تفسير سورة الصافات

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ١٨٢.

تفسير سورة «الصافّات»
وهي مكّيّة
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
قوله عز وجل: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا الآية، أقْسَمَ تعالى في هذه الآية بأشْيَاءَ مِنْ مخلوقاتِه، قالَ ابنُ مسعودٍ وغيرُه: «الصافات» هي الملائكة تَصُفُّ في السماءِ في عبادة الله عز وجل «١».
وقالت فرقة: المرادُ: صفوفُ بني آدم في القتال في سبيل اللَّهِ، قال ع «٢» :
واللفظُ يَحْتَمِلُ أنْ يَعُمَّ هذه المذكوراتِ كلَّها، قال مجاهد: «وَالزاجِرات» هي الملائكة تَزْجُرُ السحابَ وغير ذلك من مخلوقاتِ اللَّه تعالى «٣»، وقال قتادة: «الزاجرات» هي آيات القرآن «٤»، وفَالتَّالِياتِ ذِكْراً معناه: القارئات، قال مجاهد: أراد الملائكة التي تتلو ذكره «٥»،
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٦٧) عن مسروق برقم: (٢٩٢٤٧) وعن عبد الله (٢٩٢٤٨)، وعن قتادة برقم: (٢٩٢٤٩)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٢٢) عن ابن عبّاس والحسن وقتادة، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٥)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٠)، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٦٥).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٦٧) برقم: (٢٩٢٥٢) عن مجاهد وبرقم: (٢٩٢٥٣) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٥) عنهما، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٠)، وعزاه لابن المنذر، وأبي الشيخ في «العظمة» عن ابن عبّاس.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٦٨) برقم: (٢٩٢٥٤)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٢٢)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٥)، وابن كثير (٤/ ٢) عن الربيع بن أنس، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٠)، وعزاه لابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٦٨) برقم: (٢٩٢٥٥)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٢٢)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٥). [.....]
وقال قتادة: أراد بني آدم الذين يَتْلُونَ كُتُبَهُ المنزلةَ وتسبيحَه وتكبيرَه ونحوَ ذلك «١»، والمُقْسَمُ عليه: قولهُ: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ.
وقوله: مارِدٍ قال العراقيُّ: مَارِدٌ سُخِطَ عَلَيْهِ، وهكذا مَرِيدٍ [الحج: ٣] انتهى وهَذَا لَفْظُهُ، والمَلأ الأعلى: أهلُ السَّمَاءِ الدنيا فما فوقها، وسُمِّيَ الكُلُّ منهم أعلى بالإضَافَةِ إلى ملإ الأرْضِ الذي هو أسفلُ، والضمير في يَسَّمَّعُونَ للشياطين، وقرأ حمزة، وعاصم في رواية حفص: «لا يَسَّمَّعُونَ»، - بشد السين والميم «٢»، بمعنى: لا يَتَسَمَّعُونَ، فينتفي على قراءة الجمهورِ سَمَاعُهُمْ، وإن كانوا يستمعون وهو المعنى الصحيحُ، ويعْضُدُه قولهُ تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: ٢١٢] وَيُقْذَفُونَ معناه: يُرْجَمُونَ، والدَّحُورُ: الإصْغار والإهانَةُ، لأن الدَّحْرَ هو الدَّفْعُ بِعُنْفٍ، وقال البخاريّ: وَيُقْذَفُونَ يرمون «٣» ودُحُوراً مُطْرَدِين، وقال ابن عباسٍ: «مدحوراً» مَطْرُوداً «٤»، انتهى، والوَاصِبُ: الدائم قاله مجاهد وغيره «٥»، وقال أبو صالح: الواصبُ:
المُوجِعُ «٦»، ومنه الوَصَبُ، والمعنى: هذه الحالُ هي الغالبةُ على جميع الشياطين إلا مَنْ شَذَّ فَخَطَفَ خَبَراً أو نَبَأً، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ فأحرقَه، والثَّاقِبُ، النافِذُ بضوئه وشعاعِه المنير قاله قتادة وغيره «٧».
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١ الى ١٣]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣)
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٥).
(٢) وقرأ بها الكسائيّ.
ينظر: «السبعة» (٥٤٦)، و «الحجة» (٦/ ٥٢)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٤٤)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣١٦)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٨٠)، و «العنوان» (١٦١)، و «حجة القراءات» (٦٠٥)، و «شرح شعلة» (٥٦٢)، و «إتحاف» (٢/ ٤٠٨).
(٣) أخرجه البخاري (٨/ ٤٠٥) كتاب «التفسير» باب: سورة الصافات، معلقا عن مجاهد.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٧٢) برقم: (٢٩٢٧١) عن مجاهد بلفظ: «مطرودين»، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٦) عن مجاهد.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٧٣) برقم: (٢٩٢٧٦) عن مجاهد، وبرقم: (٢٩٢٧٧) عن ابن عبّاس وبرقم: (٢٩٢٧٨) عن عكرمة، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١١)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(٦) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٦).
(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٧٤) برقم: (٢٩٢٨٠)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٧) عن قتادة، والسدي، وابن زيد.
وقوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا أي: فلا يُمْكِنُهُمْ أن يقولوا إلا أنَّ خَلْقَ مَنْ سواهُم من الأمَمِ والملائِكَة، والجنِّ والسَّمواتِ والأرضِ والمشارِق والمغارِبِ وغير ذلك- هو أشَدُّ مِنْ هؤلاءِ المخاطَبِينَ، وبأن الضمير/ في خَلَقْنا يرادُ به ما تقدم ذكره، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: ويُؤَيِّدُه ما في مصحف ابن مسعود «أُمْ مَنْ عَدَدْنَا» «١» وكذلك قرأَ الأَعْمَشُ «٢».
وقوله تعالى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ أي: خلقُ أصلِهم وهو آدم ع، واللاّزِبُ: اللازمُ: يَلْزَمُ ما جاورَهُ ويَلْصَقُ به، وهُوَ الصَّلْصَالُ، بَلْ عَجِبْتَ يا محمدُ مِنْ إعْرَاضِهِم عن الحق، وقرأ حمزةُ والكسائي «بل عَجِبْتُ» - بضمِ التاء- «٣» وذلك على أن يكونَ تَعَالَى هو المُتَعَجِّبُ ومعنَى ذَلِكَ مِن اللَّه تعالى: أنه صفة فعل، ونحوه قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«يَعْجَبُ اللَّهُ مِنَ الشّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ» فإنَّما هِي عِبَارَةٌ عَمَّا يُظْهِرُهُ اللَّه- تعالى- في جِانِبِ المُتَعَجَّبِ مِنْهُ من التعظيمِ أو التحقير حَتَّى يصيرَ الناسُ مُتَعَجِّبِينَ مِنه، قال الثعلبي: قال الحسينُ بن الفضل: التعجبُ من اللَّهِ إنكارُ الشيء، وتعظيمهُ وهو لغة العرب، انتهى.
وقوله: وَيَسْخَرُونَ أي: وهمْ يَسْخَرُونَ من نبوّتك.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤ الى ٢٦]
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨)
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
وقوله: وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ يريدُ بالآية: العلامةَ والدلالة، ورُوِيَ أنَّها نزلتْ في رُكَانة وَهُوَ رَجُلٌ من المشركينَ من أهل مكة لقيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جَبَلٍ خَالٍ وهُوَ يرعى غَنَماً له وكانَ أقوى أهْلِ زَمانِه، فقال له النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «يَا رُكَانَةُ أَرَأَيْتَ إنْ صَرَعْتُكَ أَتُؤْمِنُ بِي؟ قال: نعم، فصرعه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثَلاَثاً، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ دُعَاءِ شجرة وإقبالها،
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٦٧)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٣٩).
(٢) يعني: مخففة الميم.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٦٧)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٣٩)، و «الدر المصون» (٥/ ٤٩٧).
(٣) ينظر: «السبعة» (٥٤٧)، و «الحجة» (٦/ ٥٣)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٤٥)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣١٧)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٨١)، و «العنوان» (١٦١)، و «حجة القراءات» (٦٠٦)، و «شرح شعلة» (٥٦٢)، و «إتحاف» (٢/ ٤٠٨).
24
ونَحْوَ ذَلك مما اخْتَلَفَتْ فيه ألفاظُ الحديثِ، فَلَمَّا فَرَغَ ذلكَ لَم يُؤْمِنْ، وجاءَ إلى مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا بني هَاشِمٍ، سَاخِرُوا بِصَاحِبِكُمْ أَهْلَ الأرضِ، فنزلَتْ هذه الآية فيه وفي نظرائه، ويَسْتَسْخِرُونَ قال مجاهد وقتادة: معناه: يَسْخَرُونَ «١»، ثم أمر تعالى نبيَّه أن يُجِيبَ تَقْرِيرَهُمْ واستفهامهم عَنِ البَعْثِ ب نَعَمْ، وأن يزيدَهُمْ في الجواب، أنَّهُمْ معَ البعث في صَغَارٍ وذلَّةٍ واستكانةٍ، والدَّاخِرُ: الصَّاغِرُ الذليلُ، وقَدْ تَقَدَّمَ بيانهُ غيرَ ما مَرَّةٍ، والزَّجْرَةُ الواحدةُ: هِيَ نَفْخَةُ البَعْثِ، قال العراقيّ: الزّجرة: الصّيحة بانتهار، انتهى. والدِّينِ:
الجزاءُ، وأجمَع المفسِّرُونَ على أن قولَه تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ لَيْسَ هو من قولِ الكَفَرَةِ وإنما المعنى: يُقَالُ لهُم.
وقوله: وَأَزْواجَهُمْ معناه: أنوَاعُهُم وضُرَباؤهم قاله عمر وابن عبّاس وقتادة «٢»، ومعهم ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ آدَمِيٍّ رَضِيَ بذلكَ، ومن صَنَمٍ وَوَثَنٍ توبيخاً لهم وإظهاراً لِسُوءِ حالهم، وقال الحسنُ: أَزْواجَهُمْ نساؤهم المشركاتُ: وقاله ابن عباس أيضاً «٣».
وقوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ معناه: قَدِّمُوهم واحملوهم على طريق الجحيم، ثم يأمر اللَّهُ تعالى بوقوفهم- على جِهَةِ التَّوْبِيخِ لهم- والسؤال، قال جمهور المفسرين: يُسْأَلُونَ عن أعمالهم ويُوقَفُونَ على قُبْحِها، وقد تقدَّم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ... » الحديثَ، قال ع «٤» : ويَحْتَمِلُ عندي أنْ يكونَ المعنى على نحوِ ما فسّره تعالى بقوله: ما لَكُمْ لا
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٧٧) برقم: (٢٩٣٠٢) عن قتادة وبرقم: (٢٩٣٠٣) عن مجاهد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٣)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٧٩) برقم: (٢٩٣١٢) عن عمر بن الخطاب وبرقم: (٢٩٣١٣) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤) عن عمر، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٣)، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وابن منيع في مسنده، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث» من طرق النعمان بن بشير عن عمر، وللفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس، ولعبد بن حميد، وابن مردويه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٩) عن الحسن وابن عبّاس، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤) عن ابن عبّاس.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٦٩). [.....]
25
تَناصَرُونَ أي: إنهم مسؤولون عن امْتِنَاعِهم عن التَّنَاصُرِ وهذا على جهة التَّوْبِيخِ، وقرأ خلق «١» «لا تَتَنَاصَرُونَ». ت: قال عِيَاضٌ في «المدارك» : كان أبو إسْحَاقَ الجبنياني ظَاهِرَ الحُزْنِ، كثيرَ الدَّمْعَةِ يَسْرُدُ الصِّيَامَ، قال ولده أبو الطاهِر: قال لي أبي: إن إنساناً بقي في آية سنةً لَمْ يَتَجَاوَزْهَا، وهي قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ فقلتُ له: أَنْتَ هُوَ؟
فَسَكَتَ، فعلمتُ أَنَّه/ هو، وكانَ إذا دَخَلَ في الصَّلاَةِ: لَوْ سَقَطَ البيتُ الذي هو فيه، ما التَفَتَ، إقبالاً على صَلاَتِهِ، واشتغالا بمناجَاة ربِّهِ، وكانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَضْيِيقاً على نَفْسِهِ ثم عَلى أَهْلِه، وكان يأكلُ البَقْلَ البَرِّيَّ والجَرَادَ إذا وَجَدَهُ ويَطْحَنُ قُوتَهُ بِيَدِهِ شَعِيراً، ثُم يَجْعَلُهُ بِنُخَالَتِهِ دَقِيقاً في قِدْرٍ مع مَا وَجَدَ مِنْ بَقْلٍ بَرِّيٍّ وَغيرِه، حتى إِنّه رُبَّما رَمَى بِشَيْءٍ مِنْهُ لِكَلْبٍ أَو هِرٍّ فَلا يَأْكُلُهُ، وكانَ لِبَاسُهُ يَجْمَعُهُ من خرق المزابل ويرقّعه، وَكَانَ يَتَوَطَّأُ الرَّمْلَ، وَفي الشِّتَاءِ يَأْخُذُ قِفَافَ المَعَاصِرِ المُلْقَاةِ على المَزَابِلِ يجعلُها تَحْتَهُ، قال وَلَدُهُ أبو الطَّاهِرِ: وكنَّا إذا بَقِينَا بلا شَيْءٍ نَقْتَاتُهُ، كُنْتُ أَسْمَعُهُ في اللَّيْل يَقُولُ: [البسيط]
مَالِي تِلاَدٌ ولاَ استطرفت مِنْ نَشَب وَمَا أُؤمِّلُ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ أَحَدٍ
إنَّ الْقُنُوعَ بِحَمْدِ اللَّهِ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّعَرُّضِ للمَنَّانَةِ النكد
انتهى.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٧ الى ٣٤]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)
وقوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ هذه الجماعَةُ التي يقْبِلُ بعضُها على بعضٍ هي جِنٌّ وإنْسٌ قاله قتادة «٢»، وتَسَاؤُلُهم هو على معنى التَّقْرِيعِ واللَّوْمِ والتَّسَخُّطِ، والقائلون: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا إما أنْ يكونَ الإنْسُ يقولونها للشياطينِ وهذا قول مجاهد وابن زيد «٣»، وإما أنْ يكونَ ضَعَفَةُ الإنْسِ يقولُونَهَا لِلكبراءِ والقادةِ، واضطرب
(١) وقع في المطبوعة: «وقرأ خالد»، وهو تحريف، والصواب: خلق، كما أثبتناه.
وينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٦٩).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٨١) برقم: (٢٩٣٢٧)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٥)، وعزاه السيوطي لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٨١) برقم: (٢٩٣٢٨) عن مجاهد وبرقم: (٢٩٣٣١) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٩) عنهما، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٥)، كلاهما عن مجاهد، وعزاه السيوطي لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
المُتَأَوِّلُونَ في معنى قولهم: عَنِ الْيَمِينِ فعبَّر ابنُ زيد وغيرُه عنه بطريقِ الجَنَّةِ «١»، ونحو هذا من العباراتِ التي هي تفسيرٌ بالمعنى، ولا يختصُّ بنَفْسِ اللَّفْظَةِ، والذي يخصُّها مَعَانٍ:
منها أن يريدَ باليمين: القوةَ. أي: تحملونَنَا على طريقِ الضَّلاَلَةِ بقوةٍ، ومنها أن يريدَ باليمينِ. اليُمْنَ، أي: تأتوننا من جِهَة النصائِح والعملِ الذي يُتَيَمَّنُ به، ومن المعاني التي تحتملها الآيةُ أن يريدوا: أنكم كُنتم تجيئُونَنَا من جهة الشَّهَوَاتِ، وأكثرُ ما يَتَمكَّنُ هذا التأويلُ مع إغواء الشياطين، وقيلَ: المعنى تَحْلِفونَ لنا، فاليمينُ على هذا: القَسَمُ، وقد ذَهَبَ بعضُ العلماءِ في ذكرِ إبليسَ جهاتِ بني آدم في قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف: ١٧] إلى ما ذكرناه من جهةِ الشهوات. ثم أخْبَرَ تعالى عن قول الجِنّ المجيبينَ لهؤلاءِ بقولهم: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، أي: ليس الأمْرُ كما ذكرتمْ بل كانَ لكمُ اكتسابُ الكُفْرِ وما كانَ لنَا عليكم حُجَّةٌ، وبنحو هذا فَسَّرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قولُ الجِنِّ إلى غاوِينَ «٢». ثم أخْبَرَ تعالى بأنهم جميعاً في العذابِ مشتركون، وأنَّ هذا فعلُه بأهل الجُرْم والكفر.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)
وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ... الآية، قُلْتُ: جاء في فضل «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» أحاديثُ كثيرةٌ فمنها ما رواه أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: قَالَ موسى: يَا رَبِّ علِّمْنِي شَيْئاً أَذْكُرُكَ بِهِ، وأدْعُوكَ بِهِ، قال: قُلْ يَا مُوسَى: «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» قال: يَا رَبِّ، كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا، قَالَ: قُلْ: «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» قَالَ: إنَّمَا أُرِيدُ شَيْئاً تَخُصُّنِي بِهِ، قَالَ: يَا موسى، لَوْ أَنَّ السموات السَّبْعَ والأَرْضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ، و «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» في كِفَّةٍ- مَالَتْ بِهِنَّ «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» «٣» - رواه النسائي وابن حبّان في
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٩).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٨٢) برقم: (٢٩٣٣٢)، بلفظ: قال: قالت لهم الجن: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ حتى بلغ: قَوْماً طاغِينَ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٠).
(٣) أخرجه ابن حبان (١٤/ ١٠٢) كتاب «التاريخ» باب: ذكر سؤال كليم الله ربه أن يعلمه شيئا يذكره، برقم: (٦٢١٨)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ٢٠٨- ٢٠٩) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: أفضل الذكر والدعاء، برقم: (١٠٦٧٠/ ٤)، والحاكم في «المستدرك» (١/ ٥٢٨)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص ١٠٢، ١٠٣، وأبو يعلى (٢/ ٥٢٨)، برقم: (٤٢٠/ ١٣٩٣)، وأبو نعيم في «الحلية» (٨/ ٣٢٨). -
«صحيحه»، واللفظ لابن حبّان، وعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «وقول لاَ إله إلاَّ اللَّهُ/ لاَ تَتْرُكُ ذَنْبَاً وَلاَ يُشْبِهُهَا عَمَلٌ» «١»، رواه الحاكم في «المستدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» وقال صحيحٌ الإسنَاد، انتهى من «السّلاح»، والطائفة التي قالت: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ هي قريشٌ وإشارتهم بالشاعر إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بقوله: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ الذينَ تَقَدَّمُوهُ، ثم أَخْبَرَ تعالى مخاطبا لهم بقوله: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ الآية.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٤٠ الى ٤٨]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨)
وقوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناءٌ مُنْقَطِعٌ وهؤلاءِ المؤمنون.
وقوله: مَعْلُومٌ معناه: عندهُمْ.
وقوله: بَيْضاءَ يَحْتَملُ أَنْ يعودَ على الكأسِ، ويحتملُ أنْ يعودَ على الخَمْرِ، وهو أظهرُ، قال الحسنُ: خَمْرُ الجَنَّةِ أَشَدُّ بياضاً مِنَ اللَّبَنِ «٢»، وفي قراءة ابن مسعود «٣» :
«صفراء» فهذا وصفُ الخمرِ وحدَها، والغَوْلُ: اسمٌ عامٌّ في الأذى، وقال ابن عباس وغيره: الغَوْلُ: وَجَعٌ في البطْنِ «٤»، وقال قتادةُ هو صُدَاعٌ في الرأس «٥» ويُنْزَفُونَ من
- قال الحاكم: هذا حديث صحيح.
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٨٥) : رواه أبو يعلى، ورجاله وثقوا، وفيهم ضعف.
(١) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (١/ ٥١٤)، وقال: صحيح.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٢).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٧٢)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٤٤)، و «الدر المصون» (٥/ ٥٠١)، و «مختصر الشواذ» ص: (١٢٨)، وزاد نسبتها إلى الحسن والضحاك.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٨٥) برقم: (٢٩٣٤٩) عن ابن عبّاس، وبرقم: (٢٩٣٥٠) عن مجاهد، وبرقم: (٢٩٣٥١) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٢) عنهم، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٦) أيضا عنهم، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٧)، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس، ولهناد، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن مجاهد، ولعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٨٥) برقم: (٢٩٣٤٨) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٢) عن ابن عبّاس، وقتادة، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٧) عنهما، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٦) أيضا عنهما، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس، ولعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة.
قولك: نُزِفَ الرَّجُلُ إذا سَكِرَ، وبإذْهابِ العَقْلِ فَسَّره ابن عباس «١»، وقرأ حمزة والكسائي «يُنْزِفُونَ» بكسر الزاي «٢» من «أنزف» وله معنيان:
[أحدهما: سَكِر.
والثاني: نَفِدَ شَرَابُه.
وهذا كله منفيّ عن أهل الجنّة.
وقاصِراتُ الطَّرْفِ] «٣» قال ابن عباس وغيره معناه على أزواجهن «٤»، أي: لا ينظرن إلى غيرهم، وعِينٌ: جَمْعُ «عَيْنَاءَ»، وهي الكَبِيرةُ العَيْنينِ في جَمَالٍ.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٤٩ الى ٥٣]
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣)
وقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ قال ابن جبير والسُّدِّيُّ: شَبَّه ألوانَهُنَّ بِلَوْنِ قِشْرِ البَيْضَةِ الداخليِّ، وهو المكنونُ «٥»، أي المَصُونُ، ورجَّحَه الطبريُّ «٦»، وقال الجمهور: شَبَّه أَلْوَانَهُنَّ بَلَوْنِ قِشْرِ البَيْضَةِ من النَّعَامِ، وهو بياضٌ قَدْ خالَطَتْهُ صُفْرَةٌ حسنة، ومَكْنُونٌ أي:
بالريش، وقال ابن عباس فيما حَكَى الطبريّ: «البيض المكنون» أراد به الجوهر
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٨٦) برقم: (٢٩٣٥٦) عن ابن عبّاس وبرقم: (٢٩٣٥٨) عن مجاهد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٢) عن ابن عبّاس وقتادة، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٦)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس.
(٢) ينظر: «السبعة» (٥٤٧) و «الحجة» (٦/ ٥٤)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٤٦)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣١٨)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٨٣)، و «العنوان» (١٦١)، و «حجة القراءات» (٦٠٨)، و «شرح شعلة» (٥٦٢)، و «إتحاف» (٢/ ٤١١). [.....]
(٣) سقط في: د.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٨٧) برقم: (٢٩٣٦٢) عن ابن عبّاس، وبرقم: (٢٩٣٦٣) عن مجاهد، وبرقم: (٢٩٣٦٤) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٣) وزاد نسبته لابن زيد وقتادة، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٧)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس، ولعبد بن حميد عن مجاهد.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٨٨) برقم: (٢٩٣٧١) عن سعيد بن جبير وبرقم: (٢٩٣٧٢) عن السدي.
(٦) ينظر: «تفسير الطبري» (١٠/ ٤٨٩).
29
المَصُونَ «١»، قال ع «٢» : وهذا يَرُدُّهُ لَفْظُ الآيةِ، فلا يَصِحُّ عَنِ ابن عباس.
وقوله تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ... الآية، هذا التَّساؤُلُ الذي بَيْنَ أهْلِ الجَنَّةِ هو تساؤُلُ رَاحَةٍ وَتَنَعُّمٍ يَتَذَاكَرُونَ أمُورَهُمْ في الجَنَّةِ وأمْرَ الدنيا وحالَ الطَّاعَةِ والإيمَانِ فيها، ثم أخْبَرَ تعالى عَنْ قَوْلِ قائِلٍ منهم في قِصَّتِهِ، وهو مثالٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ قَرِينُ سَوْءٍ، فَيُعْطِي هَذَا المثالُ التَّحَفُّظَ مِنْ قُرَنَاءِ السوءِ، قال الثعلبيُّ: قوله:
إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ قال مجاهد: كان شَيْطَاناً «٣»، انتهى، وقال ابنُ عباس وغيره: كان هذانِ منَ البَشَرِ مُؤمِنٌ وكَافِرٌ «٤»، وقال فُرَاتُ بْنُ ثَعْلَبَةَ البَهْرَانِيُّ في قَصَصِ هَذَيْنِ: إنَّهُمَا كَانَا شَرِيكَيْنِ بثمانيةِ آلاف دينارٍ، فكَانَ أحدُهُمَا مَشْغُولاً بِعِبَادةِ اللَّهِ، وكان الآخرُ كافراً مُقْبِلاً على مَالِهِ، فَحَلَّ الشَّرِكَةَ مع المؤمِنِ وَبقيَ وَحْدَه لِتَقْصِيرِ المؤمِنِ في التِّجَارَةِ، وجَعَلَ الكَافِرُ كُلَّمَا اشْتَرَى شَيْئاً من دَارٍ أو جَاريةٍ أو بستانٍ ونحوِهِ، عرضه عَلى المؤمِنِ وفَخَرَ عليه، فَيَمْضِي المؤمِنُ عندَ ذلكَ، وَيَتَصَدَّقُ بنحوِ ذلك لِيَشْتَرِي بِه من اللَّهِ تعالى في الجَنَّةِ، فكانَ مِنْ أمرِهمَا في الآخِرَةِ ما تَضَمَّنَتْهُ هذه «٥» الآية، وحكى السُّهَيْلِيُّ أن هذين الرجلَيْنِ هما المذكورانِ في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ... الآية [الكهف: ٣٢] انتهى، و «مدينون» معناه: مجاوزون محاسبون قاله ابن عبّاس وغيره «٦».
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٨٩) برقم: (٢٩٣٧٥) بلفظ: اللؤلؤ المكنون، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٧)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٧٣).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٩٠) برقم: (٢٩٣٧٩)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٢٨)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٨)، وعزاه السيوطي للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٩٠) برقم: (٢٩٣٨٠) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي (٤/ ٢٨)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٨)، كلاهما عن ابن عبّاس.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٩٠) برقم: (٢٩٣٨١)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٣)، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٩)، وعزاه السيوطي لسعيد بن منصور.
(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٩١) برقم: (٢٩٣٨٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٢١)، وعزاه السيوطي لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد، ولعبد بن حميد عن قتادة.
30

[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥٤ الى ٦١]

قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨)
إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
وقوله تعالى: قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ الآية، / في الكلامِ حَذْفٌ، تقديرُه: فقالَ لِهذَا الرجلُ حاضِرُوهُ مِنَ الملائِكَةِ: إنَّ قَرِينَكَ هذا في جَهَنَّمَ يُعَذَّبُ فقال عند ذلك: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ يخَاطِبُ ب «أَنْتُم» الملائكةَ أو رفقاءَه في الجنةِ أو خَدَمَتَهُ وَكُلَّ هذا حَكَى المَهْدَوِيُّ، وقَرَأ أبو عمرو في رواية حُسَيْنٍ «مُطْلِعُونَ» بسكون الطاء وفتح النون «١»، وقرِىء شاذًّا «مُطْلِعُونِ» - بسكون الطاء وكسر النون «٢» -، قال ابن عباس وغيره: سَواءِ الْجَحِيمِ وَسَطُه «٣»، فقال له المؤمِنُ عند ذلك: تَاللَّهِ، إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي: لَتُهْلِكُنِي بإغْوائِكَ، والرَّدَى: الهلاكُ، وقولُ المؤمِنِ: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إلى قوله: بِمُعَذَّبِينَ يحتملُ أن تكونَ مخاطبةً لِرُفَقَائِهِ في الجَنَّةِ، لمَّا رأى مَا نَزَلَ بِقَرِينِهِ، ونَظَرَ إلى حالِه في الجنَّةِ وحالِ رُفَقَائِهِ قَدَّرَ النعمةَ قَدْرَهَا، فَقَالَ لهم على جهة التوقيفِ على النِّعْمَةِ: أفما نحن بميِّتين ولا معذَّبين، ويجيء على هذا التأويل قوله: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
إلى قوله:
الْعامِلُونَ مُتَّصِلاً بكَلاَمِهِ خِطَاباً لرفقائهِ، ويحتمل قوله: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ أن تكون
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٧٤).
ووقع في رواية أبي بكر بن مجاهد أن أبا عمرو قرأها مثل قراءة الباقين، غير أنه قرأ: «فأطلع» مبنيا للمجهول.
ينظر: «السبعة» (٥٤٨)، و «الحجة» (٦/ ٥٥- ٥٦)، و «مختصر الشواذ» ص: (١٢٨)، و «المحتسب» (٢/ ٢١٩).
(٢) وقرأ بها أبو البرهسم، وعمار بن عمار.
قال ابن عطية: وردّ هذه القراءة أبو حاتم وغيره ولحنوها وذلك أنها جمعت بين ياء الإضافة ونون المتكلم، والوجه أن يقال: «مطلعيّ». ووجه القراءة أبو الفتح بن جني، وقال: أنزل الفاعل منزل الفعل المضارع، وأنشد الطبري [الوافر] :
وما أدري وظن كلّ ظن أمسلمني إلى قومي شراحي
وقال الفراء: يريد شراحيل.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٧٤)، و «المحتسب» (٢/ ٢٢٠)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٤٦)، و «الدر المصون» (٥/ ٥٠٣).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٩١) برقم: (٢٩٣٨٥) عن ابن عبّاس، وبرقم: (٢٩٣٨٧) عن الحسن، وبرقم: (٢٩٣٨٩) عن قتادة، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٢٨) عن ابن عبّاس، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٢١)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
مخاطبةً لقرينِه على جهة التوبيخ، كأنَّه يقول: أين الذي كنتَ تقولُ من أنَّا نموتُ وَلَيْسَ بَعْدَ الموتِ عِقَابٌ ولا عَذَابٌ، ويكونُ قولُه تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إلى قوله:
الْعامِلُونَ يحتمل أنْ يَكُونَ من خِطَابِ المُؤْمِنِ لقرينهِ وإليه ذَهَبَ قتادة «١»، ويحتملُ أنْ يَكُونَ من خِطَابِ اللَّه- تعالى- لمحمَّد ع وأُمَّتِه، ويُقَوِّي هذَا قَوْلُهُ: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ وهُوَ حَضٌّ عَلى العَمَلِ والآخِرَةُ لَيْسَتْ بدار عمل.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٢ الى ٧٢]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢)
وقولُهُ تعالى: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ المرادُ بالآية: تقريرُ قريشٍ والكفارِ، قال ع «٢» : وفي بعض البلادِ الجَدْبَةِ المجاورةِ للصَّحَارَى- شجرةٌ مُرَّةٌ مَسْمُومَةٌ لَهَا لَبَنٌ، إنْ مَسَّ جِسْمَ أَحَدٍ تَوَرَّمَ وَمَاتَ مِنْهُ في أغلب الأمْرِ تُسَمَّى شجَرَةَ الزَّقُّومِ، والتَّزَقُّمُ في كَلاَمِ العَرَب: البَلْعُ عَلَى شِدَّةٍ وَجَهْدٍ.
وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ قال قتادة ومجاهد والسُّدِّيُّ: يريد أبا جهل ونظراءه «٣»، وقد تقدم بيان ذلك.
وقوله تعالى: كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ اخْتَلَفَ في معناه فقالت فرقة: شَبَّهَ طَلْعَها بثَمَرِ شَجَرَةٍ مَعْرُوفَةٍ يقالُ لَها «رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ»، وهي بناحِيَةِ اليَمَنِ، يقال لها: «الأَسْتَنُ»، وقالت فرقة: شَبَّهَ برُؤُوسِ صِنْفٍ منَ الحيَّاتِ يُقَالُ لها «الشَّياطِين»، وهي ذواتُ أعْرَافٍ، وقالت فرقة: شَبَّه بما اسْتَقَر في النُّفُوسِ مِنْ كَرَاهَةِ رؤوس الشياطين وقُبْحِهَا وإنْ كانَتْ لاَ تُرَى لأن الناسَ إذا وصفوا شَيْئاً بِغَايَةِ القُبْحِ قَالوا: كأنَّه شَيْطَانٌ ونَحوُ هذا قولُ امرئ القيس: [الطويل].
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٥). [.....]
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٧٥).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٩٤) برقم: (٢٩٣٩٩) عن السدي، وبرقم: (٢٩٤٠٠) عن مجاهد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٥)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ١٠) عن مجاهد، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٢٢)، وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد، ولابن مردويه عن ابن عبّاس.
أَيَقْتُلُنِي وَالمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ «١»
فإنَّما شَبَّه بما استقر في النفوس من هيئتها، والشَّوْبُ: المِزَاجُ والخَلْطُ قاله ابن عباس وقتادة «٢»، والحميم: السُّخْنُ جِدًّا مِن الماء ونحوِهِ، فيريد به هاهنا شَرَابَهُمْ الذي هو طِينةُ الخَبَالِ صَدِيدُهُمْ وَمَا يَنْماعُ مِنْهُمْ هذا قولُ جماعةٍ من المفسرين.
وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ كقوله تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: ٤٤] وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ... الآية، تمثيل لقريش ويُهْرَعُونَ معناه: يُسْرِعُونَ قاله قتادة وغيره «٣»، وهذا تَكَسُّبُهُمْ للكفر وحرصهم عليه.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٦]
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)
وقوله تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ يَقْتَضِي الإخبارَ بأنه عذَّبَهُمْ ولذلك حَسُنَ الاستثناءُ في قوله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ونِداءُ نُوحٍ تَضَمَّنَ أشْياءَ كطَلبِ النصرة والدعاءِ على قومِه وغيرِ ذلك، قال أبو حيان «٤» : وقوله: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ جَوابُ قَسَمٍ كقوله: [من الطويل]
يمينا لنعم السّيّدان وجدتما «٥»..................................
(١) من قصيدة أولها:
ألا عم صباحا أيها الطّلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
ينظر: «ديوانه» (٣٣)، «معاهد التنصيص» (٢/ ٧)، «الكامل» (٣/ ٩٦)، «البحر المحيط» (٧/ ٣٦٣)، و «الدر المصون» (٥/ ٥٠٦).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٩٥) برقم: (٢٩٤٠٢) عن ابن عبّاس، وبرقم: (٢٩٤٠٤) عن قتادة، و (٢٩٤٠٥) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٦) عنهما، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ١١) عن ابن عبّاس، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٢٢)، وعزاه لابن المنذر عن ابن عبّاس.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٩٦) برقم: (٢٩٤١٣) عن قتادة، وبرقم: (٢٩٤١٤) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٢٣)، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.
(٤) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٣٤٩).
(٥) صدر بيت لزهير بن أبي سلمى وعجزه:
................ على كلّ حال من سجيل ومبرم
البيت في «ديوانه» ص: (١٤)، و «الأشباه والنظائر» (٨/ ٢١٠)، و «جمهرة اللغة» ص: (٥٣٤)، و «خزانة الأدب» (٣/ ٦)، (٩/ ٣٨٧)، و «الدرر» (٤/ ٢٢٧)، و «شرح عمدة الحافظ» ص: (٧٩٢)، و «همع الهوامع» (٢/ ٤٢)، وبلا نسبة في «خزانة الأدب» (٩/ ٣٩٠).
والمخصوصُ بالمَدْحِ محذوفٌ، أي: فَلنِعْمَ المجيبُونَ نَحْنُ، انتهى.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٧ الى ٨٢]
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
وقوله تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قال ابن عبَّاسٍ وقتادة: أهْلُ الأرضِ كلُّهُمْ من ذريةِ نوحٍ «١»، وقالت فرقة: إنَّ اللَّه تعالى أَبْقَى ذريةَ نُوحٍ وَمَدَّ نَسْلَه، وليسَ الأمْرُ بأَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا انْحَصَرُوا إلى نَسْلِهِ، بَلْ في الأُمَمِ مَنْ لاَ يَرْجِعُ إليْه، والأول أشْهَرُ عَنْ عُلَماءِ الأمَّة، وقالوا: نوحٌ هو آدم الأصغر، قال السُّهَيْلِيُّ: ذُكِرَ عَنْ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال في قوله- عز وجل-: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ: [إنَّهم] سامٌ وحَامٌ ويافثُ «٢»، انتهى.
وقوله تعالى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ معناهُ: ثناءً حسَناً جَميلاً باقياً آخِرَ الدّهر قاله ابن عبّاس وغيره «٣»، وسَلامٌ رفعٌ بالابتداء مُسْتَأنف، سَلَّمَ اللَّهُ به عليه لِيَقْتَدِيَ بذلك البَشَرُ. ت: قال أبو عُمَرَ في «التمهيد» : قال سعيد- يعني: ابن عبد الرحمن الجُمَحِيَّ-: بلَغَني أنه مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ لَمْ تَلْدَغْهُ عَقْرَبٌ، ذَكَرَ هذا عندَ قولِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للأسْلَمِيِّ الذي لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ: «أمَا لَوْ أَنَّكَ قُلْتَ حِينَ أمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ إنْ شاء الله» «٤»، قال أبو
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٩٨) برقم: (٢٩٤٢٠) عن قتادة، وبرقم: (٢٩٤٢١) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٧)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ١٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٢٤)، كلهم عن ابن عبّاس، وقتادة، وعزاه السيوطي لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولابن المنذر عن ابن عبّاس.
(٢) أخرجه الترمذي في «سننه» (٥/ ٣٦٥)، كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة الصافات برقم:
(٣٢٣٠)، والطبري (١٠/ ٤٩٧) برقم: (٢٩٤١٩)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٢٤)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه.
قال الترمذي: هذا حديث حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إِلا من حديث سعيد بن بشير.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٩٨) برقم: (٢٩٤٢٢) عن ابن عبّاس، وبرقم: (٢٩٤٢٤) عن قتادة، وذكره ابن عطية (٤/ ٤٧٧)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ١٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٢٤)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولابن المنذر عن ابن عبّاس.
(٤) هذا الحديث روي من طريق أبي هريرة، وخولة بنت حكيم، وعمرو بن العاص، وسهيل بن أبي صالح عن أبيه.
أما طريق أبو هريرة: أخرجه مسلم (٤/ ٢٨١) «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار»، باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، برقم: (٢٧٠٩)، وأبو داود (٢/ ٤٠٦) كتاب «الطب» باب: كيف الرقى، برقم: (٣٨٩٩)، وابن حبان (٧/ ٣٨٦) - الموارد برقم: (٢٣٦٠) ولم يذكر نبأ الأسلميّ،
عُمَرَ: وَرَوَى [ابنُ وَهْبٍ] «١» هذَا الحديثَ عَنْ مالكٍ يَعْني: حديثَ: «أعوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ» بإسْنَادِهِ مِثْلَ ما في «المُوطَّإ»، إلا أنَّه قال في آخره: «لَمْ يَضُرَّكَ شَيْءٌ» «٢» انتهى.
وقوله تعالى: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ قال جماعة من العلماء: إنَّ الغَرَقَ عَمَّ جميعَ النَّاسِ، وأسْنَدُوا في ذلك أحَادِيثَ، قَالُوا: وَلَمْ يَكُنِ الناسُ حينئذٍ بهذهِ الكَثْرَةِ لأنَّ عَهْدَ آدم كانَ قريباً، وكانتْ دَعْوَةُ نُوحٍ ونُبُوَّتُهُ قَدْ بَلَغَتْ جميعَهم، لِطُولِ المدَّةِ واللَّبْثِ فِيهم، فَتَمادَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَمْ يَقْبَلُوا مَا دَعَاهُمْ إليه من عبادةِ الرحمن فلذلكَ أغْرَقَ اللَّهُ جميعَهُمْ.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٧]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧)
- والنسائي في «الكبرى» (٦/ ١٥٢) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول إذا خاف شيئا من الهوام حين يمسي، برقم: (١٠٤٢٤/ ٤)، وأبو يعلى (١٢/ ٤٤) برقم: (٨٤٨/ ٦٦٨٨)، ومالك في «الموطأ» (٢/ ٩٥١) كتاب «الشعر» باب: ما يؤمر به من التعوذ، برقم: (١١)، وأحمد (٢/ ٣٧٥)، وابن ماجه (٢/ ١١٦٢) كتاب «الطب» باب: رقية الحية والعقرب برقم: (٣٥١٨)، وأبو نعيم في «الحلية» (٧/ ١٤٣)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (١/ ٣٨٠).
أما الحديث من طريق خولة بنت حكيم: أخرجه مسلم (٤/ ٢٠٨) كتاب «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، برقم: (٥٤/ ٢٧٠٨)، (٥٥/ ٢٧٠٨)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ١٤٤) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول إذا نزل منزلا، برقم: (١٠٣٩٤/ ١- ٢)، والترمذي (٥/ ٤٩٦) كتاب «الدعوات» باب: ما جاء ما يقول إذا نزل منزلا، برقم: (٣٤٣٧)، وابن ماجه (٢/ ١١٧٤)، كتاب «الطب» باب: الفزع والأرق وما يتعوذ منه، برقم:
(٣٥٤٧)، وأحمد (٦/ ٣٧٧)، والبيهقي في «السنن» (٥/ ٢٥٣) كتاب «الحج» باب: ما يقول إذا نزل منزلا، ومالك في «الموطأ» (٢/ ٩٧٨) كتاب «الاستئذان» باب: ما يؤمر به من الكلام في السفر، والدارمي (٢/ ٢٨٩) كتاب «الاستئذان» باب: ما يقول إذا نزل منزلا، وعبد الرزاق في «المصنف» (٥/ ١٦٦)، كتاب «المناسك» باب: ما يقول إذا نزل منزلا، رقم: (٩٢٦١)، وابن حبان (٦/ ٤١٨)، كتاب «الصلاة» باب: ذكر الشيء الذي إذا قال المسافر في منزله أمن الضرر من كلّ شيء حتى يرتحل منه، برقم: (٢٧٠٠).
ولم تأت من هذا الطريق قصة الأسلمي. قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وأما طريق عمرو بن العاص: أخرجه أبو داود (٢/ ٤٠٥)، كتاب «الطب» باب: كيف الرقى؟ رقم:
(٣٨٩٣) نحو حديث أبي هريرة.
وأما طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه: أخرجه أبو داود (٢/ ٤٠٦) كتاب «الطب» باب: كيف الرقى؟
رقم: (٣٨٩٨).
(١) سقط في: د.
(٢) ينظر: الحديث السابق. [.....]
وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ قال ابنُ عبَّاسٍ وغيره: الضميرُ عائِدٌ على نوحٍ «١»، والمعنى: في الدينِ والتَّوْحيدِ، وقَال الطبريُّ وغيره عن الفَرَّاءِ: الضميرُ عائِدٌ عَلى محمدٍ، والإشَارَةُ إليه.
وقوله: أَإِفْكاً استفهام بمعنى التقرير، أي: أكذبا ومحالا، آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ.
وقوله: فَما ظَنُّكُمْ تَوْبِيخٌ وتحذير وتوعّد.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠)
وقوله تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ رُوِيَ أنَّ قَوْمَهُ كانَ لهم عِيدٌ يَخْرُجُونَ إليه فدعوا إبراهيم ع إلى الخروجِ مَعَهُمْ، فَنَظَرَ حينَئِذٍ، واعتَذَرَ بِالسُّقْمِ، وأرادَ البَقَاءَ لِيُخَالِفَهُمْ إلى الأصْنَامِ، ورُوِيَ أنَّ عِلْمَ النُّجُومِ كانَ عندَهم مَنْظُوراً فِيه مُسْتَعْمَلاً فأوْهَمَهُم هو من تلكَ الجهة، قالت فرقة: وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ من المعاريض الجائزة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩١ الى ١٠٢]
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)
وقوله تعالى: فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ «راغ» معناه: مَالَ.
وقوله: أَلا تَأْكُلُونَ هو على جِهَةِ الاسْتِهْزَاءِ بِعَبَدَةِ تلكَ الأصْنَامِ، ثم مَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إلَى ضَرْبِ/ تلك الأصْنامِ بِفَأْسٍ حَتَّى جَعَلَها جُذَاذاً، واخْتُلِفَ في معنى قوله: بِالْيَمِينِ فقال ابن عَبَّاس: أراد يمنى يَدَيْهِ «٢»، وَقِيلَ: أرادَ بِقُوَّتِه لأنَّه كانَ يَجْمَعُ يَدَيْهِ مَعاً بِالفَأْسِ، وقيل: أراد باليمينِ، القَسَمَ في قوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: ٥٧]، والضميرُ
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٩٩) برقم: (٢٩٤٢٧)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٧)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ١٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٢٥) كلهم عن ابن عبّاس، وعزاه السيوطي لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٠٢) برقم: (٢٩٤٥٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٧٩).
36
في «أقبلوا» لكفّار قومه ويَزِفُّونَ معناه: يُسْرَعُونَ، واختلف المتأَوِّلُونَ في قوله: وَما تَعْمَلُونَ فَمَذْهَبُ جماعةٍ من المفسرين: أن «ما» مصدرية، والمعنى: أنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وأَعْمَالَكُمْ، وهذه الآيةُ عندهُمْ قَاعِدَةٌ في خَلْقِ اللَّهِ تعالى أفْعَالَ العِبَادِ وهو مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ «١»، وقالت فرقة: «ما» بمعنى: الّذي، و «البنيان» قيل: كان في موضع إيقاد النار،
(١) المراد من أفعال العباد: المعنى الحاصل بالمصدر الذي هو متعلق الإيجاد والإيقاع، أعني ما نشاهده من الحركات والسكنات مثلا، لا المعنى المصدري الذي هو الإيجاد والإيقاع، لأنه من الأمور اللاموجودة واللامعدودة المسماة بالحال كما ذهبت إليه مشايخ الحنفية، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين من الأشاعرة أو هو أمر اعتباري عند نفاة الحال، فلا يتعلق به خلق ولا إيجاد وإلا لزم التسلسل، وإطلاق المصدر على المعنى الحاصل بالمصدر، وإن كان مجازا من قبيل إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، إلا أنه كثير الوقوع، فلا يحتاج إلى قرينة. وتنقسم أفعال العباد إلى: اختيارية، كحركة البطش، وإلى: اضطرارية، كحركة الارتعاش، وإلى أفعال مباشرة، وإلى أفعال متولدة، كحركة المفتاح المتولدة من حركة اليد، ثم إن أفعال العباد منها ما يتعلق بالجوارح، ومنها ما يتعلق بالقلوب، هذا كله بالنسبة للمستيقظ.
وأما أفعال النائم فقد اختلفوا فيها، فقال بعضهم: إنها مقدورة مكتسبة للنائم، والنوم لا يضاد القدرة، وإن كان يضاد العلم وغيره من الإرادات، وقال بعضهم: إنها غير مقدورة له، وأن النوم يضاد القدرة كما يضاد العلم، وبعضهم لا يقطع بكونها مكتسبة، ولا بكونها ضرورية بل كلّ من الأمرين ممكن.
وقد استدل القائلون بأن أفعال النائم مقدورة له بما يأتي:
«أولا» : بأن النائم كان قادرا في يقظته، وقدرته باقية، والنوم لا ينافيها، فوجب استصحاب حكمها.
«ثانيا» : بأن النائم إذا انتبه فهو على ما كان عليه في نومه، ولا يتجدد أمر وراء زوال النوم، وهو قادر بعد الانتباه، وزوال النوم غير موجب للاقتدار، ولا وجوده نافيا للقدرة.
«ثالثا» : قد يوجد من النائم، ما لو وجد منه في حال اليقظة، لكان واقعا على حسب الداعي والاختيار، والنوم، وإن نافى القصد فلا ينافي القدرة.
«رابعا» : نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم، وحركة المرتعش، وما ذاك إلا أن حركته مقدورة له، وحركة المرتعش غير مقدورة له.
وقال النافون المقدرة: قولكم: النوم لا ينافي القدرة: دعوى كاذبة فإن النائم منفعل محضا متأثر صرفا ولهذا لا يمتنع ممن يؤثر فيه، وقولكم: لم يتجدد له أمر غير زوال النوم، غير مسلم به لأن التجدد:
زوال المانع من القدرة، فعاد إلى ما كان عليه كمن أوثق غيره رباطا، ومنعه من الحركة، فإذا حلّ رباطه، تجدد زوال المانع.
والتحقيق: أن حركة النائم ضرورية له غير مكتسبة، وكما فرقنا في حق المستيقظ بين حركة ارتعاشه وحركة تصفيقه، كذلك نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة المستيقظ وعلى كلّ حال فالمثبتون للقدرة وهم المعتزلة وبعض الأشعرية والنافون لها وهم: أبو إسحاق وغيره، والمتوقفون في ذلك هم: جمهور الأشعرية، والقاضي أبو بكر، متفقون على أن أفعال النائم غير داخلة تحت التكليف.
أما أفعال الساهر فاختيارية لأنه وإن كان يفعل الفعل مع غفلته وذهوله، فهو إنما يفعله بقدرته إذ لو كان عاجزا لما تأتى منه الفعل وله إرادة لكن غافل عنها فالإرادة شيء، والشعور بها شيء آخر. -
37
وقيل: بَلْ كَان لِلْمَنْجَنِيقِ الذي رُمِي عَنْه، والله أعلم.
- فالعبد قد يكون له إرادة وهو ذاهل عن شعوره بها لاشتغال محل التصور منه بأمر آخر منعه من الشعور بالإرادة، فعملت عملها، وهي غير مشعور بها، وإن كان لا بد من الشعور عند كلّ جزء.
ومع كلّ فالفعل الاختياري يستلزم الشعور بالفعل في الجملة، وأما الشعور به بالتفصيل فلا يستلزمه.
وأما زائل العقل بجنون أو سكر، فليست أفعاله اضطرارية، كأفعال الملجأ، ولا اختيارية بمنزلة أفعال العاقل العالم بما يفعله، بل هي نوع آخر يشبه الاضطرارية، وأفعاله كفعل الحيوان وفعل الصبي الذي لا تمييز له إذ لكل واحد من هؤلاء داعية إلى الفعل يتصورها، وإرادة يقصد بها، وقدرة ينفذ بها، فهذه أفعال طبيعية، واقعة بالداعي والإرادة والقدرة، وإن كانت الداعية التي فيهم غير داعية العاقل العالم بما يفعله لأنه يتصور ما في الفعل من الغرض، ثم يريده ويفعله، ولهذا لم يكلف أحد من هؤلاء بالفعل، فأفعالهم لا تدخل تحت التكليف، وليست كأفعال الملجأ ولا المكره.
وهي مضافة إليهم مباشرة، وإلى خالق ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم خلقا.
فهي مفعولة وأفعال لهم.
لا خلاف في أن أفعال العباد اضطرارية، مخلوقة لله تعالى، ولا في أن الكلام اللفظي القائم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم على تقدير حدوثه مخلوق له تعالى. أما عند أهل السنّة فظاهر، وأما عند المعتزلة، فإما بنفي اختياريته، أو باستثنائه من الكلية. وأما أفعال العباد الاختيارية، فقد اختلفوا في الخالق لها، فقالت الجبرية: الخالق لأفعال العباد الاختيارية هو الله فقط ولا دخل لقدرة العبد في فعله البتة، بل هو مجبور ومقهور، وأن حركته الاختيارية، لا اختيار له فيها، وأنها كحركة الأشجار عند هبوب الرياح، وكحركة الأمواج، وأن العبد كالريشة المعلقة في الهواء.
وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: فعل العبد واقع بقدرة الله، ومخلوق له، وأن قدرة العبد لها دخل في الفعل الاختياري بالكسب والاختيار، وأن الله قد جرت عادته بأن يخلق فعل العبد الاختياري مقارنا لقدرته، وهذا هو الكسب عنده.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: أصل الفعل واقع بقدرة الله تعالى، وأما وصفه فواقع بقدرة العبد، كما في لطم اليتيم تأديبا وإيذاء، فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله تعالى، وكونه طاعة على الأول ومعصية على الثاني بقدرة العبد. والظاهر أنه لم يرد أن قدرة العبد مستقلة في خلق وصف الفعل، وإلا لزم عليه ما لزم على المعتزلة، بل أراد أن القدرة لها دخل في ذلك الوصف فهو بالنسبة إلى العبد طاعة ومعصية، كذا ذكره المحقق الديواني، وقد ورد على مذهبه: أن هذه الصفات أمور اعتبارية تلزم فعل العبد باعتبار موافقتها للشرع، أو مخالفتها له، فلا وجه لكون وصف الفعل واقعا بقدرة العبد، وهذا مدفوع بأن كون الفعل طاعة أو معصية إنما هو بالنية والإرادة الجزئية والعزم، وهي مقدورة للعبد وبسببها يكون الفعل طاعة أو معصية، وهذا بعينه ما ذهب إليه الماتريدية.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني من أهل السنّة، وكذا النجار من المعتزلة: إن أصل الفعل ووصفه، واقع بمجموع القدرتين، قدرة الله وقدرة العبد، ثم الأستاذ إن أراد: أن قدرة العبد غير مستقلة بالتأثير وأنها إذا انضمت إليها قدرة الله تعالى صارت مستقلة بتوسط هذ الإعانة على ما قدره البعض فقريب من الحق، وإن أراد أن كلا من القدرتين مستقلة بالتأثير كما اشتهر عنه في مذهبه فباطل، لامتناع مؤثرين على أثر واحد، وإن جوز اجتماعهما كما اشتهر عنه.
وقال صاحب المسايرة وهو الكمال بن الهمام: إن جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح، والنفوس من-
38
- الميل والداعية والاختيار لا تأثير لقدرة العبد فيه، وإنما محل قدرته العزم المصمم، فإذا أوجد العبد ذلك العزم المصمم خلق الله له الفعل عقبه، وهذا ينطبق على كلام القاضي أبي بكر الباقلاني، لأن كون الفعل طاعة أو معصية إنما هو بالنية، والإرادة الجزئية، والعزم عنده «أي عند القاضي».
وقال بعض المحققين من أهل السنّة: الله خالق لفعل العبد الاختياري والعبد فاعل له حقيقة. وبيان ذلك أن الله خلق قدرة العبد وأذن لها أن تتصرف في المقدور حسب اختيار العبد فيكون الفعل مخلوقا لله، لأنه واقع بالقدرة التي خلقها الله فيه، وقد جعلها تتصرف في المقدور ويكون الفعل المقدور واقعا بالقدرة الحادثة، ومضافا إلى العبد كسبا وفعلا حقيقة، «ومثال ذلك» : أن العبد لا يملك التصرف في مال سيده، ولو استبد بالتصرف في مال سيده لم ينفذ تصرفه، فإذا أذن له في بيع ماله فباعه نفذ، والبيع في التحقيق معزو إلى السيد من حيث إن سببه إذنه، ولولا إذنه لم ينفذ التصرف، ولكن العبد يؤمر بالتصرف، وينهى ويوبّخ على المخالفة، فالعبد فعلها حقيقة والله خالقه، وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة، وخالق فاعليته، والعبد غير مستقل بالإيجاد، لأن قدرته وإرادته جزء سبب أو شرط.
وقال الإمام فخر الدين محمّد بن عمر الرازي: المختار عندنا أن عند حصول القدرة والداعية المخصوصة يجب الفعل، وعلى هذا التقدير يكون العبد فاعلا على سبيل الحقيقة، ومع ذلك فتكون الأفعال بأسرها واقعة بقضاء الله تعالى وقدره، وذلك أنا لما اعترفنا بأن الفعل واجب الحصول عند مجموع القدرة والداعي فقد اعترفنا بكون العبد فاعلا وجاعلا فلا يلزمنا مخالفة ظاهر القرآن، وإذا قلنا بأن المؤثر في الفعل مجموع القدرة والداعي، مع أن هذا المجموع حصل بخلق الله تعالى، فقد قلنا بأن الكل بقضاء الله تعالى وقدره.
وقال جمهور المعتزلة: فعل العبد واقع بقدرته وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار.
وقال إمام الحرمين: فعل العبد واقع بقدرته وإرادته بالإيجاب استقلالا لا بالاختيار فيكون موافقا لمذهب الحكماء وهذا ما اشتهر عنه بين القوم، ولكن تحقيق مذهبه أن الخالق لفعل العبد الاختياري هو الله تعالى كما صرح به في الإرشاد، حيث قال: «اتفق أئمة السلف قبل ظهور البدع والأهواء على أن الخالق هو الله تعالى ولا خالق سواه، وأن الحوادث كلها حدثت بقدرة الله تعالى من غير فرق بين ما تتعلق به قدرة العباد، وبين ما لا تتعلق به، فإن تعلق الصفة بشيء لا يستلزم تأثيرها فيه، كالعلم بالعلوم، والإرادة بفعل الغير، فالقدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها، واتفقت المعتزلة ومن تابعهم من أهل الزيغ على أن العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرهم».
واحتج أهل الحق القائلون بأن الله هو الخالق لأفعال العباد الاختيارية بآيات كثيرة تدل على أن الله هو الخالق لأفعال العباد، وأنها داخلة تحت قدرته ومشيئته كما دخلت تحت علمه فمنها: قول الله تعالى:
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، [الزمر: ٦٢] وهذا عام لا يخرج عنه شيء من العالم، أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته، وليس مخصوصا بذاته وصفاته، فإنه الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له، واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق، وصفاته سبحانه داخلة في مسمى اسمه، فإن الله سبحانه اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال، المنزه عن كلّ صفة نقص ومثال، والعالم قسمان: أعيان وأفعال، وهو الخالق لأعيانه، وما يصدر عنها من الأفعال، كما أنه العالم بتفاصيل ذلك فلا يخرج شيء منه عن علمه، ولا عن قدرته، ولا عن خلقه ومشيئته.
ومنها: قول الله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه قال لقومه: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ
39
- خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: ٩٥- ٩٦] أي عملكم «فما» مصدرية كما قدره بعضهم والاستدلال بها ظاهر، ولكن ليس بقوي، إذ لا تناسب بين إنكاره عليهم عبادة ما ينحتونه بأيديهم وبين إخبارهم لأن الله خالق لأعمالكم من عبادة تلك الآلهة ونحتها وغير ذلك فالأولى: أن تكون «ما» موصولة، أي: والله خلقكم وخلق آلهتكم التي عملتموها بأيديكم فهي مخلوقة له لا لآلهة شركاء معه، فأخبر أنه خلق معموله، وقد «خلق» عملهم وصنعهم، ولا يقال المراد مادته، فإن مادته غير معمولة لهم، وإنما يصير معمولا بعد عملهم.
وقال بعضهم: لا مانع من جعل «ما» مصدرية لحصول الطباق مع المصدرية إذ المعنى: إنكم تعبدون منحوتا تصيرونه بعملكم صنما، والحال أن الله تعالى خلقكم وخلق عملكم الذي به يصير المنحوت صنما، فإنهم لم يعبدوا الأصنام من حيث كونها حجارة، وإنما عبدوها من حيث أشكالها، فهم في الحقيقة، إنما عبدوا عملهم، وبذلك تقام عليهم الحجة بأنهم وعملهم مخلوقان لله تعالى، فكيف يعبد المخلوق مخلوقا مثله، مع أن المعبود كسب العابد وعمله.
ولكن ينبغي أن يجعل هذا المصدر بمعنى المعمول أي: المعنى الحاصل بالمصدر ليصح تعلق الخلق به، ثم تحمل الإضافة بمعونة المقام على الاستغراق، لأن المقام مقام التمدح، وإن كان أصل الإضافة للعهد ليتم المقصود إذ على تقدير: ألا تكون الإضافة للاستغراق يجوز أن يكون المراد ببعض المعمولات أمثال السرير بالنسبة إلى النجار فلا يتم المقصود، وهو إثبات أن جميع أفعال العباد، ومعمولاتهم مخلوقة له تعالى.
والرد على المعتزلة إذ لا خلاف لهم: في أن أمثال هذا المعمول من الجواهر مخلوقة له تعالى لا مدخل للعبد فيها، وإنما الخلاف فيما يقع بكسب العبد ويسند إليه، مثل الصوم، والصلاة، والزكاة، والأكل، والشرب، والقعود، ونحو ذلك:
قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ، وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ، فأخبر سبحانه: أنه هو الذي جعل السرابيل، وهي الدروع والثياب المصنوعة ومادتها لا تسمى سرابيل إلا بعد صنع الآدميين لها، فإذا كانت مجعولة لله فهي مخلوقة له بجملتها وصورتها ومادتها وهيئاتها، ونظير هذا قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ [النحل: ٨٠].
فأخبر سبحانه: أن البيوت المصنوعة المستقرة والمتنقلة له، وهي إنما صارت بيوتا بالصنعة الآدمية، ومنها قوله تعالى- حكاية عن خليله إبراهيم أنه قال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:
٤٠]، وقوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: ٣٧]، وقوله: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً، وَرَهْبانِيَّةً [الحديد: ٧]، وقوله: - حكاية عن زكريا- أنه قال عن ولده: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم: ٦]. ومن السنة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اجعلني لك شكّارا، لك ذكّارا، لك رهّابا، لك مطواعا، مخبتا إليك، أوّاها منيبا».
فسأل ربه أن يجعله كذلك، وهذه كلها أفعال اختيارية، واقعة بقدرة الله خلقا وبقدرة العبد كسبا.
احتج أهل الحق على أن العبد فاعل مختار بالمعقول، والمنقول، أما المعقول: فإن الإنسان ليدرك إدراكا حسيا، ويعلم بضرورة العقل وبديهته، علما لا يخالجه شك، ولا يداخله مرية، أن بين صحيح الأعضاء وبين من لا صحة لأعضائه فرقا كبيرا، فإن صحيح الأعضاء بفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختارا غير مكره ولا يضطر ولكن سقيم الأعضاء لم يفعله أصلا، فهذا الفرق يدل على أن العبد فاعل مختار، -
40
وقوله: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي... الآية، قالتْ فرقة: كان قولُهُ هذا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ النَّارِ، وأنَّه أَشَارَ بِذَهَابِهِ إلى هِجْرَتِهِ مِنْ [أَرْضِ] «١» بَابِلَ حَيْثُ كَانَتْ مملكةُ نُمْرُودَ، فَخَرَجَ إلى الشَّامِ، وقالت فِرْقَةٌ: قال هذه المقالةَ قَبْلَ أنْ يُطْرَحَ فِي النَّارِ وإنما أراد لِقَاءَ اللَّهِ لأنَّه ظَنَّ أنَّ النَّارَ سَيَمُوتُ فِيها، وقال: سَيَهْدِينِ أي: إلى الجَنَّةِ نَحَا إلى هذَا المعنى قتادةُ «٢»، قال ع «٣» : وللعارفينَ بهذَا الذَّهَابِ تَمَسُّكٌ واحْتِجَاجٌ في الصَّفَاءِ، وهُو مَحْمَلٌ حَسَنٌ في إِنِّي ذاهِبٌ وحْدَهُ، والتأويلُ الأولُ أظْهِرَ في نَمَطِ الآيةِ، بما يأتي بَعْدُ لأنَّ الهدايةَ مَعَهُ تَتَرَتَّبُ، والدُّعَاءُ في الوَلَدِ كذلك، ولاَ يَصِحُّ مَعَ ذَهَابِ المَوْتِ، وباقي الآيةِ تَقَدَّمَ قَصَصُهَا، وأَنَّ الراجحَ أنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إسْمَاعِيلُ، وذَكَرَ الطبريُّ «٤» أنَّ ابن عباس قال:
الذبيحُ، إِسماعيل «٥»، وتَزْعُمُ اليهودُ أنَّهُ إسْحَاقُ، وكَذَبَتِ اليهُودُ، وذُكِرَ أيضاً أنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيزِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَجُلاً يهوديًّا كانَ أسْلَمَ وحَسُنَ إسلامُه، فَقَال: الذَّبِيحُ هُوَ إسْمَاعِيلُ «٦»، وإن اليهودَ لَتَعْلَمُ ذلكَ، ولكنهمْ يحسدونكم معشر العرب: أن تكون هذه
- وإن كان الخالق لفعله هو الواحد القهار.
أما المنقول: قال الله تعالى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: ٢]، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [البقرة: ٢٥].
فقضى سبحانه وتعالى على أننا نعمل ونفعل، فالعبد مختار والله خالق، وقال تعالى: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ [الواقعة: ٢٠] فهذا يدل على أن للإنسان اختيارا لأن أهل الدنيا وأهل الجنة سواء، في أن الله تبارك وتعالى خالق أعمال العباد جميعا.
ينظر: «أفعال العباد» لشيخنا عبد الرحمن إبراهيم ص: (٢) وما بعدها.
(١) سقط في: د.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٠).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٨٠).
(٤) ينظر: «تفسير الطبري» (١٠/ ٥١٣).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥١٢) برقم: (٢٩٥٠٩)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٣٢)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨١).
(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٣٢)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٣٠)، وعزاه لابن إسحاق، عن محمّد بن كعب.
والحق أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وهو الذي يدل عليه ظواهر الآيات القرآنية، فلا عجب إن ذهب إليه جمهرة الصحابة والتابعين ومن بعدهم وأئمة الحديث منهم السادة العلماء: علي، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو الطفيل، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، والحسن البصري، ومحمّد بن كعب القرظي، وسعيد بن المسيب، وأبو جعفر محمّد الباقر، وأبو صالح، والربيع بن أنس، والكلبي، وأبو عمرو بن العلاء، وأحمد بن حنبل، وغيرهم وهو إحدى الروايتين عن ابن عبّاس وفي «زاد المعاد» لابن القيم: أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهذا الرأي هو المشهور عند العرب-
41
- قبل البعثة، وذكره أمية بن أبي الصلت في شعر له.
وقد نقل العلامة ابن القيم عن شيخه الإمام ابن تيمية في هذا كلاما قويا حسنا، أحببت نقل خلاصته لما فيه من الحجة الدامغة قال: «ولا خلاف بينهم- أي: النسابين- أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام»، وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين، ومن بعدهم.
وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه يقول: «هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم»، فإن فيه: «أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره» وفي لفظ «وحيده»، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده. والذي غرّ أصحاب هذا القول: أن في التوراة التي بأيديهم: «اذبح ابنك إسحاق» قال: وهذه الزيادة من تحريفهم، وكذبهم، لأنها تناقض قوله: «اذبح بكرك ووحيدك»، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويحتازوه لأنفسهم دون العرب ويأبي الله إلا أن يجعل فضله لأهله، وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحاق؟ والله تعالى قد بشر أم إسحاق به، وبابنه يعقوب فقال تعالى- حكاية لقول الملائكة لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: ٧٠- ٧١].
فمحال أن يبشرها بأن يكون لها ولد ثم يأمر بذبحه، ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد، ويدل عليه أيضا أن الله سبحانه ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات (الآيات: ١٠٣، ١١١].
ثم قال تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: ١١٢] فهذه بشارة من الله تعالى له:
شكرا على صبره على ما أمر به، وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنص فيه.
وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة، دون إسحاق وأمه، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل، وكان النحر بمكة من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل، زمانا ومكانا، ولو كان الذبح بالشام- كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة.
وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى سمى الذبيح حليما، لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه عليما، فقال تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ... إلى أن قال: قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: ٢٤- ٢٨].
وهذا إسحاق بلا ريب، لأنه من امرأته، وهي المبشّرة، وأما إسماعيل فمن السرية- يعني: هاجر- وأيضا فلأنهما بشّرا به على الكبر، واليأس من الولد، وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك.
وأيضا فإن سارة امرأة الخليل صلّى الله عليه وسلّم غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة فإنها كانت جارية. فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها، ويسكنها في أرض مكة، لتبرد عن سارة حرارة الغيرة، وهذا من رحمة الله تعالى بها ورأفته وإبعاده الضرر عنها، وجبره-[.....]
42
الآيَاتُ وَالْفَضْلُ وَاللَّهِ في أَبِيكُمْ، والسَّعْيُ في هذه الآيةِ: العَمَلُ والعبادةُ والمَعُونَةُ، قاله ابن عَبَّاسٍ «١» وغيرُهُ، وقال قتادةُ: السَعْيُ على القَدَمِ يريدُ سَعْيَاً مُتَمَكِّنِاً «٢»، وهذا في المعنى نَحْوُ الأوَّلِ.
وقوله: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ... الآية، يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ رأى ذلِكَ بِعَيْنِهِ ورُؤيا الأنبياءِ وَحْيٌ، وعُيِّنَ لَهُ وقتُ الامْتِثَالِ، ويُحْتَمَلُ أنَّه أُمِرَ في نومِه بِذَبْحِهِ، فَعبَّر عَنْ ذلكَ بقوله: إِنِّي أَرى أي: أرى ما يوجبُ أنْ أذْبَحَكَ، قال ابن العَرَبِيِّ في «أحكامه» «٣» :
واعلم أن رُؤيا الأنبياءِ وَحْيٌ فَمَا أُلْقِيَ إليهم، ونَفَثَ بهِ المَلَكُ في رُوعِهِمْ، وضَرَبَ المثَلَ لَه عَلَيْهِم- فَهُو حَقٌّ ولذلكَ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أنَّهُ يُنْزلُ فِيَّ قُرْآنٌ يتلى، ولكني رَجَوْتُ أنْ يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا حقيقةَ الرُّؤيا، وأن البَارِيَ- تعالى- يَضْرِبُهَا مثَلاً للناسِ، فمنها أسماءٌ وكُنًى، ومنها رُؤْيَا تَخْرُج بِصِفَتِهَا، ومنها رُؤيا تَخْرُجُ بتأويلٍ، وهُوَ كُنْيَتُهَا. ولما اسْتَسْلَمَ إبراهيمُ وولدُه إسماعيلُ- عليهما السلام- لقضاءِ اللَّهِ، أُعْطِيَ إبراهيمُ ذَبِيحاً فِدَاءً، وقيل له: هذا فداءُ وَلَدِكَ، فامْتَثِلْ فِيه مَا رَأَيْتَ فإنَّه حقيقةُ مَا خاطبناك/ فيه، وهُو كِنَايَةٌ لاَ اسم، وجَعَلَهُ مُصَدِّقاً للرؤيا بمبادَرةِ الامْتِثَال، انتهى.
- لها، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟!! بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتا هذه وابنها منهم، وليري عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد- آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطىء أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبدا لهم إلى يوم القيامة بذلة وانكسار.
ثم أيهما أشد وقعا على النفس وأعظم بلاء: أن يؤمر إبراهيم بذبح إسحاق وله ولد آخر يجد فيه إبراهيم بعض المعوض عن الابن المذبوح؟ أم يؤمر بذبح ولده ووحيده وبكره الذي رزقه على كبر، وأتى بعد طول انتظار وشدة اشتياق ولم يكن هناك بارقة أمل في أن يرزق إبراهيم بولد بعده؟.
إن الله تعالى قد وصف واقعة الذبح هذه بأنها البلاء المبين أي: الابتلاء والاختبار المبين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، ولا ينطبق هذا الوصف ولا يتحقق هذا البلاء إلا إذا كان الذبيح هو إسماعيل الابن الوحيد البكر.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٠٦) برقم: (٢٩٤٦٩) بلفظ: العمل، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨١) عن ابن عبّاس، ومجاهد، وابن زيد، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٢٧)، بلفظ:
العمل، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨١).
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٤/ ١٦١٧).
43

[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٠٣ الى ١٢٤]

فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢)
وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧)
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤)
وقوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما أي: أسلما أنفسهمَا، واستسلما لله- عز وجل-، وقَرَأ ابن عبَّاس وجماعة: «سَلَّمَا» «١»، والمعنى فَوَّضَا إليه في قضائه وقَدَرِهِ- سبحانه-، فأسْلَم إبراهيمُ ابْنَهُ، وأسْلَمَ الابْنُ نَفْسَهُ، قال بعْضُ البَصْرِيين «٢» : جوابُ «لما» محذوفٌ تقديره:
فلما أسْلَمَا وَتَلَّهُ للجبينِ، أُجْزِلَ أجْرُهُما، ونحوُ هذا مِمَّا يَقْتَضِيهِ المعنى، وَتَلَّهُ معناه:
وَضَعَه بقوَّةٍ ومنْه الحديثُ في القدح: فتلّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يده «٣»، أي: وضعه بقوّة، ولِلْجَبِينِ معناه: لتلك الجهةِ وعليها، كما يقولون في المثل: [الطويل]
.................... وخرّ صريعا لليدين وللفم
(١) وقرأ بها ابن مسعود، والحسن، وحميد، وعلي، ومجاهد، والضحاك، والأعمش، والثوري، وجعفر بن محمّد.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٢٨)، و «المحتسب» (٢/ ٢٢٢)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٨١)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٥٥)، و «الدر المصون» (٥/ ٥١٠).
(٢) في جوابها ثلاثة أوجه:
«أحدها» :- وهو الظاهر- أنه محذوف، أي: نادته الملائكة أو ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما، وقدره بعضهم بعد الرؤيا أي: كان ما كان مما ينطق به الحال والوصف مما لا يدرك كنهه. ونقل ابن عطية أن التقدير: فلما أسلما أسلما وتلّه قال كقوله:
فلمّا أجزنا ساحة الحقّ وانتحى بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل
أي: فلمّا أجزنا وانتحى. ويعزى هذا لسيبويه، وشيخه الخليل، وفيه نظر من حيث اتحاد الفعلين الجاريين مجرى الشرط والجواب إلّا أن يقال: جعل التغاير فليس الآية بالعطف على الفعل، وفي البيت يعمل الثاني في ساحة والعطف عليه أيضا. والظاهر أنّ مثل هذا لا يكفي في التغاير.
ينظر: «الدر المصون» (٥/ ٥٠٩- ٥١٠).
(٣) هذا حديث متفق على صحته بلفظ: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتي بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام وعن شماله الأشياخ- فقال للغلام: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء» ؟ فقال الغلام: والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحدا، قال: فتلّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يده» عن سهل بن سعد.
44
وكما تقول: سَقَطَ لِشِقِّهِ الأيْسَرِ، والجَبِينانِ: ما اكتنف الجبهة من هاهنا، ومن هاهنا، و «أن» من قوله: أَنْ يا إِبْراهِيمُ مفسّرة لا موضع لها من الإعراب، وصَدَّقْتَ الرُّؤْيا يحتملُ أنْ يريدَ بقَلْبِكَ أو بِعَمَلِكَ، و «الرؤيا» اسمٌ لِمَا يرى مِن قِبَلِ اللَّهِ- تعالى-، والمَنَامُ والحُلْمُ: اسمٌ لما يرى منْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ ومنه الحديث الصحيح: «الرُّؤْيَا من الله، والحلم من الشيطان»، والْبَلاءُ: الاخْتِبَارُ، والذَّبْحُ العظيمُ» في قول الجمهور: كَبْشٌ أبْيَضُ أعْيَنُ، وَجَدَهُ وَرَاءَهُ مَرْبُوطاً بسَمُرَةٍ، وأَهْلُ السُّنَّةِ على أَنَّ هذه الْقِصَّةَ نُسِخَ فيها العَزْمُ على الْفِعْلِ خلافاً للمعتزلة، قال أحمد بن نصر الداوديّ: وإنْ نَسَخَ اللَّهُ آيةً قَبْلَ العَمَلِ بِهَا فإنَّما يَنْسَخُها بَعْدَ اعْتِقَادِ قَبُولِها وهُوَ عَمَلٌ انتهى من تفسيره عند قوله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: ١٠٦]، قال ع «١» : ولا خلافَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ أَمَرَّ الشَّفْرَةَ على حَلْقِ ابنه فَلَمْ تَقْطَعْ، والجمهورُ أَنَّ أمْرَ الذَّبْحِ كانَ بِمِنًى، وقال الشَّعْبِيُّ: رَأَيْتُ قَرْنَيْ كَبْشِ إبْرَاهِيمَ مُعَلَّقَتَيْنِ في الكَعْبَةِ «٢»، وروى عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يَا فَاطِمَةُ، قُومِي لاٌّضْحِيَتِكِ، فاشهديها فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِيهِ، وَقُولِي: إنَّ صَلاَتِي ونُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ» قال عِمْرَانُ: قلت: يا رسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَكَ وَلأَهْلِ بَيْتِكَ خَاصَّةً، أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَال:
«لاَ، بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً» رواه الحاكم في «المستدرك» «٣» انتهى من «السِّلاَح».
وقوله تعالى: وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ توعُّد لمنْ كَفَرَ من اليهودِ بمحمَّد ع، والْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ: هو التوراةُ، قال قتادة وابن مَسْعُود: إلياس: هو إدريس- عليه
- والحديث أخرجه البخاري (١٠/ ٨٩) كتاب «الأشربة» باب: هل يستأذن الرجل عن يمينه في الشرب ليعطي الأكبر، رقم: (٥٦٢٠)، (٥/ ١٢٣) كتاب «المظالم» باب: إذا أذن له أو أحله ولم يبين كم هو، (٢٤٥١)، (٦/ ٢٦٧) كتاب «الهبة» باب: الهبة المقبوضة وغير المقبوضة، والمقسومة وغير المقسومة (٢٦٠٥)، ومسلم (٣/ ١٦٠٤) كتاب «الأشربة» باب: استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما، عن يمين المبتدئ (١٢٧/ ٢٠٣٠)، ومالك في «الموطأ» (٢/ ٩٢٦، ٩٢٧) كتاب «صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم» (١٨)، وأبو داود الطيالسي (١/ ٣٣٢) كتاب «الأشربة» باب: إيثار من على اليمين بالشرب برقم: (١٦٨١)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٧/ ٢٨٦) كتاب «الصداق» باب: الأيمن فالأيمن في الشرب، وأحمد (٥/ ٣٣٣)، والطبراني (٦/ ١٧٠)، (٥٨٩٠).
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٩١).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥١٣) برقم: (٢٩٥٢٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٣).
(٣) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٤/ ٢٢٢)، كتاب «الأضاحي».
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢/ ٣٨، ٣٩) برقم: (١٥٩٦) - قال: منكر.
45
السلام- «١»، وقالت فرقة: هو مِنْ وَلَدِ هَارُونَ، وقرأ نافِعُ وابن عامِر: «على آلِ يَاسِينَ»، وقرأ الباقون: «على إلْيَاسِينَ» - بألفٍ مكسورةٍ ولامٍ ساكنةٍ «٢» -، فَوُجِّهَتِ الأولى على أنها بمعنى: «أهْل»، و «ياسِينُ» : اسمُ لإلياسَ، وقيل: هو اسم لمحمّد ع، ووُجِّهَتِ الثانيةُ على أَنَّها جَمْعُ «إلْيَاسِيٍّ»، وقرأ ابن مسعود والأعمش: «وإنَّ إِدْرِيسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ، وَسَلاَمٌ على إدْرِيسِينَ»، قال السُّهيليُّ: قال ابن جِنِّيْ: العربُ تتلاعبُ بالأسماءِ الأعجميةِ تلاعباً ف «ياسين»، و «إلياسُ»، و «اليَاسِينُ» شيءٌ واحدٌ، انتهى.
ت: وحكى الثعلبيُّ هنا حكايةً عَنْ عَبْدِ العزيزِ بْنِ أبي رواد، عن رجلٍ لَقِي إلياسَ في أيَّام مَرْوانَ بن الحَكَمِ، وأخبَرَهُ بعَدَدِ الأبْدَالِ وعَن الخَضِرِ في حكايةٍ طويلةٍ لا ينبغي إنكارُ مثلها فأولياءُ اللَّهِ يُكاشَفُونَ بِعَجَائِبَ، فلا يُحْرَمُ الإنْسَانُ التَّصْدِيقَ بِهَا، جعلنا الله من زمرة أوليائه، انتهى.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٢٥ الى ١٣٨]
أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩)
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤)
إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
وقوله: أَتَدْعُونَ بَعْلًا معناه: أتعبُدُون، قَال الحسن والضَّحَّاك وابن زيد: بَعْلٌ:
اسمُ صَنَمٍ: كانَ لَهُمْ، ويقال له: بَعْلَبَك «٣»، وذكر ابنُ إسحاقٍ عن فرقة: أنّ بعلا بعد اسْمُ امرأةٍ كَانَتْ أَتَتْهُمْ بضلالةٍ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: «اللَّهَ ربَّكم وربَّ آبائكم» «٤» كلُّ ذلك
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٢٠) برقم: (٢٩٥٦٩) عن قتادة وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٣٦) عن ابن مسعود، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٣) والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٣٧)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن ابن مسعود، ولعبد بن حميد عن قتادة.
(٢) ينظر: «السبعة» (٥٤٨- ٥٤٩)، و «الحجة» (٦/ ٥٩)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٤٩)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٢٢)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٨٤)، و «العنوان» (١٦٢)، و «حجة القراءات» (٦١٠)، و «شرح شعلة» (٥٦٣)، و «إتحاف» (٢/ ٤١٤).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٢١) برقم: (٢٩٥٧٦) عن الضحاك، وبرقم: (٢٩٥٧٧) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٤) وزاد نسبته للحسن. [.....]
(٤) ينظر: «السبعة» (٥٤٩)، و «الحجة» (٦/ ٦٣)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٥١)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٢١)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٨٧)، و «العنوان» (١٦٢)، و «حجة القراءات» (٦١٠)، و «شرح شعلة» (٥٦٤)، و «إتحاف» (٢/ ٤١٥).
بالنَّصبِ بَدَلاً مِن قوله: أَحْسَنَ الْخالِقِينَ وقرأ الباقونَ كلَّ ذلكَ بالرفعِ على القَطْعِ والاستئناف، والضميرُ في فَكَذَّبُوهُ عائِدٌ على قومِ إلياسَ، ولَمُحْضَرُونَ معناه:
مَجْمُوعُونَ لعذابِ اللَّهِ.
وقوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
مخاطبةٌ لقريشٍ، ثم وبَّخَهُمْ بقوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٢]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)
وقوله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ...
الآية/ هو يونُسُ بن متّى صلّى الله عليه وسلّم، وهُو مِنْ بنِي إسرائيل.
وقوله تعالى: إِذْ أَبَقَ...
الآية، وذلك أنه لما أخْبَرَ قَوْمَهُ بِوقْتِ مجيءِ العذَابِ، وغَابَ عَنْهُمْ، ثم إنَّ قَوْمَهُ لَما رَأَوْا مَخَايِلَ العَذَابِ أنابُوا إلى اللَّهِ، فَقبلَ تَوْبَتَهُمْ، فلَمّا مَضَى وقتُ العَذَابِ، وَلَمْ يُصِبْهُمْ، قال يونسُ: لا أرْجِعُ إليهمْ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، ورُوِي أنَّه كَانَ في سيرَتِهِمْ أَنْ يَقْتُلُوا الكَذَّابَ فَأَبقَ إلى الْفُلْكِ، أيْ: أَرَادَ الهُرُوبَ، ودَخَلَ في البَحْرِ، وعبَّر عَنْ هُرُوبِهِ بالإباقِ مِنْ حَيْثُ [إنَّه] فَرَّ عَنْ غَيْرِ إذْنِ مولاهُ، فَرُوِيَ عَنِ ابنِ مسعودٍ أنه لمَّا حَصَلَ في السفينةِ، وأبْعَدَتْ في البحرِ، رَكَدَتْ وَلَمْ تَجْرِ وغيرُها من السُّفُن يجري يميناً وشِمالاً، فقال أهلها إنَّ فينا لصاحب ذنب وبه يحسبنا اللَّهُ تعالى، فقالُوا: لِنَقْتَرِعْ، فأَخَذُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ سَهْماً، واقترعوا، فَوَقَعَتِ القُرْعَةُ عَلى يونُسَ، ثَلاَثَ مراتٍ، فَطَرَحَ حينَئِذٍ نَفْسَهُ، والْتَقَمَهُ الحُوتُ «١»، ورُوي أَنَّ اللَّهَ تعالى أَوْحَى إلى الحوتِ أَني لَمْ أَجْعَلْ يُونُسَ لَكَ رِزْقاً، وإنما جَعَلْتُ بَطْنَكَ لَه حِرْزاً وسِجْناً، فهذا معنى فَساهَمَ.
والمدحض: المغلوب في محاجّة أو مساهمة، وعبارة ابنِ العَرَبِيِّ في «الأحكام» «٢» :«وأوْحَى اللَّه تعالى إلى الحُوتِ: إنا لَمْ نَجْعَلْ يونُسَ لَكَ رِزْقاً، وإنما جعلنا بَطْنَكَ له مَسْجِداً» الحديثَ، انتهى، ولَفْظَةُ «مَسْجِدٍ» : أَحْسَنُ من السِّجْنِ، فَرَحِمَ اللَّهُ عَبداً لَزِمَ الأَدَبَ لا سِيَّمَا مَعَ أنْبِيَائِهِ وأَصْفِيائِه، وال «مُلِيمُ» : الّذِي أتَى مَا يلام عليه
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٤٢) عن ابن عبّاس ووهب، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٥) عن ابن مسعود.
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٤/ ١٦٢٢).
وبذلك فسّر مجاهد وابن زيد «١».
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٣ الى ١٤٤]
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)
وقوله سبحانه: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قيل: المرادُ: القائلينَ: سُبْحَانَ اللَّهِ في بَطْنِ الحُوتِ قاله ابن جُرَيْجٍ «٢»، وقالتْ فِرْقَةٌ: بَلِ التَّسْبِيحُ هنا الصَّلاَةُ، قال ابن عبَّاس وغَيْره: صَلاَتُهُ في وَقْتِ الرِّخَاءِ نَفَعَتْهُ في وَقْتِ الشِّدَّةِ «٣» وقال هذا جماعةٌ من العلماءِ، وقال الضَّحَّاك بن قَيْسٍ على مِنْبَرِهِ: اذْكُرُوا اللَّه عباد اللَّه في الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ في الشِّدَّةِ، إن يونس كان عبد للَّهِ ذَاكِراً له، فَلَمَّا أصابَتْهُ الشِّدَّةُ نَفَعُه ذلك، قالَ اللَّهُ- عزَّ وجلَّ-:
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وإن فرعونَ كانَ طَاغِياً بَاغِياً فَلَمَّا أدْرَكَهُ الغَرَقُ، قَال: آمَنْتُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذلكَ، فاذكروا اللَّهَ في الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ في الشِّدَّةِ «٤»، وقال ابن جُبَيْرٍ: الإشارَةُ بقولهِ: مِنَ الْمُسَبِّحِينَ إلى قوله: لاَّ إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «٥» [الأنبياء: ٨٧].
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٦]
فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦)
وقوله سبحانه: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ... الآية، «العَرَاءُ» : الأرْضُ الفيحاءُ التي لاَ شَجَرَ فيها ولاَ مَعْلَمَ، قال ابن عبّاس وغيره في قوله: وَهُوَ سَقِيمٌ: إنَّه كالطفلِ المَنْفُوسِ، بُضْعَةُ لَحْمٍ «٦»، وقال بعضهم كاللَّحْمِ النَّيْءِ، إلاَّ أنَّه لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ، فأنْعَشَهُ اللَّهُ في ظِلِّ اليَقْطِينَةِ بِلَبَنِ أُرْوِيَّةٍ [كَانَتْ تُغَادِيه وتُراوِحُهُ، وقيل: بلْ كَانَ يتغذى من اليَقْطِينَةِ،
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٢٧) برقم: (٢٩٥٩٦) عن مجاهد، وبرقم: (٢٩٥٩٨) عن ابن زيد بلفظ: مذنب، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٤٣)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٦) عنهما، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٤٢)، وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٦).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٢٨) برقم: (٢٩٦٠٠) عن قتادة، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٦) عن ابن عبّاس، وقتادة، وأبي العالية، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٤٣)، وعزاه لأحمد، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٢٨) برقم: (٢٩٦٠٦)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٤٣)، وعزاه لابن أبي شيبة.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٢٩) برقم: (٢٩٦٠٨)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٤٣).
(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٢٩) برقم: (٢٩٦١٤) عن السدي، ورقم: (٢٩٦١٥) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢١).
ويجدُ منها ألوانَ الطَّعَامِ وأنواعَ] «١» شهواتِه، قال ابن عبَّاس وأبو هريرة وعمرو بن مَيمُونٍ:
اليقطين: القَرْعُ خَاصَّة «٢»، وقيل، كُلُّ مَا لاَ يَقُومُ على ساقٍ كَالبَقُولِ والقَرْعِ والبطِّيخِ ونحوِه مما يَمُوتُ من عَامِهِ، ومشهورُ اللَّغَةِ أنَّ اليقطينَ هو القَرْعُ، فَنَبَتَ لَحْمُ يونُسَ- عليه السلام- وصَحَّ، وحَسُنَ لَوْنُهُ، لأنَّ وَرَقَ القَرْعِ أنْفَعُ شيءٍ لِمَنْ تَسَلَّخَ جِلْدُهُ، وهُوَ يَجْمَعُ خِصَالاً حميدةً، بَرْدُ الظِّلِّ [ولِينُ] المَلْمَسِ، وأنَّ الذُّبَابَ لاَ يقربُها، حكى النَّقَّاشُ أن مَاءَ وَرَقِ القَرْعِ إذا رُشَّ به مَكانٌ، لَمْ يَقْرَبْهُ ذُبَابٌ، ورُوِيَ أنَّهُ كان يوماً نائِماً، فأيْبَسَ اللَّهُ تِلْكَ اليَقْطِينَةَ، وقيل: بَعَث عَلَيها الأَرَضَةَ فَقَطَعَتْ وَرَقَها، فانْتَبَهَ يُونُسُ لِحَرِّ الشَّمْسِ، فَعَزَّ عَلَيْه شَأنُها، وجَزِعَ لَه فأوحَى اللَّهُ إلَيْهِ: يا يونُسُ، جَزِعْتَ لِيُبْسِ الْيَقْطِينَةِ، وَلَمْ تَجْزَعَ لإهْلاكِ مِائَةِ ألفٍ أو يَزِيدُونَ تَابُوا فتبت عليهم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٧ الى ١٥٧]
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١)
وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦)
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧)
وقوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال الجمهور: إنَّ هذه الرسالةَ هي رِسالتهُ الأولى ذكرَها اللَّهُ في آخر القَصَصِ، وقال قَتَادَةُ وغيره: هذه رسالةٌ أُخْرَى بَعْدَ أنْ نُبِذَ بالعراء، وهي إلى أهل «نينوى» من ناحِية المَوْصِلِ «٣»، وقرأ الجمهور «٤» :«أو يزيدون» فقال ابن عباس: «أو» بمعنى «بل» «٥» ورُوِي عَنْه أنه «٦» قرأ: «بل يزيدون» / وقالت فرقة: «أو» هنا بمعنى الواو، وقرأ جعفر بن محمد «٧» :«ويزيدون» وقال المبرّد، وكثير من
(١) سقط في: د.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٣٠) برقم: (٢٩٦٢١) عن ابن عبّاس، وبرقم: (٢٩٦٢٢) عن عمرو بن ميمون، وبرقم: (٢٩٦٢٥) عن أبي هريرة بلفظ: الشجرة الدّبّاء، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٤٣)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٧)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٤٦)، وعزاه لابن جرير من طريق ابن قسيط عن أبي هريرة، ولابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود.
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٧) عن ابن عبّاس، وقتادة.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٨٧)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٦٠).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٣١)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٧)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٢). [.....]
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٨٧).
(٧) ينظر: «المحتسب» (٢/ ٢٢٦)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٨٧)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٦٠).
البَصْرِيِّين: قوله: أَوْ يَزِيدُونَ المعنى: على نَظَرِ البَشَرِ وحَزْرِهم، أي: من رآهم قال:
مائة ألف أو يزيدون، وروى أُبَيُّ بنِ كَعْبٍ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُمْ كانوا مائةً وعشرينَ ألفاً.
ت: وعبارة أحمد بن نَصْرٍ الدَّاوودِيُّ: وعن أبي بن كعب قال: سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الزيادتين: الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: ٢٦]، وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال يزيدون عشرين ألفاً، وأحسبه قال: الحسنى: الجنة، «والزيادة» النظرُ إلى وجه الله- عز وجل «١» -، انتهى، وفي قوله: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ مثالٌ لقريشٍ إنْ آمنوا، ومنْ هنا حَسُنَ انتقالُ القَوْلِ والمحاوَرَةِ إلَيْهِم بقوله: فَاسْتَفْتِهِمْ فإنما يعود على ضميرِهم، على ما في المعنى من ذِكْرِهِمْ، والاستفتاءُ: السؤال وهو هنا بمعنى التَّقريعِ والتَّوْبيخِ في جعلهمُ البَنَاتِ للَّه، تعالى اللَّهُ عَنْ قولِهمْ، ثم أخبر [اللَّهُ] تعالى عن فرقةٍ منهم بلغَ بِها الإفْكُ والكَذِبُ إلى أَنْ قالتْ: ولدَ اللَّهُ الملائكةَ لأَنَّه نَكَحَ في سَرَوَاتِ الجِنِّ، تعالَى اللَّهُ عن قولهِم، وهذه فرقةٌ، مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ فيما رُوِيَ، وقرأ الجمهور «٢» :«أَصْطَفَى البَنَاتِ» بهمزةِ الاسْتفهامِ عَلَى جهةِ التَّقْرِيعِ «٣» والتوبيخِ.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٥٨ الى ١٦٠]
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠)
وقوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً الجِنَّةُ هنا: قيل: همُ الملائِكَةُ: لأنها مُسْتَجِنَّةٌ، أي: مُسْتَتِرَةٌ، وقيل: الجِنَّةُ همُ الشياطينُ، والضميرُ في جَعَلُوا لفِرْقَةٍ من كفارِ قريشٍ والعَرَبِ، وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي: سَتَحْضُرُ أَمْرَ اللَّهِ وثوابَه وعقابَه، ثم نَزَّهَ- تعالى- نفسَه عما يصِفُهُ الكفرةُ، ومِنْ هَذا استثنى عبادَه المُخْلَصِينَ لأنّهُمْ يَصِفُونَهُ بِصِفَاتِهِ العُلاَ، وقالت فرقة: اسْتَثْنَاهُمْ من قوله: لَمُحْضَرُونَ وعبارة الثعلبي:
(١) ورد سؤال أبيّ بن كعب عن قوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فقال: يزيدون عشرون ألفا، وذلك في حديث: أخرجه الترمذي (٥/ ٣٦٥) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة الصافات برقم: (٣٢٢٩).
قال الترمذي: هذا حديث غريب.
أما الزيادة الثانية، وهي التي في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ فالحديث: أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٥٥١) برقم: (١٧٦٤٨)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٤٧) تفسير سورة يونس: آية رقم (٢٦)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والدارقطني، وابن مردويه واللالكائي، والبيهقي في كتاب «الرؤية» عن أبيّ بن كعب أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٨٨)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٦١)، و «الدر المصون» (٥/ ٥١٤).
(٣) في د: التقرير.
وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ: أي: الملائكة أنَّ قائِلي هذه المقالةِ مِنَ الكفرةِ لَمُحْضَرُونَ في النَّارِ، وقيل للحسابِ، والأولُ أوْلَى لأنَّ الإحْضَارَ متَى جَاء في هذه الصُّورة عُنِيَ بهِ العذابُ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فإنَّهُمْ ناجُونَ مِنَ النَّار، انتهى، وفي البخاريِّ لَمُحْضَرُونَ أي: سيُحْضَرُونَ للحساب، انتهى.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦١ الى ١٧٣]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣)
وقوله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ بمعنى: قل لهم يا محمد، إنَّكم وأصنَامَكم مَا أَنْتُم بمضلِّينَ أَحَداً بسبَبِها وَعَلْيهَا إلاَّ مَنْ قَدْ سَبَقَ عليه القضاءُ فإنَّه يَصْلَى الجَحِيمَ في الآخرةِ ولَيْسَ لَكُمْ إضْلالُ مَنْ هَدَى اللَّهُ تعالى، وقالت فرقة: عَلَيْهِ بمعنى: «به» والفَاتِنُ: المُضِلُّ في هذا الموضعِ وكذلك فسَّره ابن عَباس وغيره «١»، وحذفت اليَاءُ مِنْ صالِ للإضَافةِ.
ثم حكى- سبحانه- قولَ الملائِكَةِ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وهذا يؤيِّدُ أَن الجِنَّةَ أرادَ بِها الملائِكةَ، وتقديرُ الكلامَ وما منا ملك، وروت عائشة- رضي الله تعالى عنها- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَنَّ السَّمَاءَ مَا فِيها مَوْضِعُ قَدَمٍ إلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ وَاقِفٌ يُصَلِّي»، وَعَنِ ابن مسعود وغيره نحوه «٢».
والصَّافُّونَ معناه: الواقفون صفوفا، والْمُسَبِّحُونَ، يحتملُ أن يرِيدَ بِه الصَّلاَة، ويحتملُ أنْ يريدَ قَولَ: سبحَان اللَّهِ، قال الزَّهْرَاوِيُّ: قيل: إن المسْلِمِينَ إنما اصْطَفُّوا في الصلاةِ مُذْ نَزَلَتْ هذهِ الآيةُ، ولا يصطفُّ أحَدٌ من أهلِ المِلَلِ غَيْرُ المسلِمينَ، ثمَّ ذكرَ تعالى مَقَالَةَ بَعْضِ الكفارِ، قال قتادةُ وغيرُه: فإنهم قبل نبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: لو كَانَ لَنَا كتابٌ أو جاءَنا رسولٌ، لَكُنا عِبَادَ اللَّهِ المخْلَصِينَ، فلما جَاءهم محمّد كفروا به، فسوف
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٣٦) برقم: (٢٩٦٦١) عن ابن عبّاس بنحوه، وبرقم: (٢٩٦٦٤) عن الحسن، وبرقم: (٢٩٦٦٧) عن إبراهيم. وذكره البغوي (٤/ ٤٥)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٤٨)، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٥٣٩) برقم: (٢٩٦٨٠)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٥٠)، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن مسعود.
يَعْلَمُون «١»، وهذا وَعِيدٌ مَحْضٌ، ثم آنَسَ تعالى نبيَّه وأولياءَه بأنَّ القَضَاء قد سَبَق، والكلمةُ قَدْ حَقَّتْ بأنَّ رُسُلَهُ سبحانه هم المنصُورُونَ، على من نَاوَأَهُمْ، وجُنْدُ اللَّهِ همُ الغزاةُ.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧٤ الى ١٨٢]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨)
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
وقوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أمْرٌ لنبيِّهِ بالمُوَادَعَةِ، ووعد جميل، وحَتَّى حِينٍ قيل هو يومُ بَدْرٍ، وقِيل: يومُ القيامةِ.
وقولهُ تعالى: وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ وَعْدٌ للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وَوَعِيدٌ لهُمْ، ثم وبَّخهم على استعجالِ العذَابِ فَإِذا نَزَلَ أي: العذابُ، بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ والساحةُ الفِنَاء، وسُوءُ الصباح: أيضاً مستعملٌ في وُرُودِ «٢» الغَارَاتِ، قلْتُ: ومنه قولُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا أَشْرَفَ على خَيْبَرَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صباح المنذرين» «٣» انتهى،
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٨٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥٥٢)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٢) في ج هنا: انتقل من سورة- ص- إلى الترقيم في المخطوط برقم: (١) وقد سرنا نحن معه على تسلسل الترقيم.
(٣) هذا حديث صحيح متفق على صحته: أخرجه البخاري (٢/ ١٠٧) كتاب «الأذان» باب: ما يحقن بالأذان من الدماء. (٦١٠)، (١/ ٥٧٢) كتاب «الصلاة» باب: ما يذكر في الفخذ (٣٧١)، (٢/ ٥٠٧- ٥٠٨) كتاب «الخوف» باب: التبكير والغلس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب (٩٤٧)، (٤/ ٤٨٩) كتاب «البيوع» باب: بيع العبد والحيوان بالحيوان نسيئة (٢٢٢٨) طرفا منه، (٤/ ٤٩٤) كتاب «البيوع» باب:
هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها؟ (٢٢٣٥)، (٦/ ٩٨) كتاب «الجهاد والسير» باب: فضل الخدمة في الغزو (٢٨٨٩)، (٦/ ١٠١- ١٠٢) كتاب «الجهاد والسير» باب: من غزا بصبي للخدمة (٢٨٩٣)، (٦/ ١٣٠) كتاب «الجهاد والسير» باب: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام والنبوة (٢٩٤٣- ٢٩٤٤- ٢٩٤٥)، (٦/ ١٥٦) كتاب «الجهاد والسير» باب: التكبير عند الحرب (٢٩٩١)، (٦/ ٢٢٢- ٢٢٣) كتاب «الجهاد والسير» باب: ما يقول إذا رجع من الغزو (٣٠٨٥- ٣٠٨٦)، (٦/ ٢٢٣- ٢٢٤) كتاب «الجهاد والسير» باب: الصلاة إذا قدم من سفر (٣٠٨٧)، (٦/ ٧٣٢) كتاب «المناقب» باب: (٢٨) (٣٦٤٧)، (٧/ ٤٣٦) كتاب «المغازي» باب: أحد جبل يحبّنا ونحبه (٤٠٨٣- ٤٠٨٤)، (٧/ ٥٣٤) كتاب «المغازي» باب:
غزوة خيبر (٤١٩٧- ٤١٩٨- ٤١٩٩- ٤٢٠٠- ٤٢٠١)، (٧/ ٥٤٧) كتاب «المغازي» باب: غزوة خيبر (٤٢١١- ٤٢١٢- ٤٢١٣)، (٩/ ٢٩) كتاب «النكاح» باب: اتخاذ السراري، ومن أعتق جارية ثم تزوجها (٥٠٨٥)، (٩/ ١٣٢) كتاب «النكاح» باب: البناء في السفر (٥١٥٩)، (٩/ ١٤٠) كتاب «النكاح» باب: الوليمة ولو بشاة (٥١٦٩)، (٩/ ٤٤٠) كتاب «الأطعمة» باب: الخبز المرقق، والأكل على الخوان-
52
وقَرَأَ ابن مسعود: «فَبِئْسَ صَبَاحٌ» «١»، والعزة في قولهِ: رَبِّ الْعِزَّةِ هي العزة المَخْلُوقَةُ الكائِنَةُ للأنبياءِ والمؤمِنينَ وكذلك قال الفقهاءُ مِنْ أجْلِ أنَّها مَرْبُوبَةٌ قال محمدُ بن سُحْنُونَ وغيره: مَنْ حَلَفَ بعزَّةِ اللَّهِ، فَإنْ كَانَ أرادَ صِفَتَهُ الذَّاتِيَّةَ، فَهِي يَمينٌ، وإنْ كَانَ أَرَادَ عِزَّتَهُ الَّتِي خَلَقَ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَهي الَّتِي في قَوْلِه: رَبِّ الْعِزَّةِ فَلَيْسَتْ بَيَمِينٍ، ورُوِيَ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «إذا سَلَّمْتُمْ عَليّ، فَسَلِّمُوا عَلَى المُرْسَلِينَ فإنَّما أَنَا أحَدُهُمْ» «٢» صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وعلى آله وعلى جميع النبيّين وسلّم.
- والسفرة (٥٣٨٧)، (٩/ ٤٦٥) كتاب «الأطعمة» باب: الحيس برقم: (٥٤٢٥)، (٩/ ٤٦٦) كتاب «الأطعمة» باب: ذكر الطعام (٤٤٢٨)، (٩/ ٥٧٠) كتاب «الذبائح والصيد» باب: لحوم الحمر الإنسية برقم: (٥٥٢٨)، (١٠/ ٢٦) كتاب «الأضاحي» باب: ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها (٥٩٦٨)، (١٠/ ٥٨٤) كتاب «الأدب» باب: قول الرجل: «جعلني الله فداك» (٦١٨٥)، (١١/ ١٧٧) كتاب «الدعوات» باب: التعوذ من غلبة الرجال (٦٣٦٣)، (١١/ ١٨٢) كتاب «الدعوات» باب:
الاستعاذة من الجبن والكسل (٦٣٦٩)، (١٣/ ٣١٦) كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» باب: إثم من دعا إلى ضلالة أو سن سنة سيئة (٧٣٣٣)، ومسلم (٢/ ١٠٤٣- ١٠٤٤) كتاب «النكاح» باب: فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها (٨٤/ ١٣٦٥)، والنسائي (٦/ ١٣١، ١٣٤) كتاب «النكاح» باب: البناء في السفر (٣٣٨٠)، وأحمد (٣/ ١٠١، ١٠٢، ١١١، ١٦٣، ١٦٤، ١٨٦، ٢٠٦، ٢٤٦، ٢٦٣، ٢٧٠، ٢٧١)، والبيهقي (٢/ ٢٣٠) كتاب «الصلاة» باب: من زعم أن الفخذ ليست بعورة، وما قيل في السرة والركبة (٩/ ٥٥) كتاب «السير» باب: قسمة الغنيمة في دار الحرب (٩/ ٧٩- ٨٠) كتاب «السير» باب:
قتل النساء والصبيان في التبيت والغارة من غير قصد، وما ورد في إباحة التبيت، وابن حبان (١١/ ٥١- ٥٢) كتاب «السير» باب: ذكر البيان على المرء إذا أتى دار الحرب أن لا يشن الغارة حتى يصبح (٤٧٤٧)، ومالك في «الموطأ» (٢/ ٤٦٨- ٤٦٩) كتاب «السير» باب: الخروج وكيفية الجهاد (٤٧٤٦)، والترمذي (٤/ ١٢١) كتاب «السير» باب: في البيات والغارات (١٥٥٠).
(١) ينظر: «الكشاف» (٤/ ٦٨)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٩٠)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٦٤).
(٢) أخرجه الطبري (١٠/ ٥٤٣) برقم: (٢٩٧٠٤)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٢٩٤) - ط دار المعرفة، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.
53
Icon