تفسير سورة نوح

مراح لبيد
تفسير سورة سورة نوح من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة نوح
مكية، ثمان وعشرون آية، مائتان وأربع وعشرون كلمة، تسعمائة وتسعمائة وعشرون حرفا
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وكانوا جميع أهل الأرض أهل عصره أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ وأن حرف مصدري والمعنى: أرسلناه بأن قلنا له: «أنذر» أي أرسلناه بالأمر بالإنذار، ويجوز أن تكون مفسرة. وقرأ ابن مسعود «أنذر» بغير «أن» على إرادة القول والتقدير: أنا أرسلناه وقلنا له: أنذر، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة، فلما جاءهم قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أي موضح لحقيقة الأمر بلغة تعلمونها، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ فالأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح، والأمر بالتقوى، ويتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات، وَأَطِيعُونِ (٣) فالأمر بطاعة نوح يتناول أداء جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعض ذنوبكم وهو ما سلف في الجاهلية فالإسلام يجبه، وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أمد قدره الله تعالى لهم بشرط الإيمان أي إن الله قضى على قوم نوح مثلا إن آمنوا عمرهم الله ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم الله على رأس تسعمائة سنة، إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي إن ما قدر الله لكم على تقدير بقائكم على الكفر إِذا جاءَ وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر لا يُؤَخَّرُ فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه، لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) شيئا لسارعتم إلى ما أمرتكم به، فلما أيس نوح منهم بعد ما دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يؤمنوا ولم يقبلوا نصيحته. قالَ أي نوح: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى الإيمان والطاعة لَيْلًا وَنَهاراً (٥) أي دائما، من غير فتور فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (٦) مما دعوتهم إليه وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان والتوبة لِتَغْفِرَ لَهُمْ بسببهما، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ أي سدوا مسامعهم لكيلا يسمعوا دعوتي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي غطوا رؤوسهم بثيابهم لكي لا يسمعوا صوتي ولا يروني، وَأَصَرُّوا على الكفر والمعاصي وَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان والتوبة اسْتِكْباراً (٧) عظيما بالغا إلى النهاية القصوى، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ إلى التوحيد والتوبة جِهاراً (٨) أي بأعلى صوتي، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ
إِسْراراً
(٩)، فمراتب دعوة نوح عليه السلام ثلاثة فبدأ بالمناصحة في السر، فجازوه بالأمور الأربعة، ثم ثنى بالمجاهرة، وهي أشد من الإسرار، ثم جمع بين الإعلان والإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد فَقُلْتُ لهم: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ بالتوبة عن الكفر والمعاصي إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) في حق كل من استغفره
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) أي مطرا دائما، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ، أي يعطكم أموالا إبلا وبقرا وغنما وبنين ذكورا وإناثا، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) تجري لمنافعكم. قيل: لما كذبوا نوحا عليه السلام حبس الله عنهم المطر أربعين سنة، وقطع نسل دوابهم ونسائهم أربعين سنة وأهلك جناتهم،
وأيبس أنهارهم قبل ذلك بأربعين سنة فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا أن يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما كانوا فيه ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) أي أيّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه بالإيمان به والطاعة له وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)، أي والحال أن الله خلقكم على حالات شتى نطفا، ثم علقا ثم مضغا ثم خلقكم عظاما ولحما، ثم أنشأكم خلقا آخر وهو إلقاء الروح فيه ويقال: والحال أنه تعالى خلقكم أصنافا مختلفين يخالف بعضكم بعضا، أَلَمْ تَرَوْا أي ألم تخبروا يا كفار مكة كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) أي متوازية بعضها فوق بعض مثل القبة، ملتزقة أطرافها، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً أي منورا لوجه الأرض في ظلمة الليل ونسبته للكل مع أنه في السماء الدنيا، لأن كل واحدة من سبع سموات شفافة لا يحجب ما وراءها، فيرى الكل كأنها سماء واحدة، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) يزيل الظلمة ويبصر أهل الدنيا في ضوئها وجه الأرض، كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى أبصاره. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) أي أنبتكم من الأرض، فنبتم نباتا عجيبا، والمعنى: والله أنشأكم منها فنشأتم نشأة عجيبة، فإنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات، المتولد من الأرض ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها بالدفن عند موتكم، وَيُخْرِجُكُمْ منها عند البعث والحشر، إِخْراجاً (١٨) محققا لا ريب فيه، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً (٢٠) أي لتأخذوا فيها طرقا واسعة.
قالَ نُوحٌ مناجيا له تعالى: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي فيما أمرتهم به من التوحيد والتوبة، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً (٢١) وهم رؤساؤهم الذين يدعونهم إلى الكفر. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «ولده» بفتح الواو واللام. والباقون بضم الواو وإسكان اللام وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) معطوف على صلة من أي واتبعوا من مكروا إلخ، أي كأن الرؤساء قالوا لأتباعهم: إن آلهتكم خير من إله نوح، لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد، وإله نوح لا يعطيه شيئا، لأنه فقير فبهذا المكر صرفوهم عن طاعة نوح أو قالوا لأتباعهم هذه الأصنام آلهة لكم، وكانت آلهة لآبائكم فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك. وهذه
567
الإشارة صارفة لهم عن الدين وقرأ العامة كبارا بضم الكاف وتشديد. الباء وقرأ عيسى وأبو السماك وابن محيصن بالضم والتخفيف. وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضا بكسر الكاف وتخفيف الباء. وَقالُوا أي الرؤساء للسفلة معطوف على الصلة أيضا، أي واتبعوا من قالوا:
لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي لا تتركوا عبادتها إلى عبادة رب نوح، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) أي ولا تتركن عبادة هؤلاء. وقرأ نافع «ودا» بضم الواو والباقون بفتحها وقرأ العامة «يغوث ويعوق» بغير تنوين للعلمية والوزن، أو للعلمية والعجمة. وقرأهما الأعمش مصروفين للتناسب أو على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقا ولعل هذه الأسماء الخمسة أسماء أولاد آدم، فلما ماتوا قال إبليس لمن بعدهم: لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ففعلوا فلما مات أولئك قال لمن بعدهم: إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم حتى بعث الله نوحا عليه السلام، ولهذا السبب نهى الرسول عن زيارة القبور أولا، ثم أذن فيها وقال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن زيارتها تذكرة، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً معطوف على صلة من أي واتبعوا من قد أضلوا خلقا كثيرا وهم الرؤساء، أو الأصنام أجريت مجرى الآدميين كقوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ.
وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ أي المشركين إِلَّا ضَلالًا (٢٤) أي عذابا أو ضلالا في أمر دنياهم، وهذا معطوف على قوله تعالى: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي على حكاية كلام نوح بعد «قال»، وبعد «الواو» النائبة عنه، قالوا: وليست من كلام نوح لئلا يعطف الإنشاء على الإخبار لكن الظاهر أن المراد بالأخبار طلب للنصرة عليهم، فيجوز أن تكون الواو من كلام نوح، أي قال نوح: رب إنهم عصوني وقد عجزت وأيست عنهم فانصرني عليهم وقال: لا تزد الظالمين إلا ضلالا، مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا و «ما» صلة و «من» تعليلية أي من أجل خطيئاتهم وبسببها أغرقوا بالطوفان لا بسبب آخر، وقرأ أبو عمرو «خطاياهم». وقرأ ابن مسعود «من خطيئاتهم ما أغرقوا» فأخّر كلمة «ما» فعلى هذه القراءة ف «ما» مع ما بعده في تقدير المصدر. وقرئ «خطياتهم» بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها. وقرئ «خطيئتهم» بالتوحيد على إرادة الجنس، أو إرادة الكفر فقط والخطيئات والخطايا كلاهما جمع خطيئة إلا أن الأول جمع سلامة، والثاني جميع تكسير فَأُدْخِلُوا ناراً في القبر فإن عذاب القبر عقب الإغراق وإن كانوا في الماء، لأن الفاء تدل على أن إدخالهم في النار حصل عقب الإغراق فلا يمكن حمل النار على عذاب جهنم في الآخرة.
قال الضحاك: إنهم كانوا في حالة واحدة يغرقون من جانب ويحرقون في الماء من جانب بقدرة الله تعالى، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (٢٥). وهذا تعريض بأنهم إنما واظبوا على عبادة الأصنام لتكون دافعة للآفات عنهم جالبة للمنافع إليهم، فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام، وما قدرت هي على دفع عذاب الله تعالى عنهم. وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) أي أحدا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ عن دينك من آمن بك ومن أراد أن
568
يؤمن بك، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) أي إلا من سيفجر ويكفر، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ أي أبوي لمك وشمخا بنت أنوش، فإنهما كانا مؤمنين وأخرج ابن أبي حاتم أن المراد: والده وجده، فاسم أبيه لمك واسم جده متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة الفوقية المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام بعدها خاء معجمة. وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما، ويحيى ابن يعمر والنخعي ولولدي، أي ابني سام وحام. وقرأ ابن جبير والجحدري ولوالدي بكسر الدال، أي أبي فيحتمل أن يريد عليه السلام أباه الأقرب الذي ولده وأن يريد جميع من ولده، من لدن آدم إلى من ولده وكان بينه وبين آدم عشرة آباء ولم يكن منهم كافر كما قاله عطاء، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ أي منزلي، أو مسجدي أو سفينتي. وقيل: لمن دخل دخولا مع تصديق القلب مُؤْمِناً خرجت بهذا القيد امرأته وابنه كنعان، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الذين يكونون من بعدي إلى يوم القيامة وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ أي الكافرين إِلَّا تَباراً (٢٨) أي إلّا هلاكا فاستجاب الله دعاءه عليه السلام فأهلكهم بالكلية.
569
Icon