴿ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد ﴾ [ مريم : ٥٤ ] لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فقال :«سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ». وقال قتادة :«فَبَشَّرْنَاهاَ بإِسْحَاق ومَنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ » فكيف تقع البشارة المتقدمة ؟ ! وقال الإمام أحمد : الصحيح أن الذبيح هو إسماعيل وعليه جمهور العلماء من السَّلف والخلف، قال ابن عباس : وذهبت اليهود أنه إسحاق وكَذَبَت اليهودُ، وروى ابن عباس أنه هبط عليه الكبش من بشير فذبح وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه فذبحه بمنى وقيل بالمَقَام، وروي : أنه كان وعلاً. وقيل : كان تَيْساً من الأروى، قال سفيان : لم يزل قرنا الكبش في البيت حتى أُحْرِقَ فاحْتَرَقَا. وروى ابن عباس : أن الكبش لم يزل معلقاً عند مِيزَاب الكعبة حتى وحش وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة فقالت امرأة عثمان لم دعاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : إن كنت رأيت قَرْنَي الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن أريك أين نحرها فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي، وهذا يدل على أن الذبيح كان إسماعيل لأنه الذي كان مقيماً بمكة، وإسحاق لا يعلم أنه كان قدمها في صغره وهذا ظاهر القرآن لأنه ذكر قصة الذبيح، ثم قال بعده :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ﴾١٨ [ الصافات : ١١٢ ] قال ابن كثير : من قال : إنه إسحاق فإنما أخذه - والله أعلم - من كعب الأحبار أو من صحف أهل الكتاب وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى ينزل لأجله ظاهر الكتاب العزيزُ. ١٩
قوله :﴿ مَاذَا ترى ﴾ يجوز أن تكون «ماذا » مركبة مُغَلَّباً فيها الاستفهام فتكون منصوبة وهي وما بعدها في محل نصب «بانظر » لأنها معلّقة له٢٠، وأن تكون «ما » استفهامية و «ذا » موصولة فتكون مبتدأ وخبراً. والجملة معلقة أيضاً٢١ وأن تكون ماذا بمعنى الذي فيكون معمولاً٢٢ لانْظُرْ. وقرأ الأخوان تُرِي بالضم والكسر٢٣، والمفعُولانِ محذوفانِ أي تُرِينِي إيَّاهُ من صبْرك واحتمالِك٢٤. وباقي السبعة تَرَى - بفتحتين - من الرَّأي.
وقرأ الأعمش و الضحاك تُرى بالضّمِّ والفتح٢٥، بمعنى : ما يُخَيَّل إليك ويسنح لخاطرك٢٦.
قوله :﴿ مَا تُؤمَرُ ﴾ يجوز أن تكون «ما » بمعنى الذي٢٧، والعائد مقدر، أي تُؤمَرهُ والأصل : تُؤْمَرُ به، ولكن حذف الجار مطرد فلم يحذف العائد إلا وهو منصوب المحل، فليس حذفه هنا كحذفه ( في )٢٨ قولك : جاء الذي مَرَرْتُ٢٩ وأن تكون مصدرية٣٠، قال الزمخشري : أو أمرك على إضافة المصدر للمفعول وتسمية المأمور به أمراً٣١. يعني بقوله المفعول أي الذي لم يُسَمَّ فاعله، إلاّ أن في تقدير المصدرية ( بفعل ) مبني للمفعول خلافاً مشهوراً. ٣٢
قوله :﴿ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين ﴾ لما تؤمر. إنما علق المشيئة لله تعالى على سبيل التبرك والتيمن فإنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلاَّ بتَوْفِيقِ اللَّهِ.

فصل


اختلف٣٣ الناس في أنَّ إبراهيم - عليه ( الصلاة و ) السلام- كان مأموراً بهذا. وهذا الاختلاف يتفرع عليه مسألة أصولية وهي أنه هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور وقت الامْتِثَال، فقال بعضهم : إنه يجوز، وقالت المعتزلة وبعض الشافعية والحنفية : إنه لا يجوز فعلى الأول أنّ الله تعالى أمره بالذبح، ثم إن الله تعالى فسخ هذا التكليف قبل حضور وقته٣٤، وعلى الثاني أن الله تعالى ما أمره بالذبح وإنما أمره بمقدّمات الذبح، واحتج الأولون بقصة إبراهيم –عليه ( الصلاة و ) السلام- وقول الولد لأبيه :" افعل ما تؤمر ". وقالت المعتزلة لا نسلم أنه أمر بذبح ولده بل إنما أمر بمقدمات الذبح وهي إضجاعه، ووضع السكين على حلقه، والعزم الصحيح في الإتيان بذلك الفعل، ثم إن الله تعالى أخبر عنه بأنه أتى بما أمر به لقوله :﴿ يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ﴾ فدل على أنه تعالى إنما أمره بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح. وأيضاً فإن الذبح عبارة عن قطع الحلقوم، فلعل إبراهيم - عليه ( الصلاة و ) السلام - قطع الحُلْقُومَ إلا أنه كلما قطع جزءاً أعاد الله تأليفه ولهذا السبب لم يحصل الموت. وأيضاً فإنه تعالى لو أمر شخصاً معيناً بإيقاع فعلٍ معين في وقت معين فهذا يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت حسن فلو حصل النهي في عقيب ذلك الأمر لزم أحد أمرين إما أن يكون عالماً بحال ذلك الفعل فيلزم أن يقال : إنه أمر بالقبيح أو نهى عن الحسن، وإن لم يكن عالماً به لزم جهل الله ( تعالى ) وأنه محال، والجواب عن الأول أنه تعالى إنما أمره بالذَّبح لظاهر الآية وأما قولهم كلما قطع إبراهيم عليه ( الصلاة و ) السلام جزءاً أعاد الله تأليفه فهذا باطل لأن إبراهيم عليه ( الصلاة و ) السلام لو أتى بكل ما أمر به لما٣٥ احتاج إلى الفداء وحيث احتاج إليه علمنا أنه لم يأت بكل ما أمر به، وأما قولهم : يلزم إما الأمر بالقبيح وإما الجهل فنقول : هذا بناء على أن الله لا يَأمر إلا بما يكون حسناً في ذاته ولا يَنْهَى إلا عما يكون قبيحاً في ذاته فذلك مبني على تحسين العقل وتقبيحه.
وهو باطل فإن سَلَّمْنَا ذلك فَلِمَ ( لا )٣٦ يجوز أن يكون الأمر بالشيء تارةً حسناً لكون المأمور به حسناً في ذلك الوقت لمصلحةٍ من المصالح وإن لم يكن المأمور به حسناً كما إذا أراد السيد اختبار طاعة العبد فيقول له : افعل الفعل الفُلاَنِيّ في يوم الجُمْعَة ويكون ذلك الفعل شاقّاً ويكون مقصود السيد ليس أن يأتي العبد بذلك الفعل بل أن يُوَطن العبد نفسه على الانقياد والطاعة ثم إن السيد علم منه توطين نفسه على الطاعة فقد يزيل ( الألم عنه )٣٧ بذلك التكليف فكذا ههنا.

فصل


احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه، لأنه تعالى لو أراد وقوعه لوقع الذبح لا محالة.
فصل في الحكمة في ورود هذا التكليف في النوم لا في اليقضة٣٨
وذلك من وجوه :
الأول : أن هذا التكليف في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح فورد أولاً في النوم حتى يصير ذلك كالمفيد٣٩ لورُود هذا التكليف الشاقّ، ثم يتأكد ذلك بأحوال اليقضة لكيلا يهجم هذا التكليف الشاق على النفس دفعة واحدة بل على التدريج.
الثاني : أن الله تعالى جَعَلَ رؤيا الأنبياء - عليهم ( الصلاة و ) السلام - حقاً، قال تعالى :﴿ لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق ﴾ [ الفتح : ٢٧ ] وقال عن يوسف :﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [ يوسف : ٤ ] وقول إبراهيم :«إنِّي أَرَى فِي المَنَام أَنِّي أَذْبَحُكَ ». والمقصود من هذا تقوية الدلالة على كونهم صادقين فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق دل ذلك نهاية كونهم محقين في كل الأحوال٤٠.

فصل


والحكمة في مشاورة الابن في هذا الأمر ليظهر له صبره في طاعة الله فيكون فيه قوة عَيْن لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحكمة إلى هذا الحدِّ العظيم في الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية ويحصل للابن الثوابُ العظيمُ في الآخرة والثناء الحَسَن في الدُّنْيَا. ٤١
١ ما بين الأقواس سقط من ب..
٢ ما بين الأقواس سقط من ب..
٣ قاله في الكشاف ٣/٣٤٧ وانظر: البحر المحيط ٧/٣٦٩ والدر المصون ٤/٥٦٢ و ٥٦٣..
٤ المرجع الأخير السابق..
٥ زاد المسير ٧/٧٢..
٦ القرطبي ١٥/٩٩..
٧ غريب القرآن ٣٧٣ وتأويل المشكل ٣٩٠ والقرطبي المرجع السابق..
٨ البغوي ٦/٢٦، ٢٧..
٩ زاد المسير ٧/٧٢..
١٠ وهو قول الكلبي المرجع السابق والفراء في المعاني ٢/٣٨٩..
١١ انظر: البحر المحيط ٧/٣٦٩ والقرطبي ١٥/١٠٢ وهذا الرأي نسب للسدي وغيره..
١٢ انظر: زاد المسير ٧/٧٢ وهو نفس قول أبو موسى الأشعري وأبي هريرة ووهب بن منبه وعبيد بن عمير واختاره ابن جرير وانظر أيضا القرطبي ١٥/٩٩ والكشاف ٣/٣٥٠..
١٣ سقط من ب..
١٤ وهو قول ابن سلام والحسن البصري وأبي صالح وعبد الرحمن بن سابط وانظر المراجع السابقة..
١٥ الحديث في المقاصد الحسنة ١٤ وانظر: الكشاف ٣/٣٥٠..
١٦ المرجع السابق..
١٧ في القرطبي : عزب عقلك..
١٨ وانظر هذا كله في معالم التنزيل للبغوي ٦/٢٦، ٢٧ ولباب التأويل للخازن ٦/٢٦، ٢٧ وابن كثير ٤/١٣..
١٩ المرجع السابق..
٢٠ انظر: مشكل الإعراب ٢/٢٤١، والبحر المحيط ٧/٣٧٠ والتبيان ١٠٩٢ والدر المصون ٤/٥٦٣ والبيان ٢/٣٠٧..
٢١ المراجع السابقة..
٢٢ المراجع السابقة..
٢٣ من القراءات السبعية المتواترة انظر: السبعة ٥٤٨ والكشف ٢/٢٢٧، ٢٢٨ وانظر أيضا الكشاف ٣/٣٤٨ ومعاني الفراء ٢/٣٨٩، ٣٩٠..
٢٤ قاله الفراء في المرجع السابق وخالفه الزجاج فجعلها :"ماذا تشير" انظر: معاني القرآن وإعرابه ٤/٣١٠..
٢٥ المحتسب ٢/٢٢٢ والكشاف ٣/٣٤٨ وضبطها الفراء تري ولعلها خطأ من الناسخ أو الطباعة..
٢٦ المحتسب المرجع السابق..
٢٧ قال بهذا الزمخشري في الكشاف ٣/٣٤٨ وأبو حيان في البحر ٧/٣٧٠ والسمين فيا لدر ٤/٥٦٣..
٢٨ سقط من ب..
٢٩ الواقع أن هذا تجاوز في التعبير من المؤلف فالعائد عامة يحذف ولا خلاف أن حذف المنصوب قوي فكذلك ما في معناه. والعائد المجرور يجوز حذفه في صور وكذلك المرفوع يحذف في مواضع انظر ذلك بتفصيل في الهمع ١/٨٩، ٩٠..
٣٠ المراجع السابقة البحر والكشاف والدر..
٣١ الكشاف السابق..
٣٢ انظر الهمع ٢/٩٤٧ والدر المصون ٤/٥٦٣..
٣٣ انظر هذه الآراء في الرازي ٢٦/١٥٥..
٣٤ في ب: دفعه..
٣٥ في ب: "فما" بدل "لما"..
٣٦ كلمة "لا" سقطت من نسخة ب..
٣٧ تكملة من الرازي فقد سقطت من ب..
٣٨ انظر كل هذا في التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي ٢٦/١٥٥، ١٥٦..
٣٩ في الرازي كالمنبه..
٤٠ الرازي ٢٦/١٥٦..
٤١ المرجع السابق..
قوله :﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا ﴾ في جوابها ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه محذوف أي ذَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ أو ظَهَرَ صَبْرُهُمَا، أو أجزلنا لهما أجرهما١ وقدره بعضهم : بعد الرؤيا ؛ أي كان ما كان مما يَنْطِقُ به الحال والوصف مما لا يدرك كُنْهُهُ٢، ونقل ابن عطية : أن التقدير فَلَما أسْلَمَا أسْلَمَا٣ وَتَلَّهُ كقوله :
٤٢١٩- فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى. . . بِنَا بَطْنُ خبْتٍ ذِي قِفَافِ عَقَنْقَل٤
أي فلما أجزنا أجزنا وانتحى٥ ويُعْزَى هذا لسيبويه وشيخه الخلِيلِ٦. وفيه نظَر من حيث اتخاذ الفعلين الجَاريَيْنِ مَجْرَى الشَّرْط والجواب، إلا أنْ يُقَال : جعل التغاير في الآية بالعطف على الفعل وفي البيت بعمل الثاني في «ساحة » وبالعطف عليه أيضاً، والظاهر أن مثل هذا لا يكفي في التغاير٧.
الثاني : أنه «وَتَلَّهُ لِلْجَبِين » والواو زائدة وهو قول الكوفيين والأخفش. ٨
والثالث : أنه «وَنَادَيْنَاهُ » والواو زائدة١ أيضاً كقوله :﴿ وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ ﴾٢ [ يوسف : ١٥ ] فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْت الرؤيا. تَمَّ الكلام هنا. ثم ابتدأ : إنَّ كَذَلِكَ ( نَجْزِي المُحْسِنِينَ ) وقرأ عَلِيُّ وعبدُ الله وابنُ عباس سلّما٣، وقرئ : اسْتَسْلَمَا٤. «وتله » أي صرعه وأضْجَعَهُ على شِقِّه، وقيل : هو الرمي بقوة وأصله من رمى به على التلِّ وهو المكان المرتفع أو من التَّليل وهو العُنُق، أي رماه على عُنُقِهِ، ثم قيل لكُلّ إسقاط وإن لم يكن على تَلِّ ولا عنق. والتَّلُّ الرِّيح الذي يُتَلُّ به، و «الجَبِينُ » ما انكشف من الجبهة من هنا ومن هنا، وشذ جمعه على أجْبُن، وقياسه في القلة أَجْبِنَة كَأرْغفَةِ وفي الكثرة جُبُن وجُبْنَان كرَغِيفٍ ورُغُفٍ وَرُغْفَان٥.

فصل


والمعنى سلم لأمر الله، وأَسْلَم واسْتَسْلَمَ بمعنًى واحد أي انقاد وخضع. والمعنى أخلص نفسه لله وجعلها سالمة خالصة وكذلك استسلم استخلص نفسه لله، وعن قتادة في أسلما : أسلم هذا ابنه، وهذا نفسه٦، وقوله :﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ أي صرعه على شِقِّه فوقع أحد جبينيه للأرض وللوجه جَبِينَانِ والجبهة بينهما.
قال ابن الأعرابي : التَّلِيلُ والمَتْلُون المَصْرُوع والمُتلُّ الذي يُتَلُّ به أي يُصْرَعُ١، والمعنى أنه صرعه على جبينه. وقال مقاتل : كبه على جبهته وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة
١ قاله مكي في مشكله ٢/٢٤٠ وصاحب التبيان ١٠٩٢ والبيان ٢/٣٠٧ والسمين ٤/٥٦٣..
٢ هذا هو تقدير الزمخشري في الكشاف من كلام قاله فيه هذا معظمه. الكشاف ٣/٣٤٨..
٣ البحر ٧/٣٧٠..
٤ من الطويل من المعلقة المعهودة ويروى الشطر الثاني هكذا:
............................. بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل
وأجزنا: قطعنا، والساحة : الفناء، وانتحى: اعترض، والخبت: بطن من الأرض غامض. والقفاف مفرده قف ما غلظ من الأرض، وارتفع والعقنقل: المنعقد المتداخل بعضه في بعض وهو يخبرنا بحاله معها. وشاهده: أن جواب لما مقدر من لفظ فعل الشرط كما قاله ابن عطية و "انتحى" عطف على "أجزنا" المقدر. وهو الجواب وانظر: البحر ٧/٣٧٠ والإنصاف ٤٥٧ ومعاني الفراء ٢/٢٥٠، ٢٦١ والسبع الطوال ٥٤، ٥٥ والجامع للقرطبي ١٥/١٠٤ والمنصف ٣/٤١ واللسان: "ج و ز" وتمهيد القواعد ٢/٨٤٥ وديوانه ١٥/ بلفظ :"ذي ركام"..

٥ في ب: انتهى. وهو غير مراد..
٦ وفيها: الجليل بالجيم. وقد قال في الكتاب: "وسألت الخليل عن قوله: "حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها" أين جوابها وعن قوله....... فقال: إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر في كلامهم لعلم المخبر لأي شيء وضع هذا الكلام". فلم يقدر سيبويه ولا شيخه الجواب بلفظ الشرط ولعله في مكان آخر لم نقع عليه..
٧ قاله شهاب الدين السمين في الدر ٤/٥٦٤..
٨ نقله البيان ٢/٣٠٧، والتبيان ١٠٩٢ ومشكل الإعراب ٢/٢٤٠ لبعض الكوفيين..
﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ﴾.
فإن قيل : لِمَ قَالَ : صَدَّقْت الرؤيا وكان قد رأى الذي لم يُذْبَحْ ؟ قيل : جعله مصدقاً لأنه قد أتى بما أمكنه والمطلوب إسلامهما لأمر الله وقد فَعَلاَ. وقيل : قد كان رأى في النوم مصالحة ولم ير إراقَةَ دَم وقد فعل في اليقظة ما رأى في النوم ولذلك قال : قد صدقت الرؤيا، قال المحققون : السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله فلما كلَّفه هذا التكليف الشاقّ الشديد وظهر منه كمالُ الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال الله تعالى :﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين ﴾ ابتداء إخبار من الله تعالى والمعنى إنا كما عَفوْنا عن ذبح ولده كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا٢ قال مقاتل : جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ولده
٢ انظر: تفسير إمامنا فخر الدين الرازي ٢٦/١٥٧، ١٥٨..
﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين ﴾ الاختبار١ البَيِّنُ الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنةَ أصعبُ منها، وقال مقاتل٢ : البلاء ههنا النِّعمة وهو أن فدى ابنه بالكبش،
١ المرجع السابق..
٢ قاله أبو الفرج ابن الجوزي في زاد المسير ٧/٧٧..
وقوله :﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ الذِّبْحُ مصدر ذَبَحْتُ والذِّبح أيضاً ما يذبح. وهو المراد في هذه الآية١. وسمي عظيماً لِسمنِهِ٢ وعِظَمِهِ، وقال سعيد بن جبير : حق له أن يكون عظيماً لِعِظَمِ قَدْرِهِ حيث قبله الله فداء ولد إبراهيم٣. وتقدم الكلام على نظير بقيَّة القصة.
١ السابق. وانظر أيضا القرطبي ١٥/١٠٧، وبكسر الذال اسم ما ذبح. وانظر: غريب القرآن ٣٧٤ والمجاز ٢/١٧٣.
٢ قاله الماوردي..
٣ وهو رأي مجاهد أيضا وانظر زاد المسير ٧/٧٨..
قوله: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ «نبياً» نصب على الحال. وهي حال مقدرة قال أبو البقاء: إنْ كَانَ الذَّبيح إسحاقَ فيظهر كونها مقدرة وإن كان إسماعيل هو الذبيح وكانت هذه البشارةُ بشارة بولادة إسحاق فقد جعل الزمخشري ذلك محل سؤال قال: فإن قلت: فرق بين هذا وبين قوله: ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣] وذلك أن الدخول موجود مَعَ وجودِ الدُّخُول والخلود (غير) موجود معهما فقدرت الخلود فكان مستقيماً وليس كذلك المبشر به فإنه معدوم وقت وجود البشارة وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لأن الحال حِلْية لا يقوم إلا في المحلى. وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين وجد لم توجد النبوة أيضاً بوجوده بل تراخت عنه مدة طويلة فكيف نجعل «نبياً» حالاً مقدرة والحال صفة للفاعل والمفعول عند وجود الفعل منه أو به؟! فالخلود وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة فنقدرها صفتهم لأن المعنى مقدرين الخلود وليس كذلك النبوة فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة أو مقدرة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق قلتُ: هذا سؤالٌ دقيق المسلك والذي يحل الإشكال أنه لا بد من تقدير مضاف وذلك قوله: وَبشَّرْنَاهُ بوجود إسحاق نبياً أي بأن يوجد مقدّرة نبوتُهُ، والعالم في الحال الوجود لا فعل البشارة، وذلك يرجع نظير قوله تعالى: ﴿فادخلوها خَالِدِين﴾ [الزمر: ٧٣] انتهى. وهو كلام حَسَنٌ.
قوله: ﴿مِّنَ الصالحين﴾ يجوز أن يكون صفة «لِنَبِيًّا» وأن يكون حالاً من الضمير في «نَبِيًّا» فتكون حالاً متداخلة، ويجوز أن تكون حالاً ثانية، قال الزمخشري: وَوُرُودثا على سبيل الثَّناء والتَّقْرِيظِ لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصَّالِحينَ.
قوله: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ﴾ يعني على إبراهيمَ في أولاده «وَعَلَى إسْحَاقَ» بأن أَخْرج جميع بَنِي إِسرائيلَ من صُلْبِهِ.
337
وقيل: هو الثناء الحسن على إبراهيم وإسْحَاق إلى يوم القيامة. «وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ» مؤمن «وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ» أي كافر «مُبِينٌ» ظاهر وفي ذلك تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأَب فضيلة الابن لئلا تصير هذه الشبهة سبباً لمفاخرة اليهود، ودخل تحت قوله: ﴿مُحْسِنٌ﴾ الأنبياء والمؤمنونَ، وتحت قوله: ﴿وَظَالِمٌ﴾ الكافر والفاسق.
338
قوله :﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ ﴾ يعني على إبراهيمَ في أولاده «وَعَلَى إسْحَاقَ » بأن أَخْرج جميع بَنِي إِسرائيلَ من صُلْبِهِ١.
وقيل : هو الثناء الحسن على إبراهيم وإسْحَاق إلى يوم القيامة. «وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ » مؤمن «وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ » أي كافر «مُبِينٌ » ظاهر وفي ذلك تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأَب فضيلة الابن لئلا تصير هذه الشبهة سبباً لمفاخرة اليهود٢، ودخل تحت قوله :﴿ مُحْسِنٌ ﴾ الأنبياء والمؤمنونَ، وتحت قوله :﴿ وَظَالِمٌ ﴾ الكافر والفاسق.
١ الرازي ٢٦/١٥٩..
٢ المرجع السابق..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وَهَارُونَ﴾ أنعمنا عليهما بالنبوة ﴿وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم﴾ الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم.
(قوله: «وَنَصَرْنَاهُمْ» قيل: الضمير يعود على «موسى وهارون قومهما»، وقيل: عائد على الاثنين بلفظ الجمع تعظيماً كقوله:
٤٢٢٠ - فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سوَاكُمُ.........................
﴿يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء﴾ [الطلاق: ١].
قوله: ﴿فَكَانُواْ هُمُ﴾ يجوز في «هم» أن تكون تأكيداً، وأن تكون بدلاً، وأن تكون فصلاً، وهو الأظهر.

فصل


المعنى: فكانوا هم الغلبين على القِبطِ في كُلِّ الأَحْوَال، أما في أول الأمر فظهور الحجة، وما في آخر الأمر فبالدولة والرفعة ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الكتاب المستبين﴾ المتنير المشتمل على جميع العلوم المحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا كما قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ [المائدة: ٤٤] ﴿وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم﴾ دللناهما
338
على طريق الحق عقلاً وسمعاً ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين﴾ تقدم الكلام عليه في آخر القصة.
339
﴿ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم ﴾ الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم.
( قوله١ :«وَنَصَرْنَاهُمْ » قيل : الضمير يعود على «موسى وهارون وقومهما »، وقيل : عائد على الاثنين بلفظ الجمع تعظيماً كقوله٢ :
٤٢٢٠- فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سوَاكُمُ٣. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
﴿ يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء ﴾ [ الطلاق : ١ ].
قوله :﴿ فَكَانُواْ هُمُ ﴾ يجوز في «هم » أن تكون تأكيداً، وأن تكون بدلاً، وأن تكون فصلاً، وهو الأظهر٤.

فصل


المعنى : فكانوا هم الغالبين على القِبطِ في كُلِّ الأَحْوَال، أما في أول الأمر فبظهور الحجة، وأما في آخر الأمر فبالدولة والرفعة
١ ما بين القوسين ساقط من ب..
٢ وانظر القرطبي ١٥/١١٤، ومعاني الفراء ٢/٣٩٠، والدر المصون ٤/٥٦٦..
٣ مضى أن هذا صدر بيت لعمر بن أبي ربيعة وعجزه:
........................ وإن شئت لم أطعم نقاحا ولا بردا
وشاهده هنا: مخاطبة المفرد مخاطبة الجمع تعظيما وإكبارا فالأصل: سواك أو سواكن..

٤ قال بهذه الأوجه الثلاثة أبو حيان في البحر ٧/٣٧٢، وشهاب الدين السمين ٤/٥٦٦..
﴿ وَآتَيْنَاهُمَا الكتاب المستبين ﴾ المستنير المشتمل على جميع العلوم المحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا١ كما قال تعالى :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ].
١ القرطبي /١١٤..
﴿ وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم ﴾ دللناهما على طريق الحق عقلاً وسمعاً
﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين ﴾ تقدم الكلام عليه في آخر القصة.
قوله: ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين﴾ قرأ العامة إلياس بهمزة مكسورة همزة قطع، وابن ذكوان بوصلها، ولم ينقلها عنه أبو حيان بل نقلها عن جماعةٍ غيره، ووجه القراءتين أنه اسم أعجمي تلاعبت به العرب فقطعت همزته تارة وصلتها أخرى، وقالوا فيه إلياسين كجبرائين، وقيلك تحتمل قراءة الوصل أن يكون اسمه ياسين ثم دخلت عليه «أل» المعرفة كما دخلت على «يَسَعَ» ؛ وقد تقدم وإلياسُ هذا قيلك ابن (إِل) ياسين المذكرو بعد ولد هارون أخي موسى، وقال ابن عباس هو ابن عم اليَسَعَ وقال ابن إسْحَاقَ: هو الياس بن بشير بن فِنْحَاص بن العيران بن هارون بن عمران، ووري عن عبد الله بن مسعود قال: إلياس هو إدريس وفي مصحفه «وَإنَّ إِدْريس لَمِنَ المُرْسَلِينَ» وبها قرأ عبد الله والأعمش وابن وثاب، وهذا قول عكرمة، وقرئ إدْرَاسِ (يل) وإبراهيم وإبراهام، وفي مصحف أبي قراءته وإن أَيلِيسَ بهمزة مكسورة ثم ياء ساكنة بنقطتين من تحت ثم لام مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت ساكنة، ثم سين مفتوحة مهملة.
قوله: ﴿إذ قال﴾ ظرف لقوله «لَمِنَ المُرْسَلِينَ» والتقدير: اذكر يا محمد لقومك إذ قال
339
لقومه: أَلاَ تَتَّقُونَ أي لا تخافون الله ولما خوفهم على سبيل الاحتمال ذكر ما هو السبب لذلك التخويف فقال: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين﴾.
قوله: ﴿بَعْلاً﴾ القراء على تنوينه منصوباً وهو الربّ بلغة اليمن سمع ابن عباس رجلاً منهم يُنْشِد ضَالَّةً فقال آخر: أنا بَعْلُها، فقال: الله أكبر وتلا الآية ويقال: مَنْ بَغْلُ هذه الدار؟ أي مَنْ رَبُّها؟ وسمي الزوج بعلاً لهذا المعنى، قال تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، وقال: ﴿وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود: ٧٢] فعلى هذا التقدير: المعنى أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله تعالى وقيل: هو علم لصنَم بعينه، وقيل: هو علم لامرأة بعينها أتتهم بضلالٍ فاتبعوها ويؤده قراءة من قرأ: «بَعْلاَء» بزنة حمراء.
قوله: ﴿وَتَذَرُونَ﴾ يجوز أن يكون حالاً، على إضمار مبتدأ، وأن يكون عطفاً على «تَدْعُونَ» فيكون داخلاً في حيِّز الإنكار.
قوله: ﴿الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ﴾ قرأ الأخَوَانِ بنصب الثلاثة من ثلاثة أوجه: النصب على المدح أو البدل أو البيان إن قلنا: إنَّ إضافة «أفعل» إضافة محضة، والباقون بالرفع إمَّا على أنه خبر ابتداء مضمر أي هو الله، أو على أن الجلالة مبتدأ وما بعده الخبر روي عن حمزة أنه كان إذا وصل نصب، وإذا وقَفَ رفع. وهو حَسَنٌ جداً وفيه جمع بين الرِّوَايَتَيْنِ.
340

فصل


قال المفسرون: لما قَبَضَ الله حِزْقِيلَ عليه (الصلاة و) السلام - عَظُمَت الأحداثُ في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشك وعبدوا الأوثان من دون الله - عَزَّ وَجَلَّ - فبعث الله إليهم إلياس نبيُّا، وكانت الأنبياء من بني إسرائيلن يبعثون من بعد موسى بتجديد ما نَسُوا من التوراة وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام، وسبب ذلك أن يُوشَع بْن نُون لما فتح الشام بوّأها بني إسرائيل وقسمها بينهم فأحل سبطاً منهم ببعلبك ونواحيها وهم السبط الذين كان من هم إلياس فبعثه الله إليهم نبياً وعليهم يومئذ ملك يقال له أحب قد أضلّ قومه وأجبرهم على عبادة الأصنام وأن يعبد هو وقومه صنماً يقال له بَعْل وكان طوله عشرينَ ذارعاً وله أربعةُ أوجه فجعل إلياس يدعوهم إلى الله - عَزَّ وَجَلَ - وهم لا يسمعون إلى ما كان من الملك فإنه صدقه وآمن به ثم ذكروا قصة طويلة وذكروا في آخرها ان إلياس رفع إلى السماء وكساه الله الرِّيش وقطع عنه لِذَّة المطعم والمشرب فكان إنسيًّا ملكياً أرضياً سمائياً، قال ابن أبي دُؤَادَ: إنَّ الخضر وإلياسَ يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم في كل عام.
وقيل: إنَّ إلياس وكَل بالفيفي الخَضْرَ وكّل بالعمار. ثُمَّ قال تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ أي لمحضرون النار غداً ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ من قومه الذين أوتوا بالتوحيد الخالص فإنّهم محضرون ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾.
قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ استثناء من فاعل «فكذبوه» وفيه دلالة على أن في قومه من لم يكذبه فلذلك استثنوا ولا يجوز أن يكونوا مُسْتَثْنِيْنَ من ضمير «لَمحْضَرُونَ» ؛ لأنه يلزم أن يكونوا مُنْدَرِجِينَ فيمن كذب لكنهم لم يحضروا لكونهم عباد الله المخلصين. وهو بين الفساد (و) لا يقال: هو مُسْتَثْنًى منه استثناء منقطعاً؛ لأنه يصير المعنى لكن عباد الله المخلصين من غير هؤلاء لم يحضرُوا. ولا حاجة إلى هذا بوجه إذ به يَفْسُد نَظْمُ الكَلاَمِ.
قوله تعالى: «على إلياسين» قرأن نافع وابن عامر «آلِ يَاسِينَ» بإضافة «آل» - بمعنى الأهل - إلى ياسين والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بيَاسِين؛ كأنه جمع
341
إلياس جمع سَلاَمَةٍ، فأما الأولى فإنه أراد بالآل إلياسَ ولدَ يَاسِين كما تقدم وأصحابَه، وقيل: المراد بياسين هذا إلياس المتقدم فيكون له اسمان مثل إسماعيل وإسماعين وميكائل وميكائين، وآلُهُ: رَهْطُه وقومه المؤمنون، وقيل: المرد بياسين، محمد بن عبد الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: المراد بياسين اسم القرآن كأنه قيل سلام على من آمن بكتاب الله الذي هو يَاسِينُ.
وأما القراءة الثانية، فقيل: هي جمع إلْيَاس المتقدم وجمع باعتبار أصحابه (ك) المَهَالِبَةِ والأشَاعِثَةِ في المُهَلَّبِ وَبِنِيهِ والأَشْعَث وقَوْمِهِ. وهو في الأصل جمع المنسوب إلى إلياس والأصل إلياسي كَأَشْعرِي، ثم استثقل تضعيفها فحذفت إحدى يائي النسب، فلما جمع جمع سلامة التقى ساكنان إحدى اليائين (و) ياء الجمع فحذفت أولاهما لالتقاء الساكين فصار الياسين كما ترى ومثله الأَشْعَرُونَ والخُبَيْبُونَ، قال:
٤٢٢١ - قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِ (ي)
...............
وقد تقدم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند قوله: ﴿الأعجمين﴾ [الشعراء: ١٩٨] إلاَّ أنَّ الزمخشري قد رد هذا بأنه لو كان على ما ذكر لوجب تعريفه بأل، فكان يقال على الإِلْياسِين.
342
قال شهاب الدين: لأنه متى جمع العلم جمع سلامة أو ثنى لزمته الألف واللام لأنه تزول علميته فيقال: الزَّيْدَان، والزَّيْدُون، والزَّينْبَاتُ، ولا يلتفت إلى قولهم: جمَاديَان وعمايتان عَلَمَيْ شَهْرَيْنِ، وَجَبَلَيْنِ لندورهما وقرأ الحسنُ وأبو رجاء على الياسِينَ بوصول الهمزة لأنه يجمع الياسين وقومه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة. وهذه واضحة لوجود «ال» المعرفة كالزَّيْدِينَ. وقرأ عبد الله على إدْراسين لأنه قرأ في الأول: وإن إدريس، وقرأ أبي علي إيليسين لأنه قرأ في الأول وإن إيليسَ كما تقدم عنه، وهاتان القراءتان تدلاّن على أنّ «الياسين» جمع إلياس.
343
قوله :﴿ إذ قال ﴾ ظرف لقوله «لَمِنَ المُرْسَلِينَ » والتقدير : اذكر يا محمد لقومك إذ قال لقومه : أَلاَ تَتَّقُونَ١ أي لا تخافون الله.
١ الدر المصون ٤/٥٦٧، والتبيان ١٠٩١٢. وقيل: بإضمار اعني. المرجع السابق..
ولما خوفهم على سبيل الاحتمال ذكر ما هو السبب لذلك التخويف فقال :﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين ﴾.
قوله :﴿ بَعْلاً ﴾ القراء على تنوينه منصوباً وهو الربّ بلغة اليمن سمع ابن عباس رجلاً منهم يُنْشِد ضَالَّةً فقال آخر : أنا بَعْلُها، فقال : الله أكبر وتلا الآية. ويقال : مَنْ بَعْلُ هذه الدار ؟ أي مَنْ رَبُّها ؟ وسمي الزوج بعلاً لهذا المعنى، قال تعالى :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ]، وقال :﴿ وهذا بَعْلِي شَيْخاً ﴾ [ هود : ٧٢ ] فعلى هذا التقدير : المعنى أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله تعالى وقيل : هو علم لصنَم بعينه، وقيل : هو علم لامرأة بعينها أتتهم بضلالٍ فاتبعوها١، ويؤيده قراءة من قرأ :«بَعْلاَء » بزنة حمراء. ٢
قوله :﴿ وَتَذَرُونَ ﴾ يجوز أن يكون حالاً، على إضمار مبتدأ، وأن يكون عطفاً على «تَدْعُونَ » فيكون داخلاً في حيِّز الإنكار٣.
١ انظر هذه المعاني والآراء كلها في البحر ٧/٣٧٣، والكشاف ٣/٣٥٢، والرازي ٢٦/١٦١، وزاد المسير لأبي الفرج ابن الجوزي ٧/٨٠، والقرطبي ١٥/١١٧، ومعاني الفراء ٢/٣٩٢ و ٣٩٣، وانظر أيضا في معنى البعل: الغريب لابن قتيبة ٣٧٤، والمجاز لأبي عبيدة ٢/١٧١ واللسان: "ب ع ل" ٣١٦ ومعاني القرآن وإعرابه لأبي إسحاق الزجاج ٤/٣١٢..
٢ ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر ٧/٣٧٣ وشهاب الدين السمين في الدر ٤/٥٦٧ وابن خالويه في المختصر ١٢٨ وهي من القراءة الشاذة وانظرها أيضا في شواذ القرآن ٢٠٧..
٣ الدر المصون ٤/٥٦٧..
قوله :﴿ الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ ﴾ قرأ الأخَوَانِ بنصب الثلاثة١ من ثلاثة أوجه : النصب على المدح٢ أو البدل٣ أو البيان إن قلنا : إنَّ إضافة «أفعل » إضافة محضة٤، والباقون بالرفع إمَّا على أنه خبر ابتداء مضمر أي هو الله٥، أو على أن الجلالة مبتدأ وما بعده الخبر٦، روي عن حمزة أنه كان إذا وصل نصب، وإذا وقَفَ رفع. وهو حَسَنٌ جداً. وفيه جمع بين الرِّوَايَتَيْنِ.

فصل


قال المفسرون : لما قَبَضَ الله حِزْقِيلَ٧ عليه ( الصلاة و ) السلام- عَظُمَت الأحداثُ في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشك وعبدوا الأوثان من دون الله - عز وجل - فبعث الله إليهم إلياس نبيُّا، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل، يبعثون من بعد موسى بتجديد ما نَسُوا من التوراة وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام، وسبب ذلك أن يُوشَع بْن نُون لما فتح الشام بوّأها بني إسرائيل وقسمها بينهم فأحل سبطاً منهم ببعلبك ونواحيها وهم السبط الذين كان منهم إلياس فبعثه الله إليهم نبياً وعليهم يومئذ ملك يقال له أحب قد أضلّ قومه وأجبرهم على عبادة الأصنام وأن يعبد هو وقومه صنماً يقال له بَعْل وكان طوله عشرينَ ذراعاً وله أربعةُ أوجه فجعل إلياس يدعوهم إلى الله - عَزَّ وَجَلَ - وهم لا يسمعون إلا ما كان من الملك فإنه صدقه وآمن به ثم ذكروا قصة طويلة وذكروا في آخرها أن إلياس رفع إلى السماء وكساه الله الرِّيش وقطع عنه لِذَّة المطعم والمشرب فكان إنسيًّا ملكياً أرضياً سمائياً٨، قال ابن أبي دُؤَادَ٩ : إنَّ الخضر وإلياسَ يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم في كل عام.
وقيل : إنَّ إلياس وكَل بالفيافي والخَضْرَ وكّل بالعمار.
١ من القراءات المتواترة. السبعة ٥٤٩ وإبراز المعاني ٦٦٦ وحجة ابن خالويه ٣٠٤ والنشر ٢/٣٦٠، والكشف ٢/٢٢٨..
٢ قاله أبو البقاء ١٠٩٣ أي أعني..
٣ السابق والبيان ٢/٣٠٧ ومشكل الإعراب لمكي ٢/٢٤٢ وانظر كل هذا في الدر المصون ٤/٥٦٧..
٤ هذا قول أبي حيان والسمين في البحر والدر، البحر ٧/٣٧٣ والدر ٤/٥٦٧..
٥ المرجع الأخير السابق وانظر: القرطبي ١٥/١١٧ ونقله عن أبي حاتم..
٦ الدر المصون السابق ومشكل الإعراب ٢/٢٤٣ وإعراب النحاس ٣/٤٣٦ والبيان ٢/٣٠٧ ومعاني الزجاج ٤/٣١٣..
٧ هو حزقيل بن بودي وهو الذي أصاب قومه الطاعون وحذرهم من الموت. انظر: معارف ابن قتيبة ٥١..
٨ انظر هذه القصة في زاد المسير ٧/٨١..
٩ أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد كان من أصل المعتزلة وأفاضلهم وممن جرد في إظهار المذهب والذب عن أهله والعناية بن مات سنة ٢٤٠ هـ. انظر: الفهرست ٢١٢، وانظر: البغوي ٦/٣٦ و٣٧..
ثُمَّ قال تعالى :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾ أي لمحضرون النار غداً
﴿ إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين ﴾ من قومه الذين أوتوا بالتوحيد الخالص فإنّهم محضرون
﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين ﴾.
قوله :﴿ إِلاَّ عِبَادَ الله ﴾ استثناء من فاعل «فكذبوه » وفيه دلالة على أن في قومه من لم يكذبه فلذلك استثنوا ولا يجوز أن يكونوا مُسْتَثْنِيْنَ من ضمير «لَمحْضَرُونَ » ؛ لأنه يلزم أن يكونوا مُنْدَرِجِينَ فيمن كذب لكنهم لم يحضروا لكونهم عباد الله المخلصين. وهو بين الفساد. ( و ) لا يقال : هو مُسْتَثْنًى منه استثناء منقطعاً ؛ لأنه يصير المعنى لكن عباد الله المخلصين من غير هؤلاء لم يحضرُوا. ولا حاجة إلى هذا بوجه إذ به يَفْسُد نَظْمُ الكَلاَمِ. ١
١ انظر بالمعنى من البحر المحيط ٧/٣٧٣ وباللفظ من الدر المصون ٤/٥٦٨..
قوله تعالى :«على إلياسين » قرأ نافع وابن عامر «آلِ يَاسِينَ » بإضافة «آل » - بمعنى الأهل- إلى ياسين والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بيَاسِين١ ؛ كأنه جمع إلياس جمع سَلاَمَةٍ٢، فأما الأولى٣ فإنه أراد بالآل إلياسَ ولدَ يَاسِين كما تقدم وأصحابَه، وقيل : المراد بياسين هذا إلياس المتقدم فيكون له اسمان مثل إسماعيل وإسماعين وميكائل وميكائين، وآلُهُ : رَهْطُه وقومه المؤمنون، وقيل : المراد بياسين، محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل : المراد بياسين اسم القرآن كأنه قيل سلام على من آمن بكتاب الله الذي هو يَاسِينُ.
وأما القراءة الثانية، فقيل : هي جمع إلْيَاس المتقدم وجمع باعتبار أصحابه ( ك ) المَهَالِبَةِ والأشَاعِثَةِ في المُهَلَّبِ وَبِنِيهِ والأَشْعَث وقَوْمِهِ. وهو في الأصل جمع المنسوب إلى إلياس والأصل إلياسي٤ كَأَشْعرِي، ثم استثقل تضعيفهما فحذفت إحدى يائي النسب، فلما جمع جمع سلامة التقى ساكنان إحدى اليائين ( و )٥ ياء الجمع فحذفت أولاهما لالتقاء الساكنين فصار الياسين كما ترى ومثله الأَشْعَرُونَ٦ والخُبَيْبُونَ٧، قال :
٤٢٢١- قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِ ( ي )٨. . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند قوله :﴿ الأعجمين ﴾٩ [ الشعراء : ١٩٨ ] إلاَّ أنَّ الزمخشري قد رد هذا بأنه لو كان على ما ذكر لوجب تعريفه بأل، فكان يقال على الإِلْياسِين. ١٠
قال شهاب الدين : لأنه متى جمع العلم جمع سلامة أو ثني لزمته الألف واللام لأنه تزول علميته فيقال : الزَّيْدَان، والزَّيْدُون، والزَّينْبَاتُ، ولا يلتفت إلى قولهم : جمَاديَان وعمايتان عَلَمَيْ شَهْرَيْنِ، وَجَبَلَيْنِ لندورهما١١. وقرأ الحسنُ وأبو رجاء على الياسِينَ١٢ بوصل الهمزة لأنه يجمع الياسين وقومه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة. وهذه واضحة لوجود «ال » المعرفة كالزَّيْدِينَ. وقرأ عبد الله على إدْراسين١٣ لأنه قرأ في الأول : وإن إدريس، وقرأ أبي علي إيليسين١٤ لأنه قرأ في الأول وإن إيليسَ كما تقدم عنه، وهاتان القراءتان تدلاّن على أنّ «الياسين » جمع إلياس.
١ من القراءة المتواترة. انظرها في السبعة ٥٤٩ وحجة ابن خالويه ٣٠٣، والنشر ٢/٣٦٠ والكشف ٢/٢٢٧..
٢ انظر هذا التوجيه بالمعنى في الكشف ٢/٢٢٧ وانظر المحتسب ٢/٢٢٣ والدر المصون ٤/٥٦٨، وزاد المسير لابن الجوزي ٧/٨٢: ٨٤..
٣ المراجع السابقة..
٤ هذا مأخوذ من كلام ابن جني في المحتسب قال: "وإلياسين على هذا كأنه على إرادة ياء النسب كأنه الياسين كما حكى عنهم صاحب الكتاب الأشعرون والنميرون يريد الأشعريين والنميريين" ثم قال: "وقد يجوز أن يكون جعل كل واحد من أهل إلياس ياسا فقال إلياسين" المحتسب ٢/٢٢٣..
٥ لفظ الواو سقط من نسخة "ب"..
٦ فإن مفردها أشعري..
٧ فإن مفردها خبيبي، وانظر: الدر المصون ٤/٥٦٨، ومجاز القرآن ٢/١٧٢ و ١٧٣ وعلى هذا فإن الياسين قبل الإعلال والحذف كانت الياسيين بياء النسبة وياء الجمعية فحصل فيها ما أثبت من علة وتوجيه..
٨ صدر بيت من الرجز لحميد الأرقط عجزه:
......................... ليس أميري بالشجيع الملحد
واحتمال أن يكونا شطري رجز لا بيتا واحدا. والخبيبين يروى بالتثنية وبالجمع والجمع يكون فيه الاستشهاد حيث كان الأصل الخبيبيين فحدث فيه ما حدث حيث جعلهم كأن كل رجل منهم خبيب مثل الأشعرون إذا نسبوا إلى الأشعر. والمراد بالخبيبين أبا خبيب ومصعبا أخاه. وانظر المحتسب ٢/٢٢٣ والإنصاف ١٣١ وابن يعيش ٣/١٢٤ و ٧/٢٤٣ وشرح الكافية ٢/٢٣ والمقتصد ٢٠٢ والخزانة ٥/٣٨٢ و ٢٩٦ والأشموني ١/٢٢٥ وكامل المبرد ١٠/١٤٤ والمجاز ٢/١٧٣..

٩ عند الآية ١٩٨ منها..
١٠ قال في الكشاف: "ولو كان جمعا لعرف بالألف واللام". وانظر الكشاف ٣/٣٥٢..
١١ الدر المصون ٤/٥٦٩..
١٢ المحتسب لابن جني ٢/٢٢٣..
١٣ السابق. وانظر مختصر ابن خالويه ١٢٨ ومعاني الفراء ٢/٣٩٢..
١٤ السابق..
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين﴾ تقدم الكلام على نظيره، وقوله: ﴿مُّصْبِحِينَ﴾ حال، وهو من أصْبَحَ التامة أي داخلين في الصَّبَاح، ومنه:
٤٢٢٢ - إذَا سَمِعْتَ بِسُرَى القَيْ نِ فَاعْلَمْ بأَنَّه مُصْبِح
أي مقيم في الصباح، وتقدم ذلك في سورة الروم، و «بِاللَّيْلِ» عطف على الجارِّ قَبْلَها، أي ملتبسين بالليل، والمعنى أن أولئك القوم كانوا يسافرون إلى الشام، والمسافر في أكثر الأمر إنما يَمْشِي في الليل أو في النهار فلهذا السبب عبر تعالى عن هذهين الوقتين ثم قال: ﴿وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أي ليس فِيكُمْ عقول تَعْتَبُون بها قوله: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين﴾ قرئ بضم النون وكسرها، قال الزمخشري، قال ابن الخطيب: وإنَّما صارت هذه القصة آخر القصص لأنه لم يصبر على أذى قومه، قال
343
المفسرون: بَعَثَ الله تعالى يُونسَ عليه (الصلاة و) السلام إلى أرض نينَوى من أرض الموصل فدعاهم إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فكذبوه وتمادوا عليه على كفرهم فلما طال ذلك عليه خرج من بين اظهرهم وواعدهم حلول العذاب بعد ثلاث كما سياتي.
قوله: ﴿إِذْ أَبَقَ﴾ (ظرف للمُرْسَلِين، أي هو من المرسلين، حتى في هذه الحالة و «أَبَقَ» هرب يقال: أَبَقَ العَبْدُ يأبق إِبَاقاً فهو آبِقٌ و) الجمع إباق كضِرَاب، وفيه لغة ثانية أَبِقَ بالكسر يَأْبَقُ بالفتح وتَأَبَّقَ الرجلُ تشبه به في الاستتار، وقول الشاعر:
٤٢٢٣ -.............
(وَ) أَحْكَمَتْ حَكَمَاتِ القِدِّ وَالأَبَقَا
قيل: هو القِتب. (قوله) «فَسَاهَمَ» أي فغالبهم في المساهمة وهي الاقْتراع، وأصله (أن) يخرج السهم على من غلب «فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ» أي المغلوبين، يقال أدْحَضَ الله حُجَّتَهُ فَدَحِضَتْ أي أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدَّحْضِ وهو الزّلق يقال: دَحِضَتْ رِجْلُ البعير إذا زَلِقَتْ.

فصل


قال ابن عباس ووهب: كان يونُس وعد قومه العذاب فلما تأخر عنهم خرج كالمتشرِّد منهم فقصد البحر فركب السفينة فاحتبست السفينة فقال الملاحون: ههنا عبد أَبَق من سيده فاقترعوا فوقعة القرعة على يونس فاقترعوا ثلاثاً فوقعت على يونس فقال يونس: أنا الآبق وزَجَّ نَفْسَهَ في الماء.
قوله: ﴿فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ المليم الذي أتى بما يلام عليه قال:
344
٤٢٢٤ - وَكَمْ مِنْ مُليمٍ لَمْ يُصَبْ بمَلاَمَةٍ ومُشْبَعٍ بالذَّنْبِ لَيْسَ لَهُ ذنْبُ
يقال: ألاَمَ فلانٌ أي فعل ما يلام عليه، وقوله ﴿وَهُو مُلِيمٌ﴾ حال. وقرئ «مَلِيمٌ» بفتح الميم من لاَمَ يَلُومُ وهي شاذة جداً، إذا كان قياسها «مَلُومٌ» ؛ لأنها من ذوات الواو كَمقُولٍ ومَصُوبٍ. قيل: ولكن أخذت من ليم على كذا مبنياً للمفعول ومثله في ذلك: شِيب الشيءُ فهوم مَشيبٌ ودُعِيَ فهو مُدْعِيٌّ والقياس مَشُوبٌ وَمدعوٌّ لأنهما من يَشوب ويَدْعُو.

فصل


روى ابن عباس أن يونس - عليه (الصلاة و) السلام - كان يسكن مع قومه فِلَسْطِينَ فَغَزَاهُمْ ملكٌ وسَبَى منهم تسعة أسباط ونصف وبقي سبطان ونصف وكان قد أوحي إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوّكم (أ) وأصابتكم مصبة فادعوني أستجب لكم فلما نسوا ذلك وأسروا أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبيٍّ من أنبيائهم أنْ اذْهَبْ ألى ملك هؤلاء الأقوام وقل لهم يبعث إلى بني إسرائيل نبياً اختار يُونُسَ - عليه (الصلاة و) السلام - لقوته وأمانته، قال يونس: الله أمرك بهذا؟ قال: لا ولكن امرت أن أبْعَثُ قوياً أميناً وأنت كذلك فقال يونس: وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعه؟ فألح الملك عليه فغضب يونُس منه وخرج حتى أتى بَحْر الروم فوجد سفينةً مشحونةً فحملوه فيها، فلما أشرف على لُدَّة البحر أشرفوا عل الغرق. فقال الملاحون إن فيكم عاصايً وإلاّ لم يحصل في السفية ما نراه وقال خيرٌ من غَرَقِ الكل فخرج من بينهم يونس فقال يا هؤلاء: أنا العاصي وتلفّف في كساء ورمى بنفسه فالتقمه الحُوتُ وأوحى الله إلى الحوت: لا تكسر منه عظماً ولا تقطَعْ له وصلاً ثم إن السمكة خرجت
345
من نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى (بَحْرٍ) البطائح، ثم دجلة فصعدت به ورمته في أرض نَصِيبِينَ بالعَرَاء، وهوكالفَرْخ المَنتُوفِ لا شَعْرٌ ولا لَحْمٌ فأنبت الله عليه شجرةً من يَقْطين فكان يتسظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد. ثم إنَّ الأَرَضَ (ةَ) أكلتها فحَزِنَ يونُس لِذَلِكَ حُزْناً فقال يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والرِّيح وأَمُصُّ من ثمرها وقد سقطت فقيل (له) : يا يونس تحزن (على شجرة) أَنْبَتَت في ساعة واقْتُلِعَتْ في ساعة ولا تحزن على مائة ألفٍ أو يزيدون تركتهم فانطلقُ إليهم.
قوله: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين﴾ من الذاكرين الله قبل ذلك وكان كَثير الذِّكْر، قال ابن عباس: من المصلين وقال وهب: من العابدين. وقال الحسن: ما كنت له صلاة في بطن الحوت ولكن قَدَّمَ عَملاً صالحاً. وقال سعيد بن جبير هو قوله في بطن الحوت: «لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كمنت من الظالمين».
قوله: ﴿فِي بَطْنِهِ﴾ الظاهر أنه متعلق «بلَبِثَ» وقيل: حال أي مستقر وكان بَطْنه قبراً له إلَى يَوْمِ القيامة، قال الحسن: لم يلبث إلا قليلاً ثم أُخْرِجَ من بطن الحوت. وقال بعضهم: التقمة بكرة ولَفظَهُ عشيا وقال مقاتل بن حَيَّانَ ثلاثة أيام، وعن عطاء: سبعة أيام، وعن الضحاك، عشرون يوماً. وقيل: شهر، وقيل: أربعين يوماً.
قال ابن الخطيب: ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير وروى أبو بردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن قال: سَبَّحَ يُونُسُ في بطن الحوت فسَمِعَت الملائكةُ تسبيحه فقالوا ربنا إنا نسمع صوتاً بأرض غريبة فقال ذاك عبدي يونس عَصَانِي فحَبَسْتُهُ في بطن الحُوتِ في البَحْر، قالوا: العبدُ الصالح الذي كان يصيعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال: نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه بالساحل.
وروي أن يونس لما ابتلعه الحوت ابتلغ الحوتَ حوتٌ آخرُ أكبرُ منه فلما استقر في جَوْف الحُوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت فإذا هي حَيٌّ فَخرَّ ساجداً وقال: يار رب اتخذت لك مسجداً لم يعبدك أحد في مثله.
قوله: ﴿فَنَبَذْنَاهُ﴾ أضاف النبذ إلى نفسه مع أن ذلك النبذ إنما حصل بفعل الحوت وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وقوله: ﴿بالعرآء﴾ أي في العراء نحو: زَيْدٌ بِمَكَّةَ.
346
والعراء: الأرض الواسعة التي لا نباتَ بها ومَعْلَم اشتقاقاً من العُري وهو عدم السُّترة وسميت الأرض الجرداء بذلك لعدم استتهارها بشيء والعَرَى بالقصر الناحية ومنه اعْتَرَاهُ أي قصد عَرَاهُ. وأما الممدود فهو كما تقدم الأرضُ الفَيْحَاءُ قال:
٤٢٢٥ - وَرَفَعْتُ رِجْلاً لاَ أَخَافْ عِثَارَهَا ونَبَذْتُ بالمَتْنِ العَرَاءِ ثِيَابِي
قوله: ﴿وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ﴾ أي له، وقيل: عنده ﴿شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ﴾ اليقطين (يَ) فْعِيلٌ من قَطَنَ بالمكان إذا أقام فيه لا يَبْرَحُ قال المبرد والزجاج: اليقطينُ كل ما لم يكن له ساقٌ من عُود كالقِثَّاءِ والقَرْع والبَطِّيخِ والحَنْظَلِ وهو قوله الحسن و (قتادة)، ومقاتل.
قال البغوي: المراد هنا القرع من بين الشجر يقطيناً كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين «.
واعلم أن في قوله:»
شجرة «ما يرد قول بعضهم أن الشجرة في كلامهم ما كان لها ساق من عود بل الصحيحُ أنها أعم، ولذلك بُيِّنَتْ بقوله:» مِنْ يَقْطين «، وأما قوله: ﴿والنجم والشجر يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦] فلا دليل فيه لأنه استعمال اللفز العام في أحد مدلولاته.
وقيل: بل أنبت الله اليقطين الخاص على ساق معجزةً له، فجاء على أصله قال الواحدي: الآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون:
347
أحدهما: أن هذا اليقطين لم يكن فأنبته الله لأجله، والآخر: أن اليقطين مغروس ليحصل له ظل، ولو كان منبسطاً على الأرض لم يكن أن يستظل به وقال مقاتل بن حَيًّان: كان يونس يستظلّ بالشجرة وكانت وَعْلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بُكْرةً وعشيًّا حتى اشتد لحمه ونَبَتَ شَعْرُهُ.
وقال ههنا:» فنبذناه بالعَرَاءِ «وقال في موضع آخر: ﴿لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بالعرآء وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ [القلم: ٤٩] ولكنه تداركه النعمة فنَبَذَهُ وهو غير مذموم.

فصل


قال شهاب الدين: ولو بنيت من الوعد مثل يقطين لقلت: يَوْعِيدٌ، لا يقال بحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة كيَعِيدُ مضارع»
وَعَدَ «لأن شرط تلك الياء أن تكون للمضارعة، وهذه مما يمتحن بها أهل التريف بعضُهْم بعضاً.
قوله: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ يحتمل أن يكون المراد: «وَأرْسَلْنَاهُ قبل مُلْتَقَمِهِ»
؛ وعلى هذا فالإرسال وإن ذكر بعد الالتقام فالمراد به التقديم. والواو معناها الجمع ويحتمل أن يكون المراد به الإرسال بعد الالتقام قال ابن عباس: كان إرسال يونسَ بعدما نبذة الحوت وعلى هذا التقدير يجوز أنه أرسل إلى قوم آخرينَ سوى القوم الأُوَل ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين بشريعة فآمنوا بها.
قوله: ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾ في «أو» هذه سبعة أوجه تحقيقها أول البقرة عند قوله تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء﴾ [البقرة: ١٩] فالشك بالنسبة إلى المخاطبين أي أن الرَّائِي يشك عند رؤيتهم، والإبهام بالنسبة إلى الله تعالى أبهم أمرهم والإباحة أي أن الناظر إليهم يباح له أن يحذرهم بهذا القدر وكذا التخيير أي هو مخير بين أن يحذرهم كذا أو كذا، والإضراب ومعنى الواو واضحان.
348
قوله: ﴿فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ﴾ قال قتادة أرسل إلى أهل نِينَوَى من أرض الموصل قبل الالتقام كما تقدم، وقيل: بعده، وقيل: إلى قوم آخرين. وتقدم الكلام على «أو» قال ابن عباس: إنها بمعنى الواو، وقال مقاتل والكلبي: بمعنى بل، وقال الزجاج: على الأصل بالنسبة للمخاطبين واختلفوا في مبلغ الزيادة، قال ابن عباس ومقاتل: كانوا عِشْرين ألفاً. ورواه أبي بن كعب عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال الحسن: بضعاً وثلاثينَ ألفاً، وقال سعيد بن جبير: تسعين ألفاً فآمنوا يعني الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينَة العذاب فآمنوا فمتعناهم إلى حين انقضاء آجالهم.
قوله
: {فاستفتهم
349
وقوله :﴿ مُّصْبِحِينَ ﴾ حال١، وهو من أصْبَحَ التامة٢ أي داخلين في الصَّبَاح، ومنه :
٤٢٢٢- إذَا سَمِعْتَ بِسُرَى القَيْ. . . نِ فَاعْلَمْ بأَنَّه مُصْبِح٣
أي مقيم٤ في الصباح، وتقدم ذلك في سورة الروم، و «بِاللَّيْلِ » عطف على الجارِّ قَبْلَها، أي ملتبسين٥ بالليل، والمعنى أن أولئك القوم كانوا يسافرون إلى الشام، والمسافر في أكثر الأمر إنما يَمْشِي في الليل أو في النهار فلهذا السبب عبر تعالى عن هذين الوقتين
١ الدر المصون ٤/٥٦٩..
٢ أي التي لا تحتاج إلى اسم وخبر وإنما إلى فاعل فقط كقوله عزت أسماؤه: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" أي وإن وجد صاحب عسرة..
٣ في "ب" تصبح..
٤ في "ب" تقيم..
٥ الدر المصون ٤/٥٦٩..
ثم قال :﴿ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أي ليس فِيكُمْ عقول تَعْتَبُرون بها١ قوله :﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين ﴾ قرئ بضم النون وكسرها، قاله الزمخشري٢، قال ابن الخطيب : وإنَّما صارت هذه القصة آخر القصص لأنه لم يصبر على أذى قومه٣، قال المفسرون : بَعَثَ الله تعالى يُونسَ عليه ( الصلاة و ) السلام إلى أرض نينَوى من أرض الموصل فدعاهم إلى الله - عز وجل - فكذبوه وتمادوا عليه على كفرهم فلما طال ذلك عليه خرج من بين أظهرهم وواعدهم حلول العذاب بعد ثلاث كما سيأتي. ٤
١ قاله الرازي في تفسيره ٢٦/١٦٣..
٢ انظر: الكشاف ٣/٣٥٣..
٣ قاله في تفسيره "التفسير الكبير" ٢٦/١٦٣..
٤ قاله القرطبي في ٨/٣٨٤ و ١١/٣٢٩ و ١٥/١٢١..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٨:ثم قال :﴿ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أي ليس فِيكُمْ عقول تَعْتَبُرون بها١ قوله :﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين ﴾ قرئ بضم النون وكسرها، قاله الزمخشري٢، قال ابن الخطيب : وإنَّما صارت هذه القصة آخر القصص لأنه لم يصبر على أذى قومه٣، قال المفسرون : بَعَثَ الله تعالى يُونسَ عليه ( الصلاة و ) السلام إلى أرض نينَوى من أرض الموصل فدعاهم إلى الله - عز وجل - فكذبوه وتمادوا عليه على كفرهم فلما طال ذلك عليه خرج من بين أظهرهم وواعدهم حلول العذاب بعد ثلاث كما سيأتي. ٤
١ قاله الرازي في تفسيره ٢٦/١٦٣..
٢ انظر: الكشاف ٣/٣٥٣..
٣ قاله في تفسيره "التفسير الكبير" ٢٦/١٦٣..
٤ قاله القرطبي في ٨/٣٨٤ و ١١/٣٢٩ و ١٥/١٢١..

قوله :﴿ إِذْ أَبَقَ ﴾ ( ظرف١ للمُرْسَلِين٢، أي هو من المرسلين، حتى في هذه الحالة و «أَبَقَ » هرب يقال : أَبَقَ العَبْدُ يأبق إِبَاقاً فهو آبِقٌ و ) الجمع إباق كضِرَاب٣، وفيه لغة ثانية أَبِقَ بالكسر يَأْبَقُ بالفتح وتَأَبَّقَ الرجلُ تشبه به في الاستتار٤، وقول الشاعر :
…………………………………………………………. ٤٢٢٣ ( وَ ) قد أَحْكَمَتْ حَكَمَاتِ القِدِّ وَالأَبَقَا٥
قيل : هو القِتب.
١ ما بين القوسين كله ساقط من "ب"..
٢ الدر المصون ٤/٥٦٩..
٣ انظر: اللسان "أ ب ق"، والغريب ٣٧٤ والمجاز ٣/١٧٤، ومعاني الزجاج ٤/٣١٢..
٤ اللسان لم يتعرض لهذه اللغة. وقد قال بها السمين في الدر ٤/٥٦٩ و ٥٧٠..
٥ هذا عجز بيت من البسيط لزهير وصدره:
القائد الخيل منكوبا دوابرها ..................
وهو يمدح هذا الرجل الذي يركب الخيل التي أحمك سرجها بحبال متينة من ليف. وأتى به شاهدا على أن الأبق هو القتب شجر تؤخذ منه مادة الحشيش، أو هو ليفه، أو هو الكتان. انظر: اللسان: "أ ب ق" ٩ ومعاني الأخفش ٤٢ وديوانه ٤٩ والدر المصون ٤/٥٧٠..

( قوله١ ) :«فَسَاهَمَ » أي فغالبهم في المساهمة وهي الاقْتراع، وأصله ( أن )٢ يخرج السهم على من غلب «فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ » أي المغلوبين، يقال أدْحَضَ الله حُجَّتَهُ٣ فَدَحِضَتْ أي أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدَّحْضِ وهو الزّلق يقال : دَحِضَتْ رِجْلُ البعير إذا زَلِقَتْ. ٤

فصل


قال ابن عباس ووهب : كان يونُس وعد قومه العذاب فلما تأخر عنهم خرج كالمتشرِّد منهم فقصد البحر فركب السفينة فاحتبست السفينة فقال الملاحون : ههنا عبد أَبَق من سيده فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس فاقترعوا ثلاثاً فوقعت على يونس فقال يونس : أنا الآبق وزَجَّ نَفْسَهَ في الماء. ٥
١ سقط من "ب"..
٢ كذلك..
٣ اللسان: "س ه م" ٢١٣٥ والغريب ٣٧٤..
٤ السابق. وانظر اللسان "د ح ض" ١٣٣٥..
٥ انظر تلك في تفسير البغوي ٦/٣٦ والخازن ٦/٣٦ أيضا..
قوله :﴿ فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ المليم الذي أتى بما يلام عليه١. قال :
٤٢٢٤- وَكَمْ مِنْ مُليمٍ لَمْ يُصَبْ بمَلاَمَةٍ. . . ومُشْبَعٍ بالذَّنْبِ لَيْسَ لَهُ ذنْبُ٢
يقال : ألاَمَ فلانٌ أي فعل ما يلام عليه، وقوله ﴿ وَهُو مُلِيمٌ ﴾ حال. وقرئ «مَلِيمٌ » بفتح الميم من لاَمَ يَلُومُ وهي شاذة جداً، إذا كان قياسها «مَلُومٌ » ؛ لأنها من ذوات الواو كَمقُولٍ ومَصُوبٍ٣. قيل : ولكن أخذت من ليم على كذا مبنياً للمفعول ومثله في ذلك : شِيب الشيءُ فهو مَشيبٌ ودُعِيَ فهو مُدْعِيٌّ٤. والقياس مَشُوبٌ وَمدعوٌّ لأنهما من يَشوب ويَدْعُو.

فصل


روى٥ ابن عباس أن يونس - عليه ( الصلاة و ) السلام - كان يسكن مع قومه فِلَسْطِينَ فَغَزَاهُمْ ملكٌ وسَبَى منهم تسعة أسباط ونصف وبقي سبطان ونصف وكان قد أوحي إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوّكم ( أ )٦ وأصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم فلما نسوا ذلك وأسروا أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبيٍّ من أنبيائهم أنْ اذْهَبْ إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل لهم٧ يبعث إلى بني إسرائيل نبياً فاختار يُونُسَ - عليه ( الصلاة و ) السلام - لقوته وأمانته، قال يونس : الله أمرك بهذا ؟ قال : لا ولكن أمرت أن أبْعَثُ قوياً أميناً وأنت كذلك فقال يونس : وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعثه ؟ فألح الملك عليه فغضب يونُس منه وخرج حتى أتى بَحْر الروم فوجد سفينةً مشحونةً فحملوه فيها، فلما أشرف٨ على لُجَّّة البحر أشرفوا على الغرق. فقال الملاحون إن فيكم عاصياً وإلاّ لم يحصل في السفينة ما نراه٩. وقال التجار قد جربنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع فمن خرج عليه١٠ نغرقه فلأن يغرق واحد خيرٌ من غَرَقِ الكل فخرج من بينهم١١ يونس فقال يا هؤلاء : أنا العاصي وتلفّف في كساء ورمى بنفسه فالتقمه الحُوتُ١٢ وأوحى الله إلى الحوت : لا تكسر منه عظماً ولا تقطَعْ له وصلاً ثم إن السمكة خرجت من نيل١٣ مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى ( بَحْرٍ )١٤ البطائح، ثم دجلة فصعدت به ورمته في أرض نَصِيبِينَ بالعَرَاء، وهو كالفَرْخ المَنتُوفِ لا شَعْرٌ ولا لَحْمٌ فأنبت الله عليه شجرةً من يَقْطين فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد. ثم إنَّ الأَرَضَ ( ةَ )١٥ أكلتها فحَزِنَ يونُس لِذَلِكَ حُزْناً فقال يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والرِّيح وأَمُصُّ من ثمرها وقد سقطت فقيل ( له )١٦ : يا يونس تحزن ( على شجرة )١٧ أَنْبَتَت في ساعة واقْتُلِعَتْ في ساعة ولا تحزن على مائة ألفٍ أو يزيدون تركتهم فانطلقُ إليهم.
١ قاله الزجاج في معاني القرآن ٤/٣١٣ وأبو عبيدة في المجاز ٢/١٧٤ وقال عنه الفراء في المعاني ٢/٣٩٣ "وهو الذي اكتسب اللوم وإن لم يلم، والملوم الذي قد ليم باللسان، وهو مثل قول العرب: أصبحت محمقا معطشا أي عندك المحمق والعطش. وهو كثير في الكلام"..
٢ أنشد على أن المليم الذي يأتي بما يلومه عليه الناس. والبيت أحد بيتين ذكرهما القالي في أماليه انظر أمالي القالي ١/١٦ والدر المصون ٤/٥٧٠..
٣ حكم بشذوذ هذه القراءة مع أنها جائزة لغة وهناك ما هو أشد شذوذا منها السمين في الدر ٤/٥٧٠ وذكرها الزمخشري في الكشاف ٣/٣٥٣ وأبو حيان في البحر ٧/٣٧٥..
٤ الكشاف ٣/٣٥٣..
٥ انظر هذا في الرازي ٢٦/١٦٤..
٦ زيادة من الرازي..
٧ في الرازي: وقل له حتى يبعث إلى..
٨ وفيه: فلما دخلت لجة البحر أشرفت على الغرق..
٩ وفيه: ما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر..
١٠ وفيه: خرج سهمه..
١١ في "ب" سهم..
١٢ في "ب" : فابتلعته السمكة..
١٣ وفيه: أخرجته إلى نيل..
١٤ سقط من "ب"..
١٥ زيادة من الرازي..
١٦ سقط من "ب"..
١٧ سقط من "ب" وانظر: الرازي ٢٦/١٦٤..
قوله :﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين ﴾ من الذاكرين الله قبل ذلك وكان كَثير الذِّكْر، قال ابن عباس : من المصلين وقال وهب : من العابدين. وقال الحسن : ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكن قَدَّمَ عَملاً صالحاً. وقال سعيد بن جبير هو قوله في بطن الحوت :«لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كنت من الظالمين »١.
١ انظر هذه الأقوال في زاد المسير ٧/٨٧..
قوله :﴿ فِي بَطْنِهِ ﴾ الظاهر أنه متعلق «بلَبِثَ ». وقيل : حال أي مستقر١. وكان بَطْنه قبراً له إلَى يَوْمِ القيامة، قال الحسن : لم يلبث إلا قليلاً ثم أُخْرِجَ من بطن الحوت. وقال بعضهم : التقمه بكرة ولَفظَهُ عشيا وقال مقاتل بن حَيَّانَ ثلاثة أيام، وعن عطاء : سبعة أيام، وعن الضحاك، عشرون يوماً. وقيل : شهر، وقيل : أربعين يوماً٢.
قال ابن الخطيب : ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير٣. وروى أبو بردة٤ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : سَبَّحَ يُونُسُ في بطن الحوت فسَمِعَت الملائكةُ تسبيحه فقالوا ربنا إنا نسمع صوتاً بأرض غريبة فقال ذاك عبدي يونس عَصَانِي فحَبَسْتُهُ في بطن الحُوتِ في البَحْر، قالوا : العبدُ الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال : نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه بالساحل.
وروي أن يونس لما ابتلعه الحوت ابتلع الحوتَ حوتٌ آخرُ أكبرُ منه فلما استقر في جَوْف الحُوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت فإذا هو حَيٌّ فَخرَّ لله ساجداً وقال : يا رب اتخذت لك مسجداً لم يعبدك أحد في مثله.
١ التبيان ١٠٩٣..
٢ القرطبي ١٥/١٢٣ وزاد المسير ٧/٨٨ والرازي ٢٦/١٦٥..
٣ المرجع السابق..
٤ في المرجع السابق أنه أبو هريرة..
قوله :﴿ فَنَبَذْنَاهُ ﴾ : أضاف النبذ إلى نفسه مع أن ذلك النبذ إنما حصل بفعل الحوت وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى. وقوله :﴿ بالعرآء ﴾ : أي في العراء نحو : زَيْدٌ بِمَكَّةَ، والعراء : الأرض الواسعة التي لا نباتَ بها ولا مَعْلَم، اشتقاقاً من العُري وهو عدم السُّترة وسميت الأرض الجرداء بذلك لعدم استتارها بشيء، والعَرَى بالقصر : الناحية ومنه اعْتَرَاهُ أي قصد عَرَاهُ. وأما الممدود فهو كما تقدم الأرضُ الفَيْحَاءُ، قال الشاعر :
وَرَفَعْتُ رِجْلاً لاَ أَخَافْ عِثَارَهَا. . . ونَبَذْتُ بالمَتْنِ العَرَاءِ ثِيَابِي
قوله :﴿ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ ﴾ : أي له، وقيل : عنده، ﴿ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ﴾ : اليقطين : فْعِيلٌ من قَطَنَ بالمكان إذا أقام فيه لا يَبْرَحُ. قال المبرد والزجاج : اليقطينُ كل ما لم يكن له ساقٌ من عُود كالقِثَّاءِ والقَرْع والبَطِّيخِ والحَنْظَلِ وهو قوله الحسن و قتادة ومقاتل. قال البغوي : المراد هنا القرع على قول جميع المفسرين. وروى الفراء أنه ورق القرع عن ابن عباس، فقال : ومن جعل ورق القرع من بين الشجر يقطيناً كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين.
واعلم أن في قوله :﴿ شجرة ﴾ : ما يرد قول بعضهم أن الشجرة في كلامهم ما كان لها ساق من عود، بل الصحيحُ أنها أعم، ولذلك بُيِّنَتْ بقوله :﴿ مِنْ يَقْطين ﴾، وأما قوله :﴿ والنجم والشجر ﴾ [ الرحمن : ٦ ] فلا دليل فيه لأنه استعمال اللفظ العام في أحد مدلولاته.
وقيل : بل أنبت الله اليقطين الخاص على ساق معجزةً له، فجاء على أصله. قال الواحدي : الآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون : أحدهما : أن هذا اليقطين لم يكن فأنبته الله لأجله، والآخر : أن اليقطين مغروس ليحصل له ظل، ولو كان منبسطاً على الأرض لم يمكن أن يستظل به. وقال مقاتل بن حَيًّان : كان يونس يستظلّ بالشجرة وكانت وَعْلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بُكْرةً وعشيًّا حتى اشتد لحمه ونَبَتَ شَعْرُهُ.
وقال ههنا :﴿ فنبذناه بالعَرَاءِ ﴾ وقال في موضع آخر :﴿ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بالعرآء وَهُوَ مَذْمُومٌ ﴾ [ القلم : ٤٩ ] ولكنه تداركه النعمة فنَبَذَهُ وهو غير مذموم.

فصل


قال شهاب الدين : ولو بنيت من الوعد مثل يقطين لقلت : يَوْعِيدٌ، لا يقال بحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة كيَعدُ مضارع«وَعَدَ » لأن شرط تلك الياء أن تكون للمضارعة، وهذه مما يمتحن بها أهل التصريف بعضُهْم بعضاً.
قوله :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ : يحتمل أن يكون المراد :«وَأرْسَلْنَاهُ قبل مُلْتَقَمِهِ » ؛ وعلى هذا فالإرسال وإن ذكر بعد الالتقام فالمراد به التقديم. والواو معناها الجمع، ويحتمل أن يكون المراد به الإرسال بعد الالتقام، قال ابن عباس : كان إرسال يونسَ بعدما نبذه الحوت وعلى هذا التقدير يجوز أنه أرسل إلى قوم آخرينَ سوى القوم الأُوَل ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين بشريعة فآمنوا بها.
قوله :﴿ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ : في «أو » هذه سبعة أوجه تقدم تحقيقها أول البقرة عند قوله تعالى :﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء ﴾ [ البقرة : ١٩ ] فالشك بالنسبة إلى المخاطبين أي أن الرَّائِي يشك عند رؤيتهم، والإبهام بالنسبة إلى الله تعالى أبهم أمرهم، والإباحة أي أن الناظر إليهم يباح له أن يحذرهم بهذا القدر أو بهذا القدر، وكذا التخيير أي هو مخير بين أن يحذرهم كذا أو كذا، والإضراب ومعنى الواو واضحان.
قوله :﴿ فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ ﴾ : قال قتادة أرسل إلى أهل نِينَوَى من أرض الموصل قبل الالتقام كما تقدم، وقيل : بعده، وقيل : إلى قوم آخرين. وتقدم الكلام على «أو ». قال ابن عباس : إنها بمعنى الواو، وقال مقاتل والكلبي : بمعنى بل، وقال الزجاج : على الأصل بالنسبة للمخاطبين.
واختلفوا في مبلغ الزيادة، قال ابن عباس ومقاتل : كانوا عِشْرين ألفاً. ورواه أبي بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال الحسن : بضعاً وثلاثينَ ألفاً، وقال سعيد بن جبير : تسعين ألفاً فآمنوا يعني الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينَة العذاب فآمنوا فمتعناهم إلى حين انقضاء آجالهم.
} قال الزمخشري: معطوف على مثله في أول السورة وإن تباعدت قال أبو حيان: وإذا كان قد عدوا الفَصْلَ بنحو: كُلْ لَحْماً، واضْرِبْ زيداً وخبزاً من أبقح التَّر (ا) كيب فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة؟ قال شهاب الدين: ولِقَائل أن يقول: إن الفصل وإن كَثر بين الجمل المتعاطفة مغتفر، وأما الأول أنه تعالى لما ذكر أقاصيص الأنبياء - عليهم (الصلاة و) السلام - عاد إلى شرح مذاهب المشركين وبيان قبحها ومن جملة أقوالهم الباطلبة أنهم أثبتوا الأولاد لله تعالى ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور فقال «فاسْتَفْتِهِمْ» باستفتاء قريش عن وجه الإنكار للبعث أولاً ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض إلى أن أمرهم بأن يستفتيهم في أنهم لم أثبتوا لله سبحانه البنات ولهم البنين؟
ونقل الوَاحِدِيُّ عن المفسرين أنهم قالوا: إنَّ قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح، قالوا الملائكة بنات الله وهذا الكلام يشتل على أمرين:
349
أحدهما: إثبات البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت والشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف يمكن إثباته للخالق؟
والثاني: إثبات أن الملائكة إناثٌ، وهذا أيضاً باطل لأن طريق العلم إما الحِسُّ وإما الخبر وإما النظر أما الحِسُّ فمفقود لأنهم لم يشاهدوا كيف خلق الله الملائكة وهو المراد من قوله: ﴿أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ وأما الخبر فمفقود أيضاً لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدر على صدقهم دليل وهذا هو المراد من قولهم: ﴿أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ وأما النظر فمفقود من وجهين:
الأول: أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء البنات على البنين بمعنى إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب إلى العقل من إسناد الأَخَسّ إلى الأفضل فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولكم باطلاً.
الثاني: أن يتركوا بترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا دليلاً ظهر بطلان مذهبهم، وهذا هوالمراد بقوله: ﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ فقوله: ﴿فاستفتهم﴾ فاسأل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ ﴿أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ وهذه جملة حالية من الملائكة، والرابط الواو، وهي هنا واجبة عدم رابط غيره قاله شهاب الدين؛ ويحتمل أن يكون جملة حالية من السؤالين.
قوله: ﴿أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ العامة على «ولد» فعلاً ماضياً مسنداً للجلالة، أي أتى بالولد؛ تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وقرئ: وَلَدُ الله بإضافة الولد إليه أي يقولون الملائكة ولده، فحذف المبتدأ للعلم به، وأبقى خبره، والوَلَدُ فَعَلٌ بمعنى مفَعُولٌ كالقَبَض فلذلك يقع خبراً عن المفرد والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً، (تقول: هَذِهِ) وَلَدِي وهُمْ وَلَدِي.
قوله: ﴿أَصْطَفَى﴾ العامة على فتح الهمزة على أنها همزة استفهام بمعنى الإنكار والتقريع، وقد حذف معها همزة الوصل استغناءً عنها. وقرأ نافعٌ في رواية وأبو جَعْفَر
350
وشيبةُ والأعمشُ بهمزة وصل تثبت ابتداء وتسقط درجاً وفيه وجهان:
أحدهما: أنه على نية الاستفهام، وإنما حذف للعمل به ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
٤٢٢٦ - قَالُوا: تُجِبُّهَا قُلْتُ: بَهْراً... عَدَدَ الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ
أي أتحبها.
والثاني: أن هذه الجملة بدل من الجملة المحكية بالقول وهي: «وَلَد اللَّهِ» أي تقولون كذا وتقولون اصْطَفَى هذا الجنس على هذا الجِنْس.
(قال الزمخشري: وقد قرأ بها حمزة والأعمشُ. وهذا القراءة وإن كان هذا محلها فهي ضعيفة والذي أضعفها) أن هذه الجملة قد اكتنَفَها الإنْكَارُ من جانبيها وذلك قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.... مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين نسبتين؛ لن لها مناسبةً طاهرةً مع قولهم: «ولد الله» وأما قولهم: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فهي جملة اعتراض بين مقالة الكفرة جاءت للتشديد والتأكيد في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم، ونقل أبو البقاء أنه قرئ «آصْطَفَى» بالمد قال: وهو بعيد جداً.
قوله: ﴿مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ جملتان استفهاميتان ليس إحداهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب استفهم أولاً عما استقر لهم وثبت استفهام إنكار، وثانياً استفهام تعجب من حكمهم بهذا الحكم الجائر وهو أنهم نسبوا أحسن الجنسين إليهم والمعنى: ما لكم كيف تحكمون لله بالبنات ولكم بالبنين؟ «أفَلاَ تَذَكَّرُونَ» تتعظون «أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبينٌ» برهان بين على أن الله ولد ﴿فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ﴾ الذي لكم فيه حجة ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ في قولكم.
351
قوله: ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ قال مجاهد وقتادة: أراد بالجنة الملائكة سموا جنة لاجتِنَنِهم عن الأبْصار.
وقال ابن عباس: جنس من الملائكة يقال لهم الجن منهم إبليس، وقيل: إنهم خُزَّان الجنة، قال ابن الخطيب: وهذا القول عندي مُشْكِلٌ؛ لأنه تعالى أبطل قولهم: الملائكة بناتُ الله، ثم عطف عليه قوله: ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ ولاعطف يقتضي كون المعطوف مقابلاً بمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد من الآية غير ما تقدم.
وقال مجاهد: قالت كفار قريش الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سَرَوَاتُ الجِنَّ وهذا أيضاً بعد لن المصاهرة لا تسمّى نسباً.
قال ابن الخطيب: وقد روينا في تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن﴾
[الأنعام: ١٠٠] أن قوماً من الزَّنَادِقَة يقولون: إن الله وإبليس أخوان فالله هو الحرّ الكريم إبليس هو الأخر الشديد، فقوله تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ المراد منه هذا المذهب وهذا القول عندي هو أقرب الأقاويل. وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن، ثم قال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ أي علمت الجنة أنّ الذين قالوا هذا القول محضرون النار ومعذبون. وقيل: المراد ولقد علمت الجنة أنّ الجنة أنهم سيحضرون في العذاب. فعلى (القول) الأول: الضمير عائد إلى قائل هذا القول وعلى (القَوْلِ) الثَّانِي عَائِدٌ إلى نفس الجنة، ثم إنه تعالى نزَّه نفسه عما قالوا من الكذب فقال ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ في هذا الاستثناء وجوه:
أحدهما: أنه مستثنى منقطع والمستثنى منه إما فاعل «جَعَلُوا» أي جعلوا بينه وبين الجنة نسباً إلى عباد الله؟.
الثاني: أنه فاعل «يَصِفُونَ» أي لكن عباد الله يصفونه بما يليق به تعالى.
الثالث: أنه ضمير «محضرون» أي لكن عباد الله ناجُون. وعلى هذا فتكون
352
جملة التسبيح معترضةً وظاهر كلام أبي البقاء أنه يجوز أن يكون استثناءً متصلاً لأنه قال: مستثنى من «جَعَلُوا» أو «مُحْضَرُونَ» ويجوز أن يكون منفصلاً وظاهر هذه العبارة أن الوجهين الأولين هو فيهما متصل لا منفصل وليس ببعيد كأنه قيل: وجَعَلَ الناسَ، ثم استثنى منهم هؤلاء وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة نسباً فهو عند الله مُخْلَصٌ من الشِّرك.
353
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٩:قوله :﴿ فاستفتهم ﴾ : قال الزمخشري : معطوف على مثله في أول السورة وإن تباعدت. قال أبو حيان : وإذا كان قد عدوا الفَصْلَ بنحو : كُلْ لَحْماً واضْرِبْ زيداً أو خبزاً من أقبح التَّراكيب، فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة ؟ قال شهاب الدين : ولِقَائل أن يقول : إن الفصل وإن كَثر بين الجمل المتعاطفة مغتفر، وأما المثال الذي ذكره فمن قبيل المفردات، ألا ترى كيف عطفت خبزا على لحما، فعلى الأول أنه تعالى لما ذكر أقاصيص الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام - عاد إلى شرح مذاهب المشركين وبيان قبحها ومن جملة أقوالهم الباطلة أنهم أثبتوا الأولاد لله تعالى ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور فقال «فاسْتَفْتِهِمْ » باستفتاء قريش عن وجه الإنكار للبعث أولاً ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض إلى أن أمرهم بأن يستفتيهم في أنهم لم أثبتوا لله سبحانه البنات ولهم البنين ؟
ونقل الوَاحِدِيُّ عن المفسرين أنهم قالوا : إنَّ قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح، قالوا الملائكة بنات الله، وهذا الكلام يشتمل على أمرين :
أحدهما : إثبات البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت والشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف يمكن إثباته للخالق ؟
والثاني : إثبات أن الملائكة إناثٌ، وهذا أيضاً باطل لأن طريق العلم إما الحِسُّ وإما الخبر وإما النظر أما الحِسُّ فمفقود لأنهم لم يشاهدوا كيف خلق الله الملائكة وهو المراد من قوله :﴿ أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾. وأما الخبر فمفقود أيضاً لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً.

وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدل على صدقهم دليل وهذا هو المراد من قولهم :﴿ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ وأما النظر فمفقود من وجهين :
الأول : أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء البنات على البنين بمعنى إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب إلى العقل من إسناد الأَخَسّ إلى الأفضل فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولكم باطلاً.
الثاني : أن يتركوا بترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا دليلاً ظهر بطلان مذهبهم، وهذا هوالمراد بقوله :﴿ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾. فقوله :﴿ فاستفتهم ﴾ فاسأل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ ﴿ أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾ وهذه جملة١ حالية من الملائكة، والرابط الواو، وهي هنا واجبة لعدم رابط غيره٢ قاله شهاب الدين٣ ؛ ويحتمل أن يكون جملة حالية من السؤالين٤.
قوله :﴿ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ العامة على «ولد » فعلاً ماضياً مسنداً للجلالة، أي أتى بالولد ؛ تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وقرئ : وَلَدُ الله بإضافة الولد إليه، أي يقولون الملائكة ولده، فحذف المبتدأ للعلم به، وأبقى خبره، والوَلَدُ فَعَلٌ بمعنى مفَعُولٌ كالقَبَض فلذلك يقع خبراً عن المفرد والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً، ( تقول٥ : هَذِهِ ) وَلَدِي وهُمْ وَلَدِي٦.
١ الدر المصون ٤/٥٧٢..
٢ لأن من الروابط أيضا الضمير..
٣ المرجع السابق..
٤ وهما "ألربك البنات" و "أم خلقنا الملائكة إناثا"..
٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٦ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٣٥٤ والسمين في الدر ٤/٥٧٢..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥١:وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدل على صدقهم دليل وهذا هو المراد من قولهم :﴿ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ وأما النظر فمفقود من وجهين :
الأول : أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء البنات على البنين بمعنى إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب إلى العقل من إسناد الأَخَسّ إلى الأفضل فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولكم باطلاً.
الثاني : أن يتركوا بترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا دليلاً ظهر بطلان مذهبهم، وهذا هوالمراد بقوله :﴿ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾. فقوله :﴿ فاستفتهم ﴾ فاسأل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ ﴿ أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾ وهذه جملة١ حالية من الملائكة، والرابط الواو، وهي هنا واجبة لعدم رابط غيره٢ قاله شهاب الدين٣ ؛ ويحتمل أن يكون جملة حالية من السؤالين٤.
قوله :﴿ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ العامة على «ولد » فعلاً ماضياً مسنداً للجلالة، أي أتى بالولد ؛ تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وقرئ : وَلَدُ الله بإضافة الولد إليه، أي يقولون الملائكة ولده، فحذف المبتدأ للعلم به، وأبقى خبره، والوَلَدُ فَعَلٌ بمعنى مفَعُولٌ كالقَبَض فلذلك يقع خبراً عن المفرد والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً، ( تقول٥ : هَذِهِ ) وَلَدِي وهُمْ وَلَدِي٦.
١ الدر المصون ٤/٥٧٢..
٢ لأن من الروابط أيضا الضمير..
٣ المرجع السابق..
٤ وهما "ألربك البنات" و "أم خلقنا الملائكة إناثا"..
٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٦ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٣٥٤ والسمين في الدر ٤/٥٧٢..

قوله :﴿ أَصْطَفَى ﴾ العامة على فتح الهمزة على أنها همزة استفهام بمعنى الإنكار والتقريع، وقد حذف معها همزة الوصل استغناءً عنها. وقرأ نافعٌ في رواية وأبو جَعْفَر وشيبةُ والأعمشُ بهمزة وصل تثبت ابتداء وتسقط درجاً. وفيه وجهان :
أحدهما : أنه على نية الاستفهام، وإنما حذف للعمل به ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
قَالُوا : تُجِبُّهَا قُلْتُ : بَهْراً. . . عَدَدَ الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ
أي أتحبها.
والثاني : أن هذه الجملة بدل من الجملة المحكية بالقول وهي :«وَلَد اللَّهِ » أي تقولون كذا وتقولون اصْطَفَى هذا الجنس على هذا الجِنْس.
قال الزمخشري : وقد قرأ بها حمزة والأعمشُ. وهذه القراءة وإن كان هذا محلها فهي ضعيفة والذي أضعفها ) أن هذه الجملة قد اكتنَفَهاالإنْكَارُ من جانبيها وذلك قوله :﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾.
﴿ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ : فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين نسبتين ؛ لأن لها مناسبةً ظاهرةً مع قولهم :«ولد الله ».
قوله :﴿ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ جملتان استفهاميتان ليس لإحداهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب استفهم أولاً عما استقر لهم وثبت استفهام إنكار، وثانياً استفهام تعجب من حكمهم بهذا الحكم الجائر وهو أنهم نسبوا أحسن الجنسين إليهم. والمعنى : ما لكم كيف تحكمون لله بالبنات ولكم بالبنين ؟
«أفَلاَ تَذَكَّرُونَ » : تتعظون.
﴿ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبينٌ ﴾ : برهان بين على أن الله ولد.
﴿ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ ﴾ الذي لكم فيه حجة ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في قولكم.
قوله :﴿ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً ﴾ : قال مجاهد وقتادة : أراد بالجنة الملائكة سموا جنة لاجتِنَانِهم عن الأبْصار. وقال ابن عباس : جنس من الملائكة يقال لهم الجن منهم إبليس، وقيل : إنهم خُزَّان الجنة، قال ابن الخطيب : وهذا القول عندي مُشْكِلٌ ؛ لأنه تعالى أبطل قولهم : الملائكة بناتُ الله، ثم عطف عليه قوله :﴿ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً ﴾ والعطف يقتضي كون المعطوف مقابلاً بمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد من الآية غير ما تقدم. وقال مجاهد : قالت كفار قريش الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكر الصديق : فمن أمهاتهم ؟ قالوا : سَرَوَاتُ الجِنَّ وهذا أيضاً بعد لأن المصاهرة لا تسمّى نسباً.
قال ابن الخطيب : وقد روينا في تفسير قوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن ﴾[ الأنعام : ١٠٠ ] أن قوماً من الزَّنَادِقَة يقولون : إن الله وإبليس أخوان فالله هو الحرّ الكريم وإبليس هو الأخ الشديد، فقوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً ﴾ المراد منه هذا المذهب. وهذا القول عندي هو أقرب الأقاويل. وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن، ثم قال :﴿ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾ : أي علمت الجنة أنّ الذين قالوا هذا القول محضرون النار ومعذبون. وقيل : المراد ولقد علمت الجنة أنّ الذين قالوا هذا القول محضرون النار ومعذبون. وقيل : المراد ولقد علمت الجنة أنهم سيحضرون في العذاب. فعلى القول الأول : الضمير عائد إلى قائل هذا القول، وعلى القَوْلِ الثَّانِي عَائِدٌ إلى نفس الجنة.
ثم إنه تعالى نزَّه نفسه عما قالوا من الكذب فقال :﴿ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ ﴾.
قوله :﴿ إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين ﴾ في هذا الاستثناء وجوه :
أحدهما : أنه مستثنى منقطع والمستثنى منه إما فاعل «جَعَلُوا » أي جعلوا بينه وبين الجنة نسباً إلى عباد الله ؟.
الثاني : أنه فاعل «يَصِفُونَ » أي لكن عباد الله يصفونه بما يليق به تعالى. الثالث : أنه ضمير «محضرون »أي لكن عباد الله ناجُون. وعلى هذا فتكون جملة التسبيح معترضةً، وظاهر كلام أبي البقاء أنه يجوز أن يكون استثناءً متصلاً لأنه قال : مستثنى من «جَعَلُوا » أو «مُحْضَرُونَ ». ويجوز أن يكون منفصلاً. وظاهر هذه العبارة أن الوجهين الأولين هو فيهما متصل لا منفصل. وليس ببعيد كأنه قيل : وجَعَلَ الناسَ، ثم استثنى منهم هؤلاء وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة نسباً فهو عند الله مُخْلَصٌ من الشِّرك.
قوله: ﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ﴾ في المعطوف وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على اسم «إنَّ» «وما» نافية و «أَنْتُمْ» اسمها أو مبتدأ و «أنتم» فيهِ تغليب المخاطب على الغائب إذ الأصلُ فإنَّكُمْ ومَعْبُودكُمْ ما أنتم وَهُو؛ فغلب الخطاب (و) «عَلَيْهِ» متعلق بقوله «بفَاتِنِينَ» والضمير عائد على «مَا تَعْبُدُونَ» بتقدير حذف مضاف وضمن «فاتنين» معنى حاملين على عبادته إلا الذي سبق في علمه أنَّه من أهل صَلْي الجَحِيم و «من» مفعول بفَاتِنينَ والاستثناء مفرغ.
الثاني: أنه مفعول معه وعلى هذا فيحسن السكوت على تعبدون كما يحسن في قولك: إنَّ كُلَّ رَجُل وَضَيْعَتَهُ (وحكى الكسائي: إنَّ كُلَّ ثُوْبٍ وثمَنَهُ، والمعنى إنكم مع معبودكم مقرنون) كما تقدر ذلك في كل رجل وضعيته مقترنان وقوله: ﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ﴾ مستأنف أي ما أنتم على ماتعبدون بفاتنين أو بحاملين على الفِتنة، «إلاَّ مَنْ هُوَ ضَالّ» مثلكم، قاله الزمخشري، إلا أن أبا البقاء ضعف الثاني وتابعه أبو
353
حيان في تضعيفه لعدم تبارده (إلى) الفهم قال شهاب الدين: الظاهر أنه معطوف واستئناف «ما أنتم عليه فاتنين» غير واضح والحق أحق أن يتبغ وجوز الزمخشري أن يعود الضمير في «عليه» على الله قال: فإن قلت: كيف يفتونهم على الله؟.
قلت: يفسدونهم عليه بإغوائهِمْ من قولك: فَتَنَ فلانٌ على امرأته كما تقول: أَفْسَدَها عليه وخيبها عليه و «مَنْ هُوَ» يجوز أن تكون موصولةً أو مصوفةً وقرأ العامة صَالِ الجَحِيم بكسر اللا م لأنه منقوص مضاف حذفت لامه لالتقاء الساكنين وحمل على لفظ «مَنْ» فأُفْرِدَ «هو».
وقرأ الحسن وابنُ عبلة بضم اللام مع واو بعدهما فيما نقله الهُذَلِيّ عنهما، (ابن عطية) عن الحسن فقط فيما نقله الزمخشري، وأبو الفضل فأما مع الواو فإنه جمع سلامة بالواو والنون ويكون قد حُمِلَ على لفظ «من» أولاً فأفرد في قوله: «هُوَ» وعلى معناها ثانياً فجمع في قوله: «صَالُو» وحذفت النون للإضافة ومما حمل فيه على اللفظ والمعنى في جملة واحدة وهي صلة الموصول قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١] فأفرد في «كَانَ» وجمع في «هُوداً» ومثله قوله:
٤٢٢٧ - وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَاماً...
354
وأما مع عدم الواو فيحتمل أن يكون جمعاً (أيضاً) وإنما حذفت الواو خطًّا كما حذفت لفظاً وكثيراً ما يفعلون هذا يُسْقِطُونَ في الخطِّ ما يَسْقُطُ في اللفظ، ومنه ﴿يَقُصُّ الحق﴾ [الأنعام: ٥٧] في قراءة من قرأ بالضد المعجمية ورسم بغير ياء، وكذلك:
﴿واخشون اليوم﴾ [المائدة: ٣] ويحتمل أن يكون مفرداً وحقه على هذا كسر اللام فقط لأنه عين منقوص وعين المنقوص مكسورة أبداً وحذفت اللام - وهي الياء لالتقاء الساكنين نحو: هَذَا قَاضِ الْبَلَدِ، وقد ذكروا فيه توجيهين:
أحدهما: أنه مقلوب إذ الأصل صَالِي ثم قدّموا اللام إلى موضع العين، فقوع الإعراب على العَيْنِ ثم حذفت لام الكملة بعد القلب فصار اللفظ كما ترى ووزنه على هذا فَاعٍ، فيقال على هذا: جَاءَ صَالٌ ورَأَيْتُ صالاً، ومَرَرْتُ بِصَالٍ فيصير في اللفظ كقولك: هَذَا بابٌ ورأيتُ باباً، ومررت ببابٍ ونظيره في مجرد القلب، شاكٍ ولاثٍ في شَائِكٍ ولائثٍ، ولكن شائك ولائث قبل القلب صحيحان فصارا به متعلين مقنوصين بخلاف صَالِي فإنه قبل القلب كان متعلاً منقوصاً فصار به صحيحاً.
والثاني: أن اللام حذفت استثقالاً من غير قلب، وهذا عندي أسهل مما قبله وقدر رأيناهم يَتَنَاسَوْنَ اللام المحذوفة ويجعلون الإعراب على العين، وقد قرئ: ﴿وَلَهُ الجوار﴾ [الرحمن: ٢٤] برفع الراء «وَجَنى الْجَنَّتَيْنِ دَانٌ» برفع النون تشبيهاً بجَناحٍ وجَانٍّ، وقالوا: ما بَالَيْتُ بِهِ بَالَةً، والأصل بَالِيَةً، كعافيةٍ وقد تقدم طَرَفٌ من هذا عند قوله: ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف: ٤١] فيمن قرأه برفع الشين.
355

فصل


قال المفسرون: المعنى «فإنكم» تقولون لأهل مكة «وما تعبدون» من الأصنام «ما أنتم عليه» ما تعبدون «بفاتنين» بمُضِلِّينَ أحداً إلا من هو صال الجحيم أي من قدَّر الله أنه سيدخل النار، ومن سبق له في علم الله الشقاوة، واعمل أنه لما ذكر الدلائل على فساد مذاهب الكفار أتبعه بما ينبه على أن هؤلاء الكفار لا يقدِرون على إضلال أحد إلا إذا كان قد سبق حكم الله في حقه بالعذاب والوقوع في النار. وقد احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا تأثير لإيحاء الشيطان ووسوسته وإنما المؤثر قضاءُ الله وقدَرُهُ.
قوله: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن «منا» صفة لموصوف محذوف فهو مبتدأ والخبر الجملة من قوله: ﴿إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ تقديره: ما أحدٌ مِنَّا إلاَّ له مقام، وحَذْفُ المبتدأ مع «مِنْ جَيِّدٌ فصيحٌ.
والثاني: أن المبتدأ محذوف أيضاً و»
إلاَّ لَهُ مَقَامٌ «صفة حذف موصوفها والخبر على هذا هو الجار المتقدم والتقدير:» وما منَّا أحدٌ إلاَّ لَهُ مَقَامٌ «قال الزمخشري: حذف الموصوف وأقام الصِّفَةَ مُقَامَهُ كقوله:
٤٢٢٨ - أَنَا ابْنُ جَلاَ وَطَلاَّعُ الثَّنَايَا........................
وقوله:
٤٢٢٩ - يَرْمِي بِكَفّي كَانَ مِنْ أرْمى البَشَر... ورده أبو حيان فقال:»
ليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مُقَامَهُ، لأن
356
المحذوف مبتدأ و «إلاَّ لَهُ مَقَامٌ» خبره ولأنه خبره ولأنه لا ينعقد كَلاَمٌ من قوله: «وَمَا مِنَّا أَحَدٌ»، وقوله: «إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ» محط الفائدة وإن تخيل أن «له مقام معلوم» في موضع الصفة فقد نَصُّوا على أنَّ «إلاَّ» لا تكون صفته إذا حذف موصوفها وأنها فارقت «غَيْراً» إذا كانت صفة في ذلك لِتَمَكُّنِ «غَيْرٍ» في الوصف وعدم تمكن «إلاَّ» فيه؛ وجعل ذلك كقوله: «أَنَابْنُ جَلاَ» أي أنا ابن رَجُلٍ جَلا، و «بكفى كان» أي رَجُلٍ كان فقد عده النَّحويُّونَ من أقبح الضرائر، حيث حذف الموصوف والصفة جملة لم تيقدمها مِنْ بِخلاف قوله:
٤٢٣٠ - «مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ»... يريدون: منَّا فريقٌ ظعَنَ، ومنا فريق أقام، وقد تقدم نحوٌ من هذا في النِّسَاء عند قوله: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ [النساء: ١٥٩].
وهذا الكلام وما بعده ظاهره أنه من كلام الملائكة، وقيل: من كلام الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.

فصل


قال المفسرون: يقول جبريل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «وَمَا مِنَّا مَعْشَرَ الْمَلاَئِكَةِ إلاَّ له مقام معلوم» أي ما منا ملك إلا له مقام معلوم في السموات يعبد الله فيه قال ابن عباس: «ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يُسَبِّح» وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فيهَا مَوْضِعُ أرْبَعَةِ أَصَابعَ إلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ وَاضِعٌ جَبَهَتَهُ سَاجِدٌ لله» وقال السُّدِّيُّ: إلاَّ له مقام معلوم في القُرْبَة والمشاهدة.
قوله: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون﴾ مفعول «الصافاون والمسبحون» يجوز أن يكون مراداً أي الصافون أقْدَامنَا وأجْنِحَتَنَا، والمسبِّحون اللَّهَ تعالى، وأن لا يُرادَ البتة أي نحن من أهل هذا الفعل.
357
فعلى الأول يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العُبُودِية لا غيرهم وذلك يدل على أنَّ طاعات البشر بالنسبة إلى طاعات الملائكة كالعَدَم حتى يَصِحَّ هذا الحصر.
قال ابن الخطيب: وكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال: البشر أقربُ درجةً من الملك فضلاً عن أن يقال: هم أفضل منه أم لا؟!.
قال قتادة: قوله: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون﴾ هم الملائكة صَفُّوا أقْدَامَهُمْ، وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف الناس في الأرض. ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون﴾ أي المصلون المنزهون الله عن السوء بخير جبريل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين كا زعمت الكفار، ثم أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال: ﴿وَإِن كَانُواْ﴾ أي وقد كانوا: يعني أهل ملكة «ليَقولُونَ» لام التأكيد ﴿لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين﴾ أي كتاباً من كتب الأولين ﴿لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين﴾ أي لأخلصنا العبادة لله ولما كذبنا، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيِّد الأذكار وهو القرآن، ﴿فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ عاقبة هذا الكفر وهذا تهديد عظيم.
358
«وما » نافية و «أَنْتُمْ » اسمها أو مبتدأ. و «أنتم » فيهِ تغليب المخاطب على الغائب إذ الأصلُ فإنَّكُمْ ومَعْبُودكُمْ ما أنتم وَهُو ؛ فغلب الخطاب ( و ) «عَلَيْهِ » متعلق بقوله «بفَاتِنِينَ » والضمير عائد على «مَا تَعْبُدُونَ » بتقدير حذف مضاف وضمن «فاتنين » معنى حاملين على عبادته إلا الذي سبق في علمه أنَّه من أهل صَلْي الجَحِيم و «من » مفعول بفَاتِنينَ. والاستثناء مفرغ.
الثاني : أنه مفعول معه وعلى هذا فيحسن السكوت على تعبدون كما يحسن في قولك : إنَّ كُلَّ رَجُل وَضَيْعَتَهُ. وحكى الكسائي :( إنَّ كُلَّ ثُوْبٍ وثمَنَهُ، والمعنى إنكم مع معبودكم مقرنون ) كما تقدر ذلك في كل رجل وضيعته مقترنان. وقوله :﴿ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ﴾ : مستأنف أي ما أنتم على ما تعبدون بفاتنين أو بحاملين على الفِتنة،
«إلاَّ مَنْ هُوَ ضَالّ » مثلكم، قاله الزمخشري، إلا أن أبا البقاء ضعف الثاني وتابعه أبو حيان في تضعيفه لعدم تبارده إلى الفهم، قال شهاب الدين : الظاهر أنه معطوف واستئناف «ما أنتم عليه فاتنين » غير واضح والحق أحق أن يتبع. وجوز الزمخشري أن يعود الضمير في «عليه » على الله. قال : فإن قلت : كيف يفتنونهم على الله ؟.
قلت : يفسدونهم عليه بإغوائهِمْ من قولك : فَتَنَ فلانٌ على امرأته كما تقول : أَفْسَدَها عليه وخيبها عليه، و «مَنْ هُوَ » يجوز أن تكون موصولةً أو موصوفةً. وقرأ العامة صَالِ الجَحِيم بكسر اللام لأنه منقوص مضاف حذفت لامه لالتقاء الساكنين وحمل على لفظ «مَنْ » فأُفْرِدَ «هو ».
وقرأ الحسن وابنُ أبي عبلة بضم اللام مع واو بعدها فيما نقله الهُذَلِيّ عنهما، و ( ابن عطية ) عن الحسن ( وقرأ بضمها مع عدم واو ( بعدها )فيما نقل ابن خالويه عنهما ) وعن الحسن فقط فيما نقله الزمخشري، وأبو الفضل. فأما مع الواو فإنه جمع سلامة بالواو والنون ويكون قد حُمِلَ على لفظ «من » أولاً فأفرد في قوله :«هُوَ » وعلى معناها ثانياً فجمع في قوله :«صَالُو » وحذفت النون للإضافة ومما حمل فيه على اللفظ والمعنى في جملة واحدة وهي صلة الموصول قوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى ﴾ [ البقرة : ١١١ ] فأفرد في «كَانَ » وجمع في «هُوداً ». ومثله قوله :
وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَاماً. . .
وأما مع عدم الواو فيحتمل أن يكون جمعاً ( أيضاً ) وإنما حذفت الواو خطًّا كما حذفت لفظاً، وكثيراً ما يفعلون هذا يُسْقِطُونَ في الخطِّ ما يَسْقُطُ في اللفظ، ومنه :﴿ يَقُضُّ الحق ﴾[ الأنعام : ٥٧ ] في قراءة من قرأ بالضاد المعجمة ورسم بغير ياء، وكذلك :﴿ واخشون اليوم ﴾ [ المائدة : ٣ ]. ويحتمل أن يكون مفرداً وحقه على هذا كسر اللام فقط لأنه عين منقوص وعين المنقوص مكسورة أبداً وحذفت اللام - وهي الياء لالتقاء الساكنين نحو : هَذَا قَاضِ الْبَلَدِ، وقد ذكروا فيه توجيهين :
أحدهما : أنه مقلوب إذ الأصل صَالِي ثم صائل قدّموا اللام إلى موضع العين، فوقع الإعراب على العَيْنِ ثم حذفت لام الكملة بعد القلب فصار اللفظ كما ترى ووزنه على هذا فَاعٍ، فيقال على هذا : جَاءَ صَالٌ ورَأَيْتُ صالاً، ومَرَرْتُ بِصَالٍ فيصير في اللفظ كقولك : هَذَا بابٌ ورأيتُ باباً، ومررت ببابٍ، ونظيره في مجرد القلب، شاكٍ ولاثٍ في شَائِكٍ ولائثٍ، ولكن شائك ولائث قبل القلب صحيحان فصارا به معتلين منقوصين بخلاف صَالِي فإنه قبل القلب كان معتلاً منقوصاً فصار به صحيحاً.
والثاني : أن اللام حذفت استثقالاً من غير قلب، وهذا عندي أسهل مما قبله وقدر رأيناهم يَتَنَاسَوْنَ اللام المحذوفة ويجعلون الإعراب على العين، وقد قرئ :﴿ وَلَهُ الجوار ﴾ [ الرحمن : ٢٤ ] برفع الراء. «وَجَنى الْجَنَّتَيْنِ دَانٌ »برفع النون تشبيهاً بجَناحٍ وجَانٍّ، وقالوا : ما بَالَيْتُ بِهِ بَالَةً، والأصل بَالِيَةً، كعافيةٍ. وقد تقدم طَرَفٌ من هذا عند قوله :﴿ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ [ الأعراف : ٤١ ] فيمن قرأه برفع الشين.

فصل


قال المفسرون : المعنى «فإنكم » تقولون لأهل مكة «وما تعبدون » من الأصنام «ما أنتم عليه » ما تعبدون «بفاتنين » بمُضِلِّينَ أحداً إلا من هو صال الجحيم أي من قدَّر الله أنه سيدخل النار، ومن سبق له في علم الله الشقاوة، واعلم أنه لما ذكر الدلائل على فساد مذاهب الكفار أتبعه بما ينبه على أن هؤلاء الكفار لا يقدِرون على إضلال أحد إلا إذا كان قد سبق حكم الله في حقه بالعذاب والوقوع في النار. وقد احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا تأثير لإيحاء الشيطان ووسوسته وإنما المؤثر قضاءُ الله وقدَرُهُ.
قوله :﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن «منا » صفة لموصوف محذوف فهو مبتدأ والخبر الجملة من قوله :﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ تقديره : ما أحدٌ مِنَّا إلاَّ له مقام، وحَذْفُ المبتدأ مع «مِنْ » جَيِّدٌ فصيحٌ.
والثاني : أن المبتدأ محذوف أيضاً و «إلاَّ لَهُ مَقَامٌ » صفة حذف موصوفها والخبر على هذا هو الجار المتقدم والتقدير :«وما منَّا أحدٌ إلاَّ لَهُ مَقَامٌ ». قال الزمخشري : حذف الموصوف وأقام الصِّفَةَ مُقَامَهُ كقوله :
أَنَا ابْنُ جَلاَ وَطَلاَّعُ الثَّنَايَا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله :
يَرْمِي بِكَفّي كَانَ مِنْ أرْمى البَشَر. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورده أبو حيان فقال :«ليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مُقَامَهُ، لأن المحذوف مبتدأ و «إلاَّ لَهُ مَقَامٌ » خبره ولأنه لا ينعقد كَلاَمٌ من قوله :«وَمَا مِنَّا أَحَدٌ »، وقوله :«إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ » محط الفائدة وإن تخيل أن «له مقام معلوم » في موضع الصفة فقد نَصُّوا على أنَّ «إلاَّ » لا تكون صفة إذا حذف موصوفها وأنها فارقت «غَيْراً » إذا كانت صفة في ذلك لِتَمَكُّنِ «غَيْرٍ » في الوصف وعدم تمكن «إلاَّ » فيه ؛ وجعل ذلك كقوله :«أَنَا بْنُ جَلاَ » أي أنا ابن رَجُلٍ جَلا، و «بكفي كان » أي رَجُلٍ كان فقد عده النَّحويُّونَ من أقبح الضرائر، حيث حذف الموصوف والصفة جملة لم يتقدمها مِنْ بِخلاف قوله :«مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ ». . . يريدون : منَّا فريقٌ ظعَنَ، ومنا فريق أقام، وقد تقدم نحوٌ من هذا في النِّسَاء عند قوله :﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ﴾ [ النساء : ١٥٩ ].
وهذا الكلام وما بعده ظاهره أنه من كلام الملائكة، وقيل : من كلام الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.

فصل


قال المفسرون : يقول جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - :«وَمَا مِنَّا مَعْشَرَ الْمَلاَئِكَةِ إلاَّ له مقام معلوم » أي ما منا ملك إلا له مقام معلوم في السموات يعبد الله فيه. قال ابن عباس :«ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يُسَبِّح »، وقال - عليه ( الصلاة و ) السلام- :«أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فيهَا مَوْضِعُ أرْبَعَةِ أَصَابعَ إلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ وَاضِعٌ جَبَهَتَهُ سَاجِدٌ لله ». وقال السُّدِّيُّ : إلاَّ له مقام معلوم في القُرْبَة والمشاهدة.
قوله :﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون ﴾ مفعول «الصافون والمسبحون » يجوز أن يكون مراداً أي الصافون أقْدَامنَا وأجْنِحَتَنَا، والمسبِّحون اللَّهَ تعالى، وأن لا يُرادَ البتة أي نحن من أهل هذا الفعل.
فعلى الأول يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العُبُودِية لا غيرهم وذلك يدل على أنَّ طاعات البشر بالنسبة إلى طاعات الملائكة كالعَدَم حتى يَصِحَّ هذا الحصر.
قال ابن الخطيب : وكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال : البشر أقربُ درجةً من الملك فضلاً عن أن يقال : هم أفضل منه أم لا ؟ !.
قال قتادة : قوله :﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون ﴾ هم الملائكة صَفُّوا أقْدَامَهُمْ، وقال الكلبي : صفوف الملائكة في السماء كصفوف الناس في الأرض.
﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون ﴾ أي المصلون المنزهون الله عن السوء بخبر جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين كما زعمت الكفار،
ثم أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال :﴿ وَإِن كَانُواْ ﴾ أي وقد كانوا : يعني أهل ملكة «ليَقولُونَ » لام التأكيد
﴿ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين ﴾ أي كتاباً من كتب الأولين
﴿ لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين ﴾ : أي لأخلصنا العبادة لله ولما كذبنا، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيِّد الأذكار وهو القرآن،
﴿ فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ عاقبة هذا الكفر وهذا تهديد عظيم.
قوله: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين﴾ وهي قوله: ﴿كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي﴾ [المجادلة: ٢١] لما هدد الكفار بقوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر: ٣] أردفه بما يقوي قلب الرسول فقال ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ والنُّصْرَةُ والغلبة قد تكون بالحُجَّة وقد تكون بالدولة والاستيلاء وقد تكون بالدوام والثبات فالمؤمن وإن صار مغلوباً في بعض الأوقات بسبب ضَعْفِ أحوال الدنيا فهو الغالب ولا يلزم على هذه الآية أن يقال قد قتل الأنبياء وهزم كثيرةٌ من المؤمنين.
قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون﴾ تفسير للكلمة فيجوز أن لايكون هلا محلٌّ من
358
الإعراب، ويجوز أن تكون خبر مبتداً مضمر ومنصوبة بإضمار فعل أي هي أنهم لهم المنصورون أو أعني بالكلمة هذا اللفظ ويكون ذلك على سبيل الحكاية لأنك لو صحرت بالفعل قبلها حاكياً للجملة بعده كان صحيحاً كأنك قلت: عنيت هذا اللفظ كما تقول: كَتَبْتُ زَيدٌ قَائِمٌ، وإنَّ زَيْداً لَقَائِمٌ وقرأ الضحاك: «كَلِمَاتُنَا» جمعاً.
قوله: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أي أعرضْ عنهم «حَتًّى حِين» قال ابن عباس: يعني الموت، وقال مجاهد: يوم بدر، وقال السدي: حتى يأمرك الله بالقتال، وقيل: إلى أن يأتيهم عذابُ الله، وقيل: إلَى فتحِ مكة.
قال مقاتل بن حيان: نسختها آية القتال «وَأَبْصِرْهُمْ» إذا نزل بهم العذاب عن القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» ذلك من النصرة والتأييد في الدناي والثواب العظيم في الآخرة فقالوا: متى هذا العذاب؟ فقال تعالى: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ أي إن ذلك الاستجعال جهل لأن لكُلّ شيء من أفعال الله تعالى وقتاً معيَّناً لا يتقدم ولا يتأخر.
قوله: ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ﴾ العامة على نَزَل مبنياً للفاعل، وعبدُ اللَّهِ مبنياً للمفعول، والجارّ قائم مَقَام فاعله.
والساحة الفناء الخالِي من الأبنية وجمعها سُوحق فألفها عن واوٍ فيُصغَّر على سُوَيْحَةٍ قال الشاعر:
٤٢٣١ - فَكَانَ سِيَّانِ أَنْ لاَ يَسْرَحُوا نَعَماً أَوْ يَسْرَحُوهُ بِهَا وَاغْبَرَّتِ السُّوحُ
وبهذا يتبين ضعف قول الراغب: إنها من ذَواتِ اليَاء حيث عدها في مادة سيح، ثم قال: الساحة المكان الواسع ومنه: ساحة الدر. والسائح الماء الجري في الساحة،
359
وسَاحَ فلانٌ في الأرْض مَرَّ مَرَّ السائح. ورجل سَائِحٌ وَسيَّاح انتهى. ويحتمل أنْ يَكثون لها مادَّتَانِ لكن كان ينبغي أن يذكر ما هي الأشهر أو يذكرهما معاً.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ﴾ يعني العذاب بساحَتِهِمْ، قال مقاتل: بحَضْرَتِهِمْ وقيل: بعِتابهم.
قال الفراء: العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم ﴿فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين﴾ فبئس صَبَاح الكَافرين الذين أُنْذِرُوا بالعذاب. لما خرج - عليه (الصَّلاَةُ و) السلام - إلى خَبيْبَرَ أتاها ليلاً، وكان إذا جَاء قوماً بلَيْلٍ لم يَغْزُ حتى يُصْبحَ فلما أصبح خرجت يهودُ (خَيْبَرَ) بمَسَاحِيها ومَكَاتِلِهَا، فلما رأوه قالوا: مُحَمَّد واللَّهِ مُحَمَّد والخميس فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«اللَّهُ
أكبرُ خَرِبَتُ خَيْبَر إنَّا إذا نَزَلْنَا بسَاحَةِ قوْمِ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ»
.
قوله: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾
قيل: المراد من هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا وفي هذه الكلمة أحوال القيامة وعلى التقديرين فالتكرير زائل، وقيل: المراد من التكرير المبالغة في التَّهديد والتَّهْويلِ.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله أولاً: «وَأَبْصِرهُمْ» وههنا قال: «وَأَبْصِرْ» بغير ضمير؟
فالجواب أنه حذف مفعول «أبصر» الثاني إمَّا اختصراً لدلالة الأولى عليه وما اقتصار تقنُّناً في البلاغة ثمَّ إنَّهُ تعالى ختم السورة بتنزيه نفسه عن كل ما لا يليق بصفات الإلهيّة فقال: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة﴾ أي الغلبة والقوة، أضاف الربَّ إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل: ذُو العِزَّة، كما تقول: صاحب صدق لاختصاصه به. وقيل: المراد بالعزة المخلوقة الكائنة بيْن خلقه.
ويترتب على القولين مسألة اليمين.

فصل


قوله: ﴿رَبِّكَ رَبِّ العزة﴾ الربوبية إشارة إلى كمال الحكمة والرحكمة والعزة إشارة إلى كمال القدرة، فقوله: «رب العزة» يدل على أنه القادر على جميع الحوادث، لأن الألف
360
واللام في قوله: «العزة» يفيد الاستغراق وإذا كان الكل ملكاً له لم يبق لغيره شيء فثبت أن قوله: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ﴾ كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات «وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ»، الذين بلغوا عن الله التوحيد بالشرائع «وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبَّ العَالَمِينَ» على هلك الأعداد ونصر الأنبياء - عليه (الصلاة و) السلام -.
رُوي عن عليِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال «مَنْ أَحَبَّ أنْ يَكْتَالَ بِالمِكْيَالِ الأَوْفَى مِنَ الأَجْرِ فَلْيَكُنْ آخِرَ كَلاَمِهِ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وسَلامٌ على المُرْسَلينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ورَوَى أبو أمامة عن أبيِّ بن كعب قال:» قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قرأ سورة «والصافات» أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ كُلِّ جنِّيِّ وَشَيْطَانِ وَتَبَاعَدَتْ مِنْهُ مَرَدَةُ الشياطين وَبِرئَ مِنَ الشِّرْكِ وشَهِدَ لَهُ حَافِظَاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أنَّه كَانَ مُؤْمِناً «.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
361
سورة ص
362
قوله :﴿ إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون ﴾ : تفسير للكلمة فيجوز أن لا يكون لها محلٌّ من الإعراب، ويجوز أن تكون خبر مبتداً مضمر ومنصوبة بإضمار فعل أي هي أنهم لهم المنصورون أو أعني بالكلمة هذا اللفظ ويكون ذلك على سبيل الحكاية لأنك لو صرحت بالفعل قبلها حاكياً للجملة بعده كان صحيحاً كأنك قلت : عنيت هذا اللفظ كما تقول : كَتَبْتُ زَيدٌ قَائِمٌ، وإنَّ زَيْداً لَقَائِمٌ. وقرأ الضحاك :«كَلِمَاتُنَا » جمعاً.
قوله :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ﴾ أي أعرضْ عنهم «حَتًّى حِين » قال ابن عباس : يعني الموت، وقال مجاهد : يوم بدر، وقال السدي : حتى يأمرك الله بالقتال، وقيل : إلى أن يأتيهم عذابُ الله، وقيل : إلَى فتحِ مكة.
«وَأَبْصِرْهُمْ » إذا نزل بهم العذاب عن القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ » ذلك من النصرة والتأييد في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة فقالوا : متى هذا العذاب ؟
فقال تعالى :﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴾ أي إن ذلك الاستجعال جهل لأن لكُلّ شيء من أفعال الله تعالى وقتاً معيَّناً لا يتقدم ولا يتأخر.
قوله :﴿ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ ﴾ : العامة على نَزَل مبنياً للفاعل، وعبدُ اللَّهِ مبنياً للمفعول، والجارّ قائم مَقَام فاعله.
والساحة الفناء الخالِي من الأبنية وجمعها سُوح فألفها عن واوٍ فيُصغَّر على سُوَيْحَةٍ قال الشاعر :
فَكَانَ سِيَّانِ أَنْ لاَ يَسْرَحُوا نَعَماً*** أَوْ يَسْرَحُوهُ بِهَا وَاغْبَرَّتِ السُّوحُ
وبهذا يتبين ضعف قول الراغب : إنها من ذَواتِ اليَاء حيث عدها في مادة سيح، ثم قال : الساحة المكان الواسع ومنه : ساحة الدار. والسائح الماء الجاري في الساحة، وسَاحَ فلانٌ في الأرْض مَرَّ مَرَّ السائح. ورجل سَائِحٌ وَسيَّاح انتهى. ويحتمل أنْ يَكون لها مادَّتَانِ لكن كان ينبغي أن يذكر ما هي الأشهر أو يذكرهما معاً.
قوله تعالى :﴿ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ ﴾ يعني العذاب بساحَتِهِمْ، قال مقاتل : بحَضْرَتِهِمْ. وقيل : بعِتابهم.
قال الفراء : العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم ﴿ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين ﴾ فبئس صَبَاح الكَافرين الذين أُنْذِرُوا بالعذاب. لما خرج - عليه ( الصَّلاَةُ و ) السلام - إلى خَيْبَرَ أتاها ليلاً، وكان إذا جَاء قوماً بلَيْلٍ لم يَغْزُ حتى يُصْبحَ فلما أصبح خرجت يهودُ ( خَيْبَرَ ) بمَسَاحِيها ومَكَاتِلِهَا، فلما رأوه قالوا : مُحَمَّد واللَّهِ مُحَمَّد والخميس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اللَّهُ أكبرُ خَرِبَتُ خَيْبَر إنَّا إذا نَزَلْنَا بسَاحَةِ قوْمِ فساء صباح المنذرين ".
قوله :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴾ : قيل : المراد من هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا وفي هذه الكلمة أحوال القيامة وعلى التقديرين فالتكرير زائل، وقيل : المراد من التكرير المبالغة في التَّهديد والتَّهْويل.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله أولاً :«وَأَبْصِرهُمْ » وههنا قال :«وَأَبْصِرْ » بغير ضمير ؟ فالجواب : أنه حذف مفعول «أبصر » الثاني إمَّا اختصاراً لدلالة الأولى عليه وإما اقتصارا تقنُّناً في البلاغة.
ثمَّ إنَّهُ تعالى ختم السورة بتنزيه نفسه عن كل ما لا يليق بصفات الإلهيّة فقال :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة ﴾ أي الغلبة والقوة، أضاف الربَّ إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل : ذُو العِزَّة، كما تقول : صاحب صدق لاختصاصه به. وقيل : المراد بالعزة المخلوقة الكائنة بيْن خلقه.
ويترتب على القولين مسألة اليمين.

فصل :


قوله :﴿ رَبِّ العزة ﴾ الربوبية إشارة إلى كمال الحكمة والرحمة والعزة إشارة إلى كمال القدرة، فقوله :«رب العزة » يدل على أنه القادر على جميع الحوادث، لأن الألف واللام في قوله :«العزة » يفيد الاستغراق وإذا كان الكل ملكاً له لم يبق لغيره شيء فثبت أن قوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات.
﴿ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ ﴾، الذين بلغوا عن الله التوحيد بالشرائع
﴿ وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾ على هلك الأعداء ونصر الأنبياء - عليهم الصلاة و السلام- رُوي عن عليِّ - رضي الله عنه - قال «مَنْ أَحَبَّ أنْ يَكْتَالَ بِالمِكْيَالِ الأَوْفَى مِنَ الأَجْرِ فَلْيَكُنْ آخِرَ كَلاَمِهِ مِنْ مَجْلِسِهِ : سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وسَلامٌ على المُرْسَلينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ».
Icon