تفسير سورة الصافات

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

معها إلا جبريل والحفظة تسمى المفردة، وقد ختمت سورتا المزمل والأحزاب بما ختمت به هذه السورة فقط، هذا والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الصافات عدد ٦- ٥٦- ٣٧
نزلت بمكة بعد الأنعام، وهي مئة واثنتان وثمانون آية، وثمنمئة وستون كلمة، وثلاثة آلاف وستة وعشرون حرفا، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مثلها في عدد الآي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «وَالصَّافَّاتِ» الملائكة المصطفين لعظمة ربهم والخيل المصطفة بالمجاهدين لطاعته، والحيتان الصافة بالمياه بأمره، والطيور المصطفة بالهواء بقدرته «صَفًّا» ١ باستقامة واحدة أكثر انتظاما من أهل الدنيا الذين تعلموا هذا الاحترام وغيره من الكتب السماوية، أخرج أبو داود عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ألا تصطفوا كما تصطف الملائكة عند ربهم؟ قلنا وكيف تصطف الملائكة عند ربهم؟ قال يتممون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف «فَالزَّاجِراتِ زَجْراً» بالآيات الآمرة بالحق الزاجرة عن الباطل ومعنى الزجر الدفع قال:
زجر أبي عروة السباع إذا اشفق أن يختلطن بالغنم
ويأتي بمعنى السوق الحثيث والحث «فَالتَّالِياتِ ذِكْراً» ٣ لآيات الله تعالى من القرآن العظيم وغيره من الكتب السماوية على الغير، هذا إذا أريد بالتاليات الملائكة الذين وكل إليهم أمر الوحي إلى الأنبياء، وإذا أريد الإطلاق فتعم كل قارئ لذكر الله تعالى والإطلاق أحسن من التقييد، وقد أقسم الله تعالى بهذا الصنف من الملائكة لما لها من المزية على غيرها بما عهد لها به من ذلك وجواب القسم «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» ٤ لا رب لكم غيره وهو «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ» ٥ والمغارب أيضا وهي ثلاثمائة وخمسة وخمسون
437
مشرقا ومغربا، لأن الشمس كل يوم تطلع بحسب ما نراه من أفق وتغيب في أفق أي في طرفه وجهته، وجاء في الآية الأخرى (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) ١٧ من سورة الرحمن باعتبار مشرقي الصيف ومغربي الشتاء، لأنها بحسب ما نراه تبدأ بالطلوع من جهة الأفق وتبقى تتدرج حتى تنتهي لمستقر لها في جهته الأخرى ثم ترجع تدريجيا أيضا حتى تنتهي لمقرها الأول وفي الغروب هكذا دواليك، فبهذا الاعتبار يكون مشرقين ومغربين، وباعتبار الآية المفسرة يكون مشارق ومغارب، وفي قوله تعالى (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الآية ١٨ من سورة الشعراء المارة في ج ١ باعتبار أن المشرق كله جهة واحدة والمغرب كذلك فلا تنافي بين هذه الآيات ووجه الجمع بينها ما ذكرناه، وفي هذه الآية ردّ لما يقوله الكفار بوجود آلهة متعددة.
مطلب انقضاض الشهب واستراق السمع وما يحصل من الانقضاض ومعنى التعجب:
قال تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا» القربى منكم أيها الناس «بِزِينَةٍ» عظيمة بديعة يعجز عن بعضها كل من وما في الكون وهي «الْكَواكِبِ» ٦ المنيرة فيها بأنواعها وأشكالها المتناسبة والمختلفة في اللون والحجم والضياء والسير والتسمية، فهذه الجوزاء وبنات نعش والميزان والثريا، وتلك القلادة والنثرة والبلدة والزهراء، وأولئك الجدي وسهيل والعقرب وغيرها مرصعة على زرقة السماء الواسع العظيم. قال:
فكأن أجرام النجوم لوامعا درر نثرن على بساط أزرق
فلا أبدع ولا أحسن من مرآها جل الإله الذي براها، وللكواكب فوائد جمة غير الزينة والضياء لمعرفة الجهات والمواسم والتأثيرات التي أودعها الله فيها مما عرفه الإنسان ومما لم يعرفه «وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» ٧ عات إذ يرمى منها بشهب محرقة لأجل أن «لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى» من الملائكة الذين يتلقون كلام ربهم المقدس فينقلون ما يسمعونه إلى الكهنة والسحرة فيتكلمون بها إلى الناس ويوهمونهم بأنهم يعلمون الغيب «وَيُقْذَفُونَ» أولئك المتسمعون بشهبها «مِنْ كُلِّ جانِبٍ ٨» من آفاق السماء فيطردونهم طردا ويدحرونهم «دُحُوراً» فيبعدونهم عن مجالس الملائكة، وهذا عذابهم في الدنيا «وَلَهُمْ» في الآخرة «عَذابٌ واصِبٌ ٩» دائم شديد لا ينقطع، قال أبو الأسود الدؤلي:
438
لا أشتري الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا
«إِلَّا مَنْ» أي الشيطان الذي «خَطِفَ الْخَطْفَةَ» منهم بأن أخذ الكلام بسرعة زائدة «فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» بشدة قوته، فإما يحرقه فيهلكه أو يخبله، ومع هذا كله فإنهم يعودون لاستراق السمع الكرة تلو الكرة طمعا في السلامة من إصابة الشهب ورجاء لنيل المقصود، ولولا الأمل ما خاطر أحد في تجارة برا ولا بحرا ولا في زراعة بعلا ولا سقيا ولبطل عمل ابن آدم فضلا عن الشياطين. وهنا معجزة من معجزات القرآن إذ لا يعلم أحد أن النجوم الصغار في سماء محيطنا قبل توسع علم الهيئة غير الله تعالى القائل
«فَاسْتَفْتِهِمْ» يا سيد الخلق «أَهُمْ» قومك المعاندون لنا «أَشَدُّ خَلْقاً» أقوى وأعظم «أَمْ مَنْ خَلَقْنا» من الملائكة والسموات والأرض والكواكب والبحار والجبال بل هم أضعف وأحقر «إِنَّا خَلَقْناهُمْ» أي أصلهم آدم عليه السلام «مِنْ طِينٍ لازِبٍ ١١» لزج يلصق باليد ويجوز أن تطلق هذه الآية على بني آدم باعتبار أنهم خلقوا من التراب لأن مادتهم المكون منها جسمهم حاصلة من التراب ومن كان أصله من تراب فهو في غاية الضعف بالنسبة للمخلوقات الأخر ومن كان كذلك لا يليق به أن يتكبر ويتعظم وينكر قدرتنا على إعادته من رميم خلقه الأول وهو تراب أيضا قال النابغة:
فلا تحسبون الخير لا شر بعده ولا تحسبون الشر ضربة لازب
هذا وليعلم أن الشهاب عبارة عن شعلة نارية تنقضّ من الكوكب لا نفس الكوكب لأن أصغر الكواكب عند الإسلاميين كالجبل العظيم، وعند الفلاسفة أعظم لأن صغار الثوابت عندهم أعظم من الأرض، وهذه لا تنقض ولو انقضت لسمع لها دوي هائل، ولم يسبق أن سمع لها صوت، ولو فرض محالا عدم الصوت لاختلت زينة السماء بنقص ما ينقض منها ولم يكن شيء من ذلك والمشاهدة أكبر برهان، ولا هو ايضا نور الكواكب، لأن النور لا أذى به ولا احتراق، فالأرض مملوءة بنور الشمس ولم ينشأ منها إلا النفع، ولو كان المنقض منها نورا لا نتقص ضوءه وسبب انتقاص الزينة أيضا، ولم يشاهد في شيء منها ذلك أصلا، ولم ينقل إلينا منه شيء منذ نشأة الكون حتى الآن فثبت من هذا أن المنقض
439
شعلة نارية يخلقها الله تبارك وتعالى من قذف شعاع الكواكب عند وصوله إلى محل مخصوص من الجو بما أودعه الله فيه من الخاصية التي لا نعلمها (وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ١٠٢ من هذه السورة) فيشتعل وتأثيرا لأشعة الحرق فيما هو قابل له من الأشعة لا ينكر، ألا ترى أن شعاع الشمس إذا قوبل ببعض المناظر على كيفية مخصوصة أحرق ما هو مقابل له ممّا هو قابل للاحتراق، ولو توسط بين المنظرة وبين قابل الاحتراق إناء بلور مملوء ماء. وعليه فإن الله تعالى يصرف تلك الأشعة المستحيلة نارا والتي تشاهد كحبل أو رمح من نار سريع الحركة إلى الشيطان الذي يسترق السمع فيحرقه، وقد يحدث ذلك ولو لم يوجد ثمة مسترق أيضا، والله على كل شيء قدير. وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية ١٧ من سورة الحجر المارة وفيها ما يرشدك إلى المواضع الأخرى مما يتعلق في هذا البحث فراجعها، قال تعالى «بَلْ عَجِبْتَ» بفتح التاء خطاب لسيد المخاطبين أي عجبت من تكذيبهم لك وإنكارهم رسالتك وجحودهم ما أنزلناه عليك وعظمة منزله على القراءة المشهورة في المصاحف المناسبة لسياق ما قبلها وسياق ما بعدها وقرأ بعضهم بضم التاء على إسناد التعجب إلى الله والتعجب من الله يحمل على تعظيم الشيء المتعجب منه، فإن كان قبيحا ترتب عليه العقاب الشديد، وإن كان حسنا ترتب عليه الرضاء الكثير، وقد يكون منه تعالى على وجه الاستحسان أيضا، فقد جاء في الحديث: عجب ربكم من شاب ليست له صبوة. وفي حديث آخر: عجب ربكم من ألّكم بتشديد اللام وضم الكاف (ومعناه القنوط الشديد ورفع الصوت بالبكاء) وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم. وقال الجنيد: إن الله تعالى لا يتعجب من شيء ولكن وافق رسوله، أما العجب من الناس فيحمل على إنكار الشيء ويكون معناه روعة تعتري الإنسان عند رؤية ما يستعظمه، أي أن الله ورسوله يعجبان من عدم اكتراثهم بذلك «وَ» الحال أنهم «يَسْخَرُونَ ١٢» به وبمنزله ومن أنزل عليه لغاية جهلهم بحقيقة الأمر وكنه ما اشتمل عليه «وَإِذا ذُكِّرُوا» هؤلاء الساخرون «لا يَذْكُرُونَ ١٣» الله ولا يتعظون بما نصب لهم من الآيات والأدلة على وحدانية الله، ولا ينتفعون بتذكيرك لهم، لأن دأبهم عدم الاتعاظ والانتفاع
440
«وَإِذا رَأَوْا آيَةً» باهرة جليلة أظهرها الله على يد رسوله مثل الإخبار بالغيب وإنزال القرآن وانشقاق القمر والإسراء والمعراج وما وقع فيها من الآيات لا يؤمنون بها ولا يكترثون بمنزلها ولا يلتفتون إلى من أنزلت عليه، ولكنهم «يَسْتَسْخِرُونَ ١٤» يستدعي بعضهم بعضا لأجل السخرية والاستهزاء بها «وَقالُوا» فضلا عن ذلك «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ١٥» ظاهر يموه به ويخيل علينا محمد ويرينا ما لم يكن كائنا، ويزعم أنه قرآن وما هو بقرآن، وقالوا أيضا على طريق السّخرية «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ١٦» مرة ثانية كما يخبرنا محمد فنعود أحياء كما كنا قبل الموت كلا لا يكون ذلك البتة «أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ١٧» أيضا يبعثون، يقولون هذا على طريق الاستفهام الإنكاري لاستبعادهم الحياة بعد الموت «قُلْ» يا أكمل الرسل «نَعَمْ» تبعثون «وَأَنْتُمْ داخِرُونَ ١٨» صاغرون وإذا أراد الله ذلك «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ» صيحة «واحِدَةٌ» من السيّد إسرافيل عليه السلام بأمر ربه «فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ ١٩» إلى بعضهم أحياء «وَقالُوا» بعضهم لبعض بعد أن رأوا أنفسهم أحياء في الموقف المهيب (وجاء الماضي موضع المستقبل
لتحققه) وشاهدوا أعمالهم السيئة وعظيم الجزاء الذي سيحل بهم «يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ٢٠» الذي يدين الله به عباده الذي وعدنا به رسله في الدنيا وهو الحياة بعد الموت والعذاب بعد الحساب
«هذا يَوْمُ الْفَصْلِ» بين الناس الذي يظهر فيه المحسن من المسيء «الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ٢١» في الدنيا ولا تصدقون الرسل حين أخبروكم به، وبعد أن اعترفوا وتحقق لهم الهلاك يقول الله جل شأنه لصف من الملائكة «احْشُرُوا» اجمعوا هؤلاء «الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم «وَأَزْواجَهُمْ» سوقوهم معهم من قرناء السوء الذين كانوا على دينهم وأشباههم وأمثالهم فيصنّفون طوائف الزناة والسعاة وشربة الخمر وعبدة الأوثان وغيرهم من الكفرة أصنافا ومن المغامرين وتاركي الصلاة والصوم والحج وغيرهم من عصاة المسلمين أصنافا لأن هذه الآية عامة في كل ظالم من كفرة الأمم كلها وعصاتها «وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ٢٢» في الدنيا من كل شيء «مِنْ دُونِ اللَّهِ» فيدخل في هذه الآية الأموال والأولاد والنساء الذين
441
توغلوا فيهم حتى ألهتهم عن عبادة الله، فكأنهم عبدوها أيضا من دونه، والواو في قوله (وَما) واو المعية أي احشروهم مع معبوديهم «فَاهْدُوهُمْ» دلوهم تقول هديته هدى إذا كان لأمر الدين وهداية إذا كان إلى الطريق كما هنا «إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ٢٣» طريق جهنم لأنه اسم من أسمائها ليحاسبوا هناك قريبا منها بدليل قوله «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ٢٤» عن أعمالهم وإنما كان حساب هذه الطائفة قريبا من جهنم لزيادة عذابهم، إذ لو كان القصد من قوله اهدوهم أدخلوهم جهنم رأسا كما ذكره بعض المفسرين لما أمر بتوقيفهم لأجل السؤال، لأن التوقيف يكون أولا ثم الاستنطاق ثم المحكمة ثم القضاء ثم الحبس وكل بحسب جرمه فتقدر مدة حبس العاصي وتخليد الكافر فيها، ويبرأ البريء، ومن هنا أخذ أهل الدنيا هذه الأحوال، لأن الله تعالى ضرب لهم الأمثال مما كان من جنسها في الآخرة في الكتب القديمة وفي هذا القرآن، وهي معلومة عنده قبل وقوعها، ولهذا سماهم الله تعالى في الآية الآتية مجرمين لأن المجرم من يستحق العقاب لأنه أولا يكون مدعى عليه ثم ظنينا إذا ظهرت عليه أمارة الجرم، ثم متهما إذا تراكمت عليه الأدلة، ثم مجرما إذا تحقق عليه الفعلة، ثم يحكم فيسمى محكوما والتوقيف يكون قبل الاستنطاق إذا كان هناك تحقيقات أولية، وهي صحف الملائكة الحفظة مثلها بلا تشبيه ضبوط الدرك والشرطة، فإنه يوقف بموجبها ثم يجري استنطاقه أحيانا أخرج الترمذي عن أبي بردة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه، وفي رواية وعن شبابه فيم أبلاه. وله عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: ما من داع دعي إلى شيء إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما له لا يفارقه، وإن دعى رجل رجلا، ثم قرأ: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ثم تقول لهم خزنة الجحيم بعد إدخالهم فيها توبيخا وتقريعا «ما لَكُمْ» أي شيء جرى لكم اليوم أيها الكفرة العتاة لم «لا تَناصَرُونَ ٢٥» لبعضكم كما كنتم في الدنيا تتناصرون على الباطل ولا تفعلون بين إخوانكم وقومكم بالحق بل تنتصرون لقريبكم مهما كان مبطلا قبل أن تقفوا على الحقيقة، ثم يقول
442
تعالى قوله ذهب عنهم تناصرهم وحان تخاذلهم، فلا يتعاونون الآن كما كانوا قبلا «بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ٢٦» لأمري خاضعون لحكمي أذلاء منقادون لتنفيذ ما أقضي به عليهم «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ٢٧» فيما بينهم بعد أن انقطع أملهم في معبوديهم ورؤسائهم وتبين لهم عجزهم عن المناصرة وصاروا يتلاومون بينهم «قالُوا» الأتباع لرؤسائهم «إِنَّكُمْ كُنْتُمْ» في الدنيا «تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ ٢٨» من طريق الحلف فتقسمون لنا أن دينكم هو الحق، وتمنعوننا عن اتباع الرسل، وتزيفون لنا ما جاءوا به من عند ربهم حتى أقنعتمونا، فأين الآن يمينكم وأين ما وعدتمونا به؟ وهذا أولى من تأويل اليمين بالقوة والقهر أو بالخير والبركة، أي كنتم تمنعوننا عن الخير وتصدوننا عن الهدى وتضللوننا عن الحق قهرا وقسرا لما لكم علينا من القوة والغلبة، ووصفت اليمين بالقوة لما يقع فيها من البطش، ووصفت بالخير لأنها مشتقة من اليمن أي البركة.
لأنه أنسب بالمقام وما يخطر الذهن أنه بمعنى الجهة لا طائل تحته، وإن كانت جهة اليمين مرجحة على جهة اليسار ومشرفة عليها جاهلية وإسلاما إلا أن الإخلال الذي جاءهم من قبل رؤسائهم سواء كانوا يتكلمون معهم به من جهة يمينهم أو شمالهم فهو على حد سواء وليس مما يوجب أن يعاتب عليه في مثل هذا المقام «قالُوا» الرؤساء مجاوبين أتباعهم: ليس الأمر كما تقولون «بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ٢٩» من الأصل وقد أصررتم على الكفر بالرسل باختياركم وطوعكم «وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» قوة قاهرة كما زعمتم وهذا مما يؤيد التفسير الأول بأن اليمين بمعنى القوة والقهر «بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ ٣٠» فطرة متجاوزين الحد لأنا دعوناكم فتبعتمونا رضا لا كرها
«فَحَقَّ» وجب «عَلَيْنا» نحن وأنتم «قَوْلُ رَبِّنا» وعيده بالعذاب الذي هددنا به رسله في الدنيا ولذلك «إِنَّا لَذائِقُونَ ٣١» وباله الآن لا محالة ثم اعترضوا لهم بقولهم «فَأَغْوَيْناكُمْ» بالدنيا ودعوناكم لمعصية الرسل وطاعتنا في الضلال حقا، والسبب: «إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ٣٢» ضالين وأردناكم لتكونوا مثلنا. قال تعالى «فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ» في الآخرة يكونون «فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ٣٣» كما اشتركوا بالغواية في الدنيا «إِنَّا كَذلِكَ»
مثل هذا الفعل الفظيع «نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ٣٤» وإنما فعلنا بهم ذلك بسبب «إِنَّهُمْ كانُوا» في الدنيا «إِذا قِيلَ لَهُمْ» قولوا «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ٣٥» عنها ويمتنعون من قولها ويأنفون من سماعها عتوا وعنادا «وَيَقُولُونَ» أيضا على طريق الإنكار «أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ ٣٦» يعنون أكرم الخلق على الله وأفضلهم وأعقلهم قاتلهم الله قد جمعوا في هذه الجملة إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة ووصم صاحبها قال تعالى ردا عليهم «بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ» من عندنا ليس كما تزعمون أنه ساحر ومجنون فهو أكمل بشر وقد آمن بالله «وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ٣٧» قبله بما جاءكم به لأنهم كانوا مثله يدعون لنفى الشرك وإثبات التوحيد وقد وصفهم أمثالكم من الأمم السابقة بما وصفتم به رسولنا محمد الصادق الأمين «إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ ٣٨» بتجرؤكم عليه أيها الكفرة «وَما تُجْزَوْنَ» في الآخرة «إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٣٩» في الدنيا لأن الجزاء من جنس العمل ولا يستثنى من العذاب الأخروي «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ٤٠» بكسر اللام وفتحها كما مر في الآية ٨٤ من سورة ص في ج ١ وقبلها مجادلة أهل النار بعضهم مع بعض في الآية ٥٩ بما يشبه هذا فراجعهما
«أُولئِكَ» المخلصون المقبولون عند الله «لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ٤١» لدينا بكرة وعشيا راجع الآية ٦٢ من سورة مريم من ج ١ ثم أبدل فى هذا الرزق قوله «فَواكِهُ» للتلذذ ليس إلا، لأنهم بغنى عن الأكل والشرب، وأن حجتهم محفوظة، لأن الله تكفل بتخليدها في الجنة سالمة منعمة والفاكهة تشمل جميع الثمار رطبها ويابسها ومن الطعام ما يؤكل للتلذذ لا للتقوت «وَهُمْ مُكْرَمُونَ ٤٢» عند بارئهم معظّمون «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ٤٣» «عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ٤٤» بوجوههم إلى بعضهم وهو من آداب المجالسة كما مر في الآية ١٦ من الواقعة في ج ١ «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ» مملوءة من الخمر الذي لم تمسه الأيدي ولم تطأه الأرجل، وقد ذكرنا في الآية ١٨ من سورة الواقعة المذكورة أن لا يقال كأس إلا وهي مملوءة بالشراب وإلا فهي زجاجة أو كوب أو إبريق وهذا الخمر ليس كخمر الدنيا وإنما هو «مِنْ مَعِينٍ» ٤٥ نهر جار أو ماء ظاهر فوق
444
الأرض يعانيه الخلق دون تكلف إلى إمعان النظر فيه ولهذا وصفها بقوله «بَيْضاءَ لَذَّةٍ» عظيمة في شربها «لِلشَّارِبِينَ» ٤٦ منها تكمل فيها لذة الحواس الخمس، وقاتل الله أبا نواس إذ يقول:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
لأنه قصد اشتراك كافة حواسه بالمعصية، ولأن الشارب جهرا يخشى الخجل من الناس فلا يتم به السرور، لأنه لا يكمل إلا بالحرية المطلقة، ولأن الشارب حينما يتناول الكأس يلمسه ويشمه وينظره ويذوقه، فلم تبق إلا حاسة السمع، فإذا قال له خمر عند تقديمه له كملت لذة حواسه كلها اللهم أحرم أولياءك منها في الدنيا ومتعهم بها في الآخرة وألحقنا بهم يا ربنا. وهذه الخمرة «لا فِيها غَوْلٌ» كخمر الدنيا وهو ما يعبر عنه الأطباء بالكحول (اسبيرتو) لأنها إذا خلت منه لا تسكر كما يقولون، ويزعمون أنهم عربوها عن الأوربيين الذين يعبرون عنها بكلمة (الكول) ولا يعلمون أنها عربية في الأصل بحتة، وأن الأجانب أخذوها منّا وأبدلوا الغين بالكاف إذ لا توجد في لغتهم، مطلب ما قاله داود باشا والفرق بين خمر الدنيا والآخرة ونساء أهل الجنة وكلامهم:
ورحم الله داود باشا والي العراق في القرن الثاني عشر هجري حينما سمع أولادا يغنون في الطريق ويقولون:
يا بو زبين حمر وامدكك بإبره كل الشرائع زلق، من يمّنا العبرة
صاح بأعلى صوته الله الله صدقتم يا أولادي بورك فيكم حقا، والله كل الشرائع زلق، لأنها نسخت، وأن من يأخذ بها بعد نسخها لا بد أن تزلق رجله فتؤديه إلى النار لذلك لا عبور إلى الجنة إلا باتباع شريعتنا أيها الأخوان فمن عندنا العبرة لأن شريعتنا توصل إلى الجنة وصار يصفّق طربا لذلك، مع أن الأولاد لا يعرفون هذا المعنى، وانما يعرفونه لما يتصورونه، وهكذا فإن من يسمع الصوت الحسن أو ضرب الدف أو الناي أو غيرها يؤولها على ما في قلبه ويصرفها لمحبوبه وهو رحمه الله من الأولياء فصرف ما سمعه إلى ما هو في قلبه، وله أخبار أخرى سنذكرها
445
فى الآية ٣٤ من سورة المائدة في ج ٣ إن شاء الله هذا ولا يخفى أن كل الخصال الحسنة أخذها عنا الأجانب ويا حسرتا نحن على العكس قلدناهم في المثالب وهم أخذوا عنا المناقب لأنهم يوم كنا ما كانوا شيا وإلا لما دارت رحانا عليهم واستولينا على بلادهم ولما رجعنا الآن القهقرى دارت لهم الكرة علينا وما ذلك إلا لتركنا أمر ديننا وما سنه لنا منقذنا الأعظم وسلفنا الصالح ولا علاج لاسترداد عزنا إلا بالرجوع إلى ديننا الذي فيه شرفنا وفيه قوتنا وبتركه ذلنا وخذلاننا ولا يصلح آخرنا إلا بما صلح به أولنا اللهم أرشدنا إلى طريق الصواب وألهمنا السداد واهدنا إلى الخير واجمع كلمتنا على الحق ووحد صفوفنا بجاهك على نفسك وحرمة أنبيائك وكتبك، وأعد لنا مجدنا ومهابتنا، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
واعلم أن الله تعالى وصف هذه الخمرة بعروها من الغول الذي هو غول العقل إذ يذهب به ولذلك نهى الله عن خمر الدنيا لأنها مملوءة منه فقد تذهب اللب وتوجع البطن وتحرق الحلق وتذيب الأمعاء وتخرش الرئة وتفتت الكبد وتحدث صداعا في الرأس ويعقبها القيء والعربدة والإفساد والسب والشتم وتورث السخرية والاستهزاء والتعيير وأشياء كثيرة لأنها أم الخبائث، وخمرة الآخرة براء من هذا كله ولم يحصل منها إلا السرور والإنشراح ولهذا وصفها الله بقوله عز قوله (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ ٤٧» أي لا تغلبهم على عقولهم فيسكرون منها ويفقدون الوعي، لأن نزف بمعنى فقد وذهب ونزع ونزح، أي أن خمر الدنيا تأخذ بعقول شاربيها، أما هذه فلا، قال الأبيرد اليربوعي:
لعمري لئن أنزفتهم أو حموتم لبئس الندامى كنتم آل ابجرا
وعلى هذا فلا اشتراك بين خمر الدنيا والآخرة إلا بالاسم لأن حقيقة هذه غير حقيقة تلك ويكفي خمر الدنيا سوءا نتن ريحها ودوسها بالأقدام وعصرها بالأيدي الدنسة، وقيل فيها:
بنت كرم تيموها أهلها ثم هانوها بدوس بالقدم
ثم عادوا احكموها فيهموا ويلهم من جور مظلوم حكم
بيد ان خمر الآخرة من معين صاف لم تدنسها الأيدي وتعفسها الأرجل
446
واعلم أن العرب تعرف الغول الذي برأ الله تعالى خمرة الآخرة منه، قديما قال امرؤ القيس:
رب كأس شربت لا غول فيها وسقيت النديم منها مزاجا
وتقدم ما يتعلق في هذا في الآية ١٩ من سورة الواقعة في ج ١ وله صلة في الآية ٢٥ من سورة المطففين الآتية إن شاء الله القائل «وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ» على أزواجهن فقط لأن نساء الجنة لا ينظرن لغير أزواجهن لفرط محبتهن لهم وعدم ميلهن لغيرهم «عِينٌ ٤٨» حسان واسعات الأعين «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ٤٩» مستور عن النظر مصون عن اللمس كانت العرب تشبه مخدرات النساء ببيض النعام لانه يحفظه بريشه عن الغبار والريح حتى يبقى محافظا على لونه ولذلك يصفون المخدرات من النساء به فيقولون بيضة خدر في المرأة التي لم يرها أحد غير محارمها، قال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت في مطويها غير معجل
وكذلك يشبهون النساء بالبيض إذا تناسبت أعضاؤهن لأن البيضة وخاصة بيضة النعام أحسن الأشياء تناسبا وأشدها تقابلا، قال بعض الأدباء:
تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى بهن اختلافا بل أتين على قدر
وإن أحب ألوان النساء عند العرب البيض المشرب خداها بحمرة، الضارب صدغاها وجيدها بصفرة قليلة كبيض النعام فإنه ممزوج بصفار قليل، واعلم أن النعامة تقسم بيضها ثلاثة أقسام ثلثا تقعد عليه لتفرخه وثلثا تدفنه لتقوت به أفراخها عند خروجها من البيض وثلثا تأكله أثناء قعودها على البيض، فسبحان من ألهم كلا ما يصلحه وأحسن كل شيء خلقه وهداه لما به نفعه قال بعض المفسرين أن البيض المكنون هو الجوهر المصون في صدفه وليس هو مرادا هنا، والله أعلم، لنبوّ ظاهر اللفظ عنه، وقدمنا شيئا من هذا أيضا في الآية ٢٣ من سورة الواقعة في ج ١ وله صلة في الآية ٥٦ فما بعدها من سورة الرحمن في ج ٣ قال تعالى «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ٥٠» أثناء الشرب كعادة أهل الدنيا قال الشاعر:
447
ولكن بلا تشبيه لأنك لا تسمع بمجلس شرب منها إلا وتسمع فيه أنواعا من الشقاق والنزاع والضرب والشتم والسخرية وقد يقع فيه قتل وهم يرون ويعلمون ولا ينتهون ولا يعتبرون
«قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ٥١» في الدنيا ينكر البعث وكان «يَقُولُ» لي «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ٥٢» لما يقوله هذا الذي يزعم أنه رسول الله بأنا «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً» فبلينا «أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ٥٣» محاسبون مؤاخذون بما نفعل في هذه الدنيا كلا لا نصدق، وقد جاء في الحديث العاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والجاهل من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ثم التفت هذا المتكلم وخاطب أصحابه «قالَ» رجل من أهل الإيمان لجماعة معه في الجنة «هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ٥٤» معي في النار لأريكم ذلك الرجل الذي كان ينكر الحشر والحساب؟ قالوا بلى «فَاطَّلَعَ» القائل وتابعه رفاقه «فَرَآهُ» لأنه يعرفه دونهم فإذا هو «فِي سَواءِ الْجَحِيمِ ٥٥» وسطها وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة بالنسبة للجوانب المحيطة به ثم طفق يخاطبه «قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ» قاربت وأوشكت يا قريني في الدنيا «لَتُرْدِينِ ٥٦» تهلكني في الآخرة وتوقعني بما وقعت فيه الآن «وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي» الذي ثبتني على الإسلام والإيمان «لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ٥٧» معك في هذه النار التي أنت فيها. ولم ينبه الله تعالى عن هذا القرين ماذا كان يعمل في الدنيا، فإذا حمل على قرينه من الشياطين يكون قوله ذلك من قبيل الوسوسة والإغواء، وان كان رفيقا له أو شريكا من الإنس وأخا كافرا أو عاصيا كما نص الله في سورة الكهف الآية ٣٢ الآتية وهي (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ) فيكون قوله على ظاهره وهو أولى والله أعلم كما سيأتي هناك إن شاء الله. ثم يقول أهل الجنة لسدنتها من الملائكة عند رؤيتهم ذلك النعيم المقيم حرصا على بقائهم فيها وخوفا من حرمانهم منه «أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ٥٨» بعد هذا وهل إنا لا نموت «إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى» التي أحيانا الله بعدها ونعمتنا في هذه النعمة الجليلة «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٥٩» بعدها يقولون هذا على طريق التحدث بالنعمة لأنهم يعلمون أنهم لا يموتون ولا يعذّبون
وأنهم فيها خالدون بإخبار الله تعالى إباهم بواسطة ملائكته أو أنه كان سرورا منهم بدوام النعم لا على طريق الاستفهام، وعلى هذا فإن الملائكة تقول لهم بل أنتم مخلدون فيما أنتم فيه فيقولون جميعا «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ٦٠» الذي لا فوز فوقه ولا سعادة بعده ولا أفضل ولا أجل منه ثم يقولون لبعضهم
«لِمِثْلِ هذا» الذي نحن فيه من الخير «فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ٦١» لا للشهوات الدنيوية الدنيئة الفانية قال:
وما بقيت من اللذات إلا أحاديث الكرام على المدام
إذا شئت أن تحيا حياة هنيئة فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا
لأن زوال النعم عذاب لا يقابله عذاب ولا يعدل الفرح الذي يحصل منه عند وجود النعم شيئا أبدا وهنا انتهى كلام أهل الجنة، قال تعالى «ذلِكَ» المشار إليه من قوله تعالى لهم رزق معلوم إلى هنا «خَيْرٌ نُزُلًا» أيها الناس «أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ٦٢» التي هي نزل أهل النار وهي شجرة مرة خبيثة الطعم يكره أهل النار على أكلها فيزّقمونها على مضض زيادة في تعذيبهم «إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً» كبيرة ومحنة عظيمة وبلية خطيرة «لِلظَّالِمِينَ ٦٣» المتوغلين في الظلم الحريصين على فعله، ثم وصفها الله تعالى فقال «إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ٦٤» في قعرها وأسفل شيء فيها وترفع أغصانها إلى دركات النار وثمرها المعبر عنه بقولها «طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ٦٥» في البشاعة والقباحة، واعلم أنه مما لا شك فيه أن أحدا لم ير الشياطين على صورتهم التي خلقهم الله عليها لأنه خارج عن طوق البشر وكذلك الملائكة إلا أنه استقر في النفوس حسن الملائكة وقبح الشياطين فصاروا يشبهون كل حسن بالملائكة وكل قبح بالشياطين فيقولون للرجل الطيب كأنه ملك وللخبيث كأنه شيطان، قال امرؤ القيس:
أتقتلني والمشرفيّ مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فقد شبه سنان الرمح بأنياب الغول من حيث لم يره وقد شبه الله ثمر تلك الشجرة برءوس الشياطين لأنها في تقدير البشر قبيحة جدا، وهي كذلك في الوهم والخيال ووجه الشبه وجامعه وجود النفرة في كل والكراهية لهما «فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها» رغما عنهم لأنه من جملة العذاب المقدر لهم «فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ٦٦»
قسرا رهبة من الملائكة الموكلين بعذابهم إذ يلجئونهم إلى أكله بالضرب المبرح الذي لا يقاس بضرب أهل الدنيا وناهيك أن هذا من البشر وذاك من الملائكة الغلاظ الشداد «ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ٦٧» ماء شديد الغليان يقطع الأمعاء ومعنى الشوب الخلط والمزج تقول شاب اللبن إذا مزجه بالماء والضمير في عليها يعود للشجره أم تلك الثمرة لأنهم يتناولونها منها «ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ» بعد الأكل من الشجرة والشرب من الحميم لأنهما بمكان آخر عن مقرهم المنوه به بقوله «لَإِلَى الْجَحِيمِ ٦٨» ولذلك جاء العطف بالتّراخي ومن هنا أخذ أهل الدنيا تخصيص محل للأكل من دورهم على حدة وخصّصوا لدوابهم مرعى خارجا عن دورهم، قال تعالى في وصفهم أيضا «إِنَّهُمْ أَلْفَوْا» وجدوا «آباءَهُمْ ضالِّينَ ٦٩» فثبطوهم على ضلالهم «فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ ٧٠» يسرعون ويهرولون بشدة منكبين على عمل آبائهم ولم يصغوا لنصّاحهم ولم يتعظوا بمن سلف من الأمم المعذبين بل قلدوا آباءهم طائعين مختارين، لذلك عذبوا معهم
«وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ» أي كفار مكة ومن حولها «أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ٧١» من الأمم الخالية إذ لم يهتد منهم إلا القليل «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ٧٢» ينذرونهم بأسنا ويخوفونهم عذابنا ويحذرونهم يومنا هذا فلم يمتثلوا ولم يرتدعوا فأهلكناهم بإصرارهم على الكفر «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ٧٣» الدمار والتتبير الذي عمهم «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ٧٤» له والذين استخلصهم لذاته راجع الآية ٤٠ المارة فإن هؤلاء على المعنيين بمعزل عنهم لأنهم في الخيرات رافلون يتمتعون في النعيم «وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ» لتدمير قومه بعد أن أيس من إيمانهم بإعلامنا إياه بذلك وبإنجاء أهله مما ينزل بهم من العذاب فأجبناه وعزتي وجلالي يا حبيبي يا محمد إنا نحن إله الكل «فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ٧٥» لأوليائنا عند حلول الضيق بهم واللام هذه واقعة في جواب القسم المحذوف المقدر كما ذكرناه والمخصوص بالمدح محذوف أيضا وقد قدّرناه كما بيناه في هذه الآية «وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ» كلهم إلا زوجته الكافرة وابنه كنعان المتمنع عن دخول السفينة مع أبيه لإصراره على كفره، ولذلك استثنيناهما من الانجاء بقوله تعالى (إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها
ما أَصابَهُمْ)
الآية ٨١ وبقوله (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) الآية ٦٧ من سورة يونس وهود المارتين «مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ٧٦» وهو الفرق العام الذي أهلكنا به قومه ولا أعظم منه «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ٧٧» إلى آخر الدوران فكل الناس الموجودين على وجه الأرض منهم ولهذا سمي أبا البشر الثاني، وقال من قال ان الطوفان عم الأرض كلها ولم يبق من البشر على سطح البسيطة إلا ذرية نوح عليه السلام، وان المراد والله أعلم بالباقين على هذا، هم أهل السفينة، إذ لم يثبت بصورة قطعية أن الطوفان عم على الأرض كلها لا سيما وأنه عليه السلام لم يرسل أولا إلى أهل الأرض كافة ولم يثبت خبر وصول دعوته وهو في جزيرة العرب جزيرة ابن عمر إلى الصين وغيرها من أقطار الأرض ونص الآية لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه في السفينة وأولاده الثلاثة سام أبو العرب وفارس والروم ويافث أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج وحام أبو القبط والسودان والحبشة أما كنعان الذي غرق مع قومه فلم يثبت له نسل وقد وردت أحاديث في أولاده المذكورين أخرجها الترمذي وابن مسعود واحمد والطبراني وابن المنذر وأبو يعلى وابن أبي حاتم عن سمرة بن جندب وابن مردويه عن أبي هريرة والخطيب في تالي التلخيص والزارعة أيضا، وقدمنا ما يتعلق بها في الآية ٧٣ من سورة يونس والاية ٤٤ من سورة هود المارتين «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ٧٨» ثناء دائما وهو قولنا «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ٧٩» فهو يتردد على ألسنة الأنبياء والأمم في زمنه إلى قيام الساعة «إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا الجزء الحسن «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ٨٠» ونكرمهم بمثل هذه الكرامة
«إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ٨١» المستحقين للثناء الدائم المستمر ولذلك أجريناه عليه «ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ٨٢» كفار قومه وإنه وزوجته المذكورين إذ حل عليهم العذاب راجع تفصيل القصة في الآية ٤٤ فما بعدها من سورة هود المارة «إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ٨٢» لأنه نهج نهجه وسار سيره وتبع دينه وشيعة الرجل أتباعه المقتفون أثره، قالوا وكان بينهما الفان وستمئة وأربعون سنة، ولم يكن بينهما نبي إلا هودا وصالحا، وأرى أن هذا وما قدمناه من نسل
451
أولاد نوح لا يجوز القطع به ولا إنكاره، بل نكل فيه العلم إلى العليم الواحد إذ لا طائل تحته ولا يتعلق فيه حكم ولا حد فمثله كمثل بقية الأخبار والقصص والأمثال، إذ لا آية تنص على ذلك ولا حديثا صحيحا يستند إليه، لهذا فالأحسن في مثله أن لا يصدق بصورة قطعية ولا يكذب تكذيبا محضا، هذا ومن قال إن ضمير شيعته يعود إلى سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم لا مستند له وليس بسديد لأن القاعدة وجوب عود الضمير إلى أقرب مذكور ولا أقرب من نوح ولأن لفظ شيعة لا يقال للمتأخر على المتقدم قال الكميت الأصيفد بن يزيد:
ومالي إلا آل أحمد شيعة ومالي إلا مذهب الحق مذهب
ومعلوم أن آل محمد ومذهب الحق متقدمان عليه لا متأخران، ولم يأت ذكر محمد صلّى الله عليه وسلم في هذه الآيات فلا محل للقول بذلك، قال تعالى في وصف إبراهيم عليه السلام مذكرا رسوله محمد به فكأنه قال واذكر لقومك «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ٨٤» من الشك في الوحدانية والريب في البعث والمرية في النبوة «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ ٨٥» استفهام توبيخ وتقريع لأنه رآهم يعبدون الأصنام والكواكب، وقد أراده على ذلك، فأبى وقال «أَإِفْكاً آلِهَةً» أي تختلقون أشياء وتسمونها آلهة والإفك أسوء الكذب وآلهة بدل من الإفك «دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ٨٦» قدم المفعول للاعتناء به، لأن المقصود الاعتراف به أو إنكاره «فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ٨٧» أن يفعل بكم إذا لقيتموه غدا وأنتم تعبدون غيره، أخبروني أيها القوم، وقد شاع قوله هذا لهم حتى بلغ ملكهم فأرسل إليه أن غدا عيدنا فاحضر معنا لزيارة الآلهة، لأن هذه التشريفات التي تعارفها الناس في الأعياد والأيام الرسمية قديمة اقتبسها الأواخر عن الأوائل، ولهذا السبب لما طلب فرعون من موسى تعيين يوم للمباراة مع السحرة عين لهم يوم العيد، راجع الآية ٥٩ من سورة طه في ج ١، فلما جاءته دعوة الملك استشعر هطول الفرصة لحصول ما عسى أن يكون سببا لتوحيدهم، وأراد أن يعتذر عن الحضور على وجه لا ينكرونه عليه «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ٨٨» تأمل نوعا من التأمل في أحوالها وهو في نفس الأمر على طرز تأمل الكاملين في
452
في خلق السموات والأرض وتفكرهم في ذلك، إذ هو اللائق به عليه السلام، لكنه أوهم قومه أنه يتفكر في أحوالها من حيث الاتصال والتقابل ونحوهما من الأوضاع التي تدل بزعمهم على الحوادث ليترتب عليها ما يتوصل به إلى غرضه الذي سيكون وسيلة إلى إنقاذهم مما هم فيه فقال «إِنِّي سَقِيمٌ ٨٩» مريض، وأراد بذلك مرض القلب من كفرهم وعنادهم وتمسكهم بعبادة الأوثان، أي اني لا أستطيع حضور التشريفات.
مطلب في العدوى وقسم من قصة ابراهيم وتأثير الكواكب وغيرها وكذب المنجمين:
وكانوا يعتقدون العدوى كالمتوهمين وضعاف اليقين من أهل هذا الزمن، لأن العدوى وإن كانت حقيقة إلا أنها بقدر الله وقد حذر الشارع من الاختلاط بالمخدومين لقذارتهم للعدوى، لأن الذي لا توجد فيه قابلية العدوى لا يعدى ولو أكل وشرب ونام مع المريض، وهذا ثابت لا ينكر وحذر أيضا الشارع من الدخول على البلد الذي فيه الطاعون لئلا يلزم من قدر عليه أن يصاب بذلك الوباء، فيقال له لم دخلت القرية الموبوءة حتى أصبت، وحذر أيضا من الخروج منها لئلا يلام هو إذا أصيب غيره بسببه ليس إلا، ويكفيك قول الرسول الأعظم للأعرابي حينما قال له بعد أن سمع منه حديث لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا غول وفرّ من المجذوم فرارك من الأسد. إنا نرى الجمل الأجرب يختلط بالإبل فيجربها (من أعدى الأول) تدبر هذا هداك الله وأزال وساوس قلبك وما تتخيله من الوهم المقضى إلى الأمراض والعلل لضعف قلوبهم «فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ٩٠» تباعدوا عنه خشية العدوى فتركوه وذهبوا، فأخبروا الملك بمعذرته وبهذه الوسيلة تخلص من اجابة الدعوى لزيارة الأوثان وقدمنا ما يتعلق في مبادئ هذه القصة في الآية ٨٣ من سورة الأنعام المارة تبعا لذكر الله إياها هناك كما أتينا على قسم منها هنا للسبب نفسه وسيأتي تمامها في الآية ٥١ فما بعدها من سورة الأنبياء الآتية إن شاء الله القائل
«فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ» بعد أن ولوا عنه وكانوا ذهبوا إلى آلهتهم ووضعوا الأطعمة أمامها لتعود إليها بركتها وليأكلوا بعد رجوعهم من المراسيم المعتادة في الأعياد «فَقالَ» ابراهيم للأوثان «أَلا تَأْكُلُونَ ٩١» من هذا
453
الطعام الموضوع أمامكم لتحل عليه بركتكم كما يزعمون فلم يردوا عليه فقال «ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ٩٢» نزلهم بخطابه منزل العاقل تهكما واستهزاء وتقليد القومة، ولما لم ير أحدا عندها لأنهم لم يعودوا من المراسم بعد «فَراغَ» ذهب ومال وأصل الروغان ميل الشخص في جانب وهو يريد غيره ليخدع من خلفه وأقبل متعليا «عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ٩٣» حتى كسرها كلها وترك الفاس عند كبيرها وخرج «فَأَقْبَلُوا» قومه من المعايدة ومحال مراسم العيد إلى زيارة الأوثان «إِلَيْهِ» المعبد الذي كان عند الآلهة المذكورة «يَزِفُّونَ ٩٤» الملك والرؤساء ويمشون خلفهم على تؤدة أخذا من زفاف العروس في موكب عظيم، وقيل جاؤوا مسرعين حيث أخبروا بما وقع على الآلهة والأول أولى وان كان اللفظ يحتمل المعنى الآخر لأن زف تأتي بمعنى أسرع أيضا، إلا أن المعنى يأباه لما يأتي في سورة الأنبياء إنهم لم يعلموا من كسرها وانهم سألوا فأخبروا بأنه فتى يقال له ابراهيم، قالوا ولمّا دخلوا على المعبد ورأوا ما هالهم أمره ولما أحضروا ابراهيم وسألوه وقالوا نحن نعبدها ونعظمها وأنت تكسرها ولماذا فعلت هذا «قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ٩٥» بأيديكم من الحجارة والأخشاب «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ٩٦» منها ومن غيرها وفي هذه الآية دليل قاطع على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وبعد الأخذ والرد معه اتفقوا أن يكون جزاؤه الأحراق بالنار كما سيأتي بيانه في الآية المذكورة آنفا من سورة الأنبياء الآتية بصورة مفصلة «قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ٩٧» النار للشديدة الالتهاب للتي بعضها فوق بعض ففعلوا وأبى الله لأن من كان حافظه لا يسلط عليه أحد ولا يقدر على مضرته أحد قال تعالى «فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ ٩٨» الأذلين الخائبين المقهورين بجعل كلمتهم السفلى وإبطال كيدهم وبقاء كلمة الله تبارك وتعالى كما كانت هي العليا بنصرته عليهم وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم وبهذا يعلم أن النار لا تأثير لها إلا بخلق التأثير فيها من الله تعالى إذ لو كان لها تأثيرا بنفسها وطبعها لحرقته ولكن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى وقال إبراهيم لقومه بعد خروجه من النار وإياسه من إيمانهم «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ٩٩» إلى ما فيه خلاص فأرشده الله
454
إلى أرض الشام ثم إلى الأراضي المقدسة ولما استقر به الحال سئل ربه الولد ليكون خليفة له في أرضه فقال «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ١٠٠»
فأجاب الله دعاءه بقوله «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ١٠١» كامل الخلقة والخلق لولاية عهده ولارشاد الخلق لخالقهم كي يعبدوه واعلم أن هذه الآية انطوت على أربع بشارات حمل زوجته وأن الحمل ذكر وأن يبلغ الحلم وأنه يكون حليما ومن عظيم حلمه ما قص الله عنه بقوله «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» وصار يقدر على المشي والشغل «قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى» وهذه المشورة من إبراهيم عليه السلام لابنه إسماعيل ليعلم ما عنده فيما نزل به من البلاء ليختبر صبره على أمر الله وعزيمته على طاعته لا يرجع لأمره ورأيه، لأنه جازم في تنفيذ ما أمر به في رؤيا لان رؤيا الأنبياء عليهم السلام حق، فإذا رأوا شيئا فعلوه، وإنما كان الأمر بالمنام لأنه في نهاية المشقة وغاية الشدة على الذابح والمذبوح فكان كالتوطئة «قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ١٠٢» على تنفيذ أمر الله وإنما علق قوله بالمشيئة على سبيل التبرك لا غير، إذ لا حول عن المصيبة إلا بعصمة الله ولا قوة على الصبر عليها إلا بتوفيق الله.
واعلم أن هذه الآية الوحيدة التي استدل بها بعض الأصحاب والتابعين على أن الذبيح هو إسحاق، إلا أن الآيات غيرها تدل على أنه إسماعيل عليهما السلام وهو الصحيح كما سيأتي في القصة. هذا وأن بعض الناس أنكر أن يكون للكواكب تأثيرا في هذا الكون غير الضياء في المواقع التي تطلع عليها، وهذا فيه تفريط إذ بعضهم زعم أن لها تأثيرا في السعد والنحس وسعة العيش وضيقه وطول العمر وقصره، وهذا فيه إفراط، وبعضهم قال إن لها تأثيرا ما يجري على الأمر الطبيعي مثل أن يكون البلد القليل العرض. ومزاج مائل عن الاعتدال إلى الحر واليبس وكذلك مزاج أهله، إذ تكون أجسامهم ضعيفة وألوانهم سودا وخضرا كالنوبة والحبشة وأن يكون البلد الكثير العرض ذا مزاج مائل عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة وكذلك مزاج أهله حيث تكون أجسامهم عبلة وألوانهم بيضا وشعورهم شقرا كالترك والصقالبة، ولها أيضا تأثير في نمو النبات واشتداده ونضج ثمره وتلوينه
455
وطعمه بإشراق الشمس والقمر وبعض الكواكب، وهذا مما يدرك حسا ولا يكاد ينكر، ولا بأس في نسبة هذا إلى الكواكب ولكن على معنى أن الله تعالى أودع فيها هذه القوة المؤثرة لا بطبعها ولا بتأثيرها بإرادة نفسها كالإحراق بالنار والارواء للماء، فإن الله تعالى لو لم يجعل فيهما تلك القوى لما حصل في النار إحراق ولا من الماء إرواء كما علمت في حال إبراهيم عليه السلام، إذ لم تؤثر فيه النار كما أنها لم تؤثر في السندل الذي يفرخ فيها، وكذلك السكين لا تقطع إلا بتأثير الله تعالى ولذلك لم تذبح إسماعيل بعد معالجة أبيه له في ذبحه، وهذا قول وسط معتدل وخير الأمور أوسطها وعلى هذا السلف الصالح، وقال به الشيخ إبراهيم الكوراني في جمع الأسباب والمسببات، وعليه بعض الماتريدية، هذا وأن المنجمين يكذبون وإن صدقوا في بعض الأحيان على ما جاء في الحديث الشريف وقد دلت عليه التجارب على كذبهم أكثر من صدقهم، فمن كذبهم ما أجمع عليه حذافهم سنة سبع وثلاثين بأن عليا كرم الله وجهه حينما توجه لصفين يقتل ويقهر جيشه وبالعكس فقد انتصر ولم يتخلص منه أهل الشام إلا بالحيلة التي دبرها لهم عمرو بن العاص حينما حملهم على حمل المصاحف على رءوس الرماح وقولهم بلسان واحد إنا الرجوع إلى حكم الله وهي كلمة حق أراد بها بطلا حتى أقسر علي على قبول التحكيم وكان ما كان، وكذلك أجمعوا على قهره عليه السلام لما خرج لقتال الخوارج حيث كان القمر بالعقرب، لأنهم يزعمون أنها منزلة نحس لا يقع فيها إلا الشر، فقال نخرج ثقة بالله وتوكلا عليه، فانتصر انتصارا باهرا وكذبهم الله.
وأجمعوا أيضا سنة ست وسنين على غلبة عبد الله بن زياد على المختار بن أبي عبد خليفة إبراهيم بن الأشتر صاحب المختار في أرض نصيبين ومعه سبعة آلاف فقهره وقتله وقتل من عسكره ثلاثه وسبعين ألفا ولم يقتل من أصحاب المختار سوى مائة نسمة، وأجمعوا أيضا يوم أسّست بغداد سنة مائة وست وأربعين على أن طالعها يقضي أن لا يموت فيها خليفة فقتل فيها الأمين والواثق والمتوكل والمعتضد والناصر وغيرهم، وهناك أمور أخر في كذبهم لا تحصى حتى أنهم سنة ١٩٢٠ ميلادية أشاعوا بأنه سيطلع نجم مذنب عظيم قد يلطم ذنبه كرة الأرض فيخرب قسما
456
عظيما منها، ولم يقع شيء من ذلك ولما قتل الأمين في شارع باب الأنبار قال بعض الشعراء في تكذيبهم:
كذب المنجم في مقالته التي كان ادعاها في بنا بغدان
قتل الأمين بها لعمري يقتضي تكذيبهم في سائر الحسبان
ومن هذا القبيل الإبرة الدالة على حدوث الأمطار والهواء والعواصف وغيرها، فإنها قد تختلف أيضا باختلاف الجوّ، فلا يقع ما تشير إليه، لأن تبدل حالة الجو التي هي بيد مالك الملك ومقلّب الأحول تحول دون ذلك إذ لا يستطيع مخترع الأبرة وغيره والعالم أجمع أن يبقى الجو على حالته حينما أشارت إليه الأبرة حتى يقع ما أشارت به، بل إذا أبقاها الله تعالى يقع وإلا فلا، وهذا محسوس مشاهد. واعلم أن ما احتج به أهل الهيئة من أن الله تبارك وتعالى قد فخم من قدر النجوم يحلفه بها تارة ومدحه لها أخرى في القرآن العظيم لا يفهم منه أن الله تعالى إنما عدد ذكرها في مواضع كثيرة في القرآن لأن لها تأثيرا، كلّا، بل لعظمها وكونها دالة على إلهيته، والله تعالى ذكر الأنبياء في القرآن أكثر من غيرهم، فهل يقال إنما ذكرهم لما لهم من التأثير بذواتهم المقدسة، كلا وانما لعظم مقامهم عنده وتعظيما لشأنهم عند أقوامهم، لأنهم الواسطة لهداية البشر حتى أنهم مع جلالة قدرهم لا يملكون الشفاعة لأنفسهم وأولادهم وأزواجهم إلا بإذن الله القائل «فَلَمَّا أَسْلَما» خضع الأب وابنه لأمر الله وانقادا لتنفيذه وعزما على اجرائه عزما جازما باشره الأب «وَتَلَّهُ» أي جرّه «لِلْجَبِينِ ١٠٣» بأن صرع الأب ابنه على الأرض وألصق جبينه بها ووضع السكين على حلقه وأمرها إمرارا قاسيا يقصد ذبحه دون تعذيبه بامرارها كثيرا، ولكنها لم تذبح رغما لشدة حزّها على محل الذبح منه بقوة وجلادة إطاعة لأمر الله، وكان قبل حدها حرار حتى رآها أنها تقطع حلقوم الجمل بامرارها عليه مرة واحدة، وهذا دليل قاطع على أن المؤثر الحقيقي في كل شيء هو الله تعالى لأن السكين الحادة لا يعقل أنها لا تقطع اللحم كما أن النار لا يعقل أنها لا تحرقه، ولكن الله تعالى إذا لم يضع فيها قوة الذبح لا تذبح وكذلك لا تحرق ولما رأى الخليل عليه السلام عدم تمكنه
457
من إمضاء عزيمته في تنفيذ أمر ربه، وقد بذل وسعه بفعل ما يفعل الذابح بالمذبوح فكأنه ذبحه بلا ريب وأن المانع الذي جعله الله لا يكون مدار القول بعدم إنفاذ ما جزم به، وصبر الولد على الألم الذي قاساه في إمرار السكين لا يقاس به صبر وتسليمهما لإمضاء هذا الأمر لا يقابله تسليم ولهذا فان الله العالم بانقيادهما لأمره انقيادا جازما حال دون ذلك، وأظهره ليطلع عليه الناس، لأنه عالم بما يقع منهما، ولذلك وهب لهما من فيض جوده كبشا وجعله فداء لصفيه إسماعيل وجزاء لخليله إبراهيم عليهما السلام فخاطبه بقوله «وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ ١٠٤» كف عن ذبح ابنك لقيامك بما أمرت به وأنك حقا «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» وعملت بالجزم فقبلنا فعلك وان ابنك سلّم وانقاد لأمرنا فقبلنا منه خضوعه دون جزع أو ضجر وقد أظهرنا للناس إنابتكما هذه ليعلموا أن أحدا لا يقدر على ما ابتليتما به «إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا العفو الذي عفونا به عن ذبحك ولدك ومثل هذا الفداء الذي فديناه به جزاء الصبر والامتثال منكما «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ١٠٥» أمثالك وأمثال ابنك، قال تعالى «إِنَّ هذا» الامتحان الذي اختبرنا به إبراهيم وابنه وقاما به بنية خالصة وصدق محض «لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ١٠٦» الظاهر الذي تبين به حقيقة الإخلاص «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ١٠٧» في الجثة والقدر بنسبة المفدى «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ١٠٨» من بعده ثناء مستمرا إلى يوم القيامة وهو «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ ١٠٩» من الله وملائكته ورسله وعباده كافة «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن الدائم «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ١١٠» في الدنيا والآخرة
«إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ١١١» الكاملي الإيمان «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ١١٢» لعبادتنا وخلافتنا في الأرض لإرشاد خلقنا زيادة في جزائه الحسن.
مطلب من هو الذبيح وأنه لا يلزم من فضل الأب فضل الابن وبالعكس وأن الفرع السيء والأصل السيء لا يعد عيبا ومعنى خضراء الدمن وبقية القصة:
وهذه الآية مما تدل على أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام دلالة كافية، لأنه بعد أن قص الله تعالى علينا الابتلاء بالذبح وتنفيذ أمره فيه وفدائه له ذكر
458
إسحق كما ستقف عليه بعد قليل «وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ» ابنه الثاني من السيدة سارة بنت عمه والأول إسماعيل من الجارية هاجر «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما» ذرية إبراهيم وإسحق قالوا أخرج من صلبهما الف نبي أولهم يعقوب وآخرهم عيسى عليهم السلام «مُحْسِنٌ» لنفسه ولغيره أنبياء وأولياء «وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ١١٣» بين ظلمه بتعديه حدود الله أي أن من ذريتهما كفرة ظلمة عصاة أيضا، ومن هنا يعلم أنه لا يلزم من فضل الأب فضل الابن وبالعكس، فقد يكون الأب نبيا والولد كافرا كنوح عليه السلام وابنه كنعان، وإبراهيم عليه السلام وأبيه آزر.
وفيها تنبيه على أن الخبث والطيب لا يجري أمرهما على العرف والعنصر، فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر وأن العقب السيء لم يعد عيبا ولا نقيصة على أصله وإنما ينحصر في النّاقص والعيب بالمعيب، كما أن الأصل لا يعد عيبا على الفرع من حيث الكفر وغيره ولا ينطبق هذا على قوله صلّى الله عليه وسلم إياكم وخضراء الدمن فان العرق دساس فإن هذا خاص بمن ضرب على أصلها بفاحشة خشية أن يقتص منها عنده لقوله ﷺ من زنى زني به ولو بحيطان داره أي لا ينجو من القصاص البتة ألا فليتق الله من أراد أن يحافظ على عرضه وأن الشرف يكون فيمن كان آباؤه إسلاما أكثر فهو أشرف ممن آباؤه إسلاما أقل.
وخلاصة هذه القصة على ما قاله الأخباريون هي أنه لما بشر ابراهيم بالولد قال هو ذبيح الله فلما شب قيل له أوف بنذرك، فأخذ سكينا وتعجيلا واستصحب ابنه وهو ابن ثلاث عشرة سنة أو سبع سنين وقال له لنذبح قربانا حتى بلغ به المذبح من منى قال له يا أبت أين القربان؟ قال يا بني أمرت بذبحك وكان ليلة رأى ليلة الثامن من ذي الحجة، فلما أصبح تروى أي تفكر هل رؤياه هذه من الله أو من الشيطان فسميت ليلة التروية ثم رآها ثانيا ليلة التاسع منه فعرف أنها من الله حقا فسميت ليلة عرفة ثم صمم على نحره ليلة العاشر فسميت ليلة النحر.
فاستسلم الغلام لأمر الله وقال يا أبت أفعل ما تؤمر وأشدد رباطي لئلا أضطرب واكفف ثيابي لئلا تتلطخ بالدم فتراه أمي فتحزن فينقص أجرها واستحد الشفرة وأسرع بمر السكين على حلقي ليهون علي الموت وأقرئ أمي مني السلام وأوصها
459
بالصبر والاستسلام، فقال إبراهيم نعم العون أنت يا بني على تنفيذ أمر الله، ففعل به ما ذكره وقبله وبكى كل منهما، ثم أضجعه ووضع السكين على حلقه وأمرّها بشدة وسرعة فلم تذبح، فحدها ثانيا وثالثا وأراد الذبح بعزم وحزم فلم تذبح، قالوا وقد ضرب الله تعالى بصفحة من نحاس على حلقه لئلا يحس بإمرار السكين ولا يبعد هذا على الله، إلا أن الحق الحق أعلم أنه تبارك وتعالى لم يرد ذبحه فلم تؤثر السكين فيه لأنه لم يودعها قوة الذبح إذ ذاك وهذا أبلغ في القدرة من خلق النحاس، قالوا ولما رآه إسماعيل أنه لم يذبحه ظن أن ذلك من شفقته عليه فقال يا أبت كبني على وجهي لئلا تدركك الرحمة علي برؤية وجهي فتمنعك الرأفة والرقة عن تنفيذ أمر الله، والحال لا يوجد شيء من ذلك، لأن طاعة الله عنده أحب إليه من ابنه ونفسه والناس أجمعين، ولكن الله تعالى لم يرد ذبحه وهذا مما يؤيد ما ذكرناه غير مرة بأن الأمر غير الإرادة راجع الآية ١٤٨ من سورة الأنعام المارة، ففعل أيضا ما أشار به عليه ابنه ووضع السكين على رقبته وجرها كالعادة فلم تذبح، ولما شدد بالجر بها انقلبت على قفاها، فعلم الله كما هو عالم من قبل صدق عزيمته وانقياد ابنه لأمره ففداه بكبش من الجنة وهو الذي قربه هابيل ابن آدم عليه السلام.
مطلب الحيوانات والجمادات التي تحشر وتبقى ورمي الجمار والحكم الشرعي في الأضحية:
وهذا الكبش وحمار عزير وكلب أهل الكهف وعصا موسى وناقة صالح تحشر وتبقى في الجنة كما جاءت بها الأخبار، أما غيرها من الحيوانات والجمادات عدا التي عبدت من دون الله فستكون ترابا والله أعلم. قال ابن عباس لو تمت ذبيحة إسماعيل عليه السلام لصار على الناس ذبح أولادهم سنة ولكن الله لطف بعباده ففداه ولهذا صارت الأضاحي سنة أو واجبة على اختلاف فيها بين المذاهب. قالوا وتعرض الشيطان لإبراهيم في المشعر محل الذبح في منى فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة فتعرض له الشيطان أيضا فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات أيضا حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات أيضا حتى ذهب، فصار الرمي منذ ذلك الزمن
460
عادة للحاج إلى ظهور البعثة النبوية، فجعل من سنن الحج، وهو واجب في مذهب الشافعي، وفي تركه نسك وعدد الحصى التي يرمي بها سبعون حصاة سبع يوم العيد وثلاث وستون أيام التشريق الثلاث كل يوم واحد وعشرون لكل موقع من مواقع الرمي سبع، وفي رواية أخرى أن ابراهيم عليه السلام بعد بناء البيت أخذ جبريل عليه السلام يريه مناسكه ويعلمه ما ينبغي لعبادة الله وحده وإذا بإبليس عليه اللعنة تمثل له في مواطن الجمرات فقال له جبريل كبر وارمه سبع حصيات ففعل. فعلى المسلم أن يستشعر هذا بقلبه ويبعد عنه بلسانه عند الرمي فهي حركة صغيرة تعبر عن عاطفة كبيرة يستعين بها أثناء عبادته في درء نزعات الشيطان واخلاص العبادة للرحمن، وقال الغزالي في الاحياء فليقصد برمي الحجار الانقياد للأمر وإظهار الرق للعبودية وانتهاض الامتثال والتشبه بإبراهيم عليه السلام، وما قيل إن محل الرجم قبر أبي رغال قيل كاذب لأنه ليس في هذه الأمكنة وقبره معروف في محل واحد والرجم في ثلاث محال فلو كان لكان الرجم في مكان واحد وقدمنا ما فيه في سورة الفيل ج ١ فراجعه، قالوا ولما ذبح الكبش قال جبريل الله أكبر فقال إسماعيل لا إله إلا الله والله أكبر فقال ابراهيم الله أكبر ولله الحمد فصارت سنة عند الذبح وفي الحج وبعد الصلوات في العيد من زمن ابراهيم إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، الحكم الشرعي: وجوب الأضحية على كل من ملك النصاب عند أبي حنيفة، ومن نذر أن يذبح ابنه لربه ذبح شاة استدلالا بهذه القصة وقال بقية الأئمة بسنيتها، هذا وقال أهل الكتابين وبعض علماء الإسلام أن الذبيح هو اسحق وبه قال عمر وابن مسعود والعباس من الأصحاب، ومن التابعين سعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي وقول لابن عباس إذ كانت هذه الرؤيا بالشام، وإنه ذهب به إلى النحر في منى وفداه الله كما مر في القصة، وقال عبد الله بن سلام وأبو بكر وابن عمر وابن عباس من الأصحاب، ومن التابعين الحسن وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وفي رواية عن عطاء بن أبي رباح ويوسف بن ماهك عن ابن عباس والمقوس أنه إسماعيل، وحجة القول الأول أن الله تعالى قال وبشرناه
461
بغلام حليم فلما بلغ معه السعي أمر بذبح من بشر به وليس في القرآن أنه بشر بغير اسحق، وقال تعالى في سورة هود وبشرناه بإسحاق وقال تعالى في هذه السورة وبشرناه بإسحاق نبيا بعد قصة الذبح بما يدل على أنه تعالى إنما بشره بالنبوة لما تحمل من المشقة في قصة الذبح وأن أول الآية وآخرها يدل على أنه اسحق وقد مر في سورة يوسف أن يعقوب لما كتب الكتاب لعزيز مصر كتب من يعقوب بن اسحق ذبيح الله بما يدل على أنه هو الذبيح، وحجة القول الثاني أن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق في السور الأخر غير هذه بعد الفراغ من قصة الذبح، فقال تعالى (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) بما يدل على أن الذبيح غيره ولقوله في سورة هود (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فكيف يأمره بذبح اسحق وقد وعده بأنه سيأتي منه حفيد له اسمه يعقوب، وقال تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) الآية
٧٤ من سورة الأنبياء الآتية، وكرر معناها في سور أخرى فلو كان المذبوح اسحق لما بشره ربه بأن يكون له حفيد منه وهذا القول وحده كاف الدلالة على أن الذبيح إسماعيل إذ لو كان الذبيح اسحق لحصل الشك لسيدنا إبراهيم بصحة الرؤيا لأن الله وعده بأنه سيتزوج ويأتي له ولد اسمه يعقوب فكيف يأمر بذبحه؟ هذا وأن وصف إسماعيل بالصبر دون اسحق يدل على أنه هو الذبيح لما فيه من المناسبة الصريحة ولأنه وصف بصدق الوعد بقول تعالى (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) الآية ١٥٣ من سورة مريم المارة في ج ١ حيث وعد أباه بالصبر والموافقة على ذبحه والامتثال لأمر ربه حين قص عليه رؤياه وقد وفى بذلك، وهذا كله يدل دلالة كافية على أن الذبيح هو إسماعيل ويؤيد هذا أن قرني الكبش كانتا معلقتين على الكعبة في أيدي ولد إسماعيل، وبقيت كذلك، إلى أن احترقت زمن ابن الزبير، قال الشعيبي رأيت قرني الكبش موطنين في الكعبة، وقال ابن عباس والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وان رأس الكبش لمعلق بقرنين في ميزاب الكعبة وقد وحش أي يبس. وقال الأصمعي سألت أبا عمر بن العلاء عن الذبيح أإسحاق أم إسماعيل، فقال يا أصمعي أين ذهب عقلك متى كان اسحق بمكة إنما كان إسماعيل، وان اليهود تعلم ذلك، ولكن يحسدونكم معشر العرب
462
على أن يكون أباكم ويدعون أنه اسحق لأنه أبوهم. والقول الفعل ما جاء عن خاتم الرسل أنه قال أنا ابن الذبيحين يعني جده إسماعيل وأباه عبد الله، لأن عبد المطلب كان نذر لأن بلغ عدد بنيه عشرة ليذبحن أحدهم وهو آخرهم، وقد حقق الله له ذلك وبادر بذبحه ثم تحاكم إلى الأزلام فوضع عشرة من الإبل وابنه فوقع على ابنه ثم وضع عشرين وضرب الأزلام فوقعت على ابنه وهكذا حتى بلغت ماية من الإبل فوقعت عليها ففداه بها وذبحها كلها، ولذلك صارت دية الرجل مائة من الإبل من ذلك اليوم وأقرها الإسلام، وسئل أبو سعيد الضرير عن ذلك فأنشد:
إن الذّبيح هدين إسماعيل نص الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خصّ الإله نبيّنا وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت في أمته فلا تنكر له شرفا به قد خصه التفضيل
قال تعالى «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ ١١٤» بالنبوة والرسالة والنّصر «وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما» المؤمنين «مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ١١٥» وهو الاستعبار من فرعون وقومه القبط ولا كرب أعظم من الرق والأسر «وَنَصَرْناهُمْ» جمع الضمير باعتبار أن النصر لهما ولقومهما المؤمنين بهما على القبط وملوكهم أجمع وإلا ففيه دلالة على أن الجمع يكون على ما فوق الواحد كما سيأتي في الآية ٧٨ من سورة الأنبياء الآتية «فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ١١٦» عليهم بنصرتنا لهم «وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ١١٧» البليغ في بيانه المستنير في هدايته وهو التوراة، والإتيان لموسى خاصة ولما كان هرون يعمل معه فكأنه أوتيه لأنه مرسل مثله وقد كذب اليهود بإنكار رسالته وشوهوا التوراة بتحريفها وشطب ذلك منها وغيره مما يتعلق برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم «وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ١١٨» الموصل من تمسك به إلى الجنة في الآخرة فكل من سلكه بإحسان ومات على ذلك إلى بعثة عيسى ابن مريم فهو ناج وكل من تمسك بالإنجيل إلى بعثه محمد فهو ناج إذا مات قبل البعثة أو صدق بها وآمن بمحمد وإلا فهو هالك «وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ ١١٩» ثناء حسنا دائما ما تعاقب الجديدان وهو «سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ ١٢٠» في الدنيا والآخرة
«إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الذي جزيناهما به
463
«نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ١٢١» على عملهم من عبادنا أجمع «إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ١٢٢» بنا المخلصين لنا
مطلب قصة إلياس عليه السلام وقسم من قصة لوط عليه السلام:
قال تعالى فيما قصة على نبيه أيضا بعد تلك القصص «وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ١٢٣» إلى أهل بعلبك وهو إلياس بن يس وقيل ابن بشير وهو ضعيف جدا بل هو ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هرون عليه السلام بن عمران وما قيل إنه إدريس ضعيف أيضا ومخالف للظاهر ولا مستند له إلا الظن وهو لا يغني شيئا في الاستدلال على الحق إذ بين إدريس وإلياس قرون كثيرة لأنه من آدم وإلياس من نوح وإدريس لم يبعث بعد إلى أهل بعلبك فهو قول مخالف للنص تدبر، وراجع الآية ٨٥ من سورة الأنبياء الآتية بشأن نسبه «إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» وكانوا من بني إسرائيل ولذلك أضيفوا إليه «أَلا تَتَّقُونَ ١٢٤» الله وهو في الجملة وما بعدها مقول قوله عليه السلام «أَتَدْعُونَ» باستغاثتكم وتطلبون في حوائجكم وترجون في مهماتكم «بَعْلًا» هو اسم صنم لهم يعبدونه وقد أول بعضهم تدعون بيعبدون وهو هنا خلافه الظاهر كما ترى في هذه الآية وإلا فانه يأتي دعى بمعنى عبد، ويصح المعنى في مواضع كثيرة راجع الآية ٤٨ من سورة مريم في ج ١ وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ١٢٥ فلا تسألونه وهو خالقكم والصنم من خلقكم الذي هو من خلق الله أيضا لأن العبد مخلوق لله وصنعه مخلوق لله أي انكم بفعلكم هذا تتركون «اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ» وهذه كلها بالنصب صفة لأحسن الخالقين المتقدم «آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ١٢٦» هو أحق أن تلجأوا إليه في أموركم وهو أحرى بأن يجيبكم لأن هذا الصنم لا يضر ولا ينفع ولا يعقل ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم فكيف ترجون منه ما تأملون فلم يصغوا «فَكَذَّبُوهُ» ولم يلتفتوا إليه ولم يعبئوا بنصحه ولم يعتنوا به قال تعالى مهددا لهم على استخفافهم «فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ١٢٧» يوم القيامة فنحاسبهم ونجازيهم على كفرهم بالنّار التي لا يسلم من عذابها «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ١٢٨» له الذين استخلصهم لعبادته «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ١٢٩» ثناء مستمرا ما بقي الملوان وهو
464
«سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ١٣٠» أي الياس وقومه كما تقول، المحمديين واليسوعيين والموسويين، وهذا مما يؤيد أن أباه يسن كما ذكرنا لا بشر
«إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ١٣١» في الدنيا إحسانا في الآخرة جزاء إحسانهم ومثل ذلك الجزاء الحسن نجزي نبينا الياس «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ١٣٢» بنا المصدقين لرسلنا. وخلاصة قصته على ما قاله الأخباريون هو أنه لما مات حزقيل عليه السلام كثر الفساد في بني إسرائيل وعبدوا الأصنام فبعث الله تعالى لهم الياس نبيا وكان الأنبياء بعد موسى يبعثون بتجديد أحكام التوراة وكان يوشع لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل فأصاب سبطا منهم بعلبك ونواحيها وهم الذين بعث إليهم الياس وكان ملكهم اسمه آجب، قد ضل وأضل وأجبرهم على عبادة الأصنام، وكان لهم صنم يسمى بعلا مصوغا من الذهب بطول عشرين ذراعا وله أربعة أوجه وقد فتنوا به وجعلوا له أربعمائة سادن وسموهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل ويتكلم بما يضللهم فيحفظونه السدنة ويأمرون الناس به وصار الياس عليه السلام ينهاهم عن عبادته ويأمرهم بعبادة الله فلم يذعن لدعوته إلا الملك فإنه آمن به واسترشد برشده وكان له زوجة جبارة يستخلفها عند غيابه فاغتصبت جنينه من رجل كان يتعيش بها فلما عارضها قتلته فأمر الله الياس أن يخبر الملك وزوجته بان الله غضب عليهما باغتصابهما الجنّة وقتل صاحبها لأن الملك لما لم يردعها عدّ راضيا بفعلها وأن يخبرهما بأنهما إذا لم يردا الجنة لورثته يهلكهما فيها ولا يتمتعان بها إلا قليلا فأخبرهما الياس فاشتد غضب الملك عليه وقال له يا الياس ما أراك تدعو إلا إلى الباطل، وهمّ بقتله فهرب الياس وارتد الملك عن الإيمان ورجع إلى عبادة الأوثان وبقي الياس مستخفيا بين الجبال سنين وهم يتحرونه ولم يقفوا على أثره، فضاق صدره عليه السلام، وسأل الله أن يميته، فقال تعالى له ما هذا وقت إعراء الأرض منك، لأن صلاحها بك، فقال يا رب أعطني ثأري من بني إسرائيل، قال ما تريد، قال اجعل خزائن المطر بيدي ثلاث سنين، فإنه لا يذلهم إلا هذا، فأعطاه الله ذلك ومنع عنهم المطر فهلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الياس، وهو لم يزل مستخفيا وقد عرف قومه أن البلاء جاءهم بسببه، فمر ذات يوم بعجوز منهم فضافها فأخرجت له قليلا
465
من الدقيق والزيت، فأكل ودعا لها بالبركة فلم تحس إلا وقد ملئت جربانها دقيقا وخوابيها زيتا، فاطلع الناس عليها وعلى ما عندها من الخير، فقالوا لها من أين لك هذا، قالت ضافني رجل فقدمت إليه ما عندي من دقيق وزيت فأكل ودعا لي بالبركة، ومنذ فارقني رأيت أجربتي ملئت دقيقا وخوابيّ زيتا ووصفته لهم فعرفوه، وطفقوا يطلبونه يمينا وشمالا شرقا وغربا فلم يجدوه، ثم انه أوى إلى بيت عجوز أخرى لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب وكان مريضا فدعا له فعوفي بالحال وآمن به، ثم إنه لما رأى ما حل بقومه من الضيق والضنك رقّ لهم ورأف بهم فأظهر نفسه إليهم مفاديا بها طلبا لإيمانهم به ورجوعهم إلى عبادة الله وتركهم الأوثان بعد أن آنس منهم الركون إليه والالتجاء إلى ربه، وقال لهم قد هلكتم وهلك كل شيء بخطيئتكم فأخرجوا أصنامكم واستسقوا بها، فإن مطرتم فذلك كما تقولون وإلا فيتحقق لديكم أنكم على باطل فتنزعون عن عبادتها، ثم إني أدعو الله ربي فإذا أفرج عنكم آمنتم به وتركتم الأوثان، قالوا لقد أنصفت فخرجوا وأخرجوا أصنامهم، ودعوا فلم يستجب لهم، ولم يزالوا حتى أظهروا عجزهم وعجز آلهتهم، وكلفوه بأن يدعو هو إلهه، فشرع عليه السلام يدعو واليسع يؤمن على دعائه وقد انتهت المدة التي منع الله بها السماء أن تجرد عليهم حسب طلبه السابق، فأغاثهم الله تعالى غيثا جلل أراضيهم كلها، فحييت واخضرت ودبت الحياة بمواشيهم وترعرعوا وتنفسوا من ألم القحط وتروحوا من الجدب لكثرة ما أفاض الله عليهم من الخير الذي أدرّ الضرع وأكثر الزرع، فنكثوا بعهودهم ونقضوا وعدهم وأصروا على كفرهم، لأن النعم التي غمرتهم أنستهم ما كانوا عليه من الشدة وصاروا يسخرون بنبيهم كلما يدعوهم إلى الإيمان ويطالبهم بالوفاء بالعهد، وقد أيس من إيمانهم فدعا الله أن يريحه منهم، فأجاب الله دعاءه وقال له أخرج إلى موضع كذا لمكان عيّنه له وما جاءك فاركبه ولا تخف، فخرج هو واليسع وإذا بفرس من نار دنت منه فوثب
عليها فانطلقت به في الهواء فناداه اليسع بماذا تأمرني فألقى إليه رداءه فاستدل به على استخلافه فلبسه ورجع يدعو الناس إلى طاعة ربه واقتفى آثار دعوة الياس عليهما السلام، قالوا وان الله تعالى قطع عن الياس الحاجة إلى الطعام والشراب
466
فصار إنسيا ملكيا أرضيا سماويا وكأنه لهذه الحكاية قال بعض المفسرين إنه إدريس عليه السلام لما أشار إليه في الآية ٥٧ من سورة مريم بقوله (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) في ج ١، مع أن إدريس كان رفعه على غير هذه الصورة راجع قصته في الآية المذكورة، على أن القصص كلها ما لم تستند إلى آية أو حديث لا عبرة بها.
هذا، وقد سلط الله على الملك المرتد وقومه عدوا لهم فأرهقهم وقتل الملك وزوجته ارببل في الجنة التي غصبتها كما أخبرهم نبيهم الياس، وقد نبأ الله اليسع وبعثه إليهم فآمنوا به، قال تعالى «وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ١٣٣» من قبل إلى طائفة من عبادنا فتغلبوا عليه وأرادوا البطش بأضيافه فاذكر يا محمد لقومك «إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ١٣٤» من الإهلاك الذي حل بقومه «إِلَّا عَجُوزاً» هي زوجته واعلة لأنها على دين قومه وليست من عشيرته لأنه غريب عنهم كما تقدم راجع الآية ٧٨ من سورة هود المارة وتطلع على تفصيل قصته في الآية ٧٩ من سورة الأعراف في ج ١ «فِي الْغابِرِينَ ١٣٥» الباقين في العذاب «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
١٣٦»
تدميرا فظيعا فلم نبق منهم أحدا «وَإِنَّكُمْ»
يا أهل مكة «لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ»
عند ما تسافرون إلى الشام «مُصْبِحِينَ
١٣٧»
نهارا «وَبِاللَّيْلِ»
أيضا إذ ترون منازلهم وآثار أطلالهم بذهابكم وإيابكم صباح مساء «أَفَلا تَعْقِلُونَ
١٣٨»
كيف كانوا وما حل بهم من العذاب حتى دمروا وأهلكوا بسبب كفرهم وتعندهم مع نبيهم فاتعظوا لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العذاب لأنكم متقمّصون بالأعمال السيئة التي أهلكوا من أجلها من الكفر والتكذيب والاستهزاء، ولو أنهم آمنوا بنبيهم وصدقوا بما جاءهم به لما أهلكوا، قال تعالى «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
١٣٩»
إلى أهل نينوى من قبل الله تعالى فدعاهم للإيمان فلم يقبلوا، واذكر لقومك قصته يا محمد «إِذْ أَبَقَ»
هرب من قومه حين رفع الله عنهم العذاب غضبا عليهم أو حين استبطأ نزوله بهم وقد نفذ الوقت الذي وعدهم به خوفا من أن يصموه بالكذب فقر منهم «إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
١٤٠»
المملوء، قالوا لما وصل إلى البحر كان معه زوجته وولداه فجاء المركب فقدم امرأته ليركب بعدها فحال بينهما الموج وذهب المركب وتركه وجاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر، ثم جاء ذئب وأخذ
467
ابنه الآخر وبقي فريدا، فجاء مركب آخر فركبه، فقال الملاح إن فيكم عاصيا عبدا آبقا من سيده إذ لا موجب لوقوف المركب غير هذا، فانظروا من هو، فاقترعوا لمعرفة ذلك الآبق فيما بينهم، فوقعت القرعة على يونس، فقالوا له بعد الاعتراف بأنه آبق من سيده وعنى بذلك ربه لا بد من رميك في البحر، لأن العادة المطردة عندنا كذلك، ولئن يغرق واحد خير من أن يغرق الكل، فاستسلم فأخذوه وزجوه بالماء،
وذلك قوله تعالى «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
١٤١»
المغلوبين في القرعة «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ١٤٢» فعل فعلا يلام عليه بالنسبة لمقامه وذلك على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين لأنه لم يفعل على رأيه ما يعاقب عليه «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ١٤٣» لنا المكثرين لذكرنا الراجعين لأمرنا «لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ» لبقي في جوف الحوت «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ١٤٤» من قبورهم الأموات هو وقومه وغيرهم، وكان تسبيحه عليه السلام كما ذكر ربه في الآية ٨٧ من سورة الأنبياء الآتية (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وهذا هو الذي نجاه، وكان عليه السلام يديم ذكر ربه قبل ذلك لا يفتر عنه أبدا ولهذا عده الله من المسبحين، وجاء في الحديث اذكروا الله في الرخاء يذكركم بالشدة «فَنَبَذْناهُ» أجبنا دعاءه وأخرجناه من بطن الحوت وقذفناه «بِالْعَراءِ» الأرض الخالية من النبات والشجر «وَهُوَ سَقِيمٌ ١٤٥» عليل البدن من حرارة بطن الحوت، جاء في الخبر أن الملائكة لما سمعت تسبيح يونس عليه السلام قالوا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة وقالوا غريبة لأنهم لم يسمعوا بشرا يذكر الله فيها قبل، وإنما يسمعون الحيتان والديدان وغيرها وهو يختلف عن ذكر البشر، فقال تعالى ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا ربنا ذلك العبد الصالح الذي كان يصعد عمله الصالح إليك كل يوم وليلة؟ قال هو ذاك، قال فيشفعون له، فأمر الله الحوت فقذفته بأرض نصيبين من قاعدة ربيعة وهي مجاورة لديار بكر ويليها من جهة الشرق الشمالي ديار مضر ويسمونها الآن جزيرة ابن عمر، وهذا مما يدل على أن المراد بالبحر هو دجلة التي تصب في البحر بعد اختلاطه بالفرات بالقرنة قبل البصرة، فعلى هذا
468
يكون ركوبه في نهر دجلة الواقع عليها بلد نينوى التي بعث لأهلها وقد التقمه الحوت الذي أمره الله بأن يأتي من البحر إلى محل ركوبه وسبح به حتى أدخله البحر وطاف به ما شاء الله من البحار حتى ألهمه ذلك التسبيح العظيم فعاد به إلى قرب المحل الذي التقمه من أرض نصيبين قالوا وذلك بعد ثلاثة أيام، قال تعالى «وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ
١٤٦»
القرع الطويل غير الكوسا وغير المحزق الذي يسبح عليه وهو معروف، والحكمة من اختيار الله تعالى لهذه الشجرة دون غيرها لأنها سريعة النبات والنمو ولأنها لا يقف الذباب عليها فضلا عن الإظلال، وكان خروجه عليه السلام مثل الفرخ الذي لا ريش له إذ هري لحمه من سخونة بطن الحوت وكل شيء يؤذيه إذا لمسه، لذلك لطف الله به فأنبت عليه هذه الشجرة، قالوا وكانت هناك وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها صباح مساء وبقي حتى اشتد لحمه وجمد عظمه وثبت شعره، فنام ذات ليلة تحت ظلالها، فلما استيقظ وجدها يابسة فحزن لما فاته من ظلها ودفع الذباب عنه فجاءه جبريل عليه السلام وقال له أتحزن على شجرة يا يونس ولا تحزن على مئة ألف من أمتك قد تابوا وأسلموا، وذلك قوله تعالى «وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ١٤٧» في نظر الرائي أي إذا رآهم أحد يقول هؤلاء مئة ألف وأكثر لأن الإرسال كان قبل أن يصيبه ما أصابه فذهب إليهم «فَآمَنُوا» به وكان إيمانهم بالله تعالى عند معاينتهم العذاب بعد أن تركهم راجع القصة في الآية ٩٧ من سورة يونس المارة، قال تعالى «فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ١٤٨» انقضاء آجالهم فيها حسبما هو مقدر في علمنا، هذا وإنما لم يختم الله تعالى قصتي لوط ويونس عليهما السلام بالسلام كما ختم القصص قبلهما لأنه ختم هذه السورة بالسلام على جميع المرسلين وهما من جملتهم وقد سبق بحث لهذه القصة في الآية ٤٩ من سورة نون في ج ١ فراجعها، ثم التفت جل جلاله إلى رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله «فَاسْتَفْتِهِمْ» عطف على قوله أول السورة (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) وذلك بعد أن بين الله معايبهم بإنكار البعث طفق يبين مثالبهم مما نسبوه إليه تعالى فقال سلهم يا محمد «أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ» اللاتي يستنكفون عنهن ويقتلونهن خشية العار أو نفقتهن «وَلَهُمُ الْبَنُونَ ١٤٩»
469
الذين يرغبون فيهم ويتفاخرون ويتباهون وهذه الآية على حد قوله تعالى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) الآية ١١ من سورة والنجم المارة في ج ١، وقوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) الآية ٥٧ من سورة النحل الآتية
، أي كيف يليق بقومك يا حبيبي أن ينسبوا لي ما يكرهون ولأنفسهم ما يحبون وأنا المنزه عن ذلك كله «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ ١٥٠» على ذلك حتى يسمونهم بنات «كلا» يا أكرم الرسل ليسوا بأولاد الله بل عباده وهم من أشرف الخلق وأقدسهم عن النقائص ولم يشاهدوا خلقهم ولم يعلموا به ولم يكن لي بنات ولم يولد لي شيء
«أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ١٥١» «وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ١٥٢» في زعمهم ونسبتهم ولم نخلقهم إناثا ولم يشاهدوا خلقهم فهم مبرأون عما وسموهم به لأنهم لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة لأنهم لا شهوة لهم «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ١٥٣» اختارهن عليهم وأنتم تعدون الأنوثة من أخس صفات الحيوان أيليق بكم هذا «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ١٥٤» على الله هذا الحكم الجائر الذي لا ترضونه لأنفسكم وهو جهل صادر منكم بذات الربوبية الأقدس «أَفَلا تَذَكَّرُونَ ١٥٥» بمقامه الجليل وترتدعون عما تتقولون، وهذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع أي لا يكون شيء من ذلك جائز البتة «أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ ١٥٦» على زعمكم هذا كلا لا دليل ولا حجة ولا برهان ولا أمارة بذلك فإن كان عندكم به شيء «فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ»
الذي فيه هذا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
١٥٧»
بقولكم، قال تعالى «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» إذ قالوا إن الله تعالى تزوج من الجن وهم حي على حدة منهم إبليس عليه اللعنة.
مطلب في الجن ونصرة الله تعالى أنبياءه وما يستخرج من الآية:
أخرج ابن الياس وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عن مجاهد قال: قال كفار قريش الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه على سبيل التبكيت فممن أمهاتهم؟ فقالوا بنات سروات الجن أي أشرافهم.
ورواه أيضا ابن أبي حاتم عن عطية وقال ابن عباس هم حي من الملائكة يقال لهم الجن ومنهم إبليس، وقيل إن المراد بالجن الملائكة وسموا جنا لاستتارهم.
والحق أن الجن فصيلة على حدة لقوله تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) الآية ٢٧ من سورة الحجر المارة، وقد نسب الله تعالى إليهم إبليس بقوله (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية ٥٠ من سورة الكهف الآتية، وقدمنا ما يتعلق بالجن في الآية الأولى من سورة الجن في ج ١ فراجعه تعلم أن خلقهم كان قبل آدم وألمعنا لهذا البحث في الآية ٢٨ من سورة الحجر المارة بأنهم ليسوا من الملائكة وأنهم سكنوا الأرض قبل آدم وأفسدوا فأهلكهم الله وشتتهم راجع الآية ٣٠ من سورة البقرة في ج ٣، قال تعالى «وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ» بتعليم الله إياهم «إِنَّهُمْ» قائلي هذا القول «لَمُحْضَرُونَ ١٥٨» في الآخرة بالموقف العظيم ومزجوجون في نار الجحيم، فلو كانوا مناسبين الله أو أصهاره أو شركاءه تعالى الله عن ذلك كله لما عذبهم، وقد أخبر واخباره حق بأنه محاسبهم على إفكهم هذا ومعاقبهم عليه ومجازيهم على بهتهم في النار، ثم إنه نزه نفسه المنزهة بقوله «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٥٩» حضرة الربوبية ويفترون عليه من نسبة الولد والزوجة لذاته المبرأة عن ذلك، ثم أخبر جل إخباره بأن كلا من الجن والإنس القائلين بحق الله ما لا يليق محضرون ومحاسبون على ما تفوهوا به ونائلهم جزاء عملهم القبيح «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ١٦٠» عملهم إليه منهما فهم ناجون وإن إخلاصهم يوصلهم الجنة ويتنعمون بها واعلموا أيها المشركون
«فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ١٦١» من دون الله «ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» على الذات المقدسة بما تصمونها به «بِفاتِنِينَ ١٦٢» مضلين ومفسدين أحدا من خلقه، وأعاد بعض المفسرين ضمير عليه إلى ما فيكون المعنى ما أنتم بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة «إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ ١٦٣» حذفت الياء من (صال) وجعلت الكسرة دالة عليها لالتقاء الساكنين على كونه مفردا لأن معناها هنا يدل على المفرد، أما كلمة (صالُوا) الواردة في الآية ٥٩ من سورة ص المارة في ج ١ فقد حذف منها النون للاضافة وللالتقاء الساكنين فيها أيضا لأنه بلفظ الجمع ولهذا لم يكتب هنا بالواو لأنه بلفظ المفرد وقرىء بضم اللام قراءة شاذة على أنه معنى من جمع أي لا يفعل هذا الفعل المنهي عنه إلا من سبقت له الشقاوة من علم الله وقدر له دخول النار. هذا، وقد جاء في هذه الآيات
من الإخبار بسخط الله العظيم على هؤلاء الكفرة المتجارئين على الله والإنكار الفظيع لأقاويلهم الكاذبة والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وسخافة أفهامهم مع الاستهزاء بعقولهم والسخرية بأشخاصهم ما لا يخفى على المتأمل. ثم حكى الله عن ملائكته فقال «وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ١٦٤» عند الله وهذا اعتراف منهم بالعبودية له جل شأنه وقد تمثل بهذا القول سيدنا جبريل عليه السلام ليلة الإسراء عند مفارقته لحضرة الرسول ﷺ حينما صعد للقاء ربه كما مر في الآية الأولى من الإسراء في ج ١ وقال له في مثل هذا المكان يترك الخليل خليله أو الحبيب حبيبه، فأجابه (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي في القرب والمعرفة والمشاهدة لا يمكن أن يتعداه خضوعا لعظمة الإله وخشوعا لهيبته وتواضعا لجلاله. هذا، ومن قال إن المراد بالجنّة هنا الملائكة جعل هذه الجملة من قولهم على الاتصال بكلامهم السابق إلى من قوله سبحان الله عما يصفون إلى قوله تعالى «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ١٦٥» حول العرش في عبادة ربنا كصفوف الإنس في الصلاة أمامه وقوله «وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ١٦٦» له العابدون ولسنا المعبودين ولا منسوبين لحضرته بالمعنى الذي ذكره قومك يا محمد «وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ ١٦٧» «لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ ١٦٨» وذلك أنهم يقولون قبل نزول القرآن على رسولهم محمد لو أن عندنا كتابا من كتب الأقدمين مثل اليهود والنصارى «لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ١٦٩» له العبادة واتبعنا ما فيه وانقدنا لأوامره ونواهيه ولما أتاهم هذا الكتاب الجامع لكل الكتب والذي فيه أحسن الذكر على لسان أكمل البشر «فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ١٧٠» غب كفرهم وعاقبة أمرهم، وهذه الآية على حد قوله تعالى (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) الآية ١٥٦ من سورة الأنعام المارة، ويقرب منها بالمعنى (وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) الآية ١٣٣ من سورة طه في ج ١،
قال تعالى «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ١٧١» التي وعدناهم بها عند ما نرسلهم لهداية الأمم وهي قوله جل قوله (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية ٢١ من سورة المجادلة
472
في ج ٣ وحروفها بحساب الجمل عن السنة الشمسية ١٩٥٨ «إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ١٧٢» على من خالفهم وناوأهم لأنهم جندناَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
١٧٣» على غيرهم من جميع الأخبار، واعلم أن حروف هذه الآية المباركة بحساب الجمل ١٣٦٠ وحروف الأولى ٦٤٤ فيكون مجموع حروف هاتين الآيتين ١٧٢/ ١٧٣ بحسب السنة الشمسية أيضا ٢٠٠٤ وحروف الآية ١٧٣ وحدها على حساب السنة القمرية ١٣٦٠ والآية ١٠٣ من سورة يونس المارة ١٤٦٨ أيضا فنسأل الله تعالى تحقيق وعده بنصرة الإسلام وإكمال عزهم ورفع رايتهم على سائر الأمم من الآن حتى يتم كماله فيها وهو على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وقد سمى الله هاتين الجملتين كلمة لا نتظامهما في معنى واحد فكانتا في حكم الكلمة على حد قوله تعالى (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) الآية ١٠٠ من سورة المؤمنين الآتية وهي إشارة إلى قوله (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا) وهي كلمات لا كلمة وعليه تعبيره صلّى الله عليه وسلم عن لا إله إلا الله محمد رسول الله بكلمة أيضا. هذا، ولا يقال إن من الأنبياء من لم ينصر وقد يغلب ويقتل أيضا لأن النصر إذا لم يكن في الدنيا فهو في الآخرة محقق لكافة الرسل والعبرة في الدنيا للغالب في النصرة الفعلية أما في المحاججة فلا شك أن النصرة لجميع الأنبياء كما هو معلوم من قصصهم التي قصها الله علينا، قال تعالى يا أكرم الرسل «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ١٧٤» إلى مدة يسيرة فقد قرب نزول العذاب بهم إذ طفح الكيل وبلغ السيل الزبى وهذا من قبيل التهديد والوعيد فمن قال إن هذه الآية منسوخة بآية السيف فقد هفا لأنها من الأخبار وكل ما كان فيه تهديد ووعيد لا يتطرقه النسخ «وَأَبْصِرْهُمْ» إذا حل بهم ما يوعدون به من العذاب «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ١٧٥» وقوعه فيهم وسوف هنا للوعيد لا للتبعيد تدبر. ولما هددهم حضرة الرسول بذلك قالوا: ومتى يكون ما توعدنا به يا محمد؟
فقال تعالى مجاوبا لهم عن نبيه «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ١٧٦» كفرة قومك وهذا استفهام على طريق التوبيخ بسبب استعجالهم ما فيه بؤسهم وشقاؤهم «فَإِذا نَزَلَ» العذاب «بِساحَتِهِمْ» فناء دورهم والساحة المكان المتسع أيضا العرصة الكبيرة أمام الدور «فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ ١٧٧» بئس الصباح صباحهم وساء
473
المساء مساؤهم، روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم غزا خيبر فلما دخل القرية قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، قالها ثلاثا، وقد فتح الله عليه ففتحها، قال تعالى «وَتَوَلَّ عَنْهُمْ» يا حبيبي «حَتَّى حِينٍ ١٧٨» انقضاء الأجل المقدر لنصرتك عليهم «وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ١٧٩» كررت هذه الجملة تسلية لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم على تسليته الأولى وتأكيدا لوقوع الوعد إلى تأكيده الأول وقيل لا تكرار لأن الآية الأولى في عذاب الدنيا وهذه في الآخرة والأول أولى، ثم نزه ذاته الكريمة ثانيا وهي أهل للتنزيه في كل لحظة فقال «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ» الغلبة والعظمة والقدرة والجبروت «عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠» هؤلاء الكفرة ربهم وخالقهم ومالك أمرهم ومربيهم مما لا يليق بجنابه العظيم هذا
«وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ١٨١» جميعهم من آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ١٨٢» على إهلاك الأعداء ونصرة الأولياء، وفي هذه الآية تعليم لعباده بأن يختموا كلامهم بحمد ربهم في الدنيا لأنه خاتمة كلام أهل الجنة وقد ختمت سورة الزمر الآتية بمثل هذه الآية، وجاء في سورة يونس المارة الآية ١٠ (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة لقمان عدد ٧- ٥٧- ٣١
نزلت بمكة بعد الصافات عدا الآيات ٢٧، ٢٨، ٢٩ فإنهن نزلن بالمدينة وهي أربع وثلاثون آية، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة وألفان ومئة وعشرة أحرف.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «الم» ١ تقدم ما فيه قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إن لله في كل كتاب سرا وسر القرآن في أوائل السور، ونقل عن علي كرم الله وجهه أنه كان يقول يا كهيعص يا حمعسق كأنه بعدها من أسماء الله والله أعلم بما فيه. وفيه من مفاتح أسماء الله الحسنى الله
474
العادل المنتقم راجع أول سورة يونس المارة وما ترشدك إليه «تِلْكَ» الآيات المنزلة عليك يا أكرم الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» ٢ المثبت فيه كل ما كان وسيكون بأنه كائن بمقتضى الحكمة البالغة التي لا تنخرم وقد أنزلنا عليك يا سيد الرسل هذه الآيات لتكون «هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ» ٣ الذين يعملون الحسنات لأنفسهم ولغيرهم الموصوفين بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» ٤ بأنها حق واقع لا محالة بلا شك ولا ريب «أُولئِكَ» المتصفون في هذه الصفات كائنون «عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» بطرق الصواب السداد «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ٥ الفائزون بكل مطلوب الناجحون بمقاصدهم الناجون من كل سوء الظافرون بآمالهم وما يبتغونه من الدنيا والآخرة، قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» بأن يستبدل الزّمر والغناء والمعازف وشبهها بكلام الله تعالى ويختارها عليه وذلك أن البيع معاوضة شيء بشيء فهو استبدال معنى عبّر عنه بالشراء «لِيُضِلَّ» الناس بغير علم ولا هدى «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» العدل السوي أي انه ما شرى ذلك إلا ليصد الناس عن دين الله الذي هو الطريق المستقيم والأمر القويم «وَيَتَّخِذَها» تلك الطريقة الحقة «هُزُواً» يسخر بها ويحمل الناس على الاستهزاء بها «أُولئِكَ» الذين هذه حالتهم «لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» ٦ عند الله يذلهم به ويخزيهم «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ» الذي هذا شأنه «آياتُنا» المنزلة على رسولنا ليأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويزجر الذين يضلون أنفسهم وغيرهم بها «وَلَّى» أدبر بظهره معرضا عنها و «مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» لأنه لم يلتفت إليها بقلبه ولا بقالبه «كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً» ثقلا يمنعه عن السمع ولا وقر بها «فَبَشِّرْهُ» يا سيد الرسل على طريق التهكم إذ وضع بشره بدل أنذره وخوفه «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ٧ في الدنيا والآخرة.
مطلب تحريم الغناء وبيع الغانيات ورواسي الأرض:
نزلت هذه الآية بالنضر بن الحارث بن كلدة كان يتجر في الحيرة فيأتي بأخبار العجم، قيل إنه جاء بأخبار كليلة ودمنة معربة (وهي معروفة) إلى الحجاز وصار
475
يحدث بها قريشا ويقول لهم إن محمدا يحدثكم عن عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة، ويشتري لهم القينات والمغنيين ويجمعهم إليه صباح مساء ليسمعهم تلك الأساطير والغناء من القيّنات والزمر والمعازف من المغنين لئلا يجتمعوا إلى محمد ويسمعوا كلام الله، ومن هذا يعلم كثافة جهله لأن محمدا صلّى الله عليه وسلم يأتيهم بشيء قديم لا يعلمه العرب ولا العجم ولا آباؤهم من المغيبات والأحكام والقصص والأخبار والأمثال والحدود مما لم يكن في قرنهم الذين هم فيه ولا الذي قبله، أما أخبار الأكاسرة وما في كليلة ودمنة فهي أمور واقعة في قرنهم وزمنهم وأخبارها متناقلة فيما بينهم غير خافية على آبائهم الموجودين معهم ومثل هذا لا يعد غيبا ولا معجزا ولا يصح أن يتحدى به لأن كثيرا منهم من يحسن نظم مثله بخلاف آيات الله التي هي من الغيب ولا يقدر أحد أن يأتي بمثلها لأنها مما يعجز عنه البشر، روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل تعليم المغنيات (الغناء) ولا بيعهن (ليغنين) وأثمانهن حرام وفي مثل هذا نزلت (وَمِنَ النَّاسِ) الآية وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله تعالى له شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت- أخرجه الترمذي- ولفظه عن أبي أمامة أن رسول الله ﷺ قال: لا تبيعوا القينات المغنيات ولا تشتروهن ولا خير في تجارتهن وثمنهن حرام وفي مثل هذا نزلت (وَمِنَ النَّاسِ) الآية إلخ. وجاء عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استمع إلى قينة صبّ في آذانه الآنك (الرصاص المذاب) يوم القيامة. ولا شك أن الغناء مفسدة للقلب منفذة للمال مسخطة للرب وكلما أشغل عن ذكر الله تعالى فهو لهو ولغو والله تعالى يقول:
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) الآية ٣ من سورة المؤمنين الآتية، وقال تعالى:
(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) الآية ٣٢ من الفرقان المارة في ج ١، وفي مدح الله تعالى الذين يعرضون عن اللغو ذم للذين يتوغلون به، هذا وأن الأحاديث كالأساطير والأضاحيك من كل ما لا يعتد به ولا خير فيه من الكلام ويستعمل في قليل الكلام وكثيره لأنه يحدث شيئا فشيئا محشوّ بالكذب فسماعها من اللغو
476
المنهي عنه شرعا والنضر المذكور قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد واقعة بدر، وقد عرف من مغزى هذه الآية ومعنى الأحاديث المارة ذم الغناء صراحة وقد تضافرت الآثار وكلم العلماء والأخيار على ذمه سواء كان برفع الصوت أو خفضه في كل مكان وزمان، أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال:
إذا ركب الرجل الدابة ولم يسم ردفه الشيطان فقال تغنّه، وإن كان لا يحسن قال تمنّه، وذلك ليشغله عن ذكر الله تعالى. وأخرجا أيضا عن الشعبي قال عن القاسم بن محمد إنه إذا سئل عن الغناء قال للسائل أنهاك عنه وأكرهه لك، فقال السائل أحرام هو؟ قال انظر يا ابن أخي إذا ميز الله تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه الغناء، يريد أنه يجعله في الباطل إذ ليس بحق ليكون مع الحق، وما بعد الحق إلا الضلال، ويكفي في ذمه أنه من الشيطان كما مر في الحديث السابق من أن الشيطان يوسوس له فيه، حتى انه إذا عرف أنه لا يحسنه وسوس له بالتمني لما يخطره بباله، فالغناء من أهواء النفس، والتمني رأسمال المفلس.
وأخرجا عنه أيضا قال: لعن الله تعالى المغني والمغني له. وجاء في السنن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغناء ينبت النّفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وقال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وانه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل المسكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزناء وإنما سمي ناقصا مع أنه أعدل ملوك بني أمية عدا عمر بن عبد العزيز رحمه الله لأنه يعد من جملة الخلفاء الراشدين لنقصه أعطية الجند ويسمى عمر الأشج لشجة فيه، ولذا يقال أعدل ملوك الأمويين الأشج والناقص. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن الله تعالى حرم القيناء وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ثم قرأت الآية المارة. الحكم الشرعي: قال القاضي أبو الطيب والقاضي عياض والقرطبي والماوردي نقلا عن الإمام أبي حنيفة إنه حرام، وقال في التتارخانية إن التغنّي حرام في جميع الأديان، وذكر في الزيادات أن الوصية للمغنين والمغنيات مما هو معصية عندنا وعند أهل الكتاب، وعده صاحبا الهداية والذخيرة
477
من الكبائر، ويستثنى منه التغني بالأعياد والأعراس ومن يغني لنفسه لدفع الوحشة وما كان فيه وعظ وحكمة، ويدخل فيه ما يفعله بعض أهل الطرائق بحضور الولدان المرد والنساء وهو أشد حرمة، لأن الذي يراه من مثلهم يظن جوازه من قبل المشايخ الذين أسسوا هذه الطرق وحاشاهم من ذلك وإنما يجوزون ما كان لله وفي الله وإلى الله من القصائد والأشعار المملوءة نصحا وزجرا عن المناهي والملاهي وترغيبا للتوغل بذكر الله ومحبة أحبابه وفعل الخير من مجالسهم المباركة، أما غير هذا فهو دخيل عليهم من ذوي الأهواء الفاسدة ولهذا قال مالك رضي الله عنه إنما يفعله (أي الغناء المؤدي للهو واللغو وغيره) عندنا الفساق، ومن أخذ جارية وظهرت مغنية فله ردّها بالعيب وأجمعت الحنابلة على تحريم الغناء. والقول الوسط:
إذا لم يكن في الغناء مفسدة كشرب الخمر والنظر إلى الأجنبية والمرد وقول الزور ومما يرغب إلى الشهوات الدنيئة فهو مباح، وعلى كل حال تركه أولى لأنه يشغل عن ذكر الله في الدنيا ويكون في الآخرة مع الباطل في وزن الأعمال.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» زيادة على إيمانهم في الدنيا «لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ» ٨ في الآخرة جزاء أعمالهم الحسنة «خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» وهو لا يخلف وعده «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ٩ الذين يهين أعداءه بغلبته القاهرة ويعزّ أولياءه بحكمته البالغة وهو «الذي خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ» في هذه الجملة قولان صحيحان فمن قال إنه لا عمد لها البتة وقف على قوله (عَمَدٍ)، ومن قال إن لها عمدا غير مرئية وقف على قوله «تَرَوْنَها» أي إن لها عمد عظيمة ولكنكم لا ترونها أو هي بلا عمد كما ترونها وكل بليغ في القدرة والآية محتملة للوجهين والله قادر على الأمرين لا يعجزه شيء، وجيء بهذه الآية كالاستشهاد على عظيم قدرته وكمال عزته وبليغ حكمته التي هي ملاك العلم وإتقان العمل وتمهيد قاعدة التوحيد وتقريره وإبطال مادة الشرك وتبكيت أهله «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ» جبالا شامخات ثوابت «أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» لئلا تتحرك وتضطرب بكم أيها الناس فجعلها ساكنة فيما ترون من نعم الله عليكم ومن تمام النفع بها لأنها لو خلت من هذه الثوابت لمادت بالمياه المحيطة بها الغامرة
478
Icon