ﰡ
وهي مائة واثنتان وثمانون آية مكية
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥)
قوله تبارك وتعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا قال ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا قال: أقسم الله تعالى بصفوف الملائكة الذين في السموات، كصفوف المؤمنين في الصلاة. ويقال: يعني: صفوف الغزاة في الحرب، كقوله عز وجل:
صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: ٤] ويقال: بصفوف الأمم يوم القيامة لقوله عز وجل:
صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ
[الصف: ٤] ويقال: بصفوف الأمم يوم القيامة لقوله عز وجل: وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا [الكهف: ٤٨] ويقال: صف الطيور بين السماء والأرض صافات بأجنحتها لقوله: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور: ٤١] ويقال: صفوف الجماعات في المساجد. وفي الآية بيان فضل الصفوف، حيث أقسم الله بهن.
ثم قال عز وجل: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً يعني: الملائكة الذين يزجرون السحاب، ويؤلفونه، ويسوقونه إلى البلد الذي لا مطر بها. ويقال: فَالزَّاجِراتِ يعني: فالدافعات وهم الملائكة الذين يدفعون الشر عن بني آدم، موكلون بذلك. ويقال: الزاجرات يعني: ما زجر الله تعالى في القرآن بقوله: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا [آل عمران: ١٣٠] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: ٢] ويقال: هي التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وما كان من عند الله من كتب.
ويقال: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً يعني: هم الأنبياء، والرسل، والعلماء، يزجرون الناس عن المعاصي، والمناهي، والمناكر فَالتَّالِياتِ ذِكْراً يعني: الملائكة وهو جبريل يتلو القرآن على الأنبياء. ويقال: هم المؤمنون الذين يقرءون القرآن. ويقال: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً قال: هم الصبيان يتلون في الكتاب من الغدوة إلى العشية. كان الله تعالى يحول العذاب عن الخلق، ما دامت تصعد هذه الأربعة إلى السماء. أولها أذان المؤذنين، والثاني تكبير المجاهدين، والثالث تلبية الملبين، والرابع صوت الصبيان في الكتاب. وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود-
ربكم، وخالقكم، ورازقكم، لواحد. رَبُّ السَّماواتِ يعني: الذي خلق السموات وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من خلق وَرَبُّ الْمَشارِقِ يعني: مشرق كل يوم. وقال في آية أخرى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) [الرحمن: ١٧] أي: مشرق الشتاء، ومشرق الصيف. وقال في هذه السورة رَبُّ الْمَشارِقِ أي: مشرق كل يوم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦ الى ١٨]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨)
ثم قال إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا يعني: الأدنى. وإنما سميت الدنيا لأنها أقرب إلى الأرض بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ أي: بضوء الكواكب. قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص بِزِينَةٍ بالتنوين الْكَواكِبِ بالكسر بغير تنوين، بكسر الباء. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بِزِينَةٍ بالتنوين الْكَواكِبِ بالنصب، والباقون بِزِينَةٍ بالكسر بغير تنوين الْكَواكِبِ بكسر الباء.
فمن قرأ بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بالكسر جعل الكواكب بدلاً من الزينة. والمعنى: إنّا زينا السماء الدنيا بالكواكب. ومن قرأ بالنصب، أقام الزينة مقام التزيين. فكأنه قال: إنا زينا السماء الدنيا بتزيننا الكواكب، فيكون الكواكب على معنى التفسير. ومن قرأ بغير تنوين، فهو على إضافة الزينة إلى الكواكب. وروي عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه قال: الكواكب معلقة بالسماء، كالقناديل. ويقال: إنها مركبة عليها، كما تكون في الصناديق والأبواب.
ثم قال: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ يعني: حفظ الله تعالى السماء بالكواكب من كل شيطان متمرد. يعني: شديد يقال: مرد يمرد إذا اشتد.
ثم قال: لاَ يَسَّمَّعُونَ قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية حفص: لاَ
بنصب السين والتشديد. والباقون: يَسْمَعُونَ بنصب الياء، وجزم السين، مع التخفيف. فمن قرأ: بجزم السين فهو بمعنى يسمعون. ومن قرأ بالتشديد فأصله يتسمعون، فأدغمت التاء في السين، وشددت. يعني: لكيلا يستمعون إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى يعني: إلى الكتبة وَيُقْذَفُونَ يعني: يرمون مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً يعني: طرداً من كل ناحية من السماء، وكانوا من قبل يستمعون إلى كلام الملائكة- عليهم السلام- قال: حدّثنا الخليل بن أحمد. قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم. قال: حدّثنا عبد الرزاق. قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن علي بن الحسن، عن ابن عباس. قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم جَالِسٌ في نَفَرٍ من أصحابه، إذ رمي بنجم فاستنار فقال الرسول صلّى الله عليه وسلم: «مَا كُنْتُمْ تَقَولُونَ لِمِثْلِ هذا فِي الجَاهِلِيَّةِ» ؟
قالوا: يموت عظيم، أو يولد عظيم فقال- عليه السلام-: «إنَّهُ لا يُرْمَى لِمَوْتِ أحَدٍ، وَلا لِحيَاتِهِ ولكن الله عَزَّ وَجَلَّ إِذا قَضَى أمْراً يُسَبِّحُهُ حَمْلَةُ الْعَرْشِ، وَأَهْل السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. يَقُولُ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيَخْبِرُونَهُمْ فَيَسْتَخْبِرَ أهْلَ كُلِّ سَمَاءٍ أهْلَ السَّمَاءِ الأُخْرَى، حَتَّى يَنْتَهِي الخَبَرُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَتَخطَفُ الجِنُّ، ويرمون فيما جاءوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَهُوَ حَقٌّ. ولكنهم يَزِيدُونَ فِيهِ وَيَكْذِبُونَ» قال معمر: قلت للزهري: أو كان يرمى به في الجاهلية. قال: نعم. قال: قالت الجن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن: ٩] قال: غلظ وشدد أمرها، حيث بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقوله: دُحُوراً يعني طرداً بالشهب فيعيدونهم وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ يعني: دائم. يعني: الشياطين لمن استمع، ولمن لم يستمع في الآخرة. وقال مقاتل: في الآية تقديم إِلَّا مَنْ خَطِفَ من الشياطين الْخَطْفَةَ يختطف يعني: يستمع إلى الملأ الأعلى من كلام الملائكة- عليهم السلام- فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ والشهاب في اللغة كل أبيض ذي نور، والثاقب المضيء، فَاسْتَفْتِهِمْ يعني: سل أهل مكة.
وهذا سؤال تقدير لا سؤال استفهام.
وقال تعالى: أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً بالبعث أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني: ما خلقنا من السموات، وما ذكر من المشارق والمغارب. ويقال: أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً بالبعث. يعني: بعثهم أشد أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني: أم خلقهم في الابتداء.
ثم ذكر خلقهم في الابتداء فقال: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ يعني: خلقنا آدم وهم من نسله من طين حمئة. ويقال: لازِبٍ أي: لاصق. ويقال: لازِبٍ يعني: لازم. إِلاَّ أن الباء تبدل من الميم، لقرب مخرجهما، كما يقال سمد رأسه، وسبد إذا استأصله، واللازب واللاصق واحد.
ثم قال: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ قرأ حمزة والكسائي: عَجِبْتَ بضم التاء. وقرأ الباقون: بالنصب. فمن قرأ بالنصب، فالمعنى بل عجبت يا محمد من نزول الوحي عليك،
وقد أنكر قوم هذه القراءة، وقالوا: إن الله تعالى لا يعجب من شيء، لأنه علم الأشياء قبل كونها، وإنما يتعجب من سمع أو رأى شيئاً لم يسمعه، ولم يره، ولكن الجواب أن يقال:
العجب من الله عز وجل بخلاف العجب من الآدميين. ويكون على وجه التعجب، ويكون على وجه الإنكار والاستعظام لذلك القول. كما قال في آية أخرى وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد: ٥] وروى الأعمش عن سفيان بن سلمة أن شريحاً كان يقرأ بَلْ عَجِبْتَ بالنصب.
ويقول: إنما يعجب من لا يعلم. وقال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال إبراهيم النخعي: إن شريحاً كان معجباً برأيه، وعبد الله بن مسعود كان أعلم منه، وكان يقرؤها بَلْ عَجِبْتَ بالضم. وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ هكذا بالضم، وهو اختيار أبي عبيدة.
ثم قال: وَيَسْخَرُونَ يعني: يسخرون حين سمعوا وَإِذا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ يعني: إذا وعظوا بالقرآن، لا يتعظون وَإِذا رَأَوْا آيَةً يعني: علامة مثل انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ يعني: يستهزئون، ويسخرون. وقال أهل اللغة سخر واستسخر بمعنى واحد، مثل قرأ واستقر وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: يبين قوله عز وجل: أَإِذا مِتْنا يعني: يقولون إذا متنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ يعني: لمحيون بعد الموت أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ يا محمَّد نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ يعني: صاغرون.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٩ الى ٤٠]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) مَا لَكُمْ لاَ تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨)
قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣)
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨)
وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
ثم ينادي المنادي: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: سوقوا الذين كفروا وَأَزْواجَهُمْ يعني: وأشباههم. ويقال: وقرناءهم، وضرباءهم. ويقال: وأشياعهم، وأعوانهم. ويقال:
وأمثالهم وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: من الشياطين الذين أضلوهم. ويقال: كل معبود، وكل من يطاع في المعصية فَاهْدُوهُمْ يعني: ادعوهم جميعاً. ويقال: اذهبوا بهم، وسوقوهم جميعاً إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ يعني: إلى طريق الجحيم، والجحيم ما عظم من النار. ويقال: إلى وسط الجحيم. فلما انطلق بهم إلى جهنم أرسل الله عز وجل ملكاً يقول:
وَقِفُوهُمْ أي: احبسوهم إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن ترك قول لا إله إلا الله. ويقال: في الآية تقديم. يعني: يقال لهم قفوا قبل ذلك. فحبسوا، أو سئلوا.
ثم يساق بهم إلى الجحيم فيقال لهم: مَا لَكُمْ لاَ تَناصَرُونَ يعني: لم ينصر بعضكم بعضاً، ولا يدفع بعضكم عن بعض كما كنتم تفعلون في الدنيا.
قوله عز وجل: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ أي: خاضعون ذليلون وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يعني: يسأل ويخاصم بعضهم بعضاً القادة والسفلة، والعابد، والمعبود، ومتابعي الشيطان للشيطان. ويقال: يَتَساءَلُونَ يعني: يتلاومون قالُوا يعني: السفلة للرؤساء إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ يعني: من قبل الحق أي: الدين فزينتم لنا ضلالتنا.
وروي عن الفراء أنه قال: الْيَمِينِ في اللغة القوة والقدرة. ومعناه إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا بأقوى الحيل، وكنتم تزينون علينا أعمالنا. وقال الضحاك: تقول السفلة للقادة: إنكم قادرون وظاهرون علينا. ونحن ضعفاء أذلاء في أيديكم. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ عن الحق. يعني: الكفار يقولون: للشيطان. وقال القتبي: إنما يقول هذا:
المشركون لقرنائهم من الشياطين إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ يعني: عن أيماننا لأن إبليس قال: لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف: ١٧] وقال المفسرون:
من أتاه الشيطان من قبل اليمين، أتاه من قبل الدين، وليس عليه الحق. ومن أتاه من قبل الشمال، أتاه من قبل الشهوات، ومن أتاه من بين يديه، أتاه من قبل التكذيب بالقيامة، ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه، وعلى من يخلف بعده، فلم يصل رحماً، ولم يؤد زكاة.
وقال المشركون لقرنائهم: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ في الدنيا من جهة الدين يعني:
أضللتمونا قالُوا لهم قرناؤهم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي: لم تكونوا على حق، فتشبه
ويقال: من ملك فنجبركم عليه بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ يعني: كافرين عاصين فَحَقَّ عَلَيْنا يعني: وجب علينا جميعاً قَوْلُ رَبِّنا وهو السخط. ويقال: قَوْلُ رَبِّنا يوم قال لإبليس لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) [ص: ٨٥] إِنَّا لَذائِقُونَ يعني: العذاب جميعاً في النار.
قوله عز وجل: فَأَغْوَيْناكُمْ يعني: أضللناكم عن الهدى إِنَّا كُنَّا غاوِينَ يعني:
ضالين. يقول الله تعالى: فَإِنَّهُمْ يعني: الكفار والشياطين يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ يعني: شركاء في النار، وفي العذاب يوم القيامة إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ يعني: هكذا نفعل بمن أشرك، فنجمع بينهم وبين الذين أضلّوهم في النار.
ثم أخبر عنهم فقال: إِنَّهُمْ كانُوا يعني: في الدنيا إِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يعني:
قولوا لا إله إلا الله يَسْتَكْبِرُونَ عنها، ولا يقولونها وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا يعني: أنترك عبادة آلهتنا لِشاعِرٍ يعني: لقول شاعر مَجْنُونٍ أي: مغلوب على عقله. يقول الله تعالى:
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ يعني: بالقرآن. ويقال: بأمر التوحيد. ويقال: جاء ببيان الحق وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ الذين قبله. قال مقاتل: يعني: صدق محمد صلّى الله عليه وسلم بالمرسلين الذين قبله. وقال الكلبي: وبتصديق المرسلين الذين قبله. ومعناهما واحد. ويقال: معناه جاء محمد- عليه السلام- بموافقة المرسلين- عليهم السلام- إِنَّكُمْ يعني: العابد والمعبود لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ يعني: لتصيبوا العذاب الوجيع الدائم وَما تُجْزَوْنَ في الآخرة إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني: إلا بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي والشرك.
ثم استثنى المؤمنين فقال عز وجل: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني: الموحدين ويقال: إِلَّا بمعنى لكن عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٤١ الى ٥٦]
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥)
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لاَ فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠)
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥)
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦)
ثم بيّن الرزق فقال: فَواكِهُ يعني: ألوان الفاكهة وَهُمْ مُكْرَمُونَ بالثواب. ويقال:
منعمون فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ في الزيارة يُطافُ عَلَيْهِمْ يعني: يطوف عليهم خدمهم بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ خمراً جارياً من معين. يعني: الطاهر الجاري بَيْضاءَ.
يعني: بخمرة توجب اللذة بَيْضاءَ لَذَّةٍ يعني: شهوة لِلشَّارِبِينَ لاَ فِيها غَوْلٌ يعني: ليس فيها إثم. ويقال: لا غائلة لها، ولا يوجع منها الرأس. وروى شريك عن سالم قال: لاَ فِيها غَوْلٌ أي: لا مكروه فيها، ولا أذى. وقال القتبي: لاَ فِيها غَوْلٌ أي: لا تغتال عقولهم، فتذهب بها. يقال: الخمر غول للحلم، والحرب غول للنفوس، والغول البعد وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قرأ حمزة والكسائي يُنْزَفُونَ بكسر الزَّاي. وقرأ الباقون: بالنصب فمن قرأ بالنصب فمعناه: لا يذهب عقولهم شربها. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف إذا زال عقله. ومن قرأ بالكسر، فله معنيان: أحدهما لا ينفد شرابهم أبداً، والثاني أنهم لا يسكرون.
ثم قال عز وجل: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ يعني: غاضات الأعين عن غير أزواجهن. يعني: قصرن طرفهن على أزواجهن، وقنعن بهم، ولا يبغين بهم بدلاً.
ثم قال: عِينٌ أي: حسان الأعين شدة البياض في شدة السواد. يقال لواحدة العين:
عيناء. يعني: كبيرة العين. ويقال: الحسن العيناء التي سواد عينها أكثر من بياضها.
ثم قال: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ يعني: إنهن أحسن بياضاً من بيض النعم، والعرب تشبه النساء ببيض النعام. يقال: لا يكون لون البياض في شيء أحسن من بيض النعام. وقال قتادة:
البيض التي لم تلوثه الأيدي. ويقال: البيض أراد به القشر الداخل من البيض المكنون قد خبأ، وكنَّ من البرد والحر فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يعني: يسأل بعضهم بعضاً عن حاله في الدنيا.
قوله عز وجل: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ يعني: من أهل الجنة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ وهو الذي بيّن الله تعالى أمرهما في سورة الكهف جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ [الكهف: ٣٢] فكانا أخوين وشريكين، وأنفق أحدهما ماله في أمر الآخرة، واتخذ الآخر لنفسه ضياعاً، وخدماً، واحتاج المؤمن إلى شيء، فجاء إلى أخيه الكافر يسأله، فقال له الكافر ما صنعت بمالك، فأخبره أن قدمه إلى الآخرة، فقال له الكافر: يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ يعني: إنك ممن يصدق بالبعث. وطلب منه أن يدخل في دينه، ولم يقض حاجته، فذلك قوله: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بالبعث بعد الموت.
لَتُرْدِينِ أي: لتهلكني يقال: أرديت فلان أي: أهلكته. والردى: الموت والهلاك. وقال القتبي في قوله: إِنَّا لَمَدِينُونَ أي: مجازون بأعمالنا. يقال: دنته بما عمل أي جازيته.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥٧ الى ٧٠]
وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)
ثم قال عز وجل: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي يعني: لولا ما أنعم الله عليَّ بالإسلام لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في النار ثم أقبل المؤمن على أصحابه في الجنة فقال: يا أهل الجنة أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به النفي. يعني: لا نموت أبداً سوى موتتنا الأولى. وذلك حين يذبح الموت، فيأمنوا من الموت وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ يعني:
لم نكن من المعذبين مثل أهل النار.
قال الله عزّ وجلّ: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني: النجاة الوافرة، فازوا بالجنة، ونجوا من النار لِمِثْلِ هذا يعني: لمثل هذا الثواب، والنعم، والخلود، فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي فليبادر المبادرون. ويقال: فليجتهد المجتهدون. ويقال: فليحتمل المحتملون الأذى، لأنه قد حفّت الجنة بالمكاره أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا يعني: الذي وصفت في الجنة خير ثواباً. ويقال رزقاً. ويقال: منزلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ للكافرين إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ يعني: ذكر الشجرة بلاء للمشركين. قال قتادة: زادتهم تكذيباً، فقالوا: يخبركم محمد أن في النار شجرة، والنار تحرق الشجر. وقال مجاهد: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً قول أبي جهل: إنما الزقوم التمر،
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا يعني: نعيم الجنة، وما فيها من اللذات خَيْرٌ نُزُلًا أي: طعاماً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ لأهل النار.
قوله عز وجل: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ثم وصف الشجرة فقال: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ يعني: في وسط الجحيم طَلْعُها يعني: ثمرتها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ يعني: رؤوس الحيات، قبيح في النظر. ويقال: هو نبت لا يكون شيء من النبات أقبح منه، وهو يشبه الحسك، فيبقى في الحلق. ويقال: هي رؤوس الشياطين بعينها، وذلك أن العرب إذا وصفت الشيء بالقبح، تقول: كأنه شيطان. ثم وصف أكلهم فقال: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها يعني: من ثمرها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ وهو جماعة المالئ. يعني: يملؤون منها البطون. قال: حدّثنا أبو الليث- رحمه الله- قال: حدثنا الفقيه أبو جعفر. قال: حدّثنا محمد بن عقيل. قال: حدّثنا عباس الدوري. قال: حدّثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا الله وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِمُونَ. فَلَوْ أنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قَطَرَتْ فِي الأرْضِ، لأَمَرَّتْ عَلَى أهْلِ الدُّنْيَا مَعِيشَتَهُمْ، فَكيْفَ بِمَنْ هُوَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ مِنْهُ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ غَيْرُهُ».
قوله عز وجل: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ يعني: خلطاً من حميم من ماء حار في جهنم ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ يعني: مصيرهم إلى النار.
ثم بيّن المعنى الذي به يستوجبون العقوبة فقال تعالى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا يعني: وجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ عن الهدى فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ يعني: يسعون في مثل أعمال آبائهم، والإهراع في اللغة المشي بين المشيتين. وقال مجاهد: كهيئة الهرولة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧١ الى ٩٨]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥)
وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠)
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥)
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠)
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)
من الأمم الخالية. ولم يذكر إبليس لأن في الكلام دليلاً عليه، فاكتفى بالإشارة. ومثل هذا كثير في القرآن.
ثم قال عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ يعني: رسلاً ينذرونهم كما أرسلناك إلى قومك، فكذبوهم بالعذاب كما كذبك قومك، فعذبهم الله تعالى في الدنيا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ يعني: آخر أمر من أنذر فلم يؤمن إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني:
الموحدين، المطيعين، فإنهم لم يعذبوا.
قوله عز وجل: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ يعني: دعا نوح ربه على قومه، وهو قوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: ١٠] فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ يعني: نعم المجيب أنا وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ يعني: من الهول الشديد، وهو الغرق.
قوله: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ لأن الذي حمل معه من الناس ثمانون رجلاً وامرأة غرقوا كلهم، ولم يبق إلا ولده سام وحام ويافث قال الفقيه أبو الليث- رحمه الله-: حدثنا أبو جعفر. قال: حدّثنا أبو القاسم الصفار بإسناده عن سمرة بن جندب. قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «سَام أبُو العَرَبِ، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم».
ثم قال تعالى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ يعني: أبقينا عليه ذكراً حسناً في الباقين من الأمم، وهذا قول القتبي: وقال مقاتل: يعني: أثنينا على نوح بعد موته ثناء حسناً.
ثم قال عز وجل: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ يعني: السعادة والبركة على نوح من بين العالمين إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يعني: هكذا نجزي كل من أحسن إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ يعني: المصدقين بالتوحيد ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعني: قومه الكافرين.
قوله عز وجل: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ قال مقاتل: يعني: إبراهيم من شيعة نوح-
قوله عز وجل: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يعني: إبراهيم دعا ربه بقلب سليم. أي:
خالص ويقال: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي: مخلص سليم من الشرك إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ يعني: إيش الذي تعبدون. ويقال: معناه لماذا تعبدون هذه الأوثان؟.
قوله عز وجل: أَإِفْكاً آلِهَةً يعني: أكذباً آلهة دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ عبادتها فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ إذا عبدتم غيره، فما ظنّكُم به إذ لقيتموه؟ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ قال مقاتل:
يعني: في الكواكب. ويقال: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ أي: في أمر النجوم.
ثم تفكر بالعين وبالقلب وذلك أنه رأى كوكباً قد طلع فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ أي: سأسقم.
ويقال: مطعوناً. وهو قول سعيد بن جبير، والضحاك. وقال القتبي: نظر في الحساب لأنه لو نظر إلى الكواكب لقال: نظر نظرة إلى النجوم. وإنما يقال: نظر فيه إذا نظر في الحساب.
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ أي: سأمرض غداً، وكانوا يتطيرون من المريض. فلما سمعوا ذلك منه هربوا، فذلك قوله تعالى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ قال الفقيه أبو الليث- رحمه الله- حدثنا الخليل بن أحمد. قال: حدّثنا خزيمة. قال: حدّثنا عيسى بن إبراهيم. قال: حدّثنا ابن وهب عن جرير بن حازم، عن أيوب السجستاني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمَ قَطُّ إلاَّ ثَلاثَ كَذِباتٍ، ثِنْتَانِ فِي ذَاتِ الله قوله: إِنِّي سَقِيمٌ وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: ٦٣] وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَّةَ، ذلك أنَّهُ قَدِمَ أرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَّةُ، وَكَانَتْ أحْسَنَ النِّسَاءِ فَقَالَ لَهَا: إنَّ هذا الجَبَّارَ إنْ عَلِمَ أنَّكِ امْرَأَةٌ، يَغْلِبنِي عَلَيْكِ. فَإنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أنَّكِ أُخْتِي فِي الإسْلامِ، فإنِّي لا أعْلَمُ فِي الأرْضِ مُسْلِماً غَيْرِي وَغَيْرَكِ. فَلّمَا دَخَلَ الأرْضَ، رَآهَا بَعْضُ أهْلِ الجَبَّارِ، فأتَاهُ. فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ دَخَلَ الْيَوْمَ أرْضَكَ امْرَأَةٌ لا يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ إلاَّ لَكَ؟ فَأَرْسَلَ إلَيْهَا. فَأُتِي بِهَا. فَقَامَ إبْرَاهِيمُ إلَى الصَّلاةِ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أنْ بَسَطَ يَدَهُ إلَيْهَا، فَقُبِضَتْ يَدَهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً. فَقَالَ لَهَا ادْعِي الله أنْ يُطْلِقَ يَدِي، وَلا أضُرُّكِ. فَفَعَلَتْ. فَعَادَ، فَقُبِضَتْ يَدُهُ أشَدَّ مِنَ القَبْضَةِ الأُولَى. فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَفَعَلَتْ. فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أشَدَّ مِنَ القَبْضَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، فَقَالَ لَهَا: ادْعِي الله أنْ يُطْلِقَ يَدِي، وَلَكِ عَلَيَّ ألاَّ أضُرُّكِ، فَفَعَلَتْ، فَأُطْلِقَتْ يَدُهُ. فَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ: إنَّكَ أتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، وَلَمْ تَأْتِنِي بإنْسَانٍ، فَأَخْرِجْهَا مِنْ أرْضِي، وَأعْطَاهَا هَاجَرَ، فَأقْبَلَتْ تَمْشِي حَتَّى جَاءَتْ إلَى إبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا رَآهَا إبْرَاهِيمُ انْصَرَفَ مِنَ الصَّلاةِ، فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ يَعْنِي مَا الخَبَرُ؟ فَقَالَتْ: خَيْراً كُفِيتُ الفَاجِرَ، وأخْدَمَنِي خَادِماً». فقال أبو هريرة: فتلك أمُّكم يا بني ماء السماء. يعني: نسل
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ يعني: أعرضوا عنه ذاهبين إلى عيدهم.
قوله عز وجل: فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ يعني: مال إلى أصنامهم. ويقال: دخل بيوت الأصنام، فرأى بين أيديهم طعاماً فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ فلم يجيبوه، فقال: مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ يعني: أقبل يضربهم بيمينه. ويقال: يضربهم باليمين التي حلف، وهو قوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: ٥٧] ويقال: بِالْيَمِينِ. يعني: يضربهم بالقوة.
واليمين كناية عنها، لأن القوة في اليمين فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ يعني: يسرعون قالَ إبراهيم أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ بأيديكم من الأصنام. قرأ حمزة: يُزِفون بضم الياء. وقرأ الباقون:
بالنصب. فمن قرأ بالنصب فأصله من زفيف النعام، وهو ابتداء عدوه. ومن قرأ بالضم أي:
يصيروا إلى الزفيف، ويدخلون في الزفيف، وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحد، وهو الإسراع في المشي.
ثم قال عز وجل: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ يعني: وما تنحتون به بأيديكم من الأصنام. ومعناه: تتركون عبادة من خلقكم، وخلق ما تعملون، وتعبدون غيره قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً يعني: أتوناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ يعني: في النار العظيمة فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً يعني:
أرادوا حرقه وقتله فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ يعني: الآخرين. ويقال: الأذلين. وعلاهم إبراهيم فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى أهلكهم الله عز وجل.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩٩ الى ١١٣]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨)
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
إلى أرض ربي. وقال مقاتل: يعني: من بابل إلى بيت المقدس. ويقال: من أرض حران إلى بيت المقدس، سَيَهْدِينِ يعني: يحفظني ويقال: إني مهاجر إلى ربي يعني: مقبل إلى طاعة ربي سَيَهْدِينِ أي سيرشدني ربي. ويقال: سيعينني.
قوله عز وجل: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ يعني: يا رب أعطني ولداً صالحاً من المسلمين فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ يعني: حليم في صغره، عليم في كبره.
قوله عز وجل: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ إلى الحج، ويقال: إلى الجبل قالَ إبراهيم- عليه السلام- لابنه يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ قال مقاتل: هو إسحاق. وقال الكلبي: هو إسماعيل. وروى معمر عن الزهري قال في قوله: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قال ابن عباس: هو إسماعيل. وكان ذلك بمنًى. وقال كعب: هو إسحاق. وكان ذلك ببيت المقدس. وقال مجاهد، وابن عمر، ومحمد بن كعب القرظي هو إسماعيل. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: هو إسحاق. وهكذا روي عن ابن عباس، وهكذا قال وعكرمة، وقتادة، وأبو طالب أنه قال: هو إسحاق. وهكذا روي عن ابن عباس، وهكذا قال وعكرمة، وقتادة، وأبو هريرة، وعبد الله بن سلام- رضي الله عنهم- وهكذا قال أهل الكتابين كلهم، والذي قال: هو إسماعيل احتج بالكتاب والخبر، أما الكتاب فهو أنه لما ذكر قصة الذبح قال على أثر ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا وأما الخبر فما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال «أنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْن» يعني: أباه عبد الله بن عبد المطلب، وإسماعيل بن إبراهيم. وأما الذي يقول: هو إسحاق يحتج بما روي في الخبر، أنه ذكر نسبة يوسف، فقال: كان يوسف أشرف نسباً.
يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله قد اختلفوا فيه هذا الاختلاف، والله أعلم بالصواب، والظاهر عند العامة هو إسحاق. فذلك قوله: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فظاهر اللفظ أنه رأى في المنام أنه يذبحه، ولكن معناه:
إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أني قد أمرت بذبحك بدليل ما قال في سياق الآية: يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ وروي في الخبر: «أنَّهُ رَأَى فِي المَنَامِ أنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تَذْبَحَ وَلَدَكَ فَاسْتَيْقَظَ خَائِفاً، وَقَالَ: أَعُوذُ بِالله من الشيطان الرجيم. ثم رَأَى فِي المَنَامِ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مِثْلَ ذلك، فَاسْتَيْقَظَ وَضَمَّ ابْنَهُ إلى نَفْسِهِ، وَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ، فَانقادَ لأمْرِ الله تَعَالَى، وَقَالَ لامْرَأتِهِ سَارَّة إنِّي أرِيدُ أنْ أَخْرُجَ إلى طَاعَةِ رَبِّي، فَابْعَثِي ابْنِي مَعِي، فَجَهَّزَتْهُ، وَبَعَثَتْهُ مَعَهُ» قال كعب الأحبار: قال الشيطان: إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبداً. فلما خرج إبراهيم بابنه ليذبحه، فذهب الشيطان، ودخل على سارة. فقال: أين ذهب إبراهيم بابنك؟ فقالت: غدا به لبعض حاجته. قال: إنه لم يغد به لحاجته، ولكنه إنما ذهب به ليذبحه، فقالت: ولم يذبحه؟ قال: يزعم أن ربه أمره بذلك. فقالت: قد أحسن أن يطيع ربه، فخرج في أثرهما، فقال للغلام: أين يذهب بك أبوك؟ قال لبعض حاجته. قال: فإنه لا يذهب بك لحاجته، ولكنه
قال: فإنك لم تغد به لحاجة، وإنما غدوت به لتذبحه. قال ولم أذبحه؟ قال: تزعم أن الله تعالى أمرك بذلك. قال: فو الله لئن كان الله أمرني بذلك لأفعلن. فتركه، وأيس من أن يطاع.
قوله عز وجل: فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فأوحى الله تعالى إلى إسحاق أن ادعو، فإن لك دعوة مستجابة. فقال إسحاق: اللَّهم إني أدعوك أن تستجيب لي في أيما عبد من الأولين والآخرين لقيك لا يشرك بك شيئاً أن تدخله الجنة. وقال مجاهد: إن إبراهيم- عليه السلام- لما أراد أن يذبح ابنه بالسكين، قال ابنه: يا أبت خذ بناصيتي، واجلس بين كتفي، حتى لا أوذيك إذا أصابني حدّ السكين، ولا تذبحني وأنت تنظر في وجهي، عسى أن ترحمني، واجعل وجهي إلى الأرض، ففعل إبراهيم. فلما أمرّ السكينة على حلقه، انقلبت.
فقال: يا أبت ما لك؟ قال: قد انقلبت السكين. قال: فاطعن بها طعناً. قال: فطعن، فانثنت.
قال: فعرف الله عز وجل الصدق منه، ففداه بذبح عظيم، وقال: هو إسحاق. وروى أسباط عن السدي قال: كان من شأن إسحاق حين أراد أبوه أن يذبحه. أنه ركب مع أبيه في حاجة، فأعجبه شبابه، وحسن هيئته، وكان إبراهيم حين بشر بإسحاق قبل أن يولد له، قال: هو إذاً لله ذبيح. فقيل لإبراهيم في منامه: قد نذرت لله نذراً فاوفيه، فلما أصبح قال: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يقول: قد أمرت بذبحك قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ قال: فانطلق معي، وأخبر أمك أنك تنطلق إلى أخوالك، وأخذ إبراهيم معه حبلاً، ومدية، يعني: السكين.
فقال له: يا أبتاه حدها فإنه أهون للموت. فانطلق به، حتى أتى به جبلاً من جبال الشام.
فأضجعه في أصرة، وربط يديه ورجليه، فقال له إسحاق: يا أبتاه شدّ رباطي، لكي لا أضطرب، فيصيب الدم ثيابك، فتراه سارة، فتحزن، فبكى إبراهيم بكاء شديداً. وأخذ الشفرة، فوضعها على حلقه، وضرب الله تعالى على حلقه صفيحة نحاس، فجعل يحز، فلا تصنع شيئاً. فلما رأى إبراهيم ذلك، قلّبه على وجهه، فضرب الله تعالى على قفاه صفيحة نحاس، وبكيا حتى ابتلت الأرض من دموعهما. فجعل يحز، فلا تقطع شيئاً فنودي: أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ودونك هذا الكبش فهو فداه. فالتفت فإذا هو بكبش أبيض، أملح، ينحط من الجبل، وقد كان رعي في الجنة أربعين خريفاً، فخلّى عن ابنه، وأخذ الكبش فذبحه. وقال وهب بن منبه: لما قال لإسحاق: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ثم قال: يا أبت إني أوصيك بثلاثة أشياء. قال: وكان إسحاق في ذلك اليوم ابن سبع سنين. أحدهما: أن تربط يدي لكيلا أضطرب فأؤذيك، والثاني
ماذا ترى من صبرك. ويقال: معناه ماذا تشير. وقرأ الباقون: بالنصب، وهو من الرأي. يعني:
ماذا ترى من صبرك. ويقال: معناه ماذا تشير فيما أمر الله به. ويقال: هو من المشورة والرأي قال أبو عبيد: بالنصب تقرأ لأن هذا في موضع المشورة والرأي، والآخر يستعمل في رؤية العين قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على الذبح.
قوله عز وجل: فَلَمَّا أَسْلَما يعني: اتفقا على أمر الله تعالى. قال قتادة: أسلم هذا نفسه لله تعالى. وأسلم هذا ابنه لله تعالى. وروي عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه قرأ:
فلما سلما يعني: رضيا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ يعني: صرعه على جبينه. أي: على وجهه. وقال القتبي وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ يعني: جعل إحدى جبينيه على الأرض، وهما جبينان، والجبهة بينهما وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا وقال القتبي: الواو زيادة. ومعناه: فلما أسلما وتله للجبين ناديناه وهذا كما قال امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحَيِّ وانْتَحَى | بِنَا بَطْنُ خَبْت ذي حِقافٍ عَقَنْقَلِ |
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا يعني: أوفيت الوعد، وائتمرت ما أمرت لقول الله تعالى: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ كما فعلت يا إبراهيم.
قوله: إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ يعني: الاختبار البيّن. ثم قال: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ يعني: بكبش عظيم. والذبح بكسر الذال اسم لما يذبح، وبالنصب مصدر. وروي عن ابن عباس أنه قال: حدثني من رأى قرني الكبش، معلقين في الكعبة، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عن إسماعيل- عليهما السلام-.
ثم قال: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ قال: الثناء الحسن سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ يعني:
سلام الله على إبراهيم. ويقال: هذا موصول بالأول. يعني: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ يعني: أثنينا عليه السلام في الآخرين.
قوله: كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ يعني: المصدقين، المخلصين.
ثم قال عز وجل: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أي: على إبراهيم وعلى إسحاق، وبركته النماء، والزيادة في الأموال، والأولاد، فكان من صلبه ذرية لا تحصى وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ مثل موسى، وهارون، وداود، وسليمان، وعيسى- عليهم السلام- ومؤمنو أهل الكتاب وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ يعني: الذين كَفَرُواْ بآيات الله عزَّ وجلَّ. وروي عن ابن عباس أنه قال: قد رعي الكبش في الجنة أربعين خريفاً. وقال بعضهم: هي الشاة التي تقرب بها هابيل ابن آدم- عليهما السلام- فتقبل منه قربانه، ورفع إلى السماء حياً، ثم جعل بدلاً عن ذبح إسماعيل أو إسحاق. ويقال: هي الشاة التي خلقها الله تعالى لأجله. وقال بعضهم: إنها وعلة من البر، يعني: بقرة وحش من البر جبلية.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٤ الى ١٤٨]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣)
إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)
قوله عز وجل: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ يعني: نبي من أنبياء بني إسرائيل- عليهم السلام- وقال بعضهم: إنه إدريس. وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ وَأَنْ إِدْرِيسَ لَمِنَ المرسلين، سلام على إِدْرِيسَ. وقال بعضهم: إلياس هو الخضر- عليه السلام-. وقال بعضهم: إلياس غير الخضر. وإلياس صاحب البراري. والخضر صاحب الجزائر، ويجتمعان في كل يوم عرفة بعرفات ويقال: هو من سبط يوشع بن نون، بعثه الله تعالى إلى أهل بعلبك، فكذبوه، فأهلكهم الله تعالى بالقحط. وقال الله عز وجل لإلياس: سلني أعطك. قال: ترفعني إليك. فرفعه الله تعالى إليه، وجعله أرضياً، سماوياً، إنسياً، ملكياً، يطير مع الملائكة، فذلك قوله تعالى: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الأمر. يعني: اتقوا الله تعالى أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ ربا. روى عكرمة عن ابن عباس قال: البعل الصنم. وقال مجاهد: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ رباً. وروى جبير عن الضحاك قال: مرّ رجل وهو يقول: من يعرف بعل البقرة. فقال رجل أنا بعلها. فقال له ابن عباس إنك زوج البقرة. فقال الرجل: يا ابن عباس أما سمعت قول الله تعالى يقول: أَتَدْعُونَ بَعْلًا يعني: رباً وأنا ربها ويقال: البعل كان اسم ذلك الصنم خاصة الذي كان لهم. ويقال: كان صنماً من ذهب، فقال لهم:
أَتَدْعُونَ بَعْلًا أي الصنم وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ الذي خلقكم يعني: تتركون عبادة الله اللَّهَ رَبَّكُمْ قرأ حمزة. والكسائي، وعاصم، في رواية حفص اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ كلها بالنصب. وقرأ الباقون كلها بالضم. فمن قرأ: بالنصب. يرده إلى قوله: وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ على صفة أحسن الخالقين. ومن قرأ بالضم، فهو على معنى الاستئناف. فكأنه قال: هو الله ربكم ورب آبائكم الأولين.
ثم قال: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وقد ذكرناه. قوله عز وجل: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
قوله: إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
وقد ذكرناه.
ثم قال عز وجل: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
يعني: إنكم يا أهل مكة لتمرون على قرياتهم، إذا سافرتم بالليل والنهار، فذلك قوله: وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
يعني: من جملة المرسلين إِذْ أَبَقَ
يعني: إذ فرّ. ويقال: إذ هرب. ويقال:
خرج إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
يعني: المُوقد من الناس، والدواب. ويقال: المجهز الذي قد فرغ من جهازه فَساهَمَ
يعني: اقترعوا وقد ذكرت قصته في سورة الأنبياء فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
يعني: من المقروعين والمدحض في اللغة هو المغلوب في الحجة، وأصله من دحض الرجل إذ ذلّ من مكانه.
قوله: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ يعني: ابتلعه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ قال أهل اللغة: المليم الذي استوجب اللوم، سواء لأمره، أو لا. والملوم الذي يلام، سواء استوجب اللوم أو لا.
ويقال: وهو ملوم يعني: يلوم نفسه فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قال مقاتل والكلبي: لولا أنه كان من المصلين قبل ذلك. ويقال: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ في بطن الحوت لَلَبِثَ أي: لمكث فِي بَطْنِهِ ولكان بطنه قبره إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعني: إلى يوم القيامة.
قوله عز وجل: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ يعني: نبذه الحوت على ساحل البحر. ويقال:
بالفضاء على ظاهر الأرض. وقال أهل اللغة: العراء هو المكان الخاليّ من البناء، والشجر، والنبات. فكأنه من عرى الشيء وَهُوَ سَقِيمٌ يعني: مريض. وذكر في الخبر أنه لم يبقَ له لحم، ولا ظفر، ولا شعر، فألقاه على الأرض كهيئة الطفل لا قوة له، وقد كان مكث في بطن الحوت أربعين يوماً.
ثم قال: وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ قال مقاتل: يعني: من قرع. وهكذا قال
أبقيناهم إلى منتهى آجالهم. فخرج يونس- عليه السلام-، فمر بجانب مدينة نينوى، فرأى هناك غلاماً يرعى، فقال: من أنت يا غلام؟ فقال: من قوم يونس. فقال: فإذا رجعت إليهم فأخبرهم بأنك قد رأيت يونس. فقال الغلام: إنه من يحدث، ولم تكن له بينة قتلوه. فقال له يونس: تشهد لك هذه البقعة، وهذه الشجرة. فدخل، وقال للملك: إني رأيت يونس- عليه السلام- يقرئك السلام، فلم يصدقوه، حتى خرجوا. فشهدت له الشجرة، والبقعة. قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: فأخذ الملك بيد الغلام، وقال: أنت أحق بالملك مني.
فأقام الغلام أميرهم أربعين سنة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٧]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧)
ثم قال عز وجل: فَاسْتَفْتِهِمْ يعني: سل أهل مكة أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ قال مقاتل: وذلك أن جنساً من الملائكة، يقال لهم: الجن منهم إبليس. قال بعض الكفار: إن الله عز وجل اتخذتهم بناتاً لنفسه، فقال لهم أبو بكر- رضي الله عنه-: فمن أمهم؟ فقالوا: سروات الجن.
فذلك قوله: أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ يعني: يختارون له البنات، ولأنفسهم البنين.
ثم قال: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ يعني: كانوا شاهدين حاضرين حين خلقهم بناتاً أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ يعني: من كذبهم لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قلوبهم.
أصطفى البنات على البنين. وقرأ الباقون: لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى بإثبات الألف على معنى الاستفهام. فلفظه لفظ الاستفهام، والمراد به الزجر.
ثم قال عز وجل: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ يعني: كيف تقضون بالحق أَفَلا تَذَكَّرُونَ أنه لا يختار البنات على البنين أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ يعني: ألكم حجة. ويقال: ألكم عذر بيّن في كتاب الله، أنزل الله إليكم بأن الملائكة بناته فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
يعني: أي بعذركم وحجتكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
في مقالتكم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٥٨ الى ١٧٠]
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢)
إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧)
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
ثم قال عز وجل: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً يعني: وصفوا بين الرب، وبين الملائكة نسباً حين زعموا أنهم بناته. ويقال: جعلوا بينه وبين إبليس قرابة. وروى جبير عن الضحاك قال: قالت قريش: إن إبليس أخو الرحمن. وقال عكرمة: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً قالوا: الملائكة بنات الله، وجعلوهم من الجن. وهكذا قال القتبي.
ثم قال: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ قال مقاتل والكلبي: يعني: علمت الملائكة الذين قالوا إنهم البنات إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أن من قال: إنهم بناته لمحضرون في النار. ويقال: لو علمت الملائكة أنهم لو قالوا بذلك، أدخلوا النار ثم قال عز وجل:
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ يعني: تنزيهاً لله عما يصف الكفار. ثم استثنى على معنى التقديم والتأخير، يعني: فقال إنهم لمحضرون إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني: الموحدين.
فإنهم لا يقولون ذلك.
مصلى معروفاً في السماء، يصلي فيه ويعبد الله تعالى فيه وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ يعني: صفوف الملائكة في السموات. وروي عن مسروق، عن ابن مسعود قال: إن في السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك ساجد. وروي: أو قدماه. وروي عن مجاهد عن أبي ذر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَها أنْ تَئِطَّ ما فيها موضع شبر إلاَّ وَفِيهِ جَبْهَةُ مَلَك سَاجِد». ويقال: إن جبريل- عليه السلام- جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال له: أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [المزمل: ٢٠] وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ في السموات، يعبد الله عز وجل فيه وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ يعني: المصلين وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا يعني: إن أهل مكة كانوا يقولون: لو أتانا بكتاب مثل اليهود والنصارى، لكنا نؤمن، فذلك قوله عز وجل: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني: لو جاءنا رسول لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني: الموحدين. فلما جاءهم محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم كفروا به. ويقال: يعني: بالقرآن فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يعني: يعرفون في الآخرة، وهذا وعيد لهم. ويقال في الدنيا.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧١ الى ١٨٢]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
قوله عز وجل: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا يعني: قد مضت كلمتنا بالنصرة لعبادنا الْمُرْسَلِينَ يعني: الأنبياء- عليهم السلام- وهو قوله عز وجل: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: ٢١] إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ في الدنيا على أعدائهم إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
يعني: المؤمنون أهل ديننا. ويقال: رسلنا لهم الغالبون في الدنيا بالغلبة، والحجة في الآخرة فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يعني: فأعرض عنهم إلى نزول العذاب، وكان ذلك قبل أن يؤمر
بقربهم وحضرتهم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ يعني: بئس الصباح صباح من أنذر بالعذاب.
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه لما نزل بقرب خيبر قال: «هَلَكَت خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرينَ» يعني: من أنذرتهم فلم يؤمنوا.
قوله عز وجل: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ وتكرار الكلام للتأكيد، والمبالغة في الحجة.
ثم نزّه نفسه عما قالت الكفار، فقال عز وجل: سُبْحانَ رَبِّكَ يا محمد رَبِّ الْعِزَّةِ والقدرة عَمَّا يَصِفُونَ يعني: عما يقولون وقرئ في الشاذ رَبِّ الْعِزَّةِ ويكون نصباً على المدح، وفي الشاذ قرئ (رَبُّ العِزَّة) بالرفع على معنى هو رب العزة. وقراءة العامة: بالكسر على معنى النعت.
ثم قال عز وجل: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ بتبليغ الرسالة. ففي الآية دليل وتنبيه للمؤمنين بالتسليم على جميع الرسل- عليهم الصلاة والسلام-. ثم قال: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاك الكافرين الذين لم يوحدوا ربهم. ويقال: حمد الرب نفسه ليكون دليلاً لعباده، ليحمدوه سبحانه وتعالى الحمد لله رب العالمين.