تفسير سورة مريم

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة مريم من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة مريم

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿كهيعص﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: (كاف: كاف، ها: هاد، عين: عالم، صاد: صادق، والياء: يد من الله على خلقه) (١). وهذا قول الكلبي، وزاده بيانا فقال: (معناه كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريته، صادق في وعده) (٢). وعلى هذا كل واحد من هذه الحروف يدل على صفة من صفات الله.
وذكر أبو الهيثم قال: (روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في "كهيعص": هو كاف، هاد، يمين، عزيز، صادق) (٣).
قال أبو الهيثم: (جعل الياء من يمين من قولك: يمن الله الإنسان يمينه، يمنًا، ويُمْنًا فهو مَيْمُون، قال: فَاليَمِيْنُ واليَامِنُ يكونان بمعنى واحد كالقدير والقادر) (٤).
(١) انظر "جامع البيان" ١٦/ ٤١، "بحر العلوم" ٢/ ٣١٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٧٤.
(٢) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٥، "جامع البيان" ١٦/ ٤٢،"معالم التنزيل" ٥/ ٢١٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٧٤.
(٣) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٥، "جامع البيان" ١٦/ ٤١، "معالم التزيل" ٥/ ٢١٨، "الدر المنثور" ٤/ ٤٦٥.
(٤) "تهذيب اللغة" (يمن) ٤/ ٣٩٨٤.
183
وقال أبو إسحاق: (قال أكثر أهل اللغة: إنها حروف التَّهَجِّي تدل على الابتداء بالسورة) (١) (٢).
وقُرئ: ها، يا، بالتفخيم والإمالة (٣). قال أبو علي: (إمالة هذه
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣١٧.
(٢) قال الطبري في "تفسيره" ١/ ٩٣: والصواب من القول عندي في تأويل مفاتيح السور التي هي حروف المعجم: أن الله ثناؤه جعلها حروف مقطعة ولم يصل بعضها ببعض فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف؛ لأنه عن ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة لا على معنى واحد. وقال ابن كثير في "تفسيره" ١/ ٤٠: إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعه التي يتخاطبون بها.
وقال الشوكاني في "تفسيره" ٣/ ٣٦٤: وكما وقع الخلاف في هذا وأمثاله بين الصحابة وقع بين من بعدهم ولم يصح مرفوعًا في ذلك شيء، ومن روي عنه من الصحابة في ذلك شيء فقد روي عن غيره ما يخالفه، وقد يروى عن الصحابي نفسه التفاسير المتخالفه المتناقضة في هذه الفواتح فلا يقوم شيء من ذلك حجة، بل الحق الوقف ورد العلم في مثيلها إلى الله سبحانه.
انظر: "المحرر الوجيز" ١/ ١٣٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١/ ١٥٤، "التفسير الكبير" ٢/ ٥، "التحرير والتنوير"١/ ٩٤، " أضواء البيان" ٤/ ٣٩٩، "مشكل القرآن" لابن قتيبة ٢٩٩.
(٣) قرأ: أبو بكر عن عاصم، والكسائي: (كهيعص) بإمالة الهاء والياء. وقرأ: أبو عمرو البصري: (كهيعص) بإمالة الهاء وفتح الياء. وقرأ: ابن عمر، وحمزة: (كهيعص) بإمالة الياء وفتح الهاء. وقرأ: نافع المدني: (كهيعص) بين اللفظين فيهما، وذكر عنه الفتح. وقرأ: ابن كثير المكي، وحفص عن عاصم: (كهيعص) بفتحهما وتبيين الدال. انظر: "السبعة" ص ٤٠٦، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٨٤، "المبسوط في القراءات" ص ٢٤٢، "حجة القراءات" ص ٤٣٧، "التبصرة" ص ٢٥٥.
184
الحروف لا يمتنع؛ لأنها ليست بحروف معنى، وإنما هي أسماء لهذه الأصوات) (١).
قال سيبويه: (قالوا: يا، تا؛ لأنها أسماء ما يتهجى به) (٢). (فلما كانت أسماء غير حروف [جازت فيها الإمالة كما جازت في الأسماء، ويدلك على أنها أسماء غير حروف] (٣) أنها إذا أخبرت عنها أعربتها، كما أن أسماء العدد إذا أخبرت عنها أعربتها، فكما أن أسماء العدد قبل أن تعربها أسماء، فكذلك هذه الحروف، وإذا كانت أسماء شاعت فيها الإمالة) (٤).
وروى حفص عن عاصم: عين صاد بين النون (٥).
قال أبو عثمان: (بيان النون مع حروف الفم (٦) لحن؛ إلا أن هذه تجري على الوقف عليها والقطع لها مما بعدها، فحكمها البيان وأن لا تُخفى) (٧). (وقول عاصم هو القياس فيها، وكذلك أسماء العدد حكمها على الوقف وعلى أنها منفصلة مما بعدها، ومما يبين أنها على الوقف أنهم قالوا: ثلاثة، أربعه، فألقوا حركة الهمزة على الهاء لسكونها ولم يقلبوها تاء وإن كانت موصولة لما كانت النية بها الوقف، فكذلك النون ينبغي أن
(١) "الحجة للقراء السبعة" ١٨٥/ ٥.
(٢) "الكتاب" لسيبويه ٢/ ٢٦٧.
(٣) ما بين المعقوفتين ساقط من (س).
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٨٥.
(٥) انظر: "السبعة" ص ٤٠٧، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٨٥.
(٦) في (ص): (الفهم)، وهو تصحيف.
(٧) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٨٥.
185
تبين؛ لأنها في نية الوقف والانفصال مما بعدها. ولمن لم يبين أن يستدل بتركهم قطع الهمزة في قولهم: ﴿الم (١) اللَّهُ﴾ [آل عمران: ١، ٢] ألا ترى أن الهمزة لم تقطع، وإن كانت في تقدير الانفصال مما قبلها، وكما لم تقطع الهمزة في (الم الله) وفي قولهم: واحد اثنان، كذلك لم تبين النون؛ لأنها جعلت في حكم الاتصال كما كان الهمزة فيما ذكرنا) (١). كذلك قال أبو الحسن: (تبين النون أجود في العربية؛ لأن حروف العدد والهجاء منفصل بعضه من بعض، وعامة القراء على خلاف التبيين) (٢).
٢ - وقوله تعالى: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ قال أبو إسحاق: ("ذكر" مرتفع بالمضمر المعنى: هذا الذي نتلو عليك ذكر) (٣). قال الأخفش: (كأنه قال: ومما نقص عليك ذكر رحمة ربك) (٤).
وذكر الفراء وجها آخر فقال: (الذكر مرفوع بكهيعص) (٤). وأنكره الزجاج فقال: (هذا محال؛ لأن كهيعص ليس مما أنباء الله به عن زكريا، ولم يجيء في شيء من التفسير أن كهيعص هو قصة زكريا) (٦).
وقول الفراء صحيح على قول من يقول: كهيعص اسم لهذه السورة،
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٨٦.
(٢) "معاني القرآن" للأخفش ١/ ١٧٣، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٨٦.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣١٨.
(٤) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٢٤.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦١. قال أبو البقاء في "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٠: وفيه بعد؛ لأن الخبر هو المبتدأ في المعنى وليس في الحروف المقطعة ذكر الرحمة، ولا في ذكر الرحمة معناها.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣١٨.
وهو قول الحسن (١). ويصير المعنى كأنه قيل هذه السورة ذكر رحمة ربك، وقد تضمنت هذه السورة قصة زكريا.
وذكر صاحب النظم هذا القول فقال: (هذه الحروف كأنها اسم لهذه السورة، فصارت مبتدأ وصار خبرها في قوله: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾ (٢) (٣).
وقال ابن الأنباري مصححًا قول الفراء منكرًا على الزجاج: (تلخيص قول الفراء كهيعص ابتداء ذكر رحمة ربك، وتقدمه ذكر رحمة ربك ثم حذف المضاف، وافتتاح الشيء داخل فيه ومحسوب من جملته) (٤). والمراد بالرحمة هاهنا: إجابة الله تعالى زكريا حين دعاه وسأله الولد (٥). وانتصب قوله: "عبده" بالذكر، ومعنى الآية على التقديم والتأخير تقديرها: ذكر ربك عبده بالرحمة، هذا قول الفراء، والزجاج، وصاحب النظم (٦).
وقال الأخفش: (انتصب العبد بالرحمة كما نقول: هذا ذكر ضرب زيد عمرا) (٧). وهذا هو الوجه؛ لأن الله تعالى ذكر في هذه السورة رحمته زكريا بإجابة دعائه، وليس يحتاج في هذا القول تقدير التقديم والتأخير.
٣ - قوله تعالى: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ بمعنى: الخافي، يقال:
(١) "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٢، "معالم التنزيل" ٥/ ٢١٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٠٦.
(٢) في (ص): (ثم حذف المضاف)، زائد على الأصل.
(٣) ذكره نحوه بلا نسبة "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٢٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٧٥، "البحر المحيط" ٦/ ١٧٢.
(٤) أورده بلا نسبة "المحتسب" ٢/ ٣٧، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٢٥، "البحر المحيط" ٦/ ١٧٢، "الدر المصون" ٧/ ٥٦١.
(٥) "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٤، "التفسير الكبير" ١١/ ١٧٩، "فتح القدير" ٣/ ٤٥٨.
(٦) "معاني القرآن للفراء" ٢/ ٢٦١، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣١٨.
(٧) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٢٤.
187
خفي الشيء يخفى، خفاء، فهو خاف، وخفي كما يقال: سامع وسميع (١). قال ابن عباس: (يريد يخفي ذلك في نفسه) (٢). قال ابن جريج: (لا يريد رياء) (٣).
وهذا يدل على أن المستحب في الدعاء الإخفاء. قال الحسن: (وقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله -عز وجل- يقول (٤): ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: ٥٥] (٥). وذكر الله عبدا صالحًا ورضي قوله فقال: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ وقال الكلبي: (أخفاه وأسره عن قومه لئلا يسمعوه) (٦). وهذا يقرب من قول من قال: إنما أخفى؛ لأنه خاف أن يلام على مسألته الولد عند كبر سنه فدعاء الله خفيا من قومه. وهذا القول حكاه ابن الأنباري عن الكلبي، ومقاتل بن سليمان قالا: (إنما أخفى نداءه استيحاء من أن يرى الناس شيخا كبيرا يتمنى الولد ويحب أن يرزقه) (٧).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" (خفى) ١/ ١٠٧٠، "المعجم الوسيط" (خفى) ١/ ٢٤٧.
(٢) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١١٣، " الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٧٦، "التفسير الكبير" ٢١/ ١٨٠، "روح المعاني" ١٦/ ٥٩.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ٤٥، " النكت والعيون" ٣/ ٣٥٤، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٢٦، "زاد المسير" ٥/ ٢٠٦، "الدر المنثور" ٤/ ٤٦٦.
(٤) قوله: (يقول)، ساقط من (ص).
(٥) ذكر نحوه مختصرًا الهواري في "تفسيره" ٣/ ٦.
(٦) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة.
انظر: "بحر العلوم" ٢/ ٣١٨، "زاد المسير" ٥/ ٢٠٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٧٦، "التفسير الكبير" ١١/ ١٨٠، "البحر المحيط" ٦/ ١٧٣ "أنوار التنزيل" ٤/ ٢.
(٧) "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٠٦. وقال الشقيطي في "أضواء =
188
٤ - قوله تعال ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ وهن: ضعف يَهِن وَهْنا، ووَهَنا، فهو واهنِ، وأوهنه يُوهِنُه (١). ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ﴾ أي: انتشر فيه الشيب كما ينتشر شعاع النار في الحطب، وهذا من أحسن الإشارة إذ شبه بياض الشيب وانتشاره في الرأس بشعاع النار وانتشارها (٢). وأصل هذا الحرف من الاشتعال يقال: غارة مُشْعِلة، وقد أَشْعَلَت إذا تفرقت.
قال ابن السكيت: (جاء جيش كالجراد المُشْعِل، وهو الذي يخرج في كل وجه، وكَتِيْبَةٌ مُشْعَلَةُ: إذا انتشرت) (٣). قال جرير (٤):
عَايَنْت مُشْعِلَةَ الرِّعَالِ كَأنَّها طَيْرٌ تُغَاوِلُ في شَمَامِ وُكُوْرا
ويقال أيضًا: أَشْعَلْت جَمْعَهم، أي: فرقتهم، ومنه يقال: أَشْعَلْتُ النار في الحطب، أي: فرقتها فيه فَاشْتَعَلَت. قال الزجاج: (يقال للشيب إذا كثر جدا: قد اشتعل رأس فلان) (٥). قال لبيد (٦):
= البيان" ٤/ ٢٠٤ بعد ذكر هذه الأقوال: كل ذلك ليس بالأظهر، والأظهر أن السر في إخفائه هو ما ذكرنا من كون الإخفاء أفضل من الإعلان في الدعاء.
(١) انظر: "تهذيب اللغة" (وهن) ٤/ ٣٩٦٦، "مقاييس اللغة" (وهن) ٦/ ١٤٩، "القاموس المحيط" (وهن) ١٢٣٩، "لسان العرب" (وهن) ٨/ ٤٩٣٥.
(٢) انظر: "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٥، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٢٦، "الكشاف" ٢/ ٤٠٥، "الإيضاح في علوم البلاغة" ٣٠٢، "البرهان في علوم القرآن" ٣/ ٤٣٥.
(٣) "تهذيب اللغة" (شعل) ٢/ ١٨٩١.
(٤) البيت لجرير في قصيدة يهجو بها الأخطل، المُشْعَلَة: المتفرقه والرِّعَال: قطع الخيل. وتُغاوِلُ: تبادر سرعة. وشَمَام: جبل.
انظر: "ديوان جرير" ص ٢٢٤، "تهذيب اللغة" (غال) ٣/ ٢٦٢٤، "لسان العرب" (غول) ٦/ ٣٣١٩.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣١٩.
(٦) البيت للبيد من قصيدة يتحدث فيها عن مآثره ومواقفه، ويأسى لفقد أخيه أربد. انظر: "ديوان لبيد بن ربيعة" ص ١٤٠.
189
أَلَمْ تَرَى رَأْسي أَمْسَى وَاضِحًا سُلِّطَ الشَّيْب عَلَيْه فَاشْتَعَل
أي: انتشر وكثر، والإشتعال للشيب إلا أنه نقل الفعل إلى الرأس فخرج الشيب مفسرًا ولذلك نصب كما يقال: ألم رأسه، ووجع بطنه (١).
وقال بعضهم: انتصب قوله: "شيبا" على المصدر كأنه قال: شاب رأسي شيبًا (٢).
قال ابن الأنباري: (المعنى واشتعل شيب الرأس، فنقل الفعل عن الشيب إلى الرأس وانتصب الشيب بتحول الفعل عنه وخروجه من الوصف، يعني من أن يوصف بأنه فاعل، كما يقال: مررت برجل حسن وجها، نقلوا الحسن إلى الرجل، فلما انعدل الحسن عن الوجه انتصب بخروجه عن الوصف. قال: ويجوز أن يكون الشيب نائبًا عن المصدر، والتأويل واشتعل الرأس اشتعالا، فسد الشيب مسد الاشتعال، كما تقول: جاء فلان ركضا، والتأويل ركض ركضا أو جاء مجيئًا) (٣).
ومعنى الشيب: مخالطة الشعر الأبيض الأسود، وهو موافق لمعنى الشايب الذي يخلط الشيء بغيره (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ﴾ أي: بدعائي إياك، والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول ﴿رَبِّ شَقِيًّا﴾ قال ابن عباس: (لم تكن تخيب
(١) "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٠، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٠١.
(٢) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٢٤، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٠١.
(٣) ذكره نحوه بلا نسبة "إملاء ما من به الرحمن" ص ٤٠٦، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٢٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٧٧، "الدر المصون" ٧/ ٥٦٥.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (شاب) ٢/ ١٧٩٩، "مقاييس اللغة" (شيب) ٣/ ٢٣٢، "القاموس المحيط" (شيب) ٩٩، "المعجم الوسيط" (شيب) ١/ ٥٠٢.
190
دعائي إذا دعوتك) (١).
[وقال مجاهد: (كنت تعرفني الإجابة إذا دعوتك)] (٢) (٣). وهذا قول الجميع. ويقال: شقي فلان بكذا (٤) إذا أتعب بسببه ولم يحصل له طائل، يقول: لم أكن أتعب بالدعاء ثم أخيب.
٥ - وقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي﴾ أراد بالموالي: الورثة، وهم العصبة، والكلالة. قاله ابن عباس في رواية الضحاك، وهو قول مجاهد، وجميع أهل التفسير (٥).
قال الزجاج: (ومعنى "الموالي": هم الذين يلونه في النسب، كما أن معنى القرابة: الذين يقربون منه بالنسب) (٦).
وقال الفراء: (﴿الْمَوَالِيَ﴾ هم: بنو العم، وورثته، والولي والمَوْلَى في كلام العرب واحد) (٧).
ويقول تعالى: ﴿مِنْ وَرَائِي﴾ أي: من بعد موتي، واختلفوا في معنى
(١) ذكرته بعض كتب التفاسير بدون نسبة.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٤٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٥، "معالم التنزيل" ٥/ ٢١٨، "تنوير المقباس" ٢٥٤.
(٢) ذكره الطبري في "تفسيره" ١٦/ ٤٦ بدون نسبة، وكذلك الماوردي في "تفسيره" ٣/ ٣٥٥.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٤) قوله: (بكذا)، ساقط من (س).
(٥) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٣، "جامع البيان" ١٦/ ٤٦ - ٤٧، "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٥، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٢٧، "معالم التنزيل" ٥/ ٢١٨.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٢١٩.
(٧) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦١.
191
خوفه فقال بعضهم: (خاف أن يرثه غير الولد) (١).
وقيل: (خاف أن تذهب النبوة من نسبه إلى بني الأعمام) (٢). وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا يكون خوفًا من الموالي، والصحيح في معنى خوفه ما ذكره أبو علي فقال: (الخوف لا يكون من الأعيان في الحقيقة، إنما يكون من معان فيها، فإذا قال القائل: خفت الله، وخفت الوالي، وخفت الناس، فالمعنى: خفت عقاب الله ومؤاخذته، وخفت عقوبة الوالي، وملامة الناس، وكذلك أي: "خفت الموالي من ورائي"، أي خفت تضيج بني عمي، فحذف المضاف، والمعنى تضييعهم للدين، ونبذهم إياه وإطراحهم له، فسأل ربه وليا يرث نبوته وعلمه لئلا يضيع الدين، وكأن الذي حمله على مسألة ذلك ما شاهدهم عليه من تبديلهم للدين وتوثُّبِهِم على الأنبياء وقتلهم إياهم) (٣).
ويؤكد هذا ما روى عطاء عن ابن عباس قال: (يريد بالموالي بني إسرائيل) (٤). وبنو إسرائيل كانوا يبدلون ويقتلون الأنبياء (٥)، وعلى هذا
(١) "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٢٧، "الكشاف" ٢/ ٤٠٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٠٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٧٨.
(٢) ذكرت كتب التفسير نحوه. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٤٦، "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٣، "الكشف والبيان" ٣/ ٢ أ، "معالم التنزيل" ٥/ ٢١٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٠٩.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٨٩.
(٤) ذكر في كتب التفاسير بدون نسبة. انظر: "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٥، "الكشاف" ٢/ ٤٠٥، "روح المعاني" ١٦/ ٦١، "الدر المصون" ٧/ ٥٦٦.
(٥) وإلى هذا أشار القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة البقرة الآية (٥٩): ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ الآية. =
192
سَمَّى بني إسرائيل موالي؛ لأنهم كانوا بني أعمامه.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾ أي: عقيما لا تلد، وهذا الذي قاله زكريا إخبار عن خوفه فإما مضى حين كانت امرأته لا تلد، وكان هو آيسًا من الولد لذلك ذكره بلفظ الماضي في "خفت" "وكانت".
وقوله تعالى: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ أي: ابنا صالحًا يتولاه، قال أبو إسحاق: (قوله: ﴿وَلِيًّا﴾ يدل على أنه سأل ولدًا دَيِّنًا؛ لأن غير الدَّيِّنِ لا يكون وليا لنبي) (١).
٦ - قوله تعالى: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ﴾ قرئ: بالرفع، والجزم (٢). فالرفع على صفة الولي، كأنه سأل وليا وارثًا علمه ونبوته، والجزم على جواب الأمر، والرفع أصح القراءتين، إذ ليس المعنى على الجزاء وذلك؛ لأنه ليس كل ولي يرث، وإذا كان كذلك لم يسهل الجزاء من حيث لم يصح إن وهبته ورث؛ لأنه قد يهب له وليا لا يرث بأن يموت قبله، أو لا يصلح لخلافة النبوة، وإذا كان كذلك كان الوجه الرفع، ووجه الجزم أنه أراد بالولي وليا وارثًا، فيصح الشرط بأن تقول: إن وهبت ورث إذا كان المسؤول وليًا وإرثًا (٣).
= وقال سبحانه في الآية (٦١): ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٠.
(٢) قرأ: ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: (يرثنني ويرث) برفعهما. وقرأ: أبو عمرو والبصري، والكسائي: (يرثني ويرث) بالجزم فيهما.
انظر: "السبعة" ص ٤٠٧، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩١، "العنوان في القراءات" ١٢٦، "النشر" ٢/ ٣١٧.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩١.
193
واختلفوا فيم يرثه هذا الولي فقال ابن عباس في رواية عطاء: (يرث النبوة) (١). وهو قول أبي صالح: (يكون نبيا كما كانت أباؤه أنبياء) (٢). وقال مجاهد والسدي: (يرث العلم والنبوة) (٣).
وقال الكلبي: (يرث مكاني وحبورتي) (٤).
وقال قتادة: (نبوتي وعلمي) (٥).
وقال ابن قتيبة: (يرثني الحبورة، وكان زكريا حبرا، ﴿وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ الملك، قال: وكذلك قيل في التفسير) (٦).
وقال قوم: أراد وراثة المال. وهو قول ابن عباس في رواية عكرمة قال: (يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة). وهو قول الحسن وسفيان (٧). والصحيح القول الأول (٨).
= قرئ بالرفع والجزم كما مر معنا آنفا، وثبتت القراءة بهما وصحت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا وجه لتضعيف قراءة الجزم.
(١) "التفسير الكبير" ١١/ ١٨٤، وذكره بدون نسبة ابن الجوزي في "تفسيره" ٥/ ٢٠٩، وكذلك القرطبي في "تفسيره" ١٦/ ٨١.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٤٧، "الدر المنثور" ٤/ ٤٦٧.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ٤٨، "الوسيط" ٣/ ١٧٦.
(٤) "روح المعاني" ١٦/ ٦٢، وذكره بدون نسبة البغوي في "تفسيره" ٥/ ٢١٩، والزمخشري في "كشافه" ٢/ ٤٠٥.
(٥) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٥، "جامع البيان" ١٦/ ٤٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٤.
(٦) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٢/ ٢.
(٧) "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢١٩، "زاد المسير" ٥/ ٢٠٩، "الدر المنثور" ٤/ ٤٦٧.
(٨) وهو قول جمهور المفسرين، وتشهد له الأحاديث الصحيحة.
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" ٣/ ١٢٤: إن النبي أعظم مزلة وأجل قدرًا =
194
قال أبو إسحاق: (لا يجوز أن يخاف زكريا أن يورث المال؛ لأن أمر الأنبياء والصالحين أنهم لا يخافون أن يرثهم أقرباؤهم ما جعله الله لهم) (١). وكان يحيى بن يعمر (٢) يقول: (لئن كان إنما قال يرثني مالي إن كان إذا لجشعا) (٣).
قال أبو علي: (لا يخلو هذا من أن يكون أراد يرث مالي، وعلمي، ونبوتي، وفيما أثر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أنه قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" (٤). دلالة على أن الذي سأل أن يرثه وليه ليس
= من أن يشفق على حاله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثه عصابته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه.
والثاني: أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجارا يأكل من كسب يديه ومثل هذا لا يجمع ولا سيما أن الأنبياء كانوا أزهد شيء في الدنيا.
والثالث: أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا نورث مما تركنا صدقه". وعلى هذا فيتعين أن المراد ميراث النبوة. وانظر: "زاد المسير" ٥/ ٢٠٩، "أضواء البيان" ٤/ ٢٠٦.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٠.
(٢) يحيى بن يعمر العدواني، أبو سليمان البصري، قاضي مرو، إمام تابعي ثقة، فقيه مقرئ، نحوي أديب، عالم باللغة، يقال أنه أول من نقط المصحف، مات -رحمه الله- قبل المائة وقيل بعدها. انظر:"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٤٤١، "غاية النهاية" ٢/ ٣٨١، "تهذيب التهذيب" ١١/ ٣٠٥، "معجم البلدان" ٢٠/ ٤٢.
(٣) لم أقف عليه، وهو قول بعيد؛ لأنه لا يصح أن يقال ذلك في حق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فهو وصف لا يليق بمكانة نبي الله زكريا -عليه السلام-، وحاشاه أن يوسف بالجشع وهو صفة ذم، والأنبياء عليهم السلام لهم صفات المدح والثناء فمَد اصطفاهم الله واختصهم بالنبوة وشرفهم بها.
(٤) أخرجه البخاري: كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنقبة فاطمة عليها السلام ٣/ ١٣٦٠، ومسلم: كتاب: الجهاد والسير باب قول =
195
المال، فإذا بطل هذا ثبت الوجه الآخر، على أنه لا يجوز على نبي الله أن يقول: أخاف أن يرثني بنو عمي وعصبتي على ما فرضته لهم، ويدل على صحة هذا قراءة عثمان -رضي الله عنه-: (وإني خَفَّتِ الموالي) (١). أي: أنهم قَلُّوا وقَلَّ من كان منهم يقوم بالدين فسأل وليا يقوم به) (٢).
وبين عبد الله بن مسلم هذا فقال: (زكريا لم يرد يرثني مالا، وأي مال كان لزكريا فيظن به عن عصبته حتى يسأل الله أن يهب له ولدًا يرثه، لقد جَلَّ هذا المال إذا وعَظُم عنده، ونافس عليه منافسة أبناء الدنيا الذين لها يعملون وللمال يكدحون، وإنما كان زكريا ابن آذر نجارا وكان حبرا). كذلك قال وهب بن منبه (٣).
وكلا هذين الأمرين يدل على أنه لا مال له، والذين قالوا: يرثني مالي رووا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: (رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته) (٤). وهذا لا يدل على أنه فسر الآية بوارث
= النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا نورث ما تركناه صدقة" (٣/ ١٣٧٩، والترمذي في "جامعه" كتاب: السير، باب: ما جاء في تركة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ٤/ ١٣٥، وقال: حديث صحيح، وأخرجه النسائي: كتاب: قسم الفيء ٧/ ٩٥، والإمام أحمد في مسنده ١/ ٤.
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٨٩، "مختصر ابن خالويه" ٨٣، "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٥، "المحتسب" ٢/ ٣٧.
(٢) "الحجة السبعة" للفراء ٥/ ١٨٩.
(٣) لم أقف على هذا القول. ولكن له شواهد، فقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: كان زكريا نجارا. انظر: "صحيح مسلم" كتاب الفضائل، باب: من فضائل زكريا عليه السلام ٤/ ١٨٤٧، وابن ماجه كتاب: التجارات، باب: الصناعات ٢/ ٧٢٧، وأحمد ٢/ ٢٩٦، وابن كثير في "تفسيره" ٣/ ١١٤.
(٤) رواه الطبري في "تفسيره" ١٦/ ٣٧ بسنده عن قتادة، وعبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ٣، والثعلبي في "الكشف والبيان" ٣/ ١ ب، والماوردي في "النكت" =
196
الوالي وإنما أراد -صلى الله عليه وسلم-: وما كان عليه من وراثة النبوة والعلم، كأنه يقول: لو لم يسأل الله ولدا يرثه علمه ونبوته ما كان الله ليضيع دينه، وكان يرث ما كان قوم به من أمر الدين غير ولده.
وقولى تعالى: ﴿مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ أكثر الناس على أن هذا يعقوب بن إسحاق، وكان زكريا من سبط يهوذا بن يعقوب (١).
وقال الكلبي: (هو يعقوب بن ماتان، رؤوس بني إسرائيل وبنو ملوكهم، وكان آل يعقوب أخوال ولده؛ لأن امرأة زكريا حنة أخت مريم بنت عمران بن ماتان) (٢).
قوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ الرضى بمعنى المرضي، قال ابن عباس: (يريد يكون عبدًا مرضيا في الصلاح والعفاف والنبوة) (٣).
٧ - وقوله تعالى: ﴿يَا زَكَرِيَّا﴾ فيه إضمار والمعنى: استجاب الله دعاءه فقال: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾ وذكرنا في سورة آل عمران هذه القصة (٤).
= ٣/ ٣٥٦، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ١١/ ١٣، والسيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٤٦٧ وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم، وأورده ابن كثير في "تفسيره" ٣/ ١٢٤، وقال: وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح، والله أعلم.
(١) "الكشاف" ٢/ ٤٠٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٠٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٨٢.
(٢) "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٦، "زاد المسير" ٥/ ٢٠٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٨٢، "روح المعاني" ١٦/ ٦٢.
(٣) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" ٣/ ٢ أ، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٣٠، "معالم التنزيل" ٥/ ٢١٩، "التفسير الكبير" ٢١/ ١٨٥.
(٤) عند قوله سبحانه في سورة آل عمران الآية (٣٩): ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾
197
وقوله تعالى: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ قال ابن عباس في رواية عكرمة: (لم يسم أحد قبله يحيى) (١). وهذا قول قتادة، والكلبي، وابن جريج، والسدي، وابن زيد، واختيار القتبي (٢). وعلى هذا فالفضيلة تثبت ليحيى من حيث أن الله تعالى تولى تسميته باسم لم يسبق به، ولم يكل تسميته إلى الأبوين فكان ذلك تفضيلًا له من هذا الوجه. قال الزجاج: (قيل: سمي يحيى؛ لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها) (٣).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ يريد: (لم يكن له في سابق علمي نظير ولا شبه) (٤).
وقال في رواية الوالبي: (لم تلد العواقر مثله ولدًا) (٥). وهذا قول سعيد بن جبير: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ قال: (عدلاً) (٦). وقال مجاهد: (مثلًا) (٧).
(١) "زاد المسير" ٥/ ٢١٠،"الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٧٣، "روح المعاني" ١٦/ ٦٥، "الدر المنثور" ٤/ ٤٦٨، "تفسير ابن عباس" ٢/ ٥٩٩.
(٢) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٦، "جامع البيان" ١٦/ ٥٠، "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٧، "معالم التنزيل" ٥/ ٢١٩.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٥.
(٤) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٤٩، "الكشف والبيان" ٣/ ٢/ أن "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٧، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٠، "زاد المسير" ٥/ ٢١١، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٣٢، "تفسير القرآن العظيم " ٣/ ١٢٤.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ٤٩،"النكت والعيون" ٣/ ٣٥٧، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٣١، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٠.
(٦) "الدر المنثور" ٤/ ٤٦٨، وقال: شبيهًا. "الكشف والبيان" ٣/ ٣.
(٧) "جامع البيان" ١٦/ ٤٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٣١، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٤، "زاد المسير" ٥/ ٢١١.
198
وعلى هذا القول فالمراد بالسمي: المثل والنظير كقوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: ٦٥]، أي: مثلا وعدلا، ولم يكن ليحيى مثل من البشر من حيث أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط.
٨ - وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ مضى الكلام في معنى هذا الاستفهام في سورة آل عمران (١).
وقوله تعالى: ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾ قال كثير من الناس: (كَانَت) هاهنا زيادة (٢)، والمعنى: وامرأتي عاقرًا، كما قال في موضع آخر: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران: ٤٠]. قال ابن الأنباري: (كَانَت) هاهنا ماضٍ، معناه الحال كأنه قال: وكائنة امرأتي في الحال، فصلح وضع الماضي في وضع الدائم؛ لأن المعنى مفهوم غير ملتبس، كقوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ٩٦]، و ﴿كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١١]. المعنى: وكائن الله غفورا أبدا. قال: وفي المسألة جواب ثالث: وهو أنه لما بشر بالولد وقع في نفسه أنه يكون بزوال العقر عن زوجته فقال بعد وقوع هذا المعنى في نفسه ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾ أي: إلى هذا الوقت الذي لا أدري أزال العقر عنها أم لا؟ قال: وهذا جواب جيد صحيح) (٣).
(١) عند قوله سبحانه في سورة آل عمران الآية: (٤٠): ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾.
(٢) التعبير بلفظ الزيادة، لا يصح القول به في القرآن الكريم، فإن كل حرف منه ورد ليدل على معنى من المعاني فزيادة المبني تدل على زيادة المعنى والمنزل الحكيم سبحانه لا ينزل الشيء إلا لفائدة.
(٣) ذكر نحوه في "المحر الوجيز" ٩/ ٤٣٢، "زاد المسير" ٥/ ٢١١، "التفسير الكبير" ٢١/ ١٨٤.
199
قوله تعالى: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ قال أبو عبيد: (يقال للشيخ إذا ولى وكبر: عَتَا، يَعْتُو، عِتِيّا) (١).
وقال أبو عبيدة: (كل مبالغ في شيء أو كفر فقد عَتَا، عِتِيّا، فهو عَاتٍ) (٢).
وقال أبو إسحاق: (كل شيء انتهى فقد عَتَا يَعْتْوا عُتُوًّا وعِتيًا) (٣).
وقال الفراء: (يقال للشيخ إذا كبر عَتَا وعِتِيا) (٤).
قال أهل المعاني: (يقال للذي غيره الزمان إلى حال اليبس والجفاف: هو عَاتٍ وعَاس) (٥).
وبهذا المعنى فسره مجاهد فقال: (هو نحول العظم) (٦). وهو قول قتادة (٧).
وقال ابن قتيبة: ﴿عِتِيًّا﴾ هو أي: يبسا ومنه يقال: ملك عَاتٍ إذا كان قاسي القلب غير لين) (٨).
وقال ابن عباس في معنى قوله: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ (لا
(١) "تهذيب اللغة" (عتا) ٣/ ٢٣١٣، "لسان العرب" (عتا) ٥/ ٢٨٠٤.
(٢) "مجاز القرآن" ٢/ ٢.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٠.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٢.
(٥) "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٧، "لسان العرب" (عتا) ٥/ ٢٨٠٤.
(٦) "جامع البيان" ١٦/ ٥١، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٥، "زاد المسير" ٥/ ٢١١، "تفسير كتاب الله العزيز" ٣/ ٧.
(٧) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٦، "جامع البيان" ١٦/ ٥، "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٧، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٠.
(٨) "تفسير غريب القرآن" ٢٧٢.
200
أقدر على مجامعة النساء) (١). وهذا راجع إلى ما ذكرنا من معنى اليبوسة.
وروى عمرو بن ميمون: (أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: أخبرني عن قول الله -عز وجل-: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ ما العتي؟ قال: اليبوس من الكبر) (٢).
وقرأ القراء: عُتِيا بالضم، وعِتيا بالكسر (٣). وكذلك: (صليا) [مريم: ٧٠]، (بكيا) [مريم: ٥٨]، (جثيا) [مريم: ٦٨]، والأصل في هذا أن ما كان من فُعُول جمعا من المعتل اللام، فاللام إذا كانت واوا لزمه القلب على الإطراد إلى الياء، ثم تقلب واو فُعول إلى الياء لادغامها في الياء، وتكسر عين الفعل كما كسرت في مرمي ونحوه، وذلك نحو: حَقْو وحُقِي، ودَلْو ودُلِي، وعَصَا وعُصِي، وصَفَا وصَفِي، وكسر الفاء مطرد في هذا نحو: دِلِي، وحِقِي، وعِصِي، وجاز ذلك؛ لأنها غيرت تغيرين وهما: أن الواو التي هي لام قلبت، والواو التي كانت قبلها قلبت أيضا، فلما غيرت تغيرين قويا على هذا التغيير من كسر الفاء هذا في الجمع، فأما ما كان من ذلك مصدرا فالقياس فيه أن يصح نحو: العُتْو والقُلُو؛ لأن واوه لم يلزمها الإنقلاب كما لزمها في الجمع، ولكن لما كانوا قد قلبوا الواو من هذا
(١) ذكره الطبرسي في "مجمع البيان" ٦/ ٧٨٠، وورد بلا نسبة في "جامع البيان" ١٦/ ٥٠، "بحر العلوم" ٢/ ٣١٩، "الكشف البيان" ٣/ ٣ أ.
(٢) ذكر بلا نسبة في "بحر العلوم" ٢/ ٣١٩، "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٧، "الكشف والبيان" ٣/ ٣ أ.
(٣) قرأ: ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر: (عُتيا) بالضم، وقرأ: حمزة، والكسائي، وحفصر عن عاصم: (عتيا) بالكسر.
انظر: "السبعة" ص ٤٠٧، "الحجة للاقراء السبعة" ٥/ ١٩٢، "المبسوط في القراءات" ص ٢٤٢، "التبصرة" ص ٢٥٥.
201
النحو وإن كان مفردا نحو: مَرْمِي وقلبوا ما كان قبل الآخر بحرف كما قلبوا الآخر نحو: صيَّم، وكان هذا على وزنه غير أيضًا تغيرين كما غيروا في الجمع ثم أجرى المصدر مجرى الجمع في كسر الفاء منه، ويروى أن في حرف عبد الله: (ظلما وعليا) [النمل: ١٤] في علو (١). وقال الله تعالى: ﴿وَعَتَوْا عُتُوًّا﴾ [الفرقان: ٢١] وقال في موضع آخر: ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾ [مريم: ٦٩] يعني هاهنا كالذي في هذه الآية. وقد ذكرنا في هذا النحو في قوله تعالى: ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا﴾ [الأعراف: ١٤٨].
٩ - قوله تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكَ﴾ قال الزجاج: (أي الأمر كما قيل لك) (٢). وقال مقاتل بن سليمان: (كَذَلِكَ: بمعنى: هكذا) (٣).
قال ابن الأنباري: (وعلى هذا القول كَذَلِكَ: بجملته في موضع نصب، ولا يقضي على الكاف بانفراد مما بعدها) (٤).
﴿قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ قال الفراء: (أي خلقه على هين) (٥).
قال ابن عباس: (يريد: أردًّ عليك قوَّتك حتى تقوى على الجماع، وأفتق رحم امرأتك بالولد) (٦).
(١) " الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٣، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٠٥، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١١، "الدر المصون" ٧/ ٥٦٩.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢١.
(٣) "تفسير مقاتل" ٢/ ٢٣٢.
(٤) ذكر نحوه بلا نسبة في "الكشاف" ٢/ ٤٠٦، "إملاء ما من به الرحمن" ص ٤٠٧، "البحر المحيط" ٦/ ١٧٥، "الدر المصون" ٧/ ٥٧١.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٦٢.
(٦) "مجمع البيان" ٥/ ٧٨٠، "روح البيان" ٥/ ٣١٧.
202
﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ﴾ يحيى. قرئ: خلقناك (١)، لكثرة ما جاء من (٢) لفظ الخلق مضاف إلى لفظ الجمع كقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ [الحجر: ٢٦]، في مواضع. وقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١]، ولغة الجمع قد جاء بعد لفظ الافراد كقوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى﴾ [الإسراء: ١]، ثم قال: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ [الإسراء: ٢]. واختار أبو عبيد التاء (٣)؛ لأنها تشاكل الياء في: ﴿عَلَيَّ هَيِّنُ﴾.
وقال أحمد بن يحيى (٤): (الاختيار النون والألف؛ لأن فيه زيادة حرف وبكل حرف عشر حسنات) (٥). والقراءة غير مخالفة خط المصحف؛ لأنهم يسقطون الألف من الهجاء في مئل هذا البناء؛ ولأن فيه الفخامة والتعظيم لاسم الله -عز وجل- وله المثل الأعلى.
وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ يريد أنه كان عدما فأوجده بقدرته، وفي هذا رد على القدرية في تسميتهم المعدوم شيئًا (٦). والله تعالى يقول
(١) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: (خلقتك) بالتاء من غير ألف. وقرأ: حمزة، والكسائي: (خلقناك) بالنون والألف. انظر: "السبعة" ص ٤٠٨، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٥، "التبصرة" ص ٢٥٥، "النشر" ٢/ ٣١٧.
(٢) قوله: (من لفظ الخلق مضاف إلى) ساقط من نسخة: (س).
(٣) ذكره بلا نسبة الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٥.
(٤) هو: ثعلب، تقدمت ترجمته.
(٥) لم أقف عليه. ويشهد له ما صح من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف".
(٦) قال القاضي علي بن أبي العز في "شرح العقيدة الطحاوية" ١/ ١١٧: أهل السنة عندهم أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة، وأن المعدوم ليس بشئ في الخارج، ولكن الله =
203
لزكريا حين كان معدوما: ﴿وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾. قال الزجاج: (أي فخلق الولد لك كخلقك) (١).
١٠ - قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ قال قتادة: (سأل نبي الله آية على حمل امرأته بعد ما شافهته الملائكة بالبشارة مشافهة) (٢).
قال ابن الأنباري: (وفي سؤاله الآية وجوه:
أحدها: أن التماسه الآية كان على معنى المزيد من الله والتكرمة من الله بإعطائه الآية، ليتم نعمة إلى نعمة، وكلتاهما يد من الله -عز وجل- عنده.
والثاني: [أنه لما بشر بالولد كان على يقين منه، غير أنه تاقت إلى سرعة الأمر فسأل الله آية يستدل بها على قرب ما من به عليه] (٣).
والثالث: أنه لما بشر بالولد غلب عليه طبع البشرية، فسأل الآية ليزداد بها يقينا وإيمانا، فعاقبه الله بأن حبس لسانه ثلاث ليال حين احتاج إلى مشافهة الملائكة بالبشارة إلى علامة تدل على صحة ما وعد به) (٤).
وإلى هذا ذهب الكلبي ومقاتل (٥)، وقتادة، قال (٦) قتادة: (قوله: ﴿آيَتُكَ
= يعلم ما يكون قبل أن يكون، ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به فيكون شيئا في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ أي: لم تكن شيئاً في الخارج، وإن كان شيئًا في علمه تعالى. وانظر: "أضواء البيان" ٤/ ٢١٧.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢١.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٥٢، "تفسير كتاب الله العزيز" ٣/ ٧.
(٣) ما بين المعقوفين مكرر في نسخة (س).
(٤) ذكرته كتب التفسير بلا نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٥٢، "تفسير كتاب الله العزيز" ٣/ ٧، "معالم التنزيل" ٣/ ١٨٩.
(٥) "تفسيرمقاتل" ٢٣٢.
(٦) قوله: (قال)، ساقط من نسخة (س).
أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} حبس لسانه عقوبة لما سأل الله الآية بعد ما شافهته الملائكة بالبشارة، وكان لا يفيض بكلمة إنما يومئ إيماء) (١). ﴿قَالَ آيَتُكَ﴾ أي قال الله علامتك على خلق الولد لذلك ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾، أي: تمنع الكلام فلا تقدر عليه ﴿ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ صحيحًا من غير ما بأس ولا خرس. قال مجاهد: (أي لا يمنعك مرض) (٢). و ﴿سَوِيًّا﴾ هو منصوب على اقال. قال ابن الأنباري: (ويجوز أن يكون ﴿سَوِيًّا﴾ نعت مصدر محذوف على معنى أن لا يكلم الناس تكليمًا سويًا، يصحح هذا أنه كان يشير في الليالي الثلاث ولا يتكلم تكلما صحيحا) (٣).
١١ - قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ﴾ قال ابن زيد: (من مصلاه) (٤).
﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ﴾ قال ابن عباس: (يريد أشار إليهم) (٥)، وهو قول القرظي (٦)، وقال قتادة: (أو ماء إليهم) (٧). وقال مجاهد: (كتب إليهم في
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٥٢، وذكره الهواري في "تفسيره" ٣/ ٧ بدون نسبة، "الدر المنثور" ٢/ ١٩٢.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٥٢، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٠، "الدر المنثور" ٤/ ٤٦٩.
(٣) ذكر نحوه بلا نسبة "المسير الكبير" ٢١/ ١٩٠، "البحر المحيط" ٦/ ١٧٦، "الدر المصون" ٧/ ٥٧٣.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ٥٣، "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٨، "الدر المنثور" ٤/ ٤٦٩.
(٥) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٥٣، "المحرر الوجيز" ١٠/ ١٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٨، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢١، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٥٨.
(٦) "روح المعاني" ١٦/ ٧١، "فتح القدير" ٣/ ٢٦٤.
(٧) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٦، "جامع البيان" ١٦/ ٥٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٦، "روح المعاني" ١٦/ ٧١.
الأرض) (١). وهو قول الحكم، وإبراهيم (٢). ويدل على صحة الإشارة قوله: ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] ﴿أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ ومعنى أمره إياهم بالصلاة ما ذكره سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (كان يأمرهم بالصلاة بكرة وعشيا) (٣). والمعنى أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشيا فيأمرهم بالصلاة. فلما كان وقت حمل امرأته ومنع الكلام خرج عليهم فأمرهم بالصلاة.
١٢ - وقوله تعالى: ﴿يَا يَحْيَى﴾ قال أبو إسحاق: (المعنى فوهبنا له وقلنا: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾) (٤). قال ابن عباس: (التوراة بقوة) (٥). قال مجاهد: (بجد) (٦). وقال ابن عباس: (بقوة منك أعطيتكها وقويتك على حفظها والعمل بما فيها) (٧).
﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ قال: (يريد النبوة في صباه وهو ابن ثلاث سنين) (٨).
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٥٤، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢١، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٨٥.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٥٤، "الدر المنثور" ٤/ ٤٦٩.
(٣) "روح المعاني" ١٦/ ٧١، "الدر المنثور" ٤/ ٤٦٩، "تنوير المقباس" ٢٥٤.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢١.
(٥) "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٩، "تنوير المقباس" ٢٥٤.
(٦) "جامع البيان" ١٦/ ٥٥، "النكت والعيون" ٣/ ٣٥٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٨٦، "الدر المنثور" ٤/ ٤٧٠.
(٧) ذكرت كتب التفسير نحوه. انظر: "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٣٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٨٦، "التفسير الكبير" ٢١/ ١٩١.
(٨) "زاد المسير" ٥/ ٢١٣، "روح المعاني" ١٦/ ٧٢، "الدر المنثور" ٤/ ٤٧٠ ونسبة لقتادة.
وقال مجاهد: (الحكم والفهم هو أنه أعطي فهما لكتاب الله حتى حصل له عظيم الفائدة) (١).
وقال معمر: (هو أن الصبيان قالوا له: اذهب بنا نلعب. فقال ما للعب خلقت) (٢).
وقال الحسن: (﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾: اللب) (٣). والحكم عند العرب: ما يمنع من الجهل والخطأ ويصرف عنهما (٤).
١٣ - قوله تعالى: ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا﴾ الحنان معناه في اللغة: العطف والرحمة. يقال: حنانك وحنانيك يذكره الرحمة والبر، ومنه قول الشاعر (٥):
حَنَانَيْكَ بَعضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
ويقال: حَنَّ عليه أي: عطف عليه، وحَنَّ إليه أي: نزع إليه (٦)، ونحو
(١) "زاد المسير" ٥/ ٢١٣، "الدر المنثور" ٤/ ٤٧٠، "فتح القدير" ٣/ ٤٦٦.
(٢) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٦، "جامع البيان" ١٦/ ٥٥، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٠، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٣٦.
(٣) "زاد المسير" ٥/ ٢١٣.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (حكم) ١/ ٨٨٥، "مقاييس اللغة" (حكم) ٢/ ٩١، "الصحاح" (حكم) ٥/ ١٩٠١، "لسان العرب" (حكم) ٢/ ٩٥١.
(٥) هذا عجز بيت لطرفة بن العبد، وصدره:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
انظر: "ديوانه" ٦٦، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢، "الكتاب" لسيبويه ١/ ٣٤٨، "همع الهوامع" ١/ ١٩٠، "الدر المصون" ٧/ ٥٧٥، "لسان العرب" (حنن) ٢/ ١٠٣٠، "جمهرة أشعار العرب" ٣/ ٤٤٩.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (حن) ١/ ٩٤٥، "القاموس المحيط" (الحنين) ١١٨٨، "الصحاح" (حنن) ٥/ ٢١٠٤.
207
هذا قال المفسرون في معنى الحَنَان، قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة: ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا﴾ يقول: (رحمة من عندنا) (١). وهو قول عكرمة، وقتادة، والربيع (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَزَكَاةً﴾ قال ابن عباس: (يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص) (٣).
وقال قتادة: (هي العمل الصالح) (٤). وهو قول الضحاك وابن جريج (٥). ومعنى الآية: وآتيناه رحمة من عندنا وتحننا على العباد ليدعوهم إلى طاعة ربهم وعملا صالحا في إخلاص، فعلى هذا الموصوف بالحنان والزكاة يحيى؛ لأن الله آتاه إياهما.
وقال ابن عباس في رواية عكرمة: (لا أدري ما الحنان؟ غير أني أظنه يعطف الله على عبده) (٦). ونحو هذا قال مجاهد في تفسير: ﴿وَحَنَانًا﴾ (تعطفا من ربه على يحيى) (٧).
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٥٥، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٦، "زاد المسير" ٥/ ٢١٤، "الدر المنثور" ٤/ ٤٧١.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٥٥، "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٧، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٦.
(٣) "معالم التزيل" ٥/ ٢٢٢، "زاد المسير" ٥/ ٢١٤.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ٥٧، "معالم التزيل" ٥/ ٢٢٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٦، "زاد المسير" ٥/ ٢١٤.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ٥٨، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٠، "معالم التزيل" ٥/ ٢٢٢.
(٦) "جامع البيان" ١٦/ ٥٦، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٣٧، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٦، "الدر المنثور" ٤/ ٤٧١.
(٧) "جامع البيان" ١٦/ ٥٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٦، "زاد المسير" ٥/ ٢١٤.
208
وقال أبو إسحاق في تفسير ﴿وَزَكَاةً﴾: (الزكاة التطهير) (١). وعلى هذا معني الآية: وآيتنا يحيى تعطفا منا عليه، وتطهيرا إياه من عندنا، والموصوف بالحنان والزكاة هو الله تعالى على هذا القول؛ لأنه ذو الرحمة على يحيى والمطهر له.
وقال قوم: الحنان والزكاة يعودان إلى زكريا، وهو قول الكلبي والفراء. قال الفراء: (وفعلنا ذلك رحمة لأبويك) (٢). وقال الكلبي في قوله: ﴿وَزَكَاةً﴾ (يعني: صدقه تصدق الله بها على أبويه) (٣). وعلى هذا القول يحتاج إلى إضمار كما ذكره الفراء ويكون التقدير: وفعلنا ذلك يعني هبة الولد واستجابة الدعاء حنانا من لدنا أي: رحمة منا على زكريا، وزكاة، وصدقة منا عليه (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ تَقِيًّا﴾ قال ابن عباس: (جعلته يتقيني ولا يعدل بي غيري) (٥).
قال المفسرون: (وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة ولا هم بها) (٦). كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من الناس عبد إلا قد هم بخطيئه أو عملها غير
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٢.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٣.
(٣) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٢.
(٤) قال الشنقيطي في "أضواء البيان" ٤/ ٢٢٩: والتحقيق فيه إن شاء الله هو أن المعنى: وأعطيناه زكاة أي: طهارة من الذنوب والمعاصي بتوفيقنا إياه للعمل بما يرضي الله تعالى. وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٨٨.
(٥) "زاد المسير" ٥/ ٢١٤.
(٦) "جامع البيان" ١٦/ ٥٨، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٣٨، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٨٨.
209
يحيى بن زكريا" (١).
١٤ - قوله تعالى: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ﴾ البَرُّ بمعنى البار كالصب والطب فعل بمعنى فاعل، والمعنى لطيفا بهما محسنا إليهما (٢). ﴿وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا﴾ قال الكلبي: (هو الذي يقتل على الغضب ويضرب على الغضب) (٣). ﴿عَصِيًّا﴾ عاصيا. قال ابن عباس: (يريد لا يرتكب لي معصية) (٤).
١٥ - قوله تعالى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾ الآية، قال أبو إسحاق: (سلام مما يبتدأ به في النكره؛ لأنه اسم يكثر استعماله تقول: سلام عليك،
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ١٦/ ٥٨، والصنعاني في "تفسيره" ٢/ ٧، والإمام أحمد في "مسنده" ١/ ٢١٥، وذكره ابن كثير في "تفسيره" ٣/ ١٢٦، بروايات مختلفة وضعفها جميعا. وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" ٤/ ٢٢٦: والظاهر أنه لم يثبت شيء من ذلك مرفوعًا: إما بانقطاع، وإما بعنعنة مدلس، وإما بضعف راوٍ كما أشار له ابن كثير وغيره.
وأخرج نحوه ابن أبي شيبه في مصنفه موقوفًا على عبد الله بن عمرو بن العاص ١١/ ٥٦١، و"الحاكم في مستدركه" ٢/ ٣٧٣ وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، والسيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٤٧١ وعزاه لأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتاده.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (بر) ١/ ٣٠٨، "مقاييس اللغة" (بر) ١/ ١٧٧، "القاموس المحيط" (البر) ١/ ٣٤٨، "الصحاح" (برر) ٢/ ٥٨٨، "لسان العرب" (برر) ١/ ٢٥٢.
وانظر: "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٢، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٠، "زاد المسير" ٥/ ٢١٥، "أضواء البيان" ٤/ ٢٢٩.
(٣) "الكشف والبيان" ٣/ ٣ ب، وذكره البغوي في "تفسيره" ٥/ ١٢٢ بدون نسبة.
(٤) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" ٣/ ٢ ب، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٤٠، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٦، "لباب التأويل" ٤/ ٢٤٠، "روح المعاني" ١٦/ ٧٣.
210
والسلام عليك، وأسماء الأجناس يبدأ بها؛ لأن فائدة نكرتها قريب من فائدة معرفتها تقول: لبيك وخير بين يديك، وإن شئت قلت: والخير بين يديك) (١).
قال عطاء عن ابن عباس: (يريد سلام عليه مني في هذه الأيام) (٢).
وقال الكلبي: (سلامة له منا) (٣). وقال سفيان بن عيينه: (أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيرى نفسه خارجا مما كان، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، وأحكاما يشير له بها عهد، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم يره، فخص الله فيها بالكرامة يحيى بن زكريا فسلم عليه بالمواطن الثلاثة) (٤). فقال: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْه﴾ الآية.
قال ابن الأنباري: (لم يقصد باليوم قصد يوم واحد؛ لأنه يجوز أن يموت بالليل، وأن لا يولد نهارا، ولكن اليوم يقع على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي) (٥).
وتلخيص معنى الآية: ويسلم عليه في زمان مولده، وكذلك ما بعده. وقد قال الكلبي عن ابن عباس: (وسلم عليه حين ولد) (٦).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٩.
(٢) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٥٨، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٤٠، "زاد المسير" ٥/ ٢١٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٨٩، "لباب التأويل" ٤/ ٢٤٠.
(٣) "الكشف والبيان" ٣/ ٣ ب.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ٥٩، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٧، "زاد المسير" ٥/ ٢١٥.
(٥) ذكر نحوه الأزهري في "تهذيب اللغة" (يوم) ٤/ ٣٩٩٠، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٥/ ٢١٥.
(٦) "الكشف والبيان" ٣/ ٣ ب.
211
١٦ - قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ قال ابن عباس: (يعني واذكر يا محمد من أمر مريم لأهل مكة) (١). ﴿إِذِ انْتَبَذَتْ﴾ قال الكلبي والزجاج: (تنحت) (٢). وأصله من النبذ، وهو طرحك الشيء ورميك به. يقال: نبذْتُه ناحية فانتبذ، وجلس فلان نَبْذَةً ونُبُذَةً أي ناحية، وانْتَبَذَ فلان ناحية أي: تنحى ناحية (٣).
وقال قتادة: (انفردت) (٤). وقال ابن قتيبة: (اعتزلت) (٥). والقولان معنى، وليس بتفسير، وتفسير (انتبذت): تَنحَّت.
﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾ يعني ممن كانوا معها في الدار ﴿مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ إلى مكان في جانب الشرق. وقال ابن السكيت: الشرق: الشمس، والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس) (٦).
قال ابن عباس في رواية عطاء: (أن مريم أذاها القمل (٧) في رأسها
(١) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٥٩، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٠، "تفسير كتاب الله العزيز" ٣/ ٨، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٤١، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٥. والأولى العموم فالذكر لأهل مكة ولغيرهم من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
(٢) "الكشف والبيان" ٣/ ٤ أ، "معاني القرآن للزجاج" ٣/ ٣٢٢.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" (نبذ) ٤/ ٣٤٩٤، "الصحاح" (نبذ) ٢/ ٥٧١، "المعجم الوسيط" (نبذ) ٢/ ٨٩٧، "المفردات في غريب القرآن" (نبذ) ٤٨٠، "لسان العرب" (نبذ) ٧/ ٤٣٢٢.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ٥٩، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦١، "الكشف والبيان" ٣/ ٤ أ.
(٥) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ٢/ ٣.
(٦) "تهذيب اللغة" (شرق) ٢/ ١٨٦٥.
(٧) القمل: دواب صغار من جنس القردان إلا أنها أصغر منها، واحدتها قملة.
انظر: تهذيب اللغة (قمل) ٩/ ١٨٦، "الصحاح" (قمل) ٥/ ١٨٠٥، "لسان العرب" (قمل) ٦/ ٤٧٤٣.
كنت أن تجد خلوة فتفلي رأسها، فخرجت في يوم شديد البرد فجلست في مشرقة الشمس) (١).
وقال عكرمة: (أنها كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ثم أنها أرادت الغسل من الحيض فتحولت إلى مشرقة دارهم للسغل) (٢). فذلك قوله: ﴿إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ ونحو هذا قال الكلبي (٣).
١٧ - قوله: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ﴾ أي من دون أهلها لئلا يرونها ﴿حِجَابًا﴾ سترًا حاجزًا. قال ابن عباس: (يريد جعلت الجبل بينها وبين الناس) (٤). والحجاب: الجبل كقوله: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص: ٣٢] وهذا قول مقاتل (٥). وقال السدي: (حجابا من الجدران) (٦). ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ قال المفسرون: (بينما هي تغتسل من الحيض إذ عرض لها جبريل -عليه السلام- في صورة شاب أمرد وضيء الوجه) (٧).
(١) "زاد المسير" ٥/ ٢١٥، "الكشاف" ٢/ ٤٠٧، "البحر المحيط" ٦/ ١٨٠ بدون نسبة.
(٢) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٣، "الكشف والبيان" ٣/ ٤ أ.
(٣) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" ٣/ ٤ أ، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٣، "الكشاف" ٣/ ٥٠٥، "أنوار التنزيل" ٤/ ٤، "روح المعاني" ١٦/ ٧٥، "مجمع البيان" ٥/ ٧٨٤، "روح البيان" ٥/ ٣٢١.
(٤) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف البيان" ٣/ ٤ أ، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٣، "الكشاف" ٢/ ٥٠٦، "لباب التأويل" ٤/ ١٤١، "التفسير الكبير" ٢١/ ١٩٦، "البحر المحيط" ٦/ ١٨٠.
(٥) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٣، "تفسير مقاتل" ٢٣٢، "الكشف والبيان" ٣/ ٤ أ.
(٦) "جامع البيان" ١٦/ ٦٠، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦١، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٤٢، "زاد المسير" ٥/ ٢١٥.
(٧) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٣، "الكشاف" ٢/ ٤٠٧، "زاد المسير" ٥/ ٢١٧، "الكشف والبيان" ٣/ ٤ أ.
فذلك قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ يعني جبريل ﴿فَتَمَثَّلَ﴾ فتصور وتشبه ﴿لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ معتدلًا تامًّا.
١٨ - قال ابن عباس: (فلما رأت جبريل يقصد نحوها نادته مر بعيد) (١) بقوله: ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ أي مخلصا مطيعا. قال أبو إسحاق: (تأويله إني أعوذ بالله منك، فإن كنت تقيا فستتعظ بتعوذي بالله منك) (٢).
١٩ - قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ هذا جواب جبريل -عليه السلام- لمريم ﴿لِأَهَبَ لَكِ﴾ اللام متعلقة بمعنى قوله: ﴿رَسُولُ رَبِّكِ﴾ أي: أرسلني ليهب لك. ومن قراء: لأهب (٣)، استند إلى المتكلم وهو جبريل والهبة لله سبحانه، والرسول والوكيل قد يسندون هذا النحو إلى أنفسهم، وإن كان الفعل للموكل والمرسل للعلم به، وإن الرسول مترجم عنه (٤).
وقوله تعالى: ﴿غُلَامًا زَكِيًّا﴾ قال قال ابن عباس: (يريد نبيا) (٥). وقال
(١) ذكره البغوي في "تفسيره" ٥/ ٢٢٣ بدون نسبة.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٣.
(٣) قرأ: ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وقالون عن نافع: (لأهب) بالهمز.
وقرأ: أبو عمرو البصري، وورش عن نافع: (ليهب) بغير همز.
انظر: "السبعة" ص ٤٠٨، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٥، "التبصرة" ص ٢٥٦، "النشر" ٢/ ٣١٧.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٥.
(٥) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "مجمع البيان" ٥/ ٧٨٤، "التفسير الكبير" ٢١/ ١٩٩، "روح المعاني" ١٦/ ٧٧. "فتح القدير" ٣/ ٤٦٨.
الكلبي: (يعني صالحا) (١). وهو قول الضحاك (٢).
وقيل: (طاهرا من الذنوب) (٣). وقيل: (ناميا على الخير) (٤).
٢٠ - ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ لم يقربني زوج ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ فاجرة زانية.
وقال ابن عباس: (تريد ليس لي زوج، ولست بزانية، وليس يكون الولد إلا من زوج أو من الزنا) (٥).
ويقال: بَغَت المرأة تبغي بَغْيًا إذا فجرت، وأصله: من البَغْي والذي هو الطلب وذلك أنهم يبغين بالفجور، والعرب تسمي الإماء البَغَايا والواحدة منها: بَغِي، ذكره ابن السكيت (٦). وذلك أن العرب كانوا يأمرونهن بالمباغاة تكسبا بهن فكن يبغين الأجور فجرى هذا الاسم على الإماء. وبغي فعيل بمعنى فاعل ويكون منقولا غير مبني على الفعل فلذلك
(١) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التزيل" ٥/ ٢٢٣، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٠، "لباب التأويل" ٤/ ٢٤١، "روح المعاني" ١٦/ ٧٧.
(٢) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" ٣/ ٩، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٣، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٠.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ٦١، "معالم التزيل" ٥/ ٢٢٣، "زاد المسير" ٥/ ٢١٧، سعيد "فتح القدير" ٣/ ٤٦٨.
(٤) "زاد المسير" ٥/ ٢١٨، "التفسير الكبير" ١١/ ٢١٩، "روح المعاني" ١٦/ ٧٧.
(٥) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٦٢، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٤٤، "معالم التنزيل" ٣/ ١٩١، "زاد المسير" ٥/ ٢١٨، "لباب التأويل" ٤/ ٢٤١.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (بغي) ١/ ٣٦٧، "مقاييس اللغة" (بغي) ١/ ٢٧٢، "المفردات في غريب القرآن" (بغي) ص ٥٥، "لسان العرب" (بغا) ١/ ٣٢١.
لم تدخله الهاء، وقد ذكرنا تمام هذا الفصل عند قوله: (والنطيحة) (١).
وقال ابن الأنباري: (إن بغي النساء أغلب عليه، قل ما تقول العرب: رجل بغي، إنما يغلب عليهم امرأة بغي، ورجل عاهر فاجر، فلما انفردت المرأة بالوصف استغنى عن إلحاق علامات التأنيث، وجرى مجرى حائض وطالق) (٢).
وقال المازني: (بغي (٣) ليس بفعيل إنما هو فعول الأصل بغوي فلما التقت واو وياء وسبق أحدهما بالسكون أدغمت الواو في الياء فقيل: بغي، كما تقول: امرأة صبور بغير هاء؛ لأنها بمعنى صابرة) (٤).
٢١ - قوله تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ مفسر في هذه السورة (٥). ومعنى الهين: المتأتي من غير مشقة، والهين من باب الصيب والميت (٦).
قال ابن عباس: (يريد يسير أن أهب لك غلاما من غير فحل) (٧).
(١) عند قوله سبحانه في سورة المائدة الآية رقم (٣): ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ﴾ الآية.
(٢) "الكشاف" ٢/ ٤٠٧،"زاد المسير" ٥/ ٢١٨، "إملاء ما من به الرحمن" ص ٤٠٨، "الدر المصون" ٧/ ٥٧٨.
(٣) في (س): (يعني)، وهو تصحيف.
(٤) ذكر نحوه بلا نسبة "الكشاف" ٢/ ٤٠٨، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٤٤، "إملاء ما من به الرحمن" ٤٠٨، "الممتع" ١/ ٥٤٩، "الدر المصون" ٧/ ٥٧٨.
(٥) عند قوله سبحانه في هذه السورة الآية رقم (٩): ﴿قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (هَيَن) ٤/ ٣٦٩٨، "القاموس المحيط" (هَيَنَ) (١٢٤٠)، "المفردات في غريب القرآن" (هَيَن) ص ٥٤٧.
(٧) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٦٢، "بحر =
﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ﴾ قال: (يريد عجيبة للناس) (١). كونه غلاما ليس له أب ﴿وَرَحْمَةً مِنَّا﴾ لمن تبعه وصدق به.
وقوله تعالى: [﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً﴾ عطف جملة على جملة، واللام تعلق بمحذوف تقديره] (٢): ولنجعله آية للناس، ﴿وَرَحْمَةً مِنَّا﴾ خلقناه. وقال ابن الأنباري: (هو معطوف على مضمر محذوف التقدير: هو علي هين لننفعك به ولنجعله، فحذف الكلام الأول اختصارا ودل الثاني عليه) (٣). ﴿وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ أي كان خلقه أمرا محكوما به مفروغا منه سابقا في علم الله أن يقع.
٢٢ - قوله تعالى: ﴿فَحَمَلَتْهُ﴾ هو مختصر والمعنى: فنفخ فيها جبريل فحملته. وحذف ذلك؛ لأن النفخ قد بين في غير هذا الموضع، والقرآن كله كتاب واحد (٤). قال ابن عباس: (دنا منها جبريل فأخذ ردن قميصها فنفخ فيه فحملت مريم من ساعتها بعيسى ووجدت حس الحمل) (٥). فذلك قوله:
= العلوم" ٢/ ٣٢١، "زاد المسير" ٥/ ٢١٨، "مجمع البيان" ٥/ ٧٨٩، "مدارك التنزيل" ٢/ ٩٧٥، "روح البيان" ٥/ ٣٢٣.
(١) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "زاد المسير" ٥/ ٢١٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩١، "روح المعاني" ١٦/ ٧٨.
(٢) ما بين المعقوتين ساقط من نسخه (س).
(٣) ذكر نحوه بلا نسبة في "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩١، "التفسير الكبير" ٢١/ ٢٠٠، "البحر المحيط" ٦/ ١٨١، "الدر المصون" ٧/ ٥٧٩.
(٤) عند قوله سبحانه في سورة التحريم الآية رقم (١٢): ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾.
وقوله في سورة الأنبياء الآية رقم (٩١): ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ٦٢، "الكشاف" ٢/ ٤٠٨، "زاد المسير" ٥/ ٢١٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩١، "الدر المنثور" ٤/ ٤٧٨.
217
﴿فَحَمَلَتْهُ﴾.
وقوله تعالى: ﴿فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾ أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد. قال ابن عباس: (يريد أقصى الوادي) (١). وهو: وادي بيت لحم (٢) (٣). وهذا الإنتباذ إنما كان عند وضعها، فرارا من زكريا ومن قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج.
قال ابن عباس: (ما هو إلا أن حملت فوضعت) (٤). وعلى هذا دل ظاهر قوله: ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ﴾ ذكر الانتباذ عقب الحمل، والانتباذ إنما كان عند الوضع (٥) والقَصِي فَعِيْل بمعنى فَاعِل من قَصَى يَقْصُو إذا بعد (٦)،
(١) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٢.
(٢) بيت لحم: بالفتح وسكون الحاء قرية قرب البيت المقدس، عامرة حافلة، وهي مهد عيسى -عليه السلام-، ومن قرى فلسطين. انظر: "معجم البلدان" ١/ ٥٢١.
(٣) "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٤٥، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٢، "أضواء البيان" ٤/ ٢٤٠.
(٤) "بحر العلوم" ٢/ ٣٢١، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٤، "الكشاف" ٢/ ٤٠٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١١٩ وقال: وهذا غريب، "الدر المنثور" ٤/ ٤٧٩، "زاد المسير" ٥/ ٢١٨.
(٥) وهذا خلاف قول الجمهور. قال ابن كثير في "تفسيره" ٣/ ١٢٩: فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر.. والفاء وإن كانت للتعقيب لكن تعقيب كل شيء بحسبه.
وقال ابن عطية في "تفسيره" ٩/ ٤٤٥: وظاهر قوله: (فأجاءها المخاض) يقتضي أنها كانت على عرف النساء، وتظاهرت الروايات على ذلك.
وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" ٤/ ٢٤٤: وأظهر الأقوال أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقا للعادة.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (قصا) ٣/ ٢٩٦٩، "مقاييس اللغة" (قصوى) ٥/ ٩٤، "لسان العرب" (قصا) ٦/ ٣٦٥٧، "المفردات في غريب القرآن" (قصى) ٤٠٥.
218
قال الراجز (١):
لَيَقْعُدنَّ مَقْعَدَ القَصِي مِنِّي ذَي القَاذُورةِ المَقْلِي
٢٣ - قوله تعالى: ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ﴾ أي: الجأها واضطرها يقال: جاء بها وأجاءها بمعنى هذا قول جميع أهل اللغة (٢)، وأنشدوا لزهير (٣):
أَجَأَتْهُ المَخَافَةُ والرَّجَاء
قالوا: والعرب تقول في أمثالها: شر مَا أَلجَأكَ إلى مُخَّةِ عُرْقُوب (٤). يريدون اضطرك وألجأك إليها. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي في تفسير أجاءها: (ألجأها) (٥). والمخاض: وجع الولادة وهو الطلق، ومَخِضتِ المرآة تَمْخَضُ مَخَاضًا، وناقة مَاخِض وشاة مآخِضٌ إذا دنا ولادتها (٦)، ويقال
(١) ذكرته كتب التفسير واللغة بلا نسبة.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٦٣، "معاني القرآن للفراء" ٢/ ٧٠، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ٣٣٤، "لسان العرب" (ذا) ٣/ ١٤٧٢.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٤، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٤، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٢، "المحتسب" ٢/ ٣٩، "غريب القرآن لابن الملقن" ٢٣٩.
(٣) هذا عجز بيت لزهير، وصدره:
وَجَار سارَ مُعْتَمِدًا إليكُم
انظر "ديوانه" ص ١٣، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٤، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٤٦، "البحر المحيط" ٦/ ١٨٢، "الدر المصون" ٧/ ٥٨١، "لسان العرب" (جيأ) ٢/ ٧٣٦.
(٤) المعنى: أن العرقوب لا مخ له، وإنما يلجأ إليه من لا يقدر على شيء.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٦٣، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٤، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٤، "لسان العرب" (مخ) ٧/ ٤١٥٥.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ٦٤، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٣، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٥، "الدر المنثور" ٤/ ٤٨١.
(٦) في (ص): (ولادها).
219
أيضًا دجاجة مَاخِضٌ إذا قربت أن تبيض، ومنه قول الراجز (١):
تُنْقِضُ إنْقضَاض الدَّجَاجِ المُخَّضِ
والمخاض من الإبل: الحوامل، سميت مخاضًا تفاؤلا بأنها تَمْخِضُ بالولد إذا أنجبت (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ الجذع: ساق النخل، قال ابن عباس: (نظرت مريم إلى أكمة (٣) فصعدت مسرعة، فإذا على الأكمة جذع نحو جذع نخلة فأسرعت المشيء حتى سارت إلى الجذع) (٤). فذلك قوله: ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ قال المفسرون: (وكان جذع نخلة يابسة لس لها سعف) (٥). ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ ولم يقل إلى
(١) هذا عجز البيت وصدره:
وَمَسدٍ فَوْقَ محالٍ نُغَّيضِ
ذكر البيت الأزهري في "تهذيب اللغة" (مخض) ٤/ ٣٣٥٨ بدون نسبة، وكذلك "لسان العرب" (مخض) ٧/ ٤١٥٣.
(٢) نظر: "تهذيب اللغة" (مخض) ٤/ ٣٣٥٨، "مقاييس اللغة" (مخض) ٥/ ٣٠٤، "القاموس المحيط" (مخض) ٢/ ٦٥٣، "لسان العرب" (مخض) ٧/ ٤١٥٣.
(٣) الأكمة: هو الموضع الذي هو أشد ارتفاعا مما حوله، وهو دون الجبال ومثل الروابي.
انظر: "تهذيب اللغة" (أكم) ١/ ١٧٧، "الصحاح" (أكم) ٥/ ١٨٦٢، "لسان العرب" (أكم) ١/ ١٠٣.
(٤) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة انظر: "الكشاف" ٢/ ٥٠٦، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٠، "مجمع البيان" ٥/ ٥٩٠، "روح المعاني" ١٦/ ٨١، "لباب التأويل" ٤/ ٢٤٢.
(٥) "بحر العلوم" ٢/ ٣٢١، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٤٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٢.
220
النخلة؛ لأنها لم يبق منها إلا الجذع.
وقوله تعالى: ﴿قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا﴾ قال السدي: [(قالت في حال الطلق: يا ليتني مت قبل هذا استحياء من الناس) (١). وقيل:] (٢) (إنما قالت ذلك بطبع البشرية خوف الفضيحة) (٣). وقيل: (إنما جاز أن تتمنى الموت قبل تلك الحال التي قد علمت أنها من قضاء الله، لكراهتها أن يعصي الله بسببها إذ كان الناس يتسرعون إلى القول في ذلك بما يسخط الله جل وعز) (٤).
وقال أبو إسحاق: (معناه لو خيرت قبل هذه الحال بين الموت أو الدفع إلى هذه الحال لاختارت الموت) (٥). ومعنى قوله: ﴿قَبْلَ هَذَا﴾ أي: قبل هذا اليوم، أو هذا الوقت، أو هذا الأمر (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ قال أبو إسحاق: (النسي في كلام العرب الشيء المطروح لا يؤبه له) (٧).
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٦٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢١.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من نسخه (س).
(٣) "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٤٧، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٥، "الكشاف" ٢/ ١٠٨، "روح المعاني" ١٦/ ٨٢.
(٤) "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٤، "الكشاف" ٢/ ٤٠٩، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٢.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٤.
(٦) "زاد المسير" ٥/ ٢٢٠، "روح المعاني" ١٦/ ٨٢، "فتح القدير" ٣/ ٤٦٩.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٤.
221
قال الشنفري (١) (٢):
كَأَنَّ لَهَا في الأرضِ نِسْيًا تَقُصُّه عَلَى أُمِّهَا وإِن تُكَلِمْكَ تَبْلَتِ
يصف امرأة بالخفى (٣). وقال الأخفش، وأبو عبيدة: (النسي ما أغفل من شيء حقير ونسي) (٤).
وقال يونس: (العرب تقول إذا ارتحلوا من المنزل انظروا أنساكم، أي: الشيء اليسير نحو: العصا، والقدح، والشِّظَاظ (٥).) (٦). هذا معنى النسي في اللغة.
فأما التفسير فقال ابن عباس: (نسيًا: متروكا لا يذكر) (٧).
(١) الشنفري بن مالك الأزدي، والشنفري اسمه، وقيل لقب له لأنه غليظ الشفة، واختلف في اسمه، وهو شاعر جاهلي فحل، له أشعار في الفخر والحماسة وأشهرها لاميته، وهو من عدائي العرب.
انظر: "نزهة الألباء" ١/ ٤٠٨، "الأعلام" ٥/ ٨٥، "الخزانة" ٣/ ٣٤٣.
(٢) البيت للشنفري يصف امرأة كأنها من شدة حيائها إذا مشت تطلب شيئًا ضاع منها.
تبلت: انقطعت في كلامها فلا تطيله.
انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٥، "شرح المفضليات" ٢٠١، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٤٦، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٦، "وضح البرهان في مشكلات القرآن" ٢/ ٤٦، "المخصص" ١٢/ ٢٧، "لسان العرب" (نسا) ٧/ ٤٤١٧.
(٣) في (ص): (بالخفر).
(٤) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٤، "تهذيب اللغة" (نسى) ٤/ ٣٥٦٥.
(٥) الشِّظَاظُ: خُشَيْبَة عَقْفَاء محددة الطرف توضع في الجوالق أو بين الأونين يشد بها الوعاء. انظر: "تهذيب اللغة" (شظ) ٢/ ١٨٧٩، "لسان العرب" (شظظ) ٢/ ١٨٧٩، "مختار الصحاح" (شظظ) ٣٣٨.
(٦) "الكشاف" ٢/ ٤٠٨، "تهذيب اللغة" (نسى) ٤/ ٣٥٦٥.
(٧) ذكر نحوه "جامع البيان" ١٦/ ٦٦، و"النكت والعيون" ٣/ ٣٦٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٩، "زاد المسير" ٥/ ٢٢١، "الدر المنثور" ٤/ ٤٨١.
222
وهو قول قتادة (١).
وقال عكرمة، والضحاك، ومجاهد: (حيضة ملقاة) (٢).
والمنسي: المفعول؛ من نسيت الشيء ضد ذكرته، ويجوز أن يكون مفعولًا من نسيت بمعنى: تركت، وهو هاهنا من صفة الشيء، ومعناه المبالغة؛. لأن النسي وإن كان حقيرًا فقد يطلب ويذكر، فهي تقول ياليتني (٣) كنت ذلك الشيء الذي لا يذكر ولا يطلب.
وقال السدي: (﴿وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ أي نسي ذكري، ومنسيا أي: نسي أثري فلا يرى لي أثر ولا عين) (٤).
وقرئ: نسيا بالفتح (٥). قال الفراء: (هما لغتان مثل: الجَسْر والجِسْر، والحَجْر والحِجْر، والوَتْر والوِتْر. والنسي: ما تلقيه المرآة من خرق اعتلالها وهو اللقَى) (٦).
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٦٦، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢١، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٤، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٩.
(٢) "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٤، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٢١، "الدر المنثور" ٤/ ٤٨١.
(٣) في (س): (بالشيء)، وهو تصحيف.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ٦٦.
(٥) قرأ: ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر: (نِسيا) بكسر النون.
وقرأ: حمزة، وعاصم في رواية حفص: (نَسيا) بفتح النون.
انظر: "السبعة" ص ٤٠٨، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٦، "المبسوط في القراءات" ٢٤٣، "النشر" ٢/ ٣١٨.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٤.
223
وقال أهل اللغة: (الكسر أعلى اللغتين) (١). ويجوز في غير هذا أن يكون النسي مصدرًا كالنسيان كما يقال: العصي والعصيان، والآتي والإتيان، أنشد الفراء (٢):
مِنْ طَاعَة الرَّب وعَصْى الشَّيْطَان
وأنشد (٣) (٤):
أَتْيُ الفَوَاحِشِ فِيْهمُ مَعْرُوفَة وَيرَونَ فِعْلَ المَكْرُمَات حَرَاما
٢٤ - قوله تعالى: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا﴾ قال ابن عباس: (سمع جبريل كلامها وعرف جزعها فناداها من تحتها أسفل منها تحت الأكمة (٥). ﴿أَلَّا تَحْزَنِي﴾. وهذا قول الضحاك، والسدي، وقتادة: (أن المنادي كان جبريل، ناداها من سفح الجبل) (٦). وقال مجاهد، والحسن: (الذي ناداها عيسى) (٧). وهو قول وهب، وسعيد بن جبير، وابن زيد (٨).
(١) "إعراب القرآن" للنحاس ٩/ ٣٥٢، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٦، "الدر المصون" ٧/ ٥٨٢.
(٢) ذكره الفراء في "معاني القرآن" ٢/ ١٦٥ بلا نسبة، وكذلك الطبري في "جامع البيان" ١٦/ ٦٦.
(٣) في (ص): (وأنشد أيضًا).
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٥.
(٥) ذكره نحوه "جامع البيان" ١٦/ ٦٧، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٤، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٥٠، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٥.
(٦) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٧، "جامع البيان" ١٦/ ٦٧ - ٦٨، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٤، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ٣٢١.
(٧) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٦، "جامع البيان" ١٦/ ٦٨ "بحر العلوم" ٢/ ٣٢١، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٤، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٥٠.
(٨) "جامع البيان" ١٦/ ٦٨، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٦، "تفسير القرآن العظيم" =
224
قال أبو إسحاق: (ويكون المعنى في مناداة عيسى لها أن يبين الله لها الآية في عيسى) (١).
وقال أبو علي: (وأن يكون المنادي لها عيسى أشبه وأشد إزالة لما خامرها من الوحشة والاغتمام لما يوجد به طعن عليها) (٢): ولهذا كان الاختيار قراءة من قرأ: مَنْ تَحْتَهَا بفتح الميم (٣)، يعني به عيسى. وهو من وضع اللفظة العامة موضع الخاصة كما تقول: رأيت مَنْ عندك، وأنت تعني أحدًا بعينه (٤).
وقوله تعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ قال ابن عباس: (يريد السري الجدول، وكان ساقيه للماء قبل ذلك، ثم انقطع [الماء منه، فأرسل الله الماء فيه لمريم) (٥).
= ٣/ ١٣١، "الدر المنثور" ٤/ ٤٨٢، وهذا ما رجحه الطبري في "تفسيره" ١٦/ ٦٨، وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" ٤/ ٢٤٦: أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى وتدل على ذلك قرينتان الأولى: أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور. والقرينة الثانية: أنها لما جاءت به قومها تحمله وقالوا لها ما قالوا أشارت إلى عيسى ليكلموه، وإشارتها إليه ليكلموه قرينة على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٥.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٧.
(٣) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر: (مَن تَحْتَها) بفتح الميم والتاء.
وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: (مِن تَحْتِها) بكسر الميم والتاء. انظر: "السبعة" ص ٤٠٨، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٧، "النشر" ٢/ ٣١٨.
(٤) في (س): (يعني).
(٥) ذكر نحوه "جامع البيان" ١٦/ ٦٩، و"النكت والعيون" ٣/ ٣٦٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣١، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٤.
225
وهذا قول عامة المفسرين (١).
قال أبو إسحاق: (وروي عن الحسن أنه قال: (يعني عيسى عليه السلام، كان والله سريا من الرجال) (٢). فعرف الحسن أن من العرب من يسمي النهر سريا (٣). فرجع إلى هذا القول. ولا خلاف بين أهل اللغة أن السري: النهر بمنزلة الجدول) (٤). وأنشد للبيد (٥):
(١) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٧، "جامع البيان" ١٦/ ٦٩ - ٧٠، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٥، "المحرر الوجيز" ١١/ ٢٣، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢١.
وجمهور المفسرين على ذلك وهو ما رجحه ابن جرير الطبري رحمه الله في "تفسيره" ١٦/ ٧١، وابن كثير ٣/ ١٢١. وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" ٤/ ٢٤٨: أظهر القولين عندي أن السري في الآية النهر الصغير، والدليل على ذلك أمران أحدهما: القرينة من القرآن فقدله: ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي﴾ قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به. الأمر الثاني: حديث جاء بذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول فيه: "إن السرى الذي قال الله لمريم: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ نهر أخرجه الله لها لتشرب منه". فهذا الحديث المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كانت طرقه لا يخلو شيء منها من ضعف؛ أقرب إلى الصواب من دعوى أن السري عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٧٠، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٥، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣١، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٢.
(٣) السَّرِي: الجدول وهو قول جميع أهل اللغة.
انظر: "تهذيب اللغة" (سري) ٢/ ١٦٨٠،"لسان العرب" (سرا) ٤/ ٢٠٠٢، "المفردات في غريب القرآن" (سري) ص ٢٣١.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٥.
(٥) البيت للبيد وقد ورد في معلقته. عُرْضَ: الناحية. ومَسْجُورَة: عين مملوءة. القُلام: نبت ينبت على الأنهار، قيل هو نوع من الحمض.
انظر "ديوانه" ص ١٧٠، "شرح القصائد العشر" للتبريزي ص ١٧٦، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٥، "الدر المصون" ٧/ ٥٨٤.
226
فتوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصدَّعَا مَسْجُورَةً مُتَجَاوِزًا قُلامُهَا
ومعنى قوله: (تَحْتَكِ) قال الكلبي: (بحيال قدميك) (١). فجعل تحت هاهنا إسما للجهة المحاذية للمتمكن، وهذا يوافق قول من قال: (إن جبريل ضرب الأرض من تحت قدمها) (٢). ويقال: (إن عيسى ضرب برجله فظهر عين ماء عذب وجرى) (٣).
وقيل: (معنى قوله: ﴿تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ لم يكن الجدول محاذيًا لهذه الجهة، ولكن المعنى جعله دونك، وقد يقال: فلان تحتنا أي: دوننا في المواضع). قال ذلك أبو الحسن (٤).
وقال بعض المفسرين: (معنى قوله: (تَحْتَكِ) أن الله تعالى جعل النهر تحت أمرها إن أمرته أن يجري جرى، وإن أمرته بالإمساك أمسك لقوله تعالى فيما أخبر عن فرعون: (وهذه الأنهار تجرى من تحتي) (٥) أي: من تحت أمري) (٦).
٢٥ - قوله تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ﴾ الهز معناه: التحريك (٧)، يقال: هَزَزْتُه فاهْتَزَّ، ومعنى ﴿إِلَيْكِ﴾ اجذبيه إليك أي: حركيه بأن تجذبيه إليك.
(١) "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٤.
(٢) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٦، "الكشف والبيان" ٣/ ٤ أ، "التفسير الكبير" ١١/ ٢٠٥.
(٣) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٦، "روح المعاني" ١٦/ ٨٣.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٧.
(٥) سورة الزخرف الآية رقم: (٥١).
(٦) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٦، "الكشف والبيان" ٣/ ٤ أ، "التفسير الكبير" ١١/ ٢٠٥، "روح المعاني" ١٦/ ٨٣.
(٧) انظر: "مقاييس اللغة" (هز) ٦/ ٩، "القاموس المحيط" (هز) ص ٥٢٩، "الصحاح" (هزز) ٣/ ٩٠١، "المفردات في غريب القرآن" (هزز) ص ٥٤٢.
227
وقوله تعالى: ﴿بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ قال الأخفش: (الباء زائدة) (١). وهي تزاد كثيرًا في الكلام يقال: خذ بالزمام، وتناول بالخطام، ومد بالحبل، وأعطني بيدك، وأنشد:
بِوَادٍ يَمَانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ صَدْرُه وَأَسْفَلُه بِالمَرْخِ والشَّبَهَانِ (٢)
ونحو هذا قال الفراء، قال: (والعرب تقول: هَزَّ بِه وَهَزَّه، وقوله تعالى: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ﴾ [الحج: ١٥]، معناه فَلْيَمدْدُ سببا) (٣).
ويقال: ألقى بيده، أي ألقى يده، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥].
قال أبو علي: (ويحتمل أن يكون معنى ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ أي: بهز جذع النخله رطبا فحذف المضاف) (٤).
(١) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٢٦، وقال أبو السعود في "تفسيره" ٣/ ٥٧٩: الباء صلة للتوكيد.
وقول أبو السعود أولى من القول بالزيادة، وذلك أدبا مع القرآن الكريم فإن كل حرف ورد فيه يقصد به معنى من المعاني. ولذلك قال ابن جرير -رحمه الله- في "تفسيره" ١٦/ ٧٣: تدخل الباء في الأفعال وتخرج فيكون دخولها وخروجها بمعنى فمعنى الكلام: وهزي إليك جذع النخلة.
(٢) ورد البيت في عدد من الكتب ونسب إلى رجل من عبد القيس، وقيل إنه ليعلى الأحول.
الشَّث: الكثير من الشيء وهو ضرب من الشجر طيب الريح مر الطعم.
والشبهان: ضرب من الرياحين. انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٤٨، "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٢٦، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٠، "أدب الكاتب" ٤١٦، "الجمهرة" ١/ ٤٥، "الدر المصون" ٧/ ٥٨٥، "لسان العرب" (شبه) ص ٢١٩١.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٥.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٨.
228
والمعنى: إذا هززت الجذع هززت بهزه رطبا، فإذا هززت الرطب سقط. وهذا على قول من يخصب الرطب بالهز، وهو قول المبرد، حكى عنه الزجاج قال: (والمعنى هزي إليك بجذع النخلة رطبا تساقط عليك) (١).
وقوله تعالى: ﴿تُسَاقِطْ عَلَيْكِ﴾ أي: تتساقط فأدغمت التاء في السين، وتساقط هاهنا بمعني: تسقط، وتفاعل مطاوع فاعل كما أن تفعل مطاوع فَعَّل وكما عدّى تفعل في: تجرعته، وغليته، وتَمَزَّزْته، كذلك عدي تفاعل فمما جاء من ذلك قول الشاعر:
تُطَالِعنا خَيَالاتٌ لِسَلْمَى كَمَا يَتَطَالعُ الدَّينَ الغَرِيمُ (٢)
ويكون المعنى: تسقط عليك النخلة رطبا جنيا، وانتصب (رُطَبًا) على أنه مفعول به (٣). وقرأ حمزة: تَسَاقَطْ، مخففا (٤). حذف التاء التي أدغمها غيره، ويجوز أن يكون المعنى: تساقط عليك ثمرة النخلة رطبا، فيكون انتصاب رطبا على الحال، وجاز أن يضمر الثمرة وإن لم يجر لها ذكر؛ لأن ذكر النخلة يدل عليها، وعلى هذا الوجه تساقط مطاوع (٥)، وعلى قول
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٥.
(٢) البيت لسلمة بن الخرشب الأنماري. ويريد به أن خيال صاحبته يكثر معاودته، كما يلح الدائن على المدين بكثرة ترداده عليه.
انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٩، "المحتسب" ٢/ ٣٥٨، "المفضليات" ٣٩.
(٣) "الحجه للقراء السبعة" ٥/ ١٩٨، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٣، "الدر المصون" ٧/ ٥٨٨.
(٤) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: (تساقط) بفتح التاء وتشديد السين. وقرأ حمزة: (تَسَاقط) بفتح التاء وتخفيف السين.
انظر: "السبعة" ص ٤٠٩، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ١٩٨، "المبسوط في القراءات" ص ٢٤٣، "حجة القراءات" ص ٤٤٢.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٠.
229
الفراء، والزجاج (١) انتصب (رُطَبًا) على التمييز والتفسير؛ لأن الفعل نقل من الرطب إلى النخلة فلما حول الفعل إليها خرج الرطب مفسرًا كقولهم: تصبب عرقا، كذلك تساقطت النخلة رطبا (٢).
وروى حفص عن عاصم: تُسَاقِطْ على وزن تفاعل (٣)، وساقط بمعنى: أسقط، قال يصف الثور والكلاب (٤):
يُسَاقِطُ عَنْهُ رَوْقُهُ ضَارِيَاتِهَا سِقَاطَ حَدِيدِ القَيْنِ أَخْوَلَ أَخْوَلاَ
وقوله تعالى: (رُطَبًا) الرُّطَبُ: الناضج من البسر (٥)، وقد أَرْطَبَتِ النخلة وأَرْطَبَ القوم إذا أَرْطَبَ نخلهم، ورَطَّبْتَ القوم أطعمتهم رُطَبًا. والجَنَى بمعنى المَجْنِي يقال: جَنَيْتُ الثمر، وأَجْنَيْته، وجَنَا الشجرة ما جُنِي منها (٦). قال ابن عباس: (فعجبت مريم من قول جبريل حين قال لها:
(١)) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٦، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٥.
(٢) "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٣، "الدر المصون" ٧/ ٥٨٨.
(٣) قرأ حفص عن عاصم: (تُسَاقِط) بضم التاء وكسر القاف مخففة السين. وقرأ أبو بكر عن عاصم: (تَسُاقط) بفتح التاء وتشديد السين.
انظر: "السبعة" ص ٤٠٩، "الحجة للقراء السبعة" ١٩٨، "العنوان في القراءات" ١٢٦، "التبصرة" ص ٢٥٦.
(٤) البيت لضابئ البرجمي، يصف الثور والكلاب. الروق: القرن. أَخْوَل أَخْوَلاَ: متفرقا.
انظر: "المحتسب" ٢/ ٤١، "الخصائص" ٢/ ١٣٠، "تهذيب اللغة" (خال) ١/ ٩٦٩، "لسان العرب" (خول) ٣/ ١٢٩٤.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" (رطب) ٢/ ١٤٢١، "الصحاح" (رطب) ١/ ١٣٦، "لسان العرب" (رطب) ٣/ ١٦٦٤، "المفردات في غريب القرآن" (رطب) ١٩٧.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (جني) ١/ ٦٧٤، "مقاييس اللغة" (جني) ١/ ٤٨٢، "المفردات في غريب القرآن" (جنى) ص ١٠١، "لسان العرب" (جني) ٢/ ٧٠٧.
230
﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ وذلك أنه كان جذعًا نخرًا ليس له سعف فلمَّا هزته نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع، ثم نظرت إلى الطلع، ثم خرج من بين السعف، ثم نظرت إلى الطلع قد اخضر فصار بلحا، ثم نظرت إلى البلح قد احمر فصار زهوا، ثم نظرت إلى البسر الأحمر قد صار رطبا كل ذلك طرفة عين قبل أن يرتد إليها طرفها، فجعل الرطب يقع بين يديها في أقماعه ولا يتشدخ منها شيء، فطابت نفسها) (١).
٢٦ - قوله تعالى: ﴿فَكُلِي﴾ قال ابن عباس: (من الرطب ﴿وَاشْرَبِي﴾ من السري ﴿وَقَرِّي عَيْنًا﴾ يريد بعيسى) (٢). قال الكسائي: (قَرِرْتُ به عينا أَقَرُّ، قُرَّةً، وقُرُورًا) (٣).
وبعضهم يقول: قَرِرْتُ، أَقَرُ، القُرَّةُ المصدر، والقُرَّة كل شيء قَرَّتْ به عينك، وأَقَرَّ الله عينه فَقَرَّت (٤). قال الأصمعي: (أَقَرَّ مأخوذ من القُرُّ والقِرَّة، وهما البرد، ومعنى أَقَرَّ الله عينه أبرد الله دمعه؛ لآن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة (٥).
قال المنذري: (وعرض هذا القول على أحمد بن يحيى فأنكره،
(١) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٥، "روح المعاني" ١٦/ ٨٥، "البحر المحيط" ٦/ ١٨٤.
(٢) ذكر نحوه "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٦، "تنوير المقباس" ٢٥٥.
(٣) "تهذيب اللغة" (قر) ٣/ ٢٩٢٤.
(٤) "تهذيب اللغة" (قر) ٣/ ٢٩٢٤، "لسان العرب" (قرر) ٦/ ٣٥٨١.
(٥) "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٤، "إعراب القرآن" للنحاس ٣١١، "تهذيب اللغة" (قر) ٣/ ٢٩٢٤، "لسان العرب" (قرر) ٦/ ٣٥٨١.
231
وقال: الدمع كله حار في فرح كان أو حزن) (١).
وحكي عن جماعة من أهل اللغة أنهم قالوا: (أَقَرَّ الله عينك سكن الله عينك بالنظر إلى ما تحب. أي: صادفت ما يرضيك فَتَقَرّ عينك من النظر إلى غيره. والعرب تقول للذي يدرك ثاره: وقعت بقرك، أي: صادف فؤادك ما كان متطلعا إليه فَقَرَّ) (٢).
وقولهم: فلان قُرَّة عيني معناه رضي نفسي، أي: ترضى نفسي وتَقر وتسكن بقربه مني ونظري إليه (٣).
قال أبو عمرو الشيباني: (أقر الله عينه أنام الله عينه، والمعنى صادف سرورًا يذهب سهره فينام) (٤)، وأنشد (٥):
أَقَرَّ بِه مَوَالِيْك العُيُونَا
أي: نامت عيونهم لما ظفروا بما أرادوا. وقال الفراء: ﴿وَقَرِّي عَيْنًا﴾ جاء في التفسير: طيبي نفسا، وإنما نصبت العين؛ لأن الفعل كان
(١) "تهذيب اللغة" (قر) ٣/ ٢٩٢٤.
(٢) "زاد المسير" ٥/ ٢٢٤، "تهذيب اللغة" (قر) ٣/ ٢٩٢٤، "لسان العرب" (قر) ٦/ ٣٥٨١.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" (قر) ٣/ ٢٩٢٤، "مقاييس اللغة" (قر) ٥/ ٧، "الصحاح" (قرر) ٢/ ٧٨٨، "المفردات في غريب القرآن" (قر) ٣٩٧، "لسان العرب" (قر) ٦/ ٣٥٨١.
(٤) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣١١، "تهذيب اللغة" (قر) ٣/ ٢٩٢٤، "لسان العرب" (قرر) ٦/ ٣٥٨١.
(٥) هذا عجز بيت ينسب لعمرو بن كلثوم وصدره:
بيوم كريهة ضربًا وطعنًا
انظر: "تهذيب اللغة" (قرر) ٣/ ٢٩٢٤، "لسان العرب" (قرر) ٦/ ٣٥٨١.
232
لها، فصيرته للمرأة فمعناه لتقر عينك، فإذا حول الفعل عن صاحبه إلى ما قبله نُصب صاحب الفعل على التفسير، كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ [النساء: ٤]، معناه: فإن طابت أنفسهن، ومثله: ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ (١)، وسؤت به ظنا) (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ﴾ ترين كان في الأصل ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من يرى وترى، ونقلت فتحتها إلى الراء، فصار تريين فلما تحركت الياء الأولى وانفتح ما قبلها صارت ألفا، فاجتمع ساكنان أحدهما الألف المنقلبة في الياء والأخرى ياء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار (تَرَيْنَ) ثم حذفت النون علامة للجزم؛ لأن قوله: إما حرف شرط فبقي ترى، ثم دخلته نون التأكيد وهي منقلة فكسرت الياء أعني ياء التأنيث لالتقاء الساكنين إذ النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى منها ساكنة فصار تنوين (٣).
قال الزجاج: (وكذلك تقول للمرآة: اخشينَّ زيدا) (٤). يعني أن ياء التأنيث تكسر لأجل نون التأكيد وكذلك تقول: ألم تَرَى القوم، ولم تَخْشَى الرجل فتحرك بالكسر مع لام المعرفة وسائر السواكن كذلك حركتها مع النون الشديدة بالكسر ولم ترد اللام التي حذفتها لالتقاء الساكنين لما حركت الساكن الذي كنت حذفت اللام لالتقائها معه؛ لأن حركة الالتقاء الساكن غير لازمه وهي في تقدير السكون كما لم ترد في قولك: رَمَتِ ابنك
(١) سورة هود الآية رقم: (٧٧)، وسورة العنكبوت الآية رقم: (٣٣).
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٦.
(٣) "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٣، "الدر المصون" ٧/ ٥٩١.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٧.
233
ونحوه، وإذا قلت للواحدة: تَرَيْنَ كان اضافته على ضمير التأنيث وليست لام الفعل؛ لأن لام الفعل قد حذفت لالتقاء الساكنين كما ذكرنا، فإن خاطبت جماعة نساء قلت: كيف تَرَيْنَ؟ فالياء لام الفعل، وليست التي للضمير كما كانت] (١) في خطاب الواحدة ألا ترى أن قولك: أَنْتُنَّ تَذْهَبْنَ، تلي فيه الباء التي هي لام الفعل علامة الضمير للتأنيث وهي النون، فقياس المعتل في هذا قياس الصحيح، ولذلك لو قلت للواحدة: كيف تَرَيْنَك كانت النون علامة للرفع والياء علامة الضمير، ولو قلت لجماعة نساء: كيف تَرَيْنَكُنَّ، كانت النون علامة الضمير والياء لام الفعل، فإذا ألحق الجازم والناصب ترين، وتأتين حذفت النون للجزم والنصب، ولو لحق فعل الجميع لم تحذف النون كما لم تحذف في؛ لم تَضرِبنَ. ذكر هذا كله أبو علي الفارسي في "المسائل الحلبية" (٢).
قوله تعالى: ﴿فَقُولِي﴾ فيه اختصار؛ لأن المعنى: فإما ترين من البشر أحدًا فسألك عن ولدك فقدلي: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ قال ابن عباس: (صمتا) (٣). ومعنى الصوم في اللغة: الإمساك عن الأكل وعن الكلام (٤). والمعنى أوجبت على نفسي لله تعالى أن لا أتكلم.
وقال قتادة: (صامت من الكلام، والطعام، والشراب) (٥).
(١) من قوله: (فأرسل الله الماء فيه لمريم..) إلى هنا ساقط من نسخة: (س).
(٢) "المسائل الحلبيات" لأبي علي الفارسي ٨٧.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ٧٤، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٢، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٧، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣١، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٥، "الدر المنثور" ٤/ ٤٨٥.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (صام) ٢/ ١٩٦٤، "مقاييس اللغة" (صوم) ٣/ ٣٢٣، "القاموس المحيط" (صام) ص ١١٣١، "المفردات في غريب القرآن" (صوم) ٢٩١.
(٥) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٨، "جامع البيان" ١٦/ ٧٤، "النكت والعيون" =
234
وعلى هذا معنى قوله: ﴿نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ هو الصوم المعروف الذي هو عبادة. قال السدي، وابن زيد: (كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام، كما يصوم عن الطعام فلا يتكلم الصائم حتى يمسي) (١). ويدل على صحة هذا القول قوله: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ أي: إني صائم فلا أكلم اليوم أحدًا. ولو أريد بالصوم هاهنا الصمت فقط لم يحتج إلى قوله فلن أكلم اليوم. وأيضًا فإنه قال: ﴿نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ والصوم الذي هو لله إنما هو (٢) ترك الطعام لا ترك الكلام.
قال المفسرون: (كان قد أذن لها أن تقول: ﴿نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ [ثم تسكت ولا تتكلم بشيء آخر) (٣).
وقال قوم: (كانت تقول هذا القدر إشارة بحيث يعرف أنها ممسكة عن الكلام) (٤). وأما سبب أمرها] (٥) بترك الكلام فقال ابن مسعود، وابن
= ٣/ ٣٦٧، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ٣٣١.
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٧٤، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٥٨، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٥، "الدر المنثور" ٤/ ٤٨٥.
(٢) قوله: (هو)، ساقط من نسخة (س).
(٣) "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٨، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٥٨، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٧،" الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٨.
وهذا قول جمهور المفسرين. قال أبو حيان في "تفسيره" ٦/ ١٩٥: إن المعنى فلن أكلم اليوم إنسيا بعد قولي هذا، وبين الشرط وجزائه جملة محذوفة يدل عليه المعنى أي: فإما ترين من البشر أحدًا وسألك أو حاورك الكلام فقولي. وانظر: "أضواء البيان" ٤/ ٢٥٤.
(٤) "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٢، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٥٨، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣١.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
235
زيد، ووهب: (أمرت بالصمت؛ لأنها لم يكن لها حجة عند الناس ظاهرة في شأن ولدها، فأمرت بالكف عن الكلام ليكفيها الكلام ولدها بما يبرئ به ساحتها) (١). وقيل في قوله: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ خصت الإنس لأنها كانت تكلم الملائكة (٢).
٢٧ - قوله تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ قال ابن عباس في رواية: (خرجت مريم من عندهم ضحى تتشرق للشمس (٣) ليس بها (٤) قلبه (٥)، فجاءت عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار) (٦). وقال الكلبي: (أتت به قومها تحمله بعد أربعين يوما، وذلك أنها ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها، ثم حملت عيسى إلى قومها، فلما دخلت عليهم ومعها الصبي بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين) (٧). فقالوا: ﴿قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ قال أبو عبيدة: (كل فائق من عجب أو عمل فهو: فري،
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٧٥، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣١، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٨.
(٢) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٨، "الكشاف" ٢/ ٤٠٩، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٥، "الدر المنثور" ٤/ ٤٨٥.
(٣) قوله: (للشمس)، ساقط من نسخة (س).
(٤) في (ص): (فيها).
(٥) قلبه: أي ما به على يخشى عليه منها. وقيل: معناه ما به شيء يقلقله.
انظر: "تهذيب اللغة" (قلب) ٣/ ٣٠٢٦، "الصحاح" (قلب) ١/ ٢٠٥، "المعجم الوسيط" (قلب) ٢/ ٧٥٣، "لسان العرب" (قلب) ٦/ ٣٧١٣.
(٦) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٩، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٦.
(٧) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٩٩، "الكشاف والبيان" ٣/ ٥ / أ.
وهو هاهنا: عجب) (١). وقال الفراء [والزجاج وجميع أهل اللغة: (الفَرِي: الأمر العظيم، يقال فلان يَفْرِي الفَرِي] (٢) إذا كان يعمل عملا يفضل فيه الناس) (٣). ومنه قول -عليه السلام- في صفة عمر: (فلم أرَ عبقريا يَفْرِي فَرِيَّه) (٤). قال ابن عباس: ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ أي: عظيما منكرا لا يعرف منك ولا من أهل بيتك) (٥). وهذا قول مجاهد، وقتادة، والسدي قالوا: (الفري: العظيم من الأمر) (٦).
٢٨ - قوله تعالى: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ اختلفوا في هارون من هو؟ فقال ابن عباس في رواية عطاء: (أن مريم كانت عابدة، وكان في بني إسرائيل رجل عابد يقال له هارون، تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم اسمه هارون) (٧).
وهذا قول قتادة، وكعب، وابن زيد قالوا: (هارون رجل صالح من
(١) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٧.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٣) "تهذيب اللغة" (فرا) ٣/ ٢٧٥٦، "لسان العرب" (فرا) ٦/ ٣٤٠٨.
(٤) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب: "فضائل الصحابة" باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- "لو كنت متخذًا خليلًا" ٣/ ١٣٤٥، ومسلم في صحيحه كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل عمر -رضي الله عنه- ٤/ ١٨٦٠، والترمذي في جامعه كتاب: الرؤيا، باب: ما جاء في رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- ٤/ ٤٦٨، والإمام أحمد في "مسنده" ٢/ ٢٨، والثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٥/ أ، والبغوي في "معالم التنزيل" ٥/ ٢٠٢٨.
(٥) "زاد المسير" ٥/ ٢٢٦، "تنوير المقباس" ٢٥٥.
(٦) "جامع البيان" ١٦/ ٧٧، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٨، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٥٩، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٢، "الدر المنثور" ٤/ ٤٨٦.
(٧)) "جامع البيان" ١٦/ ٧٧، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٠.
237
بني إسرائيل ينسب إليه من عرف بالصلاح) (١). والمعنى: يا شبيهته في العفة. ونحو هذا روى المغيرة بن شعبة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (٢). وقال السدي: (عنوا هارون أخا موسى، ونسبت مريم إلى أنها أخته؛ لأنها من ولده، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم) (٣). وقال الكلبي: (كان هارون أخا مريم من أبيها ليس من أمها، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل) (٤). وقيل: (إن هارون هذا كان فاسقا معلنا بالفسق فشبهت به) (٥).
(١) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٩، "جامع البيان" ١٦/ ٧٧، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٨، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٥٩، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٨.
(٢) الحديث رواه المغيرة بن شعبة وقال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل نجران، فقالوا: ألستم تقرؤن "يا أخت هارون" وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى؟ فلم أدر ما أجيبهم، فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم.
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب: الآداب، باب: النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء ٢/ ١٦٨٥ والترمذي في جامعه كتاب: التفسير سورة مريم ٢/ ١٤٤، والنسائي في "تفسيره" ٢/ ٢٩، والإمام أحمد في "مسنده" ٤/ ٢٥٢، أخرجه الطبري في "جامع البيان" ١٦/ ٧٨، والماوردي في "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٨، والبغوي في "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٨، والسمرقندي في "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٣، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٥٩، والسيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٤٨٦ وزاد في نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ٧٨، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٦٠، "معالم التزيل" ٥/ ٢٢٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٢.
(٤) "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٣، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٠، "روح المعاني" ١٦/ ٨٨.
(٥) "جامع البيان" ١/ ٧٨٦، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٣، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٩،=
238
وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ﴾ قال ابن عباس: (يريد زانيا) (١).
﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ يريد زانية. وذكرنا الكلام في البغي في هذه السورة (٢). والمعنى في نفي الزنا عن أبويها تعريض بزناها، كأنهم قالوا: لم يكونا زانيين فمن أين لك هذا الولد؟. قال الفراء: (أي أهل بيتك أخوك وأبوك صالحون وقد أتيت أمرا عظيما) (٣).
٢٩ - قوله تعالى: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ قال ابن عباس: (تريد أن كلموه وهو يرضع فنظر بعضهم إلى بعض تعجبا منها حين أشارت إليه) (٤). ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ﴾ الآيه. وقال أبو إسحاق: (أشارت إليه بأن يجعلوا الكلام معه، ودل على أنها أشارت إليه في الكلام، قوله: ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾) (٥). قال ابن عباس: (يريد في الحجر رضيعا) (٦).
= "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٦١، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٢.
هذا القول بعيد، والراجح -والله أعلم- من هذه الأقوال ما ثبت في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه والذي مر بنا آنفًا.
وانظر: "جامع البيان" ١٦/ ٧٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٢، "فتح القدير" ٣/ ٤٧٣، "أضواء البيان" ٤/ ٢٧١.
(١) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٩، "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٩، "تنوير المقباس" ص ٢٥٥.
(٢) عند قوله سبحانه في الآية رقم: (٢٠): ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٧.
(٤) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٢.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٨.
(٦) ذكره "المحرر الوجيز" ٩/ ٢٦٢ بدون نسبة، و"النكت والعيون" ٣/ ٣٧٠ ونسبة لقتادة، و"زاد المسير" ٥/ ٢٢٦.
239
والمَهْدُ: الموضع الذي يُهَيَأ لينام فيه الصبي (١). فيجوز أن يكون الحجر كما ذكره ابن عباس، وقتادة، والكلبي (٢).
ويجوز أن يكون: سريرا كالمَهْد المعروف للصبيان (٣). واختلفوا في ﴿كَانَ﴾ هاهنا فقال أبو عبيدة: (﴿كَانَ﴾ هاهنا حشو زائد (٤)، والمعنى: كيف نكلم صبيا في المهد) (٥). وهذا اختيار ابن قتيبة، وكثير من أهل التفسير ذكروه (٦)، واحتجوا بقول الفرزدق (٧):
فَكَيْفَ إذَا رَأَيْتَ دِيَارَ قَوْمٍ وَجِيْرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَام
وقال قوم: (﴿كَانَ﴾ في معنى وقع وحدث) (٨). والمعنى: كيف نكلم
(١) انظر: "تهذيب اللغة" (مهد) ٤/ ٣٤٦١، "الصحاح" (مهد) ٢/ ٥٤١، "المفردات في غريب القرآن" (مهد) ص ٤٧٦، "المصباح المنير" (المهد) ص ٥٨٢.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٧٩، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٠، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٦.
(٣) "النكت والعيون" ٣/ ٣٦٩، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٢.
(٤) هذا القول بعيد ولا يليق أن يوصف كلام الله بالحشو الزائد، وكتاب الله هو الحكم في اللغة. قال القرطبي ١١/ ١٠٢: لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت (صبيا). وانظر: "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٨، "البيان في غريب القرآن" ٢/ ١٢٤، "البحر المحيط" ٦/ ١٨٧.
(٥) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٧، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٨، "البحر المحيط" ٦/ ١٨٧.
(٦) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٢٩، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٢.
(٧) البيت للفرزدق قاله في قصيدة يمدح فيها هشام بن عبد الملك. انظر "ديوانه" ص ٥٩٧، "خزانة الأدب" ٩/ ٢١٧، "الكتاب" ٢/ ١٥٣، "المقتضب" ٤/ ١١٦، "الدر المصون" ٧/ ٥٩٥، "لسان العرب" (كون) ٧/ ٣٩٦١.
(٨) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٨، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٠٨.
240
صبيا قد حدث في المهد. وقال الزجاج: (وأجود الأقوال أن يكون في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى: من يكن في المهد صبيا، فكيف نكلمه؟ كما تقول: من كان لا يسمع ولا يعقل فكيف أخاطبه) (١). قال ابن الأنباري: (لا يجوز أن يكون الكون مُلْغًى، وهو عامل في الصبي النصب، وقول من قال: إن ﴿كَانَ﴾ بمعنى حدث قبيح أيضا؛ لأن الصبي لما انتصب بالكون لم يكن الكون بمعنى الحدوث؛ لأنه إذا كان بمعنى الوقوع والحدوث استغنى عن خبره، كما تقول: كان البرد وكان الحر، تريد وقع وحدث -ثم اختار قول الزجاج- قال: والذي نذهب إليه أن يكون ﴿مَنْ﴾ في معنى الجزاء و ﴿كَانَ﴾ بمعنى يكون، والتقدير: من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه؟ كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل عظتي؟ معناه: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل في باب الجزاء، كقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ﴾ [الفرقان: ١٠] معناه: إن شاء يجعل) (٢).
قال السدي: (لما أشارت إليه غضبوا وقالوا: سخريتها بنا حيث تأمرنا أن نسأل هذا الصبي أعظم علينا مما صنعت) (٣).
٣٠ - وكان عيسى يرضع فلما سمع كلامهم لم يزد على أن ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وأشار بسبابته فقال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ وقال ابن
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٨.
(٢) ذكر في "زاد المسير" ٥/ ٢٢٨، "البحر المحيط" ٦/ ١٨٧، "الدر المصون" ٧/ ٥٩٤.
(٣) "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٦٢، "الكشاف" ٢/ ٤١٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٢.
عباس: (أقر بالعبودية على نفسه، وبربوبية الله أول ما تكلم) (١). ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ أي: حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة فيما قضى وسبق، وهذا إخبار عما سبق له مما هو كائن فيما بعد. وقال قوم: (أخبر عما حصل له؛ لأن الله تعالى علمه وهو في بطن أمه التوارة والحكمة والخط وجعله نبيا ينبئ عن الله، وكان كلامه في حال الرضاع معجزته، وذلك أن الله تعالى كمل عقله في ذلك الوقت). والأول قول عكرمة وجماعة (٢). والثاني معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (٣).
٣١ - قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا﴾ قال ابن عباس: (لأن أدعوا إلى الله وإلى توحيده وعبادته) (٤).
وقال مجاهد: (جعلني معلما للخير نفاعا) (٥). وقال غيره: (بركته (٦) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (٧).
﴿وَأَوْصَانِي﴾ أمرني، وتقدم إلى ﴿بِالصَّلَاةِ﴾ بإقامتها ﴿وَالزَّكَاةِ﴾ أي:
(١) ذكر نحوه "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٠، و"ابن كثير" ٣/ ١٣٣، "القرطبي" ١١/ ١٠٢، "فتح القدير" ٣/ ٣٣٢.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٨٠، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٦٤، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٠، "ابن كثير" ٣/ ١٣٣، "الدر المنثور" ٤/ ٤٨٧.
(٣) "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٣، "ابن كثير" ٣/ ١٣٣، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٩.
والقول الأول أولى، وقد ضعف القول الثاني عدد من المفسرين، قال ابن عطية في "تفسيره" ١١/ ٢٩: وهذا في غاية الضعف.
(٤) "معالم التزيل" ٣/ ١٩٥.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ٨١، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٦٤، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٣، "زاد المسير" ٥/ ٢٢٩.
(٦) في (س): (تركته)، وهو تصحيف.
(٧) المراجع السابقة.
زكاة الأموال (١). وقيل: معنى الزكاة هاهنا: (طهارة الجسد من الذنوب واجتناب المعاصي) (٢).
٣٢ - ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي﴾ مطيعا لها لطيفا بها، وهو عطف على ﴿مُبَارَكًا﴾ (٣). قال ابن عباس: (لما قال: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي﴾ ولم يقل: بوالدي علموا أنه شيء من الله) (٤). ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا﴾ متعظمًا يقتل ويضرب على الغضب (٥). ﴿شَقِيًّا﴾ عاصيا لربه (٦).
٣٣ - قوله تعالى: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ﴾ قال أبو إسحاق: (لما جرى ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام كان الأحسن أن يذكر ثانية بالألف واللام، ومعنى السلام هاهنا: عموم العافيه؛ لأنه مصدر سَلَّمْتُ سَلاَمًا) (٧).
قال المفسرون: (السلامة عليَّ من الله تعالى يوم ولدت حتى لم يضرني شيطان) (٨). وهذا معنى ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-! قال: "ما من مولود يولد إلا ويطعن الشيطان في جنبه وذلك حين يستهل صارخا، إلا عيسى بن
(١) المراجع السابقة.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٨١، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٦٣.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٩، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣١٣، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٤.
(٤) "زاد المسير" ٥/ ٢٣٠، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي ١١/ ١٠٣.
(٥) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٤، "القرطبي" ١١/ ١٠٣.
(٦) "جامع البيان" ١٦/ ٨٢، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧١، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٠، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٠، "الدر المنثور" ٤/ ٤٨٨.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٩، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٤.
(٨) "الطبري" ١٦/ ٨٢، "الماوردي" ٣/ ٣٧١، "البغوي" ٥/ ٢٣٠، القرطبي ١١/ ١٠٤.
مريم، فإنه ذهب يطعن فطعن في الحجاب" (١). والآية مفسرة في قصة يحيى في هذه السورة (٢). قال ابن عباس والمفسرون: (كلمهم عيسى بهذا ثم سكت فلم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان) (٣).
٣٤ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ قال أبو إسحاق: (أي ذلك الذي قال ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ الآيات، هو عيسى بن مريم، لا ما يقول النصارى من أنه ابن الله وأنه إله) (٤). ﴿قَوْلَ الْحَقِّ﴾ ﴿الْحَقِّ﴾ هاهنا يجوز أن يراد به الله تعالى، وهو قول مجاهد (٥). ويرتفع (قَوْل) على أنه نعت لعيسى (٦)، أي: ذلك عيسى بن مريم قول الله، أي: كلمته، والكلمة قول، ويجوز أن يضاف القول إلى الحق (٧)، ومعناه: القول الحق، كما قيل: ﴿حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة: ٩٥، الحاقة ٥١]، و ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ﴾ [الأحقاف: ١٦]، و ﴿الدَّارُ
(١) أخرج نحوه البخاري في "صحيحه"، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ ٣/ ١٢٦٥، ومسلم، في الفضائل، باب فضل عيسى -عليه السلام- ٤/ ١٨٣٨، والإمام أحمد ٢/ ٥٥٣، والماوردي في "النكت والعيون" ٣/ ٣٧١.
(٢) عند قوله سبحانه في الآية رقم (١٥): ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾.
(٣) "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٣، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٦٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٤، "الدر المنثور" ٤/ ٤٨٨.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢٩.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ٨٣، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٥ ذكره بدون نسبة.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٨، "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣١٣، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١٤٤، "الدر المصون" ٧/ ٥٩٨.
(٧) "جامع البيان" ١٦/ ٨٣، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٨.
244
الْآخِرَةِ} [يوسف: ١٠٩] وعلى هذا يجوز أن يرتفع ﴿قَوْلَ الْحَقِّ﴾ على النعت لعيسى كما ذكرنا، ويجوز أن يرتفع على أنه خبر ابتداء مضمر (١)، دل عليه قوله: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ والمعنى: هذا الكلام قول الحق، أي: هذا الذي ذكرنا من صفته، وأنه ابن مريم قول الحق، ومن قرأ: قَوْلَ الحق، بالنصب فهو نصب على المصدر (٢)، أي: قال قول الحق.
[وقال أبو علي: (أما النصب فهو أن قوله: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ هو يدل على: أَحقُّ قَولَ الحَقّ] (٣). وتقول: هذا زيدُ الحقّ لا الباطل؛ لأن قول هذا زيد، بمنزله أحُقُّ، كأنك قلت: أحُقُّ الحَقَّ، وأَحَقُّ قَولَ الحَقِّ) (٤).
ويكون على هذا التقدير اعتراضا بين الصفة والموصوف؛ لأن التقدير: ذلك عيسى بن مريم الذي فيه. وقال الفراء: (وإن نصبت القول وهو في النية من نعت عيسى كان صوابا، كأنك قلت: هذا عبد الله الأَسَدَ عَاديًا، كما تقول: أَسَدًا عَاديِا) (٥).
وقوله تعالى: ﴿الَّذِي﴾ هو هو من نعت عيسى ﴿فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ أي: يشكون فيختلفون، فيقول قائل: هو ابن الله، ويقول آخر: هو الله (٦). ثم
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٨٣، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٤، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠١، "الدر المصون" ٧/ ٥٩٨.
(٢) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي: (قولُ الحق) رفعا. وقرأ عاصم، وابن عامر: (قولَ الحق) نصبا.
انظر: "السبعة" ص ٤٠٩، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠١، "التبصرة" ص ٢٥٦.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٢.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٨.
(٦) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٨، "جامع البيان" ١٦/ ٨٣ - ٨٤، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٢، "معالم التزيل" ٥/ ٢٣١.
245
نفى عن نفسه اتخاذ الولد.
٣٥ - فقال؛ ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ إن مع الفعل بمنزلة المصدر أي: ما كان له اتخاذ الولد على معنى أن ذلك ليس من صفته، ولا مما يليق به؛ لأن الولد مجانس للوالد، وكذلك من اتخذ ولدا إنما يتخذه من جنسه والله تعالى ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يكون له ولد، ولا أن يتخذ ولدا، وذكر ابن الأنباري في هذا وجهين:
أحدهما: (أن هذه من المقلوب على معنى ما كان للولد أن يتخذه الله، فدخلت اللام في غير موضعها على مذهب العرب في الاتساع وقد تقدم لهذا نظائر.
والثاني: أن المعنى ما كان ينبغي لله أن يتخذ من ولد، فنابت اللام عن الفعل الذي هو ينبغي، وتأويل لا ينبغي: لا يصلح ولا يستقيم) (١).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ وَلَدٍ﴾: ﴿مِنْ﴾ زائدة مؤكدة لاستغراق الجنس، فلا يجوز أن يتخذ ولدا واحدا ولا أكثر، هذا معنى قول الزجاج: (﴿مِنْ﴾ مؤكدة تدل على نفي الواحد والجماعة) (٢).
ثم نزه نفسه عن مقالتهم بقوله سبحانه، ثم بين السبب في كون عيسى من غير أب فقال: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي: إذا أراد أن يحدث ولدا من غير أب ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ كما فعل بآدم إذ خلقه من غير أب ولا أم، وهو قوله تعالى: ﴿مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل
(١) ذكر نحوه بلا نسبة في "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٦٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٧.
(٢) "معاني القرآن للزجاج" ٣/ ٣٢٩. وقول الزجاج أولى من القول بالزيادة، وذلك أدبًا مع كتاب الله -عز وجل- فإن وجل فإن كل حرف ورد فيه يقصد به معنى من المعاني.
عمران: ٥٩]، والمعنى: أن كون عيسى إنما كان بقضاء الله وإرادته، وإذا أراد أمرا لم يتعذر عليه، وأوجده على الوجه الذي أراده، والكلام في مثل هذه الآية قد تقدم في سورة البقرة في قوله: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: ١١٧] الآية.
٣٦ - قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ الآية. ذكر الفراء في فتح ﴿أَن﴾ ثلاثة أوجه أحدها: العطف على عيسى بن مريم، بتأويل ذلك عيسى بن مريم، وأن الله ربي وربكم، فيكون في موضع رفع. والثاني: ولأن الله ربي ربكم [فاعبدوه، فيعمل فيه فاعبدوه] (١) وهذا الوجه اختيار أبي علي (٢). وروي وجه رابع عن أبي عمرو بن العلاء وهو: أن المعنى وقضى الله ربي وربكم (٣)، ومن كسر استأنف الكلام وجعله معطوفا على المستأنف قبله وهو (٤) قوله: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ ويجوز أن يكون استئنافًا بالواو من غير عطف، ويؤكد هذا الوجه ما روي في قراءة أبي: أن الله ربي وربكم، بغير واو (٥). وعلى الأوجه كلها الآية من كلام عيسى لقومه.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من نسخه (س).
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٢٠٣.
(٣) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣١٥، " الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٨، "البحر المحيط" ٦/ ١٩٠.
وقال السمين الحلبي في "الدر المصون" ٧/ ٦٠٠: واستبعد الناس صحة هذا النقل عن أبي عمرو؛ لأنه من الجلالة في العلم والمعرفة بمنزلة يمنعه من هذا القول، وذلك لأنه إذا عطف على (أمرا) لزم أن يكون داخلا في حيز الشرط به (إذا) وكونه تبارك ربنا لا يتقد يشترط البته.
(٤) في (س): (وهذا).
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ٨٥، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٤، "الكشاف" ٢/ ٤١١، "البحر المحيط" ٦/ ١٨٩، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٨.
قوله تعالى: ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ أي: هذا الذي أخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم الذي يؤدي إلى الجنة.
٣٧ - قوله تعالى: ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ﴾ يعني: فرق النصاري اختلفوا في عيسى فقال بعضهم: هو الله (١)، وقال بعضهم: ابن الله (٢)، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة (٣).
قوله تعالى: ﴿مِنْ بَيْنِهِمْ﴾ أي: بينهم، ومن زائدة. قال المفسرون: (كانوا أحزابا متفرقين ﴿بَيْنِهِمْ﴾ في أمر عيسى) (٤).
﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فشدة عذاب للذين كفروا بالله بقولهم في المسيح بأنه ابن الله وأنه إله ﴿مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي: من حضور ذلك اليوم، والمشهد مصدر يراد به [الشهود، والمعنى: ويل لهم إذا جاءت القيامة (٥).
= واختلف القراء في قراءة هذه الآية: فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: (وأن الله ربي) بنصب الألف. وقرأ ابن عامر، وعاصم، حمزة، والكسائي: (وإن الله) بالكسر.
انظر: "السبعة" ص ٤١٠، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٢، "المبسوط في القراءات" ص ٢٤٣، "النشر" ٢/ ٣١٨.
(١) وهم اليعقوبية. انظر: "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٨، "جامع البيان" ١٦/ ٨٥ - ٨٦، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٤، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧١، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٢.
(٢) وهم النسطورية. انظر: "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٩، "جامع البيان" ١٦/ ٨٦، "وبحر العلوم" ٢/ ٣٢٤، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣١، "الدر المنثور" ٢/ ٤٨٨.
(٣) وهم الإسرائيلية من ملوك النصارى. انظر: "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ٩، "جامع البيان" ١٦/ ٨٦، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧١، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٥.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ٨٦، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧١، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣١، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٥.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ٨٦، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧١، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٥.
ويجوز أن يكون الحضور لهم وأضيف إلى الظرف لوقوعه فيه، كما تقول: ويل لفلان] (١) من قتال يوم كذا، والمعنى: ويل لهم حضورهم ذلك وشهودهم إياه للجزاء والحساب (٢).
٣٨ - قوله تعالى: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ قال قتادة: (ذلك والله يوم القيامة سمعوا حين لم ينفعهم السمع وأبصروا حين لم ينفعهم البصر) (٣).
وقال ابن عباس، والسدي وجميع المفسرين: (ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة) (٤). وقال الكلبي: (يقول: ما أبصرهم بالهدى يوم القيامة، وأطوعهم أن عيسى ليس الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة) (٥).
فجعل السمع هاهنا بمعنى الطاعة وهو حسن. وقال الحسن: (لئن كانوا في الدنيا صما عميا عن الحق فما أبصرهم به وأسمعهم يوم القيامة) (٦). ﴿لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾. يعني أن الكافرين والمشركين ضلوا في الدنيا، وعموا عن الحق وآثروا الهوى على الهدى.
وقوله تعالى: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ لفظ التعجب كما قالوا في تفسيره:
(١) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٢) "الكشاف" ٢/ ٤١١، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٨، "البحر المحيط" ٦/ ١٩٠، "فتح القدير" ٣/ ٤٧٧.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ٨٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٣، "الدر المنثور" ٤/ ٤٨٩، "البحر المحيط" ٦/ ١٩١.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ٨٧، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧٢، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٥، "زاد المسير" ٥/ ١٦٣.
(٥) "معالم التنزيل" ٣/ ٢٣٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٨، "الكشف والبيان" ٣/ ٧ أ.
(٦) "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٣.
ما أسمعهم وأبصرهم (١)، وللتعجب لفظان أحدهما: ما أكرم زيدا، وذكرنا الكلام فيه عند قوله: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٥]، والثاني: أكرم يزيد وأسمع بهم وأبصر.
قال أبو علي: (وهذا مثال الأمر أقيم مقام الخبر، والمعنى: اسمعوا وأبصروا أي: صاروا ذوي سماع وإبصار، فوقع مثال الأمر هاهنا موقع الخبر، كما وقع مثال الخبر موقع الأمر في الدعاء في مثل: غفر الله لزيد، وقطع الله يد فلان، وسلام عليك، وخير بين يديك ونحوه مما يراد به الدعاء، وهو على لفظ الخبر، ومثل هذا مما جاء في التنزيل قوله: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾ [مريم: ٧٥] فهذا لفظه كلفظ أمثلة الأمر ومعناه الخبر، ألا ترى أنه لا وجه للأمر هاهنا وأن المعنى: يمده الرحمن مداد، ويدلك على أن المراد في هذا الخبر أن السمع والبصر وغيرهما من الأحداث لا يخاطب ولا يؤمر ولا ينهي، فليس للأمر هاهنا معنى ولا متوجه) (٢).
وموضع الباء مع ما بعدها من المنجر في قولك أكرم يزيد رفع، كما أن الباء في: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ (٣) كذلك، وذلك أن المتعجب منه وقع موقع الفاعل، وفاعل هذا الفعل المتعجب منه، فلذلك قلنا إن الجار مع المجرور في موضع رفع.
٣٩ - قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾ أي: خوف يا محمد كفار مكة يوم الندامة يتحسر المسيء هلا أحسن العمل، والمحسن هلا إزداد من
(١) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣١٦، " إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٤.
(٢) ذكره مختصرًا في "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٢٠٥.
(٣) وردت في مواطن كثيرة ومنها ما ورد في سورة النساء الآية رقم: (٦).
250
الإحسان. وقال أكثر أهل التأويل: (يعني الحسرة حين يذبح الموت بين الفريقين، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، فلو مات أحد فرحا لمات أهل الجنة، ولو مات أحد حزنا لمات أهل النار) (١).
قال مقاتل: (لولا ما قضى الله من تخليد أهل النار فيها لماتوا حسرة حين رأوا ذلك) (٢). وهذا يروى مرفوعاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (٣).
قوله تعالى: ﴿إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ هو أي: فرغ من الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. والمعنى: إذ يقضى الأمر؛ لأنه لم
(١) "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧٢، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٤، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٢، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٩.
(٢) "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٤، "الكشف والبيان" ٣/ ٧ أ.
(٣) أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل أهل النار النار وأدخل أهل الجنة الجنة يجاء بالموت كأنه كبش أملح فينادي منادي: يا أهل الجنة تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون وكل قد رأوه فيقولون: نعم هذا الموت، ثم ينادي: يا أهل النار تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، وكلهم قد رأوه فيقولون: نعم هذا الموت، فيؤخذ فيذبح، ثم ينادي: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، فذلك قوله: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ قال: أهل الدنيا في غفلة".
أخرجه البخاري في "كتاب التفسير" سورة مريم ٦/ ١١٧، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء ٤/ ٢١٨٨، والترمذي في جامعه كتاب: التفسير سورة مريم ١٢/ ١٤، والدرامي كتاب: الرقائق، باب: ذبح الموت ٢/ ٣٢٩، وأحمد في "مسنده" ٣/ ٩، والنسائي في "تفسيره" ٢/ ٣٠، والطبري في "جامع البيان" ١٦/ ٨٧، والسيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٤٨٩ وزاد في نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
251
يأت بعد إلا أن ما كان من أحكام الآخرة يذكر بلفظ الماضي فىِ القرآن؛ لأنها كأنها قد وقعت حيث هي كائنة لا شك، كقوله: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [الأعراف: ٥٠]. وقال ابن جريج في قوله: (﴿إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ إذ ذبح الموت) (١). وقال مقاتل بن سليمان: (إذ قضي لهم العذاب في الآخرة وهم في الدنيا في غفلة) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ وقال ابن عباس: (يريد في الدنيا) (٣). وهذا استئاف إخبار عنهم أنهم في غفلة عن ذلك اليوم وأحكامه. ثم أخبر عن كفرهم بذلك اليوم فقال: ﴿وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ قال ابن عباس: (لا يصدقون بالبعث) (٤).
وقال السدي: (وهم في غفلة في الدنيا عما يصنع الموت ذلك اليوم، وهم لا يؤمنون بما يصنع بالموت ذلك اليوم) (٥).
٤٠ - قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ﴾ أي: نميت سكانها فنرثها
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٨٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٩، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٤، "البحر المحيط" ٦/ ١٩١.
(٢) "زاد المسير" ٥/ ٢٣٤، "البحر المحيط" ٦/ ١٩١.
(٣) ذكره بدون نسبة "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧٣، و"تفسير كتاب الله العزيز" ٣/ ١٦، "البحر المحيط" ٦/ ١٩١.
(٤) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٨٨، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٤، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٢، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٥، "لباب التأويل" ٤/ ٢٤٧.
(٥) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٢، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٥، "البحر المحيط" ٦/ ١٩١.
ومن عليها لأني أميتهم وأهلكهم (١)، وهذا كقوله: ﴿وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾ [الحجر: ٢٣]، وذكرنا الكلام فيه. ﴿وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ بعد احيائنا إياهم للثواب والعقاب.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ﴾ كقولك لغيرك: أرثك وأرث مالك. أي: تموت فينتقل إلى مالك. والمعنى: أنهم يموتون وتبقى الأرض لا مالك لها إلا الله -عز وجل-.
٤١ - قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ﴾ اقصص عليهم قصته. قال ابن عباس: (اذكر لقومك إبراهيم فقد انتهى إليهم دينه، وعرفوا أنهم من ولده، وأنه كان حنيفا مسلما) (٢). وهو معنى قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ والصديق: اسم للمبالغ في الصدق. وقد مر (٣).
٤٢ - ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ﴾ سبق الكلام في هذه التاء في (أبت) في أول سورة يوسف (٤) (٥).
(١) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٢، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٠٩، "فتح القدير" ٣/ ٤٧٧.
(٢) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١٠، "التفسير الكبير" ٢١/ ٢٢٣، "روح البيان" ٥/ ٣٣٦.
(٣) عند قوله سبحانه في سورة يوسف الآية رقم: (٤٦): ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ﴾ الآية.
(٤) عند قوله سبحانه في سورة يوسف الآية رقم: (٤): ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾.
(٥) قال الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٤١٢: انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصا فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التميز ومن الغباوة التي يشير بعدها غباوة، كيف رتب الكلام =
﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ﴾ يعني الصنم (١)، وبخه على عبادته شيئا لا سمع له ولا بصر ﴿وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ لا يدفع عنك ضرًا ولا يكفيك شيئا.
٤٣ - ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ﴾ قال ابن عباس: (من اليقين والمعرفة بالله) (٢). قال أبو إسحاق: (وهذا يدل على أنه كان قد آتاه الوحي) (٣). ﴿فَاتَّبِعْنِي﴾ الآية قال ابن عباس: (يريد اتبعني على جاءني من ربي أرشدك إلى دين مستقيم) (٤). ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ قال ابن عباس: (لا تطعه) (٥). قال أبو إسحاق: (معنى عبادة الشيطان: طاعته فيما يسول من الكفر والمعاصي) (٦). والمعنى أن عبادتك الصنم عبادة الشيطان؛ لأن من أطاع شيئاً في معصية الله فقد عبده.
٤٤ - ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ قيل: كان زائدة. وقيل: أنه بمعنى صار (٧). والصحيح: أنه بمعنى الحال (٨). أي: كائن كما ذكرنا في
= معه في أحسن إتساق وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا.
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٨٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١١.
(٢) ذكره بدون نسبة "البغوي" ٥/ ٢٣٤، و"القرطبي" ١١/ ١١١.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٢.
(٤) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٥، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٤، "ابن كثير" ٣/ ١٣٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١١.
(٥) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة انظر: المراجع السابقة، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٦.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٢.
(٧) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١١.
(٨) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١١.
قوله: ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ﴾ [مريم: ٨] الآية. والعصي: بمعنى العاصي على فعيل مثل القادر والقدير وبابه.
٤٥ - ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ أخشى أن يصيبك عذاب الله بطاعتك الشيطان ﴿فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ قرينا في النار. قال الفراء: (﴿أَخَافُ﴾ أي: أعلم، كقوله: ﴿فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا﴾ [الكهف: ٨٠]، أي: فعلمنا) (١).
٤٦ - فقال أبوه مجيبا له: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ أي: أتاركها أنت وتارك عبادتها، يقال: رغب عن الشيء إذا تركه عمدا (٢). ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ لم تمتنع عن شتمها وعيبها، ومعنى الإنتهاء: الامتناع من الفعل المنهي عنه، يقال: نهاه عن كذا فانتهى (٣).
وقوله تعالى: ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ (لأرمينك بالقول القبيح وأشتمك)، قاله الضحاك، ومقاتل، والسدي، والكلبي، ومجاهد، وابن جريج (٤). واختيار الزجاج قال: (يقال: فلان يرمي فلانا، ويرجم فلانا معناه: يشتمه) (٥). وقال ابن عباس في رواية عطاء: (لأقتلنك) (٦).
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٩.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (رغب) ٢/ ١٤٣٢، "مقاييس اللغة" (رغب) ٢/ ٤١٥، "القاموس المحيط" (رغب) ص ٩٠، "المفردات" (رغب) ص ١٩٨.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" (نهى) ٤/ ٣٦٨٠، "الصحاح" (نهى) ٦/ ٢٥١٧، "المفردات في غريب القرآن" (نهى) ٥٠٧، "لسان العرب" (نهى) ٨/ ٤٥٦٤.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ٩١، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٤، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧٨، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٧.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٢.
(٦) ذكره ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧٨ بدون نسبة، وكذلك السمرقندي في "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٥.
255
وقال الحسن: (لأرمينك بالحجارة حتى تبعد عني) (١). وهذا كما روي عن ابن عباس أنه قال: (لأضربنك بالحجارة) (٢). وذكرنا الكلام في معاني الرجم عند قوله: ﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾ [هود: ٩١].
وقوله: ﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ ويقال: هَجَرَ الرجل هَجْرًا إذا تباعد ونأى، وهَجَرَ في الصوم يَهْجُرُ هِجْرَانًا، قاله أبو زيد (٣). قال ابن عباس: (واعتزلني) (٤). وقال الكلبي: (واتركني) (٥).
﴿مَلِيًّا﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد حينا) (٦). وهو قول مجاهد (٧). وقال عكرمة: (دهرا) (٨). وقال الحسن: (زمانا طويلا) (٩). وهو قول الكلبي (١٠). وقال السدي: (أبدا) (١١).
(١) "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٤، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧٨، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٥٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١١.
(٢) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١١.
(٣) "تهذيب اللغة" (هجر) ٤/ ٣٧١٧، "لسان العرب" (هجر) ٨/ ٤٦١٧.
(٤) "الكشف والبيان" ٣/ ٧ ب، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١١، "لباب التأويل" ٤/ ٢٤٨.
(٥) "الكشف والبيان" ٣/ ٧ ب، وذكر نحوه "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٤.
(٦) "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٧، "فتح القدير" ٣/ ٣٣٧.
(٧) "جامع البيان" ١٦/ ٩١، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٤، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧٨، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٧.
(٨) "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٧.
(٩) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٠، "جامع البيان" ١٦/ ٩١، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٤، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٧.
(١٠) "جامع البيان" ١٦/ ٩١، "الكشف والبيان" ٣/ ٧، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٤، "الدر المنثور" ٤/ ٤٩١.
(١١) "جامع البيان" ١٦/ ٩١، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٧.
256
قال الليث: (الملِيُّ من الدهر حين طويل، ويقال: أقام مَلِيًا) (١).
وقال الفراء: (يقال: مَلْوَةً من الدهر، ومُلْوَةً، ومِلْوَةً، ومُلاَوَةً، ومِلاَوَةً وكله من الطول) (٢). والله يُمْلِي من يشاء فيؤجله ومنه قوله تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ (٣)، قال الأصمعي: (وأَمْلَى عليه الزمن أي: طال عليه، وَأمْلِي له أي: طول له وأمهله) (٤). قال ابن السكيت: (تَمَلَّيْت العيش: إذا عشت مَلِيًّا؛ أي: طويلًا (٥).
قال العجاج (٦):
مُلاَوَةَ مُلِّيْتُهَا كَأَنِي ضَارِبُ صَنْجِ نَشْوَةٍ مُغَنِّي
مَلَّيتها؛ أي: طولت لي، وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨]
وقال أبو علي الفارسي: (قالوا انتظرته مَلِيًا من الدهر، أي: متسعا منه، وهو صفة استعمل استعمال الأسماء، والمَلأَة من هذا الزيادة عرضها واستاعها، والهمزة فيه منقلبة عن حرف لين، يريد به سقوطها في التحقير،
(١) ذكرته كتب اللغة بدون نسبة. انظر (ملا) في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٣٨، "القاموس المحيط" ٤/ ٥٢، "تاج العروس" ١/ ٢٥٢، "اللسان" ٧/ ٤٢٧٣.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٩.
(٣) سورة الأعراف: (١٨٣)، وسورة القلم: (٤٥).
(٤) "تهذيب اللغة" (ملا) ٤/ ٣٤٣٨، "لسان العرب" (ملا) ٤٧/ ٢٧٣.
(٥) انظر: "لسان العرب" (ملا) ٧/ ٤٢٧٣، "تاج العروس" (ملا) ١/ ٢٥٢.
(٦) البيت للعجاج. والصَّنْجُ: هو الذي يتخذ من صفر يضرب أحدهما بالآخر، وقيل الصنج: ذو الأوتار الذي يلعب به. انظر: "تهذب اللغة" (ملا) ٤/ ٣٤٣٨، "لسان العرب" (ملا) ٧/ ٤٢٧٣.
257
ولو كانت الهمزة لاما لم تسقط) (١).
وروي عن ابن عباس في قوله: ﴿مَلِيًّا﴾ قال: (سالم العِرض لا يصيبك مني مكروه) (٢). وهو قول قتادة، وعطية، والضحاك قالوا في معنى ﴿مَلِيًّا﴾ قال: (سويا سليما) (٣). وأصل هذا من قولهم: فلان مَلِئٌ بهذا الأمر. والقول هو الأول؛ لأن الملي بالأمر أصله الهمز (٤).
قال أبو زيد: (مَلُؤ الرجل، يَمْلُؤُ، مَلاَءَة فهو مَلِئ) (٥). ولم يروى عن القراء: (وَأهْجُرنِى مليئًا) بالهمز.
٤٧ - فقال إبراهيم مجيبا لأبيه: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ أي: سلمت مني لا أصيبك بمكروه (٦). وذلك أنه لا يؤمر بقتاله على كفره فلذلك قال: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ وسئل سفيان بن عيينة: (أيجوز السلام على أهل الذمة؟ فقال: نعم، إنما حضر ذلك في دار الحرب، فأما في السلم فلا، وقد قال الله
(١) ذكر نحوه في "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ١٠٢.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٩٢، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٤، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٧٩، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٧.
(٣) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٠، "جامع البيان" ١٦/ ٩٢، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٥، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٤، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٥.
(٤) قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" ١٦/ ٩٢: وأولى القولين بتأويل الآية عندي قول من قال: معنى ذلك واهجرني سويا سليما من عقوبتي؛ لأنه عقيب قوله: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ وذلك وعيد منه له إن لم ينته عن ذكر آلهته بالسوء أن يرجمه بالقول السيء والذي هو أولى بأن يتبع ذلك المتقدم إليه بالانتهاء عنه قبل أن تناله العقوبة، فأما الأمر بطول هجره فلا وجه له.
(٥) "تهذيب اللغة" (ملا) ٤/ ٣٤٣٨.
(٦) "جامع البيان" ٦/ ٩٢، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٥، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٨٠، "معالم التنزيل" ٣/ ١٩٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٧.
258
تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ [الممتحنة: ٨] الآية، وقال في قصة إبراهيم: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ إلى قوله: ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ [الممتحنة: ٤]، فاستثنى الاستغفار، ولم يستثن السلام) (١). وقد قال إبراهيم: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ سأدعو لك ربي بالمغفرة والتوبة، وذلك أنه لما أعياه أمره وعده أن يراجع الله في بابه فيسأله أن يرزقه التوحيد ويغفرله، واستغفاره له يتضمن مسألة التوحيد؛ لأنه لا يغفر له ما ثبت على شركه، ألا ترى أن الله تعالى قال: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: ١١٤] أي: لما مات على شركه ترك الاستغفار له. والمعنى على هذا سأسأل الله لك توبة تنال بها مغفرته (٢). وقيل: (أنه وعد أباه الاستغفار وهو لا يعلم أن ذلك محظور على المصر على الكفر فلما أعلمه الله، (٣) ما فيه قطع الاستغفار وبريء من أبيه) (٤).
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ قال ابن عباس، ومقاتل: (لطيفا بارا)] (٥). وهو قول أكثر المفسرين.
(١) ذكره القرطبي ١١/ ١١ أو قال: والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية، وقال النقاش: حليم خاطب فيها كما قال: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾.
(٢) "بحر العلوم" ٣٢٥/ ٢، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٥، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٨٠، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٧.
(٣) من قوله: (وموضع الباء مع ما بعدها..) إلى هنا ساقط من (س).
(٤) "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٨٠، "ابن كثير" ٣/ ١٣٧، "فتح القدير" ٣/ ٤٨٣.
ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٤].
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ٩٢، "ابن كثير" ٣/ ١٣٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٨، "فتح القدير" ٣/ ٣٣٧. وما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
259
قال الزجاج: (يقال: تَحَفَّى به تَحَفِّيًا، وحَفِي به حَفْوَة إذا بره وألطفه) (١).
وقال الكلبي: (﴿حَفِيًّا﴾: عالما) (٢). وهو قول ابن عباس في رواية عطاء (٣). قال جابر: (معينا) (٤).
وذكر الفراء القولين جميعا (٥). والكلام في هذا قد مر مستقصى في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ [الأعراف: ١٨٧].
قوله تعالى: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ﴾ أي: أتنحى عنكم وأفارقكم. يقال: عَزَلْتُه عن الشيء نحيته عنه فَاعْتَزَل (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي: أعتزل ما تعبدون من دون الله يعني: الأصنام (٧). ﴿وَأَدْعُو رَبِّي﴾ أعبده ﴿عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ أرجو أن لا أشقى بعبادته، وفي هذا إشارة إلى أنهم شقوا بعبادة الأصنام؛ لأنها لا تنفعهم ولا تجيب دعاءهم (٨).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٣.
(٢) "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٥، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٥.
(٣) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" ٣/ ٧، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١٣.
(٤) ذكره أبو حيان في "النهر المارد" بدون نسبة ١/ ٣٩٢، وكذلك ابن سعدي في "تيسير الكريم الرحمن" ٥/ ١١٣.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٩.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (عزل) ٥/ ٢٩٣٠، "مقاييس اللغة" (عزل) ٤/ ٣٠٧، "المفردات في غريب القرآن" (عزل) ٣٣٤، "مختار الصحاح" (عزل) ٤٣٠.
(٧) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٦، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٨١، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٨.
(٨) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٩، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٨.
260
٤٩ - ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ هاجرهم بالخروج إلى ناحية الشام (١). ﴿وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد كرام على الله (٢). ﴿وَكُلًّا﴾ من هذين ﴿جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾.
٥٠ - قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا﴾ قال الكلبي: (المال والولد) (٣). وهو قول الأكثرين قالوا: (رحمته ما بسط لهم في الدنيا من سعة الرزق) (٤). فقوله: ﴿مِنْ رَحْمَتِنَا﴾ في محل النصب بوقوع الهبة عليه. وقال آخرون: (يعني الكتاب والنبوة) (٥). ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ﴾ أي: ثناء حسنا في الناس ﴿عَلِيًّا﴾ مرتفعا سائرا في الناس (٦). وكل أهل الأديان يتولون إبراهيم وذريته ويثنون عليهم، واللسان يذكر ويراد به: القول واللغة، وإضافته إلى الصدق مدح له، والعرب إذا مدحت شيئًا أضافته إلى الصدق يقال: فلان رجل صدق. قال الله تعالى: ﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ [يونس: ٩٣]. وقال: ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ [يونس: ٢]، وتقول العرب: إن لسان الناس عليه لحسنة، وحسن، أي: ثناؤهم، يقولون: إن شفة الناس عليك لحسنة (٧).
٥١ - قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا﴾ قال
(١) "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٨١، "الكشاف" ٢/ ٤١٣، "زاد المسير" ٥/ ٣٢٨.
(٢) "جامع البيان" ١/ ٩٣٦، "زاد المسير" ٥/ ٢٣٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١٣.
(٣) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٦، "الكشاف" ٢/ ٤١٤، "زاد المسير" ٥/ ٨٣٨.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ٩٣، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٨١، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٦.
(٥) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٦، "فتح القدير" ٣/ ٤٨٣.
(٦) "جامع البيان" ١٦/ ٩٣، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٨١، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٨، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٠.
(٧) "تهذيب اللغة" (لسن) ٤/ ٣٢٦٢.
الكلبي: (أخلص العبادة والتوحيد لله تعالى (١). أي: جعلها خالصة من شائبة تفسدها. وقال الزجاج: (جعل نفسه خالصة في طاعة الله غير دنسه) (٢). ومن قرأ: ﴿مُخْلَصًا﴾ بالفتح (٣). فهو الذي أخلصه الله وجعله مختارا خالصا من الدنس، فحجة من كسر اللام قوله: ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ [النساء: ١٤٦]، وحجة من فتحها قوله: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ [ص: ٤٦].
٥٢ - وقوله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ﴾ قال ابن عباس: (يريد حيث أقبل من مدين (٤)، ورأى النار في الشجرة، وهو يريد من يهديه إلى طريق مصر، فلما انتهى إلى الشجرة ناداه الله) (٥). وهو قوله: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ
(١) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٩٤، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٦، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١٤، "التفسير الكبير" ٢١/ ٢٣١.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٣.
(٣) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية الكسائي عن أبي بكر والمفضل عن عاصم: (مُخْلِصًا) بكسر اللام.
وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية يحيى عن أبي بكر، وحفص عنه: (مُخْلَصا) بفتح اللام.
انظر: "السبعة" ٤١٠، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٥٢، "المبسوط في القراءات" ص ٢٤٤، "حجة القراءات" ص ٤٤٥.
(٤) مدين: مدينة على البحر الأحمر، محاذية لتبوك من الجنوب على نحو ست مراحل، وكانت منازل العاربة من طسم، وجديس، وأميم، وجرهم، وقد هلك من هلك من بقايا العاربة بمدين، وخلفهم فيها بنو قحطان ابن عابر فعرفوا بعرب مدين. انظر: "محجم البلدان" ٥/ ٧٧، "معجم ما استعجم" ٤/ ١٢٠١، "نهاية الأرب" ص ١٩.
(٥) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظ: "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١١٠، "البحر المحيط" ٦/ ١٩٩، "مجمع البيان" ٥/ ٨٠٠، "روح البيان" ٥/ ٣٣٩. =
262
الْعَالَمِينَ} [القصص: ٣٠]
وقوله تعالى: ﴿مِنْ جَانِبِ الطُّورِ﴾ أي: من ناحية الجبل، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه: زبير (١).
وقوله تعالى: ﴿الْأَيْمَنِ﴾ قال الكلبي: (يعني يمين موسى، ولم يكن للجبل يمين ولا شمال) (٢). ونحو هذا قال الفراء وقال: (إنما هو الجانب الذي يلي يمين موسى، كما تقول: عن يمين القبلة وشمالها) (٣). ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ أي: مناجيا، والنجي بمعنى: المناجي كالجليس، والنديم، قاله الفراء، والزجاج (٤). وقد يكون النجي اسما ومصدرًا، وذكرنا ذلك عند قوله: ﴿خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ [يوسف: ٨٠]. قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد قربه الله وكلمه) (٥). وهذا قول جماعة جعلوا معنى هذا التقريب أن أسمعه كلامه (٦). وهو قول أبي عبيدة، واختيار الزجاج قال: (قربه منه في المنزلة حتى سمع مناجاة الله وهي كلام الله -عزوجل-) (٧).
= ويشهد لهذا ما ورد في سورة القصص الآية رقم: (٣٠): ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.
(١) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٦، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٨، "التبيان في أقسام القرآن" ١٦٥، "فتح القدير" ٣/ ٤٨٣.
(٢) ذكره بدون نسبة "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٦، و"النكت والعيون" ٣/ ٣٧٦، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٨٢، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٦.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٩.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٣، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦٩.
(٥) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٦.
(٦) "بحر العلوم" ١/ ٣٢٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١٤.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٣.
263
قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: (قربه حتى سمع صريف القلم حين كتب في اللوح) (١). وهو قول الكلبي، ومجاهد (٢). وقال الحسن: (أدخل في السماء الدنيا فكلم) (٣).
٥٣ - قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا﴾ أي: من نعمتنا ﴿أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾. قال ابن عباس: (يريد حيث سألني) (٤). فقال: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي﴾ [طه: ٢٩ - ٣٠] الآية. [قال الكلبي: (وكان معه وزيرا) (٥). و ﴿نَبِيًّا﴾ منصوب بوهبنا على تقدير ووهبنا له من رحمتنا نبيا أخاه هارون] (٦) على أن تجعل أخاه بدلا من نبيا، ولا يجوز أن تجعل أخاه منصوبا بوهبنا؛ لأنه لم يسأل الله أن يهب له أخا إنما سأله أن يشرك أخاه في نبوته ويجعله وزيرًا [له
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٩٤، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٦، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٨٥، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٧، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٢٨.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٩٥، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٨، "الدر المنثور" ٤/ ٤٩٢.
(٣) ذكرته كتب التفسير ونسبته للسدي. انظر: "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٨، "أضواء البيان" ٤/ ٢٩٧.
(٤) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" ٣/ ٧ ب، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٧، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١٤، "التفسير الكبير" ٢١/ ٢٣١.
ويشهد لهذا قوله سبحانه في سورة القصص الآية رقم (٣٤): ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾.
(٥) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٦، " المحرر الوجيز" ٩/ ٤٨٥، "لباب التأويل" ٤/ ٢٤٩، "روح البيان" ٥/ ٣٣٩.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
فوهبه الله ذلك بأن] (١) أكرم أخاه بالنبوة (٢). يدل على هذا ما روى عكرمة عن ابن عباس قال. (هارون أكبر من موسى [وإنما وهبت له نبوته)] (٣) (٤).
٥٤ - قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾ قال مجاهد: (لم يعد شيئا إلا وفي به) (٥). قال مقاتل: (أقام ينتظر إنسانا لميعاد ثلاثة أيام) (٦).
وقال الكلبي: (أقام حتى حال عليه الحول) (٧). وقال عطاء عن ابن عباس: (وعده إنسان أن يعود إليه فأقام ولم يبرح من مكانه، وكان في ضميره أن لو أقام سنة لم يخلفه موعده، حتى أتاه جبريل فقال: إن الفاجر الذي سألك أن تقعد حتى يعود إليك هو إبليس، فلا تقعد ولا كرامة) (٨).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٢) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣١٩، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٥.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ٧١، "الكشاف" ٢/ ٤١٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٨، "فتح القدير" ٣/ ٤٨٣.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٥) "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥.
(٦) "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٠.
(٧) "بحر العلوم" ٣/ ٣٢٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٧، "الكشف والبيان" ٣/ ٨/ أ.
وذكره ابن عطية في "تفسيره" ٩/ ٤٨٥ بدون نسبة، وقال: وهذا بعيد غير صحيح. والراجح في ذلك قول مجاهد -رحمه الله- فإن إسماعيل لم يعد شيئًا إلا وفي به، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية.
(٨) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١٥ أو قال: وهذا بعيد ولا يصح. وذكر نحوه الماوردي في "تفسيره" ٣/ ٣٧٦، والزمخشري في "كشافه" ٢/ ٤١٤، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٥/ ٢٤٠.
فسماه الله صادق الوعد ﴿وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ قال: (أرسل إلى جرهم) (١) (٢)
٥٥ - وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ﴾ قال ابن عباس: (يريد قومه) (٣). قال الزجاج: (أهله جميع أمته، ممن كانت بينه وبينهم قرابة أو لم يكن، وكذلك أهل كل نبي أمته) (٤)؛ لأن كل نبي (٥) فهو بمنزلة الأب لأمته فإذا كانت الأمة كالأولاد له (٦) فهم أهله. قاله مقاتل (٧). نظيره: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ﴾ [طه: ١٣٢] أي: قومك.
وقوله تعالى: ﴿بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾ قال ابن عباس: (يريد التي افترضها الله عليهم وهي الحنيفية التي افترضت علينا) (٨). {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ
(١) جرهم: بطن من القحطانية كانت منازلهم باليمن ثم انتقلوا إلى الحجاز فنزلوه ثم نزلوا مكة واستوطنوها، وكانوا ملوكًا في الحجاز حتى نزل إسماعيل عليه السلام مكة نزلوا عليه، وتزوج منهم، واستولت جرهم على البيت، ثم تفرقت قبائل العرب بسيل العرم، ونزلت عليهم حزاعة وأخرجت جرهما من مكة.
انظر: "معجم قبائل العرب" ١/ ١٨٣، "الأنساب للسمعاني" ٢/ ٤٧، "نهاية الإرب" ص٢١١، "المنتخب في ذكر أنساب العرب" ص ١٧٢.
(٢) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١٦، "فتح القدير" ٣/ ٤٨٣.
(٣) ذكر في كتب التفسير بدون نسبة انظر: "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٧، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٧، "زاد المسير" ٥/ ١٤٠.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٣.
(٥) في (س): (شيء)، وهو تصحيف.
(٦) قوله: (له)، ساقط من نسخة (س).
(٧) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٠، "البحر المحيط" ٦/ ١٩٩، "روح المعاني" ١٦/ ١٠٠، "أنوار التنزيل" ٤/ ١٠.
(٨) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٠.
مَرْضِيًّا} قال: (يريد قام لله بطاعته) (١).
قال الزجاج: (ويقال: فلان مَرْضُو، ومَرْضِي، وأَرْضٌ مَسْنُوَّة ومَسْنِية إذا سقيت بالسواني، والأصل الواو إلا أنها قلبت عند الخليل؛ لأنها طرف) (٢). وقال الفراء: (الأصل الواو بدليل الرِّضْوَان، والذين قالوا مَرْضِيَّا بنوه طى رَضِيْت أَرْضِي، أصله رَضَوْت أَرْضُو فصارت الواو في رَضَوْت ياء لإنكسار ما قبلها، وغلبت الفتحة على الواو من أَرْضُو فجعلتها (٣) ألفا وبني مَرْضِي على رَضِيْت. هذا مذهب الفراء (٤).
٥٦، ٥٧ - قوله تعالى في ذكر إدريس: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: (يعني الجنة) (٥). والقصة في كيفية ذلك معروفة. وروى أنس بن مالك أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة) (٦).
(١) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٧، "لباب التأويل" ٤/ ٢٤٩، "التفسير الكبير" ١١/ ٢٣٢، "روح البيان" ٥/ ٣٤١.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٤.
(٣) في (س): (فجعلها).
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٠.
(٥) ذكرته كتب التفاسير من غير نسبة. انظر: "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٣٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٠، "زاد المسير" ٥/ ٢٤١.
(٦) أخرج البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة ٤/ ٧٧، ومسلم في صحيحه كتاب: الإيمان، باب: الإسراء ١/ ١٤٩، والترمذي كتاب: التفسير، سورة مريم ١٢/ ١٤، وأحمد في "مسنده" ٣/ ٢٧٠، وابن أبي شيبة في "مصنفه" ١١/ ٥٣٣ والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٧٣ وصححه ووافقه الذهبي، وابن جرير الطبري في "تفسيره" ١٦/ ٩٦، وابن كثير "تفسيره" ٣/ ١٤٠، والسيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٤٩٤ وزاد نسبته لابن المنذر، وابن مردويه، وعبد بن حميد.
ونحو ذلك روى أبو سعيد الخدري (١). وهو قول كعب، ومجاهد قال: (رفع إلى السماء الرابعة ولم يمت كما رفع عيسى) (٢). وروي عن ابن عباس أيضًا: (أنه رفع إلى السماء السادسة) (٣). وهو قول الضحاك (٤) وقال أبو إسحاق: (وجائز أن قوله: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ في النبوة والعلم) (٥).
٥٨ - قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ يعني الذين ذكرهم من الأنبياء في هذه السورة، ثم بين مراتبهم في شرف النسب فقال: ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾ قال ابن عباس، والسدي: (يعني إدريس، ونوحا) (٦). ﴿وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ إبراهيم؛ لأنه من ولد سام بن نوح، ويريد بالحمل مع نوح العمل في سفينته. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ يريد إسحاق، وإسماعيل، ويعقوب.
وقوله تعالى: ﴿وَإِسْرَائِيلَ﴾ يعني: ومن ذريته وهم: موسى، وهارون،
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٧٢، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٤١، "فتح القدير" ٣/ ٤٨٣، "الدر المنثور" ٤/ ٤٩٤.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٩٦، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٧، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٠.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ٩٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٧، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٠، "الكشاف" ٢/ ٤١٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٠، "زاد المسير" ٥/ ٢٤١.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ٩٦، " النكت والعيون" ٣/ ٣٧٧، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١١٧.
وقال ابن حجر -رحمه الله- في "فتح الباري" ٦/ ٣٧٥: وكون إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طرف مرفوعة قوية.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٥.
(٦) "جامع البيان" ١/ ٩٧٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤١، "أضواء البيان" ٤/ ٣٠٥.
وزكريا، ويحيى، وعيسى (١)، وكان لإدريس، ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوح. وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب لما تباعدوا من آدم حصل لهم الشرف بإبراهيم (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا﴾ أي: هؤلاء كانوا ممن أرشدنا واصطفينا ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ قال ابن عباس: (سجدًا متضرعين إليه) (٣). قال أبو إسحاق: (قد بين الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله سجدوا وبكوا) (٤). وذكر الكلام في انتصاب سجدا عند قوله: ﴿يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ [الإسراء: ١٠٧] ﴿وَبُكِيًّا﴾: جمع باك مثل ساجد وسجود، وقاعد وقعود أصله: بكوي ففعل كما فعل بمرمى ومقضى، وقد ذكرنا ذلك في هذه السور (٥)
٥٩ - قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ ذكرنا الكلام في هذا في سورة الأعراف [١٦٩]. قال السدي: (هم اليهود والنصارى) (٦). وقال مجاهد وقتادة: (هم من هذه الأمة عند قيام الساعة، وذهاب صالحي أمة
(١) "جامع البيان" ١٦/ ٩٧، "المحرر الوجيز" ٩/ ١٩٠، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٠، "الكشاف" ٢/ ٤١٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤١.
(٢) "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٢٠.
(٣) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة انظر: "جامع البيان" ٩٧/ ١٦، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩١، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤١، "التفسير الكبير" ٢١/ ٢٣٤.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٥.
(٥) عند قوله سبحانه في الآية رقم: (٨): ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾.
(٦) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٠، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥، "أضواء البيان" ٤/ ٣٠٨، "الدر المنثور" ٤/ ٤٩٩.
269
محمد -صلى الله عليه وسلم- قوما يتبارون ينزوا بعضهم على بعض في الأزقة (١) زناة) (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾ قال محمد بن كعب: (تركوها) (٣) وقال القاسم بن مخيمرة (٤): (أخروها عن وقتها) (٥). وهو قول إبراهيم، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز (٦). قال إبراهيم: (أضاعوا الوقت) (٧).
وقال عمر: (شربوا الخمر فأضاعوها) (٨).
(١) الزقاق: الطريق الضيق دون السكة والجمع أزقة، وزقاق.
انظر: "تهذيب اللغة" (زقق) ٢/ ١٤٠١، "الصحاح" (زقق) ٤/ ١٤٩١، "لسان العرب" (زقق) ٣/ ١٨٤٥.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ٩٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٣، "معالم التنزيل" ٥/ ١٤١، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٢، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ٩٩، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٣، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٢، "الدر المنثور" ٤/ ٤٩٩.
(٤) القاسم بن مخيمرة الهمداني، أبو عروة الكوفي نزيل الشام، تابعي، إمام عابد، محدث فقيه، توفي -رحمه الله- سنة ١٠٠ هـ.
انظر: "الجرح والتعديل" ٧/ ١٢٠، "سير أعلام النبلاء" ٥/ ٢٠١، "تهذيب التهذيب" ٨/ ٣٣٧.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ٩٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٣،"تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٢، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٢٢.
(٦) ذكر ابن جرير الطبري في "تفسيره" ١٦/ ٩٩ رأيًا نقله عن العلماء يقول فيه: أضاعوا المواقيت ولو كان تركًا كان كفرًا. وقال القرطبي في "تفسيره" ١١/ ١٢٣: وجملة القول في هذا الباب أن من لم يحافظ على كمال وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها فهو لما سواها أضيع، كما أن من حافظ عليها حفظ الله عليه دينه ولا دين لمن لا صلاة له.
(٧) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤١، "الكشاف" ٢/ ٤١٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥، "الدر المنثور" ٤/ ٤٩٩.
(٨) ذكر نحوه "جامع البيان" ١٦/ ٩٩، "النكت والعيون" ٣/ ٣٧٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٤،"تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٢، "الدر المنثور" ٤/ ٤٩٩.
270
وقال سعيد: (هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا العصر حتى تغرب الشمس) (١). وقال السدي: (لم يتركوها ولكنهم أضاعوا وقتها) (٢).
وقال الحسن: (عطلوا المساجد ولزموا الضيعات) (٣) (٤).
قال الزجاج: (والأشبه في تفسير: ﴿أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾ تركوها البته؛ لأنه يدل على أنه يعني به الكفار، ودليل ذلك قوله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾ قال ابن عباس: (اتبعوا المعاصي) (٦). قال الكلبي: (يعني اللذات شرب الخمر وغيره) (٧). المعنى: آثروا شهوات
(١) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤١.
(٢) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٩٩، "الكشف والبيان" ٣/ ٩، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٨، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤١، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٢.
(٣) الضيعة: الحرفة والتجارة، وضيعة الرجل: حرفته وصناعته، ومعاشه وكسبه. وقيل: الضياع المنازل، وسميت ضياعًا؛ لأنها تضيع إذا ترك تعهدها وعمارتها. انظر: "تهذيب اللغة" (ضيع) ٣/ ٢٥٧٩، "الصحاح" (ضيع) ٣/ ١٢٥٢، "لسان العرب" (ضيع) ٥/ ٢٦٢٤، "مختار الصحاح" (ضيع) ص ١٦٢.
(٤) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٢٣.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٥.
والراجح -والله أعلم- أن من أخر الصلاة عن وقتها، وترك فرضا من فروضها، أو شرطا من شروطها، أو ركنا من أركانها فقد أضاعها، وإن كانت أنواع الإضاعات تتفاوت، ويدخل تحت الإضاعة تركها أو جحدها دخولًا أوليًّا.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٩٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٢٣، "فتح القدير" ٣/ ٤٨٥، "أضواء البيان" ٤/ ٣٠٨.
(٦) ذكرته كتب المفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤١، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥، "لباب التأويل" ٤/ ٢٥٢، "روح المعاني" ١٦/ ١٠٩.
(٧) ذكره بدون نسبة البغوي "تفسيره" ٥/ ٢٤١، والزمخشري في "كشافه" ٢/ ٤١٥.
271
أنفسهم على طاعة الله، ويمكن الجمع بين القولن في الآية بأن يقال: "أضاعوا الصلاة" يعني: المقصرين فيها في هذه الأمة، ﴿وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾ يعني: اليهود والنصارى والمجوس. فقد قال مقاتل في تفسيره: (استحلوا نكاح الأخت. ثم قال: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ يعني تاب من التقصير في الصلاة "وآمن" يعني: اليهود والنصارى) (١).
وقوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ قال ابن عباس في رواية عطاءة (الغي: واد في جنهم) (٢)، وهو قول ابن مسعود (٣)، وأبي أمامة (٤)، وشفي بن ماتع (٥) (٦)، ومجاهد (٧)، ووهب (٨)، وكعب (٩). وعلى
(١) "الكشف والبيان" ٣/ ٩ أ، "تفسير كتاب الله العزيز" ٣/ ١٨، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٨، "الكشاف" ٢/ ٤٠٥، "روح المعاني" ١٦/ ١٠٩.
(٢) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤١، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٢٥، "فتح القدير" ٣/ ٤٨٥، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٠.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٠، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٠، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٢.
(٤) "جامع البيان" ٦/ ١٠٠، "المحرر الوجيز" ١١/ ٤١، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤١، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٣، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٠.
(٥) شفي بن ماتع، ويقال: ابن عبد الله الأصبحي، أبو عثمان المصري، تابعي ثقة، روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة وغيرهما، وروى عنه عقبة بن مسلم، وأيوب بن بشير، وأبو هاني وغيرهم، وثقة العلماء وذكروه في كتب الثقات، وكان عالمًا حكيمًا، توفي -رحمه الله- سنة ١٠٥ هـ.
انظر: "تهذيب التهذيب" ٤/ ٣١٥، "الجرح والتعديل" ٤/ ٣٨٩، "الثقات" لابن حبان ٤/ ٣٧١، "الكاشف" ٢/ ١٤.
(٦) "أضواء البيان" ٤/ ٣٥٩، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٠.
(٧) "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥، "البحر المحيط" ٦/ ٢٠١.
(٨) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤١، "الكشف والبيان" ٣/ ٩/ أ، "البحر المحيط" ٦/ ٢٠١.
(٩) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤١، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٢٥.
272
هذا قال أبو إسحاق: (جائز أن يكون نهرًا وواديًا أعد للغاوين فسمي غيا) (١).
وروي عن ابن عباس في قوله: (غَيًّا) قال: (شرا وخيبة) (٢). وهو قول ابن زيد (٣). وقال الضحاك: (خسرانا وعذابا) (٤). وعلى هذا القول معنى الغي في اللغة: الفساد (٥). روى ذلك ثعلب عن ابن الأعرابي قال: (وقول الله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: ١٢١] أي: فسد عليه عيشه) (٦).
وذكر الزجاج وجها آخر في معنى الغي وهو أنه قال: (فسوف يلقون مجازاة الغي، كما قال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ [الفرقان: ٦٨] أي: مجازاة الأثام) (٧).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٦.
(٢) ذكر نحوه: "جامع البيان" ١٦/ ١٠٠، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٣، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥، "أضواء البيان" ٤/ ٣٠٩.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٠، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٠، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٢٥.
(٤) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤١، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٤.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" (غوى) ٣/ ٢٧٠٦، "مقاييس اللغة" (غوى) ٤/ ٣٩٩، "المفردات في غريب القرآن" (غوى) ٣٦٩، "لسان العرب" (غوى) ٦/ ٣٣٢٠.
(٦) "تهذيب اللغة" (غوى) ٨٣/ ٢٧٠٦، "لسان العرب" (غوى) ٦/ ٣٣٢٠.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٦.
والظاهر -والله أعلم- أن هذه الأقوال متقاربة المعاني وذلك أن من فعل هذه الأفعال فسوف يلقى عذابا عظيما ومن لقيه فقد لقي خسرانا وشرا حسبه به شرا. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١٠١، "أضواء البيان" ٤/ ٣١٠.
273
ومعنى ﴿يُلْقُونَ﴾ هاهنا ليس بمعنى يرون فقط؛ لأن اللقاء معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية (١).
٦٠ - قوله تعالى: ﴿إَلا مَن تَابَ﴾ قال الزجاج: (﴿مَنْ﴾ في موضع النصب، أي: فسوف يلقون العذاب إلا التائبين. قال: وجائز أن يكون نصبا استثناء من غير الأول ويكون المعنى لكن من تاب) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُظلَمُونَ شَيْئًا﴾ قال ابن عباس: (يريد ولا ينقصون ثوابا) (٣).
٦١ - قوله تعالى: ﴿جَنَّاتِ عَدْن﴾ بدل من قوله: ﴿يَدخُلُونَ اَلجَنَّةَ﴾ (٤). ومضى الكلام في معنى عدن (٥).
وقوله تعالى: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ﴾ قال ابن عباس: (يريد أنهم غابوا عما فيها مما لا عين رأت) (٦). والمعنى أنهم لم يروها فهي غيب لهم ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ قال الكسائي: (لابد من أن يؤتى
(١) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤١، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٥.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٦.
(٣) ذكره بدون نسبة الطبري في "تفسيره" ١٦/ ١٠٠١.
(٤) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٢٠، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٥، "الدر المصون" ٧/ ٦١٠.
(٥) في سورة التوبة الآية رقم: (٧٢) عند قوله سبحانه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
(٦) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١٠١، "الكشف والبيان" ٣/ ٩ أ، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٦، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٣، "جامع البيان" ٥/ ٨٠٤.
عليه ومن أن يبلغ ويصار إليه. ولو كان آتيا لكان صوابا كما قال: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ﴾ [الأنعام: ١٣٤] ولكن مأتيا لرؤس الآيات) (١). وقال الفراء: (مأتيا ولم يقل آتيا؛ لأن كل ما أتاك فقد أتيته ألا ترى أنك تقول: أتيت على خمسين سنة وأتت علي خمسون سنة) (٢). ونحو هذا في الزجاج سواء، ومثله بقولك: وصلت إلى خبر فلان، ووصل إلى خبر فلان (٣). وذكر ابن جرير وجهًا آخر قال: (وعده في هذه الآية موعوده وهو الجنة، ومأتيا ما يأتيه أولياؤه وأهل طاعته) (٤).
٦٢ - قوله تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾ اللغو: الهدر من الكلام، واللغو ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه (٥). وقد تقدم القول في هذا (٦). قال ابن عباس في رواية الوالبي: (لغوا: باطلاً) (٧).
وقال في رواية عطاء: (اللغو: كل ما لم يكن فيه ذكر الله) (٨).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا سَلَامًا﴾ استثناء من غير الجنس، معناه: لكن
(١) "تهذيب اللغة" (أتى) ١/ ١١٨، "لسان العرب" (أتى) ١/ ٢٢.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٠.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٦.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ١٠١.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" (لغا) ٤/ ٣٢٧٥، "مقاييس اللغة" (لغو) ٥/ ٢٥٥، "المفردات في غريب القرآن" (لغا) ٤٥١، "لسان العرب" (لغا) ٧/ ٤٠٤٩.
(٦) في سورة البقرة الآية رقم: (٢٥٥) قال سبحانه: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾
(٧) "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٠، "فتح القدير" ٣/ ٤٨٥، وذكره بدون نسبة: "جامع البيان" ١٦/ ١٠٢، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٢٦.
(٨) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٢٦، "فتح القدير" ٣/ ٤٨٥.
275
يسمعون سلاما (١). قال ابن عباس: (يريد ذكر الله وما يثابون عليه) (٢) (٣). وقال المفسرون: (يُحىِّ بعضُهم بعضًا بالسلام، ويرسل إليهم الرب الملائكة بالسلم) (٤). قال الزجاج: (السلام (٥): اسم جامع للخير؛ لأنه يتضمن السلامة. والمعنى: أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤثمهم وإنما يسمعون ما يسلمهم) (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ قال ابن عباس: (ليس في الجنة بكرة ولا عشية ولكن على قدر ما يعرفون في الدنيا من الغداء والعشاء) (٧). [وقال الضحاك عنه: (يؤتون به على مقادير الليل والنهار) (٨). وقال قتادة: (كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء] (٩) أعجب به، فأخبر الله أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيا على قدر ذلك
(١) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٢، "محرر الوجيز" ٩/ ٤٩٦، "الكشاف" ٢/ ٤١٦، "البحر المحيط" ٦/ ٢٠٢ "الدر المصون" ٧/ ٦١٣، "أضواء البيان" ٤/ ٣٣٥.
(٢) في (س): (يثابون عليه)، بدون واو.
(٣) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٨، "التفسير الكبير" ٢١/ ٢٣٧، "لباب التأويل" ٤/ ٢٥٢.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٢، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨١، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٣، "روح المعاني" ١٦/ ١١٢.
(٥) في (س): (السلم).
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٧.
(٧) "الدر المنثور" ٤/ ٥٠١، "فتح القدير" ٣/ ٤٨٥، وذكره بدون نسبة: "جامع البيان" ١٦/ ١٠٢، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨١.
(٨) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٣، وذكره بدون نسبة الطبري في "جامع البيان" ١٦/ ١٠٢.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
276
الوقت) (١). وقال الحسن: (كانت العرب لا تعرف شيئا من العيش أفضل من الغداء والعشاء، فذكر الله جنته فقال: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾) (٢). وقال الزجاج: (ليس ثم بكرة ولا عشي، ولكنهم خوطبوا بما يعقلون في الدنيا، فالمعنى: لهم رزقهم في مقدار الغداة والعشي) (٣). وهذا قول جميع أهل التأويل (٤).
وقال أهل المعاني: (لهم رزقهم على مقادير أرِفَّة عيش في الدنيا؛ لأن أَرِفَّة عيشها (٥) أن يكون الإنسان آكلا بكرة وعشيًّا كيف شاء، فضرب الله ذلك مثلًا لرغد العيش في الجنة، [وزمان الجنة] (٦) كله نهار) (٧).
(١) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٠، "جامع البيان" ١٦/ ١٠٢، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٤.
(٢) "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٣، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٣، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٦، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٠.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٧.
(٤) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٠، "جامع البيان" ١٦/ ١٠٢، "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٣، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٦.
(٥) في نسخة (س): (عيش).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٧) ويشهد لهذا ما رواه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٢٧ قال: وخرج الترمذي في نوادر الأصول من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا: (قال رجل: يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال: "وما هيجك على هذا؟ " قال: سمعت الله تعالى يذكر في كتابه ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ فقلت: الليل بين البكرة والعشي. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس هناك ليل إنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو، وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانو يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة" وهذا في غاية البيان.
وقال العلماء. ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبدا إنما يعرفون =
277
٦٣ - قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ في معنى إيراث الجنة قولان للمفسرين:
أحدهما: أن معناه ننزل. وهو قول الكلبي (١). وجعل ذلك كالميراث من جهة أنه يملك بحال استؤنفت عن حال قد انقضت من أمر الدنيا كما ينقضي حال الميت من أمر الدنيا.
القول الثاني: أن الله تعالى يورث عباده المؤمنين من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا (٢). وقوله: ﴿مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ أي: اتقى معصية الله وعقابه بالطاعة والإيمان.
= مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب واغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب.
وانظر: "جامع البيان" ١٦/ ١٠٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٤، "الدر المنثور" ٤/ ١٠٥، "الفتاوى" لابن تيمية ٤/ ٣١٢، "أضواء البيان" ٤/ ٣٤٠.
(١) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٣، "البحر المحيط" ٦/ ٢٠١، "التفسير الكبير" ١١/ ٢٣٧، "روح المعاني" ١٦/ ١١٣، "فتح القدير" ٣/ ٤٨٥.
(٢) "جامع البيان" ٦/ ١٠٣، "معالم التنزيل" ٥/ ١٤٣، "زاد المسير" ٥/ ٢٤٦، "الدر المنثور" ٤/ ١٠٥، "روح المعاني" ١٦/ ١١٣.
قال الشنقيطي في "أضواء البيان" ٤/ ٣٤٢: قد جاء حديث يدل لما ذكر من أن لكل أحد منزلا في الجنة ومنزلا في النار، إلا أن حمل الآية عليه غير صواب؛ لأن أهل الجنة يرثون من الجنة منازلهم المعدة لهم بأعمالهم وتقواهم، كما قال تعالى: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ونحوها من الآيات. ولو فرضنا أنهم يرثون منازل أهل النار فحمل الآية على ذلك يوهم أنهم ليس لهم في الجنة إلا ما أورثوا من منازل أهل النار، والواقع بخلاف ذلك كما ترى.
وانظر: "روح المعاني" للآلوسي ١٦/ ١١٣.
٦٤ - قوله تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ الآيه. روي بطرق كثيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت هذه الآية جوابا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (١). وقال في رواية عطاء: (سأل المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذي القرنين، وعن أصحاب الكهف، وعن الروح فقال: غدًا أخبركم، ولم يستثن وأبطأ عليه الوحي أربعين يوما، ثم نزل جبريل فقال: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٢٣، ٢٤]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا (٢) زرتنا حين أبطأ عن الوحي، فأنزل الله: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ﴾ الآية) (٣).
والمفسرون كلهم [في سبب نزول] (٤) هذه الآية على هذا، قالوا:
(١) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير سورة مريم ٦/ ١١٨، والترمذي في جامعة كتاب. التفسير سورة مريم ١٢/ ١٥، والحاكم في "مستدركه" ٢/ ٦١١، وصححه ووافقه الذهبي، والنسائي في "تفسيره" ٢/ ٣٤، والإمام أحمد في "مسنده" ١/ ٢٣١، والطبراني في "الكبير" ١٢/ ٣٣، والطبري في "جامع البيان" ١٦/ ١٠٣، والبغوي في "معالم التزيل" ٣/ ٢٠٢، والسمرقندي في "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٩، وابن كثير في "تفسيره" ٣/ ١٤٤، والسيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٥٠١، وزاد نسبته لمسلم، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي.
(٢) في (س): (لازرتنا).
(٣) أورده الطبري في "جامع البيان" ١٦/ ١٠٣، والسمرقندي في "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٩، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٨، والماوردي في "النكت" ٣/ ٣٨١، "والبغوي" في "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٣، وابن كثير في "تفسيره" ٣/ ١٤٥، والسيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٢ وابن إسحاق في "السيرة" ١٨٢، والواحدي في "أسباب النزول" ٣٠٨، و"لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي ١٤٥، و"جامع النقول في أسباب النزول" ٢١٢.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
279
(استبطأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل ثم جاءه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا جبريل إن كنت لمشتاقا إليك". قال: وأنا والله يا محمد قد كنت إليك مشتاقا، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست. وأنزل الله: ﴿وَمَا نَتَنَزَّل﴾ الآية) (١).
وقوله تعالى: ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ قال سعيد بن جبير: (﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ من أمر الآخرة (وما خلفنا من أمر الدنيا) (٢). وهذا قول سفيان، وقتادة، ومقاتل (٣). وقال الآخرون: ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ الدنيا ﴿وَمَا خَلْفَنَا﴾ الآخرة) (٤). وهذا قول السدي، ومجاهد (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ قال سعيد بن جبير: (ما بين الدنيا والآخرة) (٦). وهو قول مجاهد في رواية ابن أبي نجيح (٧). وقال في رواية
(١) أورده بسنده ابن جرير الطبري في "جامع البيان" ١٦/ ١٠٣، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٨، والبغوي في "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٣، وابن كثير في "تفسيره" ٣/ ١٤٥ وقال: رواه ابن أبي حاتم -رحمه الله- وهو غريب. والسيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٢ وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ٣٠٨، و"جامع النقول في أسباب النزول" ٢١٢.
(٢) "المحرر الوجيز" ٩/ ٤٩٩، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٣، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٣٤٦، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٢.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٤، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٢، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٠٠، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٣، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥.
(٤) "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٢، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٠٠، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٣.
(٥) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٠
(٦) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٠، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٢.
(٧) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" ٣/ ١٠ أ، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥، "الجامع لآحكام القرآن" ١١/ ١٢٩، "التفسير الكبير" ٢١/ ٢٣٩.
280
الليث: (وما بين ذلك ما بين النفختين) (١). وهو قول السدي (٢)، وقتادة (٣)، وسفيان (٤)، والربيع (٥)، والضحاك (٦)، وأبي العالية (٧).
وقال أبو إسحاق: (﴿مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ من أمر الآخرة والثواب والعقاب، ﴿وَمَا خَلْفَنَا﴾ جميع ما مضى من أمر الدنيا، ﴿وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ ما يكون منا في هذا الوقت إلى يوم القيامة) (٨). وهذا هو الاختيار؛ لأنه لم يجز للنفختين ذكر حتى يشار إليه (٩).
(١) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٠.
(٢) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥.
(٣) "الجامع البيان" ٦/ ١٠٤، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٢٩، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٢.
(٤) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" ٣/ ١٠ أ، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٩، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٢، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٠، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٠.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥.
(٦) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٤.
(٧) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٤، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٠٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٠، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٢.
(٨) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٧.
(٩) وقال ابن جرير الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" ٦/ ١٠٥: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه ما بين أيدينا من أمر الآخرة؛ لأن ذلك لم يجيء وهو جاء فهو بين أيديهم وما خلفنا من أمر الدنيا وذلك ما قد خلفوه فمضى فصار خلفهم بتخليفهم إياه، وما بين ذلك ما بين ما لم يمضي من أمر الدنيا إلى الآخرة؛ لأن ذلك هو الذي بين الوقتين، وإنما قلنا ذلك أولى؛ لأن ذلك هو الظاهر الأغلب وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب من معانيه مالم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له.
281
وقال ابن عباس في رواية عطاء: (﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ يريد الدنيا يعني الأرض. ﴿وَمَا خَلْفَنَا﴾ يريد السموات ﴿وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ يريد الهواء) (١) والمعنى: أن كل ما ذكر لله فلا نقدر على فعل إلا بأمره (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ قال ابن عباس: (يريد تاركا لك منذ أبطاء عنك الوحي) (٣). وعلى هذا النسي بمعنى الناسي، وهو التارك، وقال السدي: (ما نسيك ربك) (٤). [وذلك أن المشركين قالوا لما أبطأ عنه الوحي: قد نسيه وودعه، فنزل: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾] (٥) ونزل: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: ٣]. وقال أبو إسحاق: (أي قد علم الله ما كان وما يكون وما هو كائن وهو حافظ لذلك لا ينسى منه شيئًا) (٦).
٦٥ - قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: مالكهما ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي: ومالك ما بينهما من خلقه ﴿فَاعْبُدْه﴾ أي: وحده؛ لأن عبادته بالشرك كلا عبادة ﴿وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾ قال ابن عباس: (لطاعته) (٧).
وقال غيره: (اصبر على أمره ونهيه) (٨). ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ قال في
(١) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٢٩، وذكره بدون نسبة: "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٤، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٢.
(٢) في (س): (الأمر).
(٣) "زاد المسير" ٥/ ٢٥٠، وذكره الطبري في "تفسيره" ١٦/ ١٠٠ بدون نسبة.
(٤) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٥، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٢، وذكره بدون نسبة: "الجامع البيان" ١٦/ ١٠٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٤.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٧.
(٧) ذكره بدون نسبة: "جامع البيان" ١٦/ ١٠٦ "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٩.
(٨) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٦، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٩، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٠.
282
رواية الوالبي: (هل تعلم للرب مثلًا أو شبها) (١). وهو قول مجاهد (٢)، وسعيد بن جبير (٣)، وابن جريج (٤) وعلى هذا السَّمي: عبارة عن المثل والشبيه.
وقال في رواية سماك: (هل تعلم أحدًا اسمه الرحمن غيره) (٥). وهو قول السدي (٦).
ودليل هذا القول قراءة ابن مسعود: (الرحمن هل تعلم له سميا).
وقال في رواية عطاء: (هل تعلم أحدا يسمى الله غيره) (٧). وهذا قول الكلبي (٨).
(١) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٢، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٠٣، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٥.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٥١.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٥١، "روح المعاني" ١٦/ ١١٦.
(٥) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٣، "البحر المحيط" ٦/ ٢٠٥.
(٦) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٠٣، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٠.
(٧) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٥١، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٠.
(٨) "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٢، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٤، "الكشف والبيان" ٣/ ١٠ أ.
283
وقال أبو إسحاق: (تأويله -والله أعلم- هل تعلم له سميا يستحق أن يقال له: خالق، وقادر، وعالم بما كان وبما يكون، فذلك ليس إلا من صفة الله) (١). وعلى هذا لا سمي لله في جميع أسمائه، لأن غيره وإن سمي [بشيء من أسمائه فإنه غير مستحق للوصف به، والله تعالى حقيقته ذلك الوصف. وقال مقاتل: (لا يسمى باسم الله غير الله، لما حاول المشركون التسمية باللهِ قالوا: اللات، وقالوا في العزيز: العزى) (٢).
٦٦ - قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ﴾ يعني الكافر الذي لا يؤمن بالبعث إذا مات (٣).
﴿لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾ يقول ذلك استهزاء وتكذيبا منه بالبعث. قال ابن عباس في رواية عطاء: (نزلت في الوليد بن المغيرة) (٤). وقال في رواية الكلبي عن أبي صالح: (نزلت في أبي بن خلف حين أخذ عظاما بالية يفتها بيده ويقول: زعم لكم محمد أن الله يبعثنا بعد أن نموت) (٥).
وقال صاحب النظم: (اللام في قوله: ﴿لَسَوْفَ﴾ لام تأكيد يؤكد بها ما بعدها من الخبر، وهذا الإنسان كافر لا يؤمن بالبعث، والكلام محكي عنه
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٨.
(٢) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "الكشف والبيان" ٣/ ١٠ أ، "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٩، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٢، "الكشاف" ٢/ ٥١٧، "زاد المسير" ١٥/ ٢٥١.
(٣) في (س): (إذا مات).
(٤) "زاد المسير" ٥/ ٢٥٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣١، "البحر المحيط" ٦/ ٢٠٦، "روح المعانى" ١٦/ ١١٦.
(٥) "بحر العلوم" ٢/ ٣٢٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٠٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣١.
فلم حكي عنه بالتأكيد وهو منكر له ومن أنكر شيئا لم يؤكده؟ قال: والجواب أن هذا من باب الحكاية والمجازاه. كأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: لسوف تخرج بعد الموت حيا، فقال حاكيا ومعارضا لكلامه: ﴿أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾ ولا يذهب مذهب التأكيد، وإنما يذهب مذهب الحكاية والمعارضة والمجازاة لكلامه، كما تقول العرب: رأيت زيدًا، فيقول السامع: من زيدا؟ وإذا قال: مررت بزيد، قال: من زيد؟ بالخفض أتبعوا آخر الكلام أوله على الحكاية والمجازاة) (١).
٦٧ - فقال الله تعالى مجيبا لذلك الكافر ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ﴾ أي: هذا الذي جحد البعث أو لا يتذكر أول خلقه فيستدل (٢) بالإبتداء على أن الإعادة مثله، وهو قوله: ﴿أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ أي: من قبل إنكاره البعث خلقناه ولم يكن شيئا، كذلك نعيده كما قال: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٩] وقرئ: يذكر بالتشديد، والتخفيف (٣). والتشديد في هذا المعنى أكثر؛ لأنه يراد به التدبر والتفكر وليس ذكرا عن نسيان، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [فاطر: ٣٧]، وقال: {إِنَّمَا يَتذكَّرُ أُولُوا
(١) ذكر نحوه في "الكشاف" ٢/ ٤١٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣١، "البحر المحيط" ٦/ ٢٠٧، "الدر المصون" ٧/ ٦١٧.
(٢) في نسخة (س): (فاستدل).
(٣) قرأ عاصم، نافع، وابن عامر: (أو لا يذْكر الإنسان) ساكنة الذال خفيفة.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: (أو لا يذَّكَّر الإنسان) بفتح الذال مشددة الكاف.
انظر: "السبعة" ص ٤١٠، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٤، "حجة القراءات" ص ٤٤٥، "التبصرة" ص ٢٥٦، "النشر" ٢/ ٣١٨.
الأَلبَابِ} (١) وإضافته إلى أولي الألباب يدل على أن (٢) المراد به النظر والتفكر، وزعموا أن في حرف أبي: (تتذكر) بالتاء (٣). والمعنى: أولا يتدبر ويتفكر هذا الجاحد في أول خلقه. ومن قرأ بالتخفيف من الذكر أراد هذا المعنى أيضا، وقد ترد الخفيفة أيضًا بهذا المعنى كقوله: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾ (٤)، ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ (٥). ثم أقسم أنه يحشرهم.
٦٨ - فقال: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾ أي: لنجمعنهم في المعاد. قال الكلبي: (يعني الذين أنكروا البعث) (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَالشَّيَاطِينَ﴾ أي: ولنحشرن الشياطين قرناء معهم قال المفسرون: (يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة) (٧). وذلك أن ذكر حشر الشياطين مع حشرهم يدل على أنهم يجمعون معهم.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا﴾ قال المفسرون: (في جهنم) (٨). وذلك أن حول الشيء يجوز أن يكون خارجه، ويجوز أن يكون
(١) سورة الرعد (١٩)، وسورة الزمر (٩).
(٢) قوله: (أن) ساقط من نسخة (س).
(٣) "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٠٦، "الكشاف" ٢/ ٤١٨، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣١، "البحر المحيط" ٦/ ٢٠٧، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٤.
(٤) سورة المزمل (١٩)، وسورة الإنسان (٢٩).
(٥) سورة المدثر (٥٥)، وسورة عبس (١٢).
(٦) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة انظر: "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٠٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٢، "لباب التأويل" ٤/ ٢٥٤.
(٧) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٥، "الكشاف" ٢/ ٤١٨، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٢، "البحر المحيط" ٦/ ٢٠٨.
(٨) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٣.
286
داخله يقال: جلس القوم حول البيت، وحوالي البيت إذا جلسوا داخله مطيقين به. قال ابن الأنباري: (ويجوز أن يجثون حول جهنم قبل أن يدخلوها) (١).
وقوله تعالى: ﴿جِثِيًّا﴾ مستوفزين على الركب. قاله مجاهد، وسفيان (٢). وقال السدي: (قياما) (٣). أراد قياما على الركب وذلك لضيق المكان لا يمكنهم أن يجلسوا ولا أن يقوموا أيضا. وهو جمع: جاثٍ من قولهم: جَثَا على ركبته (٤) يَجْثُو جُثُوًا فهو جَاثٍ (٥). قال الله تعالى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ [الجاثية: ٢٨] ويجمع الجَاثِي جُثِيَا كما قلنا في البكي، وأصله فعول وقد تقدم القول فيه (٦). وقال ابن عباس في قوله: ﴿جِثِيّا﴾: (جماعات جماعات) (٧).
(١) ذكر نحوه بلا نسبة "الكشاف" ٢/ ٤١٩، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٢، "الكشف والبيان" ٣/ ١٠ ب.
(٢) "زاد المسير" ٥/ ٢٥٣ "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٣ "البحر المحيط" ٦/ ٢٠٨.
(٣) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٦، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٣، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٤.
(٤) في (س): (ركبتيه).
(٥) جثا: أي: جلس على ركبتيه للخصومة ونحوها.
انظر: "تهذيب اللغة" (جثا) ١/ ٥٣٨، "الصحاح" (جثا) ٦/ ٢٢٩٨، "المفردات في غريب القرآن" (جثا) ٨٨، "لسان العرب" (جثا) ١/ ٥٤٦.
(٦) عند قوله سبحانه في سورة مريم الآية رقم: (٥٨): ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾.
(٧) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٣، "البحر المحيط" ٦/ ٢٠٨.
287
وهو قول مقاتل، والكلبي (١). وعلى هذا الجُثَي جمع جَثْوَة وجُثْوَة وهي: المجموع من التراب والحجارة، ومنه قول طرفة (٢):
تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صفِيْحٍ مُنَضَّدِ
والأول اختيار الزجاج، وأبي عبيدة (٣).
٦٩ - وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ﴾ أي: لنأخذن ولنخرجن ﴿مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ﴾ من كل فرقة وجماعة ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾ أي: الأعتى فالأعتى منهم، كأنه يبدأ بالتعذيب بأشدهم ثم الذي يليه. قال أبو الأحوص (٤): (يبدأ بالأكابر فالأكابر جرما) (٥). وقال قتادة: (لننزعن من كل أهل دين قادتهم ورؤسهم في الشر) (٦). ونحو هذا قال الكلبي في
(١) "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٣، "الكشف والبيان" ٣/ ١٠/ ب.
(٢) هذا بيت لطرفة بن العبد من قصيدة قالها يصف قبري أخوين غني وفقير. انظر: "شرح القصائد العشر" للتبريزي ١٠٨، "تهذيب اللغة" (جثا) ١/ ٥٣٨، "لسان العرب" (جثا) ١/ ٥٤٦، "شرح المعلقات السبع" للزوربي ص ٩٠.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٣٨، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٩.
قال الشنقيطي في "أضواء البيان" ٤/ ٣٤٦: إنه جثيهم على ركبهم وهو الظاهر، وهو قول الأكثرين، وهو الإطلاق المشهور في اللغة.
(٤) سلام بن سليم الكوفي، أبو الأحوص، عالم باللغة والتفسير، صدوق، زاهد، وثقه العلماء وأثنوا عليه، توفي -رحمه الله- سنة ١٩٩ هـ.
انظر: "ميزان الاعتدال" ٢/ ١٧٦، "الكاشف" ٣/ ٢٦٩، "تذكرة الحفاظ" ١/ ٢٥٠، "تهذيب التهذيب" ٤/ ٢٨٢، "طبقات الحفاظ" ١٠٦.
(٥) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٠، "جامع البيان" ١٦/ ١٠٧، "بحر العلوم" ٢/ ٣٣٠، "المحرر الوجيز" ٩/ ١٥٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٦، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٤.
(٦) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٥، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٤، "فتح القدير" ٣/ ٤٩١.
288
تفسير: ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾ قال: (قائدهم ورأسهم في الشر) (١). والعتي هاهنا مصدر كالعتو وهو: التمرد في العصيان (٢). قال ابن عباس في رواية الوالبي: (أيهم أشد عصيانا) (٣). وقال في رواية عطاء: (أيهم أعظم فرية) (٤). وقال مقاتل: (أيهم أشد علوا في الكفر) (٥).
وقال الكلبي: (يعني جراءة بالفراء والكذب) (٦). وقال مجاهد: (كفرا) (٧). قال أبو إسحاق: (فأما رفع ﴿أَيُّهُمْ﴾ فهي القراءة، ويجوز (أيَّهُم) بالنصب، حكاها سيبويه وذكر: أنها قراءة هارون الأعور (٨) (٩).
(١) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٥، "الكشف والبيان" ٣/ ١٠ ب.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (عتا) ٣/ ٢٣١٣، "معجم مقاييس اللغة" (عتو) ٤/ ٢٢٥، "المفردات في غريب القرآن" (عتا) ٣٢١، "لسان العرب" (عتا) ٥/ ٢٨٠٤.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٧، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٤.
(٤) "الكشف والبيان" ٣/ ١٠ ب، "اللغات في القرآن" ٣٤.
(٥) ذكرته التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١٠٧، "بحر العلوم" ٢/ ٣٣٠، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥١٠، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٣، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٦.
(٦) "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٣.
(٧) "جامع البيان" ١٦/ ١٠٧، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٤، "روح المعاني" ١٦/ ١١٩.
(٨) هارون بن موسى بن شريك الدمشقي، أبو عبد الله التغلبي، شيخ المقرئين بدمشق في زمانه، وكان من أهل الفضل، قرأ على ابن ذكوان، وحدث عنه خلق كثير، ورحل إليه الطلبة من الأقطار لإتقانه وتبحره، صنف في القراءات والعربية، إليه رجعت الإمامة في قراءة ابن ذكوان.
انظر: "طبقات النحويين" للزبيدي ٢٦٣، "تذكرة الحفاظ" ٢/ ٦٥٩، "غاية النهاية" ٢/ ٣٤٧، "طبقات المفسرين" ٢/ ٣٤٧، "شذرات الذهب" ٢/ ٢٠٩، "معرفة القراءة الكبار" ١/ ٢٤٧.
(٩) "الكتاب" ١/ ٢٥٩، "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ٩٩٤، "الإنصاف =
289
وفي رفعها ثلاثة أقوال: قال يونس: قوله: ﴿لَنَنزِعَنَّ﴾ معلقة لم تعمل شيئا، ثم استأنف فقال: ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾ ومثله عنده قول الشاعر (١):
وَلَقَدْ أَبِيْتُ مِن الفَتَاةِ بِمَنْزِلٍ فَأَبِيْتُ لا حَرِجٌ وَلاَ مَحْرُوْمُ
والمعنى: فأبيتُ بمنزلة الذي يقال له لا هو حرج ولا محروم (٢). وقال سيبويه: ﴿أَيُّهُم﴾ مبنية على الضم؛ لأنها خالفت أخواتها، واستعمل منها حذف الابتداء تقول: اضرب لأيهم أفضل تريد أيهم هو أفضل [فيحسن الاستعمال بحذف هو، ولا يحسن: اضرب من أفضل، حتى تقول: من هو أفضل] (٣)، ولا يحسن: كل ما أطيب، حتى تقول: ما هو أطيب، ولا تقول أيضا: خذ الذي أفضل، حتى تقول: الذي هو أفضل، فلما خالفت ما، ومن، والذي هذا الخلاف بنيت على الضم في الإضافة، والنصب حسن، وإن كنت قد حذفت هو؛ لأن هو قد يجوز حذفها، وقد قرئ: ﴿تَمَامًا عَلَى اَلَذِى أَحْسَنَ﴾ [لأنعام: ١٥٤] على معنى الذي هو أحسن) (٤). انتهت
= في مسائل الخلاف" ١/ ٥٧٣، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٢٢، "المحرر الوجيز" ٩/ ١٥٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٣.
(١) البيت للأخطل، وصدره في ديوانه:
ولقد أكون من الفتاة بمنزل
انظر: ديوانه ٨٤، "الكتاب" ١/ ٢٥٩، "الخزانة" ٢/ ٥٥٣، "الإنصاف" ٢/ ٥٧٢، "الإغفال" للفارسي ٩٩٥، "الدر المصون" ٧/ ٦٣١
(٢) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص ٩٩٥، "إعراب القرآن" للنحاس (٢٢٣١٢)، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١٢٦، "الدر المصون" ٧/ ٧٢١
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٤) "الكتاب" لسيبويه ٢/ ٣٩٨، "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص ٥٧٣، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢٢٣، "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص ٩٩٧، "الدر المصون" ٧/ ٦٢١.
290
الحكايه عن أبي إسحاق (١)
وذكرنا أحكام "أي" في قوله: ﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا﴾ [الإسراء: ١١٠] وفي مواضع. واعلم أن "أيًا" من الأسماء الموصوله [كمن، وما، والذي إلا أن العرب قد استعملت حذف الراجع إلى الموصول] (٢) مع أي أكثر من استعمالهم مع الذي، وقد شرح أبو علي الفارسي ما ذكره أبو إسحاق فقال: (ينبغي أن يكون مراد يونس أن الفعل معمل في موضع كل شيعة، وليس يريد أنه غير معمل في شيء البتة، والدليل على ذلك أنه قال فيه: إن ذلك معلق. ولفظ التعليق إنما يستعمل فيما يعمل في الموضع دون اللفظ، ألا تراهم قالوا في علمت أزيد في الدار، أن الفعل معلق وهو معمل في موضع الجملة، وكذلك إذا قال هنا معلق، كان معملا في موضع الجار والمجرور، ولو أراد أنه لا عمل له في لفظ لقال ملغى، ولم يقل معلق، كما تقول في زيد ظننت منطلق، فقوله فيه معلق دلالة على مراده فيه أنه عامل في الموضع، وإن لم يكن عاملا في اللفظ، وإذا كان كذلك كان قول الكسائي في الآية مثل قول يونس؛ لأن الكسائي قال: إن قوله ﴿لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ﴾ كقولك: أكلت من طعام (٣)، فإذا كان كذلك كان ﴿أَيُهُم﴾
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٠ وقال: والذي أعتقده أن القول في هذا قول الخليل، وهو موافق للتفسير؛ لأن الخليل كان مذهبه أو تأويله في قوله: ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ﴾ الذي من أجل عتوه يقال: أي: هؤلاء اشتد عتيا. فيستعمل ذلك في الأشد فالأشد.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٣) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ص ٩٩٨، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٢٢، "إملا ما من به الرحمن" ١/ ١١٦، "الدر المصون" ٧/ ٦٢١.
291
منقطعًا من هذه الجملة وكانت جملة مستأنفة، لا يجيء (١) هذا على مذهب سيبويه؛ لأنه لا يرى في من مثل ما رآه الكسائي من زيادته في الإيجاب، فإن قال قائل: لم زعم سيبويه أنه إذا حذف العائد من الصلة وجب البناء على الضم؟ قيل: إن الصلة تبين الموصول وتوضحه، كما أن المضاف يبين المضاف إليه ويخصصه، فكما أنه لما حذف المضاف إليه من الأسماء التي تبينها الإضافة نحو: قبل، وبعد بنيت، كذلك لما حذفت العائد من الصلة إلى الموصول من هنا بنيت). وأطال أبو علي الكلام في هذه المسألة (٢). وليس يليق بهذا الكتاب أكثر مما حكينا (٣).
٧٠ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا﴾ الصِّلي: مصدر صَلَى النار، صَلاَهَا، صُلِيًّا ووزنه فعول، ويجوز فيه صِلِيًا بالكسر وقد تقدم القول فيه. ومعنى الصِّلي: دخول النار ومقاساة حرها وشدتها نعوذ بالله منها.
قال أبو إسحاق: (أي ثم لنحن أعلم بالذين هم أشد عتيا فهم أولى بها صليا) (٤). يعني أن الأولى بها صليا الذين هم أشد عتيا، فهؤلاء هم الأولى بالنار صليا على معنى الابتداء بهم دون أتباعهم؛ لأنهم كانوا رؤساء في الضلالة.
٧١ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ﴾ أي: وما منكم أحد ﴿إِلَّا وَارِدُهَا﴾
(١) في (س): (لا يجوز).
(٢) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" لأبي علي الفارسي ص ٩٩٨.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٠، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٢٢، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٦، "الإنصاف" ١/ ٥٧٣، "الدر المصون" ٧/ ٦٢١.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٠.
292
وارد جهنم ﴿كَانَ عَلَى رَبِّك﴾ ورودكم ﴿حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ والحتم إيجاب القضاء، والقطع بالأمر، ويقال: كان ذلك الأمر حتما أي: موجبا، ويقال للأقضية والأمور التي قضى الله بكونها الحتوم، قال أمية:
حنَانَي رَبِّنَا وَلَه عَنَوْنَا بِكَفَّيْهِ المَنَايَا وَالحُتُومُ (١)
وقوله تعالى: ﴿مَقْضِيًّا﴾ أي: قضاه الله عليكم.
قال ابن مسعود في قوله: ﴿حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾: (قسما واجبا) (٢). وكان الإجماع أن هذه الآية قسم من الله بورود النار، وموضع القسم قوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾ الآية وهذه الآية (٣) ترجع إلى ما قبلها بالعطف، وهي داخلة في الجملة المقسم عليها، وقيل: القسم مضمر بتقدير: وإن منكم والله إلا واردها كقوله: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: ٧٢] [المعنى: والله لمن ليبطئن] (٤) فأضمر (٥). وأكثر الناس على الحكم بظاهر هذه الآية وهو:
(١) البيت لأمية بن أبي الصلت. انظر: "لسان العرب" (حتم) ٢/ ٧٧١.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ١١٤، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٥، "ابن كثير" ٣/ ١٤٦.
(٣) قوله: (وهذه الآية)، ساقط من نسخة (س).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٥) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٢٢، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥١٠، "البحر المحيط" ٦/ ٢٠٩، "الدر المصون" ٧/ ٦٢٥. وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" ٤/ ٣٥٤: الذي يظهر لي والله أعلم أن الآية ليس يتعين فيها قسم؛ لأنها لم تقترن بأداة من أدوات القسم، ولا قرينة واضحة دالة على القسم، ولم يتعين عطفها على القسم، والحكم بتقدير قسم من كتاب الله دون قرينة ظاهرة فيه زيادة على كلام الله بغير دليل يجب الرجوع إليه، وأقرب أقوال من قالوا: إن في الآية قسما قول من قال إنه معطوف على قوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾ لدلالة قرينة لام القسم في الجمل المذكورة على ذلك، أما قوله: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ فهو محتمل للعطف أيضا، ومحتمل، للاستئناف والعلم عند الله تعالى.
293
أن الخلق كلهم يرد النار ثم ينجي الله المؤمنين (١).
روي عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يرد الناس جهنم (٢) ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأولهم كالبرق، ثم كالريح، ثم كأجود الخيل، ثم كالراكب في رجله، ثم كشد الرَّجل، ثم كمشيه" (٣). وقال ابن عباس في هذه الآية: (الورود الدخول، وأخذ بيد مجاهد وقال: أما أنا وأنت فسندخلها) (٤). وخاصمه نافع بن الأزرق فقال: (إن الشيء ربما ورد الشيء ولكن لا يدخله، فقال ابن عباس: يا ابن الأزرق أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل ينجينا الله منها بعد أم لا) (٥)
وسئل جابر -رضي الله عنه- عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردًا
(١) "جامع البيان" ١٦/ ١١٥ "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٥، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥١١، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٦، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٨.
(٢) لفظ: (جهنم) ساقط من نسخة (س).
(٣) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب التفسير سورة مريم ١٢/ ١٦ ح ٣١٥٩ وقال: حديث حسن. والحاكم في "مستدركه" ٢/ ٣٧٥ وصححه ووافقه الذهبي، وأحمد في "مسنده" ١/ ٤٣٣، والدرامي في كتاب: الرقائق، باب: في ورود النار ٢/ ٣٢٩، وأخرج نحوه البخاري في كتاب: الرقائق، باب: الصراط جسر جهنم ٨/ ١٤٦، ومسلم كتاب: الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية ١/ ١٨٧، والطبري في "جامع البيان" ١٦/ ١١٤، وابن كثير في "تفسيره" ٣/ ١٤٧.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ١١٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٧.
(٥) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١١، "جامع البيان" ١٦/ ١١٤، "بحر العلوم" ٢/ ٣٣٠، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥١٢، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٧.
294
وسلاما، كما كانت على إبراهيم" (١).
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (يرد الناس جميعا نار جهنم، وكان قسما من ربنا وحتما مقضيا تخلف فيها أهل الشرك وهم ظالمون، وأقام أهل الصلاة والإيمان فيها بقدر أعمالهم، ونادى المنادي فقال: إن الله يقول ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ فخرجوا واحترق بعضهم). وذكر حديثًا طويلا (٢). وهذا الذي ذكرنا مذهب أهل السنة واحتجوا من طريق اللفظ بأن قالوا: جرى ذكر الكافرين، ثم قال بعد: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ فنظم الكلام أوجب أن هذا عام، والورود بمعنى الدخول قد أتى
(١) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" ٣/ ٣٢٩، ورجاله ثقات غير أبي سمية قال عنه الحافظ: مقبول، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" كتاب: البعث، باب: ما جاء في الصراط والميزان والورود ١٠/ ٣٦٠ وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، وابن حجر في "الكافي الشاف" ١٥٧، وأورده ابن كثير في "تفسيره" ٣/ ٤٧ وقال: غريب ولم يخرجوه. وكذلك القرطبي في جامعه ١١/ ١٣٦، والسيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٥ ونسبة لابن أبي حاتم وابن مردويه، وعبد ابن حميد.
وقال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" ٤/ ٣٥١ بعد ذكره لهذا الحديث: أبو سمية قد ذكره ابن حبان في الثقات، وبتوثيق أبي سمية المذكور تتضح صحة الحديث؛ لأن غيره من رجال الإسناد ثقات معروفون، مع أن حديث جابر المذكور يعتضد بظاهر القرى وبالآيات الأخرى التي استدل بها ابن عباس وآثار جاءت عن علماء السلف -رضي الله عنهم- كما ذكره ابن كثير عن خالد بن معدان، وعبد الله بن رواحة، وذكره ابن جرير عن أبي ميسرة، وذكره ابن كثير عن عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري، كلهم يقولون: إنه ورود دخول.
(٢) لم أقف عليه وذكرت كتب التفسير نحوه مختصرًا. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ٨٣، "معالم التنزيل" ٣/ ٢٠٤ "بحر العلوم" ٢/ ٣٣٠، "المحرر الوجيز" ١١/ ٤٨، "الكشف والبيان" ٣/ ١١ أ.
295
في التنزيل قال الله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٨]، ﴿لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا﴾ [الأنبياء: ٩٩] ويراد بالورود هاهنا: الدخول، وقال تعالى: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ [هود: ٩٨]؛ ولأن الله تعالى قال فيما بعد: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ والنجاة لا تكون إلا مما دخلت فيه؛ ولأنه قال: ﴿نَذَرُ الظَّالِمِين﴾ ولم يقل وندخل الظالمين، ونذر: نترك الشيء وقد حصل في مكانه.
وروى الحسن بن مسلم (١) عن عبيد بن عمير في هذه الآية قال: (ورودها حضورها) (٢). وروى يزيد النحوي (٣) عن عكرمة في هذه الآية
(١) الحسن بن مسلم بن يناق، المكي، روى عن صفية بنت شيبة، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وروى عنه: ابن جريج، وأبان بن صالح، وإبراهيم بن نافع وغيرهم، وهو ثقة، ثبت، توفي -رحمه الله- سنة ٩٨ هـ وقيل غير ذلك.
انظر: "تهذيب التهذيب" ٢/ ٣٢٢، "طبقات ابن سعد" ٥/ ٤٧٩، "تهذيب الأسماء واللغات" ١/ ١٦١، "الكاشف" ١/ ٢٢٧، "تهذيب الكمال" ٦/ ٣٢٥.
(٢) "زاد المسير" ٥/ ١٧٨، وذكر البغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٠٤ بدون نسبة.
(٣) يزيد بن أبي سعيد النحوي، أبو الحسن القرشي مولاهم، المروزي، من بني نحو بطن من الأزد، روى عن سليمان بن بريدة، وعكرمة مولى بن عباس، ومجاهد وغيرهم، وروى عنه: الحسن بن رشيد، والحسين بن واقد، ومحمد بن بشار وغيرهم، وثقه العلماء، وكان متقنًا، من العباد، تقيًا من الرفعاء، تاليًا لكتاب الله، عالمًا بما فيه، قتل سنة ١٣١ هـ.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٧/ ٣٦٨، "اللباب" ٣/ ٣٠١، "الكاشف" ٣/ ١٧٨، "تهذيب التهذيب" ١١/ ٣٣٢، "الأنساب" للسمعاني ٥/ ٤٦٩، "تهذيب الكمال" ٣٢/ ١٤٣.
296
قال: (الورود الدخول) (١). وبكى عبد الله بن رواحة لما نزلت هذه الآية وقال: (إني علمت أني وارد النار فما أدري أناج منها أم لا) (٢). هذا هو الكلام في الورود، ثم الله تعالى قادر بلطفه أن يسلم المؤمنين منها إذا وردوها حتى يعبروها ويخرجوا منها سالمين كما ذكرنا في حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فتكون على المؤمن بردًا وسلامًا" (٣).
وقال خالد بن معدان: (إذا جاز المؤمنون الصراط قال بعضهم لبعض: ألم يعدنا ربنا أن نمر على جسر النار، فيقولون: بلى ولكنا مررنا عليها وهي خامدة لمرورنا) (٤).
وقال أشعث الجذامي: (بلغني أن أهل الإيمان إذا مروا بصراط جهنم تقول لهم: جوزوا عني قد بردتم وهجي ذروني لأهلي) (٥).
وروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" (٦).
(١) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٤ بدون نسبة، وكذلك البغوي في "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٦.
(٢) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١١، "جامع البيان" ١٦/ ١١٤، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٥.
(٣) سبق تخريج الحديث وعزوه.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ١١٤، "بحر العلوم" ٢/ ٣٣٠، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٥.
(٥) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة.
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤١، "روح المعاني" ١٦/ ١٢٢، "لباب التأويل" ٤/ ٢٥٦.
(٦) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" ٩/ ٣٢٩، والقرطبي في "تذكرته" ص ٢٣٤، والطبراني في "الكبير" ص ٦٦٨، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" كتاب البعث، باب: =
297
وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد في هذه الآية قال: (من حمَّ من المسلمين فقد وردها) (١). لأن الحمَّى من فيح جهنم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحمَّي كير من جهنم فما أصاب المؤمن منها كان حظه من النار في الآخرة" (٢) (٣).
= ما جاء في الميزان والصراط والورود ١٠/ ٣٦٠، وقال: رواه الطبراني وفيه سليم بن منصور بن عمار وهو ضعيف. وأورده البغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٠٥، والسيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ٢٨٢، وأورده الألباني في "السلسلة الضعيفة" (٣٤١٣)، والحديث بجميع طرقه ضعيف فيه بشير بن طلحة ضعيف، وخالد بن دريك لم يسمع من يعلي بن منية فهو منقطع، وكذلك سليم بن منصور ضعيف.
(١) "جامع البيان" ١٦/ ١١١، "النكت والعيون" ٣/ ٣٤٨، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥١٥، "معالم التنزيل" ٣/ ٢٠٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٧.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" ٥/ ٢٥٢، عن أبي أمامة رضي الله عنه، ورواه الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٢/ ٣٠٥، وقال: رواه أحمد وفيه أبو حصين الفلسطيني ولم أر له راويًا غير محمد بن مطرف. وأخرج نحوه البخاري في "صحيحه" كتاب الطب، باب: الحمى من فيح جهنم ٥/ ٢١٦٢، ومسلم في "صحيحه" كتاب السلام، باب: لكل داء دواء واستحباب التداوي ٤/ ١٧٣٢، وابن ماجه في "سننه" كتاب الطب، باب: الحمى ٢/ ١١٤٩، والدرامي كتاب الرقائق، باب: الحمى من فيح جهنم ٢/ ٢٢٤، والحاكم في "المستدرك" ١/ ٣٤٥، وقال: صحح الإسناد ووافقه الذهبي، والطبري في "جامع البيان" ١٦/ ١١١، والبغوي في "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٩، وابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٧.
(٣) قال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" ٤/ ٣٥٢ بعد ذكره لهذا القول: وأجابوا عن الاستدلال بحديث "الحمى من فيح فجهنم" قالوا: الحديث حق صحيح ولكنه لا دليل فيه لمحل النزاع؛ لأن السياق صريح في أن الكلام في النار في الآخرة وليس في حرارة منها في الدنيا؛ لأن أول الكلام قوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا﴾ -إلى أن قال- ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ فدل على أن كل ذلك في الآخرة لا في الدنيا كما ترى.
298
وقال قوم: (إن هذا إنما يعني به المشركين خاصة) (١). واحتجوا بقراءة بعضهم: ﴿وَإِن مِّنهمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ (٢). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (٣). ويكون على مذهب هؤلاء معنى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ نخرجهم من جملة من يدخل النار.
وقال ابن زيد: (الورود عام لكل مؤمن وكافر غير أن ورود المسلمين على الجسر، وورود الكافرين أن يدخلوها) (٤). وهذا يروى عن الحسن، وقتادة أنهما قالا: (ورودها ليس دخولها) (٥).
قال أبو إسحاق: (وحجتهم في ذلك قوية من جهات أحدها: أن العرب تقول: وردت ماء كذا ولم تدخله، ووردت بلد كذا إذا أشرف عليه ولم يدخله، قال: والحجة القاطعة عندي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾ [الأنبياء: ١٠١، ١٠٢] (٦). ومن قال بالقول الأول قال في هذه الآية: (وهم عن
(١) "الجامع البيان" ١٦/ ١١٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٣٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٨.
(٢) قرأ بها ابن عباس، وعكرمة رضي الله عنهما.
انظر: "المحرر الوجيز" ٩/ ٥١١، "الكشاف" ٢/ ٤١٩، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٧ "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٣٨، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٠.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ١١٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٨.
(٤) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٨، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٥، "روح المعاني" ١٦/ ١٢٢.
(٥) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٦، "البحر المحيط" ٦/ ٢٠٩ "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤١.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤١.
299
مكروهها مبعدون؛ لأنه لا ينالهم أذاها ووهجها إذا وردوها) (١).
٧٢ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ قال ابن عباس: (يريد اتقوا الشرك وصدقوا بنبيي) (٢). ﴿وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ﴾ قال: (يريد المشركين والكفار والمنافقين) (٣). ﴿فِيهَا جِثِيًّا﴾ قيل: على الركب، وقيل: جميعًا، وقد مر قبل
(١) والراجح -والله أعلم- القول الأول. قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- في "تفسيره" ١٦/ ١١٤: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون فينجيهم الله ويهوي فيها الكفار وورودهما هو ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مرورهم على الصراط المنصوب على متن جهنم فناج مسلم ومكدس فيها.
وقال البغوي -رحمه الله- في "تفسيره" ٥/ ٢٤٩: والأول أصح، وعليه أهل السنة أنهم جميعًا يدخلون النار ثم يخرج الله -عَزَّ وَجَلَّ- منها أهل الإيمان؛ بدليل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ أي: اتقوا الشرك، وهم المؤمنون، والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه لا ما وردت.
وقال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" ٤/ ٣٥٢ بعد ترجيحه لهذا القول: وأجاب من قال: بأن الورود في الآية الدخول عن قوله: ﴿أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ بأنهم مبعدون عن عذابها وألمها، فلا ينافي ذلك ورودهم إياها من غير شعورهم بألم ولا حر منها.
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣٩، "التفسير الكبير" ١١/ ٢٤٤، "أضواء البيان" ٤/ ٣٥٠.
(٢) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة.
انظر: "الكشف والبيان" ٣/ ١٢ أ، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥١٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٩، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٧، "إرشاد العقل السليم" ٥/ ٢٧٦.
(٣) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة.
انظر: "بحر العلوم" ٢/ ٣٣١، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥١٦ "معالم التنزيل" ٥/ ٢٤٩، "التفسير الكبير" ٢١/ ٢٤٥.
ذلك (١).
٧٣ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ يعني: على المشركين ﴿آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ يريد القرآن ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مشركوا قريش ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الفقراء المؤمنين] (٢) ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ﴾ أنحن أم أنتم ﴿خَيْرٌ مَقَامًا﴾ وقرئ: مُقَاما بالضم (٣). وهما المنزل والمسكن، وكذا قال المفسرون (٤).
والمَقَام بالفتح المصدر واسم الموضع جميعًا، وفَعَلَ يَفْعُل المصدر واسم الموضع منه على مَفْعَلٍ نحو: قَتَلَن يَقْتُل، مَقْتَلاً، وهذا مَقْتَلُ فلان، وأما المُقَام بالضم فيصلح أن يكون بمعنى الإقامة فعول أقَمْت مُقَاما كما تقول: أَقَمْت إِقَامَة، ومكان الإقَامَة مُقَام أيضًا، وكذلك ما زاد من الأفعال على ثلاثة أحرف بحرف زائد أو أصلي فالمصدر اسم الموضع يكون منه على مفعل (٥). والمَقَام والمُقَام في هذه الآية يراد به المكان كما ذكرنا.
قال الأخفش: (يقال للمَقْعد المَقَام وللمشهد المَقَام) (٦). ومنه قوله
(١) عند قوله سبحانه: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا﴾. [مريم: ٦٨]
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٣) قرأ ابن كثير المكي: ﴿خَيْرٌ مُقاما﴾ بضم الميم. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم: ﴿خَيْرٌ مَقَامًا﴾ بفتح الميم.
انظر: "السبعة" ص ٤١١، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٥، "التبصرة" ص ٢٥٦، "الغاية في القراءات" ص ٣١٧.
(٤) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١١، "جامع البيان" ١٦/ ١١٤، "بحر العلوم" ٢/ ٣٣١ "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٥ "المحرر الوجيز" ٩/ ٥١٦.
(٥) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٧، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٦، "الدر المصون" ٧/ ٦٢٨.
(٦) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٦.
301
تعالى: ﴿قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ [النمل: ٣٩] أي: من مشهدك، وقد يكون المقام حيث يقوم الإنسان كقول الراجز (١):
هَذَا مُقَامُ قَدَمَيْ رَبَاحِ
أي: موضع قيامه.
وقوله تعالى: ﴿وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ الندي فعيل بمعنى الفاعل وهو المجلس، وكذلك النادي، يقال: نَدَوْتُ القوم، أَنْدُوهم، نَدْوًا إذا جمعتهم، ويقال للموضع الذي يجتمعون فيه: النَّادِي، والنَّادِي لا يسمى نَادِيًا حتى يكون فيه أهله، وإذا تفرقوا لا يكون نَادِيا ومن هذا قوله: ﴿وَتَأْتُونَ في نَادِيكُمُ الْمُنْكَر﴾ [العنكبوت: ٢٩] ولذلك سميت دار النَّدْوة بمكة، كانوا إذا حز بهم أمر نَدَوا إليها فاجتمعوا للتشاور، وأُنَادِيك أشاورك، وأجالسك من النَّادِي (٢). قال كُثَير:
أُنَادِيْكَ مَا حَجَّتْ حَجِيْجٌ وَكَبَرَتْ بِفَيْفَا غَزَالٍ رُفْقَةٌ وَأَهَلَّتِ (٣)
والمعنى: أن المشركين قالوا للفقراء المؤمنين أنحن أم أنتم أعظم شأنًا، وأعز مجلسًا في قومه افتخروا عليهم بمساكنهم، ومجالسهم وحسن
(١) هذا صدر بيت لقطر. وعجزه:
ذَبَّبَ حَتى دَلَكَتْ بَرَاحِ
والبَرَاحِ: الشمس. ومعنى البيت: أن الشمس قد غربت وزالت فهم يضعون راحاتهم على عيونهم ينظرون هل غربت أو زالت.
انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٨، "النوادر" ص ٣١٥، "لسان العرب" (برح) ١/ ٢٤٥.
(٢) "تهذيب اللغة" (ندا) ٤/ ٣٥٤٣، "الصحاح" (ندا) ٦/ ٢٥٠٥، "المفردات في غريب القرآن" (ندا) ص ٤٨٧، "لسان العرب" (ندى) ٧/ ٤٣٨٧.
(٣) البيت لكثير. انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٨، "المنصف" ٢/ ١٨٠.
302
معاشهم (١).
٧٤ - فقال الله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا﴾ قال الليث: (الأثاث: أنواع المتاع من متاع البيت ونحوه) (٢).
وقال أبو زيد: (الأثاث: المال أجمع، المال، والإبل، والغنم، والعبيد، والمتاع قال: وواحدتها أثاثة) (٣).
وقال الفراء: (الأثاث: لا واحد له، كما أن المتاع لا واحد له) (٤). قال ابن عباس، والسدي: (الأثاث: المال) (٥).
وقال قتادة: (﴿أَحْسَنُ أَثَاثًا﴾: أكثر أموالًا) (٦). وقال الحسن: (الأثاث: اللباس) (٧).
وقال مجاهد: (الأثاث: المتاع والزينة) (٨).
وقال عطاء عن ابن عباس في قوله: ﴿أَحْسَنُ أَثَاثًا﴾ قال: (مثل
(١) "جامع البيان" ١٦/ ١١٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٦، "معالم التنزيل" ٣/ ١٥٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٨، "زاد المسير" ٥/ ١٥٧.
(٢) "تهذيب اللغة" (أث) ١/ ١١٨.
(٣) "تهذيب اللغة" (أث) ١/ ١١٨.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧١.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ١١٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٩.
(٦) "جامع البيان" ١٦/ ١١٦، وذكره الماوردي في "تفسيره" ٣/ ٣٨٦ بدون نسبة، وكذلك ابن كثير في "تفسيره" ٣/ ١٣٨.
(٧) ذكر في كتب التفسير بدون نسبة.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١١٦، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٩.
(٨) "جامع البيان" ١٦/ ١١٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٩.
303
الدَّرَانِيْك (١)، والطَّنَافِس) (٢) (٣). وأصل الحرف من قولهم: أَثَّ النبات يَئِثُّ أَثَاثَةً إذا كثر والتف، ويوصف به الشعر (٤)، ومنه قوله (٥):
أَثِيْث كَقِنْوِ النَّخْلَة المُتَعَثْكِلِ
وقوله تعالى: ﴿وَرِئْيًا﴾ قال أبو إسحاق: (منظرًا من رأيت) (٦).
قال أبو علي: (رِئْيٌ فعل من رأيت، وكأنه اسم لما ظهر وليس
(١) الدَّرْنيك: ضرب من الثياب أو البسط، له خمل قصير كخمل المناديل، ويشبه فروة البعير والأسد.
انظر: "تهذيب اللغة" (درنك) ٢/ ١١٨١، "مقاييس اللغة" (الدرنوك) ٢/ ٣٤١، "الصحاح" (درنك) ٤/ ١٥٨٣، "لسان العرب" (درنك) ٣/ ١٣٦٩.
(٢) الطَّنْفُسَة: بضم الفاء، البساط الذي له حمل رقيق. ويقال للإنسان إذا لبس الثياب الكثيرة: مطنفس.
انظر: "تهذيب اللغة" (طنفس) ٣/ ٢٢٢٤، لسان (طفنس) ٥/ ٢٧١٠، "القاموس المحيط" (طنفس) ٢/ ٥٩٦.
(٣) ذكر نحوه بالنسبة القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٣.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (أث) ١/ ١١٨، "مقاييس اللغة" (أث) ١/ ٨، "القاموس المحيط" (أث) ١/ ١٦١٦، "المعجم الوسيط" (أث) ١/ ٥، "لسان العرب" (أثث) ١/ ٢٤.
(٥) هذا عجز بيت لامرئ القيس. وصدره:
وَفَرْع يِزينُ الَمَتَن أَسْوَدَ فَاحِمِ
والفرع: الشعر التام، والفاحم: الشديد السواد، العثكال: بمعنى القنو وقد يكون قطعة منه. فقد ذكر المرأة تبدي عن شعر طويل تام يزين ظهرها إذا أرسلته ثم شبه ذؤابتيها بقنو نخلة خرجت قنوانها.
انظر: "ديوانه" ص ٤٤، "شرح القصائد" للتبريزي ص ٤٤، "شرح المعلقات السبع" ص ٣٢، "تهذيب اللغة" (أث) ١/ ١١٨، "لسان العرب" (أثث) ١/ ٢٤.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٢.
304
المصدر، إنما المصدر الرأي والرؤية، ومنه قوله: ﴿رأي العين﴾ [آل عمران: ١٣] فالرأي الفعل، والرئي المرئي كالطَّحْن والطِّحْن، والسَّقْي والسِّقْي، والرَّعْي والرِّعْي) (١). وقول المفسرين في تفسير الرئي: (المنظر)، قاله ابن عباس وغيره (٢). وقال الحسن: (الصور) (٣). وهو راجع إلى النظر. وقرئ: وريا بغير همز.
قال أبو إسحاق: (وله تفسيران: على معنى الأول بطرح الهمز، وعلى معنى أن منظرهم مُرْتو من النعمة، كأن النعيم بين فيهم) (٥).
قال أبو علي: (ريا بغير همز يجوز أن يكون بمعنى رئيا فخففت الهمزة، وإذا خففت لزم أن يبدل منها الياء لانكسار ما قبلها، كما تبدل في: ذيب، وبير، فإذا أبدل منها الياء وقعت ساكنة قبل حرف مثله فلابد من الإدغام، وليس يجوز الإظهار لاجتماع المثلين الأول ساكن، ويجوز أن يكون أصله غير الهمز من الري الذي هو ضد العطش، والمراد به في الآية الطراوة والنضارة؛ لأن الري يتبعه ذلك، كما أن العطش يتبعه الذبول والجهد).
____
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١٠
(٢) "جامع البيان ١٦/ ١١٧، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٦، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٢٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٨٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٣
(٣) "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٢٠، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٩، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٠.
(٤) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: (ورئيا) مهموزة بين الراء والياء. وقرأ ابن عامر، ونافع: (وريا) بغير همز.
انظر: "السبعة ص ٤١١، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٩، "حجة القراءات" ص ٤٤٧، "المبسوط في القراءات" ص ٢٤٤.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٢.
(٦) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١٠.
305
قال الفراء: (والقراءة بغير همز وجه جيد؛ لأنه مع آيات ليست بمهموزات الأواخر) (١). وروي عن عاصم في بعض الروايات: وَرِئيًا مثل وريعًا (٢). وهذا على الهمز التي هي عين إلى موضع اللام ويكون تقديره: فَلِعًا، ومن العرب من يقول: رَاءَني زيدٌ بقلب الهمز فيؤخره فرئيا من رآني (٣). والمعنى: أن الله تعالى قد أهلك قبلهم أقوامًا كانوا أكثر متاعًا، وأحسن منظرًا فأهلك أموالهم، وأفسد عليهم صورهم فليخافوا نقمة الله بالإهلاك كسنة من قبلهم من الكفار.
٧٥ - قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ في الضَّلَالَةِ﴾ قال ابن عباس: (قل لهم يا محمد من كان في العماية) (٤). يعني عن التوحيد ودين الله ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾ قال أبو إسحاق: (فليمدد لفظ أمر في معنى الخبر، وتأويله إن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه، ويمده فيها إلا أن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر، كان لفظ الأمر يريد به المتكلم نفسه إلزامًا، كأنه يقول أفعل ذلك وآمر نفسي، فإذا قال قائل: من زارني فلأكرمه، فهو ألزم من قوله أكرمه، كأنه قال: من زارني فأنا آمر نفسي بإكرامه وألزمها ذلك) (٥).
وقال أبو علي: (هذا لفظه كلفظ أمثله الأمر ومعناه الخبر ألا ترى أنه
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧١.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٩، "المبسوط في القراءات العشر" ص ٢٤٤.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٣، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٠٩، "المحتسب" ٢/ ٤٤.
(٤) ذكرته كتب التفسير نحوه بدون نسبة.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١١٩، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٩.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٣.
306
لا وجه للأمر هاهنا، وأن المعنى مده الرحمن مدا) (١). وابن عباس فسره أيضًا بالخبر فقال: (يريد فإن الله يمد له فيها حتى يستدرجه) (٢). وقد تقدم القول في وضع بعض الأمثلة موضع البعض في آيات.
ومعنى المد في الضلالة ذكرناه في قوله: ﴿وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥]. وقال صاحب النظم: (من شرط وللشرط جزاء واجتمع في قوله: ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾ جزاء الشرط والفاء دليل عليه، وابتداء الأمر ولو تمحض جزاء لكان يمدد ولكنه دعاء عليهم بأن يمدهم الله في الضلالة والدعاء يكون بلفظ الأمر كأنه أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوا على من كان في الضلالة بهذا الدعاء، وهذا كما تقول في الكلام: من سرق مالي فليقطع الله يده، فهذا دعاء على السارق وهو جواب للشرط) (٣). هذا معنى كلامه. وعلى ما ذكر لا يكون ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾ خبرًا كما قاله الزجاج، وأبو علي، وأكد ابن الأنباري هذا الوجه فقال: (اللام في ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾ لام الدعاء وتقديرها في الآية: قل يا محمد من كان في الضلالة فاللهم مد له في العمر مدا) (٤).
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا﴾ هو متصل بالمد؛ لأن المعنى مده الله في ضلالته حتى يرى ما يوعد من العذاب أو الساعة، وإنما قال ﴿رَأَوْا﴾ بعد
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٢٠٥.
(٢) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة.
انظر: "الكشف والبيان" ٣/ ١٢ أ، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٢٢، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٣، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٤، "روح المعاني" ١٦/ ١٢٧.
(٣) ذكر نحوه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٤.
(٤) ذكر نحوه بلا نسبة في "الكشاف" ٢/ ٤٢١، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤١، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٢.
307
قوله ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾ لأن لفظ من يصلح للواحد والجمع، وإذا مع الماضي يكون بمعنى المستقبل، والمعنى: حتى يروا ما يوعدون.
وقوله تعالى: ﴿إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ﴾ منصوبان على البدل من ﴿مَا يُوعَدُونَ﴾ (١). قال أبو إسحاق: (و ﴿الْعَذَابَ﴾ هاهنا ما وعدوا به من نصر المؤمنين عليهم، فإنهم يعذبونهم قتلاً، وأسرًا، و ﴿اَلسَّاعَةُ﴾ يعني بها يوم القيامة وما وعدوا فيها من الخلود في النار) (٢). والمعنى: ﴿فَسَيَعْلَمُونَ﴾ بالنصر والقتل أيهم ﴿وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾ كما قاله الزجاج وأبو علي (٣)، أهم أم المؤمنون، ويعلمون بمكانهم من جهنم ومكان المؤمنين من الجنة ﴿مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا﴾ قال ابن عباس: (أراد الله هذا الرد عليهم في قولهم: ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾) (٤).
٧٦ - قوله تعالى: ﴿وَيَزِيدُ الله الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ قال [الربيع بن أنس: (يزيد الله الذين اهتدوا] (٥) بكتابه هدى بما ينزل عليهم من الآيات فيصدقون بها) (٦). وقال الكلبي: (ويزيد الله الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٣، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٢٦.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٣.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٣، "الحجة للقراء السبعة" ٢/ ٢٠٥.
(٤) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة.
انظر: "معالم التنزيل" ٥/ ٢٠٣، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٢٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٩ "الكشاف" ٢/ ٥٢٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٤.
(٥) ما بين المعقوفين مكرر في نسخة (س).
(٦) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١١٩، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٤، "التفسير الكبير" ٢١/ ٢٤٨.
308
بالناسخ) (١). وقيل معناه: (يزيدهم إخلاصًا وإيمانًا) (٢). وقيل: (يزيدهم هدى بالتوفيق حتى يستكثروا من الطاعات) (٣). وقال أبو إسحاق: (المعنى أن الله تعالى يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقينًا كما جعل جزاء الكافر (٤) أن يمده في ضلالته) (٥).
﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ﴾ الأذكار والأعمال الحسنة من الطاعات التي تبقى لصاحبها ولا تحيط (٦). ﴿خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا﴾ جزاء في الآخرة مما يفتخر به الكفار من مالهم وحسن معاشهم. ومضى القول في الباقيات الصالحات في سورة الكهف (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾ المراد هاهنا مصدر مثل الرد، والمعنى: وخير ردًّا على عامليها للثواب، ليست كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت، ويقال: هذا الأمر أرد عليك أي: أنفع لك (٨). والمعنى: أنه يرد
(١) "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٤، وذكره بدون نسبة "جامع البيان" ١٦/ ٩٠، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٢٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٩.
(٢) "زاد المسير" ٥/ ٢٥٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٤، "التفسير الكبير" ١١/ ١٤٨.
(٣) "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٧، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٤، "فتح القدير" ٣/ ٤٩٨.
(٤) في (س): (الكافرين).
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٤.
(٦) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٢، "جامع البيان" ١٦/ ١١٩، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٣.
(٧) عند قوله سبحانه: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: ٤٦].
(٨) انظر: "تهذيب اللغة" (رد) ٢/ ١٣٩٠، "الصحاح" (ردد) ٢/ ٤٧٣، "لسان العرب" (ردد) ٣/ ١٦٢١، "المفردات في غريب القرآن" (رد) ص ١٩٣.
309
عليك ما تريد، كذلك أعمال المؤمنين ترد عليهم الجنة التي فقدوها بإخراج أبيهم آدم منها (١). ويجوز أن يكون المرد بمعنى: المرجع وكل واحد يرد إلى عمله الذي عمله، فيجمع بينه وبين ما عمل فالأعمال الصالحة خير مردًا من الأعمال السيئة (٢).
٧٧ - قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ قال ابن عباس وجماعة أهل التفسير: (نزلت في العاص بن وائل (٣)، وذلك أن خباب بن الأرت كان له عليه دين فأتاه يتقاضاه فقال: لا أقضيك حتى تكفر بآلهة محمد، فقال خباب: والله لا أكفر بإله محمد حيًا ولا ميتًا ولا حين أبعث، فقال: أوتبعث أيضًا؟ فدع مالك قبلي، فإذا بعثت أعطيت مالًا وولدًا وقضيتك مما أعطى، يقول ذلك مستهزءًا) (٤).
وقال مقاتل والكلبي: (قال لخباب: لئن كان ما تقول حقًا فإني لأفضل ثَمَّ نصيبًا منك، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ يعنىِ: العاص كفر بالقرآن) (٥). ﴿وَقَالَ لَأُوتَيَن﴾ لأعطين أي: والله لأوتين القسم
(١) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٥.
(٢) "الكشاف" ٢/ ٤٢١، "زاد المسير" ٥/ ٢٥٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٥، "فتح القدير" ٣/ ٤٩٨.
(٣) العاص بن وائل بن هاشم السهمي، أحد المجاهرين بالعداوة والأذى للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللصحابة رضوان الله عليهم، توفي بعد الهجرة بشهرين وهو والد الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه.
انظر: "جوامع السيرة" ص ٥٣، "الكامل" لابن الأثير ٢/ ٤٨، "الأعلام" ٣/ ٢٤٧.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٠، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٧، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٢٦، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٣، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٠.
(٥) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٥، "الكشف والبيان" ٣/ ١٢ ب.
310
مضمر ﴿مَالًا وَوَلَدًا﴾ يعني في الجنة بعد البعث.
وقرئ: وَلَدا، ووُلْدا (١). قال الليث: (الولد اسم يجمع الواحد والكثير والذكر والأنثى) (٢). قال الزجاج: (الوَلَدُ والوُلْدُ واحد مثل العَرَبُ، والعُرْبُ، والعَجَمُ، والعُجْمُ، والبَخَل، والبُخْلُ) (٣). ونحو ذلك قال الفراء (٤)، وأنشد (٥).
وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا قَدْ ثَمَّرُوا مَالًا وَوُلدَا
واحتج على استعمال المضموم في الواحد بقول العرب في المثل: (وُلْدُكِ مَنْ دَمَّى عَقِبَيْكِ) (٦)، وأنشد (٧):
(١) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عمر: (وَوَلَدًا) بفتح الواو. وقرأ حمزة، والكسائي: (وَوُلْدا) بضم الواو.
انظر: "السبعة" ص ٤١٢، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١١، "التبصرة" ص ٢٥٧، "النشر" ٢/ ٣١٩.
(٢) "تهذيب اللغة" (ولد) ٤/ ٣٩٥١.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٤.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٣.
(٥) البيت للحارث بن حلزة.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١٢٢، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٧، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٣، "الدر المصون" ٧/ ٦٣٥، "تهذيب اللغة" (ولد) ٤/ ٣٩٥١، "لسان العرب" (ولد) ٨/ ٤٩١٤.
(٦) المعنى: ابنكِ الذي نَفُسْتِ به حتى أدمى النفاس عقبيك، فهو ابنك حقيقة لا من اتخذته وتبنيته وهو من غيرك.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١٢٢، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٣، "الأمثال" للسدوسي ص ٥١، "المستقصى في أمثال العرب" ١/ ٣٠، "الأمثال" لابن سلام ص ١٤٧، "تهذيب اللغة" (ولد) ٤/ ٣٩٥٠، "لسان العرب" (ولد) ٨/ ٤٩١٤.
(٧) لم أهتد إلى قائله، وذكرته كتب التفسير واللغة بلا نسبة. =
311
فَلَيْتَ فُلاَنًا كَانَ في بَطْنِ أُمَّه وَلَيْتَ فُلاَنا كَانَ وُلْدَ حِمَارِ
فهذا واحد قال: (وقيس تجعل الوُلْد جمعًا، والوَلَد واحدًا) (١). وقال ابن السكيت: (الوُلْدُ يكون واحدا وجمعًا) (٢).
قال أبو علي: (هو كالفُلْك الذي يكون مرة جمعًا ومرة واحدًا، ويكون لفظ واحده [موافقًا للفظ جمعه] (٣)، قال: ويجوز أن يكون الوُلْدُ جمع وَلَد مثل أَسَدٍ، وأُسْدٍ، وثَمَرٍ، وثُمْرٍ) (٤).
٧٨ - قال الله تعالى مكذبًا له ومنكرًا عليه ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ﴾ قال ابن عباس، ومجاهد: (يريد أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا) (٥). وقال الكلبي: (معناه: انظر في اللوح المحفوظ) (٦).
وقوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ قال ابن عباس: (يريد: من قال: لا إله إلا الله فارحمه بها) (٧).
= انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١٢٢، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٢٧، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٣، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١١، "المحتسب" ١/ ٣٦٥، "الدر المصون" ٧/ ٦٣٦، "تهذيب اللغة" (ولد) ٤/ ٣٩٥١، "لسان العرب" (ولد) ٨/ ٤٩١٤.
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٣.
(٢) "تهذيب اللغة" (ولد) ٤/ ٣٩٥١، "لسان العرب" (ولد) ٨/ ٤٩١٤.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١٢.
(٥) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٣، "زاد المسير" ٥/ ٣٦١، "القرطبي" ١١/ ١٤٦.
(٦) ذكرته كتب التفسير ونسبته لابن عباس.
انظر: "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٣، "زاد المسير" ٥/ ٣٦١، "القرطبي" ١١/ ١٤٦.
(٧) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٠، و"زاد المسير" ٥/ ٢٦١، و"الدر المنثور" ٤/ ٥٠٦.
وقال قتادة: (يعني: أقدم عملًا صالحًا فهو يرجوه) (١) (٢).
وقال السدي: (العهد: الطاعة لله -عَزَّ وَجَلَّ-) (٣). وهذا القول منتزع مما روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله: من صلى الصلوات لوقتها ولم يذرها استخفافا بها لقيني يوم القيامة وله عندي عهدًا أدخله به الجنة، ومن لم يصلها لوقتها وتركها استخفافًا بها لقيني يوم القيامة وليس له عندي عهد" (٤).
وعلى [هذا المعنى فالآية] (٥): أم صلى الصلوات الخمس فاتخذ بها عندي عهدًا. وقال الكلبي: (أعهد إليه الله أنه يدخله الجنة) (٦). وهو اختيار الزجاج يقول: (أم أعطى عهدًا) (٧).
٧٩ - وقوله تعالى: ﴿كَلَّا﴾ (٨) هذه الكلمة ترد في القرآن بمعنيين
(١) قوله: (فهو يرجوه)، ساقط من نسخة (س).
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٢، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٨، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٣ "زاد المسير" ٥/ ٢٦١، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٦.
(٣) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١٢٢، "بحر العلوم" ٢/ ٣٣٢، "روح المعاني" ١٦/ ١٣٠.
(٤) أخرج نحوه أبو داود في "سننه" في الوتر، باب فيمن لم يوتر ٢/ ١٣١، والنسائي في الصلاة، باب فضل الخمس ١/ ١٦٤، وابن ماجه في "سننه" كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس ١/ ٤٤٨، والإمام أحمد في "مسنده" ٤/ ٢٤٤، والهواري في "تفسيره" ٣/ ٧٦.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).
(٦) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٦١، "القرطبي" ١١/ ١٤٦.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٥.
(٨) قال الألوسي في "روح المعاني" ١٦/ ٣١٣: وهذا أول موضع وقع فيه من القرآن، وقد تكرر في النصف الأخير فوقع في ثلاثة وثلاثين موضعًا.
313
أحدهما: الرد لكلام تقدم (١). والثاني: بمعنى: حقًّا (٢).
قال الفراء: (كلا بمنزلة سوف، وتجيء حرف رد فكأنها نعم ولا) (٣).
وهذا الذي قاله (٤) الفراء هو أصل معنى كلا، فإنه ينفي ما قبله ويحقق ما بعده، ولذلك اختلف المفسرون في معناه فجعله (٥) بعضهم بمنزلة حقًا، وبعضهم جعله ردًا لما قبله وردعًا، وهو متضمن للمعنيين كما ذكره الفراء (٦).
وقال الكسائي: (لا تنفي حسب، وكلا تنفي شيئًا وتوجب شيئًا كقولك لرجل قال لك: أكلت شيئًا؟ قلت: لا، ويقول آخر: أكلت تمرًا فتقول (٧): كلا، أردت أنك أكلت عسلًا لا تمرًا، قال: وتأتي كلا بمعنى قول حقًّا) قال ذلك كله أحمد بن يحيى عن سلمة عن الفراء عن الكسائي (٨).
قال الفراء: (ويجوز أن تجعلها صلة لما بعدها كقولك: كلا ورب الكعبة، فتكون بمنزلة: إي ورب الكعبة، قال الله تعالى: ﴿كَلَّا وَالْقَمَرِ﴾
(١) لفظ: (تقدم): ساقط من نسخة (س).
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٥، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٧، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٤، "روح المعاني" ١٦/ ١٣١، "الدر المصون" ٧/ ٦٣٧.
(٣) أورد نحوه بلا نسبة "الكشاف" ٢/ ٤٢٢، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٤، "الدر المصون" ٧/ ٦٣٧.
(٤) قوله: (قاله)، ساقط من نسخة (س).
(٥) قوله: (فجعله)، ساقط من نسخة (س).
(٦) "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٢٨، "الكشاف" ٢/ ٤٢٢، "القرطبي" ١١/ ١٤٧.
(٧) قوله: (فتقول)، ساقط من نسخة (س).
(٨) "تهذيب اللغة" (كلا) ٤/ ٣١٧٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٩، "شرح كلا وبلى ونعم" لمكي بن أبي طالب ص ٢٤.
314
[المدثر: ٢٢] فإذا جعلتها صلة لما بعدها لم تقف عليها كقوله: ﴿كَلَّا وَالْقَمَر﴾ والوقف على ﴿كَلَّا﴾ قبيح؛ لأنها صلة لليمين) (١).
وقال الأخفش: (﴿كَلَّا﴾ ردع وزجر) (٢). وهذا مذهب سيبويه (٣)، وإليه ذهب الزجاج -صلى الله عليه وسلم- في جميع القرآن (٤). قال أبو حاتم: (وتجيء ﴿كَلَّا﴾ بمعنى "أَلَا" التي هي للتنبيه يستفتح بها الكلام كما يستفتح بأَلَا) (٥)، واحتج بقول الأعشى (٦):
كَلَّا زَعَمْتُمُ بِأَنَّا لاَ نُقَاتِلكُمْ إِنَّا لأَمْثَالِكُمْ يَا قَوْمَنَا قُتل
قال ابن الأنباري: (هذا غلط منه ﴿كَلَّا﴾ لا تكون افتتاح الكلام، والذي في البيت بمعنى "لا"، أي: ليس الأمر على ما يقولون) (٧). واحتج أيضًا بقوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾ [العلق: ٦]، قال معناه: (أَلَا أن الإنسان ليطغى) (٨).
(١) "تهذيب اللغة" (كلا) ٤/ ٣١٧٩، "الإيضاح في الوقف والابتداء" ٢/ ٧٧٦، "القطع والائتناف" ص ٤٥٨، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص ٣٧٧، "شرح وكلا وبلى ونعم" ص ١٩.
(٢) "تهذيب اللغة" (كلا) ٤/ ٣١٧٩، "شرح كلا وبلى ونعم" ص ٢٨.
(٣) "الكتاب" لسيبويه ٢/ ٣١٢.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٥.
(٥) "تهذيب اللغة" (كلا) ٤/ ٣١٧٩، "القطع والائتناف" ص ٤٥٨، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص ٣٧٧، "شرح كلا وبلى ونعم" ص ٢٥.
(٦) البيت للأعشى.
انظر: "شرح القصائد" للتبريزي ص ٣٤٧، "شعراء النصرانية" ص ٣٦٩، "تهذيب اللغة" (كلا) ٤/ ٣١٧٩، "لسان العرب" (كلا) ٧/ ٣٩٢٦.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" (كلا) ٤/ ٣١٧٩، "لسان العرب" (كلا) ٧/ ٣٩٢٦.
(٨) انظر: المراجع السابقة، "شرح كلا وبلى ونعم" ص ٢٦.
315
قال ابن الأنباري: (معنى ﴿كَلَّا﴾ في هذه الآية الذي احتج بها حقًا، كأنه قال: حقًّا إن الإنسان ليطغى، قال: ويجوز أن يكون بمعنى "لا" كأنه لا ليس الأمر على ما تظنون يا معشر الكفرة، كما قال: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة﴾ [القيامة: ١]، ولا راد لكلامه ثم ابتداء فقال: أقسم) هذا كلام أبي بكر (١). وقد ذكر سيبويه أن كلا بمعنى: (حقًّا) (٢).
وعلى هذا يجوز أن تكون بمعنى (أَلَا)، ولا يجوز على الوجه الذي ذكره أبو حاتم؛ لأنه يجعله افتتاحًا لا بمعنى حقًا. واختلفوا في الوقف على كلا؛ فقال أبو العباس أحمد بن يحيى: (لا يوقف على ﴿كَلَّا﴾ في جميع القرآن؛ لأنها جواب والفائدة تقع فيما بعدها) (٣). ومنهم من قال: (يوقف على ﴿كَلَّا﴾ في جميع القرآن) (٤). ومنهم من قال: (يوقف على ما قبل ﴿كَلَّا﴾ ويبتدأ بها) (٥).
فأما في هذه الآية فقال ابن الأنباري: (الوقف على ﴿كَلَّا﴾ جائز؛ لأن المعنى ليس الأمر) (٦). كذا قال، ويجوز أن يوقف على قوله:
(١) "تهذيب اللغة" (كلا) ٤/ ٣١٧٩، "شرح كلا وبلى ونعم" ص ٦١.
(٢) "الكتاب" ٢/ ٣١٢، "تهذيب اللغة" (كلا) ٤/ ٣١٧٩.
(٣) انظر: "القطع والائتناف" ص ٤٥٨، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص ٣٧٧، "تهذيب اللغة" (كلا) ٤/ ٣١٧٩، "شرح كلا وبلى ونعم" ص ١٩.
(٤) الجام ١١/ ١٤٧، "روح المعاني" ١٦/ ١٣١، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص ٣٧٧.
(٥) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٧، "روح المعاني" ١٦/ ١٣١، "المحتسب" ٢/ ٤٥، "شرح كلا وبلى ونعم" ص ١٩.
(٦) "تهذيب اللغة" (كلا) ٤/ ٣١٧٩، وقال مكي بن أبي طالب في شرح كلا وبلى ونعم ص ١٩: يوقف عليها إذا كان ما قبلها يرد وينكر، ويبتدأ بها إذا كان ما قبلها لا =
316
﴿عَهْدًا﴾ أي لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الله عهدا. ومنهم من قال: (معناه: ليس الأمر كما يظنه من أنه يؤتى المال والولد) (١).
وقوله تعالى: ﴿كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾ أي: سنأمر الحفظة بإثباته لنجازيه في الآخرة ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ نزيده عذابًا فوق العذاب.
٨٠ - وقوله تعالى: ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾ فيه قولان أحدهما: (نرثه ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطال ملكه). وهذا قول ابن عباس، وقتادة، وابن زيد (٢). ويدل عليه قراءة ابن مسعود: (ونرثه ما عنده) (٣). وما بعده من قوله: ﴿وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ يدل على هذا القول؛ أي: أنه يأتي الآخرة بلا مال ولا ولد. القول الثاني: ما قاله السدي قال: (نرثه أهله وماله الذي في الجنة) (٤). وهو قول الكلبي قال: ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾ في الجنة من الذهب والفضة والحرير فنجعله لغيره من المسلمين) (٥).
وعلى هذا معنى الآية: لا نعطيه ما يقول ونسلبه الذي آتيناه في الدنيا حتى يأتينا خاليًا منه. وهو قوله: ﴿وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ أي: خاليًا من الأموال والأولاد.
= يرد ولا ينكر، وتوصل بما قبلها وما بعدها إذا لم يكن قبلها كلام تام. وهذا المذهب أليق بمذهب القراء وحذاق أهل النظر، وهو الاختيار، وبه آخذ.
(١) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٧.
(٢) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٢، "جامع البيان" ١٦/ ١٢٣، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥١، "زاد المسير" ٥/ ٢٦١، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٦.
(٣) "تفسير القرآن" للصنعاني ١/ ١٣، "جامع البيان" ١٦/ ١٢٣، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٢٩، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥١.
(٤) ذكره في "زاد المسير" ٥/ ٢٦١ بدون نسبة، "أضواء البيان" ٤/ ٣٨٥.
(٥) "البحر المحيط" ٦/ ٢١٤، وذكره بدون نسبة "زاد المسير" ٥/ ٢٦١.
٨١ - قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ معنى العز: الامتناع من الضيم، والعزيز: المنيع من أن ينال بسؤ (١). والمعنى: عبدوها ليمتنعوا بها من عذابي.
قال أبو إسحاق: (﴿لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ أي: أعوانًا) (٢).
وقال الفراء: (ليكونوا له شفعاء في الآخرة) (٣). وهذا معنى قول ابن عباس: (ليمنعوهم مني) (٤). وذلك أنهم رجوا منها الشفاعة والنصرة والمنع من عذاب الله، ووحد العز؛ لأنه مصدر وكان من حق هذا المعنى أن يقال: واتخذوا من دون الله آلهة ليعزوا بها أعزة؛ لأنهم رجوا منها العز، ولكن جعلت الآلهة عزًا في اللفظ لحبهم عبادتها وقوة رجائهم في العز بها، فلغلوهم في حبها والطمع في الامتناع بها جعلت هي في اللفظ العز، وإن كانوا إنما يرجون العز بها في الحقيقة كما يقال: السخاء حاتم (٥)، والشعر زهير، والشجاعة عنترة، وهو لا يكونون نفس هذه الأحاديث وإنما توجد بهم.
(١) انظر: "تهذيب اللغة" (عز) ٣/ ٢٤١٩، "مقاييس اللغة" (عز) ٤/ ٣٨، "لسان العرب" (عزز) ٥/ ٢٩٢٥، "مختار الصحاح" (عزز) ص ٤٢٩.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٥.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧١.
(٤) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١٢٣، "بحر العلوم" ٢/ ٣٣٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٨، "مجمع البيان" ٥/ ٨١٧، "فتح القدير" ٣/ ٥٠٠.
(٥) حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، أبو عدي، شاعر جاهلي، اشتهر بالجود والكرم، والخلق والسماحة، ويضرب به المثل في جوده وكرمه، يتميز شعره بذكر السخاء والكرم، والحكم الجاهلية، توفي في السنة الثامنة بعد مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-. انظر: "الشعر والشعراء" ص ١٤٣، "تهذيب تاريخ ابن عساكر" ٣/ ٤٢٤، "الأعلام" ٢/ ١٥١، "إنباه الرواة" ٣/ ٣٢٠.
٨٢ - قال الله تعالى: ﴿كَلَّا﴾ قال ابن عباس: (يجحدون بعبادتهم) (١). وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن العابدين يجحدون أنهم عبدوها، وذلك لما رأوا من سوء عاقبتها (٢).
الثاني: تجحد الآلهة عبادة المشركين لها، كما قال الله في موضع آخر: ﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ [القصص: ٦٣] وذلك أن تلك الآلهة كانت جمادًا لا تعلم العبادة (٣). وقيل معناه: (ما كانوا إيانا يعبدون بأمرنا وإرادتنا) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ قال ابن عباس: (يقول أعوانًا) (٥).
(١) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١٢٣ "بحر العلوم" ٢/ ٣٣٣، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٦٢، "الكشاف" ٢/ ٥٢٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٨، "أنوار التنزيل" ٤/ ١٥.
(٢) "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٣١، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٨.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٣، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٣١، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٦٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٨.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٣، "التفسير الكبير" ١١/ ٢٥٠.
وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" ٤/ ٣٨٨: (والقرينة المرجحة لهذا القول أن الضمير في قوله: ﴿وَيَكُونُونَ﴾ راجع إلى المعبودات، وعليه فرجوع الضمير في ﴿يَكْفُرُونَ﴾ للمعبودات أظهر لانسجام الضمائر بعضها مع البعض، وتفريق الضمائر خلاف الظاهر والعلم عند الله تعالى).
(٥) "جامع البيان" ١١/ ٢٣٦، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٣٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٠١، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٦.
319
وهو اختيار أبي إسحاق قال: (أي يصيرون أعوانًا عليهم) (١).
وقال مجاهد: (تكون عونًا عليهم) (٢). وهو قول الفراء (٣). والمعنى: أن الأصنام التي عبدوها تكون أعوانًا على عابديها يكذبونهم ويلعنونهم ويتبرؤون منهم، وهو معنى قول عكرمة ﴿وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ قال: (أعداء) (٤). وهذا اللفظ اختيار ابن قتيبة قال في قوله: (ضِدًّا): (أي أعداء يوم القيامة وكانوا في الدنيا أولياءهم) (٥).
قال الأخفش: (الضَّد يكون واحد أو جماعة مثل الرَّصد والأَرْصَاد، قال: والرَّصَدُ يكون للجماعة) (٦). وروى ثعلب عن الفراء أنه قال: (معناه في التفسير: ويكونون عليهم عونًا) (٧). فلذلك وحده، يقال: فلان ضد فلان، إذا كان مخالفًا كالبياض ضد للسواد، فإذا قلت: فلان ضد على فلان، كان المعنى أنه مخالف معاد له.
وروى عن قتادة أنه قال في قوله: ﴿وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ قال: (قرناء في النار) (٨).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٥.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٤، "النكت والعيون" ٣/ ١٤١، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥١، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٦.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٢.
(٤) ذكرته كتب التفسير ونسبته إلى الضحاك.
انظر: "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٤، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤٨.
(٥) "تفسير غريب القرآن" ٢/ ٤.
(٦) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٢٨.
(٧) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٢، "تهذيب اللغة" (ضد) ٢/ ٢١٠٠.
(٨) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٢، "جامع البيان" ١٦/ ١٢٤، "النكت والعيون" =
320
والصحيح ما عليه الجماعة (١)، لقوله: ﴿عَلَيْهِمْ﴾ ولو قال لهم ضدا احتمل ما قاله قتادة؛ لأن الضد قد ورد في اللغة بمعنى مثل الشيء حكاه ابن السكيت عن أبي عمرو (٢)، فلما قال: ﴿وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ كان المعنى: أنهم عون عليهم أعداء لهم، ويبعد أن يفسر بالقرناء. قال ابن الأنباري: (ويجوز أن تكون الهاء في عليهم ترجع على الأصنام بتأويل ويكون الكفار على الأصنام ضد؛ لأنه يبيحون بعيبها ويخبرون بعجزها عند البراءة منها) (٣).
٨٣ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ قال الكلبي: (نزلت في المستهزئين بالقرآن) (٤). وذكر أبو إسحاق في قوله: ﴿أَرْسَلْنَا﴾ وجهين:
أحدهما: (أن المعنى خلينا الشياطين وإياهم فلم نعصمهم من القبول منهم) (٥).
قال أبو علي: (الإرسال يستعمل على معنى التخلية بين المرسل وبين
= ٣/ ٣٨٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٣٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥١.
(١) ويشهد لذلك قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٥، ٦]
(٢) "تهذيب اللغة" (ضد) ٢/ ٢٠٠.
(٣) ذكر نحوه بلا نسبة "الكشاف" ٢/ ٤٢٣، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٥، "الدر المصون" ٧/ ٦٤٠.
(٤) "بحر العلوم" ٢/ ٣٣٣.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٥.
321
ما يريد وليس يراد به معنى البعث، كما قال الراجز (١):
أَرْسَلَ فِيْهَا بَازِلًا يَقدمه
وَهُوَ بِهَا بخوا طَرِيْقًا يَعْلَمُه
يريد خلى، يريد: بين الفحل وبن طروقته ولم يمنعه منها. قال فمعنى الآية: خلينا بين الشياطين وبين الكافرين. أي: لم نعصمهم منهم ولم نعذهم، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان﴾ [الحجر: ٤٢]، [الإسراء: ٦٥] هذا كلام أبي علي في شرح أحد وجهي الإرسال (٢). وإلى هذا الوجه يذهب القدرية في معنى الآية. وليس المعنى على ما يذهبون إليه (٣).
(١) لم أهتد إلى قائله. بازلاً: يقال للبعير إذا استكمل السنة الثامنة وطعن في التاسعة وفطر نابه فهو حينئذ بازل، وهو أقصى أسنان البعير، وسميي بازلًا من البزل، ويقال للأنثى بازل وجمعها بوازل. بخبخة البعير: هدير يملأ الفم شقشقته.
انظر: "تهذيب اللغة" (بزل) ١/ ٣٢٨، "لسان العرب" (بزل) ١/ ٢٧٦.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) وقال الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" ٤/ ٣٨٩: أي: سلطانهم عليهم وقيضناهم لهم وهذا هو الصواب. خلافًا لمن زعم أن المعنى: ﴿أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ﴾ الآية، أي: خلينا بينهم وبينهم، ولم نعصمهم من شرهم. يقال أرسلت البعير أي: خليته.
قال الرازي في "تفسيره" ١١/ ٢٥١: وقد تعلق المجبرة بذلك لأن عندهم أن ضلال الكافر من قبله تعالى بأن خلق فيهم الكفر وقدر الكفر فلا تأثير لما يكون من الشيطان، وإذا بطل حمل اللفظ في ظاهره فلابد من التأويل فتحمله على أنه تعالى خلى بين الشياطين وبين الكفار وما منعهم من إغوائهم وهذه التخلية تسمى إرسالاً في سعة اللغة، وهذه التخلية وإن كان فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون من أن لا يقبلوا منهم ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم والدليل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾، =
322
قال أبو إسحاق: (والوجه الثاني وهو المختار: أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم كما قال: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦]، وكما قال: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ﴾ [فصلت: ٢٥] الآية. قال: ومعنى الإرسال هاهنا: التسليط، تقول: قد أرسلت فلانًا علي فلان، إذا سلطته عليه كما قال: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر: ٤٢] فأعلم أن من اتبعه هو مسلط عليه) (١). وقد بان بما ذكره أبو إسحاق أن الوجه في معنى الآية هذا.
وقوله تعالى: ﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ معنى الأز في اللغة: التحريك والتهييج (٢). قاله ابن الأعرابي وأبو عبيدة (٣)، وأنشد لرؤبة (٤):
= والله تعالى ما أرسل الشياطين إلى الكفار بل أرسلها عليهم والإرسال عليهم هو التسليط لا إرادة أن يصبر مستوليًا عليه..... وكما خلى بين الشياطين والكفرة فقد خلى بينهم وبين الأنبياء.
انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" ١/ ٣٤، "العقيدة الواسطية" ص ٥٨.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٥. انظر: "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٢، "أضواء البيان" ٤/ ٣٨٩.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (أز) ١/ ١٥٥، "مقاييس اللغة" (أز) ١/ ١٣، "القاموس المحيط" (أزت) (١٤٦)، "الصحاح" (أزز) ٣/ ٨٦٤، "لسان العرب" (أزز) ١/ ٧٢.
(٣) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١١، "تهذيب اللغة" (أز) ١/ ١٥٥.
(٤) البيت لرؤبة.
التأفيك: من الإفك وهو الكذب. والتحزي: التكهن. والطيخ: الجهل، ويطلق على الكبر.
انظر: "ديوانه" ص ٦٤، "مجاز القرآن" ٢/ ١١، "الجمهرة" ١/ ١٧، "تهذيب اللغة" (أز) ١/ ١٥٥، "لسان العرب" (أزز) ١/ ٧٢.
323
لاَ يَأْخُذُ التَّأْفِيْكُ والتَّحَزَّي فِيْنَا ولاَ طَيْخُ العِدَى ذُو الأَزَّ
ومنه يقال لغليان القدر: الأزيز، وذلك أن الماء يتحرك عند الغليان، ومنه الحديث: (إنه كان لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء) (١).
قال أبو عبيدة: (الأزيز الإلتهاب والحركة كالتهاب النار في الحطب، يقال: أُزَّ قِدْرَك، أي: ألهب تحتها النار، وائْتَزَّتِ القدر إذا اشتد غليانها) (٢).
وقال شمر: (أقرأنا ابن الأعرابي عن المفضل: أن لقيم بن لقمان قال لأبيه: اطْبَخْ جَزُورَكَ فَأُزَّ مَاء أو وغَلَّه حَتى ترى الكَرَاديْسَ (٣) كأنها رُؤُوس شُيُوخٍ صُلْعٍ، في كلام ذكر) (٤).
وقد حصل للأز معنيان، أحدهما: التحريك. والثاني: الإيقاد والإلهاب، وأحدهما قريب من الآخر. وكلام المفسرين غير خارج عن الأصلين، واختلفت عبارات ابن عباس وغيره في تفسير الأَزّ، فقال في
(١) أخرجه النسائي في "سننه" كتاب الصلاة، باب: البكاء في الصلاة ٣/ ١٣، وأبو داود في "سننه" كتاب الصلاة (١٥٧)، والإمام أحمد في "مسنده" ٤/ ٢٥ عن مطرق بن عبد الله عن أبيه، وأخرجه ابن ماجة في المقدمة ١/ ٣، والطبري في "جامع البيان" ١٦/ ١٢٥، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٣٢، وذكره القرطبي في "تفسيره" ١٦/ ١٥٠، وذكره ابن حجر في "فتح الباري" ٢/ ٢٠٦، وقال: الحديث رواه أبو داود والنسائي والترمذي في "الشمائل" وإسناده قوي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووهم من زعم أن سلمًا أخرجه.
(٢) "تهذيب اللغة" (أز) ١/ ١٥٥.
(٣) الكَرَادِيس: رؤوس العظام، واحدها: كردوس. ولك عظم تام ضخم فهو كردوس. انظر: "تهذيب اللغة" (كردس) ٤/ ٣١٢٢، "مقاييس اللغة" (الكردوس) ٥/ ١٩٤، "القاموس المحيط" (الكردوسة) (٥٧٠)، "اللسان" (كردس) ٧/ ٣٨٥٠.
(٤) "تهذيب اللغة" (أز) ١/ ١٥٥، "لسان العرب" (أزز) ١/ ٧٢.
324
رواية الوالبي: (﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ أي: تغويهم إغواء) (١). وهو قول سعيد بن جبير (٢)، وسفيان (٣)، ومجاهد إلا أنه ذكر لفظًا آخر فقال: (تشليهم أشلًا) (٤). وقال في رواية الضحاك: (تحرضهم تحريضًا) (٥). وقال في رواية عطاء: (تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا) (٦). وهو قول قتادة (٧)، واختيار أبي إسحاق، وابن قتيبة (٨).
وروى ميمون بن مهران أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: (أخبرني عن قول الله: ﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ قال: توقدهم) (٩).
والمعنى أنها تحركهم كما تحرك الماء بالإيقاد تحته، وهذا كما قال الأخفش والمؤرج: (توهجهم وتحركهم) (١٠).
(١) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٥، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٩، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٥٠.
(٢) "الكشف والبيان" ٣/ ٩ أ.
(٣) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤١.
(٤) "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٣٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٢، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٧، "أضواء البيان" ٤/ ٣٨٩.
(٥) ذكرت كتب التفسير نحوه بدون نسبة.
انظر: "الكشف والبيان" ٣/ ٩ أ، "لباب التأويل" ٤/ ٢٦٠، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٧، "روح المعاني" ١٦/ ١٣٤، "فتح القدير" ٣/ ٥٠١.
(٦) "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٥٠.
(٧) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٢، "جامع البيان" ١٦/ ١٢٥، "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٩ "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥١، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٧.
(٨) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٥، "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ٢/ ٤.
(٩) "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٧ وعزاه لابن الأنباري.
(١٠) ذكرته كتب اللغة بدون نسبة.
325
وقال الضحاك: (تأمرهم أمرًا) (١). وهذا أضعف العبارات.
٨٤ - قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ أي: بطلب العذاب لهم ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ أي: أجلناهم إلى أجل يبلغونه بالعدد. وروي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ قال: (أنفاسهم التي (٢) يتنفسون في الدنيا فهي معدودة كستيهم وآجالهم) (٣). وقال في رواية عطاء: (يريد الأنفاس) (٤). وقال الكلبي: (﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ الليالي والأيام والشهور والسنين والساعات) (٥). والمعنى: أنا لم نغفل عنهم نعد لهم هذه الأشياء إلى الأجل الذي أجلنا لعذابهم، وهذا من أبلغ الوعيد. ومثله: كقول عمرو بن معد يكرب في الوعيد والتهديد (٦):
أَغْنَى عَنَا المَيْتِين أَعُدُّ الأَعْدَاء عَدًا
قيل في تفسيره: أعدا أنفاسهم لأنتهز الفرصة في الإيقاع بهم. والمعنى: لا أغفلهم، وهذا مأخوذ من الآية.
= انظر: "تهذيب اللغة" (أز) ١٣/ ٢٨٠، "مقاييس اللغة" (أز) ١/ ١٣، "القاموس المحيط" (أزت) ص ٥٠٢، "لسان العرب" (أزز) ١/ ٧٢، "الصحاح" (أزز) ٣/ ٨٦٤، "تاج العروس" (أزز) ٨/ ٧.
(١) "بحر العلوم" ٢/ ٣٣٣، "الكشف والبيان" ٣/ ٩ أ.
(٢) قوله: (التي)، ساقط من (ص).
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٢، "الدر المنثور" ٤/ ٥١٧.
(٤) "زاد المسير" ٥/ ٢٦٢.
(٥) "النكت والعيون" ٣/ ٣٨٩، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٥ "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٥٠.
(٦) لم أهتد إليه.
٨٥ - وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ﴾ أي: اذكر لهم يا محمد هذا اليوم الذي يجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته واجتناب معاصيه إلى الجنة، هذا معنى قوله: ﴿إِلَى الرَّحْمَنِ﴾ أي: إلى جنته ومحل كرامته، قاله قتادة (١). ﴿وَفدًا﴾ قال الفراء، والأصمعي (﴿وَفدًا﴾ الوَفْدُ، يَفِدُ، وَفْدًا، وَوِفَادَةً، وَوُفُودًا إذا خرج إلى ملك وأمير في فتح أوامر، ويقال: وَفَّدَ الأمير إلى الذي فوقه وأَوْفَدَ) (٢).
قال الفراء: (والوَفْدُ اسم الوَافدِين كما قالوا: صوم وفطر وزور) (٣). وقال ابن قتيبة: (الوَفْدُ جمع الوَافِدِ، كما يقال: رَاكِب ورَكْب، وصَاحِب وصَحْب) (٤). قال ابن عباس في رواية الوالبي: (وفدا: ركبانًا) (٥). وقال أبو هريرة: (على الإبل) (٦).
وقال سفيان: (على النوق) (٧). وجمع ابن عباس في رواية عطاء بين
(١) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٣، "جامع البيان" ١٦/ ١٢٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٢، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٨.
(٢) "تهذيب اللغة" (وفد) ٤/ ٣٩٢٥، "تاج العروس" (وفد) ٥/ ٣٢٢.
(٣) ذكرت كتب اللغة نحوه.
انظر: "تهذيب اللغة" (وفد) ٤/ ٣٩٢٥، "تاج العروس" (وفد) ٥/ ٣٢٢، "لسان العرب" (وفد) ٨/ ٤٨٨١.
(٤) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ٢/ ٤.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٧، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٦٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٥٢، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٨.
(٦) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٧، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٥،"تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٢، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٨.
(٧) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٧، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٢، "أضواء البيان" ٤/ ٣٩١.
327
هذه الأقوال فقال: (من كان يحب ركوب الخيل وفد إلى الله على خيل، لا تَرُوث، ولا تبول، لَجْمُها (١) من الياقوت (٢) الأحمر، ومن الزَّبَرْجَد (٣) الأخضر، ومن الدّر (٤) الأبيض وسُرُوحُهَا (٥) من السندس (٦)، ومن كان
(١) لَجْمَة الدابة: موقع اللجَام من وجهها. واللَّجَام: حبل أو عصا تدخل في فم الدابة وتلزق إلى قفاه.
انظر: "تهذيب اللغة" (لجم) ٤/ ٣٢٣٨، "الصحاح" (لجم) ٥/ ٢٠٢٧، "لسان العرب" (لجم) ٧/ ٤٠٠١.
(٢) اليَاقُوت: حجر من الأحجار الكريمة، وهو أكثر المعادن صلابة بعد الماس. ويستعمل للزينة. وهو فاعول الواحدة ياقوتة والجمع اليواقيت. انظر: "الصحاح" (يقت) ١/ ٢٧١، "المعجم الوسيط" (الياقوت) ٢/ ١٠٦٥، "لسان العرب" (يقت) ٨/ ٤٩٦٤.
(٣) الزَّبَرْجد: حجر كريم يشبه الزمرد، ويستعمل للزينة، وهو من الجواهر المعروفة. انظر: "تهذيب اللغة" (زبرجد) ٢/ ١٥٠٨، "لسان العرب" (زبرجد) ٣/ ١٨٠٦، "المعجم الوسيط" (الزبرجد) ١/ ٣٨٨، "مختار الصحاح" (الزبرجد) ص ١١٣.
(٤) الدُّر: العظام من اللؤلؤ، الواحدة درة، ومنه الكوكب الدري نسبة إلى الدر في صفائه وحسنه.
انظر: "تهذيب اللغة" (درر) ٢/ ١١٧٢، "مقاييس اللغة" (در) ٢/ ٢٥٥، "لسان العرب" (درأ) ٣/ ١٣٤٧، "القاموس المحيط" (الدر) ص ٣٩١.
(٥) السَّرِيْح: السير الذي تشد به الخدمة فوق الرسغ، والسرائح والسرح: نعال الإبل، وقيل سيور نعالها كل سير منها سريحة
انظر: "تهذيب اللغة" (سرح) ٢/ ١٦٦٥، "القاموس المحيط" (السرح) ١/ ٢٢٣، "لسان العرب" (سرح) ٤/ ١٩٨٤.
(٦) السُّندس: رقيق الديباج ورفيعه. والاستبرق: غليظ الديباج.
انظر: "تهذيب اللغة" (سندس) ٢/ ١٧٧٢، "القاموس المحيط" (السندس) ص ٥٥١، "لسان العرب" (سندس) ٤/ ٢١١٧، "المعجم الوسيط" (السندس) ١/ ٤٥٤.
328
يحب ركوب الإبل فعلى نَجَائِب (١) لا تبعر ولا تبول، أَزِمَّتُها (٢) الياقوت والزبرجد، ومن كان يحب ركوب السفن فعلى سفن من زبرجد وياقوت قد أمنوا الغرق وأمنوا الأهوال) (٣)
وقال أهل اللغة: (الوفد: الركبان المكرمون) (٤).
وإلى هذا ذهب الربيع بن أنس فقال في قوله: ﴿وَفْدًا﴾ قال: (يُحيَّون ويعطون ويكرمون ويشفعون) (٥).
قال صاحب النظم: (هذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء؛ لأن قوله: ﴿وَفدًا﴾ دليل على أنهم يثابون ويجزون؛ لأن الوفد هم الرسل يقدمون على الملوك بالصلح وبالفتوح والبشارات فهم يتوقعون الجوائز، وكذلك أهل الجنة بهذه الحال) (٦).
وقال أصحاب العربية: (اسم الوفد لا يقع إلا على الركبان؛ لأن
(١) النَّجِيْبُ من الإبل: القوي منها، الخفيف السريع.
انظر: "تهذيب اللغة" (نجب) ٤/ ٣٥١١، "القاموس المحيط" (النجيب) ص ١٣٦، "لسان العرب" (نجب) ٧/ ٤٣٤٢، "مختار الصحاح" (نجب) ص ٢٦٩.
(٢) الزَّمَام: الخيط الذي يشد في البرة، أو في الخشاش ثم يشد في طرفه المقود، وزَمَمْتُ البعير: خطمته.
انظر: "تهذيب اللغة" (زم) ٢/ ١٥٥٩، "الصحاح" (زمم) ٥/ ١٩٤٤، "لسان العرب" (زمم) ٣/ ١٨٦٥، "المعجم الوسيط" (الزمام) ١/ ٤٠١.
(٣) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٥١.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٢، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٦، "تهذيب اللغة" (وفد) ٤/ ٣٩٢٥.
(٥) "بحر العلوم" ٢/ ٣٣، "الكشف والبيان" ٣/ ١٣ أ، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٨.
(٦) ذكر نحوه الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٤٢٣ بلا نسبة، وكذلك أبو حيان في "البحر المحيط" ٦/ ٢١٦.
329
اشتقاقه من قولهم أوفد على الشيء إذا أشرف عليه، وأنشدوا (١):
تَرَى العِلاَفِيَّ عَلَيْهَا مُوْفَدًا كَأَنَّ بُرْجًا فَوْقَهَا مُشَيَّدَا
ويقال: رأيت فلانًا مسْتَوْفِدًا إذا قعد منتصبًا غير مطمئن. فهذا الاسم من حيث الاشتقاق يدل على أنه يقع على الركبان؛ لأنهم أشرفوا علي مركوبهم) (٢).
ويدل على صحة هذا ما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: (لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله قد رأيت الملوك ووفودهم، فلم أرى وفدًا إلا ركبانًا فما وفد الله؟ الحديث بطوله) (٣). ومن حيث العرف يدل على أن هذا
(١) لم أهتد إلى قائله. ورود البيت في كتب اللغة والمعاجم.
العِلاَفَّي: هو الرجل المنسوب إلى علاف، رجل من الأزد وهو زبان أبو جرم من قضاعة كان يصنع الرحال، وقيل هو أول من عملها فقيل لها علافية لذلك.
انظر: "تهذيب اللغة" (وفد) ٤/ ٣٩٢٥، "لسان العرب" (وفد) ٨/ ٤٨٨١.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (وفد) ٤/ ٣٩٢٥، "مقاييس اللغة" (وفد) ٦/ ١٢٩، "الصحاح" (وفد) ٢/ ٥٥٣، "لسان العرب" (وفد) ٨/ ٤٨٨١، "المفردات في غريب القرآن" (وفد) ص ٥٢٨.
(٣) رواه ابن كثير في "تفسيره" ٣/ ١٤١ عن ابن أبي حاتم وقال: وروى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا غريبًا جدًا مرفوعًا عن علي -ثم ذكر الحديث وقال في نهايته- هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعًا رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه بنحوه وهو أشبه بالصحة والله أعلم.
وأخرجه السيوطي في "الدر" ٤/ ٥٠٨، وعزاه لابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طرق عن علي، وذكره القرطبي ١١/ ١٥٢، والألوسي في "روح المعاني" ١٦/ ١٣٥. وأخرج نحوه ابن أبي شيبة في "مصنفه" كتاب الجنة ١٢/ ١٦١، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٧٧ وصححه، وتعقبه الذهبي لضعف عبد الرحمن بن إسحاق، وأخرج نحوه الإمام أحمد في "مسنده" ١/ ١٥٥.
330
الاسم يقع على من يُحيَّا ويكرم كما ذكره صاحب النظم، فإذا معنى الوفد: الركبان المكرمون، كما ذكره أهل اللغة، وهو اختيار أبي إسحاق (١).
٨٦ - قوله تعالى: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ﴾ قال ابن عباس في رواية الضحاك: (الكافرين) (٢) ﴿إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ قال جماعة أهل التفسير: (عطاشا) (٣). وزاد أبو عبيدة والفراء، والزجاج: (مشاة) (٤). والوُرُوْدُ في اللغة معناه: الجماعة التي تَرِد الماء من طير أو إبل (٥).
قال ابن السكيت: (الوِرْدُ وُرُوْدُ القوم الماء، والوِرْدُ الماء الذي يُوْرَدُ، والوِرْدُ الإبل الوَارِدَة) (٦).
قال رؤبة (٧):
لَوْ دَقَّ وِرْدِي حَوْضَه لَمْ يَنْدَهِ
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٦.
(٢) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١٢٧، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٥، "زاد المسير" ٥/ ٢٦٤، "لباب التأويل" ٤/ ٢٦٠.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٧، "النكت والعيون" ٣/ ٣٩٠، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٣٥، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٥، "ابن كثير" ٣/ ١٥٣، "الدر المنثور" ٤/ ٥٠٩.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٢، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٦.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" (ورد) ٤/ ٣٨٦٩، "مقاييس اللغة" (ورد) ٦/ ١٠٥، "الصحاح" (ورد) ٢/ ٥٤٩، "لسان العرب" (ورد) ٨/ ٤٨١٠، "المفردات في غريب القرآن" (ورد) ص ٥١٩.
(٦) "تهذيب اللغة" (ورد) ٤/ ٣٨٦٩، "لسان العرب" (ورد) ٨/ ٤٨١٠
(٧) البيت لرؤبة. لم ينده: النده الزجر عن كل شيء والطرد عنه بالصياح تقول: ندهت البعير إذا زجرته عون الحوض وغيره.
انظر: "تهذيب اللغة" (ورد) ٤/ ٣٨٦٩، "لسان العرب" (ورد) ٨/ ٤٨١٠.
قال صاحب النظم: (هذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء؛ لأن الوِرْد وُرُوْد الماء، ولا يَرِدُ أحدًا الماء إلا بعد العطش ليشرب، فأوماء بهذا إلى أنهم عطاش يساقون إلى النار) (١). ومضى الكلام في الورد عند قوله: ﴿وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ [هود: ٩٨].
٨٧ - قوله تعالى: ﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة﴾ أي: لا يملك هؤلاء الكافرون الشفاعة. والمعنى: لا يشفعون ولا يشفع لهم حين يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض وهو قول: ﴿إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ﴾ و ﴿مِّن﴾ في موضع نصب على استثناء ليس من الأول على معنى: لا يملك الشفاعة المجرمون، ثم قال: ﴿عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ على معنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهدًا فإنه يملك الشفاعة (٢).
قال ابن عباس في رواية الوالبي: (العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله) (٣).
ومضى الكلام في تفسير اتخاذ العهد عند قوله: ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ [مريم: ٧٨].
٨٨ - قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا﴾ يعني: اليهود،
(١) ذكرت كتب التفسير نحوه بلا نسبة.
انظر: "الكشاف" ٢/ ٤٢٣، "زاد المسير" ٥/ ٢٦٤، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٧، "روح المعاني" ١٦/ ١٣٦، "لسان العرب" (ورد) ٨/ ٤٨١٠.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٨، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٣٦، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٧، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٦، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١١٧ "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٢٦.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٨، "المحرر الوجيز" ١١/ ٥٧، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٥٤، "الدر المنثور" ٤/ ٥١٠.
والنصارى، ومن زعم من المشركين أن الملائكة بنات الله.
٨٩ - قال الله تعالى مخاطبًا لهم: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا﴾ أي: (عظيمًا)، في قول ابن عباس، وجميع المفسرين (١). قال الراجز (٢):
قَدْ لَقِي الأَعْدَاءُ مِنَّي مُنْكرَا
دَاهِيَةً دَهْيَاءَ إِدًا إِمْرَا
قال الفراء، والزجاج: (يقال: إِدًّا وأَدًّا، وهي قراءة السلمي (٣) (٤)، وآدّ بوزن: مَاد ومعناه: الشيء العظيم) (٥). وأنشد الليث لرؤبة (٦):
وَالإِدَدَ الإِدَادَ وَالعَضَائِلاَ
(١) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٣، "جامع البيان" ١٦/ ١٢٩، "النكت والعيون" ٣/ ٣٩٠، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٥، "ابن كثير" ٣/ ١٥٣، "الدر المنثور" ٤/ ٥١١.
(٢) لم أهتد إلى قائله. وذكرته كتب التفسير واللغة بدون نسبة.
انظر: "جامع البيان" ١٦/ ١٢٩، "النكت والعيون" ١٣/ ٣٢٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٩، "مجاز القرآن" ١/ ٤٠٩، "الدر المصون" ٧/ ٥٢٨، "شواهد الكشاف" ص ١٣٠، "لسان العرب" (أمر) ١/ ١٢٩.
(٣) عبد الله بن حبيب بن ربيعة، أبو عبد الرحمن السلمي، من كبار التابعين، ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولأبيه صحبة، قرأ القرآن وجوده وعرضه على عثمان، وعلي، وابن مسعود -رضي الله عنهم- وروى عن عدد من الصحابة، توفي -رحمه الله- سنة ٧٤ هـ.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ١٧٢، "الجرح والتعديل" ٥/ ٣٧، "تذكرة الحفاظ" ١/ ٥٨، "غاية المنتهى" ١/ ٤١٣، "معرفة القراء الكبار" ١/ ٥٢، "سير أعلام النبلاء" ٤/ ٢٦٧.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ١٢٩، "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٤٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٥٦، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٨، "المحتسب" ٢/ ٤٥.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٣، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٤٦.
(٦) البيت لرؤبة. انظر: "تهذيب اللغة" (أد) ١/ ١٣٣، "لسان العرب" (أدد) ١/ ٤٣.
قال: (وواحد الإِدَد إِدَّة، وواحد الأَدَاد أَدّ) (١). ومعنى الآية: قلتم قولًا عظيمًا.
٩٠ - قوله تعالى: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ﴾ وقرئ: بالياء (٢). وكلاهما حسن، وقد تقدم ذلك.
قال أبو علي: (إلحاق علامة التأنيث أحسن؛ لأن الجمع بالألف والتاء في الأصل للجمع القليل، والجمع القليل يشبه الآحاد، وكما أن الأحسن في الآحاد إلحاق العلامة في هذا النحو فكذلك مع الألف والتاء) (٣).
وأهل التأويل على أن المعنى ﴿تَكَادُ﴾ هاهنا: تدنو من الانشقاق، كما يقال: كاد يفعل ذلك إذا دنا من أن يفعله. وزعم أبو الحسن الأخفش أن ﴿تَكَادُ﴾ هاهنا معناه: نريد من غير دنو فقال: (هممن به إعظامًا لقول المشركين، ولا يكون من هم بالشيء أن يدنو منه، ألا ترى أن رجلاً لو أراد أن ينال السماء لم يدن من ذلك وقد كانت منه إرادة، ونحو هذا قال في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُف﴾ [يوسف: ٧٦]، أي: أردنا له) (٤)، وأنشد:
كَادَتْ وَكِدْتُ وَتِلْكَ خَيْرُ إِرَادَةٍ لَوْ عَادَ مِنْ لَهْمِ الصَّبَابَةِ مَا مَضَى (٥).
(١) "تهذيب اللغة" (أد) ١/ ١٣٣، "لسان العرب" (أدد) ١/ ٤٣.
(٢) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة: (تكاد) بالتاء. وقرأ نافع، والكسائي، (يكاد) بالياء.
انظر "السبعة" ص ٤١٣، "الحجة" ٥/ ٢١٣، "التبصرة" ص ٢٥٧، "النشر" ٢/ ٣١٩.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١٤.
(٤) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٢٧، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١٥، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٩.
(٥) لم أهتد لقائله. وورد البيت في كتب التفسير واللغة. =
334
وقوله تعالي: ﴿يَتَفَطَّرْن﴾ وقرئ: ينفطرن (١). ومعناهما واحد، يقال: انفطر الشيء، وتفطر: إذا تشقق. قال امرئ القيس (٢):
كَخُرْعُوْبَةِ البَانَةِ المُنفَطِرْ
إلا أن انفَطَر مطاوع فَطَر، وتَفَطَّر مطاوع فَطَّر، واختار أبو عبيدة ينفطرن بالنون (٣)، لقوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الانفطار: ١]، وقوله: ﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾ [المزمل: ١٨].
قال أبو علي: (وهذا لا يدل على ترجيح هذه القراءة؛ لأن ذلك في القيامة لما يريد الله سبحانه من إبادتها وإفنائها. وما في هذه السورة إنما هو لعظم فِرْيتهم وعُتوهم في كفرهم. والمعنيان مختلفان، وتفطر بهذا الموضع
= انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١٥، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٨، "الدر المصون" ٧/ ٦٤٧، "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٢٧، "المحتسب" ٢/ ٣١، "الأضداد" لابن الأنباري ص ٩٧، "لسان العرب" (كيد) ٧/ ٣٩٦٦..
(١) قرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، وابن عامر: (ينفطرن) بالنون والتخفيف. وقرأ حفص عن عاصم، وابن كثير، ونافع، والكسائي: (يتفطرن) بالتاء والتشديد.
انظر: "السبعة" ص ٤١٣، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١٤، "التبصرة" ص ٢٥٧، "العنوان في القراءات" ١٢٧.
(٢) هذا عجز بيت لامرئ القيس يصف فرسه وخروجه إلى الصيد، وصدره:
بَرَهْرَهَةُ رُودَةُ رَخْصَةُ
البَرَهْرَهَة: الرقيقة الجلد وقيل الملساء المترجرجة والرُوْدَة: الرخصة الناعمة، والخُرْعُوْبَة: القضيب الغض، والغض المنثني.
انظر: "ديوانه" ص ٦٩، "تهذيب اللغة" (الخرعبة) ١/ ١٠١٤، "لسان العرب" (خرعب) ٢/ ١١٣٨.
(٣) "مجاز القرآن" لأي عبيدة ٢/ ١٢، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٢٨.
335
أليق من انفطر، لما فيه من معنى المبالغة، لأنه يدل على الكثرة، كما أن فطر يدل على التكثير) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾ تخر: تسقط. وقد مضى الكلام فيه (٢). والهد: الكسر الشديد والهدم، يقال: هّدَّنِي هذا الأمر وهَدّ ركني (٣).
قال ابن عباس في رواية الوالبي: (هدما) (٤). وروي عنه: (كسرًا) (٥). وهو قول الفراء (٦).
وقال أبو عبيدة: (سقوطًا) (٧). وهو اختيار القتبي (٨).
قال المفسرون: (لما قالوا ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ اقشعرت الأرض، وشاك الشجر (٩)، وغضبت الملائكة، واستعرت جنهم، وفزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين) (١٠).
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١٤.
(٢) عند قوله سبحانه: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ الآية [الأعراف: ١٤٣].
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" (هد) ٤/ ٣٧٢٨، "مقاييس اللغة" (هد) ٦/ ٧، "القاموس المحيط" (الهد) ص ٣٢٨، "الصحاح" (هدد) ٢/ ٥٥٥، "المفردات في غريب القرآن" (هدد) ص ٥٣٨.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ١٣٠، "تفسير ابن كثير" ٣/ ١٥٤، "القرطبي" ١١/ ١٥٧.
(٥) "الكشف والبيان" ٣/ ١٣ ب، وذكره "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٦ بدون نسبة، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٤، "فتح القدير" ٣/ ٥٠٣.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٣.
(٧) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١٢.
(٨) "تفسير غريب القرآن" ٢/ ٤.
(٩) صار ذا شوكٍ.
(١٠) "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٣٩، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٦، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٥٨.
336
قال ابن عباس في رواية عطاء: (فلما كادت السموات أن تنشق، والأرض أن تنشق، والجبال أن تنهد اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار والبحار وما فيها من الحيتان، فصار في الحيتان الشوك، وفي الأشجار الشوك) (١). هذا كلام المفسرين.
وذهب أهل المعاني: (إلى أن هذا مثل على عادة العرب، وذلك أن العرب كانت إذا سمعت كذبًا ومنكرًا تعاظمته عظمته بالمثل الذي كان عندها عظيمًا فتقول: كادت الأرض تنشق، واظلم على ما بين السماء والأرض، فلما افتروا على الله الكذب ضرب مثل كذبهم بأهول الأشياء وأعظمها) (٢).
ومما يقرب من هذا قول الشاعر (٣):
أَلَمْ تَرَ صَدْعًا في السَّمَاءِ مُبَيَّنًا عَلَى ابْنِ لُبَيْنَى الحَارِثِ بنِ هِشَام
وقول الآخر (٤):
وَأَصبَحَ بَطْنُ مَكَّةَ مُقْشَعِرًّا كَأَنَّ الأَرْضَ لَيْسَ بِهَا هِشَام
(١) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٥٨.
(٢) "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٤١، "الكشاف" ٢/ ٤٢٤، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٨، "التفسير الكبير" ٢١/ ٢٥٤، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١٥.
(٣) لم أهتد إلى قائله. وقد ورد البيت في كتب التفسير.
انظر: "المحرر الوجيز" ٩/ ٥٤١، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٨، "ورح المعاني" ١٦/ ١٤١، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١٦.
(٤) البيت للحارث بن خالد بن العاص.
انظر: "البحر المحيط" ٦/ ٢١٨، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١٦، "الاشتقاق" ص ١٠١، "الكامل" ٢/ ٤٨٧، "التصريح" ١/ ٢١٢، "لسان العرب" (قثم) ٦/ ٣٥٣٤.
337
وقول آخر (١):
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْر تَوَاضَعَتْ سُوْرُ المَدِيْنَةِ وَالجِبَالُ الخُشَّعُ
٩١ - قوله تعالى: ﴿أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾ قال الفراء: (أن دعوا، ولأن دعوا وموضع ﴿أَن﴾ نصب بسقوط الخافض) (٢). وقال الكسائي: (موضعها خفض) (٣). وهذه المسألة قد تقدمت. ومعنى: دعوا له ولدًا سموًا له ولدًا، وجعلوا له ولدًا. أنشد ابن الأعرابي على هذا (٤):
أَلاَ رُبَّ منْ تَدْعْو صدِيْقًا وَإِنْ تَرَى مَقَاَلَته بِالغَيْبِ يَأتِيْكَ مَا يفْرِي
قال: يريد تدعو: تحقق صداقته وتجعله صديقًا.
٩٢ - قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ أي: لا يليق به اتخاذ الولد؛ لأن اتخاذ الولد يقتضي مجانسة وكل من اتخذ ولدًا اتخذه من جنسه والله تعالى منزه من أن يجانس شيئًا أو يجانسه شيء، محال في وصفه اتخاذ الولد، وقال المفسرون في قوله: ﴿وَمَا يَنْبَغِي﴾ (وما يصلح) (٥). وهذه اللفظة لا يستعمل منها المصدر والفاعل، وقد استعمل
(١) البيت لجرير، قاله في قصيدة يهجو بها الفرزدق. انظر: "ديوان جرير" ص ٢٧٠، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢١٦، "البحر المحيط" ٦/ ٢١٨، "لسان العرب" (حرث) ٢/ ٨٢١.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٣.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٧٣، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٢٨، "الدر المصون" ٧/ ٦٤٨.
(٤) لم أهتد لقائله.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ١٣١، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٦٥، "فتح القدير" ٣/ ٥٠٣.
منها الماضي نادرًا
قوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ﴾ أي: ما كل ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من فيها من الملائكة ﴿الْأَرْضِ﴾ من فيها من الخلق ﴿إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ﴾ إلا يأتيه يوم ﴿عَبْدًا﴾ ذليلًا خاضعًا منقادًا يعني: أن الخلق عبيده، وأن عيسى وعزيرًا من جملة العبيد، وانتصب ﴿عَبْدًا﴾ على الحال ﴿لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا﴾ أي: عرف عددهم ﴿وَعَدَّهُمْ عَدًّا﴾ لا يخفى عليه مبلغ جمعهم، ولا واحد منهم مع كثرتهم ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ بلا مال ولا معه شيء من الدنيا (١). وقيل -وهو الصحيح-: (أنه يأتي وحده لا أنصار له ولا أعوان؛ لاشتغال كل واحد بنفسه) (٢).
٩٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ أي: يجعلهم يحب بعضهم بعضًا، فيتراحمون ويتعاطفون بما جعل الله لبعضهم في قلوب بعض.
قال ابن عباس: (يحبهم ويحببهم إلى المؤمنين) (٣). ونحو هذا قال مجاهد، وقتادة (٤).
(١) "بحر العلوم" ٢/ ٣٣٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٦٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٦٠.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ١٣٢، "معالم التنزيل" ٢٥٧/ ٥، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٤.
(٣) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٤، "جامع البيان" ١٦/ ١٣٢، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٤٤، "زاد المسير" ٥/ ٢٦٦، "الدر المنثور" ٤/ ٥٨٢.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ١٣٢، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٧ "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٤.
339
وقال هرم بن حيان (١): (ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه محبتهم ومودتهم ورحمتهم) (٢). وقال بعضهم: (يجعل لهم في قلوب الملائكة ودا ثم في قلوب العباد) (٣).
وهذا مروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة قال: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل إني قد أحببت فلانًا فأحبه، قال: فينادي في السماء، ثم تنول له المحبة في أهل الأرض" (٤). فذلك قول الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية. قال عطاء عن ابن عباس: (نزلت الآية في عبد الرحمن بن عوف جعل الله له في قلوب العباد المودة لا يلقاه مؤمن إلى وقره، ولا مشرك ولا منافق إلا عظمه) (٥).
(١) هرم بن حيان الأزدي، العبدي، أحد التابعين روى عن بعض الصحابة مثل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وروى عنه الحسن البصري، اشتهر بكثرة العبادة والزهد.
انظر: "الجرح والتعديل" ٩/ ١١٠، "الثقات" لابن حبان ٧/ ٥٥٨، "التاريخ الكبير" ٤/ ٢٤٢، "الطبقات الكبرى" ٧/ ١٠٢.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ١٣٣ "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٤ "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٦١.
(٣) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٦١، "البحر المحيط" ٦/ ٢٢٠، "التفسير الكبير" ٢١/ ٢٥٦.
(٤) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة ٦/ ٣٠٣، ومسلم في البر والصلة، باب: إذا أحب الله عبدًا حببه إلى عباده ٤/ ٢٠٣٠، والإمام أحمد في "مسنده" ٩٢/ ٢٦٧، وانظر: ابن كثير ٣/ ١٥٤، و"الدر المنثور" ٤/ ٥١٣.
(٥) "القرطبي" ١١/ ١٦١، وذكره نحوه "جامع البيان" ٦/ ١٣٣، وابن كثير ٣/ ١٥٤، وقال: روي أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف وهو خطأ فإن هذه السورة بكاملها مكية لم ينزل منها شيء بعد الهجرة ولم يصح سند ذلك والله أعلم. انظر في "لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي ص ١٤٦، "جامع النقول في أسباب النزول" ص ٢١٤.
340
وعلى هذا القول قال ابن الأنباري: (سمي الواحد باسم الجمع لدخول من فعل مثل فعله في مثل وصفه وحسن جزائه) (١).
٩٧ - قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ﴾ أي: هوناه وأنزلناه بلغتك ليسهل عليك الإبلاغ ﴿لِتُبَشِّرَ بِه﴾ أي: بالقرآن من أطاعك ﴿وَتُنْذِر﴾ من عصاك. وقال الكلبي: (هوناه على لسانك) (٢). وعلى هذا لم يرد باللسان اللغة.
وقوله تعالى ﴿قَوْمًا لُدًّا﴾ قال أبو صالح (٣): (عوجًا عن الحق) (٤).
وقال مجاهد: (لا يستقيمون) (٥). وقال قتادة: (جدلًا بالباطل) (٦).
وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: ﴿أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ [البقرة: ٢٠٤]. وروي عن الحسن أنه قال في "تفسيره": (صما) (٧). وزاد الربيع بيانًا فقال: (صم آذان القلوب) (٨).
(١) ذكر نحوه في "المذكر والمؤنث" ص٦٧١.
(٢) ذكرت نحوه كتب التفسير بدون نسبة.
انظر "بحر العلوم" ٢/ ٣٣٤، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٨، "زاد المسير" ٥/ ٢٦٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٦٢، "لباب التأويل" ٤/ ٢٦٢.
(٣) هو باذام الهاشمي، مولى أم هانئ بنت أبي طالب. ، تقدم
(٤) "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٥، "البحر المحيط" ٦/ ٢٢١، "روح المعاني" ١٦/ ١٤٤، "تفسير سفيان الثوري" ص ١٩٠.
(٥) "جامع البيان" ١٦/ ١٣٢، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٥، "الدر المنثور" ٤/ ٥١٣.
(٦) "تفسير القرآن" للصنعاني ٢/ ١٤، "جامع البيان" ١٦/ ١٣٢، "النكت والعيون" ٣/ ٣٩١، "الدر المنثور" ٤/ ٥١٣.
(٧) "جامع البيان" ١٦/ ١٣٥، "معالم التنزيل" ٥/ ٢٥٨، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٦٢، "الدر المنثور" ٤/ ٥١٣.
(٨) "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٦٢، "الكشف والبيان" ٣/ ١٤ ب، وذكره ابن =
341
وهذه الأقوال كلها معنى وليس بتفسير. والتفسير قول قتادة، وذلك أن خصومتهم بالباطل إنما هو بصمم قلوبهم، ولو فهموا ما أتى به الي النبى -صلى الله عليه وسلم- لتركوا جدالهم، فإذا الصمم وغير ذلك مما ذكرنا من قول المفسرين معاني اللدّ لا تفسيره.
قال ابن الأنباري: (وخص اللد بالإنذار؛ لأنهم إذا قامت عليه الحجة صار غيرهم لاحقًا بهم من أجل أن الذي لا عناد عنده يسرع انقياده، فالمقصود بالإنذار هؤلاء اللد المخاصمون) (١).
قوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ يعني: قبل القوم اللد وهم قريش، وهذا تخويف لهم بالإهلاك.
وقوله تعالى: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم﴾ أي: هل ترى من الذين أهلكناهم ﴿مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾ أي: (صوتًا). قاله ابن عباس والمفسرون (٢). وقال زيد: (حسا) (٣). وقال أهل اللغة: (الركز: الصوت الخفي) (٤)، وأنشدوا قول لبيد (٥):
= كثير في "تفسيره" ٣/ ١٥٥ بدون نسبة.
(١) ذكر نحوه الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٤٢٦، والقرطبي ١١/ ١٦٢.
(٢) "جامع البيان" ١٦/ ١٣٥، "النكت والعيون" ٣/ ٣٩١، "تفسير القرآن العظيم" ٣/ ١٥٥ "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٦٢، "الدر المنثور" ٤/ ٥١٤.
(٣) "جامع البيان" ١٦/ ١٣٥، "النكت والعيون" ٣/ ٣٩١،"الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٦٢.
(٤) انظر (ركز) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٥٩، "القاموس المحيط" ص ٥١٢، "الصحاح" ٣/ ٨٨٠، "اللسان" ٣/ ١٧١٧، "المفردات في غريب القرآن" ص ٢٠٢.
(٥) البيت للبيد، ذكره في معلقه.
انظر "ديوانه" ص ١٧٣، "شرح القصائد العشر" للتبريزى ص ١٨٤،"شرح المعلقات السبع" للزوزبي ص ٢٣٨، "الدر المصون" ٧/ ٦٥٤.
342
وَتَوَجَّسْتُ رِكْزَ الأَنِيْسِ فَرَاعَهَا عَنْ ظَهرِ غَيْبٍ وَالأَنِيْسُ سَقَامُهَا
ومضى الكلام في معنى أحس (١)، وتحقيق معنى الآية: وكم أهلكنا قبلهم من قرن بتكذيب المرسلين يعضهم بهذا، ويلزمهم الاعتبار بمن تقدم من الأمم المكذبة.
(١) عند قوله سبحانه: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه﴾ الآية [آل عمران: ٥٢].
343
سورة طه
345
Icon