تفسير سورة الفتح

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الفتح
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» تشير إلى سموّه في أزله، وعلوّه في أبده وسموّه في أزله نفى البداية عنه بحقّ القدم، وعلوّه في أبده نفى الانتهاء عنه باستحالة العدم فمعرفة سموّه توجب للعبد سموّا، ومعرفة علوّه توجب للعبد علوّا «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١)
قضينا لك قضاء بيّنا، وحكمنا لك بتقوية دين الإسلام، والنصرة على عدوّك، وأكرمناك بفتح ما انغلق على قلب من هو غيرك- من قبلك- بتفصيل شرائع الإسلام، وغير ذلك من فتوحات قلبه صلوات الله عليه.
نزلت الآية في فتح مكة، ويقال في فتح الحديبية «٢».
ويقال: هديناك إلى شرائع الإسلام، ويسّرنا لك أمور الدين.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢]
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢)
(١) واضح أن مذهب القشيري في معرفة أسماء الله سبحانه لا يقتصر على المعرفة الكلامية النظرية بل يتجاوز ذلك إلى التأدب بها، والتخلق بأخلاق الله.. فالعمل مترتب على العلم (انظر مقدمتنا لكتاب التحبير في التذكير).
(٢) يقال نزلت هذه السورة بين مكة والمدينة (رواية محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور ابن مخرمة ومروان بن الحكم) وأنها نزلت في شأن الحديبية. (كذلك في البخاري في سماع قتادة عن أنس). وقال الضحاك: «مبينا» أي بغير قتال. وقال مجاهد: كان فتح الحديبية آية عظيمة إذ نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه. وقال الشعبي: هو فتح الحديبية فقد أصاب فيها ما لم يصب في غزوة: غفر الله له ذنبه، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدى محله، وظهرت الروم على الفرس.
م (٢٧) لطائف الإشارات- ج ٣-
كلا القسمين- المتقدّم والمتأخّر- كان قبل النبوة «١».
ويقال «ما تَقَدَّمَ» من ذنب آدم بحرمتك، «وَما تَأَخَّرَ» : من ذنوب أمّتك «٢».
وإذا حمل على ترك الأولى «٣» فقد غفر له جميع ما فعل من قبيل ذلك، قبل النبوة وبعدها «٤».
ولمّا نزلت هذه الآية قالوا: هنيئا لك! فأنزل الله تعالى:
«لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها».. ويقال:
حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً يتم نعمته عليك بالنبوة، وبوفاء العاقبة، وببسط الشريعة، وبشفاعته لأمته، وبرؤية الله غدا، [وبإظهار دينه على الأديان، وبأنه سيد ولد آدم، وبأنه أقسم بحياته، وخصّه بالعيان] «٥».
وبسماع كلامه سبحانه ليلة المعراج، وبأن بعثه إلى سائر الأمم.. وغير ذلك من مناقبه.
«وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» يثبتك على الصراط المستقيم، ويزيدك هداية على هداية، ويهدى بك الخلق إلى الحقّ.
ويقال: يهديك صراطا مستقيما بترك حظّك.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٣]
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣)
(١) نصّ القشيري على «قبل النبوة» لأن الأنبياء معصومون من الذنب.
(٢) هذا أيضا قول عطاء الخراسانى.
(٣) ترك الأولى تعبير أدبى مهذب عن «الذنب». ويقال: كان الذنب المتقدم على يوم بدر قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض». والذنب المتأخر كان يوم حنين حيث رمى جمرات فى وجوه المشركين قائلا: «شاهت الوجوه.. حم. لا ينصرون». فانهزم القوم عن آخرهم، ولم يبق أحد إلا امتلأت عيناه رملا وحصباء. وعند عودة النبي مع أصحابه قال لهم: لو لم أرمهم لم ينهزموا! فأنزل الله عز وجل:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.
(٤) روى الترمذي عن أنس أن النبي فرح بهذه الآية فرحا شديدا وقال: لقد أنزلت على آية أحب إلى ما على وجه الأرض». [.....]
(٥) ما بين القوسين الكبيرين موجود في ص وغير موجود في م.
لا ذلّ فيه، وتكون غالبا لا يغلبك أحد.
ويقال: ينصرك على هواك ونفسك، وينصرك بحسن خلقك ومقاساة الأذى من قومك.
ويقال نصرا عزيزا: معزا لك ولمن آمن بك.
وهكذا اشتملت هذه الآية على وجوه من الأفضال أكرم بها نبيّه- صلى الله عليه وسلم- وخصّه بها من الفتح والظّفر على النّفس والعدو، وتيسير ما انغلق على غيره، والمغفرة، وإتمام النعمة والهداية والنصرة.. ولكلّ من هذه الأشياء خصائص عظيمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٤]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)
.. السكينة ما يسكن إليه القلب من البصائر والحجج، فيرتقى القلب بوجودها عن حدّ الفكرة إلى روح اليقين وثلج الفؤاد، فتصير العلوم ضرورية «١».. وهذا للخواصّ.
فأمّا عوامّ المسلمين فالمراد منها: السكون والطمأنينة واليقين.
ويقال: من أوصاف القلب في اليقين المعارف والبصائر والسكينة.
وفي التفاسير: السكينة ريح هفّافة. وقالوا: لها وجه كوجه الإنسان. وقيل لها جناحان.
«لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» أي يقينا مع يقينهم وسكونا مع سكونهم. تطلع أقمار عين اليقين على نجوم علم اليقين.
ثم تطلع شمس حقّ اليقين على بدر عين اليقين.
«وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً».
«جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» : قيل: هى جميع القلوب الدالّة على وحدانية الله.
ويقال: ملك السماوات والأرض وما به من قوّى تقهر أعداء الله.
(١) أي لا نعوذ كسبيه حيث لم يعد للإنسان من نفسه لنفسه شىء.
ويقال: هم أنصار دينه.
ويقال: ما سلّطه الحقّ علي شىء فهو من جنوده، سواء سلّطه على وليّه في الشدة والرخاء، أو سلّطه على عدوّه في الراحة والبلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٥]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥)
يستر ذنوبهم ويحطها عنهم.. وذلك فوز عظيم، وهو الظّفر بالبغية «١».
وسؤل كلّ أحد ومأموله، ومبتغاه ومقصوده مختلف.. وقد وعد الجميع ظفرا به.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٦]
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦)
يعذبهم في الآجل بعذابهم وسوء عقابهم.
و «ظَنَّ السَّوْءِ» : هو ما كان بغير الإذن ظنوا أنّ الله لا ينصر دينه ونبيّه عليه السلام.
«عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ» : عاقبته تدور عليهم وتحيق بهم.
«وَلَعَنَهُمْ» : أبعدهم عن فضله، وحقت فيهم كلمته، وما سبقت لهم- من الله سبحانه- قسمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٨]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨)
«أَرْسَلْناكَ شاهِداً» : على أمّتك يوم القيامة. ويقال: شاهدا على الرّسل والكتب.
ويقال: شاهدا بوحدانيتنا وربوبيتنا. ويقال: شاهدا لأمتك بتوحيدنا. «وَمُبَشِّراً» :
لهم منّا بالثواب،. «وَنَذِيراً» للخلق زاجرا ومحذّرا من المعاصي والمخالفات.
(١) هكذا في م وهي في ص بالنعمة.
ويقال: شاهدا من قبلنا، ومبشّرا بأمرنا، ونذيرا من لدنّا ولنا ومنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٩]
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩)
قرىء «١» :«ليؤمنوا» بالياء لأن ذكر المؤمنين جرى، أي ليؤمن المؤمنون بالله ورسوله ويعزروه وينصروه أي الرسول، ويؤقروه: أي يعظّموا الرسول. وتسبّحوه: أي تسبّحوا الله وتنزهوه بكرة وأصيلا «٢».
وقرىء: «لِتُؤْمِنُوا» - بالتاء- أيها المؤمنون بالله ورسوله وتعزروه- على المخاطبة.
وتعزيره يكون بإيثاره بكلّ وجه على نفسك، وتقديم حكمه على حكمك. وتوقيره يكون باتباع سنّته، والعلم بأنه سيّد بريّته «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠)
وهذه البيعة هي بيعة الرضوان بالحديبية تحت سمرة «٤».
وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث عثمان رضى الله عنه إلى قريش ليكلّمهم فأرجفوا بقتله. وأتى عروة بن مسعود «٥» إلى النبي ﷺ وقال:
جئت بأوشاب الناس لتفضّ بيضتك بيدك، وقد استعدت قريش لقتالك، وكأنّى بأصحابك
(١) قراءة ابن كثير وابن محيصن وأبى عمرو وكذلك «يسبحوه» بالياء، والباقون بالتاء على الخطاب
(٢) ونلاحظ أن القشيري قد توقف قبل تسبحوه فجعلها بالتاء، وهناك من المفسرين من يرى ذلك أيضا (انظر القرطبي ح ١٦ ص ٢٦٧).
(٣) عزرت الرجل أي رددت عنه ونصرته وأيّدته- وهو من الأضداد- لأنه قد يأتى بمعنى أدّبته ولسته.
(٤) إشارة إلى قوله تعالى: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» والسمرة: شجرة الطلح.
(٥) جاء في السيرة لابن إسحاق- ٣ ص ٧٧٨.
بعد أن خرج الرسول ﷺ عام الحديبية يريد زيارة البيت، فلما سمعت قريش بذلك استعدت لقتاله مع أنه لم يكن ينوى قتالا وتعاقبت السفراء بينه وبينهم، وكان كل سفير من قريش يذهب إلى النبي ثم يعود ليقنع قريش بحقيقة نية النبي ولكنهم كانوا لا يرضون بما جاء به، حتى جاء دور عروة بن مسعود الثقفي- وهو عند قريش غير متهم وقال للنبى «إن قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها أبدا عليهم عنوة. وحينما قال عروة: وايم الله لكأنى بهؤلاء- يريد أصحاب الرسول- قد انكشفوا عنك غدا. فانبرى أبوبكر قائلا: أنحن ننكشف عنه... إلخ.
421
قد انكشفوا عنك إذا مسّهم حرّ السلاح! فقال أبو بكر: أتظن أنّا نسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فبايعهم النبيّ ﷺ على أن يقاتلوا وألا يهربوا «١»، فأنزل الله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» : أي عقدك عليهم هو عقد الله.
قوله جل ذكره: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ».
أي «يَدُ اللَّهِ» : فى المنة عليهم بالتوفيق والهداية «٢» :«فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» بالوفاء حين بايعوك.
ويقال: قدرة الله وقوته في نصرة دينه ونصرة نبيّه ﷺ فوق نصرهم لدين الله ولرسوله.
وفي هذه الآية تصريح بعين الجمع «٣» كما قال: «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» قوله جل ذكره: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» أي عذاب النكث عائد عليه.
«وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً».
أي من قام بما عاهد الله عليه على التمام فسيؤتيه أجرا عظيما.
وإذا كان العبد بوصف إخلاصه، بعامل الله في شىء هو به متحقّق، وله بقلبه شاهد فإنّ الوسائط التي تظهرها أمارات التعريفات تجعله محوا في أسراره... والحكم عندئذ راجع إلى الواحد- جلّ شأنه «٤».
(١) قال جابر بن عبد الله بايعنا رسول الله (ص) تحت الشجرة على الموت وعلى ألا نفر فما نكث أحد منا البيعة إلّا جد بن قيس وكان مناففا اختبأ تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم.
(٢) نلاحظ أن القشيري هنا يؤول اليد حتى ينفى عن الله الاتصاف بالجارحة.
(٣) أنت حين بايعت أو حين رميت فأنت من حيث الظاهر تقوم بعمل وأنت في حال الفرق، ولكن الحقيقة أنه لا فاعل إلا الله فمنه التوفيق والسداد والإصابة.. وهذا هو حال الجمع. وبمقدار ما يكون العبد في منزلة التمكين وبعيدا عن التلوين يكون دنوه من حال الجمع، التي بعدها حال جمع الجمع.. ونبينا ﷺ كان عندها إذ هو صلوات الله عليه محمول لا متحمل اى بربه لا بنفسه.
(٤) أي إذا أفضى العبد بشىء من العرفان عندئذ فيكون نطقة وما يظهر عليه من الله وبالله.
422
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١١]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١)
لمّا قصد رسول الله عليه وسلم التوجه إلى الحديبية تخلّف قوم من الأعراب عنه. قيل: هم أسلم وجهينة وغفار ومزينة وأشجع، وقالوا: «شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا» وليس لنا من يقوم بشأننا وقالوا: انتظروا ماذا يكون فماهم في قريش إلّا أكلة رأس «١». فلما رجع رسول الله ﷺ جاءوه معتذرين بأنه لم يكن لهم أحد يقوم بأمورهم! وقالوا: استغفر لنا.
فأطلعه الله- سبحانه- على كذبهم ونفاقهم وأنهم لا يقولون ذلك إخلاصا، وعندهم سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، فإنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
«قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» فضحهم. ويقال: ما شغل العبد عن الله شؤم عليه.
ويقال: عذر المماذق وتوبة المنافق كلاهما ليس حقائق.
قوله جل ذكره
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١٢]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢)
حسبتم أن لن يرجع الرسول والمؤمنون من هذه السفرة إلى أهليهم أبدا، وزيّنت لكم الأمانى ألا يعودوا، وأنّ الله لن ينصرهم. «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» أي هالكين فاسدين.
(١) أي هم قليل.
ويقال: إنّ العدوّ إذا لم يقدر أن يكيد بيده يتمنّى ما تتقاصر عنه مكنته، وتلك صفة كلّ عاجز، ونعت كلّ لئيم. ثم إن الله- سبحانه- بعكس ذلك عليه حتى لا يرتفع مراده «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «١» ».
ويقال: من العقوبات الشديدة التي يعاقب الله بها المبطل أن يتصّور شيئا يتمنّاه ويوطّن نفسه عليه لفرط جهله. ويلقى الحقّ في قلبه ذلك التمني حتى تسول له نفسه أن ذلك كالكائن..
ثم يعذبه الله بامتناعه.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١٣]
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣)
وما هو آت فقريب.. وإنّ الله ليرخى عنان الظّلمة ثم لا يفلتون من عقابه.. وكيف- وفي الحقيقة- ما يحصل منهم هو الذي يجريه «٢» عليهم؟
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١٤]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤)
يغفر- وليس له شريك يقول له: لا تفعل، ويعذّب من يشاء- وليس هناك مانع عن فعله يقول له: لا تفعل.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١٥]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥)
وذلك أن النبي ﷺ والمؤمنين لما رجعوا من الحديبية وعدهم الله خيبر،
(١) آية ٤٣ سورة فاطر. [.....]
(٢) هكذا في ص وهي في م (يحزيه) بالزاي وقد رجحنا (يجريه) أولا لاتصالها بمذهب القشيري وكون الله- على الحقيقة- فاعل كل شىء حتى أكساب العباد. وثانيا لأنها لو كانت بالزاي لقال: يجزيهم عليه.
وأنّ فيها سيظفر بأعدائه، فلمّا همّ بالخروج أراد هؤلاء المخلفون أن يتبعوه لما علموا في ذلك من الغنيمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يخرج معى إلى خيبر من خرج إلى الحديبية، والله بذلك حكم ألا يخرجوا معنا» فقال المتخلفون: إنما يقول المؤمنون ذلك حسدا لنا وليس هذا من قول الله! فأنزل الله تعالى ذلك لتكذيبهم، ولبيان حكمه ألا يستصحبهم فهم أهل طمع، وكانت عاقبتهم أنهم لم يجدوا مرادهم، وردّوا بالمذلة وافتضح أمرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١٦]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦)
جاء في التفاسير أنهم أهل اليمامة أصحاب مسيلمة- وقد دعاهم أبوبكر وحاربهم، فالآية تدل على إمامته... وقيل هم أهل فارس- وقد دعاهم عمر بن الخطاب وحاربهم فالآية تدل على صحة إمامته. وصحة إمامته تدل على صحة إمامة أبى بكر. «١» «أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» أولى شدّة.
فإن أطعتم استوجبتم الثواب، وإن تخّلفتم استحققتم العقاب. ودلت الآية على أنه يجوز أن تكون للعبد بداية غير مرضية ثم يتغير بعدها إلى الصلاح- كما كان لهؤلاء وأنشدوا:
إذا فسد الإنسان بعد صلاحه... فرجّ له عود الصلاح.. لعلّه
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١٧]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)
(١) العبارات التي وردت في إثبات صحة الإمامين جاءت في م ولم ترد في ص.
هؤلاء أصحاب الأعذار.. رفع عنهم الحرج في تخلفهم عن الوقعة في قتال المشركين.
وكذلك من كان له عذر في المجاهدة مع النفس.. فإنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما كما يحب أن تؤتى عزائمه «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠)
هذه بيعة الرضوان، وهي البيعة تحت الشجرة بالحديبية، وسميت بيعة الرضوان لقوله تعالى «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ... ».
وكانوا ألفا وخمسمائة وقيل وثلاثمائة وقيل وأربعمائة. وكانوا قصدوا دخول مكة، فلما بلغ ذلك المشركين قابلوهم صادّين لهم عن المسجد الحرام مع أنه لم يكن خارجا لحرب، فقصده المشركون، ثم صالحوه على أن ينصرف هذا العام، ويقيم بها ثلاثا ثم يخرج، (وأن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام بتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا) «٢» وكان النبي قد رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، فبشر بذلك أصحابه، فلما صدهم المشركون خامر قلوبهم شىء، وعادت إلى قلوب بعضهم تهمة حتى قال الصّدّيق: لم يقل العام! فسكنت قلوبهم بنزول الآية لأن الله سبحانه علم ما في قلوبهم من الاضطراب والتشكك. فأنزل السكينة في قلوبهم،
(١) هذه لفتة هامة جدا، حيث لم نتعود من القشيري في سائر مصنفاته أن يستجيز الرخصة. وربما هو يتحدث هنا عن عامة المسلمين، ولكن حينما يتحدث عن الصوفية يعتبر اللجوء إلى الرخصة بمثابة فسخ عقد الإرادة (أنظر الرسالة ص ١٩٩).
(٢) ما بين الأقواس تكملة من عندنا اعتمدنا فيها على المصادر المختلفة. أوردناها ليتضح الساق
426
وثبّتهم باليقين. «وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» هو فتح خيبر بعد مدة يسيرة، وما حصلوا عليه من مغانم كثيرة من خيبر. وقيل ما يأخذونه إلى يوم القيامة «١».
وفي الآية دليل على أنه قد تخطر ببال الإنسان خواطر مشكّكة، وفي الرّيب موقعة، ولكن لا عبرة بها فإنّ الله سبحانه إذا أراد بعبد خيرا لازم التوحيد قلبه، وقارن التحقيق سرّه فلا يضرّه كيد الشيطان، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» «٢».
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ويدخل في ذلك جميع ما يغنمه المسلمون إلى القيامة فعجّل لكم هذه- يعنى خيبر «٣»، وقيل: الحديبية.
«وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» لما خرجوا من المدينة حرسهم الله، وحفظ عيالهم، وحمى بيضتهم حين هبّ اليهود «٤» فى المدينة بعد خروج المسلمين، فمنعهم الله عنهم.
أو يقال: كفّ أيدى الناس من أهل الحديبية.
«وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» لتكون هذه آية للمؤمنين وعلامة يستدّلون بها على حراسة الله لهم.
«وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» : فى التوكل على الله والثقة به.
ويقال: كفّ أيدى الناس عن العبد هو أن يرزقه من حيث لا يحتسب، لئلا يحتاج إلى أن يتكفّف الناس.
ويقال: أن يرفع عنه أيدى الظّلمة.
(١) هذا أيضا قول ابن عباس ومجاهد.
(٢) آية ٢٠١ سورة الأعراف.
(٣) يرجح أنها خيبر، لأن الحديبية كان فيها صلح.
(٤) يرجح الطبري ذلك، لأن كف أيدى المشركين في الحديبية مذكور في قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ»
427
ويقال: ألا تحمله المطالبة بسبب كثرة العيال ونفقتهم الكبيرة على الخطر بدينه فيأخذ من الأشياء- برخصة التأويل- ما ليس بطيّب «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢١]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١)
قيل: فتح الروم وفارس «٢». وقيل: فتح مكة «٣».
وكان الله على كل شىء قديرا: فلا تعلقوا بغيره قلوبكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٢]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢)
يعنى: خيبر وأسد وغطفان وغيرهم- لو قاتلوكم لانهزموا، ولا يجدون من دون الله ناصرا قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٣]
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣)
أي سنّة الله خذلانهم ولن تجد لسنة الله تحويلا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٤]
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤)
قيل إن سبعين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله ﷺ من جبل التنعيم متسلحين يريدون قتله (فأخذناهم سلما فاستحييناهم) فأنزل الله هذه الآية في شأنهم «٤».
(١) مرة أخرى ننبه إلى إضافة هذا الكلام إلى موقف القشيري من الرخصة ومداها.
(٢) قال ابن عباس: هى أرض فارس والروم وجميع ما فتحه المسلمون. وهو قول الحسن ومقاتل وابن أبى ليل.
(٣) عن الحسن أيضا وقتادة، وقال عكرمة: حنين.
(٤) فى ص، وم (فأخذهم سلمان)، وهما خطأ في النسخ، فالرواية عن يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس أن (ثمانين) رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي (ص) من جبل التنعيم متسلحين يريدون
وقيل أخذ اثنى عشر رجلا من المشركين- بلا عهد- فمنّ عليهم الرسول ﷺ «١» وقيل: هم أهل الحديبية كانوا قد خرجوا لمنع المسلمين، وحصل ترامى الأحجار بينهم فاضطرهم المسلمون إلى بيوتهم، فأنزل الله هذه الآية يمن عليهم حيث كف أيدى بعضهم عن بعض عن قدرة من المسلمين لا عن عجز فأما الكفار فكفّوا أيديهم رعبا وخوفا وأمّا المسلمون فنهيا من قبل الله، لما في أصلابهم من المؤمنين- أراد الله أن يخرجوا، أو لما علم أن قوما منهم يؤمنون.
والإشارة فيه: أن من الغنيمة الباردة والنعم السنية أن يسلم الناس منك، وتسلم منهم.
وإن الله يفعل بأوليائه ذلك، فلا من أحد عليهم حيف، ولا منهم على أحد حيف ولا حساب ولا مطالبة ولا صلح ولا معاتبة، ولا صداقة ولا عداوة.. وكذا من كان بالحق- وأنشدوا:
فلم يبق لى وقت لذكر مخالف ولم يبق لى قلب لذكر موافق.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٥]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥)
«كَفَرُوا» وجحدوا، «وَصَدُّوكُمْ» ومنعوكم عن المسجد الحرام سنة الحديبية.
«وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً «٢» » : أي منعوا الهدى أن يبلغ منحره، فمعكوفا حال من الهدى أي محبوسا.
- غرة (أن يصيبوه على غفلة) رسول الله ﷺ وأصحابه، فأخذناهم سلما فاستحييناهم. (أي أخذوا قهرا وأسلموا أنفسهم (وقال ابن الأثير) السلم (بكسر السين وفتحها لغتان في الصلح). وفي رواية قتادة أن النبي سألهم: «هل لكم على ذمة؟ (أي عهد) قالوا: لا، فأرسلهم فنزلت.
وفي رواية الترمذي أنهم ثمانون رجلا هبطوا عليه عند صلاة الصبح، فأخذهم وأعتقهم. وذكر ابن هشام أنهم يسمّون العتقاء.. ومنهم معاوية وأبوه.
(١) عن قتادة: أن المشركين رموا رجلا من أصحاب النبي يقال له زنيم بسهم فقتلوه، فبعث النبي خيلا فأتو باثنى عشر فارسا من الكفار، فقال لهم النبي (ص) : هل لكم على ذمة؟... إلخ. [.....]
(٢) فى البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله (ص) معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر الرسول وحلق رأسه، فنحروا بنحره وحلقوا، وقد غضب الرسول ممن توقف عن ذلك.
وكان النبي ﷺ قد ساق تلك السّنة سبعين بدنة.
قوله جل ذكره: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ «١» فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» لو تسلطتم عليهم لأصابتهم معرة ومضرّة منكم بغير علم لسلّطناكم عليهم ولأظفرناكم بهم.
وفي هذا تعريف للعبد بأن أمورا قد تنغلق وتتعسّر فيضيق قلب الإنسان.. ولله في ذلك سرّ، ولا يعدم ما يجرى من الأمر أن يكون خيرا للعبد وهو لا يدرى.. كما قالوا:
كم مرة حفّت بك المكاره خير لك الله.. وأنت كاره
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٦]
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)
يعنى الأنفة «٢» أي دفعتهم أنفة الجاهلية أن يمنعوكم عن المسجد الحرام سنة الحديبية، فأنزل الله سكينته في قلوب المؤمنين حيث لم يقابلوهم بالخلاف والمحاربة، ووقفوا واستقبلوا الأمر بالحلم.
«وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى» وهي كلمة التوحيد تصدر عن قلب صادق: فكلمة التقوى يكون معها الاتقاء من الشّرك.
(١) أن تطئوهم: بالقتل والإيقاع بهم. يقال وطئت القوم: أي أوقعت بهم. فجواب لولا محذوف والمعنى:
ولو أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم، ولكننا صنا من كان فيها يكتم وإيمانه.
(٢) هكذا في م وهي في ص (الإنية) وقد رجحنا الأولى.
«وَكانُوا أَحَقَّ بِها» حسب سابق حكمه وقديم «١» علمه.. «وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» ويقال: الإلزام في الآية هو إلزام إكرام ولطف، لا إلزام إكراه وعنف وإلزام برّ لا إلزام جبر..
وكم باسطين إلى وصلنا... أكفهمو... لم ينالوا نصيبا!
ويقال كلمة التقوى: التواصي بينهم بحفظ حق الله.
ويقال: هى أن تكون لك حاجة فتسأل الله ولا تبديها للناس.
ويقال: هى سؤالك من الله أن يحرسك من المطامع.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٧]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧)
أي صدقه «٢» فى رؤياه ولم يكذبه صدقه فيما أراه «٣» من دخول مكة «آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» كذلك أراه لما خرج إلى الحديبية وأخبر أصحابه. فوطّن أصحابه نفوسهم على دخول مكة في تلك السنة. فلمّا كان من أمر الحديبية عاد إلى قلوب بعض المسلمين شىء، حتى قيل لهم لم يكن في الرؤيا دخولهم في هذا العام، ثم أذن الله في العام القابل، فأنزل الله:
«لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» فكان ذلك تحقيقا لما أراه، فرؤياه صلوات الله عليه حق لأن رؤيا الأنبياء حق
(١) هكذا في ص وهي في م (وقدر) وقد رجحنا الأولى.
(٢) أي على حذف الجار كقوله تعالى: «صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ»
(٣) إشارة إلى الرؤيا التي أراه إياها من دخوله وصحبه مكة آمنين.
وكان في ذلك نوع امتحان لهم: «فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا» أنتم من الحكمة في التأخير «١».
وقوله: «إِنْ شاءَ اللَّهُ» معناه إذ شاء الله كقوله: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» وقيل. قالها على جهة تنبيههم إلى التأدّب بتقديم المشيئة في خطابهم «٢» وقيل يرجع تقديم المشيئة إلى: إن شاء الله آمنين أو غير آمنين.
وقيل. يرجع تقديم المشيئة إلى دخول كلّهم أو دخول بعضهم فإن الدخول كان بعد سنة، ومات منهم قوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٨]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨)
أرسل رسوله محمدا ﷺ بالدين الحنفي، وشريعة الإسلام ليظهره على كل ما هو دين «٣» فما من دين لقوم إلا ومنه في أيدى المسلمين سرّ وللإسلام العزة والغلبة عليه بالحجج والآيات.
وقيل: ليظهره وقت نزول عيسى عليه السلام «٤».
وقيل: فى القيامة حيث يظهر الإسلام على كل الأديان.
وقيل: ليظهره على الدين كله بالحجة والدليل.
قوله جل ذكره:
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٩]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
(١) قد تكون الحكمة في التأخير هو ما سيحدث لهم من الخير والصلاح والتفوق وكثرة العدد، فإنه عليه السلام رجع من هذا الموقف إلى خيبر فافتتحها، ورجع بأموال وعدة ورجال أضعاف ما كان عليه في ذلك العام، وأقبل على مكة في أهبة وعدة. يدلك على ذلك أنهم كانوا عام الحديبية سنة ست عددهم ألف وأربعمائة، وكانوا بعده عشرة آلاف.
(٢) إشارة إلى قوله تعالى: «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ».
(٣) أي أن (الدين) فى الآية اسم جنس، أو اسم بمعنى المصدر، ويستوى فيه المفرد والجمع.
(٤) أي عند نزوله لا يبقى على وجه الأرض كافر.
432
«أَشِدَّاءُ». جمع شديد، أي فيهم صلابة مع الكفار.
«رُحَماءُ». جمع رحيم، وصفهم بالرحمة والتوادّ فيما بينهم.
«... تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً» تراهم راكعين ساجدين يطلبون من الله الفضل والرضوان.
«... سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» أي علامة التخشع التي على الصالحين.
ويقال: هى في القيامة يوم تبيضّ وجوه، وأنهم يكونون غدا محجلين.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» «١» ويقال في التفسير: «مَعَهُ» أبوبكر، و «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ» عمر و «رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» :
عثمان، و «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً» عليّ رضى الله عنهم «٢» وقيل: الآية عامة في المؤمنين.
«ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ».
هذا مثلهم في التوراة، وأمّا مثلهم في الإنجيل فكزرع «٣» أخرج شطأه أي: فراخه.
(١) جاء في سنن ابن ماجة: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحى قال «حدثنا ثابت بن موسى عن شريك عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كثرت صلاته... » وقال ابن العربي: هو مدسوس على وجه الغلط.
(٢) هكذا في م أما في ص فلم يرد ذكر الصحابة رضوان الله عليهم سوى الجزء الأخير الخاص بعلى كرم الله وجهه، وقد يمكن لو تذكرنا ما جاء في هامش ص ٤٢٥- أن نستنبط أن ناسخ ص- الذي هو فارسى الأصل كما قلنا فى مدخل الكتاب- ربما كان شيعيا.
(٣) فعل هذا يجوز الوقف على (التوراة) ثم يستأنف الكلام فيكون هناك مثلان. وقال مجاهد: هو مثل واحد. وعند النسفي: مكتوب في الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (ح ٤ ص ١٦٤).
433
يقال: أشطأ الزرع إذا أخرج صغاره على جوانبه. «فَآزَرَهُ» أي عاونه. «فَاسْتَغْلَظَ» أي غلظ واستوى على سوقه وآزرت الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض. يعجب هذا الزرع الزرّاع ليغيظ بالمسلمين الكفار شبّه النبي (صلى الله عليه وسلم) بالزرع حين تخرج طاقة واحدة ما ينبت حولها فتشتد، كذلك كان وحده في تقوية دينه بمن حوله من المسلمين.
فمن حمل الآية على الصحابة: فمن أبغضهم دخل في الكفر، لأنه قال: «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» أي بأصحابه الكفار. ومن حمله على المسلمين ففيه حجّة على الإجماع، لأنّ من خالف الإجماع- فالله يغايظ به الكفار- فمخالف الإجماع كافر قوله جل ذكره: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» وعد المؤمنين والمؤمنات مغفرة للذنوب، وأجرا عظيما في الجنة فقوله: «مِنْهُمْ» للجنس أو للذين ختم لهم منهم بالإيمان.
434
بسم الله الرّحمن الرّحيم [ «بِسْمِ اللَّهِ» : إخبار عن وجود الحقّ بنعت القدم.
«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» : إخبار عن بقائه بوصف العلاء والكرم.
كاشف الأرواح بقوله: «بِسْمِ اللَّهِ» فهيمّها.
وكاشف النفوس بقوله: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فتيّمها فالأرواح دهشى في كشف جلاله، والنفوس عطشى إلى لطف جماله].
عبد الكريم القشيري فى بسملة «الشمس»
435
Icon