تفسير سورة النساء

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة النساء من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قال الله تعالى :﴿ واتَّقُوا الله الَّذي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ ﴾. قال الحسن ومجاهد وإبراهيم :" هو قول القائل أسألك بالله وبالرحم "، وقال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك :" اتقوا الأرحام أن تقطعوها ". وفي الآية دلالة على جواز المسألة بالله تعالى، وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ سَألَ باللهِ فَأَعْطُوهُ ". وروى معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال :" أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، منها إبرار القسم " ؛ وهذا يدل على مثل ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم " مَنْ سألكم بالله فأعْطُوه ". وأما قوله :﴿ والأَرْحَامَ ﴾ ففيه تعظيم لحقّ الرَّحِمِ وتأكيدٌ للنهي عن قطعها، قال الله تعالى في موضع آخر :﴿ فهل عسيتم إن توليتم أَن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ﴾ [ محمد : ٢٢ ]، فقرن قَطْعَ الرحم إلى الفساد في الأرض، وقال تعالى :﴿ لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة ﴾ [ التوبة : ١٠ ]، قيل في الإِلّ إنه القرابة ؛ وقال تعالى :﴿ وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى ﴾ [ النساء : ٣٦ ].
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم حرمة الرحم ما يواطىء ما ورد به التنزيل ؛ رَوَى سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عبدالرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يقول الله : أَنَا الرَّحْمنُ وهي الرَّحِمُ شَقَقْتُ لها اسْماً مِنِ اسْمي فَمَنْ وَصَلَها وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثني خالي حيان بن بشر قال : حدثنا محمد بن الحسن عن أبي حنيفة قال : حدثني ناصح عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما مِنْ شَيْءٍ أُطِيعَ اللهُ فِيهِ أَعْجَلُ ثَواباً مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وما مِنْ عَمَلٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ أَعْجَلُ عُقُوبَةً مِنَ البَغْي واليَمِينِ الفَاجِرَةِ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا خالد بن خداش قال : حدثنا صالح المريّ قال : حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الصَّدَقَةَ وصِلَةَ الرَّحِمِ يَزِيدُ الله بِهِمَا في العُمُرِ ويَدْفَعُ بهما مَيْتَةَ السُّوءِ ويَدْفَعُ الله بهما المَحْذُورَ والمَكْرُوهَ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أمه أمّ كلثوم بنت عقبة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ على ذِي الرَّحِمِ الكَاشِح "، قال الحميدي : الكاشح العدو. ورواه أيضاً سفيان عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ على ذِي الرَّحِمِ الكَاشِح ". وروت حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الصَّدَقَةُ عَلَى المُسْلِمِينَ صَدَقَةٌ وَعَلى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ لأنَّها صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ ".
قال أبو بكر : فثبت بدلالة الكتاب والسنّة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة على ذي الرحم اثنتين صدقةً وصِلَةً، وأخبر باستحقاق الثواب لأجل الرحم سوى ما يستحقه بالصدقة، فدل على أن الهِبَة لذي الرحم المحرم لا يصح الرجوع فيها ولا فسخها أباً كان الواهب أو غيره ؛ لأنها قد جرت مجرى الصدقة في أن موضوعها القربة واستحقاق الثواب بها، كالصدقة لما كان موضوعها القربة وطلب الثواب لم يصحّ الرجوع فيها، كذلك الهبة لذي الرحم المحرم ؛ ولا يصح للأب بهذه الدلالة الرجوع فيما وَهَبَهُ للابن كما لا يجوز لغيره من ذوي الرحم المحرم، إذْ كانت بمنزلة الصدقة، إلا أن يكون الأبُ محتاجاً فيجوز له أخذه كسائر أموال الابن.
فإن قيل : لم يفرق الكتاب والسنة فيما أوجبه من صلة الرحم بين ذي الرحم المحرم وغيره، فالواجب أن لا يرجع فيما وهبه لسائر ذوي أرحامه وإن لم يكن ذا رحم محرم كابن العمّ والأباعد من أرحامه. قيل له : لو اعتبرنا كل من بَيْنَهُ وبَيْنَه نسبٌ لوجب أن يشترك فيه بنو آدم عليه السلام كلهم ؛ لأنهم ذوو أنسابه ويجمعهم نوح النبي عليه السلام وقبله آدم عليه السلام، وهذا فاسدٌ فوجب أن يكون الرحم الذي يتعلق به هذا الحكم هو ما يمنع عقد النكاح بينهما إذا كان أحدهما رجلاً والآخر امرأة ؛ لأن ما عدا ذلك لا يتعلق به حكم وهو بمنزلة الأجنبيين ؛ وقد روى زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال : أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بمِنًى وهو يقول :" أُمَّكَ وأَبَاكَ وأُخْتَكَ وأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ "، فذكر ذوي الرحم المحرم في ذلك، فدلّ على صحة ما ذكرنا. وهو مأمور مع ذلك بمن بعُدَ رَحِمُهُ أن يَصِلَهُ، وليس في تأكيد من ضرب كما يؤمر بالإحسان إلى الجار، ولا يتعلق بذلك حكم في التحريم ولا في منع الرجوع في الهبة، فكذلك ذوو رحمه الذين ليسوا بمحرم فهو مندوب إلى الإحسان إليهم ولكنه لما لم يتعلق به حكم التحريم كانوا بمنزلة الأجنبيين ؛ والله أعلم بالصواب.

باب دفع أموال الأيتام إليهم بأعيانها ومَنْع الوصيِّ من استهلاكها


قال الله تعالى :﴿ وآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بالطَّيِّبِ ﴾. رُوي عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل وليُّ اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله :﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ]. قال أبو بكر : وأظنّ ذلك غلطاً من الراوي ؛ لأن المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ ؛ إذْ لا خلاف بين أهل العلم أن اليتيم لا يجب إعطاؤه ماله قبل البلوغ، وإنما غلط الراوي بآية أخرى وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :" لما أنزل الله تعالى :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ] و ﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ﴾ [ النساء : ١٠ ] الآية، انطلق من كان عنده يتيم فَعَزَل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ]، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم ". فهذا هو الصحيح في ذلك ؛ وأما قوله تعالى :﴿ وآتُوا اليَتَامَى أمْوَالَهُمْ ﴾ فليس من هذا في شيء ؛ لأنه معلوم أنه لم يُرِدْ به إيتاءهم أموالهم في حال اليُتْمِ وإنما يجب الدفع إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، وأطلق اسم الأَيتام عليهم لقرب عهدهم باليتيم كما سمَّى مقاربة انقضاء العدة بُلُوغَ الأجل في قوله تعالى :﴿ فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف ﴾ [ الطلاق : ٢ ] والمعنى مقاربة البلوغ ؛ ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق الآية :﴿ فإذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ﴾، والإشهاد عليه لا يصح قبل البلوغ، فعلم أنه أراد بعد البلوغ. وسمَّاهم يتامى لأَحد معنيين : إما لقرب عهدهم بالبلوغ، أو لانفرادهم عن أبائهم، مع أن العادة في أمثالهم ضعفهم عن التصرف لأنفسهم والقيام بتدبير أمورهم على الكمال حسب تصرف المتحنّكين الذين قد جرّبوا الأمور واستحكمت آراؤهم ؛ وقد رَوَى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه ؟ فكتب إليه :" إذا أُونس منه الرشد انقطع عنه يُتْمُهُ "، وفي بعض الألفاظ :" إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد "، فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يستحكم رأيه ولم يُؤْنَس منه رُشْدُهُ، فجعل بقاء ضعف الرأي موجباً لبقاء اسم اليتيم عليه.
واسم اليتيم قد يقع على المنفرد عن أبيه وعلى المرأة المنفردة عن زوجها، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" تُسْتَأْمَرُ اليَتِيمَةُ في نَفْسِهَا "، وهي لا تُستأمر إلا وهي بالغة ؛ وقال الشاعر :
* إنَّ القُبُورَ تَنْكِحُ الأَيَامَى * النِّسْوَةَ الأَرَامِلَ اليَتَامَى *
إلا أنه معلوم أنه إذا صار شيخاً أو كَهْلاً لا يُسمَّى يتيماً وإن كان ضعيف العقل ناقص الرأي، فلا بد من اعتبار قُرْبِ العهد بالصِّغَرِ. والمرأة الكبيرة المُسِنَّة تسمَّى يتيمة من جهة انفرادها عن زوج، والرجل الكبير المسِنُّ لا يسمَّى يتيماً من جهة انفراده عن أبيه، وإنما كان كذلك لأن الأب يلي على الصغير ويدبر أمره ويَحُوطُه فيكنفه، فسمِّي الصغير يتيماً لانفراده عن أبيه الذي هذه حاله، فما دام على حال الضعف ونقصان الرأي يسمَّى يتيماً بعد البلوغ ؛ وأما المرأة فإنما سميت يتيمة لانفرادها عن الزوج الذي هي في حباله وكَنَفِهِ، فهي وإن كبرت فهذا الاسم لازم لها ؛ لأن وجود الزوج لها في هذه الحال بمنزلة الأب للصغير في أنه هو الذي يلي حفظها وحياطتها، فإذا انفردت عمن هذه حاله معها سُمّيت يتيمة كما سمّي الصغير يتيماً لانفراده عمن يدبر أمره ويكنفه ويحفظه، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾ [ النساء : ٣٤ ]، كما قال :﴿ وأن تقوموا لليتامى بالقسط ﴾ [ النساء : ١٢٧ ]، فجعل الرجل قَيِّماً على امرأته كما جعل وليّ اليتيم قيماً عليه. وقد رَوَى عليّ بن أبي طالب وجابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ "، وهذا هو الحقيقة في اليتم، وبعد البلوغ يسمى يتيماً مجازاً لما وصفنا.
وما ذكرنا من دلالة اسم اليتيم على الضعيف على ما رُوي عن ابن عباس يدلّ على صحة قول أصحابنا فيمن أوْصَى ليتامى بني فلان وهم لا يحصون أنها جائزة للفقراء من اليتامى ؛ لأن اسم اليتيم يدلّ على ذلك. ويدل عليه ما حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن الحسن في قوله عز وجل :﴿ وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً ﴾، قال : السفهاء ابنك السفيه وامرأتك السفيهة، قال : وقوله :﴿ قِيَاماً ﴾ قيام عيشك. وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" اتَّقُوا الله في الضَّعِيفَيْنِ اليَتِيمِ والمَرْأَةِ "، فسمَّى اليتيم ضعيفاً.
ولم يشرط في هذه الآية إيناس الرشد في دفع المال إليهم، وظاهره يقتضي وجوب دفعه إليهم بعد البلوغ أُونِسَ منه الرشد أو لم يُؤْنس، إلا أنه قد شرطه في قوله تعالى :﴿ حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾، فكان ذلك مستعملاً عند أبي حنيفة ما بينه وبين خمس وعشرين سنة، فإذا بلغها ولم يؤنس منه رشد وجب دفع المال إليه لقوله تعالى :﴿ وآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ﴾، فيستعلمه بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره، وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد، لاتفاق أهل العلم أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السنِّ شرطُ دفع المال إليه. وهذا وجه سائغ من قِبَلِ أن فيه استعمال كل واحدة من الآيتين على مقتضى ظواهرهما على فائدتهما، ولو اعتبرنا إيناس الرشد على سائر الأحوال كان فيه إسقاط حكم الآية الأخرى رأساً، وهو قوله تعالى :﴿ وآتُوا اليَتَامَى أمْوَالَهُمْ ﴾ من غير شرط لإيناس الرشد فيه ؛ لأن الله تعالى أطلق إيجاب دفع المال من غير قرينة، ومتى وردت آيتان إحداهما خاصة مضمَّنة بقرينة فيما تقتضيه من إيجاب الحكم والأخرى عامة غير مضمنة بقرينة وأمكننا استعمالهما على فائدتهما لم يَجُزْ لنا الاقتصار بهما على فائدة إحداهما وإسقاط فائدة الأخرى. ولما ثبت بما ذكرنا وجوب دفع المال إليه لقوله تعالى :﴿ وآتُوا اليَتَامَى أمْوَالَهُمْ ﴾ وقال في نسق التلاوة :﴿ فَإذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ﴾ دل ذلك على أنه جائز الإقرار بالقبض، إذ كان قوله :﴿ فأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ﴾ قد تضمن جواز الإشهاد على إقرارهم بقبضها، وفي ذلك دلالة على نفي الحَجْرِ وجواز التصرف ؛ لأن المحجور عليه لا يجوز إقراره، ومن وجب الإشهاد عليه فهو جائز الإقرار.
وأما قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بالطَّيِّبِ ﴾، فإنه رُوي عن مجاهد وأبي صالح :" الحرام بالحلال أي لا تجعل بدل رزقك الحلال حراماً تتعجل بأن تستهلك مال اليتيم فتنفقه أو تتَّجِرَ فيه لنفسك أو تحبسه وتعطيه غيره، فيكون ما تأخذه من مال اليتيم خبيثاً حراماً وتعطيه مالك الحلال الذي رزقك الله تعالى ؛ ولكن آتوهم أموالهم بأعيانها "، وهذا يدل على أن ولي اليتيم لا يجوز له أن يستقرض مال اليتيم من نفسه ولا يستبدله فيحبسه لنفسه ويعطيه غيره، وليس فيه دلالة على أنه لا يجوز له التصرف فيه بالبيع والشِّرَى لليتيم لأنه إنما حظر عليه أن يأخذه لنفسه ويعطي اليتيم غيره. وفيه الدلالة على أنه ليس له أن يشتري من مال اليتيم لنفسه بمثل قيمته سواء، لأنه قد حظر عليه استبدال مال اليتيم لنفسه، فهو عام في سائر وجوه الاستبدال إلا ما قام دليله وهو أن يكون ما يعطي اليتيم أكثر قيمة مما يأخذه على قول أبي حنيفة، لقوله تعالى :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ [ الأنعام : ١٥٢، والإسراء : ٣٤ ]. وقال سعيد بن المسيب والزهري والضحاك والسدي في قوله :﴿ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بالطَّيِّبِ ﴾ قالوا :" لا تجعلوا الزائف بدل الجيد والمهزول بدل السمين ".
وأما قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾، فإنه رُوي عن مجاهد والسدي :" لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم مُضِيفِينَ لها إلى أموالكم ". فنُهُوا عن خَلْطها بأموالهم على وجه الاستقراض لتصير ديناً في ذمته فيجوز لهم أكلها وأكل أرباحها.
قوله تعالى :﴿ إنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ﴾. قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة :" إثماً كبيراً ". وفي هذه الآية دلالة على وجوب تسليم أموال اليتامى بعد البلوغ وإيناس الرشد إليهم وإن لم يطالبوا بأدائها ؛ لأن الأمر بدفعها مطلقٌ متوعَّدٌ على تركه غير مشروط فيه مطالبة الأيتام بأدائها، ويدل على أن من له عند غيره مال فأراد دفعه إليه أنه مندوب على الإشهاد عليه، لقوله تعالى :﴿ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ والله الموفق.

باب تزويج الصغار


قال الله تعالى :﴿ وَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾. روى الزهري عن عروة قال : قلت لعائشة : قوله تعالى :﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ﴾ الآية ؟ فقالت :" يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حِجْرِ وليّها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدْنَى من صَدَاقِهَا، فَنُهُوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن وأُمروا أن ينكحوا سواهن من النساء " قالت عائشة :" ثم إن الناس اسْتَفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله :﴿ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وترغبون أن تنكحوهن ﴾ [ النساء : ١٢٧ ] " قالت :" والذي ذكر الله تعالى أنه يُتْلَى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال فيها :﴿ وإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى ﴾، وقوله في الآية الأخرى :﴿ وترغبون أن تنكحوهن ﴾ [ النساء : ١٢٧ ] رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنُهُوا أن يَنْكِحُوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن ". قال أبو بكر : ورُوي عن ابن عباس نحو تأويل عائشة في قوله تعالى :﴿ وإنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى ﴾. ورُوي عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع تأويلٌ غير هذا، وهو ما حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ يقول :" ما أحل لكم من النساء مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ وخافوا في النساء مثل الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا فيهن ". ورُوي عن مجاهد :" وإن خفتم ألا تقسطوا فحرّجتم من أكل أموالهم، وكذلك فتحرَّجُوا من الزنا فانكحوا النساء نكاحاً طيباً مَثْنَى وثُلاث ورُباع ". ورُوي فيه قولٌ ثالثٌ وهو ما رَوَى شعبة عن سِمَاكٍ عن عكرمة قال :" كان الرجل من قريش تكون عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فيذهب ماله فيميل على مال الأيتام، فنزلت :﴿ وإنْ خِفْتُمْ ألاَّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى ﴾ الآية ".
وقد اختلف الفقهاء في تزويج غير الأب والجدّ الصغيرين، فقال أبو حنيفة :" لكل من كان من أهل الميراث من القرابات أن يزوج الأقرب فالأقرب، فإن كان المزوج الأب أو الجدّ فلا خيار لهم بعد البلوغ، وإن كان غيرهما فلهم الخيار بعد البلوغ ". وقال أبو يوسف ومحمد :" لا يزوِّج الصغيرين إلا العَصَبات الأقرب فالأقرب " ؛ قال أبو يوسف :" ولا خيار لهما بعد البلوغ "، وقال محمد :" لهما الخيار إذا زوجهما غير الأب والجدّ ". وذكر ابن وهب عن مالك في تزويج الرجل يتيمه إذا رأى له الفضل والصلاح والنظر :" أن ذلك جائز له عليه ". وقال ابن القاسم عن مالك في الرجل يزوج أخته وهي صغيرة :" إنه لا يجوز، ويزوج الوصي وإن كره الأولياء، والوصيّ أوْلى من الوليّ، غير أنه لا يزوج الثَّيِّبَ إلا برضاها ولا ينبغي أن يقطع عنها الخيار الذي جعل لها في نفسها، ويزوج الوصي بنيه الصغار وبناته الصغار ولا يزوج البنات الكبار إلاّ برضاهن ". وقول الليث في ذلك كقول مالك، وكذلك قال يحيى بن سعيد وربيعة إن الوصيّ أوْلى. وقال الثوري :" لا يزوج العمُّ ولا الأخُ الصغيرَة والأموال إلى الأوصياء والنكاح إلى الأولياء ". وقال الأوزاعي :" لا يزوج الصغيرَة إلا الأبُ ". وقال الحسن بن صالح :" لا يزوِّجُ الوصيُّ إلا أن يكون وليّاً ". وقال الشافعي :" لا يزوِّجُ الصغارَ من الرجال والنساء إلا الأبُ أو الجدُّ إذا لم يكن أبٌ، ولا ولاية للوصيّ على الصغيرة ".
قال أبو بكر : روى جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال : قال عمر :" من كان في حِجْرِهِ تَرْكَةٌ لها عَوَارٌ فليضمها إليه فإن كانت رَغِبَةً فليزوجها غيره ". ورُوي عن علي وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأم سلمة والحسن وطاوس وعطاء في آخرين جوازُ تزويج غير الأب والجدّ الصغيرة. ورُوي عن ابن عباس وعائشة في تأويل الآية ما ذكرنا وأنها في اليتيمة فتكون في حجر وليِّها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في صداقها، فنُهُوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعْلَى سننهن في الصداق. ولما كان ذلك عندهما تأويل الآية دلّ على أن جواز ذلك من مذهبهما أيضاً، ولا نعلم أحداً من السلف منع ذلك، والآية تدل على ما تأولها عليه ابن عباس وعائشة ؛ لأنهما ذكرا أنها في اليتيمة تكون في حِجْرِ وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في الصداق فنُهُوا أن ينكحوهن أو يقسطوا لهن في الصداق، وأقرب الأولياء الذي تكون اليتيمة في حجره ويجوز له تزوجها هو ابن العم، فقد تضمنت الآية جواز تزويج ابن العم اليتيمة التي في حجره.
فإن قيل : لم جعلت هذا التأويل أوْلى من تأويل سعيد بن جبير وغيره الذي ذكرت مع احتمال الآية للتأويلات كلها ؟ قيل له : ليس يمتنع أن يكون المراد المعنيين جميعاً لاحتمال اللفظ لهما وليسا متنافيين فهو عليهما جميعاً، ومع ذلك فإن ابن عباس وعائشة قد قالا إن الآية نزلت في ذلك، وذلك لا يُقال بالرأي وإنما يقال توقيفاً فهو أوْلى لأنهما ذكرا سبب نزولها والقصة التي نزلت فيها، فهو أوْلى.
فإن قيل : يجوز أن يكون المرادُ الجدَّ. قيل له : إنما ذَكَرا أنها نزلت في اليتيمة التي في حِجْرِهِ وَيَرْغَبُ في نِكَاحها، والجدُّ لا يجوز له نكاحها، فعلمنا أن المراد ابن العم ومن هو أبعد منه من سائر الأولياء.
فإن قيل : إن الآية إنما هي في الكبيرة ؛ لأن عائشة قالت : إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله تعالى :﴿ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ﴾ [ النساء : ١٢٧ ]، يعني قوله :﴿ وإنْ خِفْتُمْ ألاَّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى ﴾ قال : فلما قال :﴿ في يتامى النساء ﴾ [ النساء : ١٢٧ ] دلّ على أن المراد الكبار منهن دون الصغار لأن الصغار لا يسمين نساء. قيل له : هذا غلط من وجهين، أحدهما : أن قوله :﴿ وإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى ﴾ حقيقته تقتضي اللاتي لم يبلغْنَ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغِ الحُلُمِ "، ولا يجوز صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز إلا بدلالة، والكبيرة تسمَّى يتيمة على وجه المجاز، وقوله تعالى :﴿ في يتامى النساء ﴾ [ النساء : ١٢٧ ] لا دلالة فيه على ما ذكرت ؛ لأنهن إذا كنّ من جنس النساء جازت إضافتهن إليهن، وقد قال الله تعالى :﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ والصغار والكبار داخلات فيهن، وقال :﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ﴾ [ النساء : ٢٢ ]، والصغار والكبار مرادات به، وقال :﴿ وأمهات نسائكم ﴾ [ النساء : ٢٣ ]، ولو تزوج صغيرة حرمت عليه أمُّها تحريماً مؤبداً ؛ فليس إذاً في إضافة اليتامى إلى النساء دلالة على أنهن الكبار دون الصغار. والوجه الآخر : أن هذا التأويل الذي ذكره ابن عباس وعائشة لا يصح في الكبار، لأن الكبيرة إذا رضيت بأن يتزوجها بأقلّ من مهر مثلها جاز النكاح، وليس لأحد أن يعترض عليها، فعلمنا أن المراد الصغار اللاتي يتصرف عليهن في التزويج من هن في حجره. ويدلّ عليه ما رَوَى محمد بن إسحاق قال : أخبرني عبدالله بن أبي بكر بن حزم وعبدالله بن الحارث ومن لا أتَّهم عن عبدالله بن شداد قال : كان الذي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمَّ سلمة ابنُها سلمة، فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت حمزة وهما صبيان صغيران فلم يجتمعا حتى ماتا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هَلْ جَزَيْتُ سَلَمَةَ بتَزْوِيجِهِ إيّايَ أُمَّهِ ؟ ". وفيه الدلالة على ما ذكرنا من وجهين، أحدهما : أنه زوجهما وليس بأب ولا جدّ، فدل على أن تزويج غير الأب والجد للصغيرين، والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل ذلك وقد قال الله تعالى :﴿ فاتّبعوه ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ و ١٥٥ ] فعلينا اتّباعه، فيدل على أن للقاضي تزويج الصغيرين، وإذا جاز ذلك للقاضي جاز لسائر الأولياء لأن أحداً لم يفرق بينهما. ويدل عليه أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا نِكَاحَ إلاّ بوَليٍّ "، فأثبت النكاح إذا كان بوليّ، والأخُ وابنُ العم أولياء، والدليل عليه أنها لو كانت كبيرة كانوا أولياء في النكاح. ويدلّ عليه من طريق النظر اتفاقُ الجميع على أن الأب والجدَّ إذا لم يكونا من أهل الميراث بأن كانا كافرين أو عبدين لم يزوِّجا، فدل على أن هذه الولاية مستحقَّةٌ بالميراث، فكل من كان من أهل الميراث فله أن يزوِّج الأقرب فالأقرب ؛ ولذلك قال أبو حنيفة :" إن للأم ومولى الموالاة أن يزوجوا إذا لم يكن أقرب منهم لأنهم من أهل الميراث ".
فإن قيل : لما كان في النكاح مالٌ وجب أن لا يجوز عقد من لا يجوز تصرفه في المال. قيل له : إن المال يثبت في النكاح من غير تسمية فلا اعتبار فيه بالولاية في المال، ألا ترى أن عند من لا يجيز النكاح بغير ولي فللأولياء حقٌّ في التزويج وليست لهم ولاية في المال على الكبيرة ؟ ويلزم مالكاً والشافعيَّ أن لا يجيزا تزويج الأب لابنته البكر الكبيرة إذ لا ولاية له عليها في المال، فلما جاز عند مالك والشافعي لأب البكر الكبيرة تزويجها بغير رضاها مع عدم ولايته عليها في المال دلّ ذلك على أنه لا اعتبار في استحقاق الولاية في عقد النكاح بجواز التصرف في المال، ولما ثبت بما ذكرنا من دلالة الآية جواز تزويج وليِّ الصغيرة إيّاها من نفسه دلّ على أن لوليِّ الكبيرة أن يزوجها من نفسه برضاها. ويدل أيضاً على أن العاقد للزوج والمرأة يجوز أن يكون واحداً بأن يكون وكيلاً لهما كما جاز لوليّ الصغيرة أن يزوجها من نفسه، فيكون الموجب للنكاح والقابل له واحداً. ويدل أيضاً على أنه إذا كان وليّاً لصغيرين جاز له أن يزوج أحدهما من صاحبه. فالآية دالَّةٌ من هذه الوجوه على بطلان مذهب الشافعي في قوله :" إن الصغيرة لا يزوجها غير الأب والجدّ " وفي قوله :" إنه لا يجوز لولي الكبيرة أن يتزوجها برضاها بغير محضر منها "، ويدل على بطلان قوله في أنه لا يجوز أن يكون رجل واحد وكيلاً لهما جميعاً في عقد النكاح عليهما. وإنما قال أصحابنا إنه لا يجوز للوصيّ تزويج الصغيرة، مِنْ قِبَلِ قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا نِكَاحَ إلاّ بوَلِيٍّ "، والوصيُّ ليس بوليّ لها، ألا ترى أن قوله :﴿ ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ﴾ [ الإسراء : ٣٣ ]، فلو وجب لها قَوَدٌ لم يكن الوصيُّ لها وليّاً في ذلك ولم يستحق الولاية فيه ؟ فثبت أن الوصي لا يقع عليه اسم الوليّ، فواجب أن لا يجوز تزويجه إياها إذ ليس بوليّ لها.
فإن قيل : فواجب على هذا أن لا يكون الأخُ أو العمُّ وليّاً للصغيرة لأنهما لا يستحقان الولاية في القِصَاصِ. قيل له : لم نجعل عدم الولاية في القصاص علة في ذلك حتى يلزمنا عليها، وإنما بيّنا أن ذلك الاسم لا يتناول

باب هبة المرأة المهر لزوجها


قال الله تعالى :﴿ وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ﴾. رُوي عن قتادة وابن جريج في قوله تعالى :﴿ وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ قالا :" فريضة "، كأنهما ذهبا إلى نِحْلَةِ الدَّيْن وأن ذلك فرض فيه. ورُوي عن أبي صالح في قوله تعالى :﴿ وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ قال :" كان الرجل إذا زوّج موليته أخذ صداقتها فنُهوا عن ذلك "، فجعله خطاباً للأولياء أن لا يحبسوا عنهن المهور إذا قبضوها. إلا أن معنى النحلة يرجع إلى ما ذكره قتادة في أنها فريضة، وهذا على معنى ما ذكره الله عقيب ذكر المواريث فريضة من الله. قال بعض أهل العلم : إنما سُمِّي المهرُ نحلةً والنحلةُ في الأصل العطية والهبة في بعض الوجوه ؛ لأن الزوج لا يملك بدله شيئاً، لأن البُضْعَ في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله، ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج ؟ فإنما سمّي المهر نحلة لأنه لم يَعْتَضْ من قِبَلِها عِوَضاً يملكه، فكان في معنى النحلة التي ليس بإزائها بدل ؛ وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى في قوله تعالى :﴿ نِحْلَةً ﴾ يعني : بطيبة أنفسكم، يقول لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون ولكن آتوهن ذلك وأنفسكم به طيبة وإن كان المهر لهن دونكم. قال أبو بكر : فجائز على هذا المعنى أن يكون إنما سماه نحلةً لأن النحلة هي العطية وليس يكاد يفعلها الناحِلُ إلا متبرعاً بها طَيِّبة بها نفسه، فأُمروا بإيتاء النساء مهورهن بطيبة من أنفسهم كالعطية التي يفعلها المعطي بطيبة من نفسه.
ويُحتجّ بقوله تعالى :﴿ وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهنَّ نِحْلَةً ﴾ في إيجاب كمال المهر للمَخْلُوِّ بها لاقتضاء الظاهر له، وأما قوله تعالى :﴿ فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ﴾ فإنه يعني عن المهر، لما أمرهم بإيتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهِبَتِها له لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه. قال قتادة في هذه الآية :" ما طابت به نفسها من غيره كره فهو حلال "، وقال علقمة لامرأته : أطعميني من الهنيء المريء. فتضمنت الآية معاني : منها أن المهر لها وهي المستحقة له لا حقَّ للوليّ فيه. ومنها أن على الزوج أن يعطيها بطيبة من نفسه. ومنها جواز هبتها المهر للزوج والإباحة للزوج في أخذه بقوله تعالى :﴿ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ﴾. ومنها تساوي حال قبضها للمر وترك قبضها في جواز هبتها للمهر ؛ لأن قوله تعالى :﴿ فكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ﴾ يدل على المعنيين، ويدل أيضاً على جواز هبتها للمهر قبل القبض لأن الله تعالى لم يفرق بينهما.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ﴾ يدل على أن المراد فيما تعيَّن من المهر، إما أن يكون عَرَضاً بعينه فقبضته أو لم تقبضه أو دراهم قد قبضتها، فأما دين في الذمة فلا دلالة في الآية على جواز هبتها له، إذ لا يقال لما في الذمة كُلْهُ هنيئاً مريئاً. قيل له : ليس المراد في ذلك مقصوراً على ما يتأتى فيه الأكل دون ما لا يتأتّى ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خاصّةً في المهر إذا كان شيئاً مأكولاً، وقد عقل من مفهوم الخطاب أنه غير مقصور على المأكول منه دون غيره ؛ لأن قوله تعالى :﴿ وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ عامّ في المهور كلها سواء كانت من جنس المأكول أو من غيره، وقوله تعالى :﴿ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ﴾ شامل لجميع الصدقات المأمور بإيتائها، فدل أنه لا اعتبار بلفظ الأكل في ذلك وأن المقصد فيه جواز استباحته بطيبة من نفسها ؛ وقال الله تعالى :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ﴾ [ النساء : ١٠ ] وقال تعالى :﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ [ البقرة : ١٨٨ ]، وهو عموم في النهي عن سائر وجوه التصرف في مال اليتيم من الديون والأعيان المأكول وغير المأكول، وشاملٌ للنهي في أخذ أموال الناس إلا على وجه التجارة عن تراضٍ، وليس المأكول بأوْلى بمعنى الآية من غيره. وإنما خُصَّ الأكل بالذكر لأنه معظم ما يبتغى له الأموال، إذْ به قوام بدن الإنسان، وفي ذكره للأكل دلالة على ما دونه، وهذا كقوله تعالى :﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ﴾ [ الجمعة : ٩ ] فخصَّ البيع بالذكر وإن كان ما عداه من سائر ما يشغله عن الصلاة بمثابته في النهي ؛ لأن الاشتغال بالبيع من أعظم أمورهم في السعي في طلب معايشهم، فعقل من ذلك إرادة ما هو دونه وأنه أوْلى بالنهي إذْ قد نهاهم عما هم إليه أحْوَجُ والحاجة إليه أشدّ ؛ وكما قال تعالى :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ﴾ [ المائدة : ٣ ] فخص اللحمِ بذكر التحريم وسائر أجزائه مثله لأنه معظم ما يراد منه وينتفع به، فكان في تحريمه أعْظَمَ منافعه دلالة على ما دونه، فكذلك قوله تعالى :﴿ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ﴾ قد اقتضى جواز هِبَتها للمهر من أي جنس كان عيناً أو ديناً قبضته أو لم تقبضه. ومن جهة أخرى أنه إذا جازت هبتها للمهر إذا كان مقبوضاً معيناً فكذلك حكمه إذا كان ديناً ؛ لأنه قد ثبت جواز تصرفها في مالها، فلا يختلف حكم العين والدين فيه ؛ ولأن أحداً لم يفرق بينهما. وقد دلت هذه الآية على جواز هبة الدين والبراءة منه كما جازت هبة المرأة للمهر وهو دَيْنٌ، ويدل أيضاً على أن من وهب لإنسان دَيْناً له عليه أن البراءة قد وقعت بنفس الهبة ؛ لأن الله تعالى قد حكم بصحته وأسقطه عن ذمته. ويدل على أن من وهب لإنسان مالاً فقبضه وتصرف فيه أنه جائز له ذلك وإن لم يَقُلْ بلسانه قد قبلتُ ؛ لأن الله تعالى قد أباح له أكْلَ ما وُهِبَهُ من غير شرط القبول، بل يكون التصرف فيه بحضرته حين وهبه قبولاً. ويدل على أنها لو قالت " قد طبت لك نفساً عن مهري " وأرادت الهبة والبراءة أن ذلك جائز لقوله تعالى :﴿ فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ﴾.
وقد اختلف الفقهاء في هبة المرأة مهرها لزوجها، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والشافعي :" إذا بلغت المرأة واجتمع لها عقلُها جاز لها التصرف في مالها بالهبة أو غيرها بكراً كانت أو ثيباً ". وقال مالك :" لا يجوز أمر البكر في مالها ولا ما وضعت عن زوجها من الصداق وإنما ذلك إلى أبيها في العفو عن زوجها، ولا يجوز لغير الأب من أوليائها ذلك "، قال :" وبيع المرأة ذات الزوج دارها وخادمها جائز وإن كره الزوج إذا أصابت وجه البيع، فإن كانت فيه محاباة كان من ثلث مالها، وإن تصدقت أو وهبت أكثر من الثلث لم يجز من ذلك قليل ولا كثير "، قال مالك :" والمرأة الأيّم إذا لم يكن لها زوج في مالها كالرجل في ماله سواء ". وقال الأوزاعي :" لا تجوز عطية المرأة حتى تلد وتكون في بيت زوجها سنة ". وقال الليث :" لا يجوز عِتْقُ المرأة ذات الزوج ولا صدقتها إلا في الشيء اليسير الذي لا بدَّ لها منه لصلة رحم أو غير ذلك مما يتقرب به إلى الله تعالى ".
قال أبو بكر : الآية قاضيةٌ بفساد هذه الأقوال شاهدةٌ بصحة قول أصحابنا الذي قدمنا، لقوله عز وجل :﴿ فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ﴾ ولم يفرق فيه بين البكر والثيب ولا بين من أقامت في بيت زوجها سنة أو لم تُقِمْ، وغير جائز الفرق بين البكر والثيب في ذلك إلا بدلالة تدل على خصوص حكم الآية في الثيب دون البكر ؛ وأجاز مالك هبة الأب والله تعالى أمرنا بإعطائها جميع الصداق إلا أن تَهَبَ هي شيئاً منه له، فالآية قاضية ببطلان هبة الأب لأنه مأمور بإيتاء جميع الصداق إلا أن تطيب نفسها بتركه، ولم يشرط الله تعالى طيبة نفس الأب، فمنع ما أباحه الله له بطيبة نفسها من مهرها وأجاز ما حظره الله تعالى من منع شيء من مهرها إلا بطيبة نفسها بهبة الأب. وهذا اعتراض على الآية من وجهين بغير دلالة، أحدهما : منعها الهبة مع اقتضاء ظاهر الآية لجوازها، والثاني : جواز هبة الأب مع أمر الله الزوج بإعطائها الجميع إلا أن تطيب نفساً بتركه. ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ]، فمنع أن يأخذ منها شيئاً مما أعطاها إلا برضاها بالفدية، فقد شرط رضا المرأة ولم يفرّق مع ذلك بين البكر والثَّيِّب. ويدل عليه حديث زينب امرأة عبدالله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء :" تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ "، وفي حديث ابن عباس :" أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلَّى ثم خطب ثم أتى النساء فأمرهن أن يتصدقن "، ولم يفرق في شيء منه بين البكر والثيب ؛ ولأن هذا حَجْرٌ ولا يصح الحَجْرُ على من هذه صفته، والله أعلم.

باب دفع المال إلى السفهاء


قال الله تعالى :﴿ وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ﴾ قال أبو بكر : قد اختلف أهلُ العلم في تأويل هذه الآية، فقال ابن عباس :" لا يقسم الرجل ماله على أولاده فيصير عيالاً عليهم بعد إذْ هم عيال له، والمرأةُ من أَسْفَهِ السفهاء " ؛ فتأول ابن عباس الآية على ظاهرها ومقتضى حقيقتها، لأن قوله تعالى :﴿ أَمْوَالَكُمْ ﴾ يقتضي خطاب كل واحد منهم بالنهي عن دفع ماله إلى السفهاء لما في ذلك من تضييعه، لعجز هؤلاء عن القيام بحفظه وتثميره، وهو يعني به الصبيانَ والنساءَ الذين لا يكملون لحفظ المال. ويدل ذلك أيضاً على أنه لا ينبغي له أن يؤكل في حياته بماله ويجعله في يد من هذه صفته، وأن لا يوصي به إلى أمثالهم. ويدل أيضاً على أن ورثته إذا كانوا صغاراً أنه لا ينبغي أن يوصي بماله إلا إلى أمين مضطلع بحفظه عليهم. وفيه الدلالة على النهي عن تضييع المال ووجوب حفظه وتدبيره والقيام به، لقوله تعالى :﴿ الَّتي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ﴾، فأخبر أنه جعل قوام أجسادنا بالمال، فمن رزقه الله منه شيئاً فعليه إخراج حقّ الله تعالى منه ثم حِفْظ ما بقي وتجنّب تضييعه، وفي ذلك ترغيب من الله تعالى لعباده في إصلاح المعاش وحسن التدبير. وقد ذكر الله تعالى ذلك في مواضع من كتابه العزيز، منه قوله تعالى :﴿ ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ﴾ [ الإسراء : ٢٦ و ٢٧ ]، وقوله تعالى :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ]، وقوله تعالى :﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ﴾ [ الفرقان : ٦٧ ]، وما أمر الله تعالى به من حِفْظِ الأموال وتحصين الديون بالشهادات والكتاب والرهن على ما بينا فيما سلف. وقد قيل في قوله تعالى :﴿ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ﴾ يعني أنه جعلكم قواماً عليها فلا تجعلوها في يد من يضيعها. والوجه الثاني من التأويل : ما رُوي عن سعيد بن جبير أنه أراد : لا تُؤْتوا السفهاء أموالهم، وإنما أضافها إليهم كما قال الله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ [ النساء : ٢٩ ] يعني : لا يقتل بعضُكُم بعضاً، وقوله تعالى :﴿ فاقتلوا أنفسكم ﴾ [ البقرة : ٥٤ ]، وقوله تعالى :﴿ فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم ﴾ [ النور : ٦١ ] يريد : من يكون فيها. وعلى هذا التأويل يكون السفهاء محجوراً عليهم فيكونون ممنوعين من أموالهم إلى أن يزول السفه.
وقد اخْتُلِفَ في معنى السفهاء ههنا، فقال ابن عباس :" السفيه من ولدك وعيالك " وقال :" المرأة من أسفه السفهاء ". وقال سعيد بن جبير والحسن والسدي والضحاك وقتادة :" النساء والصبيان ". وقال بعض أهل العلم :" كل من يستحقّ صفة سَفِيهٍ في المال من محجور عليه وغيره ". وروى الشعبي عن أبي بُرْدة عن أبي موسى الأشعري قال :" ثلاثة يدعون الله لا يُستجاب لهم : رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهاً وقد قال الله تعالى :﴿ وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ ﴾، ورجل داين رجلاً فلم يشهد عليه ". ورُوي عن مجاهد :" أن السفهاء النساء ". وقيل إن أصل السفه خفة الحلم، ولذلك سُمِّي الفاسق سفيهاً لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم، ويسمَّى الناقص العقل سفيهاً لخفة عقله ؛ وليس السفه في هؤلاء صفة ذمّ ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى، وإنما سُمُّوا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ المال.
فإن قيل : لا خلاف أنه جائز أن نَهَبَ النساء والصبيان المال، وقد أراد بشير أن يهب لابنه النعمان فلم يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم منه إلا لأنه لم يُعْطِ سائر بنيه مثله، فكيف يجوز حمل الآية على منع إعطاء السفهاء أموالنا ؟ قيل له : ليس المعنى فيه التمليك وهِبَةَ المال، وإنما المعنى فيه أن نجعل الأموال في أيديهم وهم غير مضطلعين بحفظها، وجائز للإنسان أن يَهَبَ الصغير والمرأة كما يهب الكبير العاقل ولكنه يقبضه له من يلي عليه ويحفظ ماله ولا يضيعه، وإنما مَنَعَنَا الله تعالى بالآية أن نجعل أموالنا في أيدي الصغار والنساء اللاتي لا يكملن بحفظها وتدبيرها.
وقوله عز وجل :﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ﴾، يعني وارزقوهم من هذه الأموال ؛ لأن " في " ههنا بمعنى " مِنْ " إذْ كانت حروف الصفات تتعاقب فيقام بعضها مقام بعض، كما قال تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾ وهو بمعنى " مع "، فنهانا الله عن دفع الأموال إلى السفهاء الذين لا يقومون بحفظها وأمرنا بأن نرزقهم منها ونكسوهم. فإن كان مراد الآية النهي عن إعطائهم مالنا على ما اقتضى ظاهرها ففي ذلك دليل على وجوب نفقة الأولاد السفهاء والزوجات لأمره إيانا بالإنفاق عليهم من أموالنا ؛ وإن كان تأويلها ما ذهب إليه القائلون بأن مرادها أن لا نعطيهم أموالهم وهم سفهاء، فإنما فيه الأمر بالإنفاق عليهم من أموالهم. وهذا يدل على الحَجْرِ من وجهين، أحدهما : منعهم من أموالهم، والثاني : إجازته تصرفنا عليهم في الإنفاق عليهم وشِرَى أقواتهم وكسوتهم.
وقوله تعالى :﴿ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ﴾، قال مجاهد وابن جريج :﴿ قَوْلاً مَعْرُوفاً ﴾ عِدَةً جميلة بالبرّ والصلة على الوجه الذي يجوز ويحسن. ويحتمل أن يريد به إجمال المخاطبة لهم وإلانةَ القول فيما يخاطبون به، كقوله تعالى :﴿ فأما اليتيم فلا تقهر ﴾ [ الضحى : ٩ ]، وكقوله :﴿ وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً ﴾ [ الإسراء : ٢٨ ]. وقد قيل إنه جائز أن يكون القول المعروف ههنا التأديب والتنبيه على الرشد والصلاح والهداية للأخلاق الحسنة، ويحتمل أن يريد به : إذا أعطيتموهم الرزق والكسوة من أموالكم أن تُجْمِلُوا لهم القول ولا تؤذوهم بالتذمّر عليهم والاستخفاف بهم، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى واليَتَامَى والمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ﴾، يعني والله أعلم : إجمال اللفظ وترك التذمر والامتنان ؛ وكما قال تعالى :﴿ لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ]. وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بقوله تعالى :﴿ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ﴾، والله أعلم.

باب دفع المال إلى اليتيم


قال الله تعالى :﴿ وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إليْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾. قال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي :" يعني اختبروهم في عقولهم ودينهم ". قال أبو بكر : أمرنا باختبارهم قبل البلوغ ؛ لأنه قال :﴿ وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ﴾، فأخبر أن بلوغ النكاح بعد الابتلاء ؛ لأن " حتى " غاية مذكورة بعد الابتلاء، فدلت الآية من وجهين على أن هذا الابتلاء قبل البلوغ، وفي ذلك دليل على جواز الإذن للصغير الذي يعقل في التجارة ؛ لأن ابتلاءه لا يكون إلا باستبراء حاله في العلم بالتصرف وحفظ المال ومتى أُمر بذلك كان مأذوناً في التجارة.
وقد اختلف الفقهاء في إذن الصبيّ في التجارة، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح :" جائز للأب أن يأذن لابنه الصغير في التجارة إذا كان يعقل الشِّرَى والبيع، وكذلك وصيّ الأب أو الجد إذا لم يكن وصيّ أب ويكون بمنزلة العبد المأذون له ". وقال ابن القاسم عن مالك :" لا أرى إذن الأب والوصيّ للصبي في التجارة جائزاً، وإن لحقه في ذلك دَيْنٌ لم يلزم الصبي منه شيء ". وقال الربيع عن الشافعي في كتابه في الإقرار :" وما أقرّ به الصبي من حق الله تعالى أو الآدمي أو حقّ في مال أو غيره فإقراره ساقط عنه سواء كان الصبيّ مأذوناً له في التجارة أذن له أبوه أو وليّه من كان أو حاكم، ولا يجوز للحاكم أن يأذن له، فإن فعل فإقراره ساقط عنه، وكذلك شراؤه وبيعه مفسوخ ".
قال أبو بكر : ظاهر الآية يدل على جواز الإذن له في التجارة لقوله تعالى :﴿ وَابْتَلُوا اليَتَامَى ﴾، والابتلاء هو اختبارهم في عقولهم ومذاهبهم وحزمهم فيما يتصرفون فيه، فهو عام في سائر هذه الوجوه، وليس لأحد أن يقتصر بالاختبار على وجه دون وجه فيما يحتمله اللفظ، والاختبارُ في استبراء حاله في المعرفة بالبيع والشِّرَى وضبط أموره وحفظ ماله لا يكون إلا بإذن له في التجارة، ومن قَصَرَ الابتلاء على اختبار عقله بالكلام دون التصرف في التجارة وحفظ المال فقد خصَّ عموم اللفظ بغير دلالة.
فإن قيل : الذي يدل على أنه لم يُرد الإذْنَ له في التصرف في حال الصغر قولُه تعالى في نسق التلاوة :﴿ فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾، وإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشْدِ، ولو جاز الإذن له في التجارة في صغره لجاز دفع المال إليه في حال الصغر، والله تعالى إنما أمر بدفع المال إليه بعد البلوغ وإيناس الرشد. قيل له : ليس الإذْنُ له في التجارة من دفع المال إليه في شيء ؛ لأن الإذن هو أن يأمره بالبيع والشرى، وذلك ممكن بغير مال في يده كما يأذن للعبد في التجارة من غير مال يدفعه إليه ؛ فنقول : إن الآية اقتضت الأمر بابتلائه، ومن الابتلاء الإذن له في التجارة وإن لم يدفع إليه مالاً، ثم إذا بلغ وقد أونس منه رشده دفع المال إليه، ولو كان الابتلاء لا يقتضي اختباره بالإذن له في التصرف في الشرى والبيع وإنما هو اختبار عقله من غير استبراء حاله في ضبطه وعلمه بالتصرف لما كان للابتلاء وجه قبل البلوغ ؛ فلما أمر بذلك قبل البلوغ علمنا أن المراد اختبار أمره بالتصرف، ولأن اختبار صحة عقله لا ينبئ عن ضبطه لأموره وحفظه لماله وعلمه بالبيع والشرى، ومعلوم أن الله تعالى أمر بالاحتياط له في استبراء أمره في حفظ المال والعلم بالتصرف، فوجب أن يكون الابتلاء المأمور له قبل البلوغ مأموراً بذلك لا لاختبار صحة عقله فحسب. وأيضاً فإن لم يجز الإذن له في التجارة قبل البلوغ لأنه محجور عليه فالابتلاء إذاً ساقط من هذا الوجه، فلا يخلو بعد البلوغ متى أردنا التوصل إلى إيناس رشده من أن نختبره بالإذن له في التجارة أو لا نختبره بذلك، فإن وجب اختباره فقد أجَزْتَ له التصرف وهو عندك محجور عليه بعد البلوغ إلى إيناس الرشد، فإن جاز الإذن له في التجارة وهو محجورٌ عليه بعد البلوغ فقد أخرجْتَهُ من الحجر وإن لم يخرج من الحجر وهو ممنوع من ماله بعد البلوغ وهو مأذون له، فهلاّ أذنتَ له قبل البلوغ في التجارة لاستبراء حاله كما يستبرأ بها بالإذن بعد البلوغ مع بقاء الحجر إلى إيناس الرشد ! وإن لم يستبرأ حاله بعد البلوغ بالإذن فكيف يُعلم إيناس الرشد منه ؟ فقول المخالف لا يخلو من ترك الابتلاء أو دفع المال قبل إيناس الرشد.
ويدل على جواز الإذن للصغير في التجارة ما رُوي :" أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن أبي سلمة وهو صغير بتزويج أم سلمة إيّاه "، وروى عبدالله بن شداد :" أنه أمر سلمة بن أبي سملة بذلك وهو صغير "، وفي ذلك دليل على جواز الإذن له في التصرف الذي يملكه عليه غيره من بيع أو شِرًى ؛ ألا ترى أنه يقتضي جواز توكيل الأب إياه بشِرَى عبد للصغير أو بيع عبد له ؟ هذا هو معنى الإذن له في التجارة، وأما تأويل من تأول قوله تعالى :﴿ وَابْتَلُوا اليَتَامَى ﴾ على اختبارهم في عقولهم ودِينهم، فإن اعتبار الدِّين في دفع المال غير واجب باتفاق الفقهاء ؛ لأنه لو كان رجلاً فاسقاً ضابطاً لأموره عالماً بالتصرف في وجوه التجارات لم يَجُزْ أن يُمنع ماله لأجل فِسْقِه، فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك غير واجب ؛ وإن كان رجلاً ذا دِينٍ وصلاح إلا أنه غير ضابط لماله يُغبن في تصرفه كان ممنوعاً من ماله عند القائلين بالحَجْرِ لقلة الضبط وضعف العقل، فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك لا معنى له.
وأما قوله تعالى :﴿ حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ﴾ فإن ابن عباس ومجاهد والسدي قالوا :" هو الحلم وهو بلوغ حال النكاح من الاحتلام ".
وأما قوله تعالى :﴿ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ﴾ فإن ابن عباس قال :" فإن علمتم منهم ذلك ". وقيل : إن أصل الإيناس هو الإحساس، حُكي عن الخليل. وقال الله تعالى :﴿ إني آنست ناراً ﴾ [ طه : ١٠ ] يعني أحسستها وأبصرتها.
وقد اختلف في معنى الرُّشْدِ ههنا، فقال ابن عباس والسدي :" الصلاح في العقل وحفظ المال ". وقال الحسن وقتادة :" الصلاح في العقل والدين ". وقال إبراهيم النخعي ومجاهد :" العقل ". ورَوَى سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ فَإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ﴾ قال :" إذا أدرك بحلم وعقل ووقار ".
قال أبو بكر : إذا كان اسم الرشد يقع على العقل لتأويل من تأوله عليه، ومعلومٌ أن الله تعالى شرط رُشْداً منكوراً ولم يشرط سائر ضروب الرشد، اقتضى ظاهر ذلك أن حصول هذه الصفة له بوجود العقل موجباً لدفع المال إليه ومانعاً من الحَجْرِ عليه ؛ فهذا يُحتجّ به من هذا الوجه في إبطال الحجر على الحر العاقل البالغ، وهو مذهب إبراهيم ومحمد بن سيرين وأبي حنيفة ؛ وقد بينا هذه المسألة في سورة البقرة.
وقوله تعالى :﴿ فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ يقتضي وجوب دفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد على ما بينا، وهو نظير قوله تعالى :﴿ وآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ﴾، وهذه الشريطة معتبرة فيها أيضاً، وتقديره : وآتوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا وآنستم منهم رشداً.
وأما قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا ﴾، فإن السرف مجاوزة حدّ المباح إلى المحظور، فتارة يكون السرف في التقصير وتارة في الإفراط لمجاوزة حدّ الجائز في الحالين.
وقوله تعالى :﴿ وبِدَاراً ﴾، قال ابن عباس وقتادة والحسن والسدي :" مبادرة "، والمبادرة الإسراع في الشيء، فتقديره النهي عن أكل أموالهم مبادرة أن يكبروا فيطالبوا بأموالهم. وفيها دلالة على أنه إذا صار في حَدِّ الكبر استحق المال إذا كان عاقلاً من غير شرط إيناس الرشد ؛ لأنه إنما شرط إيناس الرشد بعد البلوغ، وأفاد بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا ﴾ أنه لا يجوز له إمساك ماله بعد ما يصير في حد الكبر، ولولا ذلك لما كان لذكر الكبر ههنا معنى، إذ كان الوالي عليه هو المستحق لماله قبل الكبر وبعده، فهذا يدل على أنه إذا صار في حدّ الكبر استحق دفع المال إليه. وجعل أبو حنيفة حد الكبر في ذلك خمساً وعشرين سنة ؛ لأن مثله يكون جدّاً، ومحال أن يكون جدّاً ولا يكون في حدّ الكبار. والله أعلم.

باب أكْلِ ولي اليتيم من ماله


قال الله تعالى :﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمعْرُوفِ ﴾. قال أبو بكر : قد اختلف السلف في تأويله، فَرَوَى معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن في حِجْري أيتاماً لهم أموال، وهو يستأذنه أن يصيب منها، فقال ابن عباس : ألست تهنأ جرباءها ؟ قال : بلى، قال : ألست تبغي ضالّتها ؟ قال : بلى، قال : ألست تلوط حِياضَها ؟ قال : بلى، قال : ألست تفرط عليها يوم ورودها ؟ قال : بلى، قال : فاشرب من لبنها غير ناهِكٍ في الحَلْبِ ولا مضرٍّ بنسل. وروى الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس قال :" الوصيّ إذا احتاج وَضَعَ يده مع أيديهم ولا يكتسي عمامة ". فشرط في الحديث الأول عمله في مال اليتيم في إباحة الأكل، ولم يشرط في حديث عكرمة. وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال : حدثني أبو الخير مرثد بن عبدالله اليزني أنه سأل أناساً من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى :﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ ﴾، فقالوا : فينا نزلت، إن الوصيّ كان إذا عمل في نخل اليتيم كانت في يده مع أيديهم. وقد طُعن في هذا الحديث من جهة سنده، ويفسد أيضاً من جهة أنه لو أُبيح لهم الأكل لأجل عملهم لما اختلف فيه الغنيّ والفقير، فعلمنا أن هذا التأويل ساقط. وأيضاً في حديث ابن عباس إباحةُ الأكل دون أن يكتسي منه عِمَامَةً، ولو كان ذلك مستحقّاً لعمله لما اختلف فيه حكم المأكول والملبوس، فهذا أحد الوجوه التي تأولت عليه الآية وهو أن يقتصر على الأكل فحسب إذا عمل لليتيم. وقال آخرون :" يأخذه قرضاً ثم يقضيه ". ورَوَى شريك عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمر قال :" إني أنزلتُ مال الله تعالى مني بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيتُ استعففتُ وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف وقضيتُ ". ورُوي عن عبيدة السلماني وسعيد بن جبير وأبي العالية وأبي وائل ومجاهد مثل ذلك، وهو أن يأخذ قرضاً ثم يقضيه إذا وجد. وقول ثالث : قال الحسن وإبراهيم وعطاء بن أبي رباح ومكحول :" إنه يأخذ منه ما يسدّ الجوعة ويواري العورة ولا يقضي إذا وجد ". وقول رابع : وهو ما رُوي عن الشعبي أنه بمنزلة الميتة يتناوله عند الضرورة، فإذا أيسر قضاه وإذا لم يوسر فهو في حِلّ. وقول خامس : وهو ما رَوَى مقسم عن ابن عباس :﴿ فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾ قال : بغناه ﴿ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ ﴾ قال : فلينفق على نفسه من ماله حتى لا يصيب من مال اليتيم شيئاً ؛ حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا منجاب بن الحارث قال : حدثنا أبو عامر الأسدي قال :
قوله تعالى :﴿ للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ ﴾ الأية. قال أبو بكر : قد انتظمت هذه الجملة عموماً ومجملاً، فأما العموم فقوله :" للرجال وللنساء " وقوله تعالى :﴿ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ ﴾، فذلك عموم في إيجاب الميراث للرجال والنساء من الوالدين والأقربين، فدل من هذه الجهة على إثبات مواريث ذوي الأرحام ؛ لأن أحداً لا يمتنع أن يقول إن العمَّاتِ والخالاتِ والأخوالَ وأولادَ البناتِ من الأقربين، فوجب بظاهر الآية إثباتُ ميراثهم. إلا أنه لما كان قوله :﴿ نَصِيبٌ ﴾ مجملاً غير مذكور المقدار في الآية امتنع استعمال حكمه إلا بورود بيان من غيره. إلا أن الاحتجاج بظاهر الآية في إثبات ميراث لذوي الأرحام سائغٌ، وهذا مثل قوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ]، وقوله تعالى :﴿ أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٦٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ] عطفاً على ما قدم ذكره من الزرع والثمرة. فهذه ألفاظ قد اشتملت على العموم والمجمل، فلا يمنع ما فيها من الإجمال من الاحتجاج بعمومها متى اختلفنا فيما انتظمه لفظ العموم، وهو أصناف الأموال الموجب فيها، وإن لم يصحَّ الاحتجاجُ بما فيها من المجمَلِ عند اختلافنا في المقدار الواجب ؛ كذلك متى اختلفنا في الورثة المستحقين للميراث ساغ الاحتجاج بعموم قوله تعالى :﴿ للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ ﴾ الآية ؛ ومتى اختلفنا في المقدار الواجب لكل واحد منهم احْتَجْنا في إثباته إلى بيان من غيره.
فإن قيل : لما قال :﴿ نَصِيباً مَفْرُوضاً ﴾ ولم يكن لذوي الأرحام نصيبٌ مفروضٌ عَلِمْنا أنهم لم يدخلوا في مراد الآية. قيل له : ما ذكرتَ لا يُخرجهم من حُكْمِها وكونهم مرادين بها ؛ لأن الذي يجب لذوي الأرحام عند مُوجِبي مواريثهم هو نصيبٌ مفروضٌ لكلِّ واحد منهم، وهو معلوم مقدَّر كأنصباء ذوي السهام لا فرق بينهما من هذا الوجه ؛ وإنما أبان الله تعالى أن لكل واحد من الرجال والنساء نصيباً مفروضاً غير مذكور المقدار في الآية ؛ لأنه مُؤْذِنٌ ببيان وتقدير معلوم له يَرِدُ في التالي فكما وَرَدَ البيان في نصيب الوالدين والأولاد وذوي السهام بعضها بنصِّ التنزيل وبعضها بنصِّ السُّنَّة وبعضها بإجماع الأمّة وبعضها بالقياس والنظر ؛ كذلك قد ورد بيان أنصباء ذوي الأرحام بعضها بالسنَّة وبعضها بدليل الكتاب وبعضها باتفاق الأمة من حيث أوجبت الآية لذوي الأرحام أنْصِبَاء، فلم يَجُزْ إسقاط عمومها فيهم ووجب توريثهم بها. ثم إذا استحقُّوا الميراث بها كان المستحَقُّ من النصيب المفروض على ما ذهب إليه القائلون بتوريث ذوي الأرحام فيهم، فهم وإن كانوا مختلفين في بعضها فقد اتفقوا في البعض، وما اختلفوا فيه لم يَخْلُ من دليل لله تعالى يدلّ على حكم فيه.
فإن قيل : قد رُوي عن قتادة وابن جريج أن الآية نزلت على سبب، وهو أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث فنزلت الآية، وقال غيرهما : إن العرب كانت لا تورث إلا من طَاعِنٍ بالرمح وزَادٍ عن الحريم والمال، فأنزل الله تعالى هذه الآية إبطالاً لحكمهم، فلا يصحُّ اعتبار عمومها في غير ما وردت فيه. قيل له : هذا غلطٌ من وجوه، أحدها : أن السبب الذي ذكرتَ غيرُ مقصورٍ على الأولاد وذوي السهام من القرابات الذين بَيَّنَ الله حكمهم في غيرها، وإنما السبب أنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث، وجائز أن يكونوا قد كانوا يورّثون ذوي الأرحام من الرجال دون الإناث ؛ فليس فيما ذكرت إذاً دليل على أن السبب كان توريث الأولاد ومن ذكرهم الله تعالى من ذوي السهام في آية المواريث. ومن جهة أخرى أنها لو نزلت على سبب خاصٍّ لم يوجب ذلك تخصيصَ عمومِ اللفظ، بل الحكم للعموم دون السبب عندنا، فنزولها على سبب ونزولها مبتدأة من غير سبب سَواءٌ. وأيضاً فإن الله قد ذكر مع الأولاد غيرهم من الأقربين في قوله تعالى :﴿ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ ﴾، فَعَلِمْنَا أنه لم يُرِدْ به ميراث الأولاد دون سائر الأقربين. ويحتجُّ بهذه الآية في توريث الإخوة والأخوات مع الجدّ كنحو احتجاجنا بها في توريث ذوي الأرحام.
وقوله تعالى :﴿ نَصِيباً مَفْرُوضاً ﴾ يعني والله أعلم : معلوماً مقدراً. ويقال إن أصل الفرض الحَزُّ في القِدَاح علامةً لها يميَّزُ بينها، والفُرْضَةُ العلامة في قَسْمِ الماء يَعْرِفُ بها كل ذي حقّ نصيبه من الشرْب ؛ فإذاً كان أصلُ الفرض هذا ثم نُقل إلى المقادير المعلومة في الشرع أو إلى الأمور الثابتة اللازمة. وقد قيل إن أصل الفرض الثبوت، ولذلك سُمّي الحزُّ الذي فِي سِيَةِ القوس فرضاً لثبوته ؛ والفرض في الشرع ينقسم إلى هذين المعنيين، فمتى أُرِيدَ به الوجوب كان المفروض في أعلى مراتب الإيجاب. وقد اخْتُلِفَ في معنى الفرض والواجب في الشرع من بعض الوجوه، وإن كان كل مفروض واجباً من حيث كان الفرض يقتضي فارضاً وموجباً له وليس كذلك الواجب ؛ لأنه قد يجب من غير إيجاب موجب له، ألا ترى أنه جائز أن يقال إن ثواب المطيعين واجبٌ على الله في حكمته ولا يجوز أن يقال إنه فرض عليه ؟ إذ كان الفرض يقتضي فارضاً، وقد يكونُ واجباً في الحكمة غير مقتضٍ موجباً. وأصل الوجوب في اللغة هو السقوط، يقال : وَجَبَتِ الشّمْسُ إذا سقطت، ووَجَبَ الحائِطُ إذا سَقَطَ، وسَمِعْتُ وَجْبَةً يعني سَقْطَةً، وقال الله تعالى :﴿ فإذا وجبت جنوبها ﴾ [ الحج : ٣٦ ] يعني سقطت ؛ فالفرض في أصل اللغة أشدّ تأثيراً من الواجب ؛ وكذلك حكمهما في الشرع، إذ كان الجزُّ الواقع ثابتُ الأثر وليس كذلك الوجوب.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَاليَتَامَى ﴾ الآية. قال سعيد بن المسيب وأبو مالك وأبو صالح :" هي منسوخة بالميراث ". وقال ابن عباس وعطاء والحسن والشَّعْبِيُّ وإبراهيم ومجاهد والزُّهْرِي :" إنها مُحْكَمَةٌ ليست بمنسوخة ". ورَوَى عطيةُ عن ابن عباس :" يعني عند قسمة الميراث، وذلك قبل أن ينزل القرآن، فأنزل الله تعالى بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حَقٍّ حَقَّه فجعلت الصدقة فيما سَمَّى المتوفى ". ففي هذه الرواية عن ابن عباس أنها كانت واجبةً عند قسمة الميراث ثم نُسخت بالميراث، وجعلت ذلك في وصية الميت لهم. وروى عكرمة عنه :" أنها ليست بمنسوخة، وهي في قسمة الميراث تُرْضَخُ لهم، فإن كان في المال تقصير اعتذر إليهم، فهو قوله تعالى :﴿ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ﴾ ". وروى الحجّاجُ عن أبي إسحاق : أن أبا موسى الأشعري وعبد الرحمن بن أبي بكر كانا يعطيان من حضر من هؤلاء. وقال قتادة عن الحسن قال : قال أبو موسى :" هي محكمة ". ورَوَى أَشْعَثُ عن ابن سيرين عن حميد بن عبدالرحمن قال :" ولي أبي ميراثاً، فأمر بشاة فذُبحت ثمّ صُنعت، ولما قسم ذلك الميراث أطعمهم ثم تلا :﴿ وَإِذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى واليَتَامَى ﴾ الآية ". ورَوَى محمد بن سيرين عن عبيدة مثله، وقال :" لولا هذه الآية لكانت هذه الشاة من مالي " وذكر أنه كان من مال يتيم قد وَلِيه. ورَوَى هُشَيْمٌ عن أبي بِشْرٍ عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال :" هذه الآية يتهاون بها الناس، وقال : هما وَليَّان أحدهما يَرِثُ والآخر لا يَرِثُ، والذي يرث هو الذي أُمِرَ أن يرزقهم ويعطيهم، والذي لا يرث هو الذي أُمر أن يقول لهم قولاً معروفاً ويقول هذا المال لقوم غُيَّب أو لأيتام صغار ولكم فيه حقٌّ ولسنا نملك أن نُعْطَى منه شيئاً، فهذا القول المعروف ؛ قال : هي محكمة وليست بمنسوخة ". فحمل سعيد بن جبير قوله :﴿ فَارْزُقُوهُمْ ﴾ على أنهم يُعْطَوْن أنْصِبَاءهم من الميراث والقول المعروف للآخرين، فكانت فائدة الآية عنده إِنْ حضر بعضُ الوَرَثَةِ وفيهم غائبٌ أو صغير أنه يُعْطَى الحاضرُ نَصِيبَهُ من الميراث ويُمْسَكُ نَصِيبٌ الغائب والصغير ؛ فإن صحَّ هذا التأويل فهو حجّة لقول من يقول في الوديعة " إذا كانت بين رجلين وغاب أحدهما أن للحاضر أن يأخذ نصيبه ويمسك المودع نصيب الغائب "، وهو قول أبي يوسف ومحمد ؛ وأبو حنيفة يقول :" لا يُعْطَى أحد المودعين شيئاً إذا كانا شريكين فيه حتى يحضر الآخر ". وروى عطاء عن سعيد بن جبير :﴿ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ﴾ قال :" يقول عِدَةً جميلة إن كان الورثة صغاراً، يقول أولياء الورثة لهؤلاء الذين لا يرثون من قرابة الميت واليتامى والمساكين : إن هؤلاء الورثة صغار فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقّكم ويتبعوا فيه وصية ربهم ".
فحصل اختلاف السلف في ذلك على أربعة أوجه : قال سعيد بن المسيب وأبو مالك وأبو صالح : إنها منسوخة بالميراث. والثاني : رواية عكرمة عن ابن عباس وقول عطاء والحسن والشعبي وإبراهيم ومجاهد : أنها ثابتة الحكم غير منسوخة وهي في الميراث. والثالث، وهو قول ثالث عن ابن عباس : أنها في وصية الميت لهؤلاء منسوخة عن الميراث ؛ وروي نحوه عن زيد بن أسلم، قال زيد بن أسلم :" هذا شيء أُمرَ به المُوصِي في الوقت الذي يُوصِي فيه " ؛ واستدلَّ بقوله تعالى :﴿ وَلْيَخْشَ الّذِين لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً ﴾ قال : يقول له من حضره اتّق الله وصِلْهُمْ وبِرَّهُمْ وأعطهم. والرابع : قول سعيد بن جبير في رواية أبي بشر عنه إن قوله :﴿ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ﴾ هو الميراث نفسه ﴿ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ﴾ لغير أهل الميراث. فأما الذين قالوا إنها منسوخة فإنه كان عندهم على الوجوب قبل نزول الميراث، فلما نزلت المواريث وجُعِلَ لكل وارث نصيب معلوم صار ذلك منسوخاً. وأما الذين قالوا إنها ثابتة الحكم فإنه محمول عندنا على أنهم رأوها ندباً واستحباباً لا حتماً وإيجاباً ؛ لأنها لو كانت واجبة مع كثرة قسمة المواريث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ومَنْ بَعْدَهُمْ لنُقل وجوب ذلك واستحقاقه لهؤلاء كما نقلت المواريث لعموم الحاجة إليه، فلما لم يثبت وجوب ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة دلَّ ذلك على أنه استحباب ليس بإيجاب ؛ وما رُوي عن عبدالرحمن وعبيدة وأبي موسى في ذلك فجائزٌ أن يكون الورثةُ كانوا كباراً، فذبح الشاة من جملة المال بإذنهم ؛ وما رُوي في هذا الحديث أن عبيدة قسم ميراث أيتام فذبح شاة، فإن هذا على أنهم كانوا يتامى فكبروا ؛ لأنهم لو كانوا صغاراً لم تصح مقاسمتهم. ويدل على أنه نَدْبٌ ما رَوَى عطاء عن سعيد بن جبير : أن الوصي يقول لهؤلاء الحاضرين من أولي القربى وغيرهم : إن هؤلاء الورثة صغار، ويعتذرون إليهم بمثله، ولو كانوا مستحقين له على الإيجاب لوجب إعطاؤهم صغاراً كان الورثة أو كباراً. وأيضاً فإن الله تعالى قد قسم المواريث بين الورثة وبين نصيب كل واحد منهم في آية المواريث ولم يجعل فيها لهؤلاء شيئاً، وما كان ملكاً لغيره فغير جائز إزالتُه إلى غيره إلا بالوجوه التي حكم الله بإزالته بها لقوله تعالى :﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ﴾ [ النساء : ٢٩ ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ "، وقال :" لا يَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إلا بِطيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ " ؛ وهذا كله يوجب أن يكون إعطاء هؤلاء الحاضرين عند القسمة استحباباً لا إيجاباً.
وأما قوله تعالى :﴿ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ﴾، فقد رُوي عن ابن عباس أنه إذا كان في المال تقصير اعْتُذر إليهم. وعن سعيد بن جبير قال :" يُعْطَى الميراثُ أهلَه وهو معنى قوله تعالى :﴿ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ﴾ في هذه الرواية ويقول لمن لا يرث : إن هذا المال لقوم غُيَّبٍ ولأيتام صغار ولكم فيه حقّ ولسنا نملك أن نعطي منه شيئاً ". فمعناه عنده ضَرْبٌ من الاعتذار إليهم. وقال بعض أهل العلم : إذا أعطوهم عند القسمة شيئاً لا يمنّ عليهم ولا ينتهرهم ولا يسيء اللفظ فيما يخاطبهم به، لقوله تعالى :﴿ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ﴾ [ البقرة : ٢٦٣ ]، وقوله تعالى :﴿ فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ﴾ [ الضحى : ٩ و ١٠ ].
قوله تعالى :﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمُ ﴾ الآية. اختلف السلف في تأويله، فرُوي عن ابن عباس رواية وعن سعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي قالوا :" هو الرجل يحضره الموت فيقول له من يحضره اتّق الله أعطهم صِلْهُم برَّهُم، ولو كانوا هم الذين يوصون لأحبوا أن يبقوا لأولادهم "، قال حبيب بن أبي ثابت : فسألت مقسماً عن ذلك، فقال : لا، ولكنه الرجل يحضره الموت فيقول له من يحضره اتَّقِ الله وأمسك عليك مالك، ولو كانوا ذوي قرابته لأحَبُّوا أن يوصي لهم. فتأوّله الأوّلون على نهي الحاضرين عن الحضِّ على الوصية، وتأوله مقْسَمٌ على نَهْي من يأمره بتركها. وقال الحسن في رواية أخرى :" هو الرجل يكون عند الميت فيقول أوص بأكثر من الثلث من مالك ". وعن ابن عباس رواية أخرى أنه قال في ولاية مال اليتيم وحِفْظه :" إن عليهم أن يعملوا فيه ويقولوا بمثل ما يحبّ أن يُعْمَلَ ويُقَالَ في أموال أيتامهم وضعاف ذرّيتهم بعد موتهم ". وجائز أن تكون هذه المعاني التي تأوّل السلف عليها الآية مرادة بها ؛ إلا أن ما نُهي عنه من الأمر بالوصية أن النّهْيَ عنها إذا قصد المشير بذلك إلى الإضرار بالورثة أو بالمُوصَى لهم مما لا يرضاه هو لنفسه لو كان مكان هؤلاء، وذلك بأن يكون المريض قليل المال له ذرية ضعفاء فيأمره الذي يحضره باستغراق الثلث للوصية، ولو كان هو مكانه لم يَرْضَ بذلك وصيةً له لأجل ورثته ؛ وهذا يدل على أن المستحبَّ له إذا كان له ورثة ضعفاء وهو قليل المال أن لا يوصي بشيء ويتركه لهم أو يوصي لهم بأقلّ من الثلث. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد حين قال أوصي بجميع مالي ؟ فقال :" لا " إلى أن ردَّه إلى الثلث فقال :" الثّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ، إنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عالةً يَتكَفَّفُونَ النّاسَ " ؛ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الورثة إذا كانوا فقراء فتَرْكُ الوصية ليستغنوا به أفضل من فعلها. وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه كان يقول :" الأفضل لمن له مال كثير الوصية بما يريد أن يوصي به على وجه القربة من ثلث ماله، والأفضل لمن ليس له مال كثير أن لا يوصي منه بشيء وأن يبقيه لورثته ". والنهي منصرف أيضاً إلى من يأمره من الحاضرين بأن يوصي بأكثر من الثلث، على ما رُوي عن الحسن، لأن ذلك لا يجوز أن يفعله لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" الثلث كثير " ولنهيه سعداً عن الوصية بأكثر من الثلث. وجائز أن يكون ما قال مِقْسَمٌ مراداً بأن يقول الحاضر : لا تُوصِ بشيء ! ولو كان من ذوي قرابته لأحَبَّ أن يوصي له، فيشير عليه بما لا يرضاه لنفسه. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى ذلك، حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن هاشم قال : حدثنا هُدْبَةُ قال : حدثنا همامٌ قال : حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا يُؤْمِنُ العَبْدُ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الخَيْرِ ". وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا الحسن بن العباس الرازي قال : حدثنا سهل بن عثمان قال : حدثنا زياد بن عبدالله عن ليث عن طلحة عن خيثمة عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِله إِلاّ الله وأنّ مُحَمّداً رَسُولُ الله ويُحِبُّ أن يأتيَ إلى النّاس ما يُحِبُّ أنْ يُؤْتَى إليه ". قال أبو بكر : فهذا معنى قوله تعالى :﴿ وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا الله وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ﴾، فنهاه عزّ وجلّ أن يشير على غيره ويأمره بما لا يرضاه لنفسه ولأهله ولورثته، وأمر الله تعالى بأن يقول الحاضرون قولاً سديداً وهو العدل والحقّ الذي لا خلل فيه ولا فساد في إجحافٍ بوارثٍ أو حرمانٍ لذي قرابة.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً ﴾ الآية. رُوي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد :" أنه لما نزلت هذه الآية عَزَلَ من كان في حِجْرِهِ يتيمٌ طَعَامَهُ عن طعامه وشرابَهُ عن شرابه حتى فسد، حتى أنزل الله تعالى :﴿ وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ]، فرخّص لهم في الخلطة على وجه الإصلاح ". قال أبو بكر : قد خصَّ الله تعالى الأكْلَ بالذكر، وسائرُ الأموال غير المأكول منها محظورٌ إتلافه من مال اليتيم كحظر المأكول منه ؛ ولكنه خصَّ الأكل بالذكر لأنه أعظم ما يُبْتَغَى له الأموال، وقد بيّنا ذلك ونظائره فيما قد سلف.
وقوله تعالى :﴿ إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾ رُوي عن السُّديّ :" أن لهب النار يخرج من فمه ومسامعه وأنفه وعينيه يوم القيامة، يعرفه كل من رآه أنه أكل مال اليتيم ". وقيل :" إنه كالمَثَلِ ؛ لأنهم يصيرون به إلى جهنم فتمتلىء بالنار أجوافُهم ".
ومِنْ جُهَّالِ الحَشْوِ وأصحاب الحديث من يظنّ أن قوله تعالى :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً ﴾ منسوخ بقوله تعالى :﴿ وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ]، وقد أثبته بعضهم في الناسخ والمنسوخ لما رُوي أنه لما نزلت هذه الآية عزلوا طعام اليتيم وشرابه حتى نزل قوله تعالى :﴿ وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ]. وهذا القول من قائله يدل على جَهْلِهِ بمعنى النسخ وبما يجوز نسخه مما لا يجوز، ولا خلاف بين المسلمين أن أكْلَ مال اليتيم ظلماً محظورٌ وأن الوعيد المذكور في الآية قائم فيه على اختلاف منهم في إلْحاقِ الوعيد به في الآخرة لا محالة أو جواز الغفران، فأما النسخ فلا يجيزه عاقل في مثله ؛ وجَهِلَ هذا الرجل أن الظلم لا تجوز إباحته بحال، فلا يجوز نَسْخُ حَظْرِهِ، وإنما عَزَلَ من كان في حِجْرِهِ يتيمٌ من الصحابة طعامَهُ عن طعامه لأنه خاف أن يأكل من مال اليتيم ما لا يستحقه فتلحقه سِمَةُ الظلم ويصير من أهل الوعيد في الآية واحتاطوا بذلك، فلما نزل قوله تعالى :﴿ وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ] زال عنهم الخوف في الخلطة بعد أن يقصدوا الإصلاح بها ؛ وليس فيه إباحة لأكل مال اليتيم ظلماً حتى يكون ناسخاً لقوله تعالى :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً ﴾ والله أعلم.

باب الفرائض


قال أبو بكر : قد كان أهل الجاهلية يتوارثون بشيئين : أحدهما النسب والآخر السبب، فأما ما يستحق بالنسب فلم يكونوا يورثون الصغارَ ولا الإناثَ وإنما يورثون من قاتل على الفَرَس وحاز الغنيمة، رُوي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين منهم، إلى أن أَنزل الله تعالى :﴿ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ﴾ [ النساء : ١٢٧ ] إلى قوله تعالى :﴿ والمستضعفين من الولدان ﴾ [ النساء : ١٢٧ ]، وأنزل الله تعالى قوله :﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ﴾. وقد كانوا مُقَرّين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه في الجاهلية في المناكحات والطلاق والميراث إلى أن نُقلوا عنه إلى غيره بالشريعة، قال ابن جريج : قلت لعطاء : أَبَلَغَكَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّ الناس على ما أدركهم صلى الله عليه وسلم من طلاق أو نكاح أو ميراث ؟ قال : لم يبلغنا إلا ذلك. ورَوَى حماد بن زيد عن ابن عون عن ابن سيرين قال :" توارث المهاجرون والأنصار بِنَسَبِهِم الذي كان في الجاهلية ". وقال ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال :" ما كان من نكاح أو طلاق في الجاهلية فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقَرَّهُ على ذلك إلا الرّبا، فما أدرك الإسلام من رِباً لم يُقْبضْ رُدَّ إلى البائع رأس ماله وطُرح الربا ". وروى حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير قال :" بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم والناس على أمر جاهليتهم إلى أن يؤمروا بشيء أو يُنْهَوْا عنه، وإلا فهم على ما كانوا عليه من أمر جاهليتهم "، وهو على ما رُوي عن ابن عباس أنه قال :" الحلال ما أَحَلَّ الله تعالى والحرام ما حَرَّمَ الله تعالى، وما سكت عنه فهو عَفْوٌ ". فقد كانوا مُقَرّين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يحظره العقل على ما كانوا عليه، وقد كانت العرب متمسكة ببعض شرائع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وقد كانوا أحدثوا أشياء منها ما يحظره العقل نحو الشِّرْكِ وعبادةِ الأوثان ودَفْنِ البنات وكثيرٍ من الأشياء المقبحة في العقول، وقد كانوا على أشياء من مكارم الأخلاق وكثير من المعاملات التي لا تحظرها العقول، فبعث الله نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم داعياً إلى التوحيد وتَرْكِ ما تحظره العقول من عبادة الأوثان ودَفْن البنات والسائبة والوَصِيلَة والحامي وما كانوا يتقربون به إلى أوثانهم، وتَرْكِهِمْ فيما لم يكن العقل يُحَظّره من المعاملات وعقود البياعات والمناكحات والطلاق والمواريث على ما كانوا عليه ؛ فكان ذلك جائزاً منهم، إذ ليس في العقل حظره ولم تقم حجة السمع عليهم بتحريمه، فكان أمر مواريثهم على ما كانوا عليه من توريث الذكور المقاتِلَةِ منهم دون الصغار ودون الإناث إلى أن أنزل الله تعالى آيَ المواريث. وكان السببُ الذي يتوارثون به شيئين، أحدهما : الحلف والمعاقدة، والآخر : التبنّي ؛ ثم جاء الإسلام فتُرِكُوا برهةً من الدهر على ما كانوا عليه ثم نُسخ، فمن الناس من يقول إنهم كانوا يتوارثون بالحلف والمعاقدة بنصّ التنزيل ثم نسخ، وقال شيبان عن قتادة في قوله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] قال :" كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمي دمُك وهَدْمِي هَدْمُكَ وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك " قال :" فورثوا السدس في الإسلام من جميع الأموال ثم يأخذ أهل الميراث ميراثهم، ثم نسخ بعد ذلك فقال الله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ]. وروى الحسن بن عطية عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] :" كان الرجل في الجاهلية يحلف له الرجل فيكون تابعاً له، فإذا مات صار الميراث لأهله وأقاربه وبقي تابعه ليس له شيء، فأنزل الله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] فكان يعطى من ميراثه ". وقال عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] : وذلك أن الرجل في الجاهلية وفي الإسلام كان يرغب في خلّة الرجل فيعاقده فيقول : ترثني وأرِثُك، وأيهما مات قبل صاحبه كان للحيِّ ما اشترط من مال الميت، فلما نزلت هذه الآية في قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله نزلت قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد وقد كنت عاقدت رجلاً فمات ؟ فنزلت :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيداً ﴾ [ النساء : ٣٣ ].
فأخبر هؤلاء السلف أن ميراث الحليف قد كان حكمه ثابتاً في الإسلام من طريق السَّمْعِ لا من جهة إقرارهم على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية. وقال بعضهم : لم يكن ذلك ثابتاً بالسمع من طريق الشرع وإنما كانوا مُقَرِّين على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية إلى أن نزلت آية المواريث فأزالت ذلك الحكم ؛ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالرحمن عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] قال :" كان حلفاء في الجاهلية فأُمروا أن يعطوهم نصيبهم من المشورة والعقل والنصر ولا ميراث لهم ". قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا معاذ عن ابن عون عن عيسى بن الحارث عن عبدالله بن الزبير في قوله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أوْلى ببعض ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ] قال :" نزلت هذه الآية في العَصَبَات، كان الرجل يعاقد الرجل يقول ترثني وأرثك، فنزلت :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ] ". قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن إبراهيم عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] قال :" كان الرجل يقول ترثني وأرثك، فنسختها :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ] " قال :" إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوهم وصية ".
فذكر هؤلاء أن ما كان من ذلك في الجاهلية نُسِخَ بقوله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ]، وأن قوله تعالى :﴿ فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] إنما أُرِيدَ به الوصية أو المشورة والنصر من غير ميراث ؛ وأوْلى الأشياء بمعنى الآية تثبيت التوارث بالحلف ؛ لأن قوله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] يقتضي نصيباً ثابتاً لهم، والعقلُ والمشورةُ والوصيةُ ليست بنصيب ثابتٍ، وهو مثل قوله تعالى :﴿ للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَللنِّسَاءِ نَصِيبٌ ﴾ المفهوم من ظاهره إثباتُ نصيب من الميراث، كذلك قوله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] قد اقتضى ظاهرُه إثباتَ نصيب لهم قد استحقوه بالمعاقدة ؛ والمشورةُ يستوي فيها سائر الناس فليست إذاً بنصيب، فالعقل إنما يجب على حلفائه وليس هو بنصيب له، والوصية إن لم تكن مستحَقّة واجبة فليست بنصيب ؛ فتأويل الآية على النصيب المسمَّى له في عقد المحالفة أوْلى وأشبه بمفهوم الخطاب مما قال الآخرون. وهذا عندنا ليس بمنسوخ، وإنما حدث وارثٌ آخر هو أوْلَى منهم كحدوث ابنٍ لمن له أخٌ لم يخرج الأخ من أن يكون من أهل الميراث، إلا أن الابن أوْلى منه، وكذلك أولو الأرحام أوْلى من الحليف، فإذا لم يكن رَحِمٌ ولا عَصَبَةٌ فالميراث لمن حالفه وجعله له ؛ وكذلك أجاز أصحابنا الوصية بجميع المال لمن لا وارث له.
وأما الميراثُ بالدعوة والتبنّي فإن الرجل منهم كان يتبنَّى ابْنَ غيره فيُنْسَبُ إليه دون أبيه من النسب ويَرِثُهُ، وقد كان ذلك حكماً ثابتاً في الإسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم تبنَّى زيد بن حارثة وكان يقال له زيد بن محمد حتى أنزل الله تعالى :﴿ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ﴾ [ الأحزاب : ٤٠ ]، وقال تعالى :﴿ فلما قضى زيد منها وطراً زَوَّجنَاكَها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ]، وقال تعالى :﴿ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ﴾ [ الأحزاب : ٥ ]. وقد كان أبو حذيفة بن عتبة تبنَّى سالماً، فكان يقال له سالم بن أبي حذيفة، إلى أن أنزل الله تعالى :﴿ ادعوهم لآبائهم ﴾ [ الأحزاب : ٤٠ ] ؛ رواه الزهري عن عروة عن عائشة ؛ فنسخ الله تعالى الدعوة بالتبنِّي ونسخ ميراثه. حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن ليث عن عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرني سعيد بن المسيب في قوله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] قال ابن المسيب :" إنما أنزل الله تعالى ذلك في الذين كانوا يتبنّون رجالاً ويورثونهم، فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب من الوصية ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعَصَبَة، وأبَى الله أن يجعل للمدَّعِينَ ميراثاً ممن ادّعاهم، ولكن جعل لهم نصيباً من الوصية، فكان ما تعاقدوا عليه في الميراث الذي ردّ عليه أمرهم ".
قال أبو بكر : وجائز أن يكون المراد بقوله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ] منتظِماً للحلف والتبنّي جميعاً، إذ كل واحد منهما يثبت بالعقد ؛ فهذا الذي ذكرنا كان من مواريث الجاهلية وبقي في الإسلام بعضها بالإقرار عليه إلى أن نُقلوا عنه، وبعضه بنصٍّ ورد في إثباته إلى أن ورد ما أوجب نقله.
وأما مواريث الإسلام فإنها معقودة بشيئين : أحدهما نسب، والآخر سبب ليس بنسب ؛ فأما المستحق بالنسب فما نصَّ الله تعالى عليه في كتابه وبيَّن رسولُه صلى الله عليه وسلم بعضه وأجمعت الأمّة على بعضه وقامت الدلالة على بعض، وأما السبب الذي ورث به في الإسلام فبعضه ثابت وبعضه منسوخ الحكم. فمن الأسباب التي ورث بها في الإسلام ما ذكرنا في عقد المحالفة وميراث الأدعياء، وقد ذكرنا حكمه ونسخ ما رُوي نسخه وأن ذلك عندها ليس بنسخ وإنما جُعِلَ وارثٌ أوْلى من وارث.
وكان من الأسباب التي أوجب الله تعالى به الميراث الهجرة ؛ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ] قال :" كان المهاجر لا يتولّى الأعرابيَّ ولا يرثه وهو مؤمن، ولا يرثُ الأعرابيُّ المهاجر، فنسختها :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أوْلى ببعض ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ] ". وقال بعضهم :" نسخها قوله تعالى :﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ [ النساء : ٣٣ ]، وكانوا يتوارثون بالأُخُوَّةِ التي آخَى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ". ورَوَى هشام بن ع
قوله تعالى :﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ﴾ الآية. هذا نصٌّ متفق على تأويله كاتفاقهم على تنزيله، وأن الولد الذكر والأنثى في ذلك سواء يحجب الزوج عن النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن إذا كان الولد من أهل الميراث. ولم يختلفوا أيضاً أن ولد الابن بمنزلة ولد الصُّلْبِ في حَجْبِ الزوج والمرأة عن النصيب الأكثر إلى الأقل إذا لم يكن ولد الصلب.
قوله تعالى :﴿ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ﴾. قد دل على أنهن إذا كنّ أربعاً يشتركن في الثمن، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
وقد اختلف السلف في ميراث الأبوين مع الزوج والزوجة، فقال عليّ وعمر وعبدالله بن مسعود وعثمان وزيد :" للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب، وللزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب ". وقال ابن عباس :" للزوج والزوجة ميراثهما وللأم الثلث كاملاً وما بقي فللأب " وقال :" لا أجد في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي ". وعن ابن سيرين مثل قول ابن عباس ؛ ورُوي أنه تابعه في المرأة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين، لتفضيله الأم على الأب. والصحابةُ ومَنْ بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على القول الأول، إلا ما حكينا عن ابن عباس وابن سيرين ؛ وظاهر القرآن يدل عليه لأنه قال :﴿ فإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فلأُمِّهِ الثُلُثُ ﴾ فجعل الميراث بينهما أثلاثاً كما جعله أثلاثاً بين الابن والبنت في قوله تعالى :﴿ للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ﴾، وجعله بين الأخ والأخت أثلاثاً بقوله تعالى :﴿ وإنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَللذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ﴾، ثم لما سمَّى للزوج والزوجة ما سمَّى لهما وأخذا نصيبهما كان الباقي بين الابن والبنتين على ما كان قبل دخولهما، وكذلك بين الأخ والأخت، وجب أن يكون أخذ الزوج والزوجة نصيبهما موجباً للباقي بين الأبوين على ما استحقاه أثلاثاً قبل دخولهما ؛ وأيضاً هما كشريكين بينهما مال إذا استحق منه شيء كان الباقي بينهما على ما استحقاه بديّاً ؛ والله أعلم بالصواب.

باب الكلالة


قال الله عز وجل :﴿ وإنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ﴾. قال أبو بكر : الميت نفسه يسمَّى كلالةً وبعض من يرثه يسمى كلالةً، وقوله تعالى :﴿ وإنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً ﴾ يدل على أن الكلالة ههنا اسم الميت والكلالة حالُه وصِفَتهُ، ولذلك انتصب. وروى السميط بن عمير أن عمر رضي الله عنه قال :" أتى عليَّ زمانٌ وما أدري ما الكلالة، وإنما الكلالة ما خلا الولد والوالد ". وروى عاصم الأحول عن الشعبي قال : قال أبو بكر رضي الله عنه :" الكلالة ما خلا الولد والوالد، فلما طُعِنَ عمر رضي الله عنه قال :" رأيت أن الكلالة من لا ولد له ولا والد، وإني لأستحيي الله أن أخالف أبا بكر ؛ هو ما عدا الوالد والولد ". ورَوَى طاوس عن ابن عباس قال :" كنت آخِرَ الناس عهداً بعمر بن الخطاب فسمعته يقول : القَوْلُ ما قُلْتَ، قلت : وما قلتُ ؟ قال : الكلالة من لا ولد له ". وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد قال : سألت ابن عباس عن الكلالة فقال :" من لا ولد له ولا والد "، قال : قلت : فإن الله تعالى يقول في كتابه :﴿ إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] فغضب وانتهزني.
فظاهر الآية وقولُ من ذَكَرْنَاهُم من الصحابة يدل على أن الميت نفسه يسمَّى كلالةً ؛ لأنهم قالوا :" الكلالة من لا والد له ولا ولد " وقال بعضهم :" الكلالة من لا ولد له "، وهذه صفة الموروث الميت ؛ لأنه معلوم أنهم لم يريدوا أن الكلالة هو الوارث الذي لا ولد له ولا والد، إذ كان وجود الولد والوالد للوارث لا يغير حكم ميراثه من موروثه وإنما يتغير حكم الميراث بوجود هذه الصفة للميت المورث.
والذي يدلّ على أن اسم الكلالة قد يقع على بعض الوارثين، ما رواه شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال :" أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُني وأنا مريض، فقلت : يا رسول الله كيف الميراث فإنما يرثني كلالة ؟ فنزلت آية الفرائض " ؛ وهذا الحرف تفرَّد به شعبة في رواية محمد بن المنكدر ؛ فأخبر جابر أن الكلالة ورثته ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وروى ابن عون عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبدالرحمن قال : حدثنا رجل من بني سعد :" أن سعداً مرض بمكة فقال : يا رسول الله ليس لي وارثٌ إلا كلالة " ؛ فأخبر في هذا الخبر أيضاً أن الكلالة هم الورثة. وحديث سعد متقدم لحديث جابر لأن مرضه كان بمكة وليس فيه ذكر الآية، فقال قوم : كان في حجة الوداع، وقال قوم : كان في عام الفتح ؛ ويقال إن الصحيح أنه كان في عام الفتح، وحديثُ جابر كان بالمدينة في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم. وروى شُعْبَةَُ عن أبي إسحاق عن البراء قال :" آخر آية نزلت :﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ [ النساء : ١٧٦ ]، وآخر سورة نزلت براءة ". قال يحيى بن آدم : وقد بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للذي سأله عن الكلالة :" يَكْفِيكَ آيةُ الصَّيْفِ " وهي قوله تعالى :﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] لأنها نزلت في الصيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهّز إلى مكة، ونزلت عليه آية الحج :﴿ ولله على الناس حِجّ البيت ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] وهي آخر آية نزلت بالمدينة، ثم خرج إلى مكة فنزلت عليه بعرفة يوم عرفة :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ [ المائدة : ٣ ] الآية، ثم نزلت عليه من الغد يوم النحر :﴿ واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ] هذه الآية، ثم لم ينزل عليه شيء بعدها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها ؛ هكذا سمعنا. قال يحيى : وفي حديث آخر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فقال :" مَنْ مَاتَ ولَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ولا وَالِدٌ فَوَرَثتُهُ كَلالَةٌ ".
قال أبو بكر : ولم يذكر تاريخ الأخبار والآي ؛ لأن الحكم يتغير فيما ذكرنا بالتاريخ، ولكنه لما جرى ذكر الآي والأخبار اتّصل ذلك بها، وإنما أردنا بذلك أن نبين أن اسم الكلالة يتناول الميت تارة وبعض الورثة تارة أخرى.
وقد اختلف السلفُ في الكلالة، فَرَوى جرير عن أبي إسحاق الشيباني عن عمرو بن مرة عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يورث الكلالة ؟ قال :" أَوَ لَيْسَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ ؟ " ثم قرأ :﴿ وإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ ﴾ إلى آخر الآية، فأنزل الله تعالى :﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] إلى آخرها ؛ قال : فكأن عمر لم يفهم، فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طِيبَ نَفْسٍ فسَلِيهِ عنها ! فرأت منه طِيبَ نَفْسٍ فسألته عنها، فقال :" أبُوكِ كَتَبَ لَكِ هذا ؟ ما أُرَى أَبَاكَ يَعْلَمُهَا أَبَداً " ؛ قال : فكان عمر يقول : ما أُراني أعلمها أبداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال.
وروى سفيان عن عمرو بن مرة عن مرة قال : قال عمر :" ثلاث لأن يكون بيّنهنّ لنا أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها : الكلالة والخلافة والربا ". وروى قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة قال : قال عمر : ما سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طَعَنَ بأصبعه في صدري ثم قال :" يَكْفِيكَ آيةُ الصَّيْفِ ".
ورُوي عن عمر أنه قال عند موته :" اعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئاً ".
فهذه الأخبار التي ذكرنا تدلّ على أنه لم يقطع فيها بشيء وأن معناها والمراد بها كان ملتبساً عليه.
قال سعيد بن المسيب : كان عمر كتب كتاباً في الكلالة، فلما حضرته الوفاة مَحَاهُ وقال :" ترون فيه رأيكم " ؛ فهذه إحدى الروايات عن عمر، ورُوي عنه أنه قال :" الكلالة من لا ولد له ولا والدَ " ورُوي عنه أن الكلالة من لا ولد له. ورُوي عن أبي بكر الصديق وعليّ وابن عباس في إحدى الروايتين :" أن الكلالة ما عدا الوالد والولد " ورَوَى محمد بن سالم عن الشعبي عن ابن مسعود أنه قال :" الكلالة ما خلا الوالد والولد "، وعن زيد بن ثابت مثله. ورُوي عن ابن عباس رواية أخرى :" أن الكلالة ما خلا الولد ".
قال أبو بكر : اتفقت الصحابة على أن الولد ليس من الكلالة، واختلفوا في الوالد، فقال الجمهور :" الوالد خارج من الكلالة ". وقال ابن عباس في إحدى الروايتين مثله، وفي رواية أخرى أن الكلالة ما عدا الولد. فلما اختلف السلف فيهما على هذه الوجوه وسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن معناها فوكله إلى حكم الآية وما في مضمونها، وهي قوله تعالى :﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ [ النساء : ١٧٦ ]، وقد كان عمر رجلاً من أهل اللسان لا يَخْفَى عليه ما طريق معرفته اللغة ؛ ثبت أن معنى اسم الكلالة غير مفهوم من اللغة وأنه من متشابه الآي التي أمَرَنا الله تعالى بالاستدلال على معناه بالمحكم وردّه إليه ؛ ولذلك لم يُجِبِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمر عن سؤاله في معنى الكلالة وَوَكَلَهُ إلى استنباطه والاستدلال عليه. وفي ذلك ضروب من الدلالة على المعاني، أحدها : أن بمسألته إياه لم يُلْزِمه توقيفه على معناها من طريق النصِّ ؛ لأنه لو كان واجباً عليه توقيفه على معناها لما أخْلاهُ النبي صلى الله عليه وسلم من بيانها ؛ وذلك أنه لم يكن أمْرُ الكلالة في الحال التي سأل عنها حادثة تلزمه تنفيذ حكمها في الحال، ولو كان كذلك لما أخلاه من بيانها، وإنما سأله سؤال مستفهم مسترشد لمعنى الآية من طريق النصّ، ولم يكن على النبي صلى الله عليه وسلم توقيف الناس على جليل الأحكام ودقيقها ؛ لأن منها ما هو مذكور باسمه وصِفَتِهِ ومنها ما هو مدلول عليه بدلالة مُفْضِيَةٍ إلى العلم به لا احتمال فيه ومنها ما هو موكول إلى اجتهاد الرأي، فردّ النبي صلى الله عليه وسلم عمر إلى اجتهاده ؛ وهذا يدل على أنه رآه من أهل الاجتهاد، وأنه ممن قال الله تعالى :﴿ لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾ [ النساء : ٨٣ ]. وفيه الدلالة على تسويغ اجتهاد الرأي في الأحكام وأنه أصل يُرْجَع إليه في أحكام الحوادث والاستدلال على معاني الآي المتشابهة وبنائها على المحكم ؛ واتفاق الصحابة أيضاً على تسويغ الاجتهاد في استخراج معاني الكلالة يدل على ذلك، ألا ترى أن بعضهم قال :" هو من لا ولد له ولا والد " وقال بعضهم :" من لا ولد له " وأجاب عمر بأجوبة مختلفة ووقف فيها في بعض الأحوال ولم ينكر بعضهم على بعض الكلام فيها بما أدّاه إليه اجتهاده ؟ وفي ذلك دليل على اتفاقهم على تسويغ الاجتهاد في الأحكام.
ويدل على أن ما روى أبو عمران الجوني عن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ " ؛ إنما هو فيمن قال فيه بما سَنَحَ في وَهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول، وأن من استدل على حكمه واستنبط معناه فحمله

باب حدّ الزانيين


قال الله تعالى :﴿ واللاَّتي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ﴾ الآية. قال أبو بكر : لم يختلف السلف في أن ذلك كان حَدَّ الزانية في بَدْءِ الإسلام وأنه منسوخ غير ثابت الحكم ؛ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ واللاَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ سَبِيلاً ﴾، قال : وقال في المطلقات :﴿ لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ﴾ [ الطلاق : ١ ] قال : هذه الآيات قبل أن تنزل سورة النور في الجَلْدِ نسختها هذه الآية :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ [ النور : ٢ ] قال : والسبيل الذي جعله لهنّ الجلد والرجم، قال : فإذا جاءت اليوم بفاحشة مُبَيِّنَةٍ فإنها تُخرج وتُرجم بالحجارة ؛ قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وفي قوله تعالى :﴿ واللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ فآذُوهُمَا ﴾ قال : كانت المرأة إذا زنت حُبِسَتْ في البيت حتى تموت، وكان الرجل إذا زنى أوذِيَ بالتعبير وبالضرب بالنعال، قال : فنزلت :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ [ النور : ٢ ].
قال : وإن كانا مُحْصَنَيْنِ رُجما بسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، قال : فهو سبيلها الذي جعله الله لها ؛ يعني قوله تعالى :﴿ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾. قال أبو بكر : فكان حكم الزانية في بَدْءِ الإسلام ما أوجب من حدّها بالحبس إلى أن يتوفاهنّ الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً، ولم يكن عليها في ذلك الوقت شيء غير هذا، وليس في الآية فَرْقٌ بين البكر والثَّيِّبِ ؛ فهذا يدل على أنه كان حُكْماً عامّاً في البكر والثيب.
وقد اختلف السلف في معنى السبيل المذكور في هذه الآية، فرُوي عن ابن عباس :" أن السبيل الذي جعله لهنّ الجلد لغير المحصن والرجم للمحصن "، وعن قتادة مثل ذلك. ورُوي عن مجاهد في بعض الروايات :﴿ أوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾ :" أو يضعن ما في بطونهن " ؛ وهذا لا معنى له لأن الحكم كان عامّاً في الحامل والحائل، فالواجب أن يكون السبيل مذكوراً لهن جميعاً.
قوله تعالى :﴿ واللّذَانِ يَأْتِيَانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ﴾، فإنه رُوي عن الحسن وعطاء :" أن المراد الرجل والمرأة ". وقال السدي :" البِكْرَيْنِ من الرجال والنساء ". ورُوي عن مجاهد :" أنه أراد الرجلين الزانيين ". وهذا التأويل الأخير يقال إنه لا يصح ؛ لأنه لا معنى للتثنية ههنا، إذ كان الوعد والوعيد إنما يجيئان بلفظ الجمع لأنه لكل واحد منهم، أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس الشامل لجميعهم ؛ وقول الحسن صحيح وتأويل السديّ محتمل أيضاً، فاقتضت الآيتان بمجموعهما أن حَدَّ المرأة كان الأَذَى والحبس جميعاً إلى أن تموت، وحَدَّ الرجل التعيير والضرب بالنعال ؛ إذ كانت المرأة مخصوصة في الآية الأولى بالحبس ومذكورة مع الرجل في الآية الثانية بالأذى فاجتمع لها الأمران جميعاً، ولم يذكر للرجال إلا الأذَى فحسب. ويحتمل أن تكون الآيتان نزلتا معاً فأُفْرِدَتِ المرأةُ بالحبس وجُمِعا جميعاً في الأذى، وتكون فائدة إفراد المرأة بالذكر إفرادها بالحبس إلى أن تموت وذلك حكم لا يشاركها فيه الرجل، وجُمعت مع الرجل في الأذى لاشتراكهما فيه. ويحتمل أن يكون إيجابُ الحبس للمرأة متقدماً للأذى، ثم زيد في حَدِّها وأوجب على الرجل الأذى، فاجتمع للمرأة الأمران وانفرد الرجل بالأذى دونها. فإن كان كذلك فإن الإمساك في البيوت إلى الموت أو السبيل قد كان حَدَّها، فإذا أُلحق به الأذى صار منسوخاً لأن الزيادة في النصّ بعد استقرار حكمه توجب النسخ، إذ كان الحبس في ذلك الوقت جَمِيعُ حَدِّها، ولما وردت الزيادة صار بعضَ حَدِّها، فهذا يوجب أن يكون كون الإمساك حدّاً منسوخاً. وجائز أن يكون الأذى حَدّاً لهما جميعاً بديّاً ثم زيد في حَدِّ المرأة الحبسُ إلى الموت أو السبيل الذي يجعله الله لها، فيوجب ذلك نَسْخَ الأذى في المرأة أن يكون حَدّاً لأنه صار بعضه بعد نزول الحبس ؛ فهذه الوجوه كلها محتملة.
فإن قيل : هل يحتمل أن يكون الحبس منسوخاً بإسقاط حكمه والاقتصار على الأذى إذا كان نازلاً بعده ؟ قيل له : لا يجوز نسخه على جهة رفع حكمه رأساً، إذ ليس في إيجاب الأذى ما ينفي الحبس لجواز اجتماعهما ؛ ولكنه يكون نسخه من طريق أنه يصير بَعْضَ الحدِّ بعد أن كان جميعه، وذلك ضرب من النسخ.
وقد قيل في ترتيب الآيتين وجهان، أحدهما : ما رُوي عن الحسن أن قوله تعالى :﴿ واللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا ﴾ نزلت قبل قوله تعالى :﴿ واللاَّتي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ ﴾، ثم أمر أن تُوضع في التلاوة بعده، فكان الأذى حدّاً لهما جميعاً، ثم الحبس للمرأة مع الأذى. و ذلك يبعد من وجه ؛ لأن قوله تعالى :﴿ واللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا ﴾ " الهاء " التي في قوله :﴿ يَأْتِيَانِهَا ﴾ كناية لا بدَّ لها من مظهر متقدم مذكور في الخطاب أو معهود معلوم عند المخاطب، وليس في قوله تعالى :﴿ واللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ ﴾ دلالة من الحال على أن المراد الفاحشة، فوجب أن تكون كناية راجعة إلى الفاحشة التي تقدم ذكرها في أوّل الآية، إذ لو لم تكن كناية عنها لم يستقم الكلام بنفسه في إيجاب الفائدة وإعلام المراد، وليس ذلك بمنزلة قوله تعالى :﴿ ما ترك على ظهرها من دابة ﴾ [ فاطر : ٤٥ ] وقوله تعالى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾ [ القدر : ١ ] لأن من مفهوم ذكر الإنزال أنه القرآن، وفي مفهوم قوله تعالى :﴿ ما ترك على ظهرها من دابة ﴾ [ فاطر : ٤٥ ] أنها الأرض، فاكتفى بدلالة الحال وعِلْمِ المخاطب بالمراد عن ذكر المكنيِّ عنه ؛ فالذي يقتضيه ظاهر الخطاب أن يكون ترتيبُ معاني الآيتين على حسب ترتيب اللفظ، فإما أن تكونا نزلتا معاً وإما أن يكون الأذَى نازلاً بعد الحبس إن كان المراد بالأذى من أُرِيد بالحبس من النساء. والوجه الثاني : ما رُوي عن السُّديّ أن قوله تعالى :﴿ واللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ ﴾ إنما كان حكماً في البِكْرَيْنِ خاصةً، والأُولى في الثيبات دون الأبكار. إلا أن هذا قول يوجب تخصيص اللفظ بغير دلالة، وذلك غير سائغ لأحد مع إمكان استعمال اللفظين على حقيقة مقتضاهما ؛ وعلى أيّ وجه تصرفت وجوه الاحتمال في حكم الآيتين وترتيبهما فإن الأمّة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين.
واختلف أيضاً فيما نسخ هذين الحكمين، فقال قائلون : نُسخ بقوله تعالى :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ [ النور : ٢ ]، وقد كان قوله تعالى :﴿ واللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ ﴾ في البكرين، فنُسِخَ ذلك عنهما بالجلد المذكور في هذه الآية، وبقي حكم الثيب من النساء الحبس فنسخ بالرجم. وقال آخرون : نُسخ بحديث عبادة بن الصامت، وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا أبو النصر عن شعبة عن قتادة عن الحسن عن حِطّان بن عبدالله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خُذُوا عَنِّي ! قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ والثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، البِكْرُ تُجْلَدُ وتُنْفَى والثَّيِّبُ تُجْلَدُ وتُرْجَمُ ". وهذا هو الصحيح ؛ وذلك لأن قوله :" خذوا عنِّي قد جعل الله لهن سبيلاً " يوجب أن يكون بياناً للسبيل المذكور في الآية، ومعلوم أنه لم يكن بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحبس والأذى واسطة حكم، وأن آية الجلد التي في سورة النور لم تكن نزلت حينئذ ؛ لأنها لو كانت نزلت كان السبيل متقدماً لقوله :" خذوا عنّي قد جعل الله لهن سبيلاً " ولما صح أن يقول ذلك ؛ فثبت بذلك أن الموجب لنسخ الحبس والأذى قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت، وأن آية الجلد نزلت بعده. وفي ذلك دليل على نَسْخِ القرآن بالسنة، إذ نَسَخَ بقوله :" خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً " ما أوْجَبَ الله من الحبس والأذى بنصّ التنزيل.
فإن قيل : فقوله تعالى :﴿ واللّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ ﴾ وما ذُكِرَ في الآيتين من الحبس والأذى كان في البِكْرَيْنِ دون الثَّيبين. قيل له : لم يختلف السلف في أن حكم المرأة الثيب كان الحبس، وإنما قال السدي إن الأذى كان في البكرين خاصة ؛ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن السبيل المذكور في آية الحبس وذلك لا محالة في الثَّيِّبِ، فأوجب أن يكون منسوخاً بقوله :" الثَّيب بالثيب الجلد والرجم "، فلم يَخْلُ الحبسُ من أن يكون منسوخاً في جميع الأحوال بغير القرآن، وهي الأخبار التي فيها إيجاب رَجْمِ المحصن ؛ فمنها حديث عبادة الذي ذكرنا، وحديث عبدالله وعائشة وعثمان حين كان محصوراً فاستشهد أصحابَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يَحِلُّ دَمُ امرىءٍ مُسْلِمٍ إلا بإِحْدَى ثلاثٍ : كُفْرٍ بَعْدَ إيمانٍ وزِناً بعد إِحْصَانٍ وَقَتْلِ نَفْسٍ بغير نفسٍ "، وقصة ماعز والغامدية ورَجْم النبي صلى الله عليه وسلم إياهما قد نقلته الأمة لا يتمارون فيه.
فإن قيل : هذه الخوارج بأسْرِها تنكر الرجم، ولو كان ذلك منقولاً من جهة الاستفاضة الموجبة للعلم لما جَهِلَتْه الخوارج. قيل له : إن سبيل العلم بمُخْبَرِ هذه الأخبار السماع من ناقليها وتعرّفه من جهتهم، والخوارج لم تجالس فقهاء المسلمين وَنَقَلَةَ الأخبار منهم وانفردوا عنهم غير قابِلِين لأخبارهم ؛ فلذلك شكّوا فيه ولم يُثْبِتُوه. وليس يمتنع أن يكون كثير من أوائلهم قد عرفوا ذلك من جهة الاستفاضة ثم جَحَدُوه محاملةً منهم على ما سبقوا إلى اعتقاده من ردِّ أخبار من ليس على مقالتهم، وقَلَّدهم الأتباع ولم يسمعوا من غيرهم فلم يقع لهم العلم به، أو الذين عرفوه كانوا عدداً يسيراً يجوز على مثلهم كتمانُ ما عرفوه وجحدوه، ولم يكونوا صحابة فيكونوا قد عرفوه من جهة المعاينة أو بكثرة السماع من المعاينين له، فلما خَلَوْا من ذلك لم يعرفوه ؛ ألا ترى أن فرائض صدقات المواشي منقولة من جهة النقل المستفيض الموجب للعلم ولا يعرفها إلا أحد رجلين إما فقيه قد سمعها فثبت عنده العلم بها من جهة الناقلين لها وإما رجل صاحب مواشٍ تكثر بَلْوَاهُ بوجوبها فيتعرفها ليعلم ما يجب عليه فيها ؟ ومثله أيضاً إذا كثر سماعه وقع له العلم بها، وإن لم يسمعها إلا من جهة الآحاد لم يعلمها ؛ وهذا سبيل الخوارج في جحودهم الرجم وتحريم تزويج المرأة على عمتها وخالتها وما جرى مجرى ذلك مما اخْتُصَّ أهل العدل بنقله دون الخوارج والبغاة.
وقد تضمنت هاتان الآيتان أحكاماً : منها استشهاد أربعة من الشهداء على الزنا. ومنها الحبس للمرأة والأذى للرجل والمرأة جميعاً. ومنها سقوط الأذى والتعبير عنهما بالتوبة، لقوله تعالى :﴿ فإنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ﴾ وهذه التوبة إنما كانت مؤثرة في إسقاط الأذى دون الحبس، وأما الحبس فكان موقوفاً على ورود السبيل، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك السبيل وهو الجلد والرجم، ونسخ جميع ما ذكر في الآية إلا ما ذكر من استشهاد أربعة شهود، فإنّ اعتبار عدد الشهود باقٍ في الحدّ الذي نسخ به الحدّان الأوّلان وهو الجلد والرجم، وقد بيَّن الله ذلك في قوله تعالى :﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ﴾ [ النور : ٤ ].
وقال تعالى :﴿ لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ﴾ [ النور : ١٣ ]، فلم ينسخ اعتبار العدد ولم ينسخ الاستشهاد أيضاً، وهذا يوجب جواز إحضار الشهود والنظر إلى الزانيين لإقامة الحدّ عليهما ؛ لأن الله تعالى أمر بالاستشهاد على الزنا وذلك لا يكون إلا بتعمد النظر، فدل ذلك على أن تَعَمُّدَ النظر إلى الزانيين لإقامة الحدّ عليهما لا يسقط شهادته ؛ وكذلك فعل أبو بكر مع شِبْل بن مَعْبَد ونافع بن الحارث وزياد في قصة المغيرة بن شعبة، وذلك موافق لظاهر الآية.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلوهُنَّ ﴾ الآية ؛ رَوَى الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال :" كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحَقَّ بامرأته من وليّ نفسها، إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها، فنزلت هذه الآية في ذلك ". وقال الحسن ومجاهد :" كان الرجل إذا مات وترك امرأته قال وليه : ورثتُ امرأته كما ورثتُ ماله، فإن شاء تزوجها بالصَّدَاق الأول وإن شاء زوجها وأخذ صداقها " قال مجاهد :" وذلك إذا لم يكن ابنها "، قال أبو مجلز : فكان بالميراث أوْلى من وليِّ نفسها. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال :" كانوا في أول الإسلام إذا مات الرجل يقوم أقْرَبُ الناس منه فيُلْقي على امرأته ثوباً فيرث نكاحها، فمات أبو عامر زوج كبشة بنت مَعْنٍ، فجاء ابن عامر من غيرها وألْقَى عليها ثوباً فلم يَقْرَبْها ولم ينفق عليها، فشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله :﴿ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ أن تُؤْتُوهن الصداق الأول ". وقال الزهري :" كان يحبسها من غير حاجة إليها حتى تموت فيرثها فنهوا عن ذلك ".
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ﴾ قال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك :" هو أمرٌ للأزواج بتخلية سبيلها إذا لم يكن له فيها حاجة ولا يمسكها إضراراً بها حتى تفتدي ببعض مالها ". وقال الحسن :" هو نهيٌ لوليّ الزوج الميت أن يمنعها من التزوج على ما كان عليه أمر الجاهلية ". وقال مجاهد :" هو نهي لوليّها أن يعضلها ".
قال أبو بكر : الأظهر هو تأويل ابن عباس ؛ لأن قوله تعالى :﴿ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ﴾ وما ذُكر بعده يدلّ عليه ؛ لأن قوله :﴿ لتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ﴾ يريد به المهر حتى تفتدي كأنه يعضلها أو يسيء إليها لتفتدي منه ببعض مهرها.
وقوله تعالى :﴿ إلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةً مُبَيِّنَةٍ ﴾، قال الحسن وأبو قلابة والسدي :" هو الزنا وإنه إنما تحلّ له الفدية إذا اطّلع منها على ريبة ". وقال ابن عباس والضحاك وقتادة :" هي النشوز، فإذا نشزت حلّ له أن يأخذ منها الفدية ". وقد بيّنا في سورة البقرة أمر الخلع وأحكامه.
وقوله تعالى :﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ ﴾ أمر للأزواج بعِشْرة نسائهم بالمعروف، ومن المعروف أن يوفيها حقها من المهر والنفقة والقسم وترك أذاها بالكلام الغليظ والإعراض عنها والميل إلى غيرها وترك العبوس والقطوب في وجهها بغير ذنب وما جرى مجرى ذلك، وهو نظير قوله تعالى :﴿ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ].
وقوله تعالى :﴿ فإنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ يدل على أنه مندوب إلى إمساكها مع كراهته لها ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق معنى ذلك، حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا كثير بن عبيد قال : حدثنا محمد بن خالد عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أَبْغَضُ الحَلالِ إِلى الله تَعالَى الطَّلاقُ ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن خالد بن يزيد النيلي قال : حدثنا مهلب بن العلاء قال : حدثنا شعيب بن بيان عن عمران القطان عن قتادة عن أبي تميمة الهُجَيْمي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تَزَوَّجُوا ولا تُطَلِّقُوا فإنَّ الله لا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ والذَّوَّاقَاتِ ". فهذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم موافق لما دلّت عليه الآية من كراهة الطلاق والندْبِ إلى الإمساك بالمعروف مع كراهته لها، وأخبر الله تعالى أن الخِيرَةَ ربما كانت لنا في الصبر على ما نكره بقوله تعالى :﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾، وهو كقوله تعالى :﴿ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ﴾ [ البقرة : ١١٦ ].
قوله تعالى :﴿ وإنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً ﴾ الآية، قد اقتضت هذه الآية إيجابَ المهر لها تمليكاً صحيحاً وَمَنْعَ الزوج أن يأخذ منها شيئاً مما أعطاها، وأخبر أن ذلك سالمٌ لها سواءٌ استبدل بها أو أمسكها، وأنه محظور عليه أخْذُ شيء منه إلا بما أباح الله تعالى به أخْذَ مال الغير في قوله تعالى :﴿ إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ وظاهره يقتضي حَظْرَ أَخْذِ شيء منه بعد الخلوة، فيحتج به في إيجاب كمال المهر إذا طلّق بعد الخلوة لعموم اللفظ في حَظْرِ الأخذ في كل حال إلا ما خصّه الدليل ؛ وقد خص قوله تعالى :﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ] إذا طلّق قبل الخلوة في سقوط نصف المهر ؛ لأنه لا خلاف أن ذلك مراد إذا طلّق قبل الخلوة. وقد اختلف في الخلوة هل هي المسيس المراد بالآية أو المسيس الجماع ؟ واللفظ محتمل للأمرين، لأن عليّاً وعمر وغيرهما من الصحابة قد تأولوه عليها. وتأوله عبدالله بن مسعود على الجماع، فلا يخصّ عموم قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ﴾ بالاحتمال.
وقوله تعالى :﴿ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ﴾ يدل على أن من وهب لامرأته هِبَةً لا يجوز له الرجوع فيها لأنها مما آتاها، وعموم اللفظ قد حظر أخذ شيء مما آتاها من غير فرق بين المهر وغيره. ويحتجّ فيمن خلع امرأته على مال وقد أعطاها صداقها أنه لا يرجع عليها بشيء من الصداق الذي أعطاها عيناً كان أو عرضاً على ما قاله أبو حنيفة في ذلك. ويحتجّ به فيمن أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت قبل المدة أنه لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها لعموم اللفظ، لأنه جائز أن يريد أن يتزوج بأخرى بعد موتها مستبدلاً بها مكان الأولى، فظاهر اللفظ قد تناول هذه الحال.
فإن قيل : لما عقب ذلك قوله تعالى :﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾ دلّ على أن المراد بأول الخطاب فيما أعطاها هو المهر دون غيره، إذْ كان هذا المعنى إنما يختص بالمهر دون ما سواه. قيل له : ليس يمتنع أن يكون أول الخطاب عموماً في جميع ما انتظمه الاسم، ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأول، وقد بينا نظائر ذلك في مواضع. وهذه الآية أيضاً تدل على أنه إذا دخل بها ثم وقعت الفرقة من قِبَلِها بمعصية أو غير معصية أن مهرها واجب لا يبطله وقوع الفرقة من قِبَلِها. وفائدة تخصيص الله تعالى حال الاستبدال بالنهي عن أخذ شيء مما أعطاها مع شمول الحظر لسائر الأحوال إزالة توهُّم من يظنّ أن ذلك جائز عند حصول البضع لها وسقوط حق الزوج عنه بطلاقها وأن الثانية قد قامت مقام الأولى فتكون أوْلى بالمهر الذي أعطاها، فنصَّ على حَظْرِ الأخْذِ في هذه الحال، ودل به على عمومه في سائر الأحوال إذا لم يبح له أخذ شيء مما أعطاها في الحال التي يسقط حقّه عن بضعها، فهو أوْلى أن لا يأخذ منها شيئاً مع بقاء حقه في استباحة بضعها وكونه أمْلَكُ بها من نفسها. وأكّد الله تعالى حَظْرَ أَخْذِ شيء مما أعطى بأن جعله ظلماً كالبهتان، وهو الكذب الذي يباهت به مخبره ويكابر به من يخاطبه، وهذا أقبح ما يكون من الكذب وأفحشه ؛ فشبَّه أخذ ما أعطاها بغير حق بالبهتان في قبحه فسماه بهتاناً وإثماً.
قوله عز وجل :﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً ﴾.
قال أبو بكر : ذكر الفراء أن الإفضاء هو الخلوة وإن لم يقع دخول. وقول الفرّاء حجة فيما يحكيه من اللغة، فإذا كان اسم الإفضاء يقع على الخلوة فقد منعت الآية أن يأخذ منها شيئاً بعد الخلوة والطلاق ؛ لأن قوله تعالى :﴿ وَإنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ ﴾ قد أفاد الفرقة والطلاق، والإفضاءُ مأخوذ من الفضاء، وهو المكان الذي ليس فيه بناء حاجز عن إدراك ما فيه، فسُمِّيت الخلوة إفضاءً، لزوال المانع من الوَطْءِ والدخول. ومن الناس من يقول : إن الفضاء السَّعَة، وأفْضَى : إذا صار في المتسع مما يقصده. وجائز على هذا الوضع أيضاً أن تسمَّى الخلوة إفضاءً لوصوله بها إلى مكان الوطء واتّساع ذلك بالخلوة، وقد كان يضيق عليه الوصول إليها قبل الخلوة، فسميت الخلوة إفضاءً لهذا المعنى، فأخبر تعالى أنه غير جائز له أخذ شيء مما أعطاها مع إفضاء بعضهم إلى بعض، وهو الوصول إلى مكان الوطء وبَذْلها ذلك له وتمكينها إياه من الوصول إليها. فظاهر هذه الآية يمنع الزوج أخْذَ شيء مما أعطاها إذا كان النشوز من قِبَلِهِ ؛ لأن قوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ ﴾ يدل على أن الزوج هو المريد للفرقة دونها، ولذلك قال أصحابنا : إن النشوز إذا كان من قِبَلِهِ يُكرهُ له أن يأخذ شيئاً من مهرها، وإذا كان من قبلها فجائز له ذلك لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةً مُبَيِّنَةٍ ﴾ فقيل عن ابن عباس :" إن الفاحشة هي النشوز "، وقال غيره :" هي الزنا ". ولقوله تعالى :﴿ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] ؛ ومن الناس من يقول إنها منسوخة بقوله :﴿ وإنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ ﴾. وذلك غلط ؛ لأن قوله تعالى :﴿ وَإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ ﴾ قد أفاد حال كون النشوز من قبله، وقوله تعالى :﴿ إلا أن يخافا أن يقيما حدود الله ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] إنما فيه ذِكْرُ حال أخرى غير الأولى، وهي الحال التي يكون النشوز منه وافتدت فيها المرأة منه، فهذه حال غير تلك وكل واحدة من الحالين مخصوصة بحكم دون الأخرى.
وقوله تعالى :﴿ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ قال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي : هو قوله :﴿ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ]. قال قتادة :" وكان يقال للناكح في صدر الإسلام : الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان ". وقال مجاهد :" كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج ". وقال غيره : هو قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إنّما أَخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانَةِ اللَّهِ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله تَعالى " ؛ والله أعلم بالصواب.

باب ما يحرم من النساء


قال الله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾. قال أبو بكر : أخبرنا أبو عمر غلام ثعلب قال : الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أن النكاح في أصل اللغة هو اسم للجمع بين الشيئين، تقول العرب :" أنكحنا الفَرَا فَسَنَرَى " هو مثل ضربوه للأمر يتشاورون فيه ويجتمعون عليه ثم ينظر عمّا ذا يصدرون فيه، معناه : جمعنا بين الحمار وأَتَانِهِ.
قال أبو بكر : إذا كان اسم النكاح في حقيقة اللغة موضوعاً للجمع بين الشيئين، ثم وجدناهم قد سمّوا الوطء نفسه نكاحاً من غير عقد كما قال الأعشى :
* ومَنْكُوحَة غير مَمْهُورَة * وأخْرى يقال له فَادِهَا *
يعني المَسْبِيَّةَ الموطوءةَ بغير مهر ولا عقد، وقال الآخر :
* ومِنْ أَيِّمٍ قَدْ أَنْكَحَتْها رِمَاحُنَا * وأخْرَى على عَمٍّ وخَالٍ تَلْهَفُ *
وهذا يعني المَسْبِيّة أيضاً ؛ ومنه قول الآخر أيضاً :
* فنكحن أبكاراً وهن بأمّة * أعْجَلْنَهُنَّ مَظَنَّةَ الإعْذَارِ *
وهو يعني الوطء أيضاً ؛ ولا يمتنع أحد من إطلاق اسم النكاح على الوطء. وقد تناول الاسم العقد أيضاً، قال الله تعالى :﴿ إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ] والمراد به العقد دون الوطء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أَنَا مِنْ نِكَاحٍ وَلَسْتُ مِنْ سِفَاحٍ " ؛ فدل بذلك على معنيين، أحدهما : أن اسم النكاح يقع على العقد، والثاني : دلالته على أنه قد يتناول الوطء من غير عقد، لولا ذلك لاكتفى بقوله : أنا من نكاح، إذ كان السفاح لا يتناول اسم النكاح بحال، فدلّ قوله :" ولست من سفاح " بعد تقديم ذكر النكاح أن النكاح يتناول له الأمرين، فبيَّن صلى الله عليه وسلم أنه من العقد الحلال لا من النكاح الذي هو سِفَاحٌ. ولما ثبت بما ذكرنا أن الاسم ينتظم الأمرين جميعاً من العَقْدِ والوَطْءِ، وثبت بما ذَكَرْنا من حكم هذا الاسم في حقيقة اللغة وأنه اسم للجمع بين الشيئين والجمع إنما يكون بالوطء دون العقد إذ العقد لا يقع به جمع لأنه قول منهما جميعاً لا يقتضي جمعاً في الحقيقة، ثبت أن اسم النكاح حقيقةٌ للوطء مجازٌ للعقد، وأن العقد إنما سُمِّي نكاحاً لأنه سببٌ يتوصل به إلى الوطء، تسميةَ الشيء باسم غيره إذا كان منه بسبب أو مجاوراً له، مثل الشَّعَرِ الذي يُولَدُ الصبيُّ وهو على رأسه يسمَّى عقيقةً، ثم سُميت الشاة التي تُذبح عنه عند حلق ذلك الشعر عقيقة، وكالراوية التي هي اسم للجمل الذي يحمل المزادة ثم سُميت المزادة راويةً لاتصالها به وقربها منه ؛ وقال أبو النجم :
* تَمْشِي مِنَ الرِّدَّةِ مَشْيَ الحُفَّلِ * مَشْيَ الرَّوَايَا بالمَزَادِ الأَثْقَلِ *
ونحوه الغائط، هو اسم للمكان المطمئنّ من الأرض ويسمَّى به ما يخرج من الإنسان مجازاً لأنهم كانوا يقصدون الغائط لقضاء الحاجة، ونظائر ذلك كثيرة ؛ فكذلك النكاح اسم للوطء حقيقة على مقتضى موضوعه في أصل اللغة ويسمَّى العقد باسمه مجازاً لأنه يتوصل به إليه وهو سببه. ويدل على أنه سُمّي باسم العقد مجازاً أن سائر العقود من البياعات والهِبَاتِ لا يسمَّى منها شيءٌ نكاحاً وإن كان قد يُتَوَصَّل به إلى استباحة وَطْءِ الجارية، إذ لم تختص هذه العقود بإباحة الوطء ؛ لأن هذه العقود تصح فيمن يُحظر عليه وَطْؤُها كأخته من الرضاعة ومن النسب وأم امرأته ونحوها ؛ وسُمّي العقد المختص بإباحة الوطء نكاحاً لأن من لا يَحل له وطؤها لا يصحّ نكاحها، فثبت بذلك أن اسم النكاح حقيقةٌ للوطءِ مجازٌ في العقد، فوجب إذا كان هذا على ما وصفنا أن يحمل قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ على الوطء، فاقتضى ذلك تحريم من وَطِئَها أبوه من النساء عليه ؛ لأنه لما ثبت أن النكاح اسم للوطء لم يختصَّ ذلك بالمباح منه دون المحظور كالضرب والقتل، والوطءُ نفسُه لا يختص عند الإطلاق بالمباح منه دون المحظور بل هو على الأمرين حتى تقوم الدلالة على تخصيصه. وكان أبو الحسن يقول : إن قوله تعالى :﴿ مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ ﴾ مراده الوطء دون العقد من حيث اللفظ حقيقة فيه، ولم يرد به العقد لاستحالة كون لفظ واحد مجازاً حقيقةً في حال واحدة، وإنما أوجبنا التحريم بالعقد بغير الآية.
وقد اختلف أهل العلم في إيجاب تحريم الأمّ والبنت بوطء الزنا، فروى سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حُصَين في رجل زنى بأمّ امرأته :" حرمت عليه امرأته "، وهو قول الحسن وقتادة ؛ وكذلك قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وسالم بن عبدالله ومجاهد وعطاء وإبراهيم وعامر وحماد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي، ولم يفرقوا بين وَطْءِ الأمّ قبل التزوج أو بعده في إيجاب تحريم البنت. وروى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يزني بأم امرأته بعدما يدخل بها قال :" تَخَطَّى حُرْمتين ولم تحرم عليه امرأته "، ورُوي عنه أنه قال :" لا يحرِّمُ الحرامُ الحلاَلَ ". وذكر الأوزاعي عن عطاء أنه كان يتأول قول ابن عباس " لا يحرّم حرام حلالاً " على الرجل يزني بالمرأة ولا يحرمها عليه زِناهُ ؛ وهذا يدل على أن قول ابن عباس الذي رواه عكرمة في أن الزنا بالأمّ لا يحرم البنت لم يكن عند عطاء كذلك ؛ لأنه لو كان ثابتاً عنده لما احتاج إلى تأويل قوله :" لا يحرّم الحرام الحلال ". وقال الزهري وربيعة ومالك والليث والشافعي :" لا تحرم أمها ولا بنتها بالزنا ". وقال عثمان البتّي في الرجل يزني بأمّ امرأته قال :" حرامٌ لا يحرِّم حلالاً، ولكنه إن زنى بالأم قبل أن يتزوج البنت أو زنى بالبنت قبل أن يتزوج الأم فقد حرمت "، ففرّق بين الزنا بعد التزويج وقبله.
واختلف الفقهاء أيضاً في الرجل يَلُوطُ بالرجل هل تحرم عليه أمّه وابنته ؟ فقال أصحابنا :" لا تحرم عليه ". وقال عبدالله بن الحسين :" هو مثل وطء المرأة بزنا في تحريم الأم والبنت "، وقال :" من حرم بهذا من النساء حرم من الرجال ". وروى إبراهيم بن إسحاق قال : سألت سفيان الثوري عن الرجل يلعب بالغلام أيتزوج أمه ؟ قال : لا. وقال : كان الحسن بن صالح يكره أن يتزوج الرجل بامرأة قد لعب بابنها. وقال الأوزاعي في غلامين يلوط أحدهما بالآخر فتولد للمفعول به جارية قال :" لا يتزوجها الفاعل ".
قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ قد أوجب تحريم نكاح امرأة قد وَطِئَها أبوه بزنا أو غيره، إذ كان الاسم يتناوله حقيقة فوجب حمله عليها، وإذا ثبت ذلك في وطء الأب ثبت مثله في وطء أم المرأة أو ابنتها في إيجاب تحريم المرأة ؛ لأن أحداً لم يفرق بينهما. ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾، والدخولُ بها اسم للوطء، وهو عامّ في جميع ضروب الوطء من مباح أو محظور ونكاح أو سفاح، فوجب تحريم البنت بوطء كان من قَبْلَ تزوج الأم لقوله تعالى :﴿ اللاَّتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾. ويدل على أن الدخول بها اسمٌ للوطء وأنه مراد بالآية وأن اسم الدخول لا يختص بوطء نكاح دون غيره، أنه لو وَطِىءَ الأم بملك اليمين حَرُمَتْ عليه البنت تحريماً مؤبداً بحكم الآية، وكذلك لو وطئها بنكاح فاسد ؛ فثبت أن الدخول لما كان اسماً للوطء لم يختصّ فيما عُلِّقَ به من الحكم بوطء بنكاح دون ما سواه من سائر ضروب الوطء. ويدل عليه من جهة النظر أن الوطء آكَدُ في إيجاب التحريم من العقد ؛ لأنّا لم نجد وطْأً مباحاً إلا وهو موجب للتحريم، وقد وجدنا عقداً صحيحاً لا يوجب التحريم وهو العقد على الأمّ لا يوجب تحريم البنت ولو وطأها حرمت، فعلمنا أن وجود الوطء عِلَّةٌ لإيجاب التحريم، فكيفما وجد ينبغي أن يحرم مباحاً كان الوطء أو محظوراً لوجود الوطء ؛ لأن التحريم لم يخرجه من أن يكون وطئاً صحيحاً، فلما اشتركا في هذا المعنى وجب أن يقع به تحريم. وأيضاً لا خلاف أن الوطء بشبهة وبملك اليمين يحرمان مع عدم النكاح، وهذا يدل على أن الوطء يوجب التحريم على أيّ وجه وقع، فوجب أن يكون وطء الزنا محرماً لوجود الوطء الصحيح.
فإن قيل : إن الوطء بملك اليمين وبشُبهَةٍ إنما تعلق بهما التحريم لما يتعلق بهما من ثبوت النسب، والزنا لا يثبت به النسب فلا يتعلق به حكم التحريم. قيل له : ليس لثبوت النسب تأثيرٌ في ذلك ؛ لأن الصغير الذي لا يجامعُ مِثْلُه لو جامع امرأته حرمت عليه أمها وبنتها ولم يتعلق بوطئه ثبوت النسب، ومن عقد على امرأة نكاحاً تعلق بعقد النكاح ثبوت النسب قبل الوطء حتى لو جاءت بولد قبل الدخول وبعد العقد بستة أشهر لزمه ولم يتعلق بالعقد تحريم البنت ؛ فإذْ كنّا وجدنا الوطء مع عدم ثبوت النسب به يوجب التحريم والعقد مع تعلق ثبوت النسب به لا يوجب التحريم، علمنا أنه لا حظَّ لثبوت النسب في ذلك وأن الذي يجب اعتباره هو الوطء لا غير. وأيضاً لا خلاف بيننا وبينهم أنه لو لمس أَمَتَهُ لشهوة حَرُمَتْ عليه أمُّها وابنتها، وليس للّمْسِ حظٌّ في ثبوت النسب، فدل على أن حكم التحريم ليس بموقوف على النسب وأنه جائز ثبوته مع ثبوت النسب وجائز ثبوته أيضاً مع عدم ثبوت النسب.
ويدل على صحة قول أصحابنا أنّا وجدنا الله تعالى قد غَلَّظَ أمْرَ الزنا بإيجاب الرجم تارة وبإيجاب الجلد أخرى وأوعد عليه بالنار ومنع إلْحاقَ النسب به، وذلك كله تغليظ لحكمه، فوجب أن يكون بإيجاب التحريم أوْلى إذْ كان إيجابُ التحريم ضَرْباً من التغليظ، ألا ترى أن الله تعالى لما حكم ببطلان حَجِّ من جامع امرأته قبل الوقوف بعرفة كان الزاني أوْلى ببطلان الحج لأن بطلان الحج تغليظ لتحريم الجماع فيه ؟ كذلك لما حكم الله بإيجاب تحريم الأم والبنت بالوطء الحلال وجب أن يكون الزنا أوْلى بإيجاب التحريم تغليظاً لحكمه.
وقد زعم الشافعيُّ أن الله تعالى لما أوجب الكفارة على قاتل الخطأ كان قاتل العمد به أوْلَى، إذ كان حكم العمد أغلظ من حكم الخطأ ؛ ألا ترى أن الوطء لم يختلف حكمه أن يكون بزنا أو غيره فيما تعلق به من فساد الحج والصوم ووجوب الغسل ؟ فكذلك ينبغي أن يستويا في حكم التحريم. فإن قيل : الوطء المباح يتعلق به الحكم في إيجاب المهر ولا يتعلق ذلك بالزنا. قيل له : قد تعلق بالزنا من إيجاب الرجم أو الجلد ما هو أَغْلَظُ من إيجاب المال، وعلى أن المال والحدَّ يتعاقبان على الوطء ؛ لأنه متى وجب الحدُّ لم يجب المهر ومتى وجب المهر لم يجب الحد، فكل واحد منهما يخلف الآخر، فإذا وجب الحدُّ فذلك قائم مقام المال فيما تعلق بالوطء من الحكم، فلا فرق بينهما من هذا الوجه.
فإن احتجَّ محتجٌّ بما حدثنا عبدالباقي قال : حدثنا محمد بن الليث الجزري قال : حدثنا إسحاق بن بهلول قال : حدثنا عبدالله بن نافع المدني قال : حدثنا المغيرة بن إسماعيل بن أيوب بن سلمة الزهري عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يتبع المرأة حراماً أينكح أمها ؟ أو يتبع الأم حراماً أينكح ابنتها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يُحَرِّمُ الحرامُ ال
قوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ﴾ إلى آخر الآية. حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن الفضل بن سلمة قال : حدثنا سنيد بن داود قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا علي بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : قوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمَّهَاتُكُمْ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وَبَنَاتُ الأخْتِ ﴾ قال : حرّم الله هذه السبع من النسب ومن الصهر سبع، ثم قال : كتاب الله عليكم ﴿ وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ ما وراء هذا النسب، ثم قال :﴿ وأمَّهَاتُكُمُ اللاَّتي أرْضَعْنَكُمْ وأخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ والمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ ﴾ يعني السبي. قال أبو بكر : قوله :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ﴾ عموم في جميع ما يتناوله الاسم حقيقة، ولا خلاف أن الجدّات وإن بَعُدْنَ محرمات، واكتفى بذكر الأمهات لأن اسم الأمهات يشملهن كما أن اسم الآباء يتناول الأجداد وإن بعدوا، وقد عقل من قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ تحريم ما نكح الأجداد، وإن كان للجد اسم خاص لا يشاركه فيه الأب الأدنى فإن الاسم العام وهو الأبُوَّة ينتظمهم جميعاً ؛ وكذلك قوله تعالى :﴿ وَبَنَاتُكُمْ ﴾ قد يتناول بنات الأولاد وإن سفلن ؛ لأن الاسم يتناولهن كما يتناول اسم الآباء الأجداد، وقوله تعالى :﴿ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ ﴾، فأفرد بنات الأخ وبنات الأخت بالذكر لأن اسم الأخ والأخت لا يتناولهن كما يتناول اسم البنات بنات الأولاد ؛ فهؤلاء السبع المحرمات بنص التنزيل من جهة النسب. ثم قال :﴿ وأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أرْضَعْنَكُمْ وَأخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ علَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلاَبِكُمْ وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إلاّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾، وقال قبل ذلك :﴿ ولاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾، فهؤلاء السبع المحرمات من جهة الصهر. وقد عقل من قوله تعالى :﴿ وبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ ﴾ من سفل منهم كما عقل من قوله تعالى :﴿ أمَّهَاتُكُمْ ﴾ من علا منهن ؛ ومِنْ قوله تعالى :﴿ وَبَنَاتُكُمْ ﴾ من سفل منهن، وعُقل من قوله تعالى :﴿ وعَمَّاتُكُمْ ﴾ تحريم عمات الأب والأم. وكذلك قوله تعالى :﴿ وَخَالاَتُكُمْ ﴾ عُقل منه تحريم خالات الأم والأب كما عقل تحريم أمهات الأب وإن عَلَوْنَ. وخصَّ تعالى العمّاتِ والخالاتِ بالتحريم دون أولادهن، ولا خلاف في جواز نكاح بنت العمة وبنت الخالة، وقال تعالى :﴿ وأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾، ومعلوم أن هذه السِّمَةَ إنما هي مستحقَّة بالرضاع، أعني سِمَةَ الأمومة والأخوة ؛ فلما علّق هذه السمة بفعل الرضاع اقتضى ذلك استحقاق اسم الأمومة والأُخُوَّة بوجود الرضاع، وذلك يقتضي التحريم بقليل الرضاع لوقوع الاسم عليه.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ وأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أرْضَعْنَكُمْ ﴾ بمنزلة قول القائل : وأمهاتكم اللاتي أعطينكم وأمهاتكم اللاتي كَسَوْنَكُمْ، فنحتاج إلى أن نثبت أنها أمٌّ بهذه الصفة حتى يثبت الرضاع ؛ لأنه لم يقل : واللاتي أرضعنكم أمهاتكم. قيل له : هذا غلط من قِبَلِ أن الرضاع هو الذي يُكْسِبُها سِمَةَ الأمومة، فلما كان الاسم مستحقّاً بوجود الرضاع كان الحكم متعلقاً به، واسم الرضاع في الشرع واللغة يتناول القليل والكثير، فوجب أن تصير أمّاً بوجود الرضاع لقوله تعالى :﴿ وأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أرْضَعْنَكُمْ ﴾، وليس كذلك الذي ذكرتَ من قول القائل وأمهاتكم اللاتي كسونكم ؛ لأن اسم الأمومة غير متعلق بوجود الكسوة كتعلقه بوجود الرضاع، فلذلك احتجنا إلى حصول الاسم والفعل المتعلق به ؛ وكذلك قوله تعالى :﴿ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾ يقتضي ظاهره كونها أختاً بوجود الرضاع، إذ كان اسم الأخُوَّة مستفاداً بوجود الرضاع لا بمعنى آخر سواه. ويدل على أن ذلك مفهوم الخطاب ومقتضى القول، ما رواه عبدالوهاب بن عطاء عن أبي الربيع عن عمرو بن دينار قال : جاء رجل إلى ابن عمر فقال : إن ابن الزبير يقول : لا بأس بالرضعة والرضعتين، فقال ابن عمر :" قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير، قال الله تعالى :﴿ وأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾ " ؛ فعقل ابن عمر من ظاهر اللفظ التحريم بقليل الرضاع.
واختلف السلف ومن بَعْدَهم في التحريم بقليل الرضاع، فرُوي عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر والحسن وسعيد بن المسيب وطاوس وإبراهيم والزهري والشعبي :" قليل الرضاع وكثيره يحرم في الحَوْلَين "، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والأوزاعي والليث ؛ قال الليث :" اجتمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم ". وقال ابن الزبير والمغيرة بن شعبة وزيد بن ثابت :" لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ". وقال الشافعي :" لا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات متفرقات ".
قال أبو بكر : وقد ذكرنا في سورة البقرة الكلام في مدة الرضاع والاختلاف فيها، وقد قدمنا ذكر دلالة الآية على إيجاب التحريم بقليل الرضاع، وغير جائز لأحد إثباتُ تحديد الرضاع الموجب للتحريم إلا بما يوجب العلم من كتاب أو سُنَّة منقولة من طريق التواتر، ولا يجوز قبول أخبار الآحاد عندنا في تخصيص حكم الآية الموجبة للتحريم بقليل الرضاع لأنها آية محكمة ظاهرة المعنى بَيِّنَةُ المراد لم يثبت خصوصها بالاتفاق، وما كان هذا وصفه فغير جائز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس. ويدل عليه من جهة السنّة قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إنّما الرّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ "، رواه مسروق عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولم يفرق بين القليل والكثير، فهو محمول عليهما جميعاً. ويدل عليه أيضاً ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة التواتر والاستفاضة أنه قال :" يَحْرُمُ مِنَ الرّضَاعِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ "، رواه عليّ وابن عباس وعائشة وحفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقّاه أهل العلم بالقبول والاستعمال ؛ فلما حرَّم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع ما يحرم من النسب وكان معلوماً أن النسب متى ثبت من وجه أوْجَبَ التحريم وإن لم يثبت من وجه آخر، كذلك الرضاع يجب أن يكون هذا حكمه في إيجاب التحريم بالرضعة الواحدة لتسوية النبي صلى الله عليه وسلم بينهما فيما علق بهما من حكم التحريم.
واحتجَّ من اعتبر خمس رضعات بما روت عائشةُ وابن الزبير وأم الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ ولا المَصَّتَانِ "، وبما رُوي عن عائشة أنها قالت :" كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات، فنُسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن ".
قال أبو بكر : وهذه الأخبار لا يجوز الاعتراض بها على ظاهر قوله تعالى :﴿ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أرْضَعْنَكُمْ وأخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾ لما بيّنا أن ما لم يثبت خصوصه من ظواهر القرآن وكان ظاهر المعنى بَيِّنَ المراد لم يَجُزْ تخصيصه بأخبار الآحاد، فهذا أحد الوجوه التي تسقط الاعتراض بهذا الخبر. ووجه آخر وهو ما حدث أبو الحسن الكرخي قال : حدثنا الحضرمي قال : حدثنا عبدالله بن سعيد قال : حدثنا أبو خالد عن حجاج عن حبيب بن أبي ثابت عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقلت : إن الناس يقولون لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ! قال :" قد كان ذاك، فأما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم ". وروى محمد بن شجاع قال : حدثنا إسحاق بن سليمان عن حنظلة عن طاوس قال :" اشترطت عشر رضعات ثم قيل الرضعة الواحدة تحرم " ؛ فقد عرف ابن عباس وطاوس خبر العدد في الرضاع وأنه منسوخ بالتحريم بالرضعة الواحدة. وجائز أن يكون التحديد كان مشروطاً في رضاع الكبير، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في رضاع الكبير وهو منسوخ عند فقهاء الأمصار، فجائز أن يكون تحديد الرضاع كان في رضاع الكبير، فلما نسخ سقط التحديد إذ كان مشروطاً فيه. وأيضاً يلزم الشافعي إيجاب التحريم بثلاث رضعات لدلالة قوله :" لا تحرِّمُ الرضعة ولا الرضعتان " على إيجاب التحريم فيما زاد على أصله في المخصوص بالذكر. وأما حديث عائشة فغير جائز اعتقاد صحته على ما ورد ؛ وذلك لأنها ذكرت أنه كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات فنُسِخْنَ بخمس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو مما يُتْلَى ؛ وليس أحد من المسلمين يجيز نسخ القرآن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان ثابتاً لوجب أن تكون التلاوة موجودة، فإذا لم توجد به التلاوة ولم يَجُزِ النسخ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يَخْلُ ذلك من أحد وجهين : إما أن يكون الحديث مدخولاً في الأصل غير ثابت الحكم، أو يكون إن كان ثابتاً فإنما نُسِخَ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان منسوخاً فالعمل به ساقط. وجائز أن يكون ذلك كان تحديداً لرضاع الكبير، وقد كانت عائشة تقول به في إيجاب التحريم في رضاع الكبير دون سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عندنا وعند الشافعي نَسْخُ رضاع الكبير، فسقط حكم التحديد المذكور في حديث عائشة هذا. ومع ذلك لو خلا من هذه المعاني التي ذكرنا من الاستحالة والاحتمال لما جاز الاعتراض به على ظاهر القرآن، إذ هو من أخبار الآحاد. ومما يدل على ما ذكرنا من سقوط اعتبار التحديد أن الرضاع يوجب تحريماً مؤبداً، فأشبه الوطء الموجب لتحريم الأم والبنت والعقد الموجب للتحريم كحلائل الأبناء وما نكح الآباء، فلما كان القليل من ذلك ككثيره فيما يتعلق به من حكم التحريم وجب أن يكون ذلك حكم الرضاع في إيجاب التحريم بقليله.
واختلف أهل العلم في لبن الفحل ؛ وهو الرجل يتزوج المرأة فتلد منه ولداً وينزل لها لبن بعد ولادتها منه فترضع به صبيّاً ؛ فإن من قال بتحريم لبن الفحل يحرّم هذا الصبي على أولاد الرجل وإن كانوا من غيرها، ومن لا يعتبره لا يوجب تحريماً بينه وبين أولاده من غيرها. فممن قال بلبن الفحل ابن عباس، ورَوَى الزهري عن عمرو بن الشريد عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له امرأتان أرضعت هذه غلاماً وهذه جارية، هل يصح للغلام أن يتزوج الجارية ؟ فقال :" لا، اللقاح واحد "، وهو قول القاسم وسالم وعطاء وطاوس. وذكر الخفاف عن سعيد عن ابن سيرين قال :" كرهه قوم ولم يَرَ به قوم بأساً، ومن كرهه كان أفقه من الذين لم يروا به بأساً ". وذكر عباد بن منصور قال : قلت للقاسم بن محمد : امرأة أبي أرضعت جارية من الناس بلبان إخوتي من أبي أتحلّ لي ؟ قال :" لا، أبوك أبوها "، فسألت طاوساً والحسن فقالا مثل ذلك، وسألت مجاهداً فقال :" اختلف

باب تحريم نكاح ذوات الأزواج :


قال الله تعالى :﴿ والمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ ﴾ عطفاً على من حَرَّم من النساء من عند قوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمَّهَاتُكُمْ ﴾ ؛ فروى سفيان عن حماد عن إبراهيم عن عبدالله :﴿ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ قال :" ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين ". وقال علي بن أبي طالب :" ذوات الأزواج من المشركين ". وقد رَوَى سعيد بن جبير عن ابن عباس :" كل ذات زوج إتْيَانُها زِناً إلا ما سَبَيْتَ ".
قال أبو بكر : اتفق هؤلاء على أن المراد بقوله تعالى :﴿ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ ذواتُ الأزواج منهن وأن نكاحها حرام ما دامت ذات زوج، واختلفوا في قوله تعالى :﴿ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾، فتأوَّله عليٌّ وابنُ عباس في روايةٍ، وعُمَرُ وعبدُالرحمن بن عوف وابن عمر : أن الآية إنما وردت في ذوات الأزواج من السبايا أُبِيحَ وَطْؤُهُنَّ بملكِ اليمين، ووجب بحدوث السَّبْي عليها دون زوجها وُقوعُ الفرقة بينهما ؛ وكانوا يقولون : إنّ بَيْعَ الأَمَةِ لا يكون طلاقاً ولا يبطل نكاحها. وتأوله ابن مسعود وأبيّ بن كعب وأنس بن مالك وجابر بن عبدالله وابن عباس في رواية عكرمة : أنه في جميع ذوات الأزواج من السبايا وغيرهم ؛ وكانوا يقولون : بَيْعُ الأَمَةِ طلاقُها. وقد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن عمر ميسرة قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري :" أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى أَوْطَاسَ، فلقوا عدوّاً فقاتلوهم وظهروا عليهم فأصابوا منهم سبايا لهن أزواج من المشركين، فكان المسلمون يتحرَّجون من غشيانهن، فأنزل الله تعالى :﴿ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ أي هنَّ لكم حلال إذا انقضت عدتهن ". وقد ذكر أن أبا علقمة هذا رجل جليل من أهل العلم، وقد رَوَى عنه يَعْلَى بن عطاء، وَرَوَى هو هذا الحديث عن أبي سعيد، وله أحاديث عن أبي هريرة. وهذا حديث صحيح السند قد أخبر فيه بسبب نزول الآية وأنها في السبايا، وتأوّلها ابن مسعود ومن وَافَقَهُ على جميع النساء ذوات الأزواج إذا مُلِكْنَ حَلَّ وَطْؤُهنّ لمالكهن ووقعت الفرقة بينهن وبين أزواجهن.
فإن قيل : أنتم لا تعتبرون السبب وإنما تُرَاعُون حكم اللفظ إن كان عامّاً فهو على عمومه حتى تقوم دلالة الخصوص، فهلا اعتبرت ذلك في هذه الآية وجعلتها على العموم في سائر من يطرأ عليه الملك من النساء ذوات الأزواج فينتظم السبايا وغيرهن ! قيل له : الدلالة ظاهرة في الآية على خصوصها في السبايا، وذلك لأنه قال :﴿ والمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾، فلو كان حدوث الملك موجباً لإيقاع الفرقة لوجب أن تقع الفرقة بينهما وبين زوجها إذا اشترتها امرأة أو أخوها من الرضاعة لحدوث الملك.
فإن قيل : جائز أن يقال ذلك في سائر ما طرأ عليهن الملك، سواءٌ كان حدوث الملك سبباً لإباحة الوطء أو لم يكن بأن تملكها امرأة أو رجل لا يحل له وطؤها. قيل له : فشأن الآية إنما هو فيمن حَدَثَ له ملكُ اليمين فأباحت له وَطْأَها ؛ لأنه استثناء بملك اليمين في حَظْرِ وَطْءِ المحصنات من النساء، فواجب على ذلك أنه إذا لم يَسْتَبِح المالكُ وَطْأَها بملك اليمين أن تكون الزوجية قائمة بينها وبين زوجها بحكم الآية، وإذا وجب ذلك بحكم الآية وجب أن يكون قوله تعالى :﴿ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ خاصّاً في السبايا، ويكون السبب الموجب للفرقة اختلاف الدارين لا حدوث الملك. ويدل على أن حدوث الملك لا يوجب الفرقة ما رَوَى حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة : أنها اشترت بريرة فأعتقها وشَرَطَتْ لأهلها الولاءَ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " وقال لها :" يا بَرِيرَةُ اخْتَارِي فالأَمْرُ إِلَيْكِ " ؛ ورواه سِمَاك عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة مثله. وروى قتادة عن عكرمة عن ابن عباس :" أَن زوج بريرة كان عبداً أسْوَدَ يُسَمَّى مُغِيثاً، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أن الولاء لمن أعطى الثمن وخَيَّرَها ".
فإن قيل : فقد رَوَى ابنُ عباس في أمر بَرِيرَةَ ما رَوَى، ثم قال بعد ذلك : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" بَيْعُ الأَمَةِ طَلاقُهَا " فينبغي أن يَقْضي قولُه هذا على ما رواه ؛ لأنه لا يجوز أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه. قيل له : قد رُوي عن ابن عباس أن الآية نزلت في السبايا وأن بَيْعَ الأَمَةِ لا يُوقِعُ فرقةً بينها وبين زوجها، فجائز أن يكون الذي ذَكَرْتَ عنه من أن بَيْعَ الأَمَةِ طلاقها كان يقول قبل أن تثبت عنده قصة بريرة وتخييرِ النبي صلى الله عليه وسلم إياها بعد الشِّرَى، فلما سمع بقصة بريرة رجع عن قوله. وأيضاً يحتمل أن يريد بقوله :" بيع الأمة طلاقها " إذا اشتراها الزوج ولا يبقى النكاح مع الملك. والنظر يدل على أن بيع الأَمَةِ ليس بطلاق ولا يوجب الفرقة ؛ وذلك لأن الطلاق لا يملكه غير الزوج ولا يصحّ إلا بإيقاعه أو بسبب من قِبَلِهِ، فلما لم يكن من الزوج في ذلك سَبَبٌ وجب أن لا يكون طلاقاً. ويدل أيضاً على ذلك أن ملك اليمين لا ينافي النكاح ؛ لأن الملك موجود قبل البيع غير نافٍ للنكاح، فكذلك ملك المشتري لا ينافيه.
فإن قيل : لما طرأ ملك المشتري ولم يكن منه رِضًى بالنكاح وجب أن ينفسخ. قيل له : هذا غلطٌ ؛ لأنه قد ثبت أن الملك لا ينافي النكاح، والمعنى الذي ذكرت إن كان معتبراً فإنما يوجب للمشتري خياراً في فسخ النكاح، وليس هذا قول أحد ؛ لأن عبدالله بن مسعود ومن تابعه يوجبون فَسْخَ النكاح بحدوث الملك.
واختلف الفقهاء في الزوجين إذا سُبِيا معاً، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزُفَر :" إذا سُبي الحربيّان معاً وهما زوجان فهما على النكاح، وإن سُبي أحدهما قبل الآخر وأُخرج إلى دار الإسلام فقد وقعت الفرقة "، وهو قول الثوري. وقال الأوزاعي :" إذا سُبِيَا جميعاً فما كانا في المقاسم فهما على النكاح، فإذا اشتراهما رجل فإن شاء جمع بينهما وإن شاء فرق بينهما فاتخذها لنفسه أو زَوَّجَها غيره بعدما يستبرئها بحيضة "، وهو قول الليث بن سعد. وقال الحسن بن صالح :" إذا سُبِيَتْ ذَاتُ زوج استُبْرِئَتْ بحَيْضَتَيْنِ ؛ لأن زوجها أَحَقُّ بها إذا جاء في عدتها، وغير ذات الأزواج بحيضة ". وقال مالك والشافعي :" إذا سُبِيَتْ بَانَتْ من زوجها سواءٌ كان معها زوجها أو لم يكن ".
قال أبو بكر : قد ثبت أن حدوث الملك غير موجب للفرقة، بدلالة الأمَةِ المَبِيعَةِ والموروثة، فوجب أن لا تقع الفرقة بالسبي نفسه ؛ لأنه ليس فيه أكثر من حدوث الملك. ودليل آخر، وهو أن حدوث الرِّقِّ عليها لا يمنع ابتداء العقد، فَلأَنْ لا يمنع بقاءَه أوْلى ؛ لأن البقاء هو آكد في ثبوت النكاح معه من الابتداء، ألا ترى أنه قد يمنع الابتداء ما لا يمنع البقاء وهو حدوث العدة عليها من وَطْءِ بشُبْهَةٍ يمنع ابتداء العقد ولا يمنع بقاء العقد المتقدم ؟ فإن احتجوا بحديث أبي سعيد الخدري في قصة سبايا أوْطَاسَ وسبب نزول الآية عليها وهو قوله :﴿ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾، لم يفرق بين من سُبِيَتْ مع زوجها أو وحدها. قيل له : رَوَى حمادٌ قال : أخبرنا الحجاج عن سالم المكّي عن محمد بن علي قال :" لما كان يَوْمُ أَوْطَاسَ لَحِقَتِ الرجالُ بالجبال وأُخِذَتِ النساءُ، فقال المسلمون : كيف نصنع ولهن أزواج ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ ؛ فأخبر أن الرجال لحقوا بالجبال وأن السبايا كنَّ منفردات عن الأزواج والآية فيهن نزلت. وأيضاً لم يأسر النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة حُنَيْنٍ من الرجال أحداً فيما نقل أهل المغازي، وإنما كانوا من بين قتيل أو مهزوم. وسَبَى النساءَ، ثم جاءه الرجالُ بعدما وضعت الحرب أوزارها فسألوه أن يَمُنَّ عليهم بإطلاق سباياهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أمَّا ما كَانَ لي ولبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ " وقال للناس :" مَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ فَذَاكَ وَمَنْ تَمَسَّكَ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فلَهُ خَمْسُ فَرَائِضَ في كلِّ رَأْسٍ " وأطلق الناس سباياهم، فثبت بذلك أنه لم يكن مع السبايا أزواجهن.
فإن احتجوا بعموم قوله :﴿ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾، لم يخصّصْ من معهن أزواجهن والمنفردات منهن. قيل له : قد اتفقنا على أنه لم يَرِدْ عموم الحكم في إيجاب الفرقة بالملك ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن تقع الفرقة بشِرَى الأَمَةِ وهِبَتِها بالميراث وغيره من وجوه الأملاك الحادثة، فلما لم يكن ذلك كذلك علمنا أن الفرقة لم تتعلق بحدوث الملك وكان ذلك دليلاً على مراد الآية ؛ وذلك لأنه إذا لم يَخْلُ مراد الله تعالى في المعنى الموجب للفرقة في المسبية من أحد وجهين : إما اختلاف الدارين بهما، أو حدوث الملك، ثم قامت دلالة السنة واتفاق الخصم معنا على نَفْي إيجاب الفرقة بحدوث الملك، قَضَى ذلك على مراد الآية بأنه اختلاف الدارين، وأوجب ذلك خصوص الآية في المَسْبِيَّاتِ دون أزواجهن.
ويدل على أن المعنى فيه ما ذكرنا من اختلاف الدارين، أنهما لو خرجا مُسْلِمَيْنِ أو ذِمَّيَّيْنِ لم تقع بينهما فرقة ؛ لأنهما لم تختلف بهما الداران، فدل ذلك على أن المعنى الموجب للفرقة بين المسبية وزوجها إذا كانت منفردة اختلافُ الدارين بهما ؛ ويدل عليه أن الحربية إذا خرجت إلينا مسلمة أو ذمية ثم لم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف، وقد حكم الله تعالى بذلك في المهاجرات في قوله :﴿ ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن آجورهن ﴾ [ الممتحنة : ١٠ ] ثم قال :﴿ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ﴾ [ الممتحنة : ١٠ ].
قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ يقتضي إباحة الوطء بملك اليمين لوجود الملك، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رُوي عنه ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس :" لا توطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسحاق قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق عن حَنَشٍ الصنعاني عن رُوَيْفع بن ثابت الأنصاري قال : قام فينا خطيباً فقال : أما إني لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين :" لا يَحلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ أن يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ حتَّى يَسْتَبْر

باب نكاح الإماء


مطلب : تخصيص الحكم بشيء في اللفظ لا يدل على نفيه عما عداه
قال الله تعالى :﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحَصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ ﴾ قال أبو بكر : الذي اقتضته هذه الآية إباحة نكاح الإماء المؤمنات عند عدم الطّول إلى الحرائر المؤمنات ؛ لأنه لا خلاف أن المراد بالمحصنات ههنا الحرائر وليس فيها حظر لغيرهن، لأن تخصيص هذه الحال بذكر الإباحة فيها لا يدل على حظر ما عداها، كقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ﴾ [ الإسراء : ٣١ ] لا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحال، وقوله تعالى :﴿ لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة ﴾ [ آل عمران : ١٣٠ ] لا يدل على إباحته إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة، وقوله تعالى :﴿ ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به ﴾ [ المؤمنون : ١١٧ ] ليس بدلالة على أن أحدنا يجوز أن يقوم له برهان على صحة القول بأن مع الله إلهاً آخر، تعالى الله عن ذلك ؛ وقد بينا ذلك في أصول الفقه. فإذاً ليس في قوله تعالى :﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ﴾ الآية، إلا إباحة نكاح الإماء لمن كانت هذه حاله، ولا دلالة فيه على حكم من وجد طَوْلاً إلى الحرة لا بحظر ولا إباحة.
وقد اختلف السلف في معنى الطَّوْلِ، فرُوي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدي أنهم قالوا :" هو الغِنَى ". ورُوي عن عطاء وجابر بن زيد وإبراهيم قالوا :" إذا هَوِي الأَمَةَ فله أن يتزوجها وإن كان موسراً إذا خاف أن يزني بها ". فكان معنى الطول عند هؤلاء في هذا الموضع أن لا ينصرف قلبه عنها بنكاح الحرة لميله إليها ومحبته لها، فأباحوا له في هذه الحال نكاحها. والطَّوْلُ يحتمل الغنى والقدرة ويحتمل الفضل، قال الله تعالى :﴿ شديد العقاب ذي الطول ﴾ [ غافر : ٣ ]، قيل فيه : ذو الفضل، وقيل : ذو القدرة، والفضلُ والغِنَى يتقاربان في المعنى، فاحتمل الطّوْلُ المذكور في الآية الغِنَى والقدرة، واحتمل الفضل والسعة. فإذا كان معناه الغنى احتمل وجهين : أحدهما حصول الغنى له بكون الحرة تحته، والثاني : غنى المال وقدرته على تزوج حُرَّة. وإذا كان معناه الفضل احتمل إرادة الغنى ؛ لأن الفضل يوجب ذلك، والثاني : اتساع قلبه لتزوج الحرة والانصراف عن الأَمَةِ، وأنه إن لم يتسع قلبه لذلك وخشي الإقدام من نفسه على محظور جاز له أن يتزوجها وإن كان موسراً على ما رُوي عن عطاء وجابر بن زيد وإبراهيم ؛ هذه الوجوه كلها تحتملها الآية.
وقد اختلف السلف في ذلك، فرُوي عن ابن عباس وجابر وسعيد بن جبير والشعبي ومكحول :" لا يتزوج الأَمَةَ إلا أن لا يجد طَوْلاً إلى الحرة ". ورُوي عن مسروق والشعبي قالا :" نِكَاحُ الأَمَةِ بمنزلة المَيْتَةِ والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا لمضطرّ ". ورُوي عن علي وأبي جعفر ومجاهد وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب روايةً وإبراهيم والحسن روايةً والزهري قالوا :" ينكح الأمة وإن كان موسراً ". وعن عطاء وجابر بن زيد :" أنه إن خشي أن يزني بها تزوجها ". ورُوي عن عطاء :" أنه يتزوج الأَمَةَ على الحرّة ". وعن عبدالله بن مسعود قال :" لا يتزوج الأَمَةَ على الحرة إلا المملوكُ ". وقال عمر وعليّ وسعيد بن المسيب ومكحول في آخرين :" لا يتزوج الأمة على الحرة ". وقال إبراهيم :" يتزوج الأمة على الحرّة إذا كان له منها ولد " وقال :" إذا تزوج أَمَةً وحرة في عقد واحد بطل نكاحهما جميعاً ". وقال ابن عباس ومسروق :" إذا تزوج حُرَّةً فهو طلاق الأَمَةِ ".
وقال إبراهيم روايةً :" يفرِّقُ بينه وبين الأَمَةِ إلا أن يكون له منها ولد ". وقال الشعبي :" إذا وجد الطَّوْلَ إلى الحرة بطل نكاح الأمة ". ورَوَى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال :" لا تُنكَحُ الأَمَةُ على الحرة إلا أن تشاء الحرة ويَقْسِمُ للحرة يومين وللأمة يوماً ". قال أبو بكر : وهذا يدل على أنه كان لا يرى تزويج الأمَةِ على الحرة جائزاً إن لم تَرْضَ الحرة.
واختلفوا فيمن يجوز أن يتزوج من الإماء، فرُوي عن ابن عباس أنه قال :" لا يتزوج من الإماء أكثر من واحدة ". وقال إبراهيم ومجاهد والزهري :" يجمع أربع إماءٍ إن شاء ". فاختلف السلف في نكاح الأَمَةِ على هذه الوجوه ؛ واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضاً، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد :" للرجل أن يتزوج أَمَةً إذا لم تكن تحته حُرَّةٌ وإن وجد طَوْلاً إلى الحرة، ولا يتزوجها إذا كانت تحته حرة ". وقال سفيان الثوري :" إذا خشي على نفسه في المملوكة فلا بأس بأن يتزوجها وإن كان موسراً ". وقال مالك والليث والأوزاعي والشافعي :" الطَّوْلُ المالُ ؛ فإذا وَجَدَ طَوْلاً إلى الحرة لا يتزوج أَمَةً، وإن لم يجد طولاً لم يتزوجها أيضاً حتى يخشى العَنَتَ على نفسه ". واتفق أصحابنا والثوري والأوزاعي والشافعي أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة وتحته حرة، ولا يفرقون بين إذن الحرة في ذلك وغير إذنها. وقال ابن وهب عن مالك :" لا بأس بأن يتزوج الرجلُ الأَمَةَ على الحرةِ والحرَّةُ بالخيار ". وقال ابن القاسم عنه في الأمة تُنْكح على الحرة :" أرى أن يفرق بينهما " ثم رجع وقال " تُخَيَّر الحرة، إن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت ". قال : وسئل مالك عن رجل تزوج أمة وهو ممن يجد طَوْلاً إلى الحرة، قال :" أرى أن يفرق بينهما " فقيل له : إنه يخاف العنت، قال :" السوط يضرب به "، ثم خفّفه بعد ذلك، قال : وقال مالك :" إذا تزوج العبدُ أَمَةً على حرة فلا خيار للحرة لأن الأمة من نسائه ". وقال عثمان البتّي :" لا بأس أن يتزوج الرجلُ الأَمَةَ على الحرّةِ ".
والدليل على جواز نكاح الأمة وإن قدر على تزوج الحرة إذا لم تكن تحته، قول الله تعالى :﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ﴾ [ النساء : ٣ ]، قد حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع القدرة على نكاح الحرة، أحدهما : إباحة النكاح على الإطلاق في جميع النساء من العدد المذكور من غير تخصيص لحرةٍ من أمة. والثاني : قوله تعالى في نسق الخطاب :﴿ أو ما ملكت أيمانكم ﴾ [ النساء : ٣ ]، ومعلوم أن قوله :﴿ أو ما ملكت أيمانكم ﴾ [ النساء : ٣ ] غير مكتفٍ بنفسه في إفادة الحكم وأنه مفتقر إلى ضمير وضميره هو ما تقدم ذكره مظهراً في الخطاب وهو عقد النكاح، فكان تقديره : فاعقدوا نكاحاً على ما طاب لكم من النساء أو على ما ملكت أيمانكم ؛ وغير جائز إضمارُ الوَطْءِ فيه، إذْ لم يتقدم له ذكر فثبت بدلالة هذه الآية أنه مخير بين تزويج الأمة أو الحرة.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ﴾ [ النساء : ٣ ] إباحةٌ معقودة بشرط، وهي أن تكون مما طاب لنا، فدل على أنه مما طاب حتى يجوز العقد، وهو إذا كان كذلك كان بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان. قيل له : قوله تعالى :﴿ ما طاب لكم ﴾ [ النساء : ٣ ] يحتمل وجهين، أحدهما : أن يكون معناه ما استطبتموه، فيكون مفيداً للتخيير، كقول القائل :" اجلس ما طاب لك في هذه الدار وكُلْ ما طاب لك من هذا الطعام " فيفيد تخييرَهُ في فِعْلِ ما شاء منه. والوجه الآخر : ما حلّ لكم. فإن كان المراد الوجه الأوّل فقد اقتضى تخييره في نكاح من شاء وذلك عموم في الحرائر والإماء، وإن كان معناه ما حلَّ لكم، فإنه قد عقبه ببيان ما طاب لكم منها، وهو قوله تعالى :﴿ مثنى وثُلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ﴾ [ النساء : ٣ ]، فقد خرج بذلك عن حَيِّزِ الإجمال إلى حَيِّزِ العموم، واستعمالُ العموم واجبٌ كيف تصرفت الحال. وعلى أنها لو كانت محتملةً للعموم والإجمال جميعاً لكان حَمْلُها على معنى العموم أوْلى لإمكان استعماله، ومتى أمكننا استعمال حكم اللفظ على وجهٍ فعلينا استعمالُه ؛ ويدل عليه قوله تعالى :﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتغُوا بأمْوَالِكُمْ ﴾ وذلك عموم في الحرائر والإماء. ويدل عليه قوله تعالى :﴿ اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلّ لكم وطعامكم حِلّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ [ المائدة : ٥ ]، والإحصانُ اسم يقع على الإسلام وعلى العَقْدِ، يدل عليه قوله تعالى :﴿ فإذَا أُحْصِنَّ ﴾ رُوي عن بعض السلف :" فإذا أسلمن "، وقال بعضهم :" فإذا تزوجن ". ومعلوم أنه لم يُرِدْ به التزويج في هذا الموضع، فثبت أنه أراد العفاف، وذلك عموم في الحرائر والإماء. وقوله تعالى :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ [ المائدة : ٥ ] هو عموم أيضاً في تزوج الإماء الكتابيات، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ﴾ [ النور : ٣٢ ]، وذلك عموم يوجب جواز نكاح الإماء كما اقتضى جواز نكاح الحرائر. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ]، ومحال أن يخاطَبَ بذلك إلا من قدر على نكاح المشركة الحرة، ومن وَجَدَ طَوْلاً إلى الحرة المشركة فهو يجد طَوْلاً إلى الحرة المسلمة، فاقتضى ذلك جواز نكاح الأمة مع وجود الطَّوْلِ إلى الحرة المسلمة كما اقتضاه مع وجوده إلى الحرة المشركة. ويدل عليه من طريق النظر أن القدرة على نكاح امرأة لا تحرم نكاح أخرى، كالقدرة على تزويج البنت لا يحرّم تزويج الأم، والقدرة على نكاح المرأة لا يحرم نكاح أختها، فوجب على هذا أن لا تمنع قدرته على نكاح الحرة من تزويج الأمة بل الأمةُ أيسر أمراً في ذلك من الأختين والأم والبنت ؛ والدليل عليه جواز اجتماع الحرة والأمة تحته عند جميع فقهاء الأمصار وامتناع اجتماع الأم والبنت والأختين تحته، فلما لم يكن إمكان تزويج البنت الذي هو أغلظ حكماً مانعاً من الأم الحرة والأمة وجب أن لا يكون لإمكان تزوج الحرة تأثير في منع نكاح الأمة.
واحتج من خالف في ذلك بقوله تعالى :﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾، وأنه أباح نكاح الأمة بشرط عدم الطَّوْلِ إلى الحرة وخشية العَنَتِ، فلا تجوز استباحته إلا بوجود الشرطين جميعاً ؛ وهذه الآية قاضية على ما تلوت من الآي لما فيها من بيان حكم الأمة في التزويج. قيل له : ليس في هذه الآية حَظْرُ نكاح الأمة في حال وجود الطَّوْلِ إلى الحرة، وإنما فيها إباحته في حال عدم الطّوْل إليها، وسائر الآي التي تَلَوْنا يقتضي إباحة نكاحها في سائر الأحوال، فليس في أحدهما ما يوجب تخصيص الأخرى لورودهما جميعاً في حكم الإباحة، وليس في واحدة منهما حظر، فلا يجوز أن يقال إن هذه مخصصة لها ؛ والجميع وارد في حكم واحد.
فإن قيل : هذا كقوله تعالى :﴿ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ﴾ [ المجادلة : ٤ ] فكان مقتضى جميع ذلك امتن
مطلب : البيان من الله تعالى على وجهين
وقوله تعالى :﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ يعني والله أعلم : يريد ليبين لنا ما بنا الحاجة إلى معرفته. والبيان من الله تعالى على وجهين : أحدهما بالنصّ والآخر بالدلالة، ولا تخلو حادثة صغيرة ولا كبيرة إلا ولله فيها حكم إما بنصّ وإما بدليل، وهو نظير قوله :﴿ ثم إن علينا بيانه ﴾ [ القيامة : ١٩ ]، وقوله :﴿ هذا بيان للناس ﴾ [ آل عمران : ١٣٨ ]، وقوله :﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ].
وقوله :﴿ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ من الناس من يقول :" إن هذا يدل على أن ما حرّمه علينا وبيّن لنا تحريمه من النساء في الآيتين اللتين قبل هذه الآية كان محرَّماً على الذين كانوا من قبلنا من أمم الأنبياء المتقدمين ". وقال آخرون :" لا دلالة فيه على اتفاق الشرائع، وإنما معناه أنه يهديكم سُنن الذين من قبلكم في بيان ما لكم فيه من المصلحة كما بيّنه لهم، وإن كانت العبادات والشرائع مختلفة في أنفسها، إلا أنها وإن كانت مختلفة في أنفسها فهي متفقة في باب المصالح ". وقال آخرون :" يبيّن لكم سُنَنَ الذين من قبلكم من أهل الحق وغيرهم لتجتنبوا الباطل وتحبّوا الحق ".
وقوله تعالى :﴿ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمُ ﴾ يدل على بطلان مذهب أهل الإجبار ؛ لأنه أخبر أنه يريد أن يتوب علينا، وزعم هؤلاء أنه يريد من المُصِرِّين الإصرارَ ولا يريد منهم التوبة والاستغفار.
قوله تعالى :﴿ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ ﴾ فقال قائلون :" المراد به كلُّ مبطل ؛ لأنه يتبع شهوة نفسه فيما وافق الحق أو خالفه ولا يتبع الحق في مخالفة الشهوة ". وقال مجاهد :" أراد به الزنا ". وقال السدي :" اليهود والنصارى ".
وقوله :﴿ أنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ﴾ يعني به العدول عن الاستقامة بالاستكثار من المعصية ؛ وتكون إرادتهم للميل على أحد وجهين : إما لعداوتهم، أو للأنس بهم والسكون إليهم في الإقامة على المعصية ؛ فأخبر الله تعالى أن إرادته لنا خلاف إرادة هؤلاء. وقد دلّت الآية على أن القَصْدَ في اتّباع الشهوة مذمومٌ، إلا أن يوافق الحق فيكون حينئذ غير مذموم في اتباع شهوته، إذ كان قصده اتباع الحق. ولكن من كان هذا سبيله لا يُطلق عليه أنه متبع لشهوته ؛ لأن مقصده فيه اتباع الحق وافق شهوته أو خالفها.
قوله تعالى :﴿ يُرِيدُ الله أنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾. التخفيف هو تسهيل التكليف وهو خلاف التثقيل، وهو نظير قوله تعالى :﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ]، وقوله تعالى :﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ [ الحج : ٧٨ ]، وقوله تعالى :﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ﴾ [ المائدة : ٦ ] ؛ فنفى الضّيقَ والثقلَ والحرجَ عنا في هذه الآيات. ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم :" جِئْتُكُمْ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ "، وذلك لأنه وإن حرَّم علينا ما ذكر تحريمه من النساء فقد أباح لنا غيرهن من سائر النساء تارة بنكاح وتارة بملك يمين، وكذلك سائر المحرمات قد أباح لنا من جنسها أضعاف ما حظر فجعل لنا مندوحة عن الحرام بما أباح من الحلال.
مطلب : في المعنى المراد من قول ابن مسعود : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم
وعلى هذا المعنى ما رُوي عن عبدالله بن مسعود :" إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم " يعني أنه لم يقتصر بالشفاء على المحرمات بل جعل لنا مندوحةً وغِنًى عن المحرمات بما أباحه لنا من الأغذية والأدوية حتى لا يضرَّنا فَقْدُ ما حرم في أمور دنيانا. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
وهذه الآيات يُحْتَجُّ بها في المصير إلى التخفيف فيما اختلف فيه الفقهاء وسوَّغوا فيه الاجتهاد، وفيه الدلالة على بطلان مذهب المجبرة في قولهم إن الله يكلف العباد ما لا يطيقون ؛ لإخباره بأنه يريد التخفيف عنا، وتكليفُ ما لا يطاق غاية التثقيل، والله أعلم بمعاني كتابه.

باب التجارات وخيار البيع


قال الله تعالى :﴿ يا أيّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ قال أبو بكر : قد انتظم هذا العمومُ النهْيَ عن أكل مال الغير بالباطل وأكْلِ مال نفسه بالباطل ؛ وذلك لأن قوله تعالى :﴿ أَمْوَالَكُمْ ﴾ يقع على مال الغير ومال نفسه، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ قد اقتضى النهي عن قتل غيره وقتل نفسه ؛ فكذلك قوله تعالى :﴿ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ ﴾ نهيٌ لكل أحد عن أكل مال نفسه ومال غيره بالباطل. وأَكْلُ مال نفسه بالباطل إنْفَاقُه في معاصي الله ؛ وأكْلُ مال الغير بالباطل قد قيل فيه وجهان، أحدهما : ما قال السدي وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم، وقال ابن عباس والحسن : أن يأكله بغير عِوَضٍ، فلما نزلت هذه الآية كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس إلى أن نُسخ ذلك بالآية التي في النور :﴿ ليس على الأعمى حرج ﴾ [ الفتح : ١٧ ] إلى قوله تعالى :﴿ ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ﴾ [ النور : ٦١ ] الآية. قال أبو بكر : يشبه أن يكون مراد ابن عباس والحسن أن الناس تحرَّجوا بعد نزول الآية أن يأكلوا عند أحد لا على أن الآية أوجبت ذلك ؛ لأن الهبات والصدقات لم تكن محظورة قَطُّ بهذه الآية، وكذلك الأكل عند غيره اللهم إلا أن يكون المراد الأكْلُ عند غيره بغير إذنه، فهذا لَعَمْري قد تناولته الآية. وقد روى الشعبي عن علقمة عن عبدالله قال :" هي محكمة ما نُسِخَتْ ولا تُنْسخ إلى يوم القيامة ". وروى الربيع عن الحسن قال :" ما نَسَخَها شيء من القرآن ".
ونظير ما اقتضته الآية من النهي عن أكْلِ مال الغير قوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام ﴾ [ البقرة : ١٨٨ ]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ ". وعلى أن النهي عن أكل مال الغير معقود بصفة، وهو أن يأكله بالباطل ؛ وقد تضمن ذلك أكل أبدال العقود الفاسدة كأثمان البياعات الفاسدة، وكمن اشترى شيئاً من المأكول فوجده فاسداً لا ينتفع به نحو البَيْضِ والجَوْزِ، فيكون أَكْلُ ثمنه أَكْلَ مال بالباطل ؛ وكذلك ثمن كل ما لا قيمة له ولا يُنتفع به كالقرد والخنزير والذباب والزنابير وسائر ما لا منفعة فيه، فالانتفاع بأثمان جميع ذلك أكل مال بالباطل، وكذلك أجرة النائحة والمغنية، وكذلك ثمن الميتة والخمر والخنزير. وهذا يدل على أن من باع بيعاً فاسداً وأخذ ثمنه أنه مَنْهِيٌّ عن أكل ثمنه وعليه رَدُّه إلى مشتريه، وكذلك قال أصحابنا إنه إذا تصرف فيه فربح فيه وقد كان عقد عليه بعَيِّنَةٍ وقبضه أن عليه أن يتصدق به ؛ لأنه رِبْحٌ حصل له من وجه محظور ؛ وقوله تعالى :﴿ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالبَاطِلِ ﴾ منتظم لهذه المعاني كلها ونظائرها من العقود المحرمة.
فإن قيل : هل اقتضى ظاهر الآية تحريم أكْلِ الهبات والصدقات والإباحة للمال من صاحبه ؟ قيل له : كل ما أباحه الله تعالى من العقود وأطلقه من جواز أكل مال الغير بإباحته إياه فخارجٌ عن حكم الآية ؛ لأن الحظر في أكْلِ المال مقيَّدٌ بشريطة وهي أن يكون أكْلَ مال بالباطل، وما أباحه الله تعالى وأحلّه فليس بباطل بل هو حق ؛ فنحتاج أن ننظر إلى السبب الذي يستبيح أكل هذا المال، فإن كان مباحاً فليس بباطل ولم تتناوله الآية، وإن كان محظوراً فقد اقتضته الآية.
وأما قوله تعالى :﴿ إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ اقتضى إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض. والتجارةُ اسم واقع على عقود المعاوضات المقصود بها طلب الأرباح، قال الله تعالى :﴿ هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله ﴾ [ الصف : ١٠ و ١١ ] فسمَّى الإيمانَ تجارةً على وجه المجاز تشبيهاً بالتجارات المقصود بها الأرباح. وقال تعالى :﴿ يرجون تجارة لن تبور ﴾ [ فاطر : ٢٩ ]. كما سمى بذل النفوس لجهاد أعداء الله تعالى شِرًى، قال الله تعالى :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله ﴾ [ التوبة : ١١١ ] فسمَّى بَذْلَ النفوس شراءً على وجه المجاز. وقال الله تعالى :﴿ لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ] فسمَّى ذلك بيعاً وشراءً على وجه المجاز تشبيهاً بعقود الأشْرِية والبياعات التي تحصل بها الأعواض. كذلك سمَّى الإيمانَ بالله تعالى تجارةً لما استحق به من الثواب الجزيل والأبدال الجسيمة، فتدخل في قوله تعالى :﴿ إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ عقودُ البياعات والإجاراتُ والهبَاتُ المشروطة فيها الأعواض ؛ لأن المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الأعواض لا غير.
ولا يسمَّى النكاح تجارةً في العُرْفِ والعادة، إذ ليس المبتغَى منه في الأكثر الأعمّ تحصيلَ العِوَضِ الذي هو مهر، وإنما المبتغَى فيه أحوال الزوج من الصلاح والعقل والدين والشرف والجاه ونحو ذلك، فلم يُسَمَّ تجارة لهذا المعنى ؛ وكذلك الخلع والعتق على مال ليس يكاد يسمَّى شيءٌ من ذلك تجارة. ولما ذكرنا من اختصاص اسم التجارة بما وصفنا، قال أبو حنيفة ومحمد :" إن المأذون له في التجارة لا يزوج أَمَتَهُ ولا عَبْدَهُ ولا يكاتب ولا يعتق على مال ولا يتزوج هو أيضاً وإن كانت أمة لا تزوج نفسها، لأن تصرفه مقصور على التجارة وليست هذه العقود من التجارة " ؛ وقالوا :" إنه يؤاجر نفسه وعبيده وما في يده من أموال التجارة، إذ كانت الإجارة من التجارة " ؛ وكذلك قالوا في المضارب وشريك العنان ؛ لأن تصرفهما مقصور على التجارة دون غيرها. ولم يختلف الناس أن البيوع من التجارات.
واختلف أهل العلم في لفظ البيع كيف هو، قال أصحابنا :" إذا قال الرجل بعني عبدك هذا بألف درهم فقال قد بعتك لم يقع البيع حتى يقبل الأول " ولا يصحّ عندهم إيجاب البيع ولا قبوله إلا بلفظ الماضي، ولا يقع بلفظ الاستقبال لأن قوله " بعني " إنما هو سَوْمٌ وأمْرٌ بالبيع وليس بإيقاع للعقد، والأمْرُ بالبيع ليس ببيع. وكذلك قوله :" أشتري منك " ليس بشرًى وإنما هو إخبار بأنه يشتريه ؛ لأن الألف للاستقبال. وكذلك قول البائع " اشتر مني " وقوله :" أبيعك " ليس ذلك بلفظ العقد، وإنما هو إخبار بأنه سيعقد أو أمْرٌ به. وقالوا في النكاح :" القياس أن يكون مثله "، إلا أنهم استحسنوا فقالوا : إذا قال :" زوجني بنتك " فقال :" قد زوجتك " أنه يكون نكاحاً ولا يحتاج الزوج بعد ذلك إلى قبول، لحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها، فقال له رجل : زوجنيها‍ !‍ فراجعه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يعطيها، إلى أن قال له :" زَوَّجْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ " فجعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله :" زوجنيها " مع قوله :" زوجتكها " عَقْداً واقعاً ؛ ولأخبار آخر قد رويت في ذلك ؛ ولأنه ليس المقصد في النكاح الدخول فيه على وجه المساومة، والعادة في مثله أنهم لا يفرقون فيه بين قوله :" زوجني " وبين قوله :" قد زوجتك " فلما جرت العادة في النكاح بما وصفنا كان قوله :" قد تزوجتك " وقوله :" زوجيني نفسك " سواء.
ولما كانت العادة في البيع دخولهم فيه على وجه السَّوْمِ بديّاً كان ذلك سَوْماً ولم يكن عقداً، فحملوه على القياس. وقد قال أصحابنا فيما جرت به العادة بأنهم يريدون به إيجاب التمليك وإيقاع العقد إنه يقع به العقد، وهو أن يساومه على شيء ثم يَزِنُ له الدراهم ويأخذ المبيع، فجعلوا ذلك عقداً لوقوع تراضيهما به وتسليم كل واحد منهما إلى صاحبه ما طلبه منه ؛ وذلك لأن جَرَيانَ العادة بالشيء كالنطق به، إذْ كان المقصد من القول الإخبار عن الضمير والاعتقاد فإذا علم ذلك بالعادة مع التسليم للمعقود عليه أَجْرَوْا ذلك مجرى العقد، وكما يُهدي الإنسان لغيره فيقبضه فيكون قبولاً للهبة ؛ ونَحَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بَدَنَاتٍ ثم قال :" مَنْ شَاءَ فَلْيَقْتَطِعْ " فقام الاقتطاع في ذلك مقام القبول للهبة في إيجاب التمليك. فهذه الوجوه التي ذكرناها هي طرق التراضي المشروط في قوله :﴿ إلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾.
وقال مالك بن أنس : إذا قال :" بعني هذا بكذا " فقال :" قد بعتك " فقد تم البيع. وقال الشافعي : لا يصحّ النكاح حتى يقول :" قد زوجتكها " ويقول الآخر :" قد قبلت تزويجها " أو يقول الخاطب :" زوجنيها " ويقول الولي :" قد زوجتكها " فلا يحتاج في هذا إلى قول الزوج قد قبلت.
فإن قيل على ما ذكرنا من قول أصحابنا في المتساومين إذا تساوما على السلعة ثم وزن المشتري الثمن وسلمه إليه وسلم البائع السلعة إليه أن ذلك بيع وهو تجارة عن تراضٍ، غير جائز أن يكون هذا بيعاً ؛ لأن لعقد البيع صيغة وهي الإيجاب والقبول بالقول، وذلك معدوم فيما وصفت ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه نهى عن بيع المنابذة والملامسة وبيع الحصاة " وما ذكرتموه في معنى هذه البياعات التي أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم لوقوعها بغير لفظ البيع. قيل له : ليس هذا كما ظننتَ، وليس ما أجازه أصحابنا مما نَهَى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لأن بيع الملامسة هو وقوع العقد باللمس، والمنابذة وقوع العقد بنبذه إليه، وكذلك بيع الحصاة هو أن يضع عليه حصاة ؛ فتكون هذه الأفعال عندهم موجبة لوقوع البيع، فهذه بيوع معقودة على المخاطرة ولا تعلق لهذه الأسباب التي علقوا وقوع البيع بها بعقد البيع. وأما ما أجازه أصحابُنا فهو أن يتساوما على ثمن يقف البيع عليه ثم يزن له المشتري الثمن ويسلم البائع إليه المبيع، وتسليمُ المبيع والثمن من حقوق البيع وأحكامه، فلما فعلا موجب العقد من التسليم صار ذلك رِضًى منهما بما وقف عليه العقد من السَّوْمِ ولَمْسُ الثوب ووَضْعُ الحصاة ونَبْذُهُ ليس من موجبات العقد ولا من أحكامه، فصار العقد معلقاً على خطر فلا يجوز، وصار ذلك أصلاً في امتناع وقوع البياعات على الأخطار، وذلك أن يقول :" بعتكه إذا قدم زيد وإذا جاء غد " ونحو ذلك.
وقوله تعالى :﴿ إلاَّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ عمومٌ في إطلاق سائر التجارات وإباحتها، وهو كقوله تعالى :﴿ وأحل الله البيع ﴾ [ البقرة : ٢٧٥ ] في اقتضاء عمومه، لإباحة سائر البيوع إلا ما خصّه التحريم ؛ لأن اسم التجارة أعمُّ من اسم البيع، لأن اسم التجارة ينتظم عقود الإجارات والهبات الواقعة على الأعواض والبياعات. فيضمّن قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ ﴾ معنيين، أحدهما : نهيٌ معقود بشريطة محتاجة إلى بيان في إيجاب حكمه، وهو قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ ﴾ لأنه يحتاج إلى أن يثبت أنه أكل مال باطل حتى يتناوله حكم اللفظ. والمعنى الثاني : إطلاق سائر التجارات، وهو عموم في جميعها لا إجمال فيه ولا شريطة، فلو خُل
وقوله تعالى :﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ﴾ فإنه قيل فيما عاد إليه هذا الوعيد وجوه، أحدها : أنه عائد على أكْلِ المال بالباطل وقَتْلِ النفس بغير حقّ، فيستحق الوعيد بكل واحدة من الخصلتين. وقال عطاء :" في قتل النفس المحرمة خاصة ". وقيل : إنه عائد على فعل كل ما نُهِيَ عنه من أول السورة. وقيل : من عند قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ﴾ [ النساء : ١٩ ] ؛ لأن ما قبله مَقْرُونٌ بالوعيد، والأَظْهَرُ عَوْدُهُ إلى ما يليه من أكل المال بالباطل وقتل النفس المحرمة. وقَيّد الوعيد بقوله :﴿ عُدْوَاناً وَظُلْماً ﴾ ليخرج منه فعل السَّهْوِ والغلط وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام إلى حد التعمد والعصيان. وذكر الظلم والعدوان مع تقارب معانيهما لأنه يحسن مع اختلاف اللفظ، كقول عَدِيّ بن زيد :
* وقَدَدْتُ الأَدِيمَ لرَاهِشِيهِ * وألْفَى قَوْلَها كَذِباً ومَيْنَا *
والكذب هو المَيْنُ ؛ وحسن العطف لاختلاف اللفظين. وكقول بشر بن حازم :
* فما وَطِىءَ الحَصَى مِثْلُ ابنِ سُعْدَى * ولا لَبِسَ النِّعَالَ ولا احْتَذَاهَا *
والاحتذاء هو لبس النعال. وكما تقول : بعداً وسحقاً، ومعناهما واحد، وحسن لاختلاف اللفظ. والله أعلم.

باب النهي عن التمني


قال الله تعالى :﴿ ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾. روى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت : قلت يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء ويُذكر الرجال ولا تذكر النساء ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ الآية، ونزلت :﴿ إن المسلمين والمسلمات ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ]. وروى قتادة عن الحسن قال :" لا يتمنَّ أحدٌ المال وما يدريه لعل هلاكه في ذلك المال ". وقال سعيد عن قتادة في قوله :﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئاً ولا الصبيَّ ويجعلون الميراث لمن يحبّون فلما ألحق للمرأة نصيبها وللصبي نصيبه وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، قالت النساء : لو كان أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال ! وقال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث ! فأنزل الله تعالى :﴿ للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ﴾ يقول : المرأة تُجْزَى بحسناتها عَشْرَ أمثالها كما يجزى الرجل ؛ قال :﴿ واسْأَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ إنّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ وَنَهَى الله عن تمنِّي ما فضّل الله به بعضنا على بعض ؛ لأن الله تعالى لو علم أن المصلحة له في إعطائه ما أعطى الآخر لفعل، ولأنه لا يَمْنَعُ من بخل ولا عُدْمٍ وإنما يمنع ليعطي ما هو أكثر منه. وقد تضمن ذلك النَّهْيَ عن الحسد وهو تمنّي زوال النعمة عن غيره إليه، وهو مثل ما رَوَى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يَخْطِبُ الرَّجُلُ على خِطْبَةِ أَخِيهِ ولا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أخِيهِ ولا تَسْأَلِ المَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِها لتَكْتَفِىءَ ما في صَحْفَتِها فإنّ الله هو رَازِقُها "، فنهى صلى الله عليه وسلم أن يخطب على خطبة أخيه إذا كانت قد رَكَنَتْ إليه ورضيت به، وأن يسوم على سومه كذلك ؛ فما ظنك بمن يتمنَّى أن يجعل له ما قد صار لغيره وملكه ! وقال :" لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفىء ما في صحفتها "، يعني أن تسعى في إسقاط حقها وتحصيله لنفسها. وروى سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا حَسَدَ إلاّ في اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتاهُ الله مالاً فهو يُنْفِقُ مِنْهُ آناءَ اللَّيْلِ والنَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتاه الله القُرْآنَ فهو يَقُومُ به آناءَ اللَّيْلِ والنَّهَارِ ".
مطلب : التمنيى على وجهين محظور وغير محظور
قال أبو بكر : والتمنى على وجهين، أحدهما : أن يتمنى الرجل أن تزول نعمة غيره عنه، فهذا الحسد، وهو التمني المنهيُّ عنه. والآخر : أن يتمنَّى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يريد زوال النعمة عن غيره، فهذا غير محظور إذا قُصد به وجه المصلحة، وما يجوز في الحكمة. ومن التمني المنهيِّ عنه أن يتمنَّى ما يستحيل وقوع، مثل أن تتمنَّى المرأة أن تكون رجلاً أو تتمنَّى حالَ الخلافة والإمامة ونَحْوَها من الأمور التي قد عُلِمَ أنها لا تكون ولا تقع.
وقوله تعالى :﴿ للرِّجَالِ نَصِيبٌ ممَّا اكْتَسَبُوا وَللنِّسَاءِ نَصِيبٌ ممَّا اكْتَسَبْنَ ﴾ قيل فيه وجوه، أحدها : أن لكل واحد حظّاً من الثواب قد عَرَضَ له بحسن التدبير في أمره ولُطْفٍ له فيه حتى استحقه وبلغ عُلُوَّ المنزلة به، فلا تَتَمَنَّوْا خلاف هذا التدبير، فإن لكل منهم حظّه ونصيبه غير مبخوس ولا منقوص. والآخر : أن لكل أحد جزاء ما اكتسب فلا يضيعه بتمنّي ما لغيره محبطاً لعمله. وقيل فيه : إن لكل فريق من الرجال والنساء نصيباً مما اكتسب من نعم الدنيا، فعليه أن يرضى بما قسم الله له.
وقوله تعالى :﴿ واسْأَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ ﴾ قيل فيه : إن معناه إن احتجتم إلى ما لغيركم فسَلُوا الله أن يعطيكم مثل ذلك من فضله، لا بأن تتمنوا ما لغيركم ؛ إلا أن هذه المسألة تغني إن تكن معقودة بشريطة المصلحة، والله تعالى أعلم بالصواب.

باب العَصَبَةِ


قال الله تعالى :﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَاليَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ﴾. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة :" الموالي ههنا العصبة ". وقال السدي :" الموالي الورثة ". وقيل : إن أصل المَوْلَى مِنْ وَلِيَ الشيءَ يَلِيهِ، وهو اتصال الولاية في التصرف. قال أبو بكر : المولى لفظ مشترك ينصرف على وجوه، فالمولى المُعْتِقُ لأنه وليّ نعمة في عِتْقِهِ ؛ ولذلك سُمِّي مولى النعمة. والمولى العبد المُعْتَقُ لاتصال ولاية مولاه به في إنعامه عليه، وهذا كما يسمَّى الطالب غريماً لأن له اللزوم والمطالبة بحقه ويسمَّى المطلوب غريماً لتوجُّه المطالبة عليه وللزوم الدين إياه. والمولى العَصَبَةُ، والمولى الحَلِيفُ ؛ لأن المحالف يلي أمره بعَقْدِ اليمين. والمولى ابنُ العم ؛ لأنه يليه بالنصرة للقرابة التي بينهما. والمولى الوليّ ؛ لأنه يلي بالنصرة. وقال تعالى :﴿ ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ﴾ [ محمد : ١١ ] أي يليهم بالنصرة ولا ناصر للكافرين يعتدّ بنصرته. ويروى للفضل بن العباس :
* مَهْلاً بني عَمِّنا مَهْلاً مَوَالِينَا * لا تُظْهِرُنَّ لَنَا ما كَانَ مَدْفُونَا *
فسمَّى بني العم موالي. والمولى مالكُ العبد ؛ لأنه يليه بالملك والتصرف والولاية والنصرة والحماية. فاسم المولى ينصرف على هذه الوجوه ؛ وهو اسم مشترك لا يصح اعتبار عمومه ؛ ولذلك قال أصحابنا فيمن أوْصَى لمواليه وله موالٍ أعلى وموالٍ أسفل : إن الوصية باطلة لامتناع دخولهما تحت اللفظ في حال واحدة، وليس أحدهما بأوْلى من الآخر، فبطلت الوصية. وأوْلى الأشياء بمعنى المولى ههنا العَصَبَةُ لما رَوَى إسرائيلُ عن أبي حُصَيْن عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا أَوْلَى بالمُؤْمِنِينَ، مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مالاً فَمَالُهُ للمَوَالِي العَصَبَةِ، ومَنْ تَرَكَ كَلاًّ أو ضيَاعاً فأنا وَلِيُّهُ ". ورَوَى معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابنِ عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اقْسِمُوا المالَ بَيْنَ أَهْلِ الفَرَائِضِ، فما أبْقَتِ السِّهَامُ فلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ "، ورُوي :" فلأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ " ؛ وفيما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية الموالي عصبة. وقوله :" فَلأوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ " ؛ ما يدل على أن المراد بقوله :﴿ وَلكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَاليَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ﴾ هم العَصَبَاتُ، ولا خلاف بين الفقهاء أن ما فضل عن سهام ذوي السهام فهو لأقرب العصبات إلى الميت. والعَصَبَاتُ هم الرجال الذين تتصل قرابتهم إلى الميت بالبنين والآباء، مثل الجدّ والإخوة من الأب والأعمام وأبنائهم، وكذلك مَنْ بَعُدَ منهم بعد أن يكون الذي يصل بينهم البنون والآباء، إلا الأخوات فإنهن عصبة مع البنات خاصة. وإنما يرث من العَصَبَاتِ الأقربُ فالأقربُ ولا ميراث للأَبْعَدِ مع الأَقْرَبِ ؛ ولا خلاف أن من لا يتصل نسبه بالميت إلا من قِبَلِ النساء أنه ليس بعصبة. ومولى العتاقة عَصَبَةٌ للعبد المُعَتقِ ولأَولاده، وكذلك أولاد المُعْتَقِ الذكور منهم يكونون عَصَبَةً للعبد المعتق إذا مات أبوهم، ويصير ولاؤه لهم دون الإناث من ولده. ولا يكون أحدٌ من النساء عَصَبَةٌ بالولاء إلا ما أعتقت أو أعتق من أعتقت. وإنما صار مولى العتاقة عَصَبَةً بالسنّة، ويجوز أن يكون مراداً بقوله تعالى :﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ﴾ إذْ كان عصبة ويعقل عنه كما يعقل عنه بنو أعمامه.
فإن قيل : الميت ليس هو من أقرباء مولى العتاقة ولا من والديه. قيل له : إذا كان معه وارثٌ من ذوي نِسْبة من الميت نحو البنت والأخت، جاز دخوله معهم في هذه الفريضة، فيستحق بأصل السهام وإن لم يكن هو من أقرباء الميت، إذ كان في الورثة ممن يجوز أن يقال فيه إنه مما ترك الوالدان والأقربون، فيكون بعض الورثة قد ورث الوالدين والأقربين.
واختلف أهل العلم في ميراث المولى الأسفل من الأعلى، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والشافعي وسائر أهل العلم :" لا يرث المولى الأسفلُ من المولى الأعلى ". وحَكَى أبو جعفر الطحاوي عن الحسن بن زياد قال :" يرث المولى الأسفل من الأعلى "، وذهب فيه إلى حديث رواه حماد بن سلمة وحماد بن زيد ووهب بن خالد ومحمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عوسجة مولى ابن عباس عن ابن عباس :" أن رجلاً أعتق عبداً له، فمات المعتِق ولم يترك إلا المعتَق، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتَق ". قال أبو جعفر : وليس لهذا الحديث معارض فوجب إثبات حكمه. قال أبو بكر : يجوز أن يكون دفعه إليه لا على وجه الميراث لكنه لحاجته وفقره ؛ لأنه كان مالاً لا وارث له فسبيله أن يُصرف إلى ذوي الحاجة والفقراء.
فإن قيل : لما كانت الأسبابُ التي يجب بها الميراث هي الولاءُ والنسبُ والنكاحُ، وكان ذوو الأنساب يتوارثون وكذلك الزوجان، وجب أن يكون الولاء من حيث أوجب الميراث للأعلى من الأسفل أن يوجبه للأسفل من الأعلى. قال أبو بكر : هذا غير واجب ؛ لأنّا قد وجدنا في ذوي الأنساب من يرث غيره ولا يرثه هو إذا مات ؛ لأن امرأة لو تركت أختاً أو ابنةً وابْنَ أخيها كان للبنت النصف والباقي لابن الأخ، ولو كان مكانها مات ابنُ الأخ وخلف بنتاً أو أختاً وعمته لم ترث العمة شيئاً، فقد ورثها ابنُ الأخ في الحال التي لا ترثه هي ؛ والله تعالى أعلم بالصواب.

باب ولاء الموالاة


قال الله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾. رَوَى طلحة بن مصرِّفٍ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله :﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُم نَصِيبَهُمْ ﴾ قال : كان المهاجر يَرِثُ الأنصاري دون ذوي رَحِمِهِ بالأُخُوَّة التي آخى الله بينهم، فلما نزلت ﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَاليَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ﴾ نُسِخَتْ ؛ ثم قرأ :﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾، قال : من النصر والرِّفَادَةِ، ويوصى له، وقد ذهب الميراث. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :﴿ والَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ قال : كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً ﴾ [ الأحزاب : ٦ ]، يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا لهم وصيةً، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، فذلك المعروف. وروى أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ قال : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيموت فيرثه، فعاقد أبو بكر رجلاً فمات فورثه. وقال سعيد بن المسيب : هذا في الذين كانوا يتبنّون رجالاً ويورّثونهم، فأنزل الله فيهم أن يجعل لهم من الوصية، ورَدَّ الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة.
قال أبو بكر : قد ثبت بما قدّمنا من قول السلف أن ذلك كان حُكْماً ثابتاً في الإسلام، وهو الميراث بالمعاقدة والموالاة ؛ ثم قال قائلون : إنه منسوخ بقوله :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ [ الأحزاب : ٦ ]. وقال آخرون : ليس بمنسوخ من الأصل، ولكنه جعل ذوي الأرحام أوْلَى من موالي المعاقدة، فنسخ ميراثهم في حال وجود القرابات وهو باقٍ لهم إذا فقد الأقرباء على الأصل الذي كان عليه.
واختلف الفقهاء في ميراث موالي الموالاة، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزُفَر :" مَنْ أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره فميراثه له ". وقال مالك وابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي :" ميراثه للمسلمين ". وقال يحيى بن سعيد :" إذا جاء من أرض العدوّ فأسلم على يده فإن ولاءه لمن والاه، ومَنْ أسلم من أهل الذمة على يدي رجل من المسلمين فولاؤه للمسلمين عامة ". وقال الليث بن سعد :" من أسلم على يدي رجل فقد والاه وميراثه للذي أسلم على يده إذا لم يَدَعْ وارثاً غيره ".
قال أبو بكر : الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده على الوجه الذي ذهب إليه أصحابنا ؛ لأنه كان حكماً ثابتاً في أول الإسلام، وحَكَمَ الله به في نصّ التنزيل، ثم قال :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين ﴾ [ الأحزاب : ٦ ] فجعل ذوي الأرحام أوْلى من المُعَاقَدِينَ الموالي، فمتى فُقِدَ ذوو الأرحام وجب ميراثُهم بقضية الآية ؛ إذ كانت إنما نقلت ما كان لهم إلى ذوي الأرحام إذا وُجِدوا، فإذا لم يوجدوا فليس في القرآن ولا في السُّنَّة ما يوجب نَسْخَها، فهي ثابتة الحكم مستعملة على ما نقتضيه من إثبات الميراث عند فَقْدِ ذوي الأرحام.
وقد ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم بثبوت هذا الحكم وبقائه عند عدم ذوي الأرحام، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي قالا : حدثنا يحيى بن حمزة عن عبد العزيز بن عمر قال : سمعت عبدالله بن موهب يحدث عمر بن عبدالعزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداريّ أنه قال : يا رسول الله ما السُّنَّةُ في الرجل يُسْلِمُ على يدي الرجل من المسلمين ؟ قال :" هُوَ أوْلَى النَّاسِ بمَحْيَاهُ ومَمَاتِهِ "، فقوله :" هو أوْلى الناس بمماته " يقتضي أن يكون أوْلاهم بميراثه، إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث، وهو في معنى قوله تعالى :﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ﴾ يعني وَرَثَةً. وقد رُوي نحوُ قول أصحابنا في ذلك عن عمر وابن مسعود والحسن وإبراهيم. وروى معمر عن الزهري أنه سئل عن رجل أسلم فوالى رجلاً هل بذلك بأس ؟ قال : لا بأس به، قد أجاز ذلك عمر بن الخطاب. وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال :" من أسلم على يدي قوم ضمنوا جَرَائِرَهُ وحَلَّ لهم ميراثُه ". وقال ربيعة بن أبي عبدالرحمن :" إذا أسلم الكافر على يدي رجل مسلم بأرض العدوّ أو بأرض المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه ". وقد رَوَى أبو عاصم النبيل عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال : كتب النبي صلى الله عليه وسلم :" على كُلِّ بَطْنٍ عَقُولُهُ " وقال :" لا يَتَوَلَّى مَوْلَى قَوْمٍ إِلاّ بإِذْنِهِمْ " ؛ وقد حوى هذا الخبر معنيين : أحدهما جواز الموالاة لأنه قال :" إلا بإذنهم " فأجاز الموالاة بإذنهم. والثاني : أن له أن يتحول بولاية إلى غيره، إلاّ أنه كرهه إلا بإذن الأوّلين ؛ ولا يجوز أن يكون مراده عليه السلام في ذلك إلا في ولاء الموالاة، لأنه لا خلاف أن ولاء العتاقة لا يصح النقل عنه ؛ وقال صلى الله عليه وسلم :" الوَلاءُ لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النَّسَبِ ".
فإن احتجَّ محتجٌّ بما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا محمد بن بشر وابن نمير وأبو أسامة عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن

باب ما يجب على المرأة من طاعة زوجها


قال الله تعالى :﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾. رَوَى يونس عن الحسن أن رجلاً جرح امرأته، فأتى أخوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" القِصَاصُ " فأنزل الله تعالى :﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ﴾ الآية، فقال صلى الله عليه وسلم :" أَرَدْنا أَمْراً وأراد الله غَيْرَهُ ". ورَوَى جرير بن حازم عن الحسن قال : لطم رجل امرأته، فاسْتَعْدَتْ عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم :" علَيْكُمُ القِصَاصُ " فأنزل الله :﴿ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ﴾ [ طه : ١١٤ ]، ثم أنزل الله تعالى :﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ﴾.
قال أبو بكر : الحديث الأول يدلّ على أن لا قصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس، وكذلك رُوي عن الزهري. والحديث الثاني جائزٌ أن يكون لَطَمَها لأنها نَشَزَتْ عليه، وقد أباح الله تعالى ضَرْبَها عند النشوز بقوله :﴿ واللاَّتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ ﴾. فإن قيل : لو كان ضربه إياها لأجل النشوز لما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم القصاص. قيل له : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك قبل نزول هذه الآية التي فيها إباحة الضرب عند النشوز ؛ لأن قوله تعالى :﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ﴾ إلى قوله :﴿ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾ نزل بَعْدُ، فلم يوجب عليهم بعد نزول الآية شيئاً، فتضمن قوله :﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ﴾ قيامهم عليهن بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة لما فضل الله به الرجل على المرأة في العقل والرأي وبما ألزمه الله تعالى من الإنفاق عليها. فدلت الآية على معانٍ، أحدها : تفضيل الرجل على المرأة في المنزلة وأنه هو الذي يقوم بتدبيرها وتأديبها، وهذا يدلّ على أن له إمساكها في بيته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية. ودلت على وجوب نفقتها عليه بقوله :﴿ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ ﴾ وهو نظير قوله :﴿ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] وقوله تعالى :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ﴾ [ الطلاق : ٧ ]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :" ولَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْرُوفِ ". وقوله تعالى :﴿ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ منتظم للمهر والنفقة ؛ لأنهما جميعاً مما يلزم الزوج لها.
قوله تعالى :﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ للغَيْبِ بِمَا حَفَظَ اللَّه ﴾ يدل على أن في النساء الصالحة ؛ وقوله :﴿ قانتات ﴾، رُوي عن قتادة :" مطيعات لله تعالى ولأزواجهن ". وأصل القنوت مداومة الطاعة، ومنه القنوت في الوِتْرِ لطول القيام. وقوله :﴿ حَافِظَاتٌ للغَيْبِ بِمَا حَفَظَ الله ﴾، قال عطاء وقتادة :" حافظات لما غاب عنه أزواجهن من ماله وما يجب من رعاية حاله وما يلزم من صيانة نفسها له ". قال عطاء في قوله :﴿ بِمَا حَفَظَ الله ﴾ :" أي بما حفظهن الله في مهورهن وإلزام الزوج من النفقة عليهن ". وقال آخرون :﴿ بما حفظ الله ﴾ :" إنهن إنما صرن صالحات قانتات حافظات بحفظ الله إياهن من معاصيه وتوفيقه وما أمدَّهن به من ألطافه ومعونته ". وروى أبو معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إذا نَظَرْتَ إليها سَرَّتْكَ وإذا أَمَرْتَها أَطَاعَتْكَ وإذا غبْتَ عَنْهَا خَلَفَتْكَ في مالِكَ ونَفْسِهَا " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ الرجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ الآية. والله الموفق.

باب النهي عن النشوز


قال الله تعالى :﴿ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ ﴾. قيل في معنى تخافون معنيان، أحدهما : يعلمون ؛ لأن خوف الشيء إنما يكون للعلم بموقعه، فجاز أن يوضع مكان " يعلم " " يخاف "، كما قال أبو مِحْجَن الثقفيّ :
* ولا تَدْفِنَنِّي بالفَلاةِ فإنّني * أخَافُ إذا ما مِتُّ أَنْ لاَ أذُوقَهَا *
ويكون خفت بمعنى ظننت، وقد ذكره الفراء. وقال محمد بن كعب :" هو الخوف الذي هو خلاف الأمن، كأنه قيل : تخافون نشوزهن بعلمكم بالحال المؤذنة به ". وأما النشوز، فإن ابن عباس وعطاء والسدي قالوا :" أراد به معصية الزوج فيما يلزمها من طاعته "، وأصل النشوز الترفُّع على الزوج بمخالفته، مأخوذ من نَشَزِ الأرْضِ وهو الموضع المرتفع منها. وقوله تعالى :﴿ فعِظُوهُنَّ ﴾، يعني خَوِّفُوهُنَّ بالله وبعقابه، وقوله تعالى :﴿ واهْجُرُوهُنَّ في المَضَاجِعِ ﴾ قال ابن عباس وعكرمة والضحّاك والسدي :" هجر الكلام ". وقال سعيد بن جبير :" هجر الجماع ". وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم :" هجر المضاجعة ".
وقوله :﴿ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾، قال ابن عباس :" إذا أطاعته في المَضْجَعِ فليس له أن يضربها ". وقال مجاهد :" إذا نشزت عن فراشه يقول لها اتقي الله وارجعي ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وغيرهما قالوا : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه خطب بعرفات في بطن الوادي فقال :" اتَّقُوا الله في النِّسَاءِ فإنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانَةِ الله واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَإِنَّ لَكُمْ علَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ فإنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرَّحٍ، ولهنّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْرُوفِ ". وروى ابن جريج عن عطاء قال :" الضرب غير المبرح بالسواك ونحوه ". وقال سعيد عن قتادة :" ضرباً غير شائن ". ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :" مَثَلُ المَرْأَةِ مَثَلُ الضِّلَعِ مَتَى تُرِدْ إقَامَتَهَا تَكْسِرْها، ولَكِنْ دَعْها تَسْتَمْتِعْ بها ". وقال الحسن :﴿ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾ قال :" ضرباً غير مبرح وغير مؤثر ". وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : حدثنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله :﴿ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ ﴾ قال :" إذا خاف نُشُوزَها وَعَظَها، فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع، فإن قبلت وإلا ضربها ضرباً غير مبرح " ثم قال :﴿ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً ﴾ قال :" لا تَعَلَّلُوا عليهن بالذنوب ".

باب الحَكَمَيْنِ كيف يعملان


قال الله تعالى :﴿ وإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا ﴾ وقد اخْتُلف في المخاطَبِينَ بهذه الآية من هم، فرُوي عن سعيد بن جبير والضحاك :" أنه السلطان الذي يترافعان إليه "، وقال السدي :" الرجل والمرأة ". قال أبو بكر : قوله :﴿ وَاللاّتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ﴾ هو خطاب للأزواج لما في نسق الآية من الدلالة عليه، وهو قوله :﴿ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ ﴾، وقوله :﴿ وإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ﴾ الأوْلَى أن يكون خطاباً للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدّي والظلم ؛ وذلك لأنه قد بيَّن أمْرَ الزوج وأمَرَهُ بوَعْظِها وتخويفها بالله ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن أقامت على نشوزها، ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى مَنْ يُنْصِفُ المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما. ورَوَى شعبة عن عمرو بن مرة قال : سألت سعيد بن جبير عن الحكمين، فغضب وقال :" ما وُلِدْتُ إذ ذاك " ؛ فقلت : إنما أعني حكمي شقاق، قال :" إذا كان بين الرجل وامرأته دَرْءٌ وتدارؤ بعثوا حَكَمَيْنِ فأقبلا على الذي جاء التدارؤ من قِبَلِهِ فوعظاه، فإن أطاعهما وإلاّ أقبلا على الآخر، فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينهما، فما حكما من شيء فهو جائز ". وروى عبدالوهاب قال : حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في المختلعة :" يَعِظُها فإن انتهت وإلا هجرها وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان، فيبعث حَكَماً من أهلها وحَكَماً من أهله، فيقول الحكم الذي من أهلها يفعل كذا ويفعل كذا، ويقول الحكم الذي من أهله تفعل به كذا وتفعل به كذا، فأيهما كان أظلم رَدّه إلى السلطان وأخذ فوق يده، وإن كانت ناشزاً أمروه أن يخلع ".
قال أبو بكر : وهذا نظير العِنِّينِ والمَجْبُوبِ والإيلاء في باب أن الحاكم هو الذي يتولَّى النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله، فإذا اختلفا وادَّعى النشوز وادّعت هي عليه ظُلْمَهُ وتقصيره في حقوقها، حينئذٍ بعث الحاكم حكماً من أهله وحكماً من أهلها ليتوليا النظر فيما بينهما ويردّا إلى الحاكم ما يقفان عليه من أمرهما. وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظِّنَّةُ إذا كانا أجنبيين بالميل إلى أحدهما، فإذا كان أحدهما من قِبَلِهِ والآخر من قِبَلِهَا زالت الظّنّةُ وتكلم كل واحد منهما عمن هو مِنْ قِبَلِهِ. ويدل أيضاً قوله :﴿ فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا ﴾ على أن الذي من أهله وَكِيلٌ له، والذي من أهلها وكيل لها، كأنه قال : فابعثوا رجلاً من قبله ورجلاً من قبلها ؛ فهذا يدل على بطلان قول من يقول إن للحكمين أن يجمعا إن شاءا وإن شاءا فرّقا بغير أمرهما.
وزعم إسماعيل بن إسحاق أنه حُكي عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا أمر الحكمين. قال أبو بكر : هذا تكذُّبٌ عليهم، وما أولى بالإنسان حفظ لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء، قال الله تعالى :﴿ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ﴾ [ ق : ١٨ ]، ومن علم أنه مُؤَاخَذٌ بكلامه قَلَّ كلامه فيما لا يعنيه. وأمْرُ الحكمين في الشقاق بين الزوجين منصوصٌ عليه في الكتاب، فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلِّهم من العلم والدين والشريعة ! ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين لهما، أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج ؛ وكذا رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وَرَوى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال : أتى عليّاً رَجُلٌ وامرأتُه مع كل واحد منهما فِئَامٌ من الناس، فقال علي : ما شأن هذين ؟ قالوا : بينهما شقاق، قال :﴿ فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾، فقال علي : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تُفَرِّقَا أن تُفَرِّقَا. فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله، فقال الرجل : أما الفرقة فلا، فقال علي : كذبتَ والله ! لا تنفلتُ مني حتى تُقِرَّ كما أَقَرَّتْ. فأخبر عليٌّ أن قول الحكمين إنما يكون برضا الزوجين. فقال أصحابنا : ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج ؛ وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أَقَرَّ بالإساءة إليها لم يفرَّقْ بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين، وكذلك لو أقرّت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على ردِّ مهرها ؛ فإذا كان كذلك حكمهما قبل بعث الحَكَمَيْنِ فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رِضَى الزوج وتوكيله ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها ؛ فلذلك قال أصحابنا : إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضَى الزوجين، فقال أصحابنا : ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين ؛ لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان ! وإنما الحكمان وكيلان لهما أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جُعْلٍ إن كان الزوج قد جُعِلَ إليه ذلك.
قال إسماعيل :" الوكيل ليس بحَكَمٍ ولا يكون حَكَماً إلا ويجوز أمره عليه وإن أبى ". وهذا غلطٌ منه ؛ لأن ما ذكر لا ينفي معنى الوكالة، لأنه لا يكون وكيلاً أيضاً إلا ويجوز أمْرُهُ عليه فيما وكل به، فجواز أمر الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حدّ الوكالة، وقد يحكم الرجلان حُكْماً في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما، فإذا حكم بشيء لزمهما، بمنزلة اصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئاً ؛ وتحكيمُ الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم من وجه ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا، والحَكَمَانِ في الشقاق إنما يتصرفان بوكالة مَحْضَةٍ كسائر الوكالات.
قال إسماعيل :" والوكيل لا يسمَّى حكماً ". وليس ذلك كما ظنَّ ؛ لأنه إنما سُمِّي ههنا الوكيلُ حَكَماً تأكيداً للوكالة التي فُوِّضت إليه. وأما قوله :" إن الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أَبَيَا " فليس كذلك، ولا يجوز أمرهما عليهما إذا أبيا ؛ لأنهما وكيلان، وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما ويعرف أمور المانع من الحق منهما حتى يَنْقُلا إلى الحاكم ما عرفاه من أمرهما، فيكون قولهما مقبولاً في ذلك إذا اجتمعا، ويَنْهَى الظالم منهما عن ظلمه ؛ فجائز أن يكونا سُمِّيا حكمين لقبول قولهما عليهما، وجائز أن يكونا سُمِّيا بذلك لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكولاً إلى رأيهما وتَحَرِّيهما للصلاح سُمِّيا حكمين، لأن اسم الحكم يفيد تَحَرِّي الصلاح فيما جُعِلَ إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل، فلما كان ذلك موكولاً إلى رأيهما وأنفذا على الزوجين حُكْماً من جمع أو تفريق مَضَى ما أنفذاه فسُمِّيا حكمين من هذا الوجه، فلما أشْبَهَ فِعْلُهُما فِعْلَ الحاكم في القضاء عليهما بما وُكِّلا به على جهة تَحَرِّي الخير والصلاح سُمِّيا حَكَمَيْنِ، ويكونان مع ذلك وكيلين لهما، إذ غير جائز أن تكون لأحد ولايةٌ على الزوجين من خلع أو طلاق إلا بأمرهما.
وزعم أن عليّاً إنما ظهر منه النكير على الزوج لأنه لم يَرْضَ بكتاب الله، قال :" ولم يأخذه بالتوكيل وإنما أخذه بعدم الرضا بكتاب الله " ؛ وليس هذا على ما ذكر ؛ لأن الرجل لما قال :" أما الفرقة فلا " قال علي :" كذبت ! أما والله لا تَنْفَلِتُ منّي حتى تقرّ كما أقرّت "، فإنما أنكر على الزوج تَرْكَ التوكيل بالفرقة وأمره بأن يوكل بالفرقة، وما قال الرجل لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه، وإنما قال لا أرضى بالفرقة بعد رِضَى المرأة بالتحكيم ؛ وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها. قال :" ولما قال :﴿ إنْ يُرِيدَا إصْلاَحاً يُوَفِّق اللَّهُ بَيْنَهُما ﴾ عَلِمْنا أن الحكمين يُمْضِيَان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفّقهما الله للصواب من الحكم. قال : وهذا لا يقال للوكيلين ؛ لأنه لا يجوز لواحد منهما أن يتعدَّى ما أمر به ". والذي ذكره لا ينفي مَعْنَى الوكالة ؛ لأن الوكيلين إذا كانا موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحرِّي الصلاح والخير فعليهما الاجتهاد فيما يمضيانه من ذلك، وأخبر الله أنه يوفقهما للصلاح إن صَلُحَتْ نياتُهما، فلا فرق بين الوكيل والحكم إذ كل من فُوِّضَ إليه أمْرٌ يُمضيه على جهة تحرّي الخير والصلاح، فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به. قال : وقد رُوي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاوس وإبراهيم قالوا :" ما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز "، وهذا عندنا كذلك أيضاً. ولا دلالة فيه على موافقة قوله ؛ لأنهم لم يقولوا إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رِضَى الزوجين، بل جائزٌ أن يكون مذهبهم أن الحكمين لا يملكان التفريق إلا بِرِضَى الزوجين بالتوكيل ولا يكونان حَكَمَيْن إلا بذلك، ثم ما حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز ؛ وكيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه ويخرجا المال عن ملكها وقد قال الله تعالى :﴿ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً ﴾ [ النساء : ٤ ] وقال الله تعالى :﴿ ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ]، وهذا الخوف المذكور ههنا هو المعنيُّ بقوله تعالى :﴿ فابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا ﴾، وحَظَرَ الله على الزوج أخْذَ شيء مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله، فأباحَ حينئذٍ أن تفتدي بما شاءت وأحلّ للزوج أخْذَهُ، فكيف يجوز للحكمين أن يُوقِعَا خُلْعاً أو طلاقاً من غير رضاهما وقد نصّ الله على أنه لا يحل له أخْذُ شيء مما أعطى إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به ! فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالفٌ لنصِّ الكتاب. وقال الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ﴾ [ النساء : ٢٩ ] فمنع كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه. وقال الله تعالى :﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام ﴾ [ البقرة : ١٨٨ ]، فأخبر تعالى أن الحاكم وغيره سواءٌ في أنه لا يملك أخْذَ مالِ أحدٍ ودَفْعَهُ إلى غيره. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يحلُّ مالُ امْرىءٍ مُسْلِمٍ إلا بطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ "، وقال صلى الله عليه وسلم :" فَمَنْ قَضَيْتُ له مِنْ حَقِّ أخِيهِ بشيءٍ فإنّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ "، فثبت بذلك أن الحاكم لا يملك أخْذَ مالها ودَفْعَهُ إلى زوجها، ولا يملك إيقاعَ طلاقٍ على الزوج بغير توكيله ولا رضاه ؛ وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه ونقله عنه إلى غيره من غير رِضَا مَنْ هو له، فالحَكَمان إنما يبعثان للصلح بينهما وليشهدا على الظالم منه

باب بِرِّ الوالدين


قال الله تعالى :﴿ واعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوَالِدَيْنِ إحْسَاناً ﴾ فقرن تعالى ذكره إلزامَ بِرِّ الوالدين بعبادته وتوحيده وأمر به كما أمر بهما، كما قرن شكرهما بشكره في قوله تعالى :﴿ أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير ﴾ [ لقمان : ١٤ ]، وكفى بذلك دلالةً على تعظيم حقهما ووجوب بِرِّهما والإحسان إليهما. وقال تعالى :﴿ ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] إلى آخر القصة. وقال تعالى :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسناً ﴾ [ العنكبوت : ٨ ]. وقال في الوالدين الكافرين :﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً ﴾ [ لقمان : ١٥ ]. ورَوَى عبدالله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أَكْبَرُ الكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بالله وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ وَاليَمِينُ الغَمُوسُ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَحْلِفُ أحَدٌ وإن كانَ على مِثْلِ جَنَاحِ البَعُوضَةِ إلا كانَتْ وَكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ! ".
قال أبو بكر : فطاعة الوالدين واجبة في المعروف لا في معصية الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا عبدالله بن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن درّاجاً أبا السَّمْح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري : أن رجلاً من اليمنِ هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :" هَلْ لَكَ أحَدٌ باليَمَنِ ؟ " قال : أبواي : قال :" أذِنَا لَكَ ؟ " قال : لا، قال :" ارْجِعْ إلَيْهِمَا فاسْتَأذِنْهُما فإنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وإلا فَبَرَّهُما ". ومن أجل ذلك قال أصحابنا : لا يجوز أن يجاهد إلا بإذن الأبوين إذا قام بجهاد العدوّ من قد كفاه الخروج، قالوا : فإن لم يكن بإزاء العدوّ مَنْ قد قام بفرض الخروج فعليه الخروج بغير إذن أبويه، وقالوا في الخروج في التجارة ونحوها فيما ليس فيه قتال : لا بأس به بغير إذنهما ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما منعه من الجهاد إلا بإذن الأبوين إذا قام بالفرض غيره، لما فيه من التعرُّض للقتل وفجِيعَةِ الأبوين به، فأما التجارات والتصرف في المباحات التي ليس فيها تعرُّضٌ للقتل فليس للأبوين مَنْعه منها ؛ فلذلك لم يَحْتَجْ إلى استئذانهما. ومن أجل ما أكّد الله تعالى من تعظيم حق الأبوين قال أصحابنا : لا ينبغي للرجل أن يقتل أباه الكافر إذا كان محارباً للمسلمين، لقوله تعالى :﴿ ولا تقل لهما أفّ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] وقوله تعالى :﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً ﴾ [ لقمان : ١٥ ]، فأمر تعالى بمصاحبتهما بالمعروف في الحال التي يجاهدانه فيها على الكفر، ومن المعروف أن لا يُشْهِرَ عليهما سلاحاً ولا يقتلهما إلا أن يُضطرَّ إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله إن ترك قتله، فحينئذٍ يجوز قتله لأنه إن لم يفعل ذلك كان قد قَتَلَ نفسه بتمكينه غيره منه، وهو منهيٌّ عن تمكين غيره من قتله كما هو منهيٌّ عن قتل نفسه، فجاز له حينئذٍ من أجل ذلك قتله. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه نَهَى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركاً ". وقال أصحابنا في المسلم يموت أبواه وهما كافران : إنه يغسلهما ويتبعهما ويدفنهما ؛ لأن ذلك من الصحبة بالمعروف التي أمره الله بها.
فإن قال قائل : ما معنى قوله تعالى :﴿ وَبِالوَالِدَيْنِ إحْسَاناً ﴾ وما ضميره ؟ قيل له : يحتمل : استوصوا بالوالدين إحساناً، ويحتمل : وأحسنوا بالوالدين إحساناً.
وقوله تعالى :﴿ وَبِذِي القُرْبَى ﴾ أمْرٌ بصلة الرَّحِمِ والإحسان إلى القرابة، على نحو ما ذكره في أول السورة في قوله تعالى :﴿ والأرحام ﴾، فبدأ تعالى في أول الآية بتوحيده وعبادته، إذ كان ذلك هو الأصل الذي به يصح سائر الشرائع والنبوات وبحصوله يُتَوَصَّل إلى سائر مصالح الدين، ثم ذكر تعالى ما يجب للأبوين من الإحسان إليهما وقضاء حقوقهما وتعظيمها، ثم ذكر الجار ذا القربى وهو قريبك المؤمن الذي له حق القرابة وأوجب له الدين الموالاة والنصرة، ثم ذكر الجار الجنب وهو البعيد منك نسباً إذا كان مؤمناً فيجتمع حقّ الجوار وما أوجبه له الدين بعصمة الملّة وذمة عقد النِّحْلَة. ورُوي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك قالوا :" الجار ذو القربى القريب في النسب ". ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الجِيرَانُ ثَلاَثَةٌ : فَجَارٌ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ حَقُّ الجِوَارِ وَحَقُّ القَرَابَةِ وحَقُّ الإِسْلامِ، وجَارٌ له حَقَّانِ حَقُّ الجِوَارِ وَحَقُّ الإسْلامِ، وجَارٌ له حَقُّ الجِوَارِ المُشْرِكُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ".
وقوله تعالى :﴿ والصَّاحِبِ بالجَنْبِ ﴾ رُوي فيه عن ابن عباس في إحدى الروايتين وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك :" أنه الرفيق في السفر ". ورُوي عن عبدالله بن مسعود وإبراهيم وابن أبي ليلى :" أنه الزوجة "، ورواية أخرى عن ابن عباس :" أنه المنقطع إليك رَجَاءَ خيرك ". وقيل :" هو جار البيت دانياً كان نسبه أو نائياً إذا كان مؤمناً ".
قال أبو بكر : لما كان اللفظ مُحْتَمِلاً لجميع ذلك وجب حَمْلُهُ عليه وأن لا يُخَصَّ منه شيءٌ بغير دلالة، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ". وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أو لِيَصْمُتْ ". ورَوَى عبيد الله الوصافي عن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما آمَنَ مَنْ أمْسَى شَبْعَانَ وأَمْسَى جَارُهُ جائعاً ". ورَوَى عمر بن هارون الأنصاري عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ سُوءُ الجِوَارِ وقَطِيعَةُ الأَرْحَامِ وتَعْطِيلُ الجِهَادِ ". وقد كانت العربُ في الجاهلية تعظّم الجوار وتحافظ على حفظه وتوجب فيه ما توجب في القرابة، قال زهير :
* وجَارُ البَيْتِ والرّجُلُ المنادِي * أمَامَ الحيِّ عَقْدُهُما سَوَاءُ *
يريد بالرجل المنادي من كان معك في النادي، وهو مجلس الحيّ. وقال بعض أهل العلم : معنى الصاحب بالجَنْبِ أنه الجار الذي يلاصق دارُهُ دارَهُ، وإنَّ الله خصه بالذكر تأكيداً لحقه على الجار غير الملاصق. وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أبو عمر ومحمد بن عثمان القرشي ورّاق أحمد بن يونس قال : حدثنا إسماعيل بن مسلم قال : حدثنا عبدالسلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن أبي العلاء الأزدي عن حميد بن عبدالرحمن الحِمْيري عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا اجتمع الداعيان فأجِبْ أقْرَبَهُما باباً، فإنّ أقْرَبَهُما باباً أقْرَبُهما جواراً، وإذا سبق أحدهما فابدأ بالذي سبق ". وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أن أربعين داراً جوارٌ ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا الحسن بن شبيب المعمري قال : حدثنا محمد بن مصفّى قال : حدثنا يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن يونس عن الزهري قال : حدثني عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال :" أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال : إني نزلت بمحلة بني فلان وإنّ أشدّهم لي أذًى أقربهم من جِواري ؛ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليّاً أن يأتوا باب المسجد فيقوموا على بابه فيصيحوا ثلاثاً ألا إنّ أربعين داراً جوارٌ ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائِقَه " قال : قلت للزهري : يا أبا بكر أربعين داراً ؟ قال : أربعين هكذا وأربعين هكذا. وقد جعل الله الاجتماع في مدينة جواراً، قال الله تعالى :﴿ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ﴾ [ الأحزاب : ٦٠ ] فجعل تعالى اجتماعهم معه في المدينة جواراً.
والإحسان الذي ذكره الله تعالى يكون من وجوه : منها المواساة للفقير منهم إذا خاف عليه الضرر الشديد من جهة الجوع والعُرْي، ومنها حسن العشرة وكفّ الأذى عنه والمحاماة دونه ممن يحاول ظلمه وما يتبع ذلك من مكارم الأخلاق وجميل الفعال. ومما أوجب الله تعالى من حقّ الجوار الشفعة لمن بِيعَتْ دارٌ إلى جنبه ؛ والله الموفق.
ذكر الخلاف في الشفعة بالجوار
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر :" الشريك في المبيع أحقُّ من الشريك في الطريق، ثم الشريك في الطريق أحقُّ من الجار الملازق، ثم الجار الملازق بعدهما "، وهو قول ابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح. وقال مالك والشافعي :" لا شفعة إلا في مشاع، ولا شفعة في بئر لا بياض لها ولا تحتمل القَسْم ". وقد رُوي وجوبُ الشفعة للجار عن جماعة من السلف، رُوي عن عمر وعن أبي بكر بن أبي حفص بن عمر قال : قال شريح : كتب إليّ عمرُ أن أقضي بالشفعة للجار ". وروى عاصم عن الشعبي عن شريح قال :" الشريك أحَقّ من الخليط، والخليطُ أحقّ من الجار، والجارُ أحقّ ممن سواه ". وروى أيوب عن محمد قال :" كان يقال الشريك أحَقُّ من الخليط، والخليطُ أحقُّ ممن سواه ". وقال إبراهيم :" إذا لم يكن شريكٌ فالجار أحقُّ بالشفعة ". وقال طاوس مثل ذلك. وقال إبراهيم بن ميسرة : كتب إلينا عمر بن عبدالعزيز :" إذا حُدَّتِ الحدود فلا شفعة "، وقال طاوس :" الجار أحقُّ ".
والذي يدل على وجوب الشفعة للجار ما رَوَى حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرض ليس لأحد فيها شريك إلا الجار ؟ فقال :" الجَارُ أحَقُّ بسَقَبِهِ ما كَانَ ". وروى سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الجَارُ أحَقُّ بسَقَبِهِ ". وَرَوَى أبو حنيفة قال : حدثنا عبدالكريم عن المِسْوَرِ بن مخرمة عن رافع بن خديج قال : عرض سَعْدٌ بيتاً له، فقال : خذه فإني قد أُعطيت به أكثر مما تعطيني ولكنك أحقّ به ؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" الجَارُ أحَقُّ بسَقَبِهِ ". وروى أبو الزبير عن جابر قال :" قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة بالجوار ". وروى عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الجَارُ أحَقُّ بسَقَبِهِ ينتظِرُ بِهِ وإنْ كَانَ غَائِباً إذا كانَ طَرِيقُهُما واحداً ". وروى ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الجَارُ أحَقُّ بسَقَبِهِ ما كانَ ". ورَوَى قتادة عن الحسن عن سَمُرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : جَارُ الدّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ الجَارِ " ؛ وقتادة عن أنس
مطلب : في معنى البخل لغة وشرعاً
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾. قيل في معنى البخل في اللغة : إنه مشقّة الإعطاء، وقيل : البخل منع ما لا ينفع منعه ولا يضرّ بذله. وقيل : البخل منع الواجب، ونظيره الشحّ، ونقيضه الجود. وقد عقل من معناه في أسماء الدين أنه مَنْعُ الواجب. ويقال : إنه لا يصح إطلاقه في الدين إلا على جهة أن فاعله قد أتى كبيرةً بالمنع، قال الله تعالى :﴿ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرّ لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ﴾ [ آل عمران : ١٨ ] فأطلق الوعيد على من بخل بحق الله الذي أوجبه في ماله. وأما قوله تعالى :﴿ وَيَكْتُمُونَ ما آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ فإنه قد رُوي عن ابن عباس ومجاهد والسديّ أنها نزلت في اليهود إذْ بخلوا بما أُعْطُوا من الرزق وكتموا ما أُوتوا من العلم بصفة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : هو فيمن كان بهذه الصفة وفيمن كتم نعَمَ الله وأنكرها، وذلك كفر بالله تعالى.
قال أبو بكر : الاعتراف بنِعَمِ الله تعالى واجبٌ وجاحِدُها كافرٌ، وأصل الكفر إنما هو من تغطية نِعَمِ الله تعالى وكتمانها وجحودها. وهذا يدل على أنه جائز للإنسان أن يتحدث بنعم الله عنده، لا على جهة الفخر بل على جهة الاعتراف بالنعمة والشكر للمنعم، وهو كقوله :﴿ وأما بنعمة ربك فحدث ﴾ [ الضحى : ١١ ] ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ، وأنا أفْصَحُ العَرَبِ ولا فَخْر " ؛ فأخبر بنعم الله عنده وأبان أنه ليس إخباره بها على وجه الافتخار. وقال صلى الله عليه وسلم :" لا يَنْبَغِي لعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسُ بنِ مَتَّى " وقد كان صلى الله عليه وسلم خيراً منه، ولكنه نَهَى أن يقال ذلك على وجه الافتخار. وقال تعالى :﴿ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ﴾ [ النجم : ٣٢ ]. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً يمدح رجلاً فقال :" لَوْ سَمِعَكَ لَقَطَعْتَ ظَهْرَهُ ". ورأى المقداد رجلاً يمدح عثمان في وجهه فحثا في وجهه التراب. وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إذَا رَأَيْتُمُ المَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ ". وقد رُوي :" إيّاكُمْ والتَّمَادُحَ فإنّهُ الذَّبْحُ ". فهذا إذا كان على وَجْهِ الفخر فقد كُرِهَ، وأما أن يتحدث بِنِعَمِ الله عنده أو يذكرها غيره بحضرته فهذا نرجو أن لا يضر ؛ إلا أن أَصْلَحَ الأشياء لقلب الإنسان أن لا يغترَّ بمدح الناس له ولا يعتدّ به.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ ﴾ معناه والله أعلم : أنه أعدّ للذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل والذين ينفقون أموالهم رياء الناس عذاباً مهيناً ؛ وفي ذلك دليلٌ على أن كل ما يفعله العبد لغير وجه الله فإنه لا قُرْبَةَ فيه ولا يستحقّ عليه الثواب ؛ لأن ما يفعل على وجه الرياء فإنما يريد به عوضاً من الدنيا كالذكر الجميل والثناء الحسن، فصار ذلك أصلاً في أن كل ما أُريد به عِوَضٌ من أعواض الدنيا أنه ليس بقربة، كالاستيجار على الحجّ وعلى الصلاة وسائر القُرَبِ، أنه متَى استحق عليه عِوَضاً يخرج بذلك عن باب القربة. وقد علمنا أن هذه الأشياء سبيلها أن لا تُفعل إلا على وجه القربة، فثبت بذلك أنه لا يجوز أن يستحق عليها الأجرة وأن الإجارة عليها باطلة.
قوله تعالى :﴿ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بالله وَاليَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ﴾ يدلّ على بطلان مذهب أهل الجبر، لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما جاز أن يقال ذلك فيهم، لأن عذرهم واضح وهو أنهم غير مُمَكَّنِينَ مما دُعوا إليه ولا قادرين عليه، كما لا يقال للأعمى :" ماذا عليه لو أبصر " ولا يقال للمريض :" ماذا عليه لو كان صحيحاً " ؛ وفي ذلك أوضح دليل على أن الله قَطَعَ عُذْرَهُمْ مِنْ فِعْلِ ما كلّفهم من الإيمان وسائر الطاعات وأنهم ممكَّنون من فعلها.
قوله تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ﴾، فأخبر الله عنهم أنهم لا يكتمون الله هناك شيئاً من أَحوالهم وما عملوه، لعلمهم بأن الله مطّلعٌ عليهم عالمٌ بأسرارهم، فيقرُّون بها ولا يكتمونها. وقيل : يجوز أن يكون المرادُ أنهم لا يكتمون أسرارهم هناك كما كانوا يكتمونها في الدنيا.
فإن قيل : قد أخبر الله عنهم أنهم يقولون واللَّهِ ربنا ما كنا مشركين. فيل له : فيه وجوه، أحدها : أن الآخرة مواطن فموطنٌ لا تسمع فيه إلا همساً أي صوتاً خفيّاً، وموطن يكذبون فيه فيقولون ما كنا نعمل من سوء والله ربنا ما كنا مشركين، وموطن يعترفون فيه بالخطأ ويسألون الله أن يَرُدَّهم إلى دار الدنيا ؛ ورُوي ذلك عن الحسن. وقال ابن عباس : إن قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً ﴾ داخل في التمنّي بعدما نطقت جوارحهم بفضيحتهم. وقيل : إن معناه أنه لا يعتدّ بكتمانهم ؛ لأنه ظاهر عند الله لا يَخْفَى عليه من شيء، فكان تقديره أنهم غير قادرين هناك على الكتمان لأن الله يظهره. وقيل : إنهم لم يقصدوا الكتمان ؛ لأنهم إنما أخبروا على ما توهموا، ولا يخرجهم ذلك من أن يكونوا قد كتموا، والله تعالى أعلم.

باب الجُنُبِ يمر في المسجد


قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ﴾.
مطلب : في تفسير السكر المراد بهذه الآية
قال أبو بكر : قد اختلف في المراد من السكر بهذه الآية، فقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة :" السُّكْرُ من الشراب ". وقال مجاهد والحسن :" نسخها تحريم الخمر ". وقال الضحاك :" المراد به سكر النوم خاصة ". فإن قيل : كيف يجوز أن يُنْهَى السكران في حال سكره وهو في معنى الصبيّ في نقص عقله ؟ قيل له : يحتمل أن يريد السكرانَ الذي لم يبلغ نقصان عقله إلى حدّ يزول التكليف معه، ويحتمل أن يكونوا نُهُوا عن التعرض للسكر إذا كان عليهم فرض الصلاة، ويجوز أن يكون النهْيُ إنما دل على أن عليهم أن يعيدوها في حال الصَّحْوِ إذا فعلوها في حال السكر، وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بالآية في حال نزولها.
فإن قال قائل : إذا سَاغَ تأويلُ من تأوّلها على السكران الذي لم يُزَلْ عنه التكليف، فكيف يجوز أن يكون منهيّاً عن فعل الصلاة في هذه الحال مع اتفاق المسلمين على أنه مأمور بفعل الصلاة في هذه الحال ؟ قيل له قد رُوي عن الحسن وقتادة أنه منسوخ، ويحتمل إن لم يكن منسوخاً أن يكون النهيُ متوجهاً إلى فعل الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو في جماعة.
قال أبو بكر : والصحيح من التأويل في معنى السُّكْرِ أنه السكر من الشراب من وجهين : أحدهما : أن النائم ومن خالط عَيْنَهُ النومُ لا يسمَّى سكرانَ، ومن سكر من الشراب يسمَّى سكرانَ حقيقةً، فوجب حمل اللفظ على الحقيقة ولا يجوز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة. والثاني : ما رَوَى سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن عن عليّ قال :" دعا رجلٌ من الأنصار قوماً فشربوا من الخمر، فتقدم عبدالرحمن بن عوف لصلاة المغرب فقرأ :﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾ [ الكافرون : ١ ]، فالتبس عليه فأنزل الله تعالى :﴿ لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾. وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، في قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ]، وقال في سورة النساء :﴿ لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ ثم نسختها هذه الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] الآية. قال أبو عبيد : وحدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] قال : وقوله تعالى :﴿ لا تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ قال :" كانوا لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلّوا العشاء شربوها ". قال أبو عبيد : حدثنا عبدالرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال : قال عمر : اللهم بيّنْ لنا في الخمر ! فنزلت :﴿ لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾، وذكر الحديث. قال أبو عبيد : وحدثنا هشيم قال : أخبرنا مغيرة عن أبي رزين قال :" شربت الخمر بعد الآية التي في سورة البقرة والتي في سورة النساء، وكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت الصلاة تركوها، ثم حرمت في المائدة ".
قال أبو بكر : فأخبر هؤلاء أن المراد السُّكْرُ من الشراب، وأخبر ابن عباس وأبو رزين أنهم تركوا شربها بعد نزول الآية عند الصلاة وشربوها في غير أوقات الصلوات ؛ ففي هذا دلالة على أنهم عقلوا من قوله تعالى :﴿ لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ النهْيَ عن شربها في الحال التي يكونون فيها سكارى عند لزوم فرض الصلاة، وهذا يدل على أن قوله تعالى :﴿ لا تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ إنما أفاد النهي عن شربها في أوقات الصلوات، وكان معناه : لا يكن منكم شُرْبٌ تصيرون به إلى حال السكر عند أوقات الصلوات فتصلّوا وأنتم سكارى ؛ وذلك أنهم لما كانوا متعبَّدِينَ بفعل الصلوات في أوقاتها منهيين عن تركها، قال تعالى :﴿ لا تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾، وقد علمنا أنه لم ينسخ بذلك فرض الصلاة، كان في مضمون هذا اللفظ النهي عما يوجب السكر عند أوقات الصلوات، كما أنه لما نُهِينَا عن فعل الصلاة مع الحدث لقوله تعالى :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ﴾ [ المائدة : ٦ ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةً بِغَيْرِ طُهُورٍ "، وكما قال تعالى :﴿ وَلاَ جُنُباً إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ﴾، كان ذلك نهياً عن ترك الطهارة ولم يكن نهياً عن فعل الصلاة. ولم يوجب كونُ الإنسان جُنُباً أو مُحْدِثاً سقوط فرض الصلاة، وإنما نُهي عن فعلها في هذه الحال، وهو مأمور مع ذلك بتقديم الطهارة لها ؛ كذلك النهي عن الصلاة في حال السكر إنما دلّ على حظر شرب يوجب السكر قبل الصلاة، وفرض الصلاة قائم عليه. فهذا التأويل يدلّ على ما رُوي عن ابن عباس وأبي رزين، وظاهرُ الآية وفحواها يقتضي ذلك على الوجه الذي بيّنا. وهذا التأويل لا ينافي ما قدمنا ذكره عن السلف في حَظْرِ الصلاة عند السكر ؛ لأنه جائز أن يكونوا نُهُوا عن شُرْبِ يقتضي كونه سكران عند حضور الصلاة، فيكون ذلك حظراً قائماً، فإن اتفق أن يشرب حتى أنه كان سكرانَ عند حضور الصلاة كان منهيّاً عن فعلها مأموراً بإعادتها في حال الصحو، أو يكون النهي مقصوراً على فعلها مع النبي صلى الله عليه وسلم أو في جماعة ؛ وهذه المعاني كلها صحيحة جائزة يحتملها لفظ الآية.
قوله تعالى :﴿ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ يدل على أن السكران الذي مُنِعَ من الصلاة هو الذي قد بلغ به السُّكْرُ إلى حالٍ لا يدري ما يقول، وأن السكران الذي يدري ما يقول لم يتناوله النهيُ عن فعل الصلاة ؛ وهذا يشهد للتأويل الذي ذكرنا من أن النهي إنما انصرف إلى الشرب لا إلى فعل الصلاة ؛ لأن السكران الذي لا يدري ما يقول لا يجوز تكليفه في هذه الحال كالمجنون والنائم والصبي الذي لا يعقل، والذي يعقل ما يقول لم يتوجه إليه النهي لأن في الآية إباحة فعل الصلاة إذا علم ما يقول ؛ وهذا يدل على أن الآية إنما حظرت عليه الشرب لا فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يعلم ما يقول فيه، إذ غير جائز تكليفُ السكران الذي لا يعقل. وهي تدل أيضاً على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول، وهذا يدل على صحة قول أبي حنيفة في السكر الموجب للحد " أنه هو الذي لا يعرف فيه الرجل من المرأة " ومن لا يعقل ما يقول لا يعرف الرجل من المرأة.
وقوله تعالى :﴿ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ يدل على فرض القراءة في الصلاة ؛ لأنه منعه من الصلاة لأجل عدم إقامة القراءة فيها، فلولا أنها من أركانها وفروضها لما مُنِعَ من الصلاة لأجلها.
فإن قيل : لا دلالة في ذلك على وجوب القراءة فيها ؛ وذلك لأن قوله تعالى :﴿ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ قد دلّ على أنه ممنوع منها في الحال التي لا يعلم ما يقول، ولم يذكر القراءة وإنما ذكر نفي العلم بما يقول، وهذا على سائر الأقوال والكلام، ومن صار بهذه الحال من السكر لم يصح له إحضارُ نية الصلاة ولا فِعْلُ سائر أركانها، فإنما مُنِعَ من الصلاة مَنْ كانت هذه حاله لأنه لا تصح منه نية الصلاة ولا سائر أفعالها، ومع ذلك فلا يعلم أنه طاهر غير محدث. قيل له : هذا على ما ذكرتَ في أن من كانت هذه حاله فلا يصح منه فعل الصلاة على سائر شرائطها، إلا أن اختصاصه القول بالذكر دون غيره من أمور الصلاة وأحوالها يدل على أن المراد به قَوْلٌ مفعولٌ في الصلاة وأنه متى كان من السكر على حال لم يمكنه إقامة القراءة فيها لم يصح له فعلها لأجل عدم القراءة، وأن وجود القراءة فيها من فروضها وشرائطها، وهذا مثل قوله :﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ [ البقرة : ٤٣ ] في إفادته أن في الصلاة قياماً مفروضاً، ومثل قوله :﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾ [ البقرة : ٤٣ ] في دلالته على فرض الركوع في الصلاة.
وأما قوله عز وجل :﴿ وَلاَ جُنُباً إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ﴾ فإن أهل العلم قد تنازعوا تأويله، فرَوَى المنهال بن عمرو عن زرّ عن علي رضي الله عنه في قوله :﴿ وَلاَ جُنُباً إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ﴾ :" إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون ما تتيمّمون به وتصلون ". وروى قتادة عن أبي مجلز عن ابن عباس مثله، وعن مجاهد مثله. ورُوي عن عبدالله بن مسعود أنه قال :" هو الممر في المسجد ". وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس مثله في تأويل الآية، وكذلك رُوي عن سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن دينار في آخَرِينَ من التابعين.
واختلف السلف في مرور الجُنُبِ في المسجد، فرُوي عن جابر قال :" كان أحدنا يمرّ في المسجد مجتازاً وهو جُنُبٌ ". وقال عطاء بن يسار :" كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضؤون ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه ". وقال سعيد بن المسيب :" الجنب لا يجلس في المجلس ويجتاز ". وكذلك رُوي عن الحسن. وما رُوي في ذلك عن عبدالله فإن الصحيح فيه ما تأوله شريك عن عبدالكريم الجزري عن أبي عبيدة :﴿ وَلاَ جُنُباً إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ﴾ قال :" الجنب يمر في المسجد ولا يجلس "، ورواه معمر عن عبدالكريم عن أبي عبيدة عن عبدالله ؛ ويقال إن أحداً لم يرفعه إلى عبدالله غير معمر وسائر الناس وقفوه.
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك، قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد :" لا يدخله إلا طاهراً سواء أراد القعود فيه أو الاجتياز "، وهو قول مالك بن أنس والثوري. وقال الليث :" لا يمر فيه إلا أن يكون بابه إلى المسجد ". وقال الشافعي :" يمر فيه ولا يقعد ".
والدليل على أن الجُنُبَ لا يجوز له أن يجتاز في المسجد ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا عبدالواحد بن زياد قال : حدثنا أفلت بن خليفة قال : حدثتني جَسْرَةُ بنتُ دجاجة قالت : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال :" وَجِّهُوا هَذِهِ البُيُوتَ عَنِ المَسْجِدِ " ثم دخل ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل لهم رخصة، فخرج إليهم بَعْدُ فقال :" وَجِّهُوا هذه البُيُوتَ فإنّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحَائِضٍ ولا جُنُبٍ " وهذا الخبر يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما قوله :" لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " ولم يفرق فيه بين الاجتياز وبين القعود، فهو عليهما سواء. والثاني : أنه أمرهم بتوجيه البيوت الشارعة لئلا يجتازوا في المسجد إذا أصابتهم جَنَابَةٌ ؛ لأنه لو أراد القعود لم يكن لقوله :" وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " معنًى ؛ لأن القعود منهم بعد دخول المسجد لا تعلُّق له
قوله تعالى :﴿ آمِنُوا بِما نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً ﴾ يدل على قول أصحابنا في قول الرجل لامرأته أنت طالق قبل قدوم فلان، أنها تطلق في الحال قَدِمَ فلان أو لم يقدم. وحُكي عن بعضهم أنها لا تطلق حتى يقدم ؛ لأنه لا يقال إنه قبل قدوم فلان وما قدم. والصحيح ما قال أصحابنا، وهذه الآية تدل عليه ؛ لأنه قال الله تعالى :﴿ يَا أيُّهَا الَّذِينَ أوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْل أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً ﴾ فكان الأمر بالإيمان صحيحاً قبل طَمْس الوجوه ولم يوجد الطمس أصلاً، وكان ذلك إيماناً قبل طَمْسِ الوجوه وما وُجِدَ ؛ وهو نَظِير قوله تعالى :﴿ فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ﴾ [ المجادلة : ٣ ] فكان الأَمر بالعتق للرقبة أمراً صحيحاً وإن لم يوجد المسيس.
فإن قيل : إن هذا وَعِيدٌ من الله لليهود ولم يسلموا ولم يقع ما تُوُعِّدوا به. قيل له : إن قوماً من هؤلاء اليهود أسلموا، منهم عبدالله بن سلام وثعلبة بن سعية وزيد بن سعنة وأسد بن سعية وأسد بن عبيد ومخيريق في آخرين منهم، وإنما كان الوعيد العاجل معلَّقاً بترك جميعهم الإسلام ؛ ويحتمل أن يريد به الوعيد في الآخرة إذ لم يذكر في الآية تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يسلموا.
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾. قال الحسن وقتادة والضحاك :" هو قول اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ". ورُوي عن عبدالله أنه قال :" هو تزكية الناس بعضهم بعضاً لينال بها شيئاً من الدنيا ".
مطلب : في بيان التزكية المنهي عنها
قال أبو بكر : وهذا يدل على أن النهي عن التزكية من هذا الوجه، وقال الله :﴿ فلا تزكوا أنفسكم ﴾ [ النجم : ٣٢ ]، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إذا رَأَيْتُمُ المَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ ".
قوله تعالى :﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ﴾. رُوي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وعكرمة :" أن المراد بالناس ههنا هو النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ". وقال قتادة :" العرب ". وقال آخرون :" النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه " ؛ وهذا أوْلى لأن أول الخطاب في ذكر اليهود، وقد كانوا قبل ذلك يقرؤون في كتبهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وصِفَتَهُ وحالَ نبوّته، وكانوا يُوعِدُون العرب بالقتل عند مبعثه ؛ لأنهم زعموا أنهم لا يتبعونه، وكانوا يظنون أنه يكون من بني إسرائيل، فلما بعثه الله تعالى من وَلَدِ إسماعيل حَسَدُوا العرب وأظهروا الكفر به وجَحَدُوا ما عرفوه، قال الله تعالى :﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾ [ البقرة : ٨٩ ]، وقال الله تعالى :﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم ﴾ [ البقرة : ١٠٩ ] فكانت عداوة اليهود للعرب ظاهرة بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم حسداً منهم لهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً منهم ؛ فالأظهر من معنى الآية حَسَدُهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللعرب. والحسد هو تمنّي زوال النعمة عن صاحبها ؛ ولذلك قيل : إن كل أحد تقدر أن ترضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها ؛ والغيظةُ غير مذمومة لأنها تمنّي مثل النعمة من غير زوالها عن صاحبها بل مع سرور منه ببقائها عليه.
قوله تعالى :﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ﴾ قيل فيه : إن الله تعالى يجدد لهم جلوداً غير الجلود التي احترقت ؛ والقائلون بهذا هم الذين يقولون إن الجلد ليس بعض الإنسان، وكذلك اللحم والعظم، وإن الإنسان هو الروح اللابس لهذا البدن. ومن قال إن الجلد هو بعض الإنسان وإن الإنسان هو هذا الشخص بكماله، فإنه يقول إن الجلود تجدَّد بأن تُرَدَّ إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة، كما يقال لخاتم كُسِرَ ثم صيغ خاتمٌ آخر : هذا الخاتم غير ذاك الخاتم، وكما يقال لمن قطع قميصه قباءً : هذا اللباس غير ذاك اللباس. وقال بعضهم : التبديل إنما هو للسرابيل التي قد أُلْبِسُوهَا ؛ وهو تأويل بعيد لأن السرابيل لا تسمَّى جلوداً ؛ والله تعالى أعلم.

باب ما أوجب الله تعالى من أداء الأمانات


قال الله تعالى :﴿ إنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ اختلف أهل التفسير في المأمورين بأداء الأمانة في هذه الآية من هم، فرُوي عن زيد بن أسلم ومكحول وشَهْر بن حَوْشَب أنهم ولاة الأمر. وقال ابن جريج :" إنها نزلت في عثمان بن طلحة، أَمَرَ بأن تُردَّ عليه مفاتيح الكعبة ". وقال ابن عباس وأبيّ بن كعب والحسن وقتادة :" هو في كل مؤتمن على شيء " ؛ وهذا أوْلى لأن قوله تعالى :﴿ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ﴾ خطابٌ يقتضي عمومه سائر المكلَّفين، فغير جائز الاقتصار به على بعض الناس دون بعض إلا بدلالة ؛ وأظُنُّ من تأوّله على ولاة الأمر ذهب إلى قوله تعالى :﴿ وإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ ﴾ لما كان خطاباً لولاة الأمر كان ابتداء الخطاب منصرفاً إليهم ؛ وليس ذلك كذلك، إذ لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموماً في سائر الناس وما عطف عليه خاصّاً في ولاة الأمر على ما ذكرنا في نظائره في القرآن وغيره.
قال أبو بكر : ما اؤتمن عليه الإنسان فهو أمانة، فعلى المؤتَمَنِ عليها رَدُّها إلى صاحبها ؛ فمن الأمانات الودائع وعلى مُودِعِيهَا رَدُّها إلى من أودعه إياها، ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أنه لا ضمان على المودع فيها إن هلكت. وقد رُوي عن بعض السلف فيه الضمان، ذكر الشعبي عن أنس قال :" استحملني رجل بضاعةً فضاعت من بين ثيابي، فضمنني عمر بن الخطاب ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا حامد بن محمد قال : حدثنا شُرَيْح قال : حدثنا ابن إدريس عن هشام بن حسان عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال :" اسْتُودِعْتُ ستّة آلاف درهم، فَذَهَبَتْ، فقال لي عمر : ذهب لك معها شيء ؟ قلت : لا، فضمنني ". وروى حجاج عن أبي الزبير عن جابر : أن رجلاً استودع متاعاً، فذهب من بين متاعه، فلم يضمنه أبو بكر رضي الله عنه، وقال : هي أمانة. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا إسماعيل بن الفضل قال : حدثنا قتيبة قال : حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَنِ اسْتُودِعَ وَدِيعَةً فَلا ضَمَانَ عَلَيْهِ ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن هاشم قال : حدثنا محمد بن عون قال : حدثنا عبدالله بن نافع عن محمد بن نبيه الحجبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا ضَمَانَ عَلَى رَاعٍ ولا عَلَى مُؤْتَمَنٍ ".
قال أبو بكر : قوله صلى الله عليه وسلم :" لا ضمان على مؤتمن " يدل على نفي ضمان العارية ؛ لأن العارية أمانة في يد المستعير ؛ إذ كان المعير قد ائتمنه عليها ؛ ولا خلاف بين الفقهاء في نفي ضمان الوديعة إذا لم يتعدّ فيها المُودَعُ. وما رُوي عن عمر في تضمين الوديعة فجائز أن يكون المُودَع اعترف بفعل يوجب الضمان عنده، فلذلك ضمنه.
واختلف الفقهاء في ضمان العارية بعد اختلافٍ من السلف فيه، فرُوي عن عمر وعليّ وجابر وشريح وإبراهيم :" أن العارية غير مضمونة ". ورُوي عن ابن عباس وأبي هريرة :" أنها مضمونة ". وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد :" هي غير مضمونة إذا هلكت "، وهو قول ابن شبرمة والثوري والأوزاعي. وقال عثمان البتّي :" المستعير ضامنٌ لما استعاره إلا الحيوان والعقل ؛ فإن اشترط عليه في الحيوان والعقل الضمان فهو ضامن ". وقال مالك :" لا يضمن الحيوان في العارية ويضمن الحليّ والثياب ونحوها ". وقال الليث :" لا ضمان في العارية ولكن أبا العباس أمير المؤمنين قد كتب إليّ بأن أضمنها فالقضاء اليوم على الضمان " : وقال الشافعي :" كل عارية مضمونة ".
قال أبو بكر : والدليل على نَفْيِ ضمانها عند الهلاك إذا لم يتعدَّ فيها أن المعير قد ائتمن المستعير عليها حين دفعها إليه، وإذا كان أميناً لم يلزمه ضمانها ؛ لأنا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا ضَمانَ على مُؤْتَمَنٍ " وذلك عمومٌ في نفي الضمان عن كل مؤتمن. وأيضاً لما كانت مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط الضمان لم يضمنها كالوديعة. وأيضاً قد اتّفق الجميع على نفي ضمان الثوب المستأجر مع شرط بذل المنافع إذا لم يشترط عليه ضمان بدل المقبوض، فالعارية أوْلى أن لا تكون مضمونة إذ ليس فيها ضمان مشروط بوجه. ومن جهة أخرى أن المقبوض على وجه الإجارة مقبوضٌ لاستيفاء المنافع ولم يكن مضموناً، فوجب أن لا تضمن العارية إذ كانت مقبوضة لاستيفاء المنافع. وأيضاً لما كانت الهِبَةُ غير مضمونة على الموهوب له لأنها مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط ضمان البدل وهي معروف وتبرُّعٌ، وجب أن تكون العارية كذلك، إذ هي معروف وتبرع. وأيضاً. قد اتفق الجميع على أن العارية لو نقصت بالاستعمال لم يضمن النقصان، فإذا كان الجزء منها غير مضمون مع حصول القبض عليه وجب أن لا يُضمن الكل ؛ لأن ما تعلق ضمانه بالقبض لا يختلف فيه حكم الكل والبعض، كالغصب والمقبوض ببيع فاسد ؛ فلما اتفق الجميع على أن الجزء الفائت بالنقصان غير مضمون وجب أن لا يضمن الجميع كالودائع وسائر الأمانات.
وقد اختلف في ألفاظ حديث صفوان بن أمية في العارية، فذكر بعضهم فيه الضمان ولم يذكره بعضهم. وروى شريك عن عبدالعزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه قال : استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان أدراعاً من حديد يوم حُنَيْنِ، فقال له : يا محمد مضمونة ؟ فقال :" مَضْمُونَةٌ "، فضاع بعضها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" إن شِئْتَ غَرِمْنَاهَا لَكَ "، فقال : لا، أنا أرغب في الإسلام من ذلك يا رسول الله. ورواه إسرائيل عن عبدالعزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن صفوان بن أمية، قال : استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية أدراعاً فضاع بعضها، فقال :" إنْ شِئْتَ غرمناها لك "، فقال : لا يا رسول الله. فوصله شريك وذكر فيه الضمان وقطعه إسرائيل ولم يذكر الضمان. وروى قتادة عن عطاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية دروعاً يوم حُنَيْنِ، فقال له : أمؤدّاة يا رسول الله العاريةُ ؟ فقال :" نعم ". وروى جرير عن عبدالعزيز بن رفيع عن أناس من آل عبدالله بن صفوان قال : أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزو حُنَيْناً ؛ وذكر الحديث من غير ذكر ضمان. ويقال إنه ليس في رواة هذا الحديث أحْفَظُ ولا أَتْقَنُ ولا أَثْبَتُ من جرير بن عبدالحميد، ولم يذكر الضمان، ولو تكافأت الرواة فيه حصل مضطرباً. وقد رُوي في أخبار أُخَرَ من طريق أبي أمامة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" العَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ ". وإن صح ذِكْرُ الضمان في حديث صفوان فإن معناه ضمان الأداء، كما رُوي في بعض أَلفاظ حديث صفوان أَنه قال :" هي مَضْمُونَةٌ حَتَّى أُؤدِّيها إليك "، وكما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا الفرياني قال : حدثنا قتيبة قال : حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن أبي هند : أن أول ما ضمنت العارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لصفوان :" أعِرْنا سِلاحَكَ وهي عَلَيْنا ضَمَانٌ حَتَّى نَأْتِيَكَ بِهَا "، فثبت بذلك أنه إنما شرط له ضمان الرد ؛ وذلك لأن صفوان كان حربيّاً كافراً في ذلك الوقت، فظنّ أنه يأخذها على جهة استباحة ماله كسائر أموال الحربيّين، ولذلك قال له : أغصباً تأخذها يا محمد ؟ فقال :" لا، بَلْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً حَتَّى أُؤَدِّيَها إِلَيْكَ وعَارِيَةً مُؤَدَّاةٌ " ؛ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأخذها على أنها عارية مؤداة وأنه ليس يأخذها على سبيل ما تُؤخذ عليه أموال أهل الحرب ؛ وهو كقول القائل : أنا ضامن لحاجتك، يعني القيام بها والسعي فيها حتى يقضيها ؛ قال الشاعر يصف ناقة :
* بتِلْكَ أُسَلِّي حَاجَةً إنْ ضَمِنْتُها * وأبْرِىءُ هَمّاً كانَ في الصَّدْرِ دَاخِلاَ *
قال أهل اللغة في قوله :" إن ضمنتها " يعني إن هَمَمْتُ بها وأردتُها.
وأيضاً فإنّا نسلّم للمخالف صحة الخبر بما رُوي فيه من الضمان، ونقول : إنه لا دلالة فيه على موضع الخلاف ؛ وذلك لأنه قال :" عارية مضمونة " فجعل الأدراع التي قبضها مضمونةً، وهذا يقتضي ضمان عينها بالرد لا ضمان قيمتها، إذ لم يقل أضمن قيمتها ؛ وغير جائز صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدلالة. وأيضاً فيما ادَّعَى المخالف إثبات ضمير في اللفظ لا دلالة عليه وهو ضمان القيمة، ولا يجوز إثباته إلا بدلالة ؛ ويدل على أنها لم تكن مضمونة ضمان القيمة عند الهلاك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فقد منها أدراعاً قال لصفوان :" إنْ شِئْتَ غَرمْناها لكَ "، فلو كان ضمانُ القيمة قد حصل عليه لما قال :" إن شئت غرمناها لك " وهو غارمٌ، فدل ذلك على أن الغرم لم يجب بالهلاك وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يغرمها إذا شاء ذلك صفوان متبرعاً بالغرم، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استقرض من عبدالله بن ربيعة ثلاثين ألفاً في هذه الغزاة أيضاً ثم أراد أن يردّها إلى عبدالله أبَى عبدالله أن يقبلها فقال له :" خذها فإن جزاء القرض الوفاء والحمد " ؟ فلو كان الغُرْمُ لازماً فيما فُقِدَ من الأدراع لما قال :" إن شئت غرمناها لك ". ويدل على أنه لم يكن ضامناً لقيمة ما فُقِدَ أنه قال : لا، فإن في قلبي اليوم من الإيمان ما لم يكن قبل ؛ وفي ذلك دليل على أنها لم تكن مضمونة القيمة لأن ما كان مضموناً لا يختلف حكمه في الإيمان والكفر. وقال بعض شيوخنا : إن صفوان لما كان حربيّاً جاز أن يشرط له ذلك، إذ قد يجوز فيما بيننا وبين أهل الحرب من الشروط ما لا يجوز فيما بيننا بعضنا لبعض، ألا ترى أنه يجوز أن يرتهن منهم الأحرار ولا يجوز مثله فيما بيننا ؟ وكان أبو الحسن الكرخي يأبى هذا التأويل ويقول : لا يصح شرط الضمان لأهل الحرب فيما ليس بمضمون، ألا ترى أنا لو شرطنا لهم ضمان الودائع والمضاربات ونحوها لم يصح ؟.
واحتج من قال بضمان العارية بما رواه شعبة وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" على اليَدِ ما أَخَذَتْ حتَّى تُؤَدِّيَهُ ". ولا دلالة في هذا الحديث أيضاً على موضع الخلاف ؛ لأنه إنما أوجب رَدَّ المأخوذ بعينه وليس فيه ذكر ضمان القيمة عند هلاكه، ونحن نقول إن عليه رَدّ العارية، فهذا لا خلاف فيه ولا تعلق له أيضاً بموضع الخلاف ؛ والله تعالى أعلم بالصواب.

باب ما أمر الله تعالى به من الحكم بالعدل


قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تحْكُمُوا بِالعَدْلِ ﴾، وقال تعالى :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾ [ النحل : ٩٠ ]، وقال تعالى :﴿ وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ]. وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا عبدالله بن موسى بن أبي عثمان قال : حدثنا عبيد بن حباب الحليّ قال : حدثنا عبدالرحمن بن أبي الرجال عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيدالله قال : قال ثابت الأعرج : أخبرني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ بِخَيْرٍ ما إذا قَا

باب وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم


قال الله تعالى :﴿ أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾، وقال تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ ليُطَاعَ بإذْنِ اللهِ ﴾، وقال تعالى :﴿ وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾، وقال تعالى :﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾، فأكّد جل وعلا بهذه الآيات وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبان أن طاعتَهُ طاعةُ الله، وأفاد بذلك أن معصيتَهُ مَعْصِيَةُ الله ؛ وقال الله تعالى :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ﴾ [ النور : ٦٣ ]، فأوعد على مخالفة أمر الرسول، وجعل مخالِفَ أمْرِ الرسول والممتنع من تسليم ما جاء به والشاكَّ فيه خارجاً من الإيمان بقوله تعالى :﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مما قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ قيل في الحرج ههنا إنه الشكّ، رُوي ذلك عن مجاهد. وأصل الحرج الضِّيقُ، وجائز أن يكون المراد التسليم من غير شكّ في وجوب تسليمه ولا ضيق صدر به بل بانشراح صدر وبصيرة ويقين.
وفي هذه الآية دلالةٌ على أن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارجٌ من الإسلامِ سواءٌ ردّه من جهة الشكّ فيه أو من جهة تَرْكِ القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسَبْي ذراريهم ؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يُسَلِّمْ للنبيّ صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان.
فإن قيل : إذا كانت طاعةُ الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة الله تعالى فهلاَّ كان أمْرُ الرسول أمْرَ الله تعالى ! قيل له : إنما كانت طاعتُه طاعةَ الله بموافقتها إرادة كل واحد منهما أوامره، وأما الأمر فهو قول القائل " افعل " ولا يجوز أن يكون أمراً واحداً لآمِرَيْن كما لا يكون فيه قول واحد من قائلين ولا فعل واحد من فاعلين.

باب في طاعة أُولي الأمر


قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾. قال أبو بكر : اخْتُلف في تأويل أُولي الأمر، فرُوي عن جابر بن عبدالله وابن عباس روايةً والحسن وعطاء ومجاهد :" أنهم أولو الفقه والعلم "، وعن ابن عباس روايةً وأبي هريرة :" أنهم أمراء السرايا ". ويجوز أن يكونوا جميعاً مرادين بالآية ؛ لأن الاسم يتناولهم جميعاً، لأن الأمراء يَلُونَ أمْرَ تدبير الجيوش والسرايا وقتال العدو، والعلماء يَلُونَ حِفْظَ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز، فأمر الناس بطاعتهم والقبول منهم ما عَدَل الأمراء والحكام وكان العلماء عُدُولاً مَرْضِيِّين موثوقاً بدينهم وأمانتهم فيما يؤدّون ؛ وهو نظير قوله تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ [ الأنبياء : ٧ ]. ومن الناس من يقول : إن الأظْهَرَ مِنْ أُولي الأمر ههنا أنهم الأمراء ؛ لأنه قدم ذِكْرَ الأمر بالعدل ؛ وهذا خطابٌ لمن يملك تنفيذ الأحكام وهم الأمراء والقضاة، ثم عطف عليه الأمر بطاعة أُولي الأمر وهم ولاة الأمر الذين يحكمون عليهم ما داموا عُدُولاً مَرْضِيِّين. وليس يمتنع أن يكون ذلك أمراً بطاعة الفريقين من أولي الأمر وهم أمراء السرايا والعلماء، إذ ليس في تقدم الأمر بالحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بالأمر بطاعة أولي الأمر على الأمراء دون غيرهم. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَني ". ورَوَى الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيف مِنْ منًى فقال :" نَضَّرَ الله عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثم أدَّاهَا إلى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها، فَرُبَّ حَامِل فِقْهٍ لا فَقْهَ له ورُبَّ حَامِل فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثلاثٌ لا يَغِلّ عليهن قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إخْلاَصُ العَمَلِ لله تعالى " وقال بعضهم :" وطَاعَةُ ذَوِي الأمْرِ " وقال بعضهم :" والنَّصِيحَةُ لأُولي الأمْرِ ولُزُومُ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ، فإنَّ دَعَوْتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ ". والأظْهر من هذا الحديث أنه أراد بأُولي الأمر الأمراء. وقوله تعالى عقيب ذلك :﴿ فإنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ والرَّسُولِ ﴾ يدل على أن أُولي الأمر هم الفقهاء ؛ لأنه أمر سائر الناس بطاعتهم ثم قال :﴿ فإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى الله وَالرَّسُولِ ﴾، فأَمَرَ أولي الأَمْرِ بردِّ المتنازَعِ فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إذ كانت العامةُ ومن ليس من أهل العلم ليست هذه منزلتهم ؛ لأنهم لا يعرفون كيفية الردّ إلى كتاب الله والسنّة ووجوه دلائلهما على أحكام الحوادث ؛ فثبت أنه خطاب للعلماء.
مطلب : في إبطال قول الرافضة يشترط أن يكون الإمام معصوماً
واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول الرافضة في الإمامة بقوله تعالى :﴿ أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾، قال : فليس يخلو أولو الأمر من أن يكونوا الفقهاء أو الأمراء أو الإمام الذي يدَّعُونه، فإن كان المرادُ الفقهاءَ والأمراءَ فقد بَطُلَ أن يكون الإمام، والفقهاء والأمراء يجوز عليهم الغلط والسهو والتبديل والتغيير وقد أُمِرْنا بطاعتهم، وهذا يبطل أصْلَ الإمامة فإن شرط الإمام عندهم أن يكون معصوماً لا يجوز عليه الغلط والخطأ والتبديل والتغيير ؛ ولا يجوز أن يكون المرادُ الإمامَ لأنه قال في نسق الخطاب :﴿ فَإنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى الله وَالرَّسُولِ ﴾، فلو كان هناك إمامٌ مفروض الطاعة لكان الردّ إليه واجباً وكان هو يقطع الخلاف والتنازع، فلما أمر بردّ المتنازَعِ فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام دلّ ذلك على بطلان قولهم في الإمامة، ولو كان هناك إمام تجب طاعته لقال : فردّوه إلى الإمام ؛ لأن الإمام عندهم هو الذي يَقْضي قولُه على تأويل الكتاب والسنة، فلما أمر بطاعة أمراء السرايا والفقهاء وأمر بردّ المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام ثبت أن الإمام غيرُ مفروضِ الطاعَةِ في أحكام الحوادث المتنازع فيها، وأن لكل واحد من الفقهاء أن يردّها إلى نظائرها من الكتاب والسنة.
وزعمت هذه الطائفة أن المراد بقوله تعالى :﴿ وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه ؛ وهذا تأويل فاسد لأن أولي الأمر جماعة وعلي بن أبي طالب رجل واحد. وأيضاً فقد كان الناس مأمورين بطاعة أولي الأمر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن علي بن أبي طالب لم يكن إماماً في أيام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فثبت أن أولي الأمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أمراء وقد كان على المُوَلَّى عليهم طاعتهم ما لم يأمروهم بمعصية، وكذلك حكمهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم في لزوم اتّباعهم وطاعتهم ما لم تكن معصية.
مطلب : في بيان المراد من قوله تعالى :﴿ فردوه إلى الله والرسول ﴾ وقوله تعالى :﴿ فإنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى الله وَالرَّسُولِ ﴾ رُوي عن مجاهد وقتادة وميمون بن مهران والسدّي :" إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ". قال أبو بكر : وذلك عموم في وجوب الردّ إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في حياة النبي وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم. والردُّ إلى الكتاب والسنة يكون من وجهين، أحدهما : إلى المنصوص عليه المذكور باسمه ومعناه، والثاني : الردّ إليهما من جهة الدلالة عليه واعتباره به من طريق القياس والنظائر ؛ وعموم اللفظ ينتظم الأمرين جميعاً، فوجب إذا تنازعنا في شيء رَدُّهُ إلى نصّ الكتاب والسنة إن وجدنا المتنازع فيه منصوصاً على حكمه في الكتاب والسنة، وإن لم نجد فيه نصّاً منهما وجب رده إلى نظيره منهما ؛ لأنا مأمورون بالردّ في كل حال إذْ لم يخصص الله تعالى الأمر بالردّ إليهما في حال دون حال. وعلى أن الذي يقتضيه فحوى الكلام وظاهره الرد إليهما فيما لا نصَّ فيه ؛ وذلك لأن المنصوص عليه الذي لا احتمال فيه لغيره لا يقع التنازع فيه من الصحابة مع علمهم باللغة ومعرفتهم بما فيه احتمال مما لا احتمال فيه، فظاهر ذلك يقتضي رَدَّ المتنازَع فيه إلى نظائره من الكتاب والسنة.
فإن قيل : إنما المراد بذلك تَرْكُ التنازع والتسليم لما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل : إن ذلك خطاب للمؤمنين لأنه قال تعالى :﴿ يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾، فإن كان تأويله ما ذكرتَ فإن معناه : اتّبعوا كتاب الله وسنّة نبيه وأطيعوا الله ورسوله ؛ وقد علمنا أن كل مَنْ آمن ففي اعتقاده للإيمان اعتقادٌ لالتزام حكم الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيؤدِّي ذلك إلى إبطال فائدة قوله تعالى :﴿ فَرُدُّوهُ إلى الله والرَّسُولِ ﴾. وعلى أن ذلك قد تقدم الأمر به في أول الآية، وهو قوله تعالى :﴿ أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾، فغير جائزٍ حَمْلُ معنى قوله تعالى :﴿ فَرُدُّوهُ إلَى الله وَالرَّسُولِ ﴾ على ما قد أفاده بدياً في أول الخطاب، ووجب حَمْلُه على فائدة مجدَّدة وهو رَدُّ غير المنصوص عليه وهو الذي وقع فيه التنازع إلى المنصوص عليه ؛ وعلى أنّا نَرُدُّ جميع المُتَنَازَعِ فيه إلى الكتاب والسنة بحق العموم ولا نخرج منه شيئاً بغير دليل.
مطلب : يجوز الاجتهاد في حالين مع وجوده صلى الله عليه وسلم
فإن قيل : لما كانت الصحابة مخاطَبِينَ بحكم هذه الآية عند التنازع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان معلوماً أنه لم يكن يجوز لهم استعمال الرأي والقياس في أحكام الحوادث بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان عليهم التسليم له واتّباع أمره دون تكلُّفِ الردّ من طريق القياس، ثبت أن المراد استعمال المنصوص وترك تكلف النظر والاجتهاد فيما لا نصَّ فيه. قيل له : هذا غلط ؛ وذلك لأن استعمال الرأي والاجتهاد ورد الحوادث إلى نظائرها من المنصوص قد كان جائزاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في حالين ولم يكن يجوز في حال ؛ فأما الحالان اللتان كان يجوز فيهما الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإحداهما في حال غيبتهم عن حضرته، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً حين بعثه إلى اليمن فقال له :" كَيْفَ تَقْضي إنْ عَرَضَ لك قَضَاءٌ ؟ " قال : أقضي بكتاب الله، قال :" فإنْ لم يَكُنْ في كِتَابِ الله ؟ " قال : أقضي بسنة نبي الله، قال :" فإنْ لم يَكُنْ في كِتَابِ الله ولا في سُنَّةِ رَسُولِ الله ؟ " قال : أجتهد رأيي لا آلو، قال : فضرب بيده على صدره وقال :" الحمد لله الذي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ الله لما يُرْضِي رَسُولَ الله " ؛
قوله تعالى :﴿ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ﴾ قيل : الثُّبَاتُ الجماعات، واحدها ثُبَةٌ. وقيل : الثُّبَةُ عُصْبَةٌ منفردة من عُصَبٍ. فأمرهم الله بأن ينفروا فرقاً، فرقةً بعد فرقةٍ فرقةٌ في جهة وفرقةٌ في جهة، أو ينفروا جميعاً من غير تفرق ؛ ورُوي ذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة. وقوله تعالى :﴿ خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ معناه : خذوا سلاحكم، فسمَّى السلاح حِذْراً لأنه يُتَّقَى به الحذر ؛ ويحتمل : احذروا عدوكم بأخذ سلاحكم، كقوله تعالى :﴿ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ﴾ [ النساء : ١٠٢ ] ؛ فانتظمت هذه الآيةُ الأمْرَ بأخْذِ السلاح لقتال العدوّ على حال افتراق العُصَبِ أو اجتماعها بما هو أولى في التدبير. والنفور هو الفزع، نَفَر يَنْفِرُ نُفُوراً إذا فزع، وَنَفَرَ إليه إذا فزع من أمرٍ إليه ؛ والمعنى : انْفِرُوا إلى قتال عدوكم ؛ والنَّفْرُ جماعة تَفْزَعُ إلى مثلها، والنَّفِيرُ إلى قتال العدوّ، والمنَافَرَةُ : المحاكمة للفزع إليها فيما يَنُوبُ من الأمور التي يُختلف فيها ؛ ويقال إن أصلها أنهم كانوا يسألون الحاكم : أينا أعزّ نفراً ؟.
وقد رُوي في هذه الآية نَسْخٌ ؛ رَوَى ابن جريج وعثمان بن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ﴾ قال :" عُصَباً وفِرَقاً ". وقال في براءة :﴿ انفروا خفافاً وثقالاً ﴾ [ براءة : ٤١ ] الآية، وقال :﴿ إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ﴾ [ براءة : ٣٩ ] الآية. قال : فنسخ هذه الآيات قوله تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ﴾ [ براءة : ١٢٢ ] وتمكث طائفة منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالماكثون مع النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين يتفقّهون في الدين ويُنْذِرُون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزوات لعلهم يَحْذَرون ما نزل من قضاء الله في كتابه وحدوده.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ آمنوا يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ ﴾ : قيل :﴿ في سَبِيلِ الله ﴾ في طاعة الله، لأنها تؤدي إلى ثواب الله في جنّته التي أعدّها لأوليائه، وقيل : دين الله الذي شرعه ليؤدّي إلى ثوابه ورحمته، فيكون تقديره : في نصرة دين الله تعالى. وقيل في الطاغوت : إنه الشيطان، قاله الحسن والشعبي : وقال أبو العالية :" هو الكاهن ". وقيل :" كل ما عبد من دون الله ".
وقوله تعالى :﴿ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾ الكيد هو السَّعْيُ في فساد الحال على جهة الاحتيال والقصد لإيقاع الضرر، قال الحسن :" إنما قال :﴿ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾ لأنه كان أخبرهم أنهم يستظهرون عليهم، فلذلك كان ضعيفاً ". وقيل : إنما سماه ضعيفاً لضعف نصرته لأوليائه بالإضافة إلى نصرة الله للمؤمنين.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجُدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كثيراً ﴾، فإن الاختلاف على ثلاثة أوجه : اختلاف تناقض بأن يدعو أحد الشيئين إلى فساد الآخر، واختلاف تفاوت وهو أن يكون بعضه بليغاً وبعضه مرذولاً ساقطاً ؛ وهذان الضربان من الاختلاف منفيّانِ عن القرآن، وهو إحدى دلالات إعجازه ؛ لأن كلام سائر الفصحاء والبلغاء إذا طال مثل السور الطوال من القرآن لا يخلو من أن يختلف اختلاف التفاوت. والثالث : اختلاف التلاؤم، وهو أن يكون الجميع متلائماً في الحُسْنِ، كاختلاف وجوه القراءات ومقادير الآيات واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ. فقد تضمّنت الآية الحَضَّ على الاستدلال بالقرآن لما فيه من وجوه الدلالات على الحق الذي يلزم اعتقاده والعمل به.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُولي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ قال الحسن وقتادة وابن أبي ليلى :" هم أهل العلم والفِقْه "، وقال السدي :" الأمراء والولاة ". قال أبو بكر : يجوز أن يريد به الفريقين من أهل الفقه والولاة لوقوع الاسم عليهم جميعاً. فإن قيل : أولو الأمر من يملك الامر بالولاية على الناس، وليست هذه صفة أهل العلم. قيل له : إن الله تعالى لَمْ يَقُلْ " من يملك الأمر بالولاية على الناس " وجائز أن يسمَّى الفقهاءُ أولي الأمر لأنهم يعرفون أوامر الله ونواهيه ويلزم غيرهم قبول قولهم فيها، فجائز أن يسمَّوا أولي الأمر من هذا الوجه كما قال في آية أخرى :﴿ ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ﴾ [ براءة : ١٢٢ ]، فأوجب الحذر بإنذارهم وألْزَمَ المنذرين قبول قولهم، فجاز من أجل ذلك إطلاق اسم أولي الأمر عليهم ؛ والأمراء أيضاً يسمَّوْن بذلك لنفاذ أمورهم على من يَلُونَ عليه.
وقوله تعالى :﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾، فإن الاستنباط هو الاستخراج، ومنه استنباط المياه والعيون ؛ فهو اسم لكل ما اسْتُخْرج حتى تقع عليه رؤية العيون أو معرفة القلوب ؛ والاستنباط في الشرع نظير الاستدلال والاستعلام.
مطلب : فيما دلت عليه هذه الآية من وجوب القول بالقياس
وفي هذه الآية دلالةٌ على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث ؛ وذلك لأنه أمر بردِّ الحوادث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته إذا كانوا بحضرته وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته صلى الله عليه وسلم ؛ وهذا لا محالة فيما لا نصَّ فيه، لأن المنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه، فثبت بذلك أن من أحكام الله ما هو منصوص عليه ومنها ما هو مُودَعٌ في النصّ قد كُلِّفنا الوصول إلى علمه بالاستدلال عليه واستنباطه. فقد حوت هذه الآية معاني : منها أن في أحكام الحوادث ما ليس بمنصوص عليه بل مدلول عليه. ومنها أن على العلماء استنباطه والتوصل إلى معرفته بردِّه إلى نظائره من المنصوص. منها أن العاميَّ عليه تقليدُ العلماء في أحكام الحوادث. ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان مُكَلَّفاً باستنباط الأحكام والاستدلال عليها بدلائلها ؛ لأنه تعالى أمر بالردّ إلى الرسول وإلى أولي الأمر، ثم قال :﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ ولم يخصّ أولي الأمر بذلك دون الرسول ؛ وفي ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال.
فإن قيل : ليس هذا استنباطاً في أحكام الحوادث وإنما هو في الأمن والخوف من العدو، لقوله تعالى :﴿ وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُولي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ فإنما ذلك في شأن الأراجيف التي كان المنافقون يرجفون بها، فأمرهم الله بترك العمل بها وردّ ذلك إلى الرسول وإلى الأمراء حتى لا يفتُّوا في أعضاد المسلمين إن كان شيئاً يوجب الخوف، وإن كان شيئاً يوجب الأمن لئلا يأمنوا فيتركوا الاستعداد للجهاد والحذر من الكفار ؛ فلا دلالة في ذلك على جواز الاستنباط في أحكام الحوادث. قيل له : قوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أوِ الخَوْفِ ﴾ ليس بمقصور على أمْرِ العدوّ ؛ لأن الأمن والخوف قد يكونان فيما يُتَعَبَّدُونَ به من أحكام الشرع فيما يُباح ويُحظر وما يجوز وما لا يجوز، ذلك كله من الأمن والخوف ؛ فإذاً ليس في ذكره الأمن والخوف دلالة على وجوب الاقتصار به على ما يتفق من الأراجيف بالأمن والخوف في أمْرِ العدوّ، بل جائز أن يكون عامّاً في الجميع، وحَظَرَ به على العاميّ أن يقول في شيء من حوادث الأحكام ما فيه حَظْرٌ أو إباحة أو إيجاب أو غير ذلك، وألزمهم ردَّه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ليستنبطوا حكمه بالاستدلال عليه بنظائره من المنصوص. وأيضاً فلو سلّمنا لك أن نزول الآية مقصورٌ على الأمن والخوف من العدوّ لكانت دلالته قائمة على ما ذكرنا ؛ لأنه إذا جاز استنباط تدبير الجهاد ومكايد العدو بأخذ الحذر تارةً والإقدام في حال والإحجام في حال أخرى، وكان جميع ذلك مما تعبدنا الله به ووكل الأمر فيه إلى آراء أولي الأمر واجتهادهم، فقد ثبت وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث من تدبير الحروب ومكايد العدو وقتال الكفار، فلا فرق بينه وبين الاجتهاد والاستدلال على النظائر من سائر الحوادث من العبادات وفروع الشريعة، إذ كان جميع ذلك من أحكام الله تعالى، ويكون المانع من الاجتهاد والاستنباط في مثله كمن أباح الاستنباط في البيوع خاصة ومَنَعَهُ في المناكحات أو أباحه في الصلاة ومنعه في المناسك، وهذا خُلْفٌ من القول.
فإن قيل : ليس الاستنباطُ مقصوراً على القياس واجتهاد الرأي دون الاستدلال بالدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنًى واحداً. قيل له : الدليلُ الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنًى واحداً لا يقع بين أهل اللغة فيه تنازعٌ، إذ كان أمراً معقولاً في اللفظ، فهذا ليس باستنباط بل هو في مفهوم الخطاب، وذلك عندنا نحو قوله تعالى :﴿ فلا تقل لهما أفّ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] أنه دلالة على النهي عن الضرب والشتم والقتل ونحوه، وهذا لا يقع في مثله خلافٌ ؛ فإن أردت بالدليل الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً هذا الضرب من دلائل الخطاب ؛ فإن هذا لا تنازُعَ فيه ولا يحتاج فيه إلى استنباط، وإن أرَدْتَ بالدليل تخصيصَ الشيء بالذكر فيكون دلالة على أن ما عداه فحكمه بخلافه، فإن هذا ليس بدليل، وقد بيناه في أصول الفقه ؛ ولو كان هذا ضَرْباً من الدليل لما أغفلته الصحابة ولاستدلَّتْ به على أحكام الحوادث، ولو فعلوا هذا لاستفاض ذلك عنهم وظهر، فلما لم يُنْقَلْ ذلك عنهم دلَّ على سقوط قولك. وأيضاً لو كان هذا ضرباً من الاستدلال لم يمنع ذلك إيجابَ الاستنباط فيما لا طريق إليه إلا من جهة الرأي والقياس، إذْ ليس يوجد في كل حادثة هذا الضرب من الدلالة، وقد أُمرنا باستنباط سائر ما لا نَصَّ فيه فما لم نجد فيه من الحوادث هذا الضرب من الدليل، فعلينا استنباط حكمه من طريق القياس والاجتهاد، إذْ لا سبيل لنا إليه إلا من هذه الجهة.
فإن قيل : لما قال تعالى :﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ ولم يكن دليل القياس مُفْضِياً بنا إلى العلم بمدلوله، إذ كان القائِسُ يجوز على نفسه الخطأ ولا يجوز القطع بأن ما أدّاه إليه قياسه واجتهاده هو الحق عند الله، عَلِمْنا أنه لم يُرِدِ الاستنباطَ من طريق القياس والاجتهاد. قيل له : قولك :" إن القائس لا يقطع بأن قياسه هو الحق عند الله " خطأ لا نقول به ؛ وذلك أن ما كان طريقُه الاجتهادَ فإن المجتهد ينبغي له أن يقطع بأن ما أدّاه إليه اجتهاده هو الحقّ عند الله، وهذا عندنا عِلْمٌ منه بأن هذا حكم الله عليه، فاستنباطه حكم الحوادث من طريق الاجتهاد يوجب العلم بصحة موجبه وما أدّاه إليه اجتهاده. وهذه الآية أيضاً تدلّ على بطلان قول القائلين بالإمامة ؛ لأنه لو كان كل شيء من أحكام الدين منصوصاً عليه لعرفه الإمام ولزال موضع الاستنباط وسقط الردُّ إلى أولي الأمر، بل كان الواجب الردّ إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النصّ.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أوْ رُدُّوهَا ﴾ ؛ قال أهل اللغة : التحية الملك، ومنه قول الشاعر :
* أسِيرُ به إلى النُّعْمَانِ حتَّى * أُنِيخَ على تَحِيَّتِهِ بجُنْدِ *
يعني : على ملكه. ومعنى قولهم :" حيّاك الله " أي " ملَّكك الله ". ويسمَّى السلامُ تحيةً أيضاً ؛ لأنهم كانوا يقولون حياك الله فأُبدلوا منه بعد الإسلام بالسلام وأقيم مقام قولهم حياك الله. قال أبو ذر : كنت أول من حَيَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام فقلت : السلام عليك ورحمة الله. وقال النابغة.
* يُحَيَّوْنَ بالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ *
يعني أنهم يُعْطَوْن الريحان. ويقال لهم " حيّاكم الله " والأصل فيه ما ذكرنا من أنه ملّكك الله ؛ فإذا حملنا قوله تعالى :﴿ وإذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ على حقيقته أفاد أن من ملك غيره شيئاً بغير بدل فله الرجوع فيه ما لم يُثَبْ منه، فهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن وهب لغير ذي رَحِمٍ أن له الرجوع فيها ما لم يُثَبْ منها، فإذا أُثِيبَ منها فلا رجوع له فيها ؛ لأنه أوجب أحد شيئين من ثواب أو ردّ لما جيء به.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجوع في الهِبَةِ ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سليمان بن داود المهري قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني أسامة بن زيد أن عمرو بن شعيب حدثه عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مَثَلُ الذي يَسْتَرِدُّ ما وَهَبَ كَمَثَلِ الكَلْبِ يَقِيءُ فيأكل فَيْئَهُ، فإذا اسْتَرَدَّ الوَاهِبُ فليُوَقَّفْ وليُعَرَّفْ بما اسْتَرَدَّ ثم ليُدْفَعُ إليه ما وَهَبَ ". وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الرّجُلُ أَحَقُّ بهِبَتِهِ ما لم يُثَبْ مِنْها ". وروى ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يحلّ لرَجُلٍ يُعْطي عَطِيّةً أو يَهَبُ هِبَةً فَيَرْجِعُ فيها إلاّ الوالِد فيما يُعْطي وَلَدَهُ، ومَثَلُ الذي يُعْطي العَطِيّةَ ثم يَرْجِعُ فيها كَمَثَلِ الكَلْبِ يَأْكُلُ فإذا شَبِعَ قَاءَ ثم عَادَ في قَيْئِهِ ". وهذا الخبر يدل على معنيين، أحدهما : صحة الرجوع في الهبة، والآخر : كراهته وأنه من لؤم الأخلاق ودناءتها في العادات ؛ وذلك لأنه شَبَّه الراجع في الهبة بالكلب يعود في قيئه. وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا، أحدهما : أنه شَبّهه بالكلب إذا عاد في قيئه، وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا، أحدهما : أنه شَبّهه بالكلب إذا عاد في قيئه، ومعلوم أنه ليس بمحرم على الكلب، فما شُبِّه به فهو مثله. والثاني : أنه لو كان الرجوع في الهبة لا يصحّ بحال لما شُبّه الراجعُ بالكلب العائد في القيء، لأنه لا يجوز تشبيه ما لا يقع بحال بما قد صحّ وجوده. وهذا يدل أيضاً على صحة الرجوع في الهِبَةِ مع استقباح هذا الفعل وكراهته. وقد رُوي الرجوع في الهبة لغير ذي الرَّحِمِ المحرم عن عليّ وعمر وفضالة بن عبيد من غير خلاف من أحد من الصحابة رضي الله عنهم عليهم. وقد رُوي عن جماعة من السلف أن ذلك في ردّ السلام، منهم جابر بن عبدالله. وقال الحسن :" السلام تطوع وردُّه فريضةٌ " وذكر الآية.
ثم اختلف في أنه خاصّ في أهل الإسلام أو عام في أهل الإسلام وأهل الكفر، فقال عطاء :" هو في أهل الإسلام خاصة ". وقال ابن عباس وإبراهيم وقتادة :" هو عام في الفريقين ". وقال الحسن :" تقول للكافر وعليكم ولا تقل ورحمة الله، لأنه لا يجوز الاستغفار للكفار ". وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا تَبْدأوا اليَهُودَ بالسَّلامِ فإنْ بَدَؤُوكُمْ فقُولُوا وَعَلَيْكُمْ ". وقال أصحابنا :" ردّ السلام فَرْضٌ على الكفاية، إذا سلم على جماعة فردّ واحدٌ منهم أجزأ ". وأما قوله تعالى :﴿ بِأَحْسَنَ مِنْهَا ﴾ إذا أُريد به ردُّ السلام فهو الزيادة في الدعاء، وذلك إذا قال :" السلام عليكم " يقول هو :" وعليكم السلام ورحمة الله "، وإذا قال :" السلام عليكم ورحمة الله " قال هو :" وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ".
قوله تعالى :﴿ فَمَا لَكُمْ في المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَالله أَرْكَسَهُمْ بما كَسَبُوا ﴾ ؛ رُوي عن ابن عباس :" أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يُعِينُون المشركين على المسلمين "، وروي مثله عن قتادة : وقال الحسن ومجاهد :" نزلت في قوم قدموا المدينة فأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرْكَ ". وقال زيد بن ثابت :" نزلت في الذين تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ وقالوا لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم ". وفي نسقِ الآية دلالة على خلاف هذا التأويل الأخير وأنهم من أهل مكة، وهو قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا في سَبِيلِ اللهِ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ أَرْكَسَهُمْ ﴾ قال ابن عباس :" ردَّهُم ". وقال قتادة :" أركسهم أهلكهم ". وقال غيرهم :" أركسهم نكسهم ". قال الكسائي :" أركسهم وركسهم بمعنى " وإنما المعنى رَدَّهم في حكم الكفر من الصَّغَار والذلة، وقيل من السبي والقتل ؛ لأنهم أظهروا الارتداد بعدما كانوا على النفاق. وإنما وصفوا بالنفاق وقد أظهروا الارتداد عن الإسلام لأنهم نُسِبُوا إلى ما كانوا عليه قَبْلُ من إضمارِ الكفر، قاله الحسن. وقال النحويون : هذا يحسن مع عَلَم التعريف وهو الألف واللام، كما تقول :" هذه العجوز هي الشابة " يعني هي التي كانت شابة، ولا يجوز " هذه شابة ". فأبان تعالى للمسلمين بهذه الآية عن أحوال هذه الطائفة من المنافقين أنهم يُظْهِرُون لكم الإسلام وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر والرِّدَّةَ، ونَهَى المسلمين عن أن يُحسنوا بهم الظنَّ وأن يجادلوا عنهم.
قوله تعالى :﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ يعني هذه الطائفة، أخبر بذلك عن ضمائرهم واعتقاداتهم لئلا يحسن المؤمنون بهم الظنَّ وليعتقدوا معاداتهم والبراءة منهم.
وقوله تعالى :﴿ فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا في سَبِيلِ اللهِ ﴾ يعني والله أعلم : حتى يُسْلِمُوا ويهاجروا ؛ لأن الهجرة بعد الإسلام، وأنهم وإن أسلموا لم تكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة، وهو كقوله تعالى :﴿ ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ]، وهذا في حال ما كانت الهجرة فرضاً ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ، وأنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ مَعَ مُشْرِكٍ "، قيل : ولم يا رسول الله ؟ قال :" لا تَرَاءَى ناراهُما ". فكانت الهجرة فرضاً إلى أن فُتحت مكة فنُسِخَ فرض الهجرة.
حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة :" لا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ ونِيَّةٌ وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا ". حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مؤمل بن الفضل قال : حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري : أن أعرابيّاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة، فقال :" وَيْحَكَ إنْ شَأْنَ الهِجْرَةِ شَدِيدٌ فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ " قال : نعم، قال :" فَهَلْ تُؤَدِّي صَدَقَتَها ؟ " قال : نعم، قال :" فاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ البِحَارِ فإنَّ الله لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيئاً " ؛ فأباح النبي صلى الله عليه وسلم تَرْكَ الهجرة.
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد قال : حدثنا عامر قال : أتى رجل عبدالله بن عمرو فقال : أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عَنْهُ ". ورُوي عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائماً.
وقوله تعالى :﴿ فَخُذُوهُمْ واقْتُلُوهُمْ ﴾ فإنه رُوي عن ابن عباس :" فإن تولّوا عن الهجرة ". قال أبو بكر : يعني والله أعلم : فإن تولّوا عن الإيمان والهجرة ؛ لأن قوله تعالى :﴿ حَتَّى يُهَاجِرُوا في سَبِيلِ اللهِ ﴾ قد انتظم الإيمانَ والهجرةَ جميعاً، وقوله :﴿ فإنْ تَوَلَّوْا ﴾ راجع إليهما ؛ ولأن من أسلم حينئذ ولم يهاجر لم يجب قتله في ذلك الوقت، فدل على أن المراد : فإن تولّوا عن الإيمان والهجرة فخذوهم واقتلوهم.
قوله تعالى :﴿ إلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ﴾، قال أبو عبيد : يَصِلُون بمعنى ينتسبون إليهم، كما قال الأعشى :
* إذا اتَّصَلَتْ قالت أبَكْرُ بنُ وائلٍ * وبَكْرٌ سَبَتْها والأُنُوفُ رَوَاغِمُ *
وقال زيد الخيل :
* إذا اتَّصَلَتْ تُنَادِي يا لَقَيْسٍ * وخَصَّتْ بالدُّعَاءِ بني كِلاَبِ *
قال أبو بكر : الانتساب يكون بالرّحِمِ ويكون بالحلف وبالولاء، وجائز أن يدخل فيه أيضاً رجل في عهدهم على حسب ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش من الموادعة فدخلت خُزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو كنانة في عهد قريش.
وقيل إن الآية منسوخة ؛ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ إلاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ﴾، وفي قوله تعالى :﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ﴾ [ الممتحنة : ٨ ] قال : ثم نَسَخَتْ هذه الآيات :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ﴾ [ براءة : ١ ] إلى قوله :﴿ ونفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ [ براءة : ١١ ]. وقال السدي في قوله :﴿ إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ﴾ :" إلا الذين يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل ما لهم ". وقال الحسن :" هؤلاء بنو مدلج، كان بينهم وبين قريش عهد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش عهد، فحرم الله تعالى من بني مدلج ما حرم من قريش ".
مطلب : إذا عقد الإمام عهداً بينه وبين قوم يدخل من كان في حيزهم وأهل نصرتهم
قال أبو بكر : إذا عقد الإمام عهداً بينه وبين قوم من الكفار فلا محالة يدخل فيه من كان في حَيِّزهم ممن يُنسب إليهم بالرحم أو الحلف أو الولاء بعد أن يكون في حَيِّزِهِمْ ومن أهلِ نُصْرَتهم، وأما من كان من قوم آخرين فإنه لا يدخل في العهد ما لم يَشْرُطْ، ومن شَرَطَ من أهل قبيلة أخرى دخوله في عهد المعاهَدِينَ فهو داخل فيهم إذا عقد العهد على ذلك كما دخلت بنو كنانة في عهد قريش.
وأما قول من قال :" إن ذلك منسوخ " فإنما أراد أن معاهدة المشركين وموادعتهم منسوخة بقوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ براءة : ٥ ]، فهو كما قال ؛ لأن الله أعزَّ الإسلام وأهله، فأُمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف لقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] ؛ فهذا حكم ثابت في مشركي العرب، فنسخ به الهدنة والصلح وإقرارَهُم على الكفر وأَمَرَنا في أهل الكتاب بقتالهم حتى يُسْلِموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] إلى قوله :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] ؛ فغير جائز للإمام أن يُقِرَّ أحداً من أهل سائر الأديان على الكفر من غير جزية. وأما مشركو العرب فقد كانوا أسلموا في زمن الصحابة ورجع من ارتدّ منهم إلى الإسلام بعدما قُتِلَ من قُتِلَ منهم، فهذا وجه صحيح في نَسْخِ معاهدة أهل الكفر على غير جزية والدخول في الذمة على أن تُجْرَى عليهم أحكامنا، فكان ذلك حكماً ثابتاً بعدما أعزَّ الله الإسلام وأظهر أهله على سائر المشركين، فاستغنوا بذلك عن العهد والصلح. إلا أنه إن احْتِيجَ إلى ذلك في وقت لعجز المسلمين عن مقاومتهم أو خَوْفٍ منهم على أنفسهم أو ذراريهم، جاز لهم مهادنة العدو ومصالحته من غير جزية يؤدّونها إليهم ؛ لأن حَظْرَ المعاهدة والصلح إنما كان بسبب قوّتهم على العدو واستعلائهم عليهم، وقد كانت الهدنة جائزةً مباحةً في أول الإسلام وإنما حُظرت لحدوث هذا السبب، فمتى زال السبب وعاد الأمر إلى الحال التي كان المسلمون عليها من خوفهم العدو على أنفسهم عاد الحكم الذي كان من جواز الهدنة ؛ وهذا نظير ما ذكرنا من نسخ التوارث بالحلف والمعاقدة بذوي الأرحام، فمتى لم يترك وارثاً عاد حكم التوارث بالمعاقدة.
قوله عز وجل :﴿ أوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ﴾، قال الحسن والسُّدّيُّ :" ضاقت صدورهم على أن يقاتلوكم ". والحَصْرُ الضِّيقُ، ومنه الحصر في القراءة لأنه ضاقت عليه المذاهب فلم يتوجه لقراءته، ومنه المَحْصُورُ في حبس أو نحوه. ورَوَى ابن أبي نجيح عن مجاهد : قال هلال بن عويمر الأسلمي :" هو الذي حصر صدره أن يقاتل المسلمين أو يقاتل قومه وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف ".
قال أبو بكر : ظاهره يدل على أن الذين حَصِرَتْ صدُورُهم كانوا قوماً مشركين محالفين للنبي صلى الله عليه وسلم ضاقت صُدُورُهُمْ أن يكونوا مع قومهم على المسلمين لما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من العهد وأن يقاتلوا مع المسلمين ذوي أرحامهم وأنسابهم، فامر الله تعالى المسلمين بالكفِّ عن هؤلاء إذا اعتزلوهم فلم يقاتلوا المسلمين وإن لم يقاتلوا المشركين مع المسلمين. ومن الناس من يقول إن هؤلاء كانوا قوماً مسلمين كرهوا قتال قومهم من المشركين لما بينهم وبينهم من الرحم، وظاهر الآية وما رُوي في تفسيرها يدل على خلاف ذلك ؛ لأن المسلمين لم يقاتلوا المسلمين قَطُّ في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وإن قعدوا عن القتال معهم ولا كانوا قَطُّ مأمورين بقتال أمثالهم.
وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَاءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ﴾ يعني إن قاتلتموهم ظالمين لهم ؛ يدل على أنهم لم يكونوا مسلمين.
وقوله تعالى :﴿ فإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقُوا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ﴾ يقتضي أن يكونوا مشركين، إذ ليس ذلك من صفات أهل الإسلام ؛ فدل ذلك على أن هؤلاء كانوا قوماً مشركين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم حلفٌ، فأمر الله تعالى نبيه أن يكفَّ عنهم إذا اعتزلوا قتال المسلمين والمشركين وأن لا يكلّفهم قتالَ قومهم من أهل الشرك أيضاً. والتسليط المذكور في الآية له وجهان، أحدهما : تقوية قلوبهم ليقاتلوكم، والثاني : إباحة القتال لهم في الدفع عن أنفسهم.
قوله تعالى :﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُريدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ﴾ ؛ قال مجاهد :" نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيُسْلِمُون ثم يرجعون إلى قريش فَيَرْتَكِسُون في الأوثان يَبْتَغُون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ".
وذكر أسباط عن السدي قال :" نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان يُؤمَنُ في المسلمين والمشركين فينقل الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، فقال :﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ﴾ ".
وظاهر الآية يدلّ على أنهم كانوا يُظْهِرُونَ الإيمان إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم إذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر، لقوله تعالى :﴿ كُلَّما رُدُّوا إلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ﴾، والفتنة ههنا الشرك ؛ وقوله :﴿ أُرْكِسُوا فِيهَا ﴾ يدل على أنهم قبل ذلك كانوا مُظْهِرين للإسلام، فأمر الله تعالى المؤمنين بالكفّ عن هؤلاء أيضاً إذا اعتزلونا وألقوا إلينا السلم، وهو الصلح، كما أمرنا بالكفِّ عن الذين يَصِلُون إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق وعن الذين جاؤونا وقد حصرت صدورهم ؛ وكما قال في آية أخرى :﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ﴾ [ الممتحنة : ٨ ]، وكما قال :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ [ البقرة : ١٩٠ ]، فخصَّ الأمْرَ بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا، ثم نسخ ذلك بقوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] على ما قدمنا من الرواية عن ابن عباس.
ومن الناس من يقول إن هذه الآيات غير منسوخة وجائزٌ للمسلمين تَرْكُ قتال من لا يقاتلهم من الكفار، إذْ لم يثبت أن حكم هذه الآيات في النهي عن قتال من اعتزلنا وكَفَّ عن قتالنا منسوخ.
وممن حُكي عنه أن فرض الجهاد غير ثابت ابنُ شبرمة وسفيانُ الثوري، وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. إلا أن هذه الآيات فيها حَظْرُ قتالِ مَنْ كَفَّ عن قتالنا من الكفار، ولا نعلم أحداً من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين وإنما الخلاف في جواز تَرْكِ قتالهم لا في حظره، فقد حصل الاتّفاق من الجميع على نَسْخِ حَظْرِ القتال لمن كان وَصْفُهُ ما ذكرنا ؛ والله الموفق للصواب.

باب قَتْلِ الخطأ


قال الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلاّ خَطَأً ﴾. قال أبو بكر : قد اخْتُلِفَ في معنى " كان " ههنا، فقال قتادة :" معناه ما كان له ذلك في حكم الله وأمْرِهِ ". وقال آخرون :" ما كان له سبب جواز قتله ". وقال آخرون :" ما كان له ذلك فيما سلف كما ليس له الآن ".
مطلب : في معنى الاستثناء في قوله تعالى :﴿ إلا خطأ ﴾ وفيه فوائد شريفة
واختلف أيضاً في معنى " إلاّ "، فقال قائلون : هو استثناء منقطع بمعنى لكن قد يقتله خطأ، فإذا وقع ذلك فحكمه كَيْتَ وَكَيْتَ، وهو كما قال النابغة :
* وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أُسَائِلُها * عَيَّتْ جَواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أَحَد *
* إلا الأوارِيّ لأْياً ما أُبَيِّنُها * والنُّؤْي كالْحَوْضِ بالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ *
وقال آخرون : هو استثناء صحيح قد أفاد أن له أن يقتله خطأً في بعض الأحوال، وهو أن يرى عليه سِيما المشركين أو يجده في حَيِّزِهِمْ فيظنّه مشركاً، فجائز له قتله وهو خطأ ؛ كما رُوي عن الزهري عن عروة بن الزبير :" أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ، فأخطأ المسلمون يومئذ بأبيه يحسبونه من العدوّ وكرُّوا عليه بأسيافهم، فَطَفِقَ حُذَيفة يقول : إنه أبي ! فلم يفهموا قوله حتى قتلوه، فقال عند ذلك : يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم فزادت حُذَيْفَةَ عنده خيراً. ومن الناس من يقول معناه : ولا خطأ ؛ لأن قتل المؤمن غير مُبَاحٍ بحالِ قتالٍ فغير جائز أن يكون الاستثناء محمولاً على حقيقته. وهذا ليس بشيء من وجهين، أحدهما : أن " إلا " لم توجد بمعنى " ولا ". والثاني : ما أنكره من امتناع إباحة قتل الخطأ موجود في حَظْرِهِ، لأن الخطأ إن كان لا تصح إباحته لأنه غير معلوم عنده أنه خطأ، فكذلك لا يصح حَظْرُهُ ولا النهيُ عنه. وقال آخرون : قد تضمن قوله :﴿ وَمَا كَانَ لمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلا خَطَأً ﴾ إيجابَ العقاب لقاتله لاقتضاء إطلاق النهي لذلك وأفاد بذلك استحقاق المأثم، ثم قال :﴿ إلاَّ خَطَأً ﴾ فإنه لا مأثم على فاعله، وإنما أدخل الاستثناء على ما تضمنه اللفظ من استحقاق المأثم وأخرج منه قاتل الخطأ، والاستثناء مستعمل في موضعه على هذا القول غير معدول به عن وجهه، وإنما دخل على المأثم المستحق بالقتل وأخرج قاتل الخطأ منه ولم يدخل على فعل القاتل فيكون مبيحاً لما حظره بلفظ الجملة.
قال أبو بكر : وهذا وجه صحيح سائغ ؛ وتأويلُ من تأوّله على إباحة قتل الخطأ فيمن يظنه مشركاً فإنه معلوم أنه لم يصحَّ له ذلك إلا على الصفة المشروطة إن كان ذلك إباحةً، وهو أن يكون ذلك خطأً عند القاتل، وإن كان قَتْلُ المسلم الذي في حَيِّز العدوّ قصد بالقتل لا يكون خطأً عند القاتل وإنما عنده أنه قَتْلُ عمدٍ مأمور به، فغير جائز أن يكون ذلك مراد الآية ؛ لأن الإباحة على قول هذا القائل لم يوجد شرطها وهو أن يكون قتل خطأ عند القاتل، ألا ترى أنه إذا قال " لا تقتله عمداً " اقتضى النهي قتلاً بهذه الصفة عند القاتل، وإذا قال " لا تقتله بالسيف " فإنما حظر عليه قتلاً بهذه الصفة ؟ فكذلك قوله :﴿ إلاَّ خَطَأً ﴾ إذا كان قد اقتضى إباحة قتل الخطأ فواجب أن يكون شرطُ الإباحة أن يكون عنده أنه خطأ، وذلك محال لا يجوز وقوعه ؛ لأن الخطأ هو الذي لا يعلم القاتل أنه مخطىءٌ فيه، والحال التي لا يعلمها لا يجوز أن يتعلق بها حَظْرٌ ولا إباحةٌ.
وقال أصحابنا : القتل على أنحاء أربعة : عمد، وخطأ، وشبه عمد، وما ليس بعمد ولا خطأ ولا شبه عمد. فالعمد ما تعمَّدَ ضَرْبَهُ بسلاح مع العلم بحال المقصود به. والخطأ على ضربين، أحدهما : أن يقصد رَمْيَ مشرك أو طائر فيصيب مسلماً، والثاني : أن يظنه مشركاً لأنه في حَيِّز أهل الشرك أو عليه لباسهم ؛ فالأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد. وشِبْهُ العَمْدِ ما تعمَّدَ ضَرْبَهُ بغير سلاح من حجر أو عصا ؛ وقد اختلف الفقهاء في ذلك وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما ما ليس بعمد ولا شِبْهَ عَمْدٍ ولا خطأ، فهو قتل الساهي والنائم ؛ لأن العمد ما قصد إليه بعينه، والخطأ أيضاً الفعل فيه مقصود إلا أنه يقع الخطأ تارة في الفعل وتارة في القصد، وقتل الساهي غير مقصود أصلاً فليس هو في حَيِّز الخطأ ولا العمد، إلا أن حكمه حكم الخطأ في الدية والكفارة.
قال أبو بكر : وقد ألحق بحكم القتل ما ليس بقتل في الحقيقة لا عمداً ولا غير عمد، وذلك نحو حافر البئر وواضع الحجر في الطريق إذا عطب به إنسانٌ ؛ هذا ليس بقاتل في الحقيقة، إذ ليس له فِعْلٌ في قتله ؛ لأن الفعل مِنَّا إما أن يكون مباشرة أو متولداً، وليس من واضع الحجر وحافر البئر فِعْلٌ في العاثر بالحجر والواقع في البئر لا مباشرة ولا تولداً، فلم يكن قاتلاً في الحقيقة ؛ ولذلك قال أصحابنا : إنه لا كفّارة عليه. وكان القياس أن لا تجب عليه الدية، ولكن الفقهاء متفقون على وجوب الدية فيه، قال الله تعالى :﴿ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسْلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ ﴾ ولم يذكر في الآية من عليه الدية من القاتل أو العاقلة.
وقد وردت آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب دية الخطأ على العاقلة، واتّفق الفقهاء عليه ؛ منها ما رَوَى الحجاجُ عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال :" كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفكّوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين ". ورَوَى ابنُ جُرَيج عن ابي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه كتب على كل بطن عقوله، ثم كتب أنه لا يحلّ أن يتولى مولى رجل بغير إذنه ". وروى مجالد عن الشعبي عن جابر : أن امرأتين من هُذَيْلٍ قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دِيَةَ المقتولة على عاقلة القاتلة وترك زوجها وولدها، فقال :" عاقِلَةُ المَقْتُولَةِ مِيَراثُها لنا " فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا، مِيرَاثُها لزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا " ؛ قال : وكانت حبلى، فألْقَتْ جنيناً، فخاف عاقلةُ القاتلة أن يضمنهم، فقالوا : يا رسول الله لا شَرِبَ ولا أَكَلَ ولا صَاحَ ولا استهَلَّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هذا سَجْعُ الجَاهِلِيَّةِ " فقضى في الجنين غُرَّةً عبداً أو أمَةً.
وروى محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين عبداً أو أَمَةً، فقال الذي قُضِيَ عليه العقلُ : أنؤدي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا اسْتَهَلَّ فمثل ذلك بطل ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنّ هذا لَقَوْلُ الشَّاعِرِ، فيه غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ".
ورَوَى عبدالواحد بن زياد عن مجالد عن الشعبي عن جابر :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الجنين غرّة على عاقلة القاتل ". ورَوَى الأعمش عن إبراهيم :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل العقل على العَصَبَةِ ". وعن إبراهيم قال :" اختصم عليّ والزبير في ولاء موالي صفية إلى عمر، فقضى بالميراث للزبير والعقل على عليّ رضي الله عنه ".
ورُوي عن عليّ وعمر في قوم أجلوا عن قتيل أن الدية على بيت المال، وعن عمر في قتيل وُجِدَ بين وداعة وحيّ آخر أنه قضى بالدية على العاقلة. فقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب دية الخطأ على العاقلة واتّفق السلف وفقهاء الأمصار عليه.
فإن قيل : قال الله تعالى :﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بجَرِيرَةِ أبِيهِ ولا بِجَرِيرَةِ أخِيهِ "، وقال لأبي رمثة وابنه :" إنّه لا يَجْنِي عَلَيْكَ ولا تَجْني عَلَيْهِ "، والعقول أيضاً تمنع أخذ الإنسان بذنب غيره. قيل له : أما قوله تعالى :﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ] فلا دلالة فيه على نفي وجوب الدية على العاقلة ؛ لأن الآية إنما نَفَتْ أن يؤخذ الإنسان بذنب غيره، وليس في إيجاب الدية على العاقلة أخْذَهُمْ بذنب الجاني، إنما الدية عندنا على القاتل وأمْرُ هؤلاء القوم بالدخول معه في تحملها على وجه المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب جنايته، وقد أوجب الله في أموال الأغنياء حقوقاً للفقراء من غير إلزامهم ذنباً لم يذنبوه بل على وجه المواساة، وأمر بصلة الأرحام بكل وجه أمكن ذلك، وأمر ببرِّ الوالدين ؛ وهذه كلها أمور مندوب إليها للمواساة وصلاح ذات البَيْنِ ؛ فكذلك أُمِرَتِ العاقلةُ بتحمل الدية عن قاتل الخطأ على جهة المواساة من غير إجحافٍ بهم وبه، وإنما يلزم كل رجل منهم ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم ويجعل ذلك في أُعطياتهم إذا كانوا من أهل الديوان ومؤجلة ثلاث سنين ؛ فهذا مما نُدِبُوا إليه من مكارم الأخلاق. وقد كان تحمل الديات مشهوراً في العرب قبل الإسلام، وكان ذلك مما يُعَدُّ من جميل أفعالهم ومكارم أخلاقهم ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" بُعِثْتُ لأتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلاَقِ "، فهذا فِعْلٌ مستحسنٌ في العقول مقبولٌ في الأخلاق والعادات ؛ وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يُؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه ولا يجني عليك ولا تجني عليه ". لا ينفي وجوب الدية على العاقلة على هذا النحو الذي ذكرناه من معنى الآية من غير أن يُلام على فعل الغير أو يُطَالَبَ بذنب سواه.
ولوجوب الدية على العاقلة وجوه سائغة مستحسنة في العقول ؛ أحدها : أنه جائز أن يتعبد الله تعالى بدياً بإيجاب المال عليهم لهذا الرجل من غير قتل كان منه، كما أوجب الصدقات في مال الأغنياء للفقراء. والثاني : أن موضوع الدية على العاقلة إنما هو على النُّصْرَةِ والمعونة. ولذلك أوجبها أصحابنا على أهل ديوانه دون أقربائه لأنهم أهل نصرته، ألا ترى أنهم يتناصرون على القتال والحماية والذبِّ عن الحريم ؟ فلما كانوا متناصرين في القتال والحماية أُمروا بالتناصر والتعاون على تحمُّلِ الدية ليتساووا في حملها كما تساووا في حماية بعضهم بعضاً عند القتال. والثالث : أن في إيجاب الدية على العاقلة زوال الضغينة والعداوة من بعضهم لبعض إذا كانت قبل ذلك، وهو داعٍ إلى الألفة وصلاح ذات البين، ألا ترى أن رجلين لو كانت بينهما عداوة فتحمل أحدهما عن صاحبه ما قد لحقه لأدَّى ذلك إلى زوال العداوة وإلى الألفة وصلاح ذات البَيْنِ ؟ كما لو قصده إنسان بضرر فعاونه وحماه عنه انْسَلَّت سَخيمَةُ قلبه وعاد إلى سلامة الصدر والموالاة والنصرة. والرابع : أنه إذا تحمل عنه جنايته حمل عنه القاتل إذا جنى أيضاً، فلم يذهب حمله للجناية عنه ضياعاً بل كان له أثر محمود يستحق مثله عليه إذا وقعت منه جناية. فهذه وجوه كلها مستحسنة في العقول غير مدفوعة، وإنما يُؤْتَى الملحدُ المتعلق بمثله من ضيق عَطَنِهِ وقلة معرفته وإعراضه عن النظر والفكر ؛ والحمد لله على حسن هدايته وتوفيقه.
ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب دِيَ
قوله تعالى :﴿ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ ﴾ الآية. رُوي أن سبب نزول هذه الآية أن سَرِيَّةً للنبي صلى الله عليه وسلم لقيت رجلاً ومعه غُنَيْمَاتٍ له، فقال : السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقتله رجل من القوم ؛ فلما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال :" لِمَ قَتَلْتَهُ وقَدْ أَسْلَمَ ؟ " فقال : إنما قالها متعوذاً من القتل، فقال :" هَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ! " وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم دِيَتَهُ إلى أهله وردَّ عليهم غُنَيْماتِهِ. قال ابن عمر وعبدالله بن أبي حَدْرَد : القاتلُ محلّم بن جثّامة قتل عامر بن الأضبط الأشجعي. ورُوي أن القاتل مات بعد أيام، فلما دُفِنَ لفظته الأرض ثلاث مرات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ الأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَلَكِنّ الله أَرَادَ أنْ يُرِيكُمْ عِظَمَ الدَّمِ عِنْدَهُ " ثم أمر أن يُلْقى عليه الحجارة. وهذه القصة مشهورة لمحلم بن جثامة، وقد ذكرنا حديث أسامة بن زيد أنه قتل في سَرِيَّة رجلاً قال لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" قَتَلْتَهُ بعدما قَالَ لا إله إلا الله ! " فقال : إنما قالها تعوُّذاً، فقال :" هَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ! مَنْ لَكَ بلا إله إلا الله ؟ " وذكرنا أيضاً حديث عقبة بن مالك الليثي في هذا المعنى وأن الرجل قال : إني مسلم، فقتله، فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم وقال :" إنّ الله أبَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ مُؤْمِناً ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن عبيدالله بن عدي بن الخيار عن المقداد بن الأسود، أنه أخبره أنه قال : يا رسول الله أرأيتَ إن لقيتُ رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يديّ بالسيف ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تَقْتُلْهُ ! " فقلت : يا رسول الله إنه قطع يدي، قال :" لا تَقْتُلْهُ فإنْ قَتَلْتَهُ فإنّهُ بمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أنْ تَقْتُلَهُ وأَنْتَ بمَنْزِلَتِهِ قَبْلِ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتي قَالَ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم قال : حدثنا المسعودي عن قتادة عن أبي مجلز عن أبي عبيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا شَرَعَ أَحَدُكُمُ الرُّمْحَ إلى الرَّجُلِ فإنْ كان سِنَانُهُ عِنْدَ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ فقال لا إله إلاّ اللَّهُ فَلْيَرْجِعْ عَنْهُ الرُّمْحَ ". وقال أبو عبيدة :" جعل الله تعالى هذه الكلمة أَمَنَة المسلم وعِصْمَةَ ماله ودمه، وجعل الجزية أمَنَةَ الكافر وعِصْمَةَ ماله ودمه " ؛ وهو نظير ما رُوي في آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إله إلا الله "، وفي بعضها :" وأنّ مُحَمّداً رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فإذا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إلاّ بحَقِّهَا وحِسَابُهُمْ عَلَى الله "، رواه عمر وجرير بن عبدالله وابن عمر وأنس بن مالك وأبو هريرة. وقال لأبي بكر الصديق حين أراد قَتْلَ العرب لما امتنعوا من أداء الزكاة : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتّى يَقُولُوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عَصَمُوا منّي دِمَاءَهُمْ وأموالهم " فقال أبو بكر : إلاّ بحقّها، وهذا من حقِّها ؛ فاتفقت الصحابة على صحة هذا الخبر، وهو في معنى قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً ﴾، فَحَكَمَ الله تعالى بصحة إيمان من أظهر الإسلام، وأمرنا بإجرائه على أحكام المسلمين وإن كان في المُغَيَّبِ على خلافه.
وهذا مما يُحتجّ به في قبول توبة الزنديق متى أظهر الإسلام ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره إذا أظهر الإسلام ؛ وهو يوجب أن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو قال إنّي مسلم، أنه يُحكم له بحكم الإسلام، لأن قوله تعالى :﴿ لمن ألقى إليكم السَّلَمَ ﴾ إنما معناه : لمن استسلم فأظهر الانقياد لما دُعي إليه من الإسلام. وإذا قرىء " السَّلامَ " فهو إظهار تحية الإسلام، وقد كان ذلك عَلَماً لمن أظهر به الدخول في الإسلام ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قتل الرجل الذي قال أسلمت والذي قال لا إله إلا الله :" قَتَلْتَهُ بَعْدَمَا أسْلَمَ ؟ " فحكم له بالإسلام بإظهار هذا القول.
وقال محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير :" لو أنّ يهوديّاً أو نصرانيّاً قَال أنا مسلم لم يكن بهذا القول مسلماً، لأن كلهم يقولون نحن مسلمون ونحن مؤمنون ويقولون إن ديننا هو الإيمان وهو الإسلام، فليس في هذا دليل على الإسلام منهم " ؛ وقال محمد :" ولو أن رجلاً من المسلمين حمل على رجلٍ من المشركين ليقتله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كان هذا مسلماً، وإن رجع عن هذا ضرب عنقه ؛ لأن هذا هو الدليل على الإسلام ".
مطلب : في بيان المراد من قوله عليه السلام :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "
قال أبو بكر : لم يجعل اليهودي مسلماً بقوله :" أنا مسلم أو مؤمن " ؛ لأنهم كذلك يقولون، ويقولون الإيمان والإسلام هو ما نحن عليه ؛ فليس في هذا القول دليل على إسلامه، وليس اليهودي والنصراني بمنزلة المشركين الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا عبدة أوثان، فكان إقرارهم بالتوحيد وقول القائل منهم إني مسلم وإني مؤمن تركاً لما كان عليه ودخولاً في الإسلام، فكان يُقتصر منه على هذا القول لأنه كان لا يَسمح به إلا وقد صَدَّق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتّى يَقُولُوا لا إله إلاّ الله، فإذا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ "، وإنما أراد المشركين بهذا القول دون اليهود ؛ لأن اليهود قد كانوا يقولون :" لا إله إلا الله " وكذلك النصارى يطلقون ذلك وإن ناقضوا بعد ذلك في التفضيل فيثبتونه ثلاثة ؛ فعلمنا أن قول :" لا إله إلا الله " إنما كان عَلَماً لإسلام مشركي العرب لأنهم كانوا لا يعترفون بذلك إلا استجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتصديقاً له فيما دعاهم إليه، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ﴾ [ الصافات : ٣٥ ] ؛ واليهود والنصارى يوافقون المسلمين على إطلاق هذه الكلمة وإنما يخالفون في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فمتى أظهر منهم مُظْهِرٌ الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو مسلم.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في اليهودي والنصراني إذا قال :" أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " ولم يقل إني داخل في الإسلام ولا بَرِيءَ من اليهودية ولا من النصرانية، لم يكن بذلك مسلماً. وأحسب أني قد رأيت عن محمد مثل هذا، إلاّ أن الذي ذكره محمد في السِّيَرِ الكبير خلاف ما رواه الحسن بن زياد، ووجه ما رواه الحسن بن زياد أن هؤلاء من يقول إن محمداً رسول الله ولكنه رسول إليكم، ومنهم من يقول إن محمداً رسول الله ولكنه لم يبعث بعد وسيبعث ؛ فلما كان فيهم من يقول ذلك في حال إقامته على اليهودية أو النصرانية لم يكن في إظهاره لذلك ما يدل على إسلامه حتى يقول إني داخل في الإسلام أو يقول إني بريء من اليهودية أو النصرانية ؛ فقوله عز وجل :﴿ وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً ﴾ لو خُلِّينا وظاهره لم يدلّ على أن فاعل ذلك محكوم له بالإسلام ؛ لأنه جائز أن يكون المراد أن لا تَنْفُوا عنه الإسلام ولا تثُبتوه ولكن تَثَبَّتُوا في ذلك حتى تعلموا منه معنى ما أراد بذلك، ألا ترى أنه قال :﴿ إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً ﴾ فالذي يقتضيه ظاهر اللفظ الأمر بالتثبت والنهي عن نفي سِمَةِ الإيمان عنه، وليس في النهي عن نفي سِمَةِ الإيمان عنه إثبات الإيمان والحكم به، ألا ترى أَنّا متى شككنا في إيمان رجل لا نعرف حاله لم يَجُزْ لنا أن نحكم بإيمانه ولا بكفره ولكن نثبت حتى نعلم حاله ؟ وكذلك لو أخبرنا مُخْبِرٌ بخبر لا نعلم صدقه من كذبه لم يَجُزْ لنا أن نكذبه، ولا يكون تركنا لتكذيبه تصديقاً منّا له ؛ كذلك ما وصفنا من مقتضى الآية ليس فيه إثبات إيمانٍ ولا كفرٍ وإنما فيه الأمر بالتثبت حتى نتبين حاله. إلا أن الآثار التي قد ذكرنا قد أوجبت له الحكم بالإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم :" أَقَتَلْتَ مُسْلِماً ؟ " و " قَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ ؟ " وقوله :" أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتّى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحَقِّها "، فأثبت لهم حكم الإسلام بإظهار كلمة التوحيد ؛ وكذلك قوله في حديث عقبة بن مالك الليثي :" إنّ الله تعالى أبَى عليَّ أنْ أقْتُلَ مؤمناً "، فجعله مؤمناً بإظهار هذه الكلمة ؛ ورُوي أن الآية نزلت في مثل ذلك، فدل ذلك على أن مراد الآية إثبات الإيمان له في الحكم بإظهار هذه الكلمة. وقد كان المنافقون يعصمون دماءهم وأموالهم بإظهار هذه الكلمة مع عِلْمِ الله تعالى باعتقادهم الكفر وعِلْمِ النبي صلى الله عليه وسلم بنفاق كثير منهم، فدل ذلك على أن قوله :﴿ وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً ﴾ قد اقتضى الحكم لقائله بالإسلام.
قوله تعالى :﴿ تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ يعني به الغنيمة. وإنما سمّى متاع الدنيا عرضاً لقلة بقائه، على ما رُوي في الرجل الذي قتل الذي أظهر الإسلام وأخذ ما معه.
قوله تعالى :﴿ وإِذَا ضَرَبْتُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ يعني به السير فيها. وقوله تعالى :" فَتَثَبَّتُوا " قرىء بالتاء والنون، وقيل إن الاختيار التبين لأن التثبت إنما هو للتبين، والتثبت إنما هو سبب له.
وقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ ﴾ قال الحسن :" كفاراً مثلهم "، وقال سعيد بن جبير :" كنتم مُسْتَخْفِينَ بدينكم بين قومكم كما استخفوا ".
وقوله تعالى :﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ يعني بإسلامكم، كقوله تعالى :﴿ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ﴾ [ الحجرات : ١٧ ]، وقيل : فمنَّ الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم.
قوله تعالى :﴿ لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضَّرَرِ ﴾ الآية، يعني به تفضيل المجاهدين على القاعدين والحضّ على الجهاد ببيان ما للمجاهدين من منزلة الثواب التي ليست للقاعدين عن الجهاد ؛ ودل به على أن شرف الجزاء على قدر شرف العمل، فذكر بدياً أنهما غير متساويين، ثم بين التفضيل بقوله :﴿ فَضَّلََ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً ﴾.
مطلب : في أن الأغلب على كلمة " غير " أن تكون صفة لا استثناء وفي الفرق بين المعنيين
وقد قرىء " غير " بالرفع والنصب، فالرفع على أنها نَعْتٌ للقاعدين، والنصب على الحال ؛ ويقال إن الاختيار فيها الرفع، لأن الصفة أغلب على " غير " من معنى الاستثناء وإن كان كلاهما جائزاً ؛ والفرق بين " غير " إذا كانت صفة وبينها إذا كانت استثناء أنها في الاستثناء توجب إخراج بعض من كل، نحو " جاءني القوم غير زيد " وليست كذلك في الصفة ؛ لأنك تقول :" جاءني رجل غير زيد " و " غير " ههنا صفة وفي الأول استثناء، وإن كانت في الحالين مخصصة على حد النفي.
وقوله تعالى :﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى ﴾ يعني والله أعلم المجاهدين والقاعدين من المؤمنين. وهذا دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل أحد بعينه ؛ لأنه وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين ؛ وإن كان ثواب المجاهدين أشرف وأجزل، ولو لم يكن القعود عن الجهاد مباحاً إذا قامت به طائفة لما وعد القاعدين الثواب، وفي ذلك دليل على ما ذكرنا أن فرض الجهاد غير معين على كل أحد في نفسه.
وقوله تعالى :﴿ وَفَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ ﴾ ؛ ذكر ههنا :﴿ دَرَجَاتٍ مِنْهُ ﴾ وذكر في أول الآية :﴿ دَرَجَةً ﴾، فإنه رُوي عن ابن جريج أن الأول على أهل الضرب فُضِّلوا عليهم درجة واحدة، والثاني على غير أهل الضرر فضلهم عليهم درجات كثيرة وأجراً عظيماً. وقيل إن الأول على الجهاد بالنفس ففُضِّلوا درجة واحدة، والآخر الجهاد بالنفس والمال ففُضّلوا درجات كثيرة. وقيل إنه أراد بالأول درجة المدح والتعظيم وشرف الدين، وأراد بالآخر درجات الجنة.
فإن قيل : هل في الآية دلالة على مساواة أولي الضرر للمجاهدين في سبيل الله من أجل معنى الاستثناء فيها ؟ قيل له : لا دلالة فيها على التساوي ؛ لأن الاستثناء ورد من حيث كان مخرج الآية تحريضاً على الجهاد وحثّاً عليه، فاستثني أولي الضرر إذ ليسوا مأمورين بالجهاد لا من حيث ألحقوا بالمجاهدين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٥:قوله تعالى :﴿ لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضَّرَرِ ﴾ الآية، يعني به تفضيل المجاهدين على القاعدين والحضّ على الجهاد ببيان ما للمجاهدين من منزلة الثواب التي ليست للقاعدين عن الجهاد ؛ ودل به على أن شرف الجزاء على قدر شرف العمل، فذكر بدياً أنهما غير متساويين، ثم بين التفضيل بقوله :﴿ فَضَّلََ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً ﴾.
مطلب : في أن الأغلب على كلمة " غير " أن تكون صفة لا استثناء وفي الفرق بين المعنيين
وقد قرىء " غير " بالرفع والنصب، فالرفع على أنها نَعْتٌ للقاعدين، والنصب على الحال ؛ ويقال إن الاختيار فيها الرفع، لأن الصفة أغلب على " غير " من معنى الاستثناء وإن كان كلاهما جائزاً ؛ والفرق بين " غير " إذا كانت صفة وبينها إذا كانت استثناء أنها في الاستثناء توجب إخراج بعض من كل، نحو " جاءني القوم غير زيد " وليست كذلك في الصفة ؛ لأنك تقول :" جاءني رجل غير زيد " و " غير " ههنا صفة وفي الأول استثناء، وإن كانت في الحالين مخصصة على حد النفي.
وقوله تعالى :﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى ﴾ يعني والله أعلم المجاهدين والقاعدين من المؤمنين. وهذا دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل أحد بعينه ؛ لأنه وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين ؛ وإن كان ثواب المجاهدين أشرف وأجزل، ولو لم يكن القعود عن الجهاد مباحاً إذا قامت به طائفة لما وعد القاعدين الثواب، وفي ذلك دليل على ما ذكرنا أن فرض الجهاد غير معين على كل أحد في نفسه.
وقوله تعالى :﴿ وَفَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ ﴾ ؛ ذكر ههنا :﴿ دَرَجَاتٍ مِنْهُ ﴾ وذكر في أول الآية :﴿ دَرَجَةً ﴾، فإنه رُوي عن ابن جريج أن الأول على أهل الضرب فُضِّلوا عليهم درجة واحدة، والثاني على غير أهل الضرر فضلهم عليهم درجات كثيرة وأجراً عظيماً. وقيل إن الأول على الجهاد بالنفس ففُضِّلوا درجة واحدة، والآخر الجهاد بالنفس والمال ففُضّلوا درجات كثيرة. وقيل إنه أراد بالأول درجة المدح والتعظيم وشرف الدين، وأراد بالآخر درجات الجنة.
فإن قيل : هل في الآية دلالة على مساواة أولي الضرر للمجاهدين في سبيل الله من أجل معنى الاستثناء فيها ؟ قيل له : لا دلالة فيها على التساوي ؛ لأن الاستثناء ورد من حيث كان مخرج الآية تحريضاً على الجهاد وحثّاً عليه، فاستثني أولي الضرر إذ ليسوا مأمورين بالجهاد لا من حيث ألحقوا بالمجاهدين.

قوله عز وجل :﴿ إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ﴾ الآية. قيل فيه تقبض أرواحهم عند الموت. وقال الحسن : تحشرهم إلى النار. وقيل : إنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يُظهرون الإيمان للمؤمنين خوفاً وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولا يهاجرون إلى المدينة، فبين الله تعالى بما ذكر أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وبتركهم الهجرة. وهذا يدل على فرض الهجرة في ذلك الوقت، لولا ذلك لما ذمَّهم على تركها ؛ ويدل أيضاً على أن الكفار مكلَّفون بشرائع الإسلام معاقَبُون على تركها ؛ لأن الله قد ذمّ هؤلاء المنافقين على ترك الهجرة، وهذا نظير قوله تعالى :﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ﴾ [ النساء : ١١٥ ] فذمّهم على تَرْكِ اتّباع سبيل المؤمنين كما ذمّهم على ترك الإيمان. ودل بذلك على صحة حجة الإجماع، لأنه لولا أن ذلك لازمٌ لما ذمّهم على تركه ولما قرنه إلى مشاقّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على النهي عن المقام بين أظْهُرِ المشركين، لقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾ وهذا يدل على الخروج من أرض الشرك إلى أي أرض كانت من أرض الإسلام. ورُوي عن ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي أن الآية نزلت في قوم من أهل مكة تخلّفوا عن الهجرة وأعطوا المشركين المحبّة وقُتل قوم منهم ببدر على ظاهر الردّة.
ثم استثنى منهم الذين أقعدهم الضعف بقوله :﴿ إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنّسَاءِ والوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ﴾ يعني طريقاً إلى المدينة دار الهجرة.
وقوله تعالى :﴿ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّه أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ﴾ ؛ قال الحسن : عسى من الله واجبة. وقيل : إنها بمنزلة الوعد، لأنه لا يخبر بذلك عن شكّ. وقيل : إنما هذا على شكّ العباد، أي كونوا أنتم على الرجاء والطمع.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ في سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ في الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ﴾ ؛ قيل في المُرَاغَمِ أنه أراد متسعاً لهجرته ؛ لأن الرغم أصله الذلّ، تقول : فعلت ذلك على الرغم من فلان، أي فعلته على الذلّ والكُرْهِ. والرَّغامُ التراب ؛ لأنه يتيسر لمن رامه مع احتقاره. وأرغم الله أنفه أي ألصقه بالتراب إذلالاً له ؛ فقال تعالى :﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ﴾ أي يجد في الأرض متسعاً سهلاً، كما قال تعالى :﴿ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ﴾ [ الملك : ١٥ ]. فمراغم وذلول متقاربان في المعنى. وقيل في المراغم أنه ما يرغم به من كان يمنعه من الهجرة. وأما قوله تعالى :﴿ وسعة ﴾، فإنه رُوي عن ابن عباس والربيع بن أنس والضحاك : أنه السعة في الرزق. ورُوي عن قتادة : أنه السعة في إظهار الدين لِمَا كان يلحقهم من تضييق المشركين عليهم في أمر دينهم حتى يمنعوهم من إظهاره.
وقوله عز وجل :﴿ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكُهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله ﴾ فيه إخبار بوجوب أجر من هاجر إلى الله ورسوله وإن لم تتمّ هجرته، وهذا يدل على أن من خرج متوجهاً لفعل شيء من القُرَبِ أن الله يجازيه بقدر نيّته وسَعْيِهِ وإن اقْتُطِعَ دونه، كما أوجب الله أجْرَ من خرج مهاجراً وإن لم تتمّ هجرته. وفيه ما يدل على صحة قول أبي يوسف ومحمد فيمن خرج يريد الحج ثم مات في بعض الطريق وأوصى أن يُحَجَّ عنه أنه يحجّ عنه من الموضع الذي مات فيه، وكذلك الحاجَ عن الميت أو عمن ليس عليه فرض الحج بنفسه أنه يحجّ عنه من حيث مات الذي قصد للحج ؛ لأن الله قد كتب له بمقدار ما كان له من الخروج والنفقة، فلما كان ذلك محتسباً للأوّل كان الذي وجب أن يقضى عنه ما بقي.
مطلب : فيمن قال :" إن خرجت من داري إلا إلى الصلاة فعبدي حر " فخرج إليها ثم لم يصل وتوجه إلى حاجة أخرى لم يحنث
وفيه الدلالة على أن من قال :" إن خرجتُ من داري إلا إلى الصلاة أو إلى الحج فعبدي حُرٌّ "، فخرج يريد الصلاة أو الحج ثم لم يصل ولم يحجّ وتوجّه إلى حاجة أخرى أنه لا يحنث في يمينه ؛ لأن خروجه بدياً كان للصلاة أو للحج لمقارنة النيّة له، كما كان خروج من خرج مهاجراً قُرْبَةً وهجرةً لمقارنَةِ النية واقتطاع الموت له عن الوصول إلى دار الهجرة لم يبطل حكم الخروج على الوجه الذي وجد بدياً عليه ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ولِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُها فهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ "، فأخبر أن أحكام الأفعال متعلقة بالنيات، فإذا كان خروجه على نية الهجرة كان مهاجراً، وإذا كان على نية الغزو كان غازياً.
واستدلّ قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سَهْمُهُ من الغنيمة لوَرَثَتِهِ. وهذه الآية لا تدل على ما قالوا ؛ لأن كونها غنيمة متعلق بحيازتها، إذ لا تكون غنيمة إلا بعد الحيازة ؛ وقال الله تعالى :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ﴾ [ الأنفال : ٤١ ]، فمن مات قبل أن يغنم فهو لم يغنم شيئاً فلا سهم له ؛ وقوله تعالى :﴿ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّه ﴾ لا دلالة فيه على وجوب سهمه ؛ لأنه لا خلاف أنه لو خرج غازياً من بيته فمات في دار الإسلام قبل أن يدخل دار الحرب أنه لا سَهْمَ له، وقد وجب أجْرُهُ على الله كما وجب أجْرُ الذي خرج مهاجراً ومات قبل بلوغه دار هجرته ؛ والله أعلم.

باب صلاة السفر


قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فأباح الله تعالى القَصْرَ المذكور في هذه الآية بمعنيين، أحدهما : السفر وهو الضرب في الأرض، والآخر : الخوف. واختلف السلف في معنى القَصْرِ المذكور فيها ما هو، فرُوي عن ابن عباس قال :" فرض الله تعالى صلاة الحضر أربعاً وصلاة السفَر ركعتين والخوف ركعة على لسان نبيكم عليه السلام ". ورَوَى يزيد الفقير عن جابر قال :" صلاة الخوف ركعة ركعة ". ورُوي عن مجاهد أنه قَصَرَ العدد من أربع إلى ثنتين. ورَوَى ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال : قال :" قصرها في الخوف والقتال والصلاة في كل حال راكباً وماشياً، فأما صلاة النبي عليه السلام وصلاة الناس في السفر ركعتين فليس بقَصْرٍ ". ورُوي عن ابن عباس رواية أخرى غير ما قدمنا في القصر، وهي أنه قال :" إنما هو قَصْرُ حدود الصلاة وأنْ تكبر وتخفض رأسك وتومىء إيماءً ".
قال أبو بكر : وأوْلى المعاني وأشبهها بظاهر الآية ما رُوي عن ابن عباس وطاوس في أنه قَصْرٌ في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء وترك القيام إلى الركوب، وجائز أن يسمَّى المشي في الصلاة قصراً إذ كان مثله في غير الخوف يفسدها. وما رُوي عن ابن عباس وجابر في أن صلاة الخوف ركعةٌ فمحمولٌ على أن الذي يصلّيه المأموم مع الإمام ركعة ؛ لأنه يجعل الناس طائفتين فيصلّي بالتي معه ركعة ثم يمضون إلى تجاهِ العدو ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلِّي بها ركعة ويسلّم بتلك، فيصير لكل طائفة من المأمومين ركعة ركعة مع الإمام ثم يَقْضُون ركعة ركعة ؛ فيكون ما رُوي عن ابن عباس في أنه قصر في صفة الصلاة ؛ غير مخالف لقوله إن صلاة الخوف ركعة، لأن الآثار قد تواترت في فعل النبي عليه السلام لصلاة الخوف مع اختلافها، وكلها موجبة للركعتين وليس في شيء منها أنه صلاّها ركعة، إلا أنها لكل طائفة ركعة مع الإمام والقضاء لركعة دون الاقتصار على واحدة. ولو كانت صلاة الخوف ركعة واحدة لما اختلف حكم النبي عليه السلام وحكم المأمومين فيها، فلما نقل ابن عباس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين، علمنا أن فرض صلاة الخائف كفرض غيره وأن ما رُوي من أنه كان للقوم ركعة ركعة على معنى أنها كانت ركعة ركعة مع النبي عليه السلام وأنهم قضوا ركعة ركعة على ما رُوي في سائر الأخبار. والدليل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في صفة الصلاة أو المشي والاختلاف فيها على النحو الذي قدمنا ذكره دون أعداد ركعاتها وأن مذهب ابن عباس في القصر ما وصفنا دون نقصان عدد الركعات، ما رَوَى مجاهدٌ أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال : إني وصاحبٌ لي خرجنا في سفر فكنتُ أُتِمُّ وكان صاحبي يقصر، فقال ابن عباس : أنت الذي تقصر وصاحبك الذي كان يتمّ. فأخبر ابن عباس أن القَصْرَ ليس في عدد الركعات، وأن الركعتين في السفر ليستا بقصر. ويدل على ذلك ما رَوَى سفيان عن زبير الياميّ عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عمر قال :" صلاة السفر ركعتان وصلاة الفطر والأضحى ركعتان تمامٌ غيرُ قَصْرٍ على لسان نبيكم عليه السلام "، وقد دخل في ذلك صلاة الخوف في السفر، لأنه ذكر جميع هذه الصلوات وأخبر أنها تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فثبت بذلك أن القصر المذكور في الآية هو على ما وصفنا دون أعداد ركعات الصلاة.
فإن قيل : رُوي عن يعلى بن أمية أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب : كيف نقصر وقد أمنا وقال الله تعالى :﴿ فَلَيْسَ عَليْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ؟ فقال : عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بها عليكم فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ ". فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات وأن ذلك كان مفهوماً عندهم من معنى الآية. قيل له : لما كان اللفظ محتملاً للمعنيين من أعداد ركعات الصلاة من صِفَتِهَا على الوجه الذي بيَّنَّا لم يمتنع أن يكون قد سبق في وهم عمر ويعلَى بن أمية ما ذُكر، وأن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القصر في حال الأمن لا على أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن قصر الآية هو في العدد فأجابه بما وصف ؛ ولكنه جائز أن يكون قال للنبي صلى الله عليه وسلم : كيف نقصر وقد أمنا، من غير أن ذكر له تأويل الآية ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يَقْصُرُ في مغازيه ثم قَصَرَ في الحجّ في حال الأمن وزوال القتال، فقال :" صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بها عَلَيْكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ " يعني أن الله قد أسقط عنكم في السفر فرض الركعتين في حال الخوف والأمن جميعاً. وقد رَوَى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة السفر أنها تمام غير قصر، فجائز أن يكون ظنَّ بدياً أن قصر الخوف هو في عدد الركعات، فلما سمعه يقول :" صَلاةُ السَّفَرِ رَكعَتَانِ تَمامٌ غَيْرُ قَصْرٍ " علم أن قصر الآية إنما هو في صفة الصلاة لا في عدد الركعات. وإذا صح بما وصفنا أن المراد بالقصر ما ذكرنا لم تكن في الآية دلالة على فرض المسافر ولا على أنه مخيَّر بين الإتمام والقصر، إذْ لا ذكر له في الآية.
وقد اختلف الفقهاء في فرض المسافر، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد :" فرض المسافر ركعتان إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث، فإن صلَّى المسافر أربعاً ولم يَقْعُدْ في الاثنتين فسدتْ صلاته، وإن قعد فيهما مقدار التشهد تمت صلاته، بمنزلة من صلَّى الفجر أربعاً بتسليمة "، وهو قول الثوري. وقال حماد بن أبي سليمان :" إذا صلى أربعاً أعاد ". وقال الحسن بن صالح :" إذا صلّى أربعاً متعمداً أعاد إذا كان ذلك منه الشيء اليسير، فإذا طال في سفره وكثر لم يُعِدْ " قال :" وإذا افتتح الصلاة على أن يصلِّي أربعاً استقبل الصلاة حتى يبتدئها بالنية على ركعتين، وإن صلَّى ركعتين وتشهد ثم بدا له أن يتم فصلى أربعاً أعاد، وإن نوى أن يصلّي أربعاً بعدما افتتح الصلاة على ركعتين ثم بدا له فسلم في الركعتين أجْزَتْهُ ". وقال مالك :" إذا صلّى المسافر أربعاً فإنه يعيد ما دام في الوقت، فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه " قال :" ولو أن مسافراً افتتح المكتوبة ينوي أربعاً فلما صلّى ركعتين بدا له فسلم، أنه لا يجزيه، ولو صلَّى مسافر بمسافِرِينَ فقام في الركعتين فسبّحوا به فلم يرجع فإنهم يقعدون ويتشهدون ولا يتبعونه ". وقال الأوزاعي :" يصلي المسافر ركعتين فإن قام إلى الثالثة وصلاها فإنه يلغيها ويسجد سجدتي السهو ". وقال الشافعي :" ليس للمسافر أن يصلي ركعتين إلا أن ينوي القصر مع الإحرام، فإذا أحرم ولم يَنْو القصر كان على أصل فرضه أربعاً ".
قال أبو بكر : قد بينا أنه ليس في الآية حكم القصر في أعداد الركعات، ولم يختلف الناس في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره كلها في حال الأمن والخوف، فثبت أن فرض المسافر ركعتان بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبيانه لمراد الله تعالى ؛ قال عمر بن الخطاب : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن القصر في حال الأمن، فقال :" صَدَقةٌ تصدَّق الله بها عليكم فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ "، وصدقة الله علينا هي إسقاطه عنا، فدلّ ذلك على أن الفَرْضَ ركعتان ؛ وقوله :" فاقبلوا صدقته " يوجب ذلك ؛ لأن الأمر للوجوب، فإذا كنا مأمورين بالقصر فالإتمام منهيٌّ عنه. وقال عمر بن الخطاب :" صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم "، فأخبر أن الفرض ركعتان وأنه ليس بقصر بل هو تمام، كما ذكر صلاة الفجر والجمعة والأضحى والفطر وعزا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فصار ذلك بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم :" صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر "، وذلك ينفي التخيير بين القصر والإتمام. ورُوي عن ابن عباس قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافراً صلَّى ركعتين حتى يرجع ". ورَوَى علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين قال : حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يصلِّي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة، وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلِّي إلا ركعتين، وقال لأهل مكة :" صَلّوا أرْبَعاً فإنّا قَوْمٌ سَفَرٌ ". وقال ابن عمر : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يَزِدْ على ركعتين، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في السفر فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله تعالى، وقد قال الله تعالى :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ [ الأحزاب : ٢١ ]. ورَوَى بقية بن الوليد قال : حدثنا أبان بن عبدالله عن خالد بن عثمان عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" صَلاةُ المُسَافِرِ رَكْعَتَانِ حَتَّى يَؤُوبَ إلى أَهْلِهِ أَوْ يَمُوت ". وقال عبدالله بن مسعود :" صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنًى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين ". وقال مورّق العجلي : سئل ابن عمر عن الصلاة في السفر، فقال :" ركعتين ركعتين من خالف السنة كفر ". فهذه أخبار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في فِعْلِ الركعتين في السفر لا زيادة عليهما، وفي ذلك الدلالة من وجهين على أنهما فرض المسافر، أحدهما : أن فرض الصلاة مُجْمَلٌ في الكتاب مفتقِرٌ إلى البيان، وفِعْلُ النبي عليه السلام إذا ورد على وجه البيان فهو كبيانه بالقول يقتضي الإيجاب، وفي فعله صلاةَ السفر ركعتين بيان منه أن ذلك مراد الله، كفعله لصلاة الفجر وصلاة الجمعة وسائر الصلوات. والوجه الثاني : لو كان مراد الله الإتمام أو القصر على ما يختاره المسافر لما جاز للنبي عليه السلام أن يقتصر بالبيان على أحد الوجهين دون الآخر، وكان بيانه للإتمام في وزن بيانه للقصر، فلما ورد البيان إلينا من النبي عليه السلام في القصر دون الإتمام دلّ ذلك على أنه مراد الله دون غيره، ألا ترى أنه لما كان مراد الله في رخصة المسافر في الإفطار أحد شيئين من إفطار أو صوم وَرَدَ البيان من النبي عليه السلام تارةً بالإفطار وتارةً بالصوم ؟ وأيضاً لما صلَّى عثمان بمِنًى أربعاً أنكرت عليه الصحابة ذلك، فقال عبدالله بن مسعود : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق، فَلَوَدِدْتُ أن حظّي من أربع ركعتان متقبَّلتان ؛ وقال ابن عمر : صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر ؛ وقال عثمان : أنا إنما أتممتُ لأني تأهلت بهذا البلد وسمعت النبي عليه السلام يقول :" مَنْ تَأَهَّلَ بِبَلَدٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ "، فلم يخالفهم عثمان في منع الإتمام وإنما اعتذر بأنه قد تأهّل بمكة فصار من أهلها ؛ وكذلك قولنا في أهل مكة إنهم لا يقصرون. وقال ابن عباس :" فرض الله تعالى الصلاة في السفر ركعتين وفي الحضر أربعاً " ؛ وقالت عائشة :" أول ما فُرِضَت الصلاة ركعتان ركعتان ثم زِيدَ في صلاة الحضر وأقِرَّت صلاةُ السفر على ما كانت عليه "، فأخبرت أن فرض المسافر في الأصل ركعتان وفرض المق

باب صلاة الخوف


قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ﴾ الآية. قال أبو بكر : قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على ضروب مختلفة ؛ واختلف فقهاء الأمصار فيها، فقال أبو حنيفة ومحمد :" تَقُومُ طائفة مع الإمام وطائفة بإزاء العدوّ فيصلِّي بهم ركعة وسجدتين ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم، ثم تأتي الطائفة الأخرى التي بإزاء العدوّ فيصلّي بهم ركعة وسجدتين ويسلّم وينصرفون إلى مقام أصحابهم، ثم تأتي الطائفة التي بإزاء العدوّ فيقضون ركعة بغير قراءة ويتشهّدوا ويسلّموا ويذهبوا إلى وجه العدوّ، ثم تأتي الطائفة الأخرى فيقضون ركعة وسجدتين بقراءة ".
وقال ابن أبي ليلى :" إذا كان العدوّ بينهم وبين القِبْلَةِ جُعِلَ الناسُ طائفتين، فيكبّر ويكبرون ويركع ويركعون جميعاً معه، ويسجد الإمام والصف الأول، ويقوم الصفّ الآخر في وجوه العدوّ، فإذا قاموا من السجود سجد الصفّ المؤخر، فإذا فرغوا من سجودهم قاموا وتقدم الصفّ المؤخر وتأخر الصف المقدَّم، فيصلِّي بهم الإمام الركعة الأخرى كذلك. وإن كان العدوّ في دُبُرِ القِبْلَة قام الإمام ومعه صفٌّ مستقبل القبلة والصفّ الآخر مستقبل العدوّ، فيكبّر ويكبرون جميعاً ويركع ويركعون جميعاً، ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين، ثم ينقلبون فيكونون مستقبلي العدوّ، ثم يجيء الآخرون فيسجدون ويصلّي بهم الإمام جميعاً الركعة الثانية، فيركعون جميعاً ويسجد الصفّ الذي معه، ثم ينقلبون إلى وجه العدوّ، ويجيء الآخرون فيسجدون معه ويفرغون، ثم يسلّم الإمام وهم جميعاً ".
قال أبو بكر : ورُوي عن أبي يوسف في صلاة الخوف ثلاث روايات، إحداها مثل قول أبي حنيفة ومحمد، والأخرى مثل قول ابن أبي ليلى إذا كان العدو في القبلة، وإذا كان في غير القبلة فمثل قول أبي حنيفة. والثالثة أنه لا تُصلَّى بعد النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإمام واحد وإنما تصلَّى بإمامين كسائر الصلوات. ورُوي عن سفيان الثوري مثل قول أبي حنيفة. ورُوي أيضاً مثل قول ابن أبي ليلى وقال :" إن فعلت كذلك جاز ".
وقال مالك :" يتقدم الإمام بطائفة وطائفة بإزاء العدوّ فيصلِّي بهم ركعة وسجدتين ويقوم قائماً وتتمّ الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى، ثم يتشهدون ويسلّمون، ثم يذهبون إلى مكان الطائفة التي لم تصلِّ فيقومون مكانهم، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلِّي بهم ركعة وسجدتين، ثم يتشهدون ويسلم ويقومون فيتمُّون لأنفسهم الركعة التي بقيت " قال ابن القاسم : كان مالك يقول :" لا يسلّم الإمام حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلم بهم " لحديث يزيد بن رومان ؛ ثم رجع إلى حديث القاسم وفيه أن الإمام يسلم ثم تقوم الطائفة الثانية فَيَقْضُون.
وقال الشافعي مثل قول مالك، إلا أنه قال :" الإمام لا يسلّم حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلم بهم ". وقال الحسن بن صالح مثل قول أبي حنيفة، إلا أنه قال :" الطائفة الثانية إذا صلّت مع الإمام وسلّم الإمام قضت لأنفسها الركعة التي لم يصلّوها مع الإمام، ثم تنصرف وتجيء الطائفة الأولى فتقضي بقية صلاتها ".
قال أبو بكر : أشدّ هذه الأقاويل موافقةً لظاهر الآية قولُ أبي حنيفة ومحمد ؛ وذلك لأنه تعالى قال :﴿ وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ﴾، وفي ضمن ذلك أن طائفة منهم بإزاء العدو، لأنه قال :﴿ وليأخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ﴾، وجائز أن يكون مراده الطائفة التي بإزاء العدو وجائز أن يريد به الطائفة المصلّية ؛ والأوْلَى أن يكون الطائفة التي بإزاء العدو لأنها تحرس هذه المصلية ؛ وقد عُقِلَ من ذلك أنهم لا يكونون جميعاً مع الإمام، لأنهم لو كانوا مع الإمام لما كانت طائفة منهم قائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم بل يكونون جميعاً معه، وذلك خلاف الآية.
ثم قال تعالى :﴿ فإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ ﴾ وعلى مذهب مالك يَقْضُون لأنفسهم ولا يكونون من ورائهم إلا بعد القضاء. وفي الآية الأمر لهم بأن يكونوا بعد السجود من ورائهم، وذلك موافق لقولنا.
ثم قال :﴿ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ﴾ فدل ذلك على معنيين، أحدهما : أن الإمام يجعلهم طائفتين في الأصل طائفةً معه وطائفةً بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة ؛ لأنه قال :﴿ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى ﴾ ؛ وعلى مذهب مخالفنا هي مع الإمام لا تأتيه. والثاني : قوله :﴿ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ﴾، وذلك يقتضي نَفْيَ كل جزء من الصلاة، ومخالفنا يقول يفتتح الجميع الصلاة مع الإمام فيكونون حينئذ بعد الافتتاح فاعلين لشيء من الصلاة ؛ وذلك خلاف الآية.
فهذه الوجوه التي ذكرنا من معنى الآية موافقة لمذهب أبي حنيفة ومحمد. وقولنا موافق للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وللأصول، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إنّما جُعِلَ الإمَامُ ليُؤْتَمَّ بِهِ فإذَا رَكَعَ فارْكَعُوا وإذا سَجَدَ فَاسْجُدُوا "، وقال :" إني امْرُؤٌ قَدْ بَدُنْتُ فلا تُبَادِرُوني بالرّكُوعِ ولا بالسُّجُودِ ". ومن مذهب المخالف أن الطائفة الأولى تقضي صلاتها وتخرج منها قبل الإمام.
وفي الأصول أن المأموم مأمور بمتابعة الإمام لا يجوز له الخروج منها قبله ؛ وأيضاً جائز أن يلحق الإمام سَهْوٌ وسهوه يلزم المأموم ولا يمكن الخارجين من صلاته قبل فراغه أن يسجدوا. ويخالف هذا القول الأصول من جهة أخرى، وهي اشتغال المأموم بقضاء صلاته والإمام قائم أو جالس تاركٌ لأفعال الصلاة، فيحصل به مخالفة الإمام في الفِعْلِ وترك الإمام لأفعال الصلاة لأجل المأموم، وذلك ينافي معنى الاقتداء والائتمام ومنع الإمام من الاشتغال بالصلاة لأجل المأموم ؛ فهذان وجهان أيضاً خارجان من الأصول.
فإن قيل : جائز أن تكون صلاة الخوف مخصوصة بجواز انصراف الطائفة الأولى قبل الإمام كما جاز المشي فيها. قيل له : المَشْيُ له نظير في الأصول، وهو الراكب المنهزم يصلي وهو سائر بالاتفاق ؛ فكان لما ذكرنا أصلٌ متفق عليه، فجاز أن لا تفسد صلاة الخوف. وأيضاً قد ثبت عندنا أن الذي سبقه الحَدَثُ في الصلاة ينصرف ويتوضأ ويبني، قد وردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ رَوَى ابن عباس وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ قَاءَ أَوْ رَعفَ في صَلاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ ولْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلاتِهِ "، والرجل يركع ويمشي إلى الصف فلا تبطل صلاته ؛ وركع أبو بكر حين دخل المسجد ومشى إلى الصف، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم قال له :" زَادَكَ اللهُ حِرْصاً ولا تَعُدْ " ولم يأمره باستيناف الصلاة، فكان للمشي في الصلاة نظائر في الأصول وليس للخروج من الصلاة قبل فراغ الإمام نظير، فلم يجُزْ فِعْلُه. وأيضاً فإن المشي فيها اتفاق بيننا وبين مالك والشافعي، ولما قامت به الدلالة سَلّمناه لها، وما عدا ذلك فواجب حمله على موافقة الأصول حتى تقوم الدلالة على جواز خروجه عنها.
ومما يدل من جهة السنّة على ما وَصَفْنا ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفةُ الأخرى مواجهة العدوّ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أولئك وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة أخرى، ثم سلّم عليهم، ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم " ؛ وقال أبو داود : وكذلك رواه نافع وخالد بن معدان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقال أبو داود : وكذلك قول مسروق ويوسف بن مهران عن ابن عباس، وكذلك روى يونس عن الحسن عن أبي موسى أنه فعله. وقول ابن عمر :" فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة " على أنهم قضوا على وجه يجوز القضاء، وهو أن ترجع الثانية إلى مقام الأولى وجاءت الأولى فقضت ركعة وسلمت ثم جاءت الثانية فقضت ركعة وسلمت. وقد بين ذلك في حديث خصيف عن أبي عبيدة عن عبدالله :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى في حَرَّةِ بني سُلَيْمٍ صلاة الخوف، قام فاستقبل القبلة وكان العدوّ في غير القبلة، فصَفَّ معه صَفّاً وأخذ صفّ السلاح واستقبلوا العدو، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفُّ الذي معه، ثم ركع وركع الصف الذي معه، ثم تحول الصفّ الذين صفّوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح، وتحول الآخرون فقاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعوا وسجد وسجدوا، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب الذين صلّوا معه وجاء الآخرون فقضوا ركعة فلما فرغوا أخذوا السلاح، وتحول الآخرون وصلّوا ركعة ؛ فكان للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان وللقوم ركعة ركعة " ؛ فبين في هذا الحديث انصراف الطائفة الثانية قبل قضاء الركعة الأولى، وهو معنى ما أجمله ابن عمر في حديثه. وقد رُوي في حديث عبدالله بن مسعود من رواية ابن فُضَيل عن خُصَيْف عن أبي عبيدة عن عبدالله :" أن الطائفة الثانية قضت ركعة لأنفسها قبل قضاء الطائفة الأولى الركعة التي بقيت عليها "، والصحيح ما ذكرناه أولاً ؛ لأن الطائفة الأولى قد أدركت أول الصلاة والثانية لم تدرك، فغير جائز للثانية الخروج من صلاتها قبل الأولى ؛ ولأنه لما كان من حكم الطائفة الأولى أن تصلّي الركعتين في مقامين فكذلك حكم الثانية أن تقضيهما في مقامين لا في مقام واحد، لأن سبيل صلاة الخوف أن تكون مقسومة بين الطائفتين على التعديل بينهما فيها.
واحتجّ مالك بحديث رواه عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر فيه أن الطائفة صلّت الركعة الثانية قبل أن يصلّيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يَرْوِهِ أحد إلا يزيد بن رومان ؛ وقد خُولِفَ فيه فَرَوَى شعبة عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوّات عن سهل بن أبي حثمة :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى بهم صلاة الخوف فصفَّ صفّاً خلفه وصفَّ مصافَّ العدو، فصلَّى بهم ركعة. ثم ذهب هؤلاء وجاء أولئك، فصلَّى بهم ركعة ثم قاموا فقضوا ركعة ركعة ". ففي هذا الحديث أن الطائفة الأولى لم تَقْضِ الركعة الثانية إلا بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته ؛ وهذا أوْلى لما قدمنا من دلائل الأصول عليه. وقد رَوَى يحيى بن سعيد عن القاسم عن صالح مثل رواية يزيد بن رومان. وفي حديث مالك عن يزيد بن رومان أن تلك الصلاة إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرِّقَاع ؛ وقد روى يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن جابر قال :" كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرِّقاع، فصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة منهم ركعتين ثم انصرفوا وجاء الآخرون فصلَّى بهم ركعتين ؛ فصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً وكلُّ طائفة ركعتين " ؛ وهذا يدل على اضطراب حديث يزيد بن رومان.
وقد ر
قوله تعالى :﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ﴾. قال أبو بكر : أطلق الله تعالى الذكر في غير هذا الموضع وأراد به الصلاة في قوله :﴿ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ] ؛ يروى أن عبدالله بن مسعود رأى الناس يصيحون في المسجد فقال : ما هذا النكْر ؟ قالوا : أليس الله يقول :﴿ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ] ؟ فقال : إنما يعني بهذه الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائماً فقاعداً، وإن لم تستطع فصلِّ على جنبك. ورُوي عن الحسن :﴿ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ] : هذه رخصة من الله للمريض أن يصلّي قاعداً وإن لم يستطع فعلى جنبه.
مطلب : الذكر على وجهين أفضلهما الذكر القلبي وهو الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله إلى آخره
فهذا الذكر المراد به نفس الصلاة ؛ لأن الصلاة ذِكْرُ الله تعالى، وفيها أيضاً أذْكَارٌ مسنونة ومفروضة. وأما الذكر الذي في قوله تعالى :﴿ فإذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ ﴾ فليس هو الصلاة، ولكنه على أحد وجهين : إما الذكر بالقلب، وهو الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خَلْقِهِ وصُنْعِهِ من الدلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه. والذكر الثاني : الذكر باللسان بالتعظيم والتسبيح والتقديس. ورُوي عن ابن عباس قال :" لم يُعْذَرْ أحدٌ في ترك الذكر إلا مغلوباً على عقله "، والذكر الأول أشرفهما وأعلاهما منزلةً. والدليل على أنه لم يُرِدْ بهذا الذكر الصلاة أنه أمر به بعد الفراغ منها بقوله تعالى :﴿ فإذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِكُمْ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فإنه رُوي عن الحسن ومجاهد وقتادة :" فإذا رجعتم إلى الوطن في دار الإقامة فأتمّوا الصلاة من غير قصر ". وقال السدي وغيره :" فعليكم أن تتموا ركوعها وسجودها غير مشاة ولا ركبان ". قال أبو بكر : من تأول القَصْرَ المذكور في قوله تعالى :﴿ وإذَا ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ ﴾ على أعداد الركعات، جعل قوله :﴿ فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ ﴾ على إتمام الركعات عند زوال الخوف والسفر. ومن تأوّله على صفة الصلاة من فعلها بالإيماء أو على إباحة المشي فيها، جعل قوله تعالى :﴿ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ ﴾ أمراً بفعل الصلاة المعهودة على الهيئة المفعولة قبل الخوف، والله أعلم.

باب مواقيت الصلاة


قال الله تعالى :﴿ إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ﴾. رُوي عن عبدالله بن مسعود أنه قال :" إن للصلاة وقتاً كوقت الحج ". وعن ابن عباس ومجاهد وعطية :" مفروضاً ". ورُوي عن ابن مسعود أيضاً أنه قال :" موقوتاً مُنَجَّماً، كلما مضى نَجْمٌ جاء نجم آخر ". وعن زيد بن أسلم مثل ذلك.
قال أبو بكر : قد انتظم ذلك إيجابَ الفرض ومواقيته ؛ لأن قوله تعالى :﴿ كِتَاباً ﴾ معناه، فرضاً، وقوله :﴿ مَوْقُوتاً ﴾ معناه أنه مفروض في أوقات معلومة معينة، فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية وبيّنها في مواضع أُخَرَ من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها، وبَيَّن على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم تحديدها ومقاديرها. فمما ذكر الله في الكتاب من أوقات الصلاة قوله :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] ذكر مجاهد عن ابن عباس :﴿ لدلوك الشمس ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] قال :" إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر " ﴿ إلى غسق الليل ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] قال :" بدوّ الليل لصلاة المغرب ". وكذلك رُوي عن ابن عمر في دلوكها أنه زوالها. وروى أبو وائل عن عبدالله بن مسعود قال :" إن دلوكها غروبها "، وعن أبي عبدالرحمن السلمي نحوه.
قال أبو بكر : لما تأولوا على المعنيين من الزوال ومن الغروب دلّ على احتمالها لهما لولا ذلك لما تأوله السلف عليها ؛ والدلوك في اللغة المَيْلُ، فدلوك الشمس مَيْلُها، وقد تميل تارةً للزوال وتارةً للغروب ؛ وقد علمنا أن دلوكها هو أول الوقت وغسق الليل نهايته وغايته ؛ لأنه قال :﴿ إلى غسق الليل ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] و " إلى " غايةُ، ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل لأن بينهما وقت العصر، فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك ههنا هو الغروب وغسق الليل ههنا هو اجتماع الظلمة ؛ لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهاية له ؛ واحتمال الزوال مع ذلك قائم لأن ما بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت هذه الصلوات وهي الظهر والعصر والمغرب، فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل لا ينفكّ من أن يكون وقتاً لصلاة، فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب. ويحتمل أن يُراد به العتمة أيضاً ؛ لأن الغاية قد تدخل في الحكم كقوله تعالى :﴿ وأيديكم إلى المرافق ﴾ [ المائدة : ٦ ] والمرافق داخلة فيها، وقوله :﴿ حتى تغتسلوا ﴾ [ النساء : ٤٣ ] والغسلُ داخل في شرط الإباحة ؛ فإن حمل المعنى على الزوال انتظم أربع صلوات. ثم قال :﴿ وقرآن الفجر ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] وهو صلاة الفجر، فتنتظم الآية الصلوات الخمس ؛ وهذا معنى ظاهر قد دل عليه إفراده صلاة الفجر بالذكر، إذْ كان بينها وبين صلاة الظهر وقت ليس من أوقات الصلوات المفروضة، فأبان تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتاً لصلوات مفعولة فيه، وأفرد الفجر بالذكر إذْ كان بينها وبين الظهر فاصلة وقت ليس من أوقات الصلوات. فهذه الآية يحتمل أن يريد بها بيان وقت صلاتين إذا كان المراد بالدلوك الغروب وهو وقت المغرب والفجر بقوله تعالى :﴿ وقرآن الفجر ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ]، ويحتمل أن يريد بها الصلوات الخمس على الوجه الذي بيّنا، ويحتمل أن يريد بها الظهر والمغرب والفجر وذلك لأنه جائز أن يريد بقوله :﴿ إلى غسق الليل ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] أقم الصلاة مع غسق الليل، كقوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ﴾ [ النساء : ٢ ] ومعناه : مع أموالكم ؛ ويكون غسق الليل حينئذ وقتاً لصلاة المغرب. ويجوز أن يريد به وقت صلاة العتمة ؛ وقد رَوَى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقول :" دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تَجِبُ الشمسُ " ؛ قال : ابن مسعود :" دلوك الشمس حين تَجِبُ، إلى غسق الليل حين يغيب الشفق ". وعن عبدالله أيضاً أنه لما غربت الشمس قال :" هذا غسق الليل ". وعن أبي هريرة :" غسق الليل غيبوبة الشمس ". وقال الحسن :" غسق الليل صلاة المغرب والعشاء ". وقال إبراهيم النخغي :" غسق الليل العشاء الآخرة ". وعن أبي جعفر :" غسق الليل انتصافه ". وروى مالك عن داود بن الحصين قال : أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول :" غسق الليل اجتماع الليل وظلمته ". فهذه الآية فيها احتمال للوجوه التي ذكرنا من مواقيت الصلوات.
وقال تعالى :﴿ أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل ﴾ [ هود : ١١٤ ]، رَوَى عمرو عن الحسن في قوله تعالى :﴿ طرفي النهار ﴾ [ هود : ١١٤ ] قال :" صلاة الفجر، والأخرى الظهر والعصر " ﴿ وزلفاً من الليل ﴾ [ هود : ١١٤ ] قال :" المغرب والعشاء ". فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس. ورَوَى يونس عن الحسن :﴿ أقم الصلاة طرفي النهار ﴾ [ هود : ١١٤ ] قال :" الفجر والعصر ". وروى ليث عن الحكم عن أبي عياض قال : قال ابن عباس :" جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة :﴿ فسبحان الله حين تمسون ﴾ [ الروم : ١٧ ] المغرب والعشاء ﴿ وحين تصبحون ﴾ [ الروم : ١٧ ] الفجر ﴿ وعشيّاً ﴾ [ الروم : ١٨ ] العصر ﴿ وحين تظهرون ﴾ [ الروم : ١٨ ] الظهر ". وعن الحسن مثله. ورَوَى أبو رزين عن ابن عباس :﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ [ ق : ٣٩ ] قال :" الصلاة المكتوبة " وقال :﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ﴾ [ طه : ١٣٠ ]. وهذه الآية منتظمة لأوقات الصلوات أيضاً.
فهذه الآيات كلها فيها ذكر أوقات الصلوات من غير تحديد لها، إلاّ فيما ذكر من الدلوك فإنه جعله أول وقت لتلك الصلاة، ووقتُ الزوال والغروب معلومان، وقوله تعالى :﴿ إلى غسق الليل ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] ليس فيه نهاية الوقت بلفظ غير محتمل للمعاني، وقوله ﴿ حين تمسون ﴾ [ الروم : ١٧ ] إن أراد به المغرب كان معلوماً، وكذلك ﴿ تصبحون ﴾ [ الروم : ١٧ ] ؛ لأن وقت الصبح معلوم، وقوله :﴿ طرفي النهار ﴾ [ هود : ١١٤ ] لا دلالة فيه على تحديد الوقت لاحتماله أن يريد الظهر والعصر ؛ وذلك لأن وسط النهار هو وقت الزوال، فما كان منه في النصف الآخر فهو طرف، وكذلك ما كان منه في النصف الأول فهو طرف. وجائز أن يريد به العصر ؛ لأن آخر النهار من طرفه ؛ والأوْلى أن يكون المراد العصر دون الظهر، لأن طرف الشيء إما أن يكون ابتداءه أو نهايته وآخره ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفاً ؛ إلا أن الحسن في رواية عمرو قد تأوّله على الظهر والعصر جميعاً وقد رَوَى عنه يونس أنه العصر، وهو أشبه بمعنى الآية، ألا ترى أن طرف الثوب ما يلي نهايته ولا يسمى ما قرب من وسطه طرفاً ؟ فهذه الآي دالّة على أعداد الصلوات. وقوله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات ﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ] الآية، يدل على أنها وتْرٌ لأن الشفع لا وسط له، وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقلت الأمة عنه قولاً وفعلاً فَرْضَ الصلوات الخمس. وقد روى أنس بن مالك وعبادة بن الصامت في حديث المعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه أمر بخمسين صلاة، وأنه لم يزل يسأل ربه التخفيف حتى استقرّت على خمس "، وهذا عندنا كان فرضاً موقوفاً على اختيار النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ؛ لأنه لا يجوز نسخ الفرض قبل التمكن من الفعل، وقد بيّناه في أصول الفقه ؛ ولا خلاف بين المسلمين في فرض الصلوات الخمس. وقال جماعة من السلف بوجوب الوتر، وهو قول أبي حنيفة، وليس هو بفرض عنده وإن كان واجباً ؛ لأن الفرض ما كان في أعلى مراتب الإيجاب. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار متواترة في بيان تحديد أوقات الصلوات، واتفقت الأمَّةُ في بعضها واختلفت في بعض.
وقت الفجر
فأما أول وقت الفجر فلا خلاف فيه أنه من حين يطلع الفجر الثاني الذي يعترض في الأفق ؛ ورَوَى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَيْسَ الفَجْرُ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وجمع كفه حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا ومد أصبعيه السبابتين ". وروى قيس بن طلق عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كُلُوا واشْرَبُوا ولا يَهِيدَنَّكُمُ السَّاطِعُ المُصْعِدُ، فَكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الأَحْمَرُ ". وروى سفيان عن عطاء عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الفَجْرُ فَجْرَانِ : فَجْرٌ يَحِلُّ فِيهِ الطَّعَامُ وَتَحْرُمُ فيه الصَّلاَةُ، وفَجْرُ تَحِلُّ فِيهِ الصَّلاَةُ ويَحْرُمُ فيه الطَّعَامُ ". وروى نافع بن جبير في حديث المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أن جبريل عليه السلام أمَّهُ عند البيت، فصلّى الفجر في اليوم ال
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَهِنُوا في ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ ﴾ الآية. هو حَثٌّ على الجهاد وأمْرٌ به ونَهْيٌ عن الضعف عن طلبهم ولقائهم ؛ لأن الابتغاء هو الطلب، يقال : بَغَيْتُ وابْتَغَيْتُ إذا طَلَبْت، والوهن ضعف القلب والجبن الذي يستشعره الإنسان عند لقاء العدو. واستدعاهم إلى نفي ذلك واستشعار الجرأة والإقدام عليهم بقوله :﴿ إنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ﴾، فأخبر أنهم يساوونكم فيما يلحق من الألم بالقتال وأنكم تفضلونهم، فإنكم تَرْجُون من الله ما لا يرجون، فأنتم أوْلى بالإقدام والصبر على ألم الجراح منهم، إذ ليس لهم هذا الرجاء وهذه الفضيلة.
قوله تعالى :﴿ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ﴾ قيل : فيه وجهان، أحدهما : ما وعدكم الله من النصر إذا نصرتم دينه، والآخر : ثواب الآخرة ونعيم الجنة ؛ فدواعي المسلمين على التصبر على القتال واحتمال ألم الجراح أكثر من دواعي الكفار. وقيل فيه :﴿ تَرْجُونَ مِنَ اللَّه مَا لاَ يَرْجُونَ ﴾ : تؤملون من ثواب الله ما لا يؤملون، رُوي ذلك عن الحسن وقتادة وابن جريج. وقال آخرون : وتخافون من الله ما لا يخافون كما قال تعالى :﴿ ما لكم لا ترجون لله وقاراً ﴾ [ نوح : ١٣ ] يعني لا تخافون لله عظمة. وبعض أهل اللغة يقول : لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي ؛ وذلك حكم لا يقبل إلا بدلالة.
قوله تعالى :﴿ إنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ الآية. فيه إخبار أنه أنزل الكتاب ليحكم بين الناس بما عرفه الله من الأحكام والتعبد.
مطلب : في قصة اليهودي الذي اتهم بسرقة الدرع
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُنْ للخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾ رُوي أنه نزل في رجل سرق دِرْعاً، فلما خاف أن تظهر عليه رَمَى بها في دار يهوديّ، فلما وُجدت الدرع أنكر اليهودي أن يكون أخذها، وذكر السارق أن اليهودي أخذها، فأعان قوم من المسلمين هذا الآخذ على اليهودي، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قولهم، فأطلعه الله على الآخذ وبرأ اليهودي منه ونهاه عن مخاصمة اليهودي وأمره بالاستغفار مما كان منه من معاونته الذين كانوا يتكلمون عن السارق. وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حقّ أو نَفْيِهِ وهو غير عالم بحقيقة أمره ؛ لأن الله تعالى قد عاتب نبيه على مثله وأمره بالاستغفار منه. وهذه الآية وما بعدها من النهي عن المجادلة عن الخونة إلى آخر ما ذُكر كله تأكيد للنهي عن معونة من لا يعلمه محقّاً. وقوله تعالى :﴿ لِتَحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ ربما احتج به من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول شيئاً من طريق الاجتهاد، وإن أقواله وأفعاله كلها كانت تصدر عن النصوص، وإنه كقوله تعالى :﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يُوحَى ﴾ [ النجم : ٣ و ٤ ]. وليس في الآيتين دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول شيئاً من طريق الاجتهاد ؛ وذلك لأنا نقول إن ما صدر عن اجتهاد فهو مما أراه الله وعرّفه إياه ومما أوحى به إليه أن يفعله، فليس في الآية دلالة على نفي الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام. وقد قيل في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُنْ للخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾ : إنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم دفع عنهم، وجائز أن يكون هَمَّ بالدفع عنهم مَيْلاً منه إلى المسلمين دون اليهودي، إذْ لم يكن عنده أنهم غير محقّين ؛ وإذا كان ظاهر الحال بوجود الدرع عند اليهودي فكان اليهودي أوْلى بالتهمة والمسلم أوْلى ببراءة الساحة، فأمره الله تعالى بترك المَيْلِ إلى أحد الخصمين والدّفْعِ عنه وإن كان مسلماً والآخر يهوديّاً، فصار ذلك أصلاً في أن الحاكم لا يكون له مَيْلٌ إلى أحد الخصمين على الآخر وإن كان أحدهما ذا حرمة له والآخر على خلافه. وهذا يدل أيضاً على أن وجود السرقة في يد إنسان لا يوجب الحكم عليه بها ؛ لأن الله تعالى نهاه عن الحكم على اليهودي بوجود السرقة عنده، إذ كان جاحداً أن يكون هو الآخذ. وليس ذلك مثل ما فعله يوسف عليه السلام حين جعل الصَّاعَ في رَحْلِ أخيه ثم أخذه بالصاع واحتبسه عنده ؛ لأنه إنما حكم عليهم بما كان عندهم أنه جائز، وكانوا يَسْتَرِقُّونَ السارق، فاحتبسه عنده ؛ وكان له أن يتوصل إلى ذلك ولم يَسْتَرِقَّهُ، ولا قال إنه سرق، وإنما قال ذلك رجل غيره ظنه سارقاً. وقد نَهَى الله عن الحكم بالظنّ والهوى بقوله :﴿ اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ﴾ [ الحجرات : ١٢ ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إيَاكُمْ والظَّنَّ فإنهُ أَكْذَبُ الحَدِيثِ ". وقوله :﴿ وَلاَ تَكُنْ للخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ جائز أن يكون صادف ميلاً من النبي صلى الله عليه وسلم على اليهودي بوجود الدرع المسروقة في داره، وجائز أن يكون هَمَّ بذلك، فأعلمه الله براءة ساحة اليهودي ونهاه عن مجادلته عن المسلمين الذين كانوا يجادلون عن السارق. وقد كانت هذه الطائفة شاهدة للخائن بالبراءة سائلة للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعذره في أصحابه وأن ينكر ذلك على من ادَّعَى عليه، فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أظهر معاونته لما ظهر من هذه الطائفة من الشهادة ببراءته وأنه ليس ممن يتهم بمثله، فأعلمه الله باطن أمورهم بقوله :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ﴾ بمسألتهم معونة هذا الخائن. وقد قيل إن هذه الطائفة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأعانوا الخائن كانوا مسلمين ولم يكونوا أيضاً على يقين من أمر الخائن وسرقته، ولكنه لم يكن لهم الحكم جائزاً على اليهودي بالسرقة لأجل وجود الدرع في داره.
فإن قيل : كيف يكون الحكم على ظاهر الحال ضلالاً إذا كان في الباطن خلافه، وإنما على الحاكم الحكم بالظاهر دون الباطن ؟ قيل له : لا يكون الحكم بظاهر الحال ضلالاً وإنما الضلال إبراءُ الخائن من غير حقيقة عِلْمٍ، فإنما اجتهدوا أن يضلّوه عن هذا المعنى.
قوله تعالى :﴿ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ﴾ فإنه قد قيل في الفرق بين الخطيئة والإثم : إن الخطيئة قد تكون من غير تعمّد، والإثم ما كان عن عَمْدٍ ؛ فذكرهما جميعاً ليبين حكمهما، وأنه سواء كان عن تعمد أو غير تعمد فإنه إذا رَمَى به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، إذْ غير جائز له رَمْيُ غيره بما لا يعلمه منه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٥:قوله تعالى :﴿ إنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ الآية. فيه إخبار أنه أنزل الكتاب ليحكم بين الناس بما عرفه الله من الأحكام والتعبد.
مطلب : في قصة اليهودي الذي اتهم بسرقة الدرع
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُنْ للخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾ رُوي أنه نزل في رجل سرق دِرْعاً، فلما خاف أن تظهر عليه رَمَى بها في دار يهوديّ، فلما وُجدت الدرع أنكر اليهودي أن يكون أخذها، وذكر السارق أن اليهودي أخذها، فأعان قوم من المسلمين هذا الآخذ على اليهودي، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قولهم، فأطلعه الله على الآخذ وبرأ اليهودي منه ونهاه عن مخاصمة اليهودي وأمره بالاستغفار مما كان منه من معاونته الذين كانوا يتكلمون عن السارق. وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حقّ أو نَفْيِهِ وهو غير عالم بحقيقة أمره ؛ لأن الله تعالى قد عاتب نبيه على مثله وأمره بالاستغفار منه. وهذه الآية وما بعدها من النهي عن المجادلة عن الخونة إلى آخر ما ذُكر كله تأكيد للنهي عن معونة من لا يعلمه محقّاً. وقوله تعالى :﴿ لِتَحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ ربما احتج به من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول شيئاً من طريق الاجتهاد، وإن أقواله وأفعاله كلها كانت تصدر عن النصوص، وإنه كقوله تعالى :﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يُوحَى ﴾ [ النجم : ٣ و ٤ ]. وليس في الآيتين دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول شيئاً من طريق الاجتهاد ؛ وذلك لأنا نقول إن ما صدر عن اجتهاد فهو مما أراه الله وعرّفه إياه ومما أوحى به إليه أن يفعله، فليس في الآية دلالة على نفي الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام. وقد قيل في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُنْ للخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾ : إنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم دفع عنهم، وجائز أن يكون هَمَّ بالدفع عنهم مَيْلاً منه إلى المسلمين دون اليهودي، إذْ لم يكن عنده أنهم غير محقّين ؛ وإذا كان ظاهر الحال بوجود الدرع عند اليهودي فكان اليهودي أوْلى بالتهمة والمسلم أوْلى ببراءة الساحة، فأمره الله تعالى بترك المَيْلِ إلى أحد الخصمين والدّفْعِ عنه وإن كان مسلماً والآخر يهوديّاً، فصار ذلك أصلاً في أن الحاكم لا يكون له مَيْلٌ إلى أحد الخصمين على الآخر وإن كان أحدهما ذا حرمة له والآخر على خلافه. وهذا يدل أيضاً على أن وجود السرقة في يد إنسان لا يوجب الحكم عليه بها ؛ لأن الله تعالى نهاه عن الحكم على اليهودي بوجود السرقة عنده، إذ كان جاحداً أن يكون هو الآخذ. وليس ذلك مثل ما فعله يوسف عليه السلام حين جعل الصَّاعَ في رَحْلِ أخيه ثم أخذه بالصاع واحتبسه عنده ؛ لأنه إنما حكم عليهم بما كان عندهم أنه جائز، وكانوا يَسْتَرِقُّونَ السارق، فاحتبسه عنده ؛ وكان له أن يتوصل إلى ذلك ولم يَسْتَرِقَّهُ، ولا قال إنه سرق، وإنما قال ذلك رجل غيره ظنه سارقاً. وقد نَهَى الله عن الحكم بالظنّ والهوى بقوله :﴿ اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ﴾ [ الحجرات : ١٢ ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إيَاكُمْ والظَّنَّ فإنهُ أَكْذَبُ الحَدِيثِ ". وقوله :﴿ وَلاَ تَكُنْ للخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ جائز أن يكون صادف ميلاً من النبي صلى الله عليه وسلم على اليهودي بوجود الدرع المسروقة في داره، وجائز أن يكون هَمَّ بذلك، فأعلمه الله براءة ساحة اليهودي ونهاه عن مجادلته عن المسلمين الذين كانوا يجادلون عن السارق. وقد كانت هذه الطائفة شاهدة للخائن بالبراءة سائلة للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعذره في أصحابه وأن ينكر ذلك على من ادَّعَى عليه، فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أظهر معاونته لما ظهر من هذه الطائفة من الشهادة ببراءته وأنه ليس ممن يتهم بمثله، فأعلمه الله باطن أمورهم بقوله :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ﴾ بمسألتهم معونة هذا الخائن. وقد قيل إن هذه الطائفة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأعانوا الخائن كانوا مسلمين ولم يكونوا أيضاً على يقين من أمر الخائن وسرقته، ولكنه لم يكن لهم الحكم جائزاً على اليهودي بالسرقة لأجل وجود الدرع في داره.
فإن قيل : كيف يكون الحكم على ظاهر الحال ضلالاً إذا كان في الباطن خلافه، وإنما على الحاكم الحكم بالظاهر دون الباطن ؟ قيل له : لا يكون الحكم بظاهر الحال ضلالاً وإنما الضلال إبراءُ الخائن من غير حقيقة عِلْمٍ، فإنما اجتهدوا أن يضلّوه عن هذا المعنى.

قوله تعالى :﴿ لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ﴾ الآية. قال أهل اللغة : النَّجْوَى هو الإسرار ؛ فأبان تعالى أنه لا خير في كثير مما يتسارّون به إلا أن يكون ذلك أمراً بصدقة أو أمراً بمعروف أو إصلاح بين الناس، وكلّ أعمال البِرِّ معروف لاعتراف العقول بها ؛ لأن العقول تعترف بالحق من جهة إقرارها به والتزامها له وتنكر الباطل من جهة زَجْرِهَا عنه وتَبَرِّيها منه. ومن جهة أخرى سَمَّى أعمال البر معروفاً، وهو أن أهل الفضل والدين يعرفون الخير لملابستهم إياه وعلمهم به ولا يعرفون الشرّ بمثل معرفتهم بالخير لأنهم لا يلابسونه ولا يعملون به، فسمَّى أعمال البر معروفاً والشرّ منكراً. حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال : حدثنا سهل بن بكار قال : حدثنا عبدالسلام أبو الخليل عن عبيدة الهجيمي قال : قال أبو جُرَيّ جابر بن سليم : ركبت قَعُودي ثم انطلقت إلى مكة فأَنَخْتُ قَعُودي بباب المسجد، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم جالس عليه بُرْدَانِ من صوف فيهما طرائق حمر، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ‍‍فقال :" وَعَلَيْكَ السَّلامُ " قلت : إنّا معشر أهل البادية فينا الجفاء فعلّمني كلمات ينفعني الله بها ! فقال :" ادْنُ !‍ " ثلاثاً. فدنوت فقال :" أَعِدْ عَلَيَّ ! " فأعدتُ عليه، فقال :" اتَّقِ اللَّهَ ولاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شيئاً ولو أنْ تَلْقَى أخَاكَ بوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ وأنْ تُفْرِغَ مِنْ فَضْلِ دَلْوِكَ في إنَاءِ المُسْتَسْقي، وإن امْرُؤٌ سَبَّكَ بما يَعْلَمُ مِنْكَ فَلا تَسُبَّهُ بِمَا تَعْلَمُ مِنْهُ فإنّ الله جَاعِلٌ لك أَجْراً وعليه وِزْراً، ولا تَسُبَّنَّ شيئاً مما خَوَّلَكَ اللَّه "، قال أبو جري : والذي ذهب بنفسه ما سببت بعده شيئاً لا شاة ولا بعيراً. وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم الدقاق قال : حدثنا هارون بن معروف قال : حدثنا سعيد بن مسلمة عن جعفر عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اصْنَعِ المَعْرُوفَ إلى مَنْ هُوَ أَهْلُهُ وإلى مَنْ لَيْسَ أَهْلَهُ، فإِنْ أصَبْتَ أَهْلَهُ فَهُوَ أَهْلُهُ وإنْ لَم تُصِبْ أَهْلَهُ فأَنْتَ أَهْلُهُ ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد الحماني والحسين بن إسحاق قالا : حدثنا شيبان قال : حدثنا عيسى بن شعيب قال : حدثنا حفص بن سليمان عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَأوّلُ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً أَهْلُ المَعْرُوفِ، صَنَائِعُ المَعْرُوفِ تَقي مَصَارِعَ السُّوءِ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا معاذ بن المثنى وسعيد بن محمد الأعرابي قالا : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا سفيان الثوري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري يعني عبدالله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إنَّكُمْ لا تَسْعُونَ النَّاسَ بأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الوَجْهِ وحُسْنُ الخُلُقِ ".
مطلب : وأما الصدقة على وجوه
وأما الصدقة فعلى وجوه، منها : الصدقة بالمال على الفقراء فرضاً تارة ونفلاً أخرى. ومنها : معونة المسلم بالجاه والقول، كما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" كلّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ " وقال صلى الله عليه وسلم :" على كُلّ سَلاَمَى مِنْ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ " وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أيَعْجزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أبي ضَمْضَم ؟ " قالوا : ومن أبو ضمضم ؟ قال :" رَجُلٌ ممّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قال : اللَّهُم إني قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضي عَلَى مَنْ شَتَمَهُ، فَجَعَلَ احْتِمَالَهُ أَذَى النَّاسِ صَدَقَةً بعِرْضِهِ عَلَيْهِمْ ".
قوله عز وجل :﴿ أوْ إصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ هو نظير قوله تعالى :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ﴾ [ الحجرات : ٩ ] وقوله :﴿ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ﴾ [ الحجرات : ٩ ] وقال :﴿ فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير ﴾ [ النساء : ١٢٨ ] وقال تعالى :﴿ إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما ﴾ [ النساء : ٣٥ ]. حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا ابن العلاء قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَل مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ! قال :" إِصْلاَحُ ذَاتِ البَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ البَيْنِ الحَالِقَةُ ". وإنّما قيّد الكلام بشرط فعله ابتغاء مرضاة الله لئلا يتوهم أن من فعله للترأس على الناس والتأمر عليهم يدخل في هذا الوعد.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ﴾ الآية. فإن مشاقَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم مباينته ومعاداته بأن يصير في شقّ غير الشق الذي هو فيه، وكذلك قوله تعالى :﴿ إن الذين يحادّون الله ورسوله ﴾ [ المجادلة : ٥ ] هو أن يصير في حدّ غير حدّ الرسول، وهو يعني مباينته في الاعتقاد والديانة. وقال :﴿ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ﴾ تغليظاً في الزجر عنه وتقبيحاً لحاله وتبييناً للوعيد فيه، إذ كان معانداً بعد ظهور الآيات والمعجزات الدالّة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. وقَرَنَ اتّباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر له من الوعيد، فدلّ على صحة إجماع الأمة لإلحاقه الوعيد بمن اتّبع غير سبيلهم.
وقوله :﴿ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ﴾ إخبار عن براءة الله منه وأنه يَكِلُهُ إلى ما تولّى من الأوثان واعتضد به، ولا يتولّى الله نصره ومعونته.
قوله تعالى :﴿ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ ﴾ التَّبْتِيكُ التقطيع، يقال : بتكه يبتكه تبتيكاً، والمراد به في هذا الموضع شَقُّ أذن البَحِيرَةِ ؛ رُوي ذلك عن قتادة وعكرمة والسُّدي.
وقوله :﴿ وَلأَمُنِّينَّهُمْ ﴾ يعني والله أعلم : أنه يمنّيهم طُولَ البقاء في الدنيا ونَيْلَ نعيمها ولذاتها ليركنوا إلى ذلك ويحرصوا عليه ويؤثروا الدنيا على الآخرة، ويأمرهم أن يشقّوا آذان الأنعام ويحرموا على أنفسهم وعلى الناس بذلك أكلها، وهي البَحِيرَةُ التي كانت العرب تحرّم أكلها.
وقوله :﴿ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾ فإنه رُوي فيه ثلاثة أوجه، أحدها : عن ابن عباس رواية إبراهيم ومجاهد والحسن والضحاك والسدي :" دين الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام "، ويشهد له قوله تعالى :﴿ لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ﴾ [ الروم : ٣٠ ]. والثاني : ما رُوي عن أنس وابن عباس رواية شهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح :" أنه الخِصَاء ". والثالث : ما رُوي عن عبدالله والحسن :" أنه الوَشْم ". ورَوَى قتادة عن الحسن أنه كان لا يرى بأساً بإخصاء الدابة، وعن طاوس وعروة مثله. ورُوي عن ابن عمر أنه نَهَى عن الإخصاء، وقال :" ما أنْهَى إلا في الذكور ". وقال ابن عباس :" إخصاء البهيمة مُثلَةٌ " ثم قرأ :﴿ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله ﴾. وَرَوَى عبدالله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال :" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخصاء الجمل ".
قوله تعالى :﴿ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً واتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾ هو نظير قوله :﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً ﴾ [ النحل : ١٢٣ ]، وهذا يوجب أن كل ما ثبت من ملة إبراهيم عليه السلام فعلينا اتّباعه.
فإن قيل : فواجب أن تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم هي شريعة إبراهيم عليه السلام. قيل له : إن ملة إبراهيم داخلة في ملة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ملة نبينا صلى الله عليه وسلم زيادةٌ على ملة إبراهيم ؛ فوجب من أجل ذلك اتّباع ملة إبراهيم، إذْ كانت داخلة في ملّة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان متبع ملة النبي صلى الله عليه وسلم متبعاً لملة إبراهيم.
وقيل في الحنيف : إنه المستقيم، فمن سلك طريق الاستقامة فهو على الحنيفية. وإنما قيل للمعوج الرِّجْلِ " أحنف " تفاؤلاً، كما قيل للمهلكة مفازة وللَّدِيغ سليماً.
وقوله :﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾ فإنه قد قيل فيه وجهان، أحدهما : الاصطفاء بالمحبة والاختصاص بالإسرار دون من ليس له تلك المنزلة. والثاني : أنه من الخلّة، وهي الحاجة، فخليل الله المحتاج إليه المنقَطعُ إليه بحوائجه ؛ فإذا أريد به الوجه الأول جاز أن يقال إن إبراهيم خليل الله والله تعالى خليل إبراهيم، وإذا ريد به الوجه الثاني لم يجز أن يوصف الله بأنه خليل إبراهيم وجاز أن يوصف إبراهيم بأنه خليل الله.
قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ﴾. قال أبو بكر : رُوي أنها نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يسقط لها في صداقها، فنُهُوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق.
وقوله تعالى :﴿ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ في الكِتَابِ في يَتَامَى النِّسَاءِ ﴾. يعني به ما ذكر في أول السورة من قوله تعالى :﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ﴾ [ النساء : ٣ ] وقد بيناه في موضعه، والله الموفق.

باب مصالحة المرأة وزوجها


قال الله تعالى :﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً ﴾. قيل في معنى النشوز إنه الترفع عليها لبغضه إياها، مأخوذ مِنْ نَشَزِ الأرض وهي المرتفعة. وقوله :﴿ أوْ إعْرَاضاً ﴾ يعني لمَوْجَدَةٍ أو أَثَرَةٍ، فأباح الله لهما الصلح، فرُوي عن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على تَرْكِ بعض مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها. وقال عمر :" ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز ". ورَوَى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال :" خشيتْ سَوْدَةُ أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ! ففعل فنزلت هذه الآية :﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً ﴾ الآية ؛ فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز ". وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها فتقول أمسكني ولا تطلقني ثم تَزَوَّجْ وأنت في حِلٍّ من النفقة والقسمة لي، فذلك قوله تعالى :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾. وعن عائشة من طرق كثيرة. " أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم به لها ".
قال أبو بكر : فهذه الآية دالّة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة، وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة. وقضى كعب بن سور بأن لها يوماً من أربعة أيام بحضرة عمر، فاستحسنه عمر وولاّه قضاء البصرة. وأباح الله أن تترك حقها من القسم وأن تجعله لغيرها من نسائه، وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحهما على تَرْكِ المهر والنفقة والقسم سائر ما يجب لها بحق الزوجية، إلا أنه إنما يجوز لها إسقاط ما وجب من النفقة للماضي، فأما المستقبل فلا تصحّ البراءة منه ؛ وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصحّ إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه ؛ وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها، فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا. ولا يجوز أيضاً أن يعطيها عِوَضاً على ترك حقها من القسم أو الوطء ؛ لأن ذلك أكْلُ مالٍ بالباطل، أو ذلك حق لا يجوز أَخْذُ العِوَضِ عنه لأنه لا يسقط مع وجود السبب الموجب له وهو عقد النكاح، وهو مثل أن تبرىء الرجل من تسليم العبد المهر فلا يصحّ لوجود ما يوجبه وهو العقد.
فإن قيل : فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها، فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تَجِبْ بَعْدُ مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة. قيل له : لم يُجيزوا البراءة من النفقة، ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعدُ ؛ ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جَعَلَ الجُعْلَ مقدار نفقة العدة، والجُعْلُ في الخُلْع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة، فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع ؛ ثم ما يجب لها بَعْدُ مِنْ نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصاً بماله عليها. وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه أو بعضه أو على الزيادة عليه ؛ لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه.
وقوله تعالى :﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ قال بعض أهل العلم :" يعني خير من الإعراض والنشوز " ؛ وقال آخرون :" مِنَ الفرقة ". وجائز أن يكون عموماً في جواز الصلح في سائر الأشياء إلاّ ما خصّه الدليل، ويدلّ على جواز الصلح عن إنكار، والصلح من المجهول.
وقوله تعالى :﴿ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾. قال ابن عباس وسعيد بن جبير :" الشُّحّ على أنصبائهن من أزواجهن وأموالهن " ؛ وقال الحسن :" تشح نفس كل واحد من الرجل والمرأة بحقه قِبَلَ صاحبه ". والشُّحُّ البخل، وهو الحِرْصُ على منع الخير.
قوله تعالى :﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾ الآية ؛ رُوي عن أبي عبيدة قال :" يعني المودّة ومَيْلَ الطباع "، وكذلك رُوي عن ابن عباس والحسن وقتادة.
وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ ﴾ يعني والله أعلم إظهاره بالفعل حتى ينصرف عنها إلى غيرها، يدل عليه قوله :﴿ فَتَذَرُوهَا كالمُعَلَّقَةِ ﴾، قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة :" لا أَيِّم ولا ذات زوج ". وقد رَوَى قتادةُ عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ كَانَتْ له امْرَأَتَانِ يَمِيلُ مَعَ إِحْدَاهِمَا على الأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ " ؛ وهذا الخبر يدلّ أيضاً على وجوب القسم بينهما بالعدل وأنه إذا لم يعدل فالفرقة أوْلى، لقوله تعالى :﴿ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ]
فقال تعالى : بعد ذكره ما يجب لها من العدل في القسم وترك إظهار الميل عنها إلى غيرها :﴿ وإنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ ﴾ تسليةً لكل واحد منهما عن الآخر وأن كل واحد منهما سيغنيه الله عن الآخر إذا قصدا الفرقة، تخوفاً من تَرْكِ حقوق الله التي أوجبها ؛ وأخبر أن رزق العباد كلهم على الله وأن ما يُجْرِيه منه على أيدي عباده فهو المسبب له والمستحق للحمد عليه ؛ بالله التوفيق.

باب ما يجب على الحاكم من العدل بين الخصوم


قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ الآية ؛ رَوَى قابوس عن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس في قوله :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للَّهِ ﴾ قال :" هو الرجلان يجلسان إلى القاضي فيكون لَيُّ القاضي وإعراضه عن الآخر ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن عبدالله بن مهران الدينوري قال : حدثنا أحمد بن يونس قال : حدثنا زهير قال : حدثنا عباد بن كثير بن أبي عبدالله عن عطاء بن يسار عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مَنِ ابْتُلِيَ بالقَضَاءِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإشَارَتِه وَمَقْعَدِهِ وَلا يَرْفَعْ صَوْتَهُ على أَحَدِ الخَصْمَيْنِ مَا لَمْ يَرْفَعْ على الآخِرِ ".
قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ كُونُوا قَوَّامِينَ بالقِسْطِ ﴾ قد أفاد الأمر بالقيام بالحق والعدل، وذلك مُوجِبٌ على كل أحد إنصافَ الناس من نفسه فيما يلزمه لهم وإنصافَ المظلوم من ظالمه ومَنْعَ الظالم من ظلمه ؛ لأن جميع ذلك من القيام بالقسط، ثم أكّد ذلك بقوله :﴿ شُهَدَاءَ للَّهِ ﴾ يعني والله أعلم : فيما إذا كان الوصول إلى القسط من طريق الشهادة ؛ فتضمن ذلك الأمر بإقامة الشهادة على الظالم المانع من الحق للمظلوم صاحب الحق لاستخراج حقه منه وإيصاله إليه، وهو مثل قوله تعالى :﴿ ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ]، وتضمن أيضاً الأمْرَ بالاعتراف والإقرار لصاحب الحق بحقه، بقوله تعالى :﴿ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ ؛ لأن شهادته على نفسه هو إقراره بما عليه لخَصْمِهِ، فدل ذلك على جواز إقرار المُقِرِّ على نفسه لغيره وأنه واجب عليه أن يُقِرَّ إذا طالبه صاحب الحق.
وقوله تعالى :﴿ أو الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ ﴾ فيه أمْرٌ بإقامة الشهادة على الوالدين والأقربين. ودلّ على جواز شهادة الإنسان على والديه وعلى سائر أقربائه لأنهم والأجنبيين في هذا الموضع بمنزلةٍ، وإن كان الوالدان إذا شهد عليهما أولادهما ربما أوجب ذلك حَبْسَهُما، وأنّ ذلك ليس بعقوق ولا يجب أن يمتنع من الشهادة عليهما لكراهتهما لذلك ؛ لأن ذلك مَنْعٌ لهما من الظلم وهو نُصْرَةٌ لهما كما قال صلى الله عليه وسلم :" انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً " فقيل : يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً ؟ قال :" تَرُدُّهُ عَنِ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرٌ مِنْكَ إِيّاهُ "، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم :" لا طَاعَةَ لمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ ". وهذا يدل على أنه إنما تجب عليه طاعة الأبوين فيما يحلّ ويجوز، وأنه لا يجوز له أن يطيعهما في معصية الله تعالى لأن الله قد أمره بإقامة الشهادة عليهما مع كراهتهما لذلك.
وقوله تعالى :﴿ إنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ﴾ أمْرٌ لنا بأن لا ننظر إلى فقر المشهود عليه بذلك إشفاقاً منا عليه، فإن الله أوْلى بحسن النظر لكل أحد من الأغنياء والفقراء وأعْلَمُ بمصالح الجميع، فعليكم إقامة الشهادة عليهم بما عندكم.
وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ﴾ يعني لا تتركوا العدل اتّباعاً للهوى والمَيْل إلى الأقرباء، وهو نظير قوله تعالى :﴿ إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ﴾ [ ص : ٢٦ ] ؛ وفي ذلك دليل على أن على الشاهد إقامة الشهادة على الذي عليه الحق وإن كان عالماً بفقره، وأنه لا يجوز له الامتناع من إقامتها خوفاً من أن يحبسه القاضي لفَقْدِ علمه بعَدَمِه.
وقوله تعالى :﴿ وإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا ﴾ فإنه يحتمل ما رُوي عن ابن عباس :" أَنه في القاضي يتقدم إليه الخصمان فيكون لَيُّهُ وإعراضُهُ على أحدهما ". واللَّيُّ هو الدفع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :" لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ "، يعني مَطْلَهُ ودَفْعَ الطالب عن حقه. فإذا أريد به القاضي كان معناه دفعه الخصم عما يجب له من العدل والتسوية، ويحتمل أن يريد به الشاهد في أنه مأمور بإقامة الشهادة وأن لا يدفع صاحب الحق عنها ويمطله بها ويعرض عنه إذا طالبه بإقامتها، وليس يمتنع أن يكون أمراً للحاكم والشاهد جميعاً لاحتمال اللفظ لهما، فيفيد ذلك الأَمْرَ بالتسوية بين الخصوم في المجلس والنظر والكلام وترك إسرار أحدهما والخلوة به، كما رُوي عن علي كرم الله وجهه قال :" نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَضِيفَ أحد الخصمين دون الآخر ".
وقوله تعالى :﴿ يا أيّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ قيل فيه : يا أيها الذين آمنوا بمن قَبْلَ محمد من الأنبياء آمِنُوا بالله وبمحمد وما أتى به من عند الله ؛ لأنهم من حيث آمنوا بالمتقدمين من الأنبياء لِمَا كان معهم من الآيات فقد ألزمهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لهذه العلة بعينها. ومن جهة أخرى أن في كتب الأنبياء المتقدمين البشارةَ بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن حيث آمنوا بهم وصدقوا بما أخبروا به عن الله تعالى، وقد أخبروهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فعليهم الإيمانُ به وهم مَحْجُوجُونَ بذلك. وقيل : إنه خطاب للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمْرٌ لهم بالمداومة على الإيمان والثبات عليه ؛ والله أعلم.

باب استتابة المرتد


قال الله تعالى :﴿ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً ﴾ قال قتادة :" يعني به أهْلَ الكِتَابَيْنِ من اليهود والنصارى ؛ آمن اليهود بالتوراة ثم كفروا بمخالفتها وكذلك آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته، وآمن النصارى بالإنجيل ثم كفروا بمخالفته وكذلك آمنوا بعيسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته، ثم ازدادوا كفراً بمخالفة الفرقان ومحمد صلى الله عليه وسلم ". وقال مجاهد :" هي في المنافقين، آمنوا ثم ارتدّوا ثم آمنوا ثم ارتدّوا ثم ماتوا على كفرهم ". وقال آخرون :" هم طائفة من أهل الكتاب قصدت تشكيك أهل الإسلام، وكانوا يُظْهِرون الإيمان به والكفر به، وقد بين الله أمرهم في قوله :﴿ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ﴾ [ آل عمران : ٧٢ ] ".
مطلب : في الخلاف في قبول توبة الزنديق
قال أبو بكر : هذا يدل على أن المرتدَّ متى تاب تُقبل توبتُهُ وأنّ توبةَ الزنديق مقبولة، إذ لم تفرق بين الزنديق وغيره من الكفار ؛ وقبول توبته بعد الكفر مرة بعد أخرى والحكم بإيمانه متى أظهر الإيمان. واختلف الفقهاء في استتابة المرتد والزنديق، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزُفَرُ :" في الأصل لا يُقتل المرتدُّ حتى يُسْتَتَابَ، ومن قتل مرتدّاً قبل أن يُستتاب فلا ضمان عليه ". وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الزنديق الذي يظهر الإسلام قال أبو حنيفة :" أسْتَتِيبُه كالمرتدّ، فإن أسلم خَلَّيْتُ سبيله وإن أبى قتلته ". وقال أبو يوسف كذلك زماناً، فلما رأى ما يصنع الزنادقة ويعودون قال :" أرى إذا أُتِيتُ بزنديق آمر بضَرْبِ عنقه ولا أستتيبه، فإن تاب قبل أن أقتله خَلّيْتُهُ ". وذكر سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف قال :" إذا زعم الزنديق أنه قد تاب حَبَسْتُه حتى أعلم توبته ". وذكر محمد في السِّيَر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة :" أن المرتدَّ يُعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإِلاّ قُتل مكانه، إلا أن يطلب أن يؤجَّل فإن طلب ذلك أُجِّلَ ثلاثة أيام " ولم يَحْكِ خلافاً. قال أبو جعفر الطحاوي : وحدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف - في نوادر ذكرها عنه أدخلها في أماليه عليهم - قال : قال أبو حنيفة :" أقْتُلُ الزنديق سِرّاً فإنّ توبته لا تُعرف "، ولم يَحْكِ أبو يوسف خِلاَفَهُ. وقال ابن القاسم عن مالك :" المرتدّ يُعرض عليه الإسلام ثلاثاً فإن أسلم وإلاّ قُتل، وإن ارتدَّ سِرّاً قُتِلَ ولم يُسْتَتَبْ كما يُقتل الزنادقة، وإنما يُستتاب من أظهر دينه الذي ارتدّ إليه "، قال مالك :" يُقتل الزنادقة ولا يُستتابون، والقَدَرِيَّة يُستتابون " فقيل لمالك : فكيف يُستتاب القدرية ؟ قال :" يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه فإن فعلوا وإلاّ قُتلوا وإن أقَرَّ القَدَرِيةُ بالعلم لم يُقتلوا ". وروى مالك عن زيد بن أسلم قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ " ؛ قال مالك : هذا فيمن ترك الإسلام ولم يُقِرَّ به، لا فيمن خرج من اليهودية إلى النصرانية ولا من النصرانية إلى اليهودية ؛ قال مالك : وإذا رجع المرتد إلى الإسلام فلا ضَرْبَ عليه، وحَسَنٌ أن يُترك المرتد ثلاثة أيام ويعجبني. وقال الحسن بن صالح :" يُسْتَتَابُ المرتدُّ وإن تاب مائة مرة ". وقال الليث :" الناس لا يَسْتَتِيبُونَ من وُلد في الإسلام إذا شُهِدَ عليه بالرِّدَّة، ولكنه يُقتل تاب من ذلك أو لم يتب إذا قامت البَيِّنَةُ العادلة ". وقال الشافعي :" يُستتاب المرتد ظاهراً والزنديق، وإن لم يَتُبْ قُتل ".
وفي الاستتابة ثلاثاً قولان ؛ أحدهما حديث عمر، والآخر أنه لا يؤخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر فيه بأناة ؛ وهذا ظاهر الخبر. قال أبو بكر : روى سفيان عن جابر عن الشعبي قال :" يُستتاب المرتد ثلاثاً " ثم قرأ :﴿ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ﴾ الآية ؛ ورُوي عن عمر أنه أمر باستتابته ثلاثاً. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " ولم يذكر فيه استتابته ؛ إلا أنه يجوز أن يكون محمولاً على أنه قد استحق القتل، وذلك لا يمنع دعاءه إلى الإسلام والتوبة لقوله تعالى :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] الآية، وقال تعالى :﴿ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ]، فأمر بالدعاء إلى دين الله تعالى ولم يفرّق بين المرتد وبين غيره، فظاهره يقتضي دعاءَ المرتد إلى الإسلام كدعاء سائر الكفار، ودعاؤه إلى الإسلام هو الاستتابة ؛ وقال تعالى :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ]، وقد تضمن ذلك الدعاء إلى الإيمان ؛ ويحتج بذلك أيضاً في استتابة الزنديق لاقتضاء عموم اللفظ له، وكذلك قوله :﴿ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ﴾ لم يفرق فيه بين الزنديق وغيره، فظاهره يقتضي قبول إسلامه.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ] لا دلالة فيه على زوال القتل عنه لأنا نقول هو مغفور له ذنوبه ويجب مع ذلك قتله كما يقتل الزاني المحصن وإن كان تائباً ويُقتل قاتل النفس مع التوبة. قيل له : قوله تعالى :﴿ إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ] يقتضي غفران ذنوبه وقبول توبته ؛ لأن توبته لو لم تكن مقبولةً لما كانت ذنوبه مغفورة، وفي ذلك دليل على صحة استتابته وقبولها منه في أحكام الدنيا والآخرة. وأيضاً فإن قتل الكافر إنما هو مُسْتَحَقٌّ بإقامته على الكفر، فإذا انتقل عنه إلى الإيمان فقد زال المعنى الذي من أجله وَجَبَ قَتْلُه وعاد إلى حَظْرِ دمه، ألا ترى أن المرتدّ ظاهراً متى أظهر الإسلام حقن دمه ؟ كذلك الزنديق. وقد رُوي عن ابن عباس في المرتد الذي لحق بمكة وكتب إلى قومه : سَلُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ؟ فأنزل الله :﴿ كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ﴾ [ آل عمران : ٨٦ ] إلى قوله تعالى :﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ﴾ [ آل عمران : ٨٩ ] فكتبوا بها إليه، فرجع فأسلم ؛ فحكم له بالتوبة بما ظهر من قوله، فوجب استعمال ذلك ؛ والحكم له بما يظهر منه دون ما في قلبه. وقول من قال : إني لا أعرف توبته إذا كفر سرّاً، فإنا لا نؤاخذُ باعتبار حقيقة اعتقاده لأن ذلك لا نصل إليه، وقد حظر الله علينا الحكم بالظن بقوله تعالى :﴿ اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ﴾ [ الحجرات : ١٢ ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إيَّاكُمْ والظَّنّ فإنّه أكْذَبُ الحَدِيثِ "، وقال تعالى :﴿ ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم ﴾ [ الإسراء : ٣٦ ]، وقال :﴿ إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ﴾ [ الممتحنة : ١٠ ] ؛ ومعلوم أنه لم يُرِدْ حقيقة العلم بضمائرهن واعتقادهن، وإنما أراد ما ظهر من إيمانهن بالقول وجعل ذلك علماً، فدل على أنه لا اعتبار بالضمير في أحكام الدنيا وإنما الاعتبار بما يظهر من القول ؛ وقال تعالى :﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً ﴾ [ النساء : ٩٤ ] وذلك عمومٌ في جميع الكفار ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد حين قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله، فقال : إنما قالها متعوذاً، قال :" هَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ! ". ورَوَى الثوري عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب، أنه أتى عبدالله فقال : ما بيني وبين أحد من العرب إحْنَةٌ، وإني مررت بمسجد بني حَنِيفَةَ فإذا هم يؤمنون بِمُسَيْلِمَةَ ؛ فأرسل إليهم عبدالله، فجاء بهم واستتابهم، غير ابن النواحة قال له : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لَوْلاَ أَنَّكَ رَسُولٌ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ " فأَنْتَ اليوم لَسْتَ برسول، أين ما كُنْتَ تظهر من الإسلام ؟ قال : كنت أتقيكم به ؛ فأمر به قرظة بن كعب فضرب عنقه بالسوق، ثم قال : من أراد أن ينظر إلى ابن النّواحة قتيلاً بالسوق. فهذا مما يَحْتَجُّ به من لم يقبل توبة الزنديق، وذلك لأنه استتاب القوم وقد كانوا مظهرين لكفرهم، وأما ابن النّواحة فلم يستتبه لأنه أقَرَّ أنه كان مُسِرّاً للكفر مظهراً للإيمان على وجه التَّقِيَّة ؛ وقد كان قَتْلُهُ إياه بحضرة الصحابة، لأن في الحديث أنه شاور الصحابة فيهم. وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله قال : أُخِذَ بالكوفة رجالٌ يؤمنون بمسيلمة الكذاب، فكُتِبَ فيهم إلى عثمان، فكَتَبَ عثمان :" اعْرِضْ عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قالها وتبرّأ من دين مسيلمة فلا تقتلوه، ومن لزم دين مسيلمة فاقتله " فقبلها رجال منهم ولزم دين مسيلمة رجال فقتلوا.
قوله تعالى :﴿ بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بأنّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ قيل في معنى قوله :﴿ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ﴾ أنهم اتخذوهم أنصاراً وأعضاداً لتوهمهم أن لهم القوة والمَنَعَة بعداوتهم للمسلمين بالمخالفة جهلاً منهم بدين الله ؛ وهذا من صفة المنافقين المذكورين في الآية، وهذا يدل على أنه غير جائز للمؤمنين الاستنصار بالكفار على غيرهم من الكفار، إذ كانوا متى غلبوا كان حكم الكفر هو الغالب ؛ وبذلك قال أصحابنا. وقوله :﴿ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ ﴾ يدل على صحة هذا الاعتبار وأن الاستعانة بالكفار لا تجوز، إذ كانوا متى غلبوا كان الغلبة والظهور للكفار وكان حكم الكفر هو الغالب.
فإن قيل : إذا كانت الآية في شأن المنافقين وهم كفار، فكيف يجوز الاستدلال به على المؤمنين ؟ قيل له : لأنه قد ثبت أن هذا الفعل محظورٌ فلا يختلف حكمه بعد ذلك أن يكون من المؤمنين أو من غيرهم ؛ لأن الله تعالى متى ذمَّ قوماً على فِعْلٍ فذلك الفِعْلُ قبيح لا يجوز لأحد من الناس فِعْلهُ إلا أن تقوم الدلالة عليه. وقيل إن أصل العزة هو الشدة، ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة " عَزَاز " وقيل : قد استعزّ المرض على المريض إذا اشتدّ مرضه، ومنه قول القائل " عَزَّ عليَّ كذا " إذا اشتد عليه، وعزَّ الشيء إذا قلّ لأنه يشتد مطلبه ؛ وعَازَهُ في الأمر إذا شَادَّهُ فيه، وشاة عَزُوزٌ إذا كانت تحلب بشدة لضيق أحاليلها، والعزة القوة منقولة عن الشدة، والعزيز القويّ المنيع ؛ فتضمنت الآية النهي عن اتخاذ الكفار أولياء وأنصاراً والاعتزاز بهم والالتجاء إليهم للتعزز بهم. وقد حدثنا من لا أتهم قال : حدثنا عبدالله بن إسحاق بن إبراهيم الدوري قال : حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال : حدثنا عبدالله بن عبدالله الأموي عن الحسن بن الحرّ عن يعقوب بن عتبة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنِ اعْتَزَّ بِالعَبِيدِ أَذَلَّهُ اللهُ تَعَالَى " ؛ وهذا محمول على معنى الآية فيمن اعتز بالكفار والفساق ونحوهم، فأما أن يعتز بالمؤمنين فذلك غير مذموم، قال الله تعالى :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ [ المنافقون : ٨ ].
وقوله تعالى :﴿ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فإنَّ العِزَّةَ للّهِ جَمِيعاً ﴾ تأكيدٌ للنهي عن الاعتزاز بالكفار وإخبارٌ بأن العزة لله دونهم ؛ وذلك منصرف على وجوه، أحدها : امتناع إطلاق العزة إلاَّ لله عز وجل ؛ لأنه لا يُعْتَدُّ بعزّة أحد مع عزته لصغرها واحتقارها في صفة عزته. والآخر : أنه المقوِّي لمن له القوة من جميع خلقه، فجميع العزة له، إذ كان عزيزاً لنفسه مُعِزّاً لكل من نُسب إليه شيء من العزة. والآخر : أن الكفار أذلاّء في حكم الله فانْتَفَتْ عنهم صفة العزة وكانت لله ولمن جعلها له في الحكم وهم المؤمنون، فالكفار وإن حصل لهم ضرب من القوة والمَنَعَةِ فغير مستحقين لإطلاق اسم العزة لهم.
قوله تعالى :﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا ﴾ فيه نهيٌ عن مجالسة من يُظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله، فقال تعالى :﴿ فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾و " حتَّى " ههنا تحتمل معنيين، أحدهما : أنها تصير غاية لحظر القعود معهم حتى إذا تركوا إظهار الكفر والاستهزاء بآيات الله زال الحظر عن مجالستهم، والثاني : أنهم كانوا إذا رأوا هؤلاء أظهروا الكفر والاستهزاء بآيات الله، فقال : لا تقعدوا معهم لئلا يظهروا ذلك ويزدادوا كفراً واستهزاءً بمجالستكم لهم ؛ والأوّل أَظْهَرُ. ورُوي عن الحسن أن ما اقتضته الآية من إباحة المجالسة إذا خاضوا في حديث غيره منسوخ بقوله :﴿ فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾ [ الأنعام : ٦٨ ] قيل : إنه يعني مشركي العرب، وقيل : أراد به المنافقين الذين ذُكروا في هذه الآية، وقيل : بل هي عامة في سائر الظالمين.
وقوله :﴿ إنكم إذاً مثلهم ﴾ قد قيل فيه وجهان، أحدهما : في العصيان وإن لم تبلغ معصيتهم منزلة الكفر، والثاني : أنكم مثلهم في الرضى بحالهم في ظاهر أمركم، والرضى بالكفر والاستهزاء بآيات الله تعالى كفرٌ، ولكن من قعد معهم ساخطاً لتلك الحال منهم لم يكفر وإن كان غير موسع عليه في القعود معهم. وفي هذه الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر على فاعله وأن مِنْ إنكاره إظهار الكراهة إذا لم يمكنه إزالته وترك مجالسة فاعله والقيام عنه حتى ينتهي ويصير إلى حال غيرها.
مطلب : ينبغي التباعد عن المنكر إذا لم يكن في ذلك ترك حق عليه
فإن قيل : فهل يلزم من كان بحضرته منكر أن يتباعد عنه وأن يصير بحيث لا يراه ولا يسمعه ؟ قيل له : قد قيل في هذا أنه ينبغي له أن يفعل ذلك إذا لم يكن في تباعده وترك سماعه ترك الحق عليه، من نحو ترك الصلاة في الجماعة لأجل ما يسمع من صوت الغناء والملاهي، وترك حضور الجنازة لما معها من النَّوْحِ، وترك حضور الوليمة لما هناك من اللهو واللعب ؛ فإذا لم يكن هناك شيء من ذلك فالتباعد عنهم أوْلى، وإذا كان هناك حقٌّ يقوم به لم يلتفت إلى ما هناك من المنكر وقام بما هو مندوب إليه من حقٍّ بعد إظهاره لإنكاره وكراهته. وقال قائلون : إنما نهى الله عن مجالسة هؤلاء المنافقين ومن يُظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله ؛ لأن في مجالستهم تأنيساً لهم ومشاركتهم فيما يجري في مجلسهم. وقد قال أبو حنيفة في رجل يكون في الوليمة فيحضر هناك اللهو واللعب : إنه لا ينبغي له أن يخرج، وقال : لقد ابتُلِيتُ به مرة. ورُوي عن الحسن أنه حضر هو وابن سيرين جنازة وهناك نَوْحٌ، فانصرف ابن سيرين، فذُكر ذلك للحسن فقال : إنّا كنا متى رأينا باطلاً وتركنا حقّاً أسرع ذلك في ديننا لم نرجع. وإنما لم ينصرف لأن شهود الجنازة حقٌّ قد نُدِبَ إليه وأُمِرَ به فلا يتركه لأجل معصية غيره، وكذلك حضور الوليمة قد نَدَبَ إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يَجُزْ أن يترك لأجل المنكر الذي يفعله غيره إذا كان كارهاً له. وقد حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا سعيد بن عبدالعزيز عن سليمان بن موسى عن نافع قال : سمع ابن عمر مزماراً فوضع أصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي : يا نافع هل تسمع شيئاً ؟ فقلت : لا، فرفع أصبعيه من أذنيه وقال :" كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا ". وهذا هو الاختيار لئلا تساكنه نفسه ولا تعتاد سماعه فيهون عنده أمره، فأما أن يكون واجباً فلا.
قوله تعالى :﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ للْكَافِرِينَ علَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ ؛ رُوي عن عليّ وابن عباس قالا :" سبيلاً في الآخرة ". وعن السدي :" ولن يجعل الله لهم عليهم حجة، يعني فيما فعلوا بهم من قتلهم وإخراجهم من ديارهم فهم في ذلك ظالمون لا حجة لهم فيه ". ويُحْتَجُّ بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج، لأن عقد النكاح يثبت عليها للزوج سبيلاً في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج، وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح كما قال تعالى :﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾ [ النساء : ٣٤ ]، فاقتضى قوله تعالى :﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ للكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ وقوع الفرقة بردّة الزوج وزوال سبيله عليها ؛ لأنه ما دام النكاح باقياً فحقوقه ثابتة وسبيله باقٍ عليها.
فإن قيل : إنما قال :﴿ علَى المُؤْمِنِينَ ﴾ فلا تدخل النساء فيه. قيل له : إطلاق لفظ التذكير يشتمل على المؤنث والمذكر، كقوله :﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ﴾ [ النساء : ١٠٣ ] وقد أراد به الرجال والنساء، وكذلك قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ﴾ [ البقرة : ٢٧٨ ] ونحوه من الألفاظ. ويحتجّ بظاهره أيضاً في الكافر الذميّ إذا أسلمت امرأته أنه يفرق بينهما إن لم يسلم، وفي الحربيّ كذلك أيضاً، فإنه لا يجوز إقرارها تحته أبداً. ويَحتجُّ به أصحاب الشافعي في إبطال شِرَى الذميّ للعبد المسلم ؛ لأنه بالملك يستحق السبيل عليه. وليس ذلك كما قالوا، لأن الشِّرَى ليس هو السبيل المنفيُّ بالآية، لأن الشِّرَى ليس هو الملك، والملك إنما يتعقب الشِّرَى، وحينئذ يملك السبيل عليه ؛ فإذاً ليس في الآية نفي الشّرَى وإنما فيها نفيُ السبيل. فإن قيل : إذا كان الشِّرَى هو المؤدي إلى حصول السبيل، وجب أن يكون منتفياً كما كان السبيل منتفياً. قيل له : ليس الأمر كذلك ؛ لأنه ليس يمتنع أن يكون السبيل عليه منتفياً ويكون الشِّرَى المؤدي إلى حصول السبيل جائزاً، وإنما أردت نفي الشرى بالآية نفسها، فإن ضممت إلى الآية معنى آخر في نفي الشرى فقد عدلت عن الاحتجاج بها وثبت بذلك أن الآية غير مانعة صحة الشرى ؛ وأيضاً فإنه لا يستحق بصحة الشرى السبيل عليه، لأنه ممنوع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع وإخراجه عن ملكه، فلم يحصل له ههنا سبيل عليه.
قوله تعالى :﴿ إنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ قيل فيه وجهان، أحدهما : يخادعون نبي الله والمؤمنين بما يظهرون من الإيمان لحَقْنِ دمائهم ومشاركة المسلمين في غنائمهم والله تعالى يخادعهم بالعقاب على خداعهم، فسمَّى الجزاء على الفعل باسمه على مزاوجة الكلام، كقوله تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ]. والآخر : أنهم يعملون عمل المخادع لمالكه بما يُظهرون من الإيمان ويُبْطِنُون خلافه، وهو يعمل عمل المخادع بما أمر به من قبول إيمانهم، مع علمهم بأن الله عليم بما يبطنون من كفرهم.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إلاَّ قَلِيلاً ﴾ قيل فيه : إنما سماه قليلاً لأنه لغير وجهه، فهو قليل في المعنى وإن كثر الفعل منهم. وقال قتادة :" إنما سماه قليلاً لأنه على وجه الرياء، فهو حقير غير متقبل منهم بل هو وبال عليهم ". وقيل : إنه أراد إلاّ يسيراً من الذكر، نحو ما يظهرونه للناس دون ما أُمروا به من ذكر الله في كل حال أمر به المؤمنين في قوله تعالى :﴿ فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم ﴾ [ النساء : ١٠٣ ]، وأخبر أيضاً أنهم يقومون إلى الصلاة كسالى مراءاةٌ للناس، والكسلُ هو التثاقل عن الشيء للمشقة فيه مع ضعف الدواعي إليه، فلما لم يكونوا معتقدين للإيمان لم يكن لهم داع إلى الصلاة إلا مراءاة للناس خوفاً منهم.
قوله تعالى :﴿ يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الكَافِرينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ فإن الولي هو الذي يتولّى صاحبه بما يجعل له من النصرة والمعونة على أمره، والمؤمن ولي الله بما يتولّى من إخلاص طاعته، والله ولي المؤمنين بما يتولّى من جزائهم على طاعته. واقتضت الآية النهي عن الاستنصار بالكفار والاستعانة بهم والركون إليهم والثقة بهم، وهو يدل على أن الكافر لا يستحق الولاية على المسلم بوجه ولداً كان أو غيره. ويدل على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في الأمور التي يتعلق بها التصرف والولاية، وهو نظير قوله :﴿ لا تتخذوا بطانة من دونكم ﴾ [ آل عمران : ١١٨ ] ؛ وقد كره أصحابنا توكيل الذمي في الشِّرَى والبيع ودفع المال إليه مضاربة ؛ وهذه الآية دالة على صحة هذا القول.
قوله تعالى :﴿ وأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله ﴾ يدل على أن كل ما كان من أمر الدين على منهاج القرب، فسبيله أن يكون خالصاً لله سالماً من شَوْبِ الرياء أو طلب عَرَضٍ من الدنيا أو ما يحبطه من المعاصي ؛ وهذا يدلّ على امتناع جواز أخذ شيء من أعراض الدنيا على ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة من نحو الصلاة والأذان والحج.
قوله عز وجل :﴿ لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاَّ مَنْ ظلمَ ﴾ قال ابن عباس وقتادة :" إلا أن يدعو على ظالمه "، وعن مجاهد رواية :" إلا أن يخبر بظلم ظالمه له ". وقال الحسن والسدي :" إلا أن ينتصر من ظالمه ". وذكر الفرات بن سليمان قال : سئل عبدالكريم عن قول الله :﴿ لا يُحِبُّ الله الجَهْرَ بالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاَّ مَنْ ظلمَ ﴾ قال : هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تَفْتَرِ عليه. وهو مثل قوله :﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه ﴾ [ الشورى : ٤١ ]. ورَوَى ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن إبراهيم بن أبي بكر عن مجاهد في قوله :﴿ لا يُحِبُّ الله الجَهْرَ بالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاَّ مَنْ ظلمَ ﴾ قال :" ذاك في الضيافة، إذا جئت الرجل فلم يُضِفْكَ فقد رخّص أن تقول فيه ". قال أبو بكر : إن كان التأويل كما ذكر فقد يجوز أن يكون ذلك في وقت كانت الضيافة واجبة، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" الضِّيَافَةُ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ فما زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ "، وجائز أن يكون فيمن لا يجد ما يأكل فيستضيف غيره فلا يضيفه، فهذا مذموم يجوز أن يشكى. وفي هذه الآية دلالة على وجوب الإنكار على من تكلم بسوء فيمن كان ظاهره الستر والصلاح ؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه لا يحب ذلك، وما لا يحبه فهو الذي لا يريده، فعلينا أن نكرهه وننكره ؛ وقال :﴿ إلاَّ مَنْ ظلمَ ﴾ فما لم يظهر لنا ظلمه فعلينا إنكار سوء القول فيه.
قوله تعالى :﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ قال قتادة :" عُوقبوا على ظلمهم وَبَغْيِهِمْ بتحريم أشياء عليهم ". وفي ذلك دليل على جواز تغليظ المحنة عليهم بالتحريم الشرعي عقوبةً لهم على ظلمهم ؛ لأن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه حرّم عليهم طيبات بظلمهم وصَدِّهم عن سبيل الله ؛ والذي حَرَّمَ عليهم ما بينه تعالى في قوله :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم ﴾ [ الأنعام : ١٤٦ ].
وقوله :﴿ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بالبَاطِلِ ﴾ يدل على أن الكفار مخاطبون بالشرائع مكلَّفون بها مستحقّون للعقاب على تركها ؛ لأن الله تعالى قد ذمّهم على أكل الربا وأخبر أنه عاقبهم عليه.
قوله تعالى :﴿ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ ﴾ ؛ رُوي عن قتادة أن " لكن " ههنا استثناء، وقيل : إن " إلا " و " لكن " قد تتفقان في الإيجاب بعد النفي أو النفي بعد الإيجاب، وتطلق " إلا " ويُراد بها " لكن " كقوله تعالى :﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ﴾ [ النساء : ٩٢ ] ومعناه : لكن إن قتله خطأ فتحرير رقبة ؛ فأقيمت " إلا " في هذا الموضع مقام " لكن ". وتنفصل " لكن " من " إلا " بأن " إلا " لإخراج بعض من كل، ولكن قد تكون بعد الواحد نحو قولك : ما جاءني زيد لكن عمرو، وحقيقة " لكن " الاستدراك و " إلاّ " للتخصيص.
قوله تعالى :﴿ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا في دِينِكُمْ ﴾ رُوي عن الحسن أنه خطاب لليهود والنصارى ؛ لأن النصارى غَلَتْ في المسيح فجاوزوا به منزلة الأنبياء حتى اتخذوه إلهاً، واليهود غَلَتْ فيه فجعلوه لغير رِشْدَةٍ، فغلا الفريقان جميعاً في أمره. والغلوُّ في الدين هو مجاوزة حدّ الحق فيه. ورُوي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أن يناوله حصيات لرمي الجمار، قال : فناولته : إياها مثل حصا الخَذْف فجعل يقلبهن بيده ويقول :" بِمِثْلِهِنَّ بِمِثْلِهِنَّ إيّاكُمْ والغُلُوَّ في الدِّينِ، فإنّما هَلكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بالغَلُوِّ في دِينِهِمْ " ؛ ولذلك قيل : دين الله بين المقصر والغالي.
قوله تعالى :﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلقاها إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ قيل في وصف المسيح بأنه كلمة الله ثلاثة أوجه : أحدها ما رُوي عن الحسن وقتادة أنه كان عيسى بكلمة الله، وهو قوله :﴿ كن فيكون ﴾ [ البقرة : ١١٧ ] لا على سبيل ما أجرى العادة به من حدوثه من الذكر والأنثى جميعاً. والثاني : أنه يُهْتَدَى به كما يُهْتَدَى بكلمة الله. والثالث : ما تقدم من البشارة به في الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه. وأما قوله تعالى :﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ فلأنه كان بنفخة جبريل بإذن الله، والنفخ يسمَّى روحاً، كقوله ذي الرمة :
فقُلْتُ لَهُ ارْفَعْها إليكَ وأحْيِهَا * برُوحِكَ واقْتَتْه لها قَيْتَةً قَدْرَا *
أي بنفخك. وقيل : إنما سماه روحاً لأنه يُحْيي الناس به كما يُحْيَوْن بالأرواح، ولهذا المعنى سَمَّى القرآن روحاً في قوله :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ]. وقيل : لأنه روح من الأرواح كسائر أرواح الناس، وأضافه الله تعالى إليه تشريفاً له، كما يقال : بيت الله، وسماه الله.
قوله :﴿ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ﴾ قيل فيه : إنه بمعنى : لئلا تضلوا، فحذف " لا " كما تحذف مع القسم في قولك : والله أبرح قاعداً، أي لا أبرح ؛ قال الشاعر :
* تالله يَبْقَى على الأَيّامِ ذُو حِيَدِ *
معناه : لا يبقى. وقيل : يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، كقوله تعالى :﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] يعني أهل القرية.
Icon