تفسير سورة مريم

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة مريم من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

أول هذه السورة لآخر السابقة، فلأنه سبحانه ذكر في آخر السابقة الرحمة في ضمن قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾؛ أي: يرجو رحمة ربه وثوابه يوم لقائه وعرضه عليه للمجازاة، وبدأ هذه السورة بقوله: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ﴾ فذكر الرحمة هنا صريحاً هذا ما ظهر لي بعد التأمل.
قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه - تعالى - لما ذكر قصة زكريا وطلبه الولد، وإجابة الله إياه، فوُلد له من شيخ فانٍ وعجوزٍ له عاقرٍ، وكان ذلك مما يتعجب منه.. أردفَه بما هو أعظم في الغرابة والعجب، وهو وجود ولد من غير ذكر، فدل ذلك على عظم قدرة الله تعالى وحكمته، ذكره في "البحر".
التفسير وأوجه القراءة
١ - قوله تعالى: ﴿كهيعص (١)﴾ (١) قرأ ابن كثير ﴿كهيعص ذِكْرُ﴾ بفتح الهاء والياء، وتبيين الدال التي في هجاء ﴿صاد﴾، وقرأ أبو عمرو: ﴿كهيعص﴾ بكسر الهاء وفتح الياء ويدغم الدال في الذال، وكان نافع يلفظ بالهاء والياء بين الكسر والفتح، ولا يُدغم الدال التي في هجاء (صاد) في الذال من ﴿ذِكْرُ﴾، وقرأ أبو بكر عن عاصم، والكسائي: بكسر الهاء والياء، إلا أن الكسائي لا يبين الدال، وعاصم يبينها، وقرأ ابن عامر، وحمزة: بفتح الهاء وكسر الياء ويدغمان، وقرأ أبي بن كعب: ﴿كهَيعَصَ﴾ برفع الهاء وفتح الياء، وقد ذكرنا في أول البقرة ما يشتمل على بيان هذا الجنس ﴿كهيعص (١)﴾ هذه الأحرف الخمسة يتعين في الكاف والصاد منها المد المطول المذكور باتفاق السبعة، وهو ثلاث ألفات، ويتعين في الهاء والياء المد الطبيعي باتفاقهم أيضًا، وهو قدر ألف، ويجوز في العين المد المطول المذكور وقصره بقدر ألفين، القراءتان سبعيتان، ويتعين في النون من عين إخفاؤها في الصاد وغنها، ويجوز في الدال من صاد إظهارها وإدغامها في ذال ذكر والقراءتان سبعيتان. انتهى. شيخنا. وقد خص المفسرون
(١) زاد المسير.
83
هذه الحروف المذكورة هاهنا بأربعة أقوال:
أحدهما (١): أنها حروف من أسماء الله تعالى، قاله الأكثرون، ثم اختلف هؤلاء في الكاف من أيِّ اسم هو على أربعة أقوال:
أحدها: أنه من اسم الله الكبير.
والثاني: من الكريم.
والثالث: من الكافي، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والرابع: أنه من الملك، قاله محمد بن كعب، فأما الهاء.. فكلهم قالوا: هي من اسمه الهادي، إلا القرظي فإنه قال: من اسمه الله.
وأما الياء: ففيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها من حكيم.
والثاني: من رحيم.
والثالث: من أمين، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس، فأما العين ففيها أربعة أقوال:
أحدها: أنها من عليم.
والثاني: من عالم.
والثالث: من عزيز رواها أيضًا سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والرابع: أنها من عدل، قاله الضحاك.
(١) زاد المسير.
84
وأما الصاد ففيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها من صادق.
والثاني: من صدوق، رواهما سعيد بن جبير أيضًا عن ابن عباس.
والثالث: من الصمد، قاله محمد بن كعب.
والقول الثاني: إن ﴿كهيعص (١)﴾ قسم أقسم الله تعالى به، وهو من أسمائه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وروي عن عليّ - عليه السلام - أنه قال: هو اسم من أسماء الله تعالى، وروي عنه أنه كان يقول: يا ﴿كهيعص (١)﴾ اغفر لي، قال الزجاج: والقسم بهذا الدعاء به لا يدل على أنه اسم واحد؛ لأن الداعي إذا علم أن الدعاء بهذه الحروف يدل على صفات الله فدعا بها.. فكأنه قال: يا كافي، يا هادي، يا عالم، يا صادق، وإذا أقسم بها.. فكأنه قال: والكافي، الهادي، العالم، الصادق، وأسكنت هذه الأحرف لأنها حروف تهج، النية فيها الوقف.
والثالث: أنه اسم للسورة، قاله الحسن ومجاهد.
والرابع: اسم من أسماء القرآن، قال قتادة، فإن (١) قيل لِمَ قالوا: هايا، ولم يقولوا في الكاف: كما، وفي العين: عا، وفي الصاد: صا، لتتفق المعاني كما اتفقت العلل.. فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال: حروف المعجم التسعة والعشرون تجري مجرى الرسالة والخطبة، فيستقبحون فيها اتفاق الألفاظ، واستواء الأوزان، كما يستقبحون ذلك في خطبهم ورسائلهم، فيغيِّرون بعض الكلم ليختلف الوزن وتتغير المباني، فيكون ذلك أعذب على الألسن، وأحلى في الأسماع، وعبارةُ "المراغي" هنا: ﴿كهيعص (١)﴾. تقدم الكلام في المراد من أوائل السور، وأن المختار أن المقصود بها التنبيه، كحروف التنبيه التي تقع أول الكلام، نحو: ألا ويا، وغيرهما، وتقرأ باسمائها فيقال: ﴿كاف ها يا عين صاد﴾. انتهت.
(١) زاد المسير.
85
٢ - قوله تعالى: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾ قال الزجاج (١): الذكر: مرفوع بالمضمر؛ والمعنى: هذا الذي نتلوه عليك يا محمد، ذكر رحمة ربك عبده ﴿ذِكْرُ﴾ مضاف إلى مفعوله ﴿عَبْدَهُ﴾ مفعول ﴿رَحْمَتِ﴾، ﴿زَكَرِيَّا﴾: بدل منه وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى هذا الذي نتلوه عليك ذكر ربك عبده زكريا بالرحمة.
والحاصل: أن ﴿ذِكْرُ﴾ (٢): مصدر مضاف إلى مفعوله، وفاعله: محذوف؛ أي: ذكر الله رحمة عبده زكريا، و ﴿رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾: مضاف لفاعله، و ﴿عَبْدَهُ﴾: مفعوله، وهذه التاء لا تمنع من عمل المصدر؛ لأنه مبني عليها، أي: مقترن بها وضعًا، فليست للوحدة والمرة، والتاء التي تمنع من عمل المصدر هي التي يؤتى بها للدلالة على المرة؛ والمعنى: هذا الذي نتلوه عليك يا محمد في هذه السورة، ذكر إجابة ربك عبده زكريا دعاءه إياه، حين دعاه وسأله الولد نداءً خفيًا ودعاءً سرًا؛ ومعنى ذكر الرحمة: ذكر بلوغها وإصابتها له، وإجابته دعائه، و ﴿زَكَرِيَّا﴾ يمد ويقصر، ابن آزر، قال الإِمام: زكريا من ولد هارون أخي موسى، وهما من ولد لاوى بن يعقوب بن إسحاق - عليهم السلام - وقرأ الحسن (٣)، وابن يعمر: ﴿ذِكْرُ﴾ فعلًا ماضيًا ﴿رَحْمَتِ﴾، أي: هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك وذكر الداني عن ابن يعمر: ﴿ذِكْرُ﴾ فعل أمر من التذكير ﴿رَحْمَتِ﴾ بالنصب، و ﴿عَبْدَهُ﴾ نصب بالرحمة وذكر صاحب "اللوامح" أن: ﴿ذكر﴾ بالتشديد ماضيًا، عن الحسن باختلاف وهو صحيح عن ابن يعمر، معناه: أنَّ المتلو أي القرآن ذكَّر برحمة ربك، فلما نزع الباء.. انتصب، ويجوز أن يكون معناه: أن القرآن ذكر الناس تذكيرًا أن رحم الله عبده، فيكون المصدر عاملاً في عبده ﴿زَكَرِيَّا﴾ لأنه ذكَّرهم بما نسوه من رحمة، فتجدد عليهم بالقرآن ونزوله على النبي - ﷺ - ويجوز أن يكون ذكر على المضي مسندًا إلى الله سبحانه، وقرأ الكلبي: ﴿ذِكْرُ﴾ على المضي خفيفًا من الذكر ﴿رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾: بنصب التاء
(١) زاد المسير.
(٢) الفتوحات.
(٣) البحر المحيط.
﴿عَبْدَهُ﴾ بالرفع على إسناد الفعل إليه،
٣ - وقوله: ﴿إِذْ نَادَى﴾؛ أي: دعا: ظرف لرحمة ربك؛ أي: دعا ﴿رَبَّهُ﴾ في المحراب ﴿نِدَاءً خَفِيًّا﴾؛ أي: دعاءً سرًا من قومه في جوف الليل، ولقد (١) راعى - عليه السلام - في إخفاء دعائه، حسن الأدب، لأن الجهر والإسرار عند الله تعالى سيَّان، لكن الإخفاء أولى، لأنه أبعد عن الرياء، وأدخل في الإخلاص، وقيل: أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في غير وقته، وكان سنه وقتئذٍ تسعًا وتسعين على ما اختاره الكاشفيّ، ولكونه من أمور الدنيا، وقيل أخفاه مخافةً من قومه الذين خافهم أن يطلعوا عليه، وقيل خفت صوته لضعفه وهرمه لكونه قد صار ضعيفًا هرمًا لا يقدر على الجهر، كما يدل عليه قوله الآتي
٤ - ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾، وقيل لأن الإخفاء سنة الأنبياء، والجهر به يعدّ من الإعتداء، فإِن قلت (٢): شرط النداء الجهر، فكيف يكون خفيًا؟
قلت: دعا في الصلاة فأخفاه، قال بعضهم: النداء وإن كان بمعنى الصوت، لكن الصوت قد يتصف بالضعف، ويقال: صوت خفيٌّ وهو الهمس، فكذا النداء، والوجه في عبارة النداء الإشارة إلى شدة الإقبال والتوجه في الأمر المتوجه إليه، كما هو شأن الأنبياء ومن له بهم أسوة من كُمَّلِ الأولياء؛ والمعنى: أي: مما نقص عليك يا محمد، ذكر رحمة ربك عبده زكريا، حين دعا ربه دعاءً خفيًا مستورًا عن أعين الناس، وإنما أخفى دعاءه، لأنه أدل على الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأقرب إلى الخلاص من لائمة الناس، على طلب الولد وقت الكبر والشيخوخة، وقصارى ذلك: أن في هذه السورة ذكر الرحمة التي رحم الله بها عبده زكريا، حين أسرَّ بدعائه إليه، ثم فصل كيفية دعائه بقوله: ﴿قَالَ رَبِّ﴾ استئناف وقع بيانًا للنداء؛ أي: قال زكريا: يا رب ﴿إِنِّي وَهَنَ﴾ وضعف ﴿الْعَظْمُ﴾ حالة كونه كائنًا ﴿مِنِّي﴾ فالجملة (٣) مفسرة لقوله: ﴿نَادَى رَبَّهُ﴾ يقال: وهن يهن وهنًا، إذا ضعف فهو واهن، وقرىء: بالحركات الثلاث، كما سيأتي، أراد أن عظامه فترت وضعفت قوته، وإنما أسند الوهن إلى العظم، لأنه عمود
(١) روح البيان والخازن.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
87
بيت البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فهذا أصابه الضعف مع صلابته وقلة تأثره بالعلل.. أصاب سائر الأجزاء، وتساقطت قوته، ولأن أشد ما في الإنسان صلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، وأفرد العظم قصدًا إلى الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام، وقال قتادة: اشتكى سقوط الأضراس كما في "البغوي".
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَهَنَ﴾ بفتح الهاء وقرأ الأعمش: بكسرها، وقرىء: بضمها لغاتٌ ثلاثٌ ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ﴾ منِّي: حذف اكتفاءً بما سبق؛ أي: وابيضَّ الشعر مني. ﴿شَيْبًا﴾؛ أي: أخذ رأسي شمطًا، وقد صار مثل شواظ النار، شبّه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ النار، وانتشاره وفشوَّه في الشعر باشتعالها مبالغةً (٢)، وإشعارًا لشمول الشيب جميع الرأس، حتى لم يبق من السواد شيء، وجعل الشيب تمييزًا إيضاحًا، للمقصود، والأصل اشتعل شيب رأسي، فوزانه بالنسبة إلى الأصل وزان اشتعل بيته نارًا، بالنسبة إلى اشتعل النار في بيته.
﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾؛ أي: ولم أكن بدعائي إياك يا ربي خائبًا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل، بل كلما دعوتك استجبت لي، وهذا توسّلٌ منه بما سلف من الاستجابة عند كل دعوة، إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة ويستجلب الرأفة، من كبر السن، وضعف الحال، فإنه تعالى بعدما عوّد عبده بالإجابة دهرًا طويلًا، لا يخيبه أبدًا لا سيما عند اضطرارٍ وشدة افتقارٍ؛ والمعنى: أي: قد أحسنت إليّ فيما سلف، وسعدت بدعائي إياك، فالإنعام يقتضي أن تجيبني آخرًا كما أجبتني أولًا، ذكره في "البحر".
قال العلماء (٣): يستحب للمرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع وذكر نعم الله عليه، كما فعل زكريا هاهنا، فإن في قوله: ﴿وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن نيل مطالبه وبلوغ
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
88
مآربه وفي قوله: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ ذكر ما عوده الله من الإنعام عليه، بإجابة أدعيته، يقال: شقي بكذا؛ أي: تعب فيه ولم يحصل مقصوده منه،
٥ - ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ﴾؛ أي: خفت جور مواليّ وورثتي وبني عمّي الذين يخلفونني في السياسة وفي القيامة بأمر الدين ﴿مِنْ وَرَائِي﴾؛ أي: بعد موتي، فلا بدّ لي من الخلف، وهم بنو عمّه، وكانوا أشرار بني إسرائيل، فخاف - عليه السلام - أن لا يُحسنوا خلافته في أمته، ويبدّلوا عليهم دينهم، وقوله: ﴿مِنْ وَرَائِي﴾ متعلق بمحذوف؛ أي: فعل الموالي، أو جور الموالي، كما قدرنا آنفًا لا بـ ﴿خِفْتُ﴾ لفساد المعنى، والجملة (١): معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ مترتب مضمونها على مضمونها، فإن ضعف القوى وكبر السن من مبادي خوفه ممن يلي أمره بعد موته.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿خِفْتُ الْمَوَالِيَ﴾ بكسر الخاء وسكون الفاء، على أن فاعله ضمير يعود إلى ﴿زَكَرِيَّا﴾ ومفعوله ﴿الْمَوَالِيَ﴾، وأسكن الزهري ياء ﴿الْمَوَالِيَ﴾ وقرأ عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وسعيد بن العاص، وابن يعمر، وابن جبير، وعلي بن الحسين، وولده محمد، وزيد، وشبيل بن عزرة، والوليد بن مسلم ﴿خِفْتُ الْمَوَالِيَ﴾ بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر تاء التأنيث وسكون ياء ﴿الْمَوَالِيَ﴾ على أنه فاعل ﴿خِفْتُ﴾؛ أي: قلوا وعجزوا عن القيام بأمر الدين بعدي، أو انقطعوا بالموت مأخوذًا، من خفت القوم إذا ارتحلوا، وهذه قراءة شاذة بعيدة عن الصواب، وقرأ الجمهور: ﴿وَرَائِي﴾ بالهمز والمد وسكون الياء، وقرأ ابن كثير: بالهمز والمد وفتح الياء، وروي عنه أنه قرأ بالقصر مفتوح الياء، مثل عصاي، واختلفوا في وجه المخافة من زكريا لمواليه من بعده، فقيل: خاف أن يرثوا ماله، وأراد أن يوثه ولده، فطلب من الله سبحانه أن يرزقه ولدًا، وقال آخرون: إنهم كانوا مهملين لأمر الدين، فخاف أن يضيع الدين بموته، فطلب وليًا يقوم به بعد موته، وهذا القول أرجح من الأول؛ لأن الأنبياء لا يورثون، وهم أجل من أن يعتنوا بأمور الدنيا،
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط والشوكانى.
فليس المراد هنا وراثة المال، بل المراد وراثة العلم والنبوة والقيام بأمر الدين، وقد ثبت عن نبينا محمد - ﷺ - أنه قال: "نحن - معاشر الأنبياء - لا نورث، ما تركناه صدقة".
﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾؛ أي: لا تلد من حين شبابها، اسمها إيشاع بنت فاقوذ بن فيل، وهي أخت حنّة بنت فاقوذ أم مريم، والعاقر من الرجال والنساء: من لا يولد له ولد، وكان سنّها حينئذٍ ثمان وتسعين على ما اختاره الكاشفي، ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ﴾؛ أي: أعطني من محض فضلك الواسع، وقدرتك الباهرة، ﴿وَلِيًّا﴾؛ أي: ولدًا من صلبي
٦ - ﴿يَرِثُنِي﴾ من حيث العلم والدين والنبوة، فإن الأنبياء لا يورّثون المال كما مر آنفًا، ولم يصرّح بطلب الولد، لما علم من نفسه بأنه قد صار هو وامرأته في حالة لا يجوز فيها حدوث الولد بينهما وحصوله منهما.
فإن قلت (١): وقد وصف الوليَّ بالوراثة ولم يستجب له في ذلك، فإنَّ يحيى خرج من الدنيا قبل زكريا على ما هو المشهور.
قلتُ: الأنبياء وإن كانوا مستجابي الدعوة، لكنهم ليسوا كذلك في جميع الدعوات، حسبما تقتضيه المشيئة الإلهية المبنية على الحكم البالغة، ألا ترى إلى دعوة إبراهيم - عليه السلام - في حق أبيه وإلى دعوة النبي - ﷺ - حيث قال: "وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها". وقد كان من قضائه تعالى: أن يهبه يحيى نبيًا مرضيًا ولا يرثه، فاستُجيب دعاؤه في الأول دون الثاني ﴿وَيَرِثُ﴾ الملك ﴿مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ بن إسحاق بن إبراهيم - عليه السلام - وآل الرجل خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة والصحبة، أو الموافقة في الدين، وقال (٢) الكلبي ومقاتل: هو يعقوب بن ماثان، أخو عمران بن ماثان، من نسل سليمان بن أبو مريم عليه السلام، وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكريا، قال الكلبي: كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذٍ، فأراد
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
90
أن يرث ولده حبورته - وكان حبرا - ويرث من بني ماثان ملكهم.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة (١): ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ﴾ برفع الفعلين صفةً للولي، فالمعنى عليه: هب لي وليًا وارثًا، وقرأ النحويان أبو عمرو، والكسائي، والزهري، والأعمش، وطلحة، واليزيدي، وابن عيسى الأصبهاني، وابن محيصن، وقتادة: بجزمهما على جواب الأمر، كقولك إن وهبته لي ورثني، ورجح أبو عبيد القراءة الأولى، وقرأ عليّ، وابن عباس، والحسن، وابن يعمر، والجحدري، وقتادة، وأبو حرب بن أبي الأسود، وجعفر بن محمد، وأبو نهيك: ﴿يَرِثُنِي﴾ بالرفع والياء ﴿وأرث﴾ جعلوه فعلًا مضارعًا من ورث، قال صاحب "اللوامح": وفيه تقديم؛ فمعناه: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ من آل يعقوب ﴿يَرِثُنِي﴾ إن متّ قبله؛ أي: نبوتي، وأرثه إن مات قبلي؛ أي: ماله، وهذا معنى قول الحسن وقرأ علي، وابن عباس، والجحدري ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ قال أبو الفتح: هذا هو التجريد. التقدير: يرثني منه وأرث، وقال الزمخشري: وأرث؛ أي: يرثني به وارث، ويسمى التجريد في علم البيان؛ لأنه جرد عن المذكور أولًا مع أنه المراد.
وقرأ مجاهد: ﴿أو يرث من آل يعقوب﴾ على التصغير، وأصله وُوَيْرِث، فأبدلت الواو همزة على اللزوم، لاجتماع الواوين، وهو وارث؛ أي: غُلَيْم صغير، وعن الجحدري: ﴿وارث﴾ بكسر الواو؛ يعني به: الإمالة المحضة لا الكسر الخالص، وهذه القراءات في غاية الشذوذ لفظًا ومعنًى، ﴿وَاجْعَلْهُ﴾؛ أي: الولد الموهوب لي يا ﴿رَبِّ رَضِيًّا﴾؛ أي: مرضيًا عندك قولًا وفعلًا، وتوسيط (٢) ﴿رَبِّ﴾ بين مفعولي الجعل، كتوسيطه بين كان وخبرها فيما سبق لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع، ولذلك قيل: إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه.. فليدع الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته.
واعلم: أن الله تعالى لا يمكن العبد من الدعاء إلا لإجابته كلاً أو بعضًا،
(١) البحر المحيط وزاد المسير.
(٢) روح البيان.
91
كما وقع لزكريا - عليه السلام - وفي الحديث: "من فتح له باب الدعاء.. فتحت له أبواب الرحمة" ومعنى الآية؛ أي: أعطني من واسع فضلك، وعظيم جودك وعطائك، لا بطريق الأسباب العادية ولدًا من صلبي، يرث الحبورة مني ويرث من آل يعقوب ملكهم وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذٍ ويكون برًا تقيًا مرضيًا عندك وعند خلقك، تحبه ويحبونه لدينه وخلقه ومحاسن شيمته.
ونحو الآية قوله تعالى في سورة آل عمران حكايةً عنه: ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ وقوله في سورة الأنبياء: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (٨٩)﴾.
والحاصل: أن زكريا - عليه السلام - قد عرف ببعض الإمارات، أن عصبته وهم إخوته وبنو عمه ربما استمروا على عادتهم في الشر والفساد، فخافهم أن يغيروه، وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبًا من صلبه يقتدى به في إحيائه، وينهج نهجه فيه، فدعا بهذا الدعاء، ثم أخبر سبحانه أنه أجاب دعاءه، وتولى تسمية الولد بنفسه، فقال: ﴿يَا زَكَرِيَّا﴾ وفي الكلام حذف تقديره؛ أي: فاستجاب له دعاءه، فقال بوساطة الملك، يا زكريا، كما قال في سورة آل عمران، ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾
٧ - ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ﴾؛ أي: بولد ذكر يرث العلم والنبوة في حياتك، فإنه قتل قبل موت أبيه، وبين هذه البشارة ووجود الغلام في الخارج بالفعل، ثلاث عشرة سنة كما تقدم في سورة آل عمران، وإن طلب زكريا للولد والبشارة به كان في صغر مريم وهي في كفالته، وإن الحمل بيحيى كان مقارنًا للحمل بعيسى، وكانت مريم إذ ذاك بنت ثلاث عشرة سنة، وتقدم أَن أشاع حملت بيحيى قبل حمل مريم بعيسى بستة أشهر. اهـ. شيخنا.
والبشارة بكسر الباء: الإخبار بما يظهر سرورًا في المخبر ﴿اسْمُهُ يَحْيَى﴾ سمي به لإحيائه رحم أمه بعد موته بالعقم، أو لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها، وتولّى الله تسميته بنفسه تشريفًا له. ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ﴾؛ أي: ليحيى ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل ولادته ﴿سَمِيًّا﴾؛ أي: شريكًا له في هذا الاسم، حيث لم
يكن قبل يحيى أحد يسمى بيحيى، وقيل؛ أي: شبيهًا في الفضل والكمال، فإنه لم يعص، ولم يهم بمعصية من حال الصغر، وأنه صار سيدَ الشهداء على الإطلاق، والأظهر (١): أن يحيى أعجمي، وإن كان عربياً فهو منقول عن الفعل، كيعمر ويعيش، وهذا شاهد بأن التسمية بالأسامي الغريبة تنويه للمسمّى وإياها كانت العرب تعني لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النير.
وفي إخباره سبحانه بأنه لم يسمَّ بهذا الاسم قبله أحد فضيلة له من جهتين (٢):
الأولى: أن الله سبحانه هو الذي تولى تسميته به، ولم يكلها إلى الأبوين.
والجهة الثانية: أن تسميته باسم لم يوضع لغيره، يفيد تشريفه وتعظيمه
٨ - ﴿قَالَ﴾ زكريا، استئناف بياني على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال زكريا حينئذ، فقيل: قال: ﴿رَبِّ﴾ ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابه تعالى إليه، بتوسط الملك للمبالغة في التضرع والمناجاة، والجد في التبتل إليه تعالى، والاحتراز عما عسى يوهم خطابه للملك من توهم أن علمه بما صدر منه متوقف على توسطه، كما أن علم البشر بما يصدر عنه سبحانه، متوقف على ذلك في عامة الأوقات ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾؛ أي: كيف يكون لي غلام!؟ أو من أين يحدث لي غلام!؟ وليس معنى هذا الاستفهام الإنكار، بل التعجب من قدرة الله تعالى، وبديع صنعه، حيث يخرج ولدًا من امرأة عاقر، وشيخ كبير، ﴿و﴾ الحال أنه قد ﴿كَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾؛ أي: لم تلد في شبابها وشبابي، فكيف وهي عجوز الآن ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ﴾ أنا ﴿مِنَ الْكِبَرِ﴾؛ أي: من أجل كبر السن ﴿عِتِيًّا﴾؛ أي (٣): يبوسةً وجفافًا، كالعود اليابس، من قولهم عتا العود إذا يبس، وعتا الشيخ إذا كبر وهرم وولى، ويقال لكل شيء انتهى قد عتا، وإنما استعجب الولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافًا بأن المؤثر فيه كمال قدرته، وأن الوسائط عند التحقيق
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
93
ملغاة، فـ ﴿أَنَّى﴾ استعجاب واستبعاد من حيث العادة لا من حيث القدرة.
وقرأ أبو بحرية، وابن أبي ليلى، والأعمش، وحمزة، والكسائي: ﴿عِتِيًّا﴾ و ﴿بكِيًّا﴾ و ﴿صِلِيًّا﴾ بكسر أوائلها، ووافقهم حفص عن عاصم، إلا في قوله: ﴿بكِيًّا﴾ فإنه ضم أوله، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بضم أوائلها، وقرأ عبد الله: ﴿عِتِيًّا﴾ و ﴿صِلِيًّا﴾ بفتح العين والصاد، وعن عبد الله ومجاهد ﴿عسيا﴾ بضم العين والسين.
قال الإمام (١): فان قيل: لم تعجَّب زكريا بقوله: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ مع أنه طلبه؟
قلنا: تعجب من أن يجعلهما شابين، ثم يرزقهما الولد، أو يتركهما شيخين، ويلدان مع الشيخوخة، يدل عليه قوله تعالى: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾؛ أي: أعدنا له قوة الولادة. انتهى.
وفي "الأسئلة المقحمة": أراد من التي يكون منه هذا الولد، أمن هذه المرأة وهي عاقر أم من امرأة أخرى أتزوج بها، أو مملوكة؛ أي: ومن أي وجه يكون لي ذلك، وامرأتي عاقر لا تحبل، وقد ضعفت من الكبر عن مباضعة النساء، أبأن تقويني على ما ضعفت عنه من ذلك، وتجعل زوجي ولودًا، وأنت القادر على ما تشاء، أم بأن أتزوج زوجًا غير تلك العاقر؟.
وخلاصة ذلك: أنه يستثبت ربه الخبر عن الوجه الذي يكون من قبلها الولد الذي بشره به، لا إنكار منه لذلك، وكيف يكون منه الإنكار لذلك، وهو المبتدىء مسألة ربه بقوله: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾؟.
وإجمال المعنى: أنه تعجب حين أجيب إلى ما سأل وبشر بالولد، وفرح فرحًا شديدًا، وسأل عن الوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته عاقر لم تلد
(١) روح البيان.
94
من أول عمرها، والآن قد كبرت وهو قد كبر وعتا؛ أي: يبس عظمه ونحل، ولم يبق له قدرة على قربان النساء، وكأنه يقول: إني حين كنت شابًا وكهلًا لم أرزق الولد، لاختلال أحد السببين، وهو: عقم المرأة، أفحين اختل السببان أرزقه؟
٩ - ثم أجاب الله سبحانه على هذا السؤال المشعر بالتعجب والاستبعاد بقوله: ﴿قَالَ﴾ الله سبحانه وتعالى الأمر: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: كما قلنا لك من خلق ولد من بينكما، فسنهب لك الولد مع ما أنتما عليه من العقم والشيخوخة؛ أي: أمرنا وشأننا ذلك الذي قلنا لك وهذا تصديق له.
ثم علل هذا بقوله: ﴿قَالَ رَبُّكَ﴾؛ أي: قال ربك الذي عودك الإحسان ﴿هُوَ﴾؛ أي: خلق ولد منكما على هذه الحال ﴿عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾؛ أي: سهل علي خاصةً، وإن كان في العادة مستحيلًا، فإني إذا أردت شيئًا كان دون توقف على الأسباب العادية التي رسمتها للحمل والولادة، وهذه الجملة مقررة للوعد المذكور بقوله: ﴿قَالَ كَذَلِكَ﴾ دالة على إنجازه، وقرأ (١) معاذ القاريّ، وعاصم الجحدري. ﴿هين﴾ بإسكان الياء، ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ﴾ يا زكريا ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ يحيى في تضاعيف خلق آدم. ﴿وَلَمْ تَكُ﴾ يا زكريا إذ ذاك ﴿شَيْئًا﴾ موجودًا أصلًا بل عدمًا صرفًا، فخلق يحيى من البشرين، أهون من خلقك مفردًا والمراد خلق آدم؛ لأنه أنموذج مشتمل على جميع الذرية، قال الإِمام: وجه الاستدلال بقوله: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ﴾ الخ. أن خلقه من العدم الصرف، خلق للذات والصفات، وخلق الولد من شيخين لا يحتاج إلا إلى تبديل الصفات، والقادر على خلق الذات والصفات، أولى أن يقدر على تبديل الصفات. انتهى.
وخلاصة ذلك: أن من قدر على خلق الذوات والصفات والآثار من العدم، أجدر بأن يكون قادرًا على تبديل الصفات، فيعيد إليه وإلى زوجه القوة وسائر الوسائل التي بها يمكن أن ينشأ منهما الولد، كما قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ
(١) المراغي.
(٢) زاد المسير.
يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} وقرأ الجمهور (١): ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ﴾ بتاء المتكلم وقرأ الأعمش، وطلحة، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي: ﴿خلقناك﴾ بنون العظمة، وقال الزمخشري: وإنما قال: ﴿وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئًا يعتد به.
١٠ - ثم أخبر سبحانه: أن زكريا تاقت نفسه إلى سرعة وجود المبشر به، ليطمئن قلبه بما وعد به، لا لتوقف عن صدق ما وعد به، ولا لتوهم أن ذلك من عند غير الله، لعصمة الأنبياء عن مثل ذلك ﴿قَالَ﴾ زكريا ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾؛ أي: علامةً على تحقق المسؤول في زمن معين، إذ كانت البشارة غير مقيدة بوقت، والحمل خفي في مبدئه، ولا سيما ممن انقطع حيضها لكبرها، إلا أنه أراد أن يطلعه على ذلك ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر حين حدوثها، ثم بين أنه أجابه إلى ما طلب فقال: ﴿قَالَ﴾ الله سبحانه ﴿آيَتُكَ﴾؛ أي: علامتك على وجود المبشر به، وحصول الحمل ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾؛ أي: أن لا تقدر على تكليم الناس بكلامهم المعروف في محاوراتهم ومخاطباتهم، مع القدرة على التسبيح والذكر، كما هو المفهوم من تخصيص الناس ﴿ثَلَاثَ لَيَالٍ﴾ مع أيامها وإنما قيدنا بالأيام؛ لأن الليالي الثلاث قد تكون من يومين، لأن الليل سابق على النهار، فحينئذٍ يحصل التعارض بين ما هنا وبين الآية الأخرى، وإنما عبر هنا بالليالي وهناك بالأيام؛ لأن هذه السورة مكيّة، والمكي سابق على المدني والليل سابق على النهار، فأُعطي السابق للسابق، وسورة آل عمران مدنية، والمدني متأخر عن المكي، والنهار متأخر عن الليل، فأعطى المتأخر للمتأخر سلوكًا مسلك التناسب، ذكره في "الفتوحات". حالة كونك ﴿سَوِيًّا﴾؛ أي: سوي الخلق تامه، سليم الجوارح صحيحها، ليس بك علة ولا مرض ولا شائبة بكم ولا خرس؛ أي: علامتك امتناعك من كلامهم حالة كونك صحيحاً سليمًا، قالوا: رجع تلك الليلة إلى امرأته فقربها، ووقع الولد في رحمها فلما أصبح امتنع عليه الكلام مع الناس
١١ - ﴿فَخَرَجَ﴾ زكريا صبيحة حمل امرأته ﴿عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ﴾؛ أي: من
(١) البحر المحيط.
المصلى، أو من الغرفة، والمحراب هنا: هو المسمى (١) عند أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلم ذي درج قليلة، يكون من فيه محجوبًا عمن في المعبد؛ أي: خرج عليهم من المحراب متغير اللون، منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس، وقد كانوا ينتظرون أن يفتح لهم الباب إذ كانَ من عادتهم أن يصلوا معه صلاتي الغداة والعشي في محرابه، فأنكروه صامتًا، وقالوا: مالك يا زكريا ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: أشار إليهم لقوله تعالى: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾؛ أي: أومأ زكريا إلى قومه برأسه ويده ﴿أَنْ سَبِّحُوا﴾ أن إما مصدرية أو مفسرة، لأوحى، والمعنى؛ أي: صلوا أو بأن صلوا ﴿بُكْرَةً﴾؛ أي: من طلوع الفجر إلى وقت الضحى، ﴿وَعَشِيًّا﴾: هو من وقت زوال الشمس إلى أن تغرب وهما ظرفا زمان التسبيح، وعن أبي العالية: أن المراد بها صلاة الفجر، وصلاة العصر، أو سبحوا ربكم ونزهوه عن الشريك والولد، وعن كل نقص، طرفي النهار، وقولوا: سبحان الله، ولعله (٢) كان مأمورًا بأن يسبح شكرًا، ويأمر قومه بذلك، كما في "الإرشاد".
يقول الفقير: هو الظاهر لأن معنى التسبيح في هذا الموضع تنزيه الله تعالى عن العجز عن خلق ولد يُستبعد وقوعه من الشيخين؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير، وقد ورد في "الأذكار": "لكل أُعجوبة سبحان الله" وقد كان أخبرهم بما بشر به قبل وجود الآية، فلما تعذر عليه الكلام.. أشار إليهم بحصول ما بشر به من ذلك الأمر العجيب في مجرى العادة فسروا به.
وقرأ طلحة (٣): ﴿أَنْ سَبِّحُوا﴾ بهاء الضمير عائدة على الله تعالى، وروى ابن غزوان عن طلحة: ﴿أن سبحن﴾ بنون مشددة من غير واو، ألحق فعل الأمر نون التوكيد الثقيلة،
١٢ - وقوله: ﴿يَا يَحْيَى﴾ على إرادة القول؛ أي: ووهبنا له يحيى، وقلنا له بعدما بلغ سنًا يؤمر فيه مثله يا يحيى ﴿خُذِ الْكِتَابَ﴾؛ أي: خذ التوراة التي هي نعمة الله علي بني إسرائيل ﴿بِقُوَّةٍ﴾؛ أي: بجد واجتهاد وحرص على العمل
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
بها، ثم وصفه الله تعالى بصفاتٍ كلها مناهج للخير، ووسائل للطاعة:
١ - ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾؛ أي: وأعطينا يحيى ﴿الْحُكْمَ﴾؛ أي: الفهم في التوراة، والفقه في الدين، والإقبال على الخير حالة كونه ﴿صَبِيًّا﴾؛ أي: صغيرًا لم يتم سبع سنين، وروي: أنه - عليه السلام - دعاه الصبيان إلى اللعب فقال: ما للّعبِ خُلقنا، اذهبوا بنا نصلي، وعن بعض السلفِ: من قرأ القرآن قبل أن يبلغ، فهو ممن أوتي الحكم صبيًا، وقال ابن عباس: الحكم: النبوة، استنبأه الله تعالى وهو ابن ثلاث سنين أو سبع، وإنما سمِّيت النبوة حكمًا لأن الله تعالى أحكم عقله في صباه، وأوحي إليه.
٢ - ١٣ وقوله: ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا﴾ معطوف على الحكم وتنوينه للتفخيم، وهو في الأصل التحنن والاشتياق، يقال: حن؛ أي: ارتاح واشتاق، ثم استعمل في العطف والرأفة؛ أي: وآتيناه رحمةً عظيمةً عليه، كائنة من جنابنا، أو رحمة في قلبه، وشفقةً على أبويه وغيرهما. أو المعنى (١): أي وجعلناه ذا حنانٍ وشفقة على الناس، وحسن نظر فيما وليه من الحكم فيهم، وقد وصف الله سبحانه نبيه - ﷺ - بمثل هذا في قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ وقوله: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
٣ - ﴿وَزَكَاةً﴾؛ أي: وآتيناه طهارةً من الدنس، وبعدًا من اجتراح الذنوب والآثام، قال الإِمام: لم تدعه شفقته إلى الإخلال بواجب؛ لأن الرأفة ربما أورثت ترك الواجب، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ فالمعنى: جمعنا له التعطف عليهم مع الطهارة عن الإخلال بالواجبات انتهى. أو جعلناه صدقةً؛ أي: تصدق الله به على أبويه، أو وفقناه للتصدق على الناس.
٤ - ﴿وَكَانَ﴾ يحيى ﴿تَقِيًّا﴾؛ أي: مطيعًا لما أمر به، ومتجنبًا عن المعاصي لم يعمل خطيئةً قط، ولم يهم بها، ومن جملة تقواه: أنه كان يتقوت بالعشب، وكان كثير البكاء، فكان لدمعه مجار على خده. اهـ شيخنا.
(١) المراغي.
٥ - ١٤ ﴿و﴾ كان ﴿بَرًّا بِوَالِدَيْهِ﴾ عطف على تقيًا؛ أي: برًا بهما، لطيفًا بهما، محسنًا إليهما، والمعنى؛ أي: كان كثير البر بهما، والإحسان إليهما، والحدب عليهما، بعيدًا عن عقوقهما قولًا وفعلًا، وقد جعل الله طاعة الوالدين في المرتبة التي تلي مرتبة طاعته فقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ وقرأ (١) الحسن، وأبو جعفر في رواية، وأبو نهيك، وأبو مجلز: ﴿وبراً﴾ في الموضعين بكسر الباء؛ أي: وذا برّ.
٦ - ﴿وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا﴾؛ أي: ولم يكن يحيى متكبرًا على الناس، بل كان لين الجانب، متواضعًا لهم، وقد أمر الله سبحانه نبيه محمدًا - ﷺ - بمثل هذا في قوله: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥)﴾ ووصفه بقوله: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ ومن ثم لما تجبر إبليس وتمرد.. صار مبعدًا من رحمة ربه، وقال في "بحر العلوم (٢) ": الجبار المتكبر، وقيل: هو الذي يضرب ويقتل على الغضب، لا ينظر في العواقب وقيل: هو المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله. اهـ.
٧ - ولم يكن: ﴿عَصِيًّا﴾؛ أي: عاصيًا لربه، مخالفًا له فيما أمر به ونهى عنه، عاقًا بوالديه
١٥ - ثم ذكر سبحانه جزاءه على ما قدم من عمل صالح، وأسلف من طاعة ربه، فقال: ﴿سَلَامٌ﴾؛ أي: سلامة من الله تعالى وأمان ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على يحيى، أصله (٣): وسلمنا عليه في هذه الأحوال الثلاثة، وهي أوحش المواطن، لكن نقل إلى الجملة الاسمية، للدلالة على ثبات السلام واستقراره، فإن وحشتها لا تكاد تزول إلا بثبات السلام فيها ودوامه ﴿يَوْمَ وُلِدَ﴾ وخرج من رحم أمه، من طعن الشيطان كما يطعن سائر بني آدم ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ﴾ بموت الطبيعي، من هول الموت وما بعده من فتنة القبر وعذابه ﴿وَيَوْمَ يُبْعَثُ﴾ من القبر حال كونه ﴿حَيًّا﴾ من هول القيامة وعذاب النار، والمعنى (٤): وتحية من الله عليه أول ما يرى
(١) البحر المحيط.
(٢) السمرقندي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
الدنيا، وأول يوم يرى فيه أمر الآخرة، وأول يوم يرى فيه الجنة والنار، وإنما خص هذه المواضع الثلاثة لأن العبد أحوج ما يكون إلى رضا ربه فيه، لضعفه، وحاجته، وقلة حيلته، وأفتقاره إلى رحمة ربه ورأفته به.
١٦ - ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمد للناس ﴿فِي الْكِتَابِ﴾؛ أي: في القرآن وفي هذه السورة الكريمة، فإنها بعض من الكتاب، فصح إطلاقه عليها ﴿مَرْيَمَ﴾؛ أي: خبر مريم بنت عمران وقصتها، فإن الذكر لا يتعلق بالأعيان، ومريم بمعنى العابدة.
فائدة: قال بعض العلماء (١) في حكمة ذكر مريم في القرآن باسمها دون غيرها من النساء: إن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ، ولا يبتذلون أسماءَهن، بل يكنون عن الزوجة بالعرس والعيال والأهل ونحو ذلك، فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن، ولم يصونوا أسماءَهن عن الذكر والتصريح بها، فلما قالت النصارى في حق مريم ما قالت وفي ابنها.. صرح الله تعالى باسمها ولم يكنّ عنها تأكيداً للأمة والعبودية التي هي صفة لها، وإجراءً للكلام على عادة العرب في ذكر إمائها، ومع هذا فإن عيسى - عليه السلام - لا أب له، واعتقاد هذا واجب، فإذا تكرّر ذكرهُ منسوبًا إلى الأم.. استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود - لعنهم الله تعالى - كذا في "التعريف والإعلام" للإمام السهيلي.
وقال في "أسئلة الحكم": سميت مريم (٢) في القرآن باسمها لأنها أقامت نفسها في الطاعة كالرجل الكامل، فزكرت باسمها كما يذكر الرجال، من موسى وعيسى ونحوهما - عليهم السلام - وخوطبت كما خوطب الأنبياء، كما قال تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)﴾ ولذا قيل بنبوتها، وقوله: ﴿إِذِ انْتَبَذَتْ﴾ وابتعدت، ظرف لذلك المضاف المقدر، من النبذ وهو الطرح، والانتباذ انفعال منه ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾؛ أي: من قومها متعلق بانتبذت {مَكَانًا
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
شَرْقِيًّا} مفعول به لانتبذت، باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان؛ أي: مكانًا في الدار، مما يلي الشرق، والشرق: بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس عند الطلوع، وإنما (١) خص المكان بالشرق؛ لأنهم كانوا يعظمون جهة الشرق، لأنها مطلع الأنوار. حكى معناه ابن جرير.
ومن ثمة اتخذ النصارى المشرق قبلةً، كما اتخذ اليهود المغرب قبلةً؛ لأن الميقات وإيتاء التوراة واقعان في جانب الجبل الغربي، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ﴾.
والمعنى: أي (٢) واذكر يا محمد لقومك قصة مريم بنت عمران، حين اعتزلت وانفردت وتباعدت من قومها، فأتت مكانًا شرقيًا من دار خالتها إيشاع، زوجة زكريا فإن موضعها كان المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها، وإذا طهرت عادت إلى المسجد، فاحتاجت يومًا إلى الاغتسال، وكان الوقت وقتا الشتاء، فجاءت إلى ناحيةٍ شرقيةٍ من الدار، وموضع مقابل للشمس؛ لأن ذلك اليوم كان شاتيًا، شديدَ البرد.
١٧ - ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ﴾؛ أي: فأرخت من أدنى مكان أهلها ﴿حِجَابًا﴾؛ أي: سترًا تتستّر به حال التطهر من الحيض؛ أي: أرخت بينها وبين أهلها حجاباً يسترها عنهم، لئلا يروها حال التطهر من الحيض، فبينما هي في مغتسلها وقد تطهرت ولبست ثوبها.. أتاها الملك في صورة آدميٍّ شابٍّ أمرد، وضيىء الوجه، جعد الشعر، وذلك قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا﴾؛ أي: إلى مريم في مغتسلها ذلك ﴿رُوحَنَا﴾؛ أي: رسولنا جبريل - عليه السلام - فإنه كان روحانيًا، فأطلق عليه الروح للطافته مثله، ولأن الدين يحيى به ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا﴾؛ أي: فتصور وتشبه لأجلها وانتصاب قوله: ﴿بَشَرًا﴾ على أنه مفعول به؛ أي: تشبه لأجلها آدميًا ﴿سَوِيًّا﴾؛ أي: تام الخلق، كامل البنية، لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئًا،
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
وقيل: تمثل لها في صورة تِرْبٍ لها اسمه يوسف، من خدم بيت المقدس، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته تعالى، إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه، ولم تستطع استماع كلامه، ولأنه جاء للنفخ المنتج للبشر فتمثل بشرًا، ولو جاء على صورة الملك لجاء عيسى على صورة الروحانيين كما لا يخفى، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ القربان بعد الطهر التام أطهر والولد إِذن أنجب، فافهم.
وقرأ أبو حيوة وسهل (١): ﴿روحنا﴾ بفتح الراء؛ لأنه سبب لما فيه روح العباد، وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المقربين في قوله: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩)﴾؛ أي: مقربنا وذا روحنا، وذكر النقاش: أنه قرىء: ﴿روحنا﴾ بتشديد النون: اسم ملك من الملائكة،
١٨ - فلما رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق، قد خرق عليها الحجاب.. ظنت أنه يريدها بسوءٍ فاستعاذت بالله منه و ﴿قَالَتْ﴾؛ أي: مريم ﴿إِنِّي أَعُوذُ﴾ وأتحصن وامتنع ﴿بـ﴾ عصمة ﴿بِالرَّحْمَنِ مِنْ﴾ شر ﴿ك﴾ يا شاب، ذكره (٢) تعالى بعنوان الرحمانية للمبالغة في العياذ به تعالى، واستجلاب آثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها، قال في "الكشاف": دل على عفافها وورعها، أنها تعوذت الله من تلك الصورة الجميلة ﴿إِنْ كُنْتَ﴾ أيها الشاب ﴿تَقِيًّا﴾ تتقي الله وتبالي الاستعاذة به، وقيل (٣): إن ﴿تَقِيًّا﴾: اسم رجل صالح، فتعوذت منه تعجبًا، وقيل: إنه اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت، يتبع النساء، فظنت مريم أنَّ ذلك المشاهد هو ذلك المتقي، فمن ذلك تعوذت منه، وخصت الرحمن بالذكر ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه، والأول أولى، وجواب الشرط: محذوف ثقةً بدلالة السياق عليه؛ أي: فإني عائذة به أو فلا تتعرض.
والمعنى: أي فلما رأته فزعت منه وقالت: إني أستجير بالرحمن منك أن تنال مني ما حرم الله عليك، إن كنت ذا تقوى له، تتقي محارمه، وتجتنب معاصيه، فمن يتق الله.. يجتنب ذلك.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
وإجمال المعنى؛ أنه لما تبدى لها في صورة البشر، وهي في مكان منفرد، وبينها وبين قومها حجاب.. خافته وظنت أنه يريدها على نفسها، فقالت: إني أعوذ بالله منك، إن كنت تخافه، وقد فعلت المشروع في الدفع، وهو أن يكون بالهوينى، والأسهل فالأسهل.
وخلاصة ذلك: أن الاستعاذة لا تؤثر إلا في المتقي؛ لأن الله تعالى يخشى في حال دون حال، فهو كقوله تعالى ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: إن الإيمان يوجب ذلك،
١٩ - فلما علم جبريل خوفها.. ﴿قَالَ﴾ مجيبًا لها، ومزيلًا لما حصل لها من الخوف على نفسها ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ الناظر في مصلحتك، والمالك لأمرك، ولست ممن تظنّين، ولا يقع مني ما تتوهمين من الشر، ولكن رسول ربك، بعثني إليك.
﴿لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾؛ أي: ولدًا طاهرًا مبرأً من العيوب، وقد أضاف الهبة إلى نفسه من قبل أنها جرت على يده، بأن نفخ في جيبها بأمر الله تعالى، أو لكونه سببًا فيها من جهة كون الإعلام لها من جهته، والزكي: الطاهر من الذنوب، الذي ينمو على النزاهة والعفة، وقيل: المراد بالزكي: النبي.
وقرأ شيبة (١)، وأبو الحسن، وأبو بحرية، والزهري، وابن مناذر، ويعقوب، واليزيديّ، ومن السبعة نافع، وأبو عمرو: ﴿ليهب﴾؛ أي: ليهب ربك وقرأ الجمهور، وباقي السبعة، ﴿لِأَهَبَ﴾ بهمزة المتكلم
٢٠ - فلما عجبت مريم مما سمعت.. ﴿قَالَتْ﴾ مستبعدةً متعجبةً من حيث العادة، لا مستبعدةً من حيث القدرة؛ أي: قالت لجبريل: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾؛ أي: من أي وجه يكون لي ولد كما وصفت ﴿و﴾ الحال أني ﴿لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾؛ أي: لم يباشرني، ولم يقربني رجل بنكاح، ولست بذات زوج ﴿و﴾ الحال أَني أيضًا ﴿لَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾؛ أي: فاجرةً تبغي الرجال، ولا يتصور منِّي الفجور، تريد أنَّ الولد إما أن يكون من نكاح، أو سفاح ولم يكن هاهنا واحد منهما، ولم يقل (٢) بغية؛ لأنه وصف
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
غالب على المؤنث، كحائض؛ أي: فاجرة تبغي الرجال، يريد نفي الوطأ مطلقًا وأن الولد إما من النكاح الحلال أو الحرام، أما الحلال فلأنها لم يمسها بشر، وأما الحرام فلأنها لم تك بغيًا، فإذا انتفى السببان جميعًا.. انتفى الولد.
٢١ - ﴿قَالَ﴾ جبريل مجيبًا لها عما سألت ﴿كَذَلِكِ﴾؛ أي: الأمر كما قلت لك من هبة الولد لك، أو الأمر كما قلت (١) لي من أنه لم يمسسمك رجل نكاحًا أو سفاحًا ولكن ﴿قَالَ رَبُّكِ﴾ ومالك أمرك الذي أرسلني إليك ﴿هُوَ﴾؛ أي: هبة الولد لك، وخلقه منك من غير أن يمسك بشر أصلًا ﴿عَلَيَّ﴾ خاصةٌ ﴿هَيِّنٌ﴾؛ أي: سهل وإن كان مستحيلًا عادةً؛ لأني لا أحتاج إلى الوسائط.
والمعنى (٢): أي قال الملك مجيبًا لها عما سألت إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلام، ولم تكوني ذات بعلٍ ولا تقترفين فاحشةً، فإنه تعالى على ما يشاء قدير، ولا يمتنع عليه فعل ما يريده، ولا يحتاج في إنشائه إلى المواد والآلات، ونحو الآية قوله في سورة آل عمران: ﴿كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
قوله: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ﴾ معطوف على علةٍ محذوفة لمعلول محذوف، تقديره: فعلنا ذلك لنبين به قدرتنا، ولنجعل هذا الغلام أو خلقه من غير أب ﴿آيَةً لِلنَّاسِ﴾؛ أي: برهانًا يستدلون به على كمال قدرتنا، وباهر حكمتنا، أو علة لمعلول محذوف متأخر، تقديره؛ أي: ولنجعله آيةً للناس خلقناه.
والمعنى: وفعلنا ذلك لنجعل خلقه من غير أبٍ برهانًا على قدرتنا، فقد خلقنا أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلقنا عيسى من أنثى من غير ذكر، وخلقنا حواء من ذكر من غير أنثى، وخلقنا بقية بني آدم من ذكر وأنثى، فجمله أنواع خلق البشر أربعة، وإلى الأولين أشار القائل:
ألاَ رُبَّ مَوْلُوْدٍ وَلَيْسَ لَهُ أبُ وَذِيْ وَلَدٍ لَمْ يَلِدْهُ أَبَوَانِ
وقوله: ﴿وَرَحْمَةً مِنَّا﴾: معطوف على ﴿آيَةً﴾؛ أي: وخلقناه لنجعله رحمةً
(١) النسفي.
(٢) المراغي.
عظيمةً كائنةً منا للناس، لما يناله منه من الهداية، والخير الكثير؛ لأن كل نبي رحمةٌ لأمته لأنه يدعوهم إلى توحيده وعبادته ﴿وَكَانَ﴾ خلقه بلا فحلٍ ﴿أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ قضيت به في سابق علمي، وحكمت بوقوعه لا محالة، فيمتنع خلافه، فلا فائدة في الحزن لأنه لا يبدّل ولا يغيّر ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)﴾.
٢٢ - قوله: ﴿فَحَمَلَتْهُ﴾ قبله كلام مطوي والتقدير: فلما قال لها جبريل ما قال.. استسلمت لقضاء لله، واطمأنت إلى قوله، فدنا منها فنفخ في جيب درعها - الفتحة التي في القميص من الأمام - فوصلت النفخة إلى بطنها، فحملته، قاله ابن عباس، وقيل (١): كانت النفخة في ذيلها، وقيل: في فمها، والقرآن قد أثبت النفخ فقال: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾ ولم يعين موضع النفخة، فلا نجزم بشيء من ذلك إلا بالدليل القاطع، قيل: إن وضعها كان متصلًا بهذا الحمل، من غير مضي مدة للحمل، ويدل على ذلك قوله: ﴿فَانْتَبَذَتْ﴾ أبتعدت واعتزلت وتنحت من الناس ﴿بِهِ﴾؛ أي: بالذي حملته، وهو عيسى - عليه السلام - حيث أتى بفاء التعقيب، وقيل (٢): كانت مدة العمل ثلاث ساعات، وقيل حمل في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، وقيل: ستة أشهر، وقيل: سبعة أشهر، كما قاله أبو العالية، والضحاك، وعطاء، وقيل: ثمانية أشهر، ولم يعش مولود وضع لثمانية أشهر إلا عيسى، وهذه أقوال مضطربة متناقضة، كان ينبغي أن يضرب عنها صفحًا، إلا أن المفسرين ذكروها وسودوا بها الورق.
والقرآن الكريم لم يعيق مدة العمل، ولا حاجة إليها في العبرة، فنقول: إنها كانت كما يكون غيرها من النساء، إلا إذا ثبت غيره، وكذلك لا حاجة إلى تعيين سنها حينئذ، إذ لا يتعلق به كبير فائدة؛ لأنه قيل: كانت بنت أربع عشرة سنة، وقيل: بنت خمس عشرة سنة، وقيل: بنت ثلاث عشرة، وقيل: بنت اثنتي عشرة سنة، وقيل: عشر سنين: وقيل: بعد أن حاضت حيضتين. ﴿مَكَانًا قَصِيًّا﴾؛
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
أي: مكانًا قصيًا بعيدًا عن أهلها، قيل: كان هذا المكان وراء الجبل، وقيل: أبعد مكان في تلك الدار، وقيل: أقصى الوادي وقيل: إنها فرت إلى مصر: وقيل: إلى موضع يعرف ببيت لحم، بينه وبين إيلياء أربعة أميال، ولا حاجة إلى تعيينه، وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة ﴿قاصيا﴾ ذكره ابن الجوزي.
وإنما اتخذت المكان البعيد حياءً من قومها، وهي من سلائل بيت النبوة، ولأنها استشعرت منهم باتهامها بالريبة، فرأت أن لا تراهم، وأن لا يروها.
قال وهب بن منبه (١): لما حملت مريم بعيسى.. كان معها ابن عم لها، يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد، ولا يُعلم في أهل زمانهما أحد أشد عبادةً منهما، وأوَّل من علم حمل مريم هو يوسف، فتحيَّر في أمرها فكلما أراد أن يتهمها.. ذكر عبادتها، وأنها لم تغب عنه ساعةً قط، وإذا أراد أن يبرئها.. رأى الذي ظهر بها من الحمل، فأول ما تكلم به أن قال: قد وقع في نفسي من أمرك شيء، وقد حرصت على كتمانه، فغلبني ذلك، فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري، فقالت: قل: قولًا جميلاً، قال: أخبريني يا مريم، هل ينبت زرع بغير بذر، وهل تنبت شجرة من غير غيث، وهل يكون ولد من غير ذكر، قالت: نعم ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث، وبالقدرة جعل الغيث حياةَ الشجرة، بعدما خلق كل واحد منهما على حدة، أو نقول: إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها، فقال يوسف: لا أقول هذا، ولكني أقول: إن الله قادر على ما يشاء، فيقول له: كن فيكون، فقالت له مريم: ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى، فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه، وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل، وضيق القلب،
٢٣ - فلما دنت ولادتها.. أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك، فخرجت إلى أقصى الدار {فَأَجَاءَهَا
(١) الخازن.
106
الْمَخَاضُ}؛ أي: فألجأها وجع الولادة وأم الطلق، يقال: جاء بها، وأجاءها، فهو تعدية جاء بالهمزة، ويقال: مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَأَجَاءَهَا﴾؛ أي: ساقها واضطرها، وقال الشاعر:
وجَارٌ سَارَ مُعْتَمِدَاً إِلَيْكُم أَجَاءَتْهُ المَخَافَةُ والرَّجَاءُ
وأمال فتحة الجيم الأعمش، وطلحة، وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم: قال ابن عطية، وشبيل بن عزرة: ﴿فاجأها﴾ من المفاجاة، وقال صاحب "اللوامح" شبيل بن عزرة: ﴿فاجأها﴾ فقيل: هو من المفاجاة، بوزن فاعلها وروي عن مجاهد: كقراءة حماد عن عاصم، وقرأ (٢) عكرمة، وإبراهيم النخعي، وعاصم الجحدري ﴿المِخَاض﴾ بكسر الميم؛ أي: فالجأها واضطرها وجه الولادة أن تستند ﴿إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾؛ أي: إلى (٣) أصل نخلة يابسة، لا رأس لها للتشبث به، لتسهل الولادة، كما أن الحامل تتعلق لشدة وجع الولادة بشيء مما تجد عندها، وكان الوقت شتاءً شديد البرد، فلما اعتمدت عليه بصدرها أخضر، وأطلع الجريد والخوص والثمر رطبًا في وقت واحد، كما أن حمل عيسى وتصويره وولادته في وقت واحد، وكأن الله أرشدها إلى النخلة ليريها من آياته ما يسكن روعتها، وليطعمها الرطب الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء، فهو خرسة لها.
والخرسة بالتاء: طعام النفساء، وبدونها طعام الولادة، ولأن النخلة من أقل الأشجار صبرًا على الأرض، ولأنها لا تثمر إلا عند اللقاح من ذكر النخل، وإذا قطعت رأسها ماتت، فكأنه تعالى قال: كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر، فكذا النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح، ثم إني أظهر الرطب من غير اللقاح، ليدل ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر، فحملها بمجرد هزها أنسب شيء بإتيانها بولد من غير والد.
(١) البحر المحيط.
(٢) زاد المسير.
(٣) المراح.
107
والجذع ما بين العرق والغصن؛ أي: أسفلها ما دون الرأس الذي عليه الثمر ﴿قَالَتْ﴾ مريم لما خافت أن يظن بها السوء في دينها، فيضع في المعصية من يتكلم فيها، وهي راضية بما بشرها به جبريل:
﴿يَا﴾؛ أي: أنبهك يا أيها المخاطب، أو يا هؤلاء ﴿لَيْتَنِي مِتُّ﴾؛ أي: أتمنى موت نفسي ﴿قَبْلَ هَذَا﴾ الوقت الذي رأيت فيه ما رأيت من الأمر العظيم، وقرأ (١) نافع، وحفص، وحمزة، والكسائي: ﴿مِتُّ﴾ بكسر الميم، والباقون بالضم ﴿وَكُنْتُ نَسْيًا﴾؛ أي: شيئًا تافهاً حقيرًا، شأنه أن ينسى، ولا يعتد به أصلًا، كخرقة الطمث ونحوها، وقرأ حفص، وحمزة، وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى: بفتح النون، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، والكسائي: بكسر النون، وهو فعل بمعنى مفعول، كالذبح وهو ما من شأنه أن يذبح، وقرأ محمد بن كعب القرظي ﴿نساءً﴾ بكسر النون والهمز مكان الياء، وهي: قراءة نوف الأعرابي، وقرأ بكر بن حبيب السهمي، ومحمد بن كعب، أيضًا: ﴿نسأ﴾ بفتح النون والهمزة، وهو مصدر من نسأت اللبن، إذا صببت عليه ماءً، فاستهلك اللبن فيه لقلته، فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن، الذي لا يرى ولا يتميز من الماء، وقال ابن عطية: وقرأ بكر بن حبيب ﴿نسأ﴾ بفتح النون والسين من غير همز، بناه على فعل كالقبض والنقض، بمعنى المقبوض والمنقوض ﴿مَنْسِيًّا﴾؛ أي: متروكًا لا يخطر ببال أحد من الناس، وهو نعت للمبالغة.
وهذا جري على عادة الصالحين عند اشتداد الأمر عليهم (٢)، فإنهم يقولون مثل ذلك، كما روي عن أبي بكر: أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر، تقع على الشجرة وتأكل من الثمر، وددت أني ثمرةٌ ينقرها الطائر. وعن عمر أنه أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة ولم أك شيئًا. وعن علي
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
108
أنه قال يوم الجمل: يا ليتني من قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وعن بلال أنه قال: ليت بلالًا لم تلده أمه.
وقرأ الأعمش، وأبو جعفر في رواية (١): ﴿منسيا﴾ بكسر الميم إتباعًا لحركة السين، كما قالوا: منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء.
٢٤ - ﴿فَنَادَاهَا﴾؛ أي: فنادى جبريل مريم ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت مريم من مكان أسفل منها، تحت الأكمة، حين سمع جزعها؛ لأن عيسى لم يتكلم حتى أتت به قومها، وقال في (٢) القصص من تحت النخلة، أو فناداها (٣) عيسى - عليه السلام - كما قال الحسن البصري، وسعيد بن جبير: وقد أنطقه الله حين وضعته تطييبًا لقلبها، وإزالةً للوحدة عنها، حتى تشاهد بادىء ذي بدءٍ علو شأن ذلك المولود الذي بشرها جبريل به.
وقرأ ابن عباس (٤): ﴿فناداها ملك من تحتها﴾ وقرأ البراء بن عازب، وابن عباس، والحسن، وزيد بن علي، والضحاك، وعمرو بن ميمون، ونافع، وحمزة، والكسائي، وحفص ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ بكسر الميم والتاء حرف جر، وقرأ الابنان: ابن كثير، وابن عامر، والأبوان: أبو عمرو، وأبو بكر، وعاصم وزر ومجاهد، والجحدري، والحسن، وابن عباس في رواية عنهما: ﴿مَنْ تحتَها﴾ بفتح الميم والتاء بمعنى الذي، وتحت: ظرف منصوب صلة لـ (من)، قال ابن الجوزي (٥): فمن قرأ بكسر الميم ففيه وجهان:
أحدهما: ناداها الملك من تحت النخلة، وقيل: كانت على نشز فناداها الملك أسفل منها.
والثاني: ناداها عيسى لما خرج من بطنها. قال ابن عباس: كل ما رفعت إليه طرفك فهو فوقك، وكل ما خفضت إليه طرفك فهو تحتك.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط وزاد المسير.
(٥) زاد المسير.
109
ومن قرأ بفتح الميم ففيه الوجهان المذكوران، وكان الفراء يقول: ما خاطبها إلا الملك على القراءتين جميعًا. انتهى.
﴿أَلَّا تَحْزَنِي﴾ أن إما مفسرة للنداء؛ أي: لا تحزني يا مريم بولادة عيسى وبمكان القحط، أو لا تحزني يا أمي، أو مصدرية على حذف الباء؛ أي: بأن لا تحزني والحزن (١): غم يلحق لوقوعه من ذوات نافع، أو حصول ضار ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ﴾ المحسن إليك ﴿تَحْتَكِ﴾؛ أي في مكان أسفل منك، أو قريب منك، أو تحت ذيلك ﴿سَرِيًّا﴾؛ أي: نهرًا صغيرًا، أو غلامًا رفيع الشأن، سامي القدر، ذا سخاء في مروءةٍ.
قال جمهور المفسرين (٢): السري: النهر الصغير، والمعنى قد جعل ربك تحت قدمك نهرًا، قيل: كان نهرًا قد انقطع عنه الماء فأرسل الله فيه الماء لمريم، وأحيا به ذلك الجذع اليابس، الذي اعتمدت عليه، حتى أورق وأثمر، وقيل: المراد بالسريّ هنا عيسى، والسريّ العظيمُ من الرجال، ومنه قولهم: فلان سريّ؛ أي: عظيم، ومن قومٍ سراةٍ؛ أي: عظام.
والمعنى على قراءة ﴿مِنْ﴾ الجازَة: فناداها (٣) جبريل من مكان أسفل منها تحت الأكمة؛ أي: لا تحزني يا مريم على ولادة عيسى، قد جعل ربك بمكان أسفل منك، أو قريبًا منك، نهرًا صغيرًا، أو إنسانًا شريفًا جليلًا، ويدل على ذلك قراءة من قرأ: ﴿فناداها ملك من تحتها﴾ أو ناداها المولود كائنًا من تحت ذيلها؛ أي: لا تحزني يا أمي قد جعل ربك تحتك جدولًا يجري، ويمسك بأمرك، أو نبيًا مرتفعَ القدر، وعلى قراءة: ﴿مَنْ﴾ الموصولة فناداها عيسى الذي كان تحت ذيلها؛ أي: لا تحزني قد جعل ربك تحتك رئيسًا عزيزًا، لا يكاد يوجد له نظير، أو جدولًا بضرب جبريل الأرض برجله، أو فناداها جبريل من تحتها يقبل الولد كالقابلة، أو من تحت النخلة، بأن لا تحزني قد جعل ربك قربك عين ماء عذب،
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
110
تعظيمًا لشأنك، فإن الله تعالى أرسل جبريل إليها ليناديها بهذه الكلمات، كما أرسل إليها في أول الأمر، ليكون ذلك تذكيرًا لها ما تقدم من أصناف البشارات.
أو يقال: إن الله تعالى أنطق عيسى لها حين وضعته، تطييبًا لقلبها، وإزالةً للوحشة عنها، حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل، من علو شأن ذلك المولود، كما قال الحسن بن علي - رضي الله عنهما -: إن عيسى - عليه السلام - لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق، فما كانت تشير إلى عيسى بالكلام.
٢٥ - ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ﴾؛ أي: حركي وأميلي ﴿إِلَيْكِ﴾؛ أي: إلى جهتك يا مريم ﴿بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾، أي: جذع النخلة، فالباء صلة للتأكيد، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾؛ أي: حركي أصل النخلة تحريكًا عنيفًا إلى جهتك ﴿تُسَاقِطْ عَلَيْكِ﴾؛ أي: تسقط النخلة ﴿عَلَيْكِ﴾ إسقاطًا متواترًا بحسب تواتر الهز.
﴿رُطَبًا﴾؛ أي: بسرًا ناضجًا ﴿جَنِيًّا﴾؛ أي: صالحًا للأجناء، والجني فعيل بمعنى مفعول؛ أي: رطبًا مجنيًا؛ أي: صالحًا للاجتناء، قد بلغ الغاية، قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب، ولا للمريض خير من العسل.
والمعنى: أي (١) أميلي إليك جذع النخلة واجذبيه بتحريكه، يسقط عليك رطبًا جنيًا تأكلين منه ما تشائين، وتلك آية أخرى لها، روي أنها كانت نخلةً يابسةً لا رأس لها ولا ثمر، وكان الوقت شتاءً، فأنزل الله لها رزقًا، فجعل للنخلة رأسًا وخوصًا، وجعل لها ثمرًا رطبًا، وهذه رواية يعوزها الدليل.
وفي هذا إيماءٌ وتنبيه إلى أن من يقدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء، يقدر أن يجعلها تحمل من غير السنن العادية، وإلى أن السعي في الرزق مطلوب، ولا ينافي التوكل، ولله درّ القائل:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَوْحَى لِمَرْيَمِ وَهُزِّيْ إِلَيْكِ الْجِذع يُسَاقِطِ الرُّطَبْ
وَلَوْ شَاءَ أحْنَى الْجِذْعَ مِنْ غَيْرِ هَزِّهِ إِلَيْهَا وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ
(١) المراغي.
وقرأ ابن كثير (١)، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: ﴿تَسَّاقَط﴾ بفتح التاء والسين وشدها بعدها ألف وفتح القاف، وقرأ حمزة، والأعمش، وطلحة، وابن وثاب، ومسروق ﴿تساقط﴾ كذلك إلا أنهم خففوا السين وقرأ حفص عن عاصم: ﴿تُسَاقِطْ﴾ بضم التاء وكسر القاف مخففة السين، مضارع ساقطت، وقرأ يعقوب، وأبو زيد عن المفضل، والبراء بن عازب، والأعمش في رواية: ﴿يساقط﴾ بالياء مفتوحةً وتشديد السين وفتح القاف، فهذه القراءات المشاهير، وقرأ أبي بن كعب، وأبو حيوة، ومسروق: ﴿تسقط﴾ بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف، وعن أبي حيوة كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعنه أيضًا: ﴿تسقط﴾ بالتاء من فوق مفتوحةً وضمّ القاف، وعنه كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وقال بعضهم في قراءة أبي حيوة هذه: أنه قرأ: ﴿رطب جني﴾ بالرفع على الفاعلية، وقرأ أبو السماك العدوي، وابن حزام: ﴿تتساقط﴾ بتاءَين مفتوحتين وبألف، وقرأ معاذ القارىء، وابن يعمر ﴿نساقط﴾ بالنون.
وقال الزجاج (٢): من قرأ ﴿يساقط﴾. فالمعنى: يتساقط فادغمت التاء في السين، ومن قرأ ﴿تساقط﴾.. فكذلك أيضًا، وأنَّث لأن لفظ النخلة يؤنث، ومن قرأ ﴿تساقط﴾ بالتاء والتخفيف.. فإنه حذف من تتساقط اجتماع التاءَين، ومن قرأ ﴿يساقط﴾.. ذهب إلى معنى تساقط الجذع عليك، ومن قرأ ﴿نساقط﴾ بالنون.. فالمعنى: نحن نساقط عليك فنجعله لك آيةً، وقرأ (٣) طلحة بن سليمان ﴿جَنِيًّا﴾ بكسر الجيم اتباعًا لحركة النون
٢٦ - ﴿فَكُلِي﴾ يا مريم من ذلك الرطب ﴿وَاشْرَبِي﴾ من ماء النهر، أو فكلي من ذلك الرطب، واشربي من عصيره، وكان (٤) ذلك إرهاصًا لعيسى، أو كرامةً لأمه، وليس معجزة لفقد شرطها وهو: التحدي كما في "بحر العلوم".
قال الإِمام: وقدم الأكل على الشرب لأن حاجتها إليه أشد من حاجتها إلى
(١) البحر المحيط وزاد المسير.
(٢) زاد المسير.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
112
الماء، لكثرة ما سأل منها من الدماء ﴿وَقَرِّي عَيْنًا﴾ أي وطيبي نفسًا، وبردي قلبك، وارفضي عنه ما أحزنك، وأهمك، فإن الله تعالى قد نزه ساحتك بالخوارق، من جرى النهر المنقطع، واخضرار النخلة اليابسة، وإثمارها قبل وقتها، لأنهم إذا رأوا ذلك، لم يستبعدوا ولادة ولد بلا فحل، واشتقاقه من القرار، فإن العين إذا رأت ما يسر النفس.. سكنت إليه من النظر إلى غيره، يقال: أقر الله عينيك؛ أي: صادف فؤادك ما يرضيك، فيقر عينك من النظر إلى غيره.
والمعنى: أي طيبي نفسًا بولدك عيسى، فالعين إذا رأت ما يسر النفس.. يسكنت إليه من النظر إلى غيره، وإنّ دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، ولذلك يقال للمحبوب: قرة العين وللمكروه سخنة العين، فإن الله قدير أن ينزه ساحتك، ويبعد عنك تخرصات المبطلين، الذين يتقيدون بالسنن التي جعلها الله تعالى الطريق للولادة في البشر، ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك حتى يثبتوا لك القداسة والطهر، وقرأ الجمهور (١): ﴿قَرِّي﴾ بفتح القاف، وحكى ابن جرير: أنه قرىء بكسرها، قال وهي لغة نجدٍ.
﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا﴾؛ أي: فإن تري أحدًا من البشر كائنًا من كان، فيسألك عن شأنك وشأن ولدك، و (ما) مزيدة لتأكيد معنى الشرط، وهي بمنزلة لام القسم في أنها إذا دخلت على الفعل.. دخلت معها النون المؤكدة ﴿فَقُولِي﴾ له باللسان أو فأشيري له بالأركان: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ وأوجبت على نفسي ﴿لِلرَّحْمَنِ﴾ سبحانه ﴿صَوْمًا﴾؛ أي: صمتًا عن الكلام، أو صيامًا، وكان صيام المجتهدين في بني إسرائيل بالإمساك عن الطعام والكلام حتى يمسي، وقد نسخ في هذه الأمة؛ لأنه - ﷺ - نهى عن صوم الصمت.
أي: قولي إن طلب منك الكلام أحد من الناس ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ وصمتًا ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾؛ أي: آدميًا بعد أن أخبرتك بنذري، وإنما
(١) الشوكاني.
113
أكلم الملائكة وأناجي ربي، وإنما منعت مريم من الكلام ليكون عيسى المتكلم عنها، فيكون أقوى لحجتها في إزالة التّهمَة عنها، ولكراهة مجادلة السفهاء.
والمعنى: أي فإن رأيت أحدًا من بني آدم يسألك عن أمرك وأمر ولدك وكيف ولدته.. فأشيري إليهم: أني أوجبت على نفسي لله صمتًا ألا أكلم اليوم أحدًا فإن كلامي يقبل الرد والجدل، ولكن يتكلم عني هذا المولود، الذي لا يقبل كلامه الدفع والرد، وإني أنزه نفسي مجادلة السفهاء، ولا أكلم إلا الملائكة أو أناجي الخالق، وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس: سفيه لم يجد مسافهًا، وفي الآية إشارة إلى الصوم عن الالتفات لغير الله تعالى، كما قال بعض السلف الدنيا يوم ولنا فيه صوم، ولا يكون إفطار إلا على مشاهدة الهلال.
والظاهر (١): أن الآمر لها بالأكل والشرب وذلك القول هو ولدها، وقيل: جبريل - عليه السلام - على الخلاف المار، وليس الصمت عن الكلام من شريعة الإِسلام، فقد روي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم، فقال: إن الإِسلام قد هدّم هذا فتكلمي.
وقرأ ابن عباس (٢)، وأبو مجلز، وابن السميقع، والضحاك، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: ﴿ترئنَّ﴾ بهمزة مكسورة من غير ياء، وقرأ أبو عمرو فيما روى عنه ابن رومي: ﴿ترئن﴾ بالإبدال من الياء همزةً وروي عنه: ﴿لترؤن﴾ بالهمزة أيضًا، بدل الواو، قال ابن خالويه: وهو عند أكثر النحويين لحن، وقرأ أبو جعفر، وشيبة: ﴿ترين﴾ بسكون الياء وفتح النون خفيفةً، قال ابن جني: وهي شاذة؛ يعني: لأنه لم يؤثر الجازم فيحذف النون، وقرأ (٣) أبي: ﴿إني نذرت للرحمن صومًا صمتًا﴾ بالجمع بين اللفظين، وكذا روي عن أنس، وروي عنه أنه قرأ: ﴿صومًا وصمتًا﴾ بالواو.
(١) البحر المحيط.
(٢) زاد المسير.
(٣) البحر المحيط.
(٤) الشوكاني.
114
الإعراب
﴿كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣)﴾.
﴿كهيعص (١)﴾: إن قلنا إنه من الأمور التي استأثر الله سبحانه بعلمها.. فلا محل له من الإعراب؛ لأن الإعراب فرع عن المعنى، والمعنى لم يعرف، وإن قلنا: إنه علم على السورة.. فيجري عليه من الإعراب، ما يجري على أسماء التراجم من الأوجه الخمسة أو السبعة، كما ذكرناها في "مناهل الرجال على لامية الأفعال" ﴿ذِكْرُ﴾: خبر لمبتدء محذوف تقديره هذا المتلو عليك من القرآن ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾ أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره فيما يتلى عليكم ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾: والجملة الإسمية: مستأنفة ﴿ذِكْرُ﴾ مضاف ﴿رَحْمَتِ﴾: مضاف إليه وهو من إضافة المصدر لمفعوله، والفاعل، محذوف تقديره ذكر الله رحمة عبده زكريا ﴿رَحْمَتِ﴾ مضاف، ﴿رَبِّكَ﴾: مضاف إليه وهو من إضافة المصدر لفاعله ﴿عَبْدَهُ﴾: مفعول به لرحمة ﴿زَكَرِيَّا﴾ بدل من عبده أو عطف بيان له ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق برحمة ربك؛ أي: رحمة الله إياه وقت ندائه ﴿نَادَى رَبَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعله: ضمير يعود على عبده ﴿نِدَاءً﴾: مفعول مطلق ﴿خَفِيًّا﴾: صفة له والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على ﴿زَكَرِيَّا﴾ والجملة الفعلية: في محل الجر بدل من جملة نادى ﴿رَبِّ﴾ إلى قوله: ﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ مقول محكي وإن شئت قلت ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء: في محل النصب مقول قال ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه ﴿وَهَنَ الْعَظْمُ﴾: فعل وفاعل ﴿مِنِّي﴾: حال من ﴿الْعَظْمُ﴾ والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر إن وجملة، إن في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء، ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَهَنَ الْعَظْمُ﴾.
115
﴿شَيْبًا﴾: تمييز محول عن الفاعل منصوب بـ ﴿اشْتَعَلَ﴾ والتقدير: واشتعل شيب الرأس ﴿وَلَمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لَمْ﴾: حرف جزم ﴿أَكُنْ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بلم، واسمها: ضمير يعود على ﴿زَكَرِيَّا﴾ تقديره: أنا ﴿شَقِيًّا﴾: خبرها ﴿بِدُعَائِكَ﴾: متعلق بـ ﴿شَقِيًّا﴾ ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، وجملة ﴿لم أكن﴾ في محل الرفع معطوف على جملة قوله ﴿وَهَنَ الْعَظْمُ﴾ على كونها خبر إن.
﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)﴾
﴿وَإِنِّي﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إني﴾: ناصب واسمه ﴿خِفْتُ الْمَوَالِيَ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿مِنْ وَرَائِي﴾: جار ومجرور حال من ﴿الْمَوَالِيَ﴾. ﴿مِنْ﴾: متعلق بمحذوف أو بما تضمنه ﴿الْمَوَالِيَ﴾ من معنى الفعل تقديره: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ﴾ فعل ﴿الْمَوَالِيَ﴾ أو ﴿خِفْتُ﴾ الذين يلون الأمر ﴿مِنْ وَرَائِي﴾ ولا يصح تعلقه بخفت لفساد المعنى، كما في "السمين" ووجه فساده: أن الخوف واقع في الحال لا فيما يستقبل، فلو جعل ﴿مِنْ وَرَائِي﴾ متعلقًا بخفت.. لزم أن يكون الخوف واقعًا في المستقبل؛ أي: بعد موته وهو كما ترى ظاهر الفساد، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر إِن وجملة إن: في محل النصب معطوفة على جملة إن في قوله: ﴿إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾. ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره والجملة: في محل النصب حال من فاعل خفت ﴿فَهَبْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا علمتَ يا إلهي شكواي إليك، وأردت بيان مسألتي منك فأقول لك ﴿هَبْ﴾ فعل دعاء وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لِي﴾ جار ومجرور متعلق به ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾: جار ومجرور حال من ﴿وَلِيًّا﴾ ﴿وَلِيًّا﴾: مفعول به منصوب بهب والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة: إذا المقدرة: في محل النصب مقول قال ﴿يَرِثُنِي﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول والثاني محذوف. تقديره: النبوة والحبورة، والجملة في محل النصب صفة لـ ﴿وَلِيًّا﴾ ﴿وَيَرِثُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر
116
ومفعوله محذوف، تقديره، العلم، والدين، والجملة: معطوفة على جملة ﴿يَرِثُنِي﴾ ﴿مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَرِثُ﴾ ﴿وَاجْعَلْهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعله ضمير يعود على الله ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف ﴿رَضِيًّا﴾: مفعول ثان لـ ﴿جعل﴾ والجملة الفعلية: معطوفة على جملة قوله ﴿هَبْ لِي﴾.
﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧)﴾.
﴿يَا زَكَرِيَّا﴾ منادى مفرد العلم مبني على الضم المقدر، أو الظاهر وجملة النداء وما بعده: في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: قال الله سبحانه ﴿يَا زَكَرِيَّا﴾ وجملة القول المحذوف: مستأنفة ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿نُبَشِّرُكَ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله ﴿بِغُلَامٍ﴾ متعلق به والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول القول المحذوف، على كونها جواب النداء ﴿اسْمُهُ يَحْيَى﴾ مبتدأ وخبر والجملة، في محل الجر صفة أولى لـ ﴿غُلَامٍ﴾ ﴿لَمْ نَجْعَلْ﴾ جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لجعل ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور حال من ﴿سَمِيًّا﴾. ﴿سَمِيًّا﴾: مفعول أول لجعل وجملة ﴿نَجْعَلْ﴾ في محل جر صفة ثانية لـ ﴿غُلَامٍ﴾.
﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (٩)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على ﴿زَكَرِيَّا﴾ والجملة: مستأنفة ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة ﴿أَنَّى﴾: اسم استفهام للتعجب في محل النصب الظرفية المكانية بمعنى أين، أو في محل النصب على الحالية بمعنى كيف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر يكون ﴿لِي﴾: خبر ﴿يَكُونُ﴾ مقدم ﴿غُلَامٌ﴾: اسمه مؤخر وجملة ﴿يَكُونُ﴾: في محل النصب مقول قال ﴿وَكَانَتِ﴾ ﴿الواو﴾ واو الحال ﴿كانت امرأتي عاقرا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره والجملة: في محل النصب حال من الياء في ﴿لِي﴾ ﴿وَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾:
117
حالية ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق ﴿بَلَغْتُ﴾ فعل وفاعل ﴿مِنَ الْكِبَرِ﴾: حال من ﴿عِتِيًّا﴾. ﴿عِتِيًّا﴾: مفعول به لـ ﴿بَلَغْتُ﴾: والجملة الفعلية: في محل النصب حال ثانية من الياء في ﴿لِي﴾ أو من الياء في ﴿امْرَأَتِي﴾ لأن المضاف كالجزء من المضاف إليه لأن المرأة كاللباس للرجل. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله أو على جبريل والجملة: مستأنفة ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور خبر لمبتدء محذوف تقديره، الأمر كذلك والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿قَالَ رَبُّكَ﴾: فعل وفاعل كرره للتأكيد ﴿هُوَ﴾: مبتدأ ﴿عَلَيَّ﴾ متعلق بـ ﴿هَيِّنٌ﴾. ﴿هَيِّنٌ﴾: خبر المبتدأ والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق ﴿خَلَقْتُكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ متعلق بخلقتك والجملة الفعلية: في محل النصب حال من الياء في ﴿عَلَيَّ﴾ ﴿وَلَمْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم ﴿تَكُ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه سكون ظاهر على النون المحذوفة للتخفيف، واسمها ضمير يعود على زكريا ﴿شَيْئًا﴾: خبرها وجملة تكون في محل النصب حال من كاف ﴿خَلَقْتُكَ﴾.
﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (١٠)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿زَكَرِيَّا﴾ والجملة: مستأنفة ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة ﴿اجْعَلْ﴾: فعل دعاء ﴿لِي﴾ جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿جْعَلْ﴾، ﴿آيَةً﴾ مفعول أول لجعل والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله والجملة مستأنفة ﴿آيَتُكَ﴾ مبتدأ ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿لَا﴾: نافية ﴿تُكَلِّمَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾ وفاعله ضمير يعود على زكريا ﴿النَّاسَ﴾: مفعول به ﴿ثَلَاثَ لَيَالٍ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تُكَلِّمَ﴾. ﴿سَوِيًّا﴾: حال من فاعل تكلم أي حالة كونك سليمًا بلا علة ولا مرض، أو منصوب على كونه صفة لثلاث بمعنى أنها كاملات، وجملة ﴿تُكَلِّمَ﴾: في محل
118
الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢)﴾.
﴿فَخَرَجَ﴾ الفاء: استئنافية ﴿خَرَجَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على زكريا ﴿عَلَى قَوْمِهِ﴾ متعلق بـ ﴿خَرَجَ﴾ وكذا قوله: ﴿مِنَ الْمِحْرَابِ﴾ متعلق بـ ﴿خَرَجَ﴾. ﴿فَأَوْحَى﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أوحى﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على زكريا ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به والجملة معطوفة على جملة ﴿خرج﴾ ﴿أَن﴾: مفسرة، أو مصدرية على تقدير الباء ﴿سَبِّحُوا﴾ فعل أمر وفاعل ومفعول مبني على حذف النون ﴿بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾: منصوبان على الظرفية الزمانية، متعلقان بـ ﴿سَبِّحُوا﴾ والجملة: جملة مفسرة لـ ﴿أَوْحَى﴾ لا محل لها من الإعراب، أو في محل الجر بالباء المقدرة المتعلقة بـ ﴿أوحى﴾ ﴿يَحْيَى﴾ ﴿يَا﴾ أداة نداء ﴿يَحْيَى﴾: منادى مفرد العلم في محل النصب مبني على الضم المقدرة للتعذر وجملة النداء: في محل النصب مقول لقول محذوف معطوف على مقدر، تقديره: فحملت به ووضعته ومضى عليه سنتان مثلاً، فقال له الرب - جل جلاله - على لسان الملك ﴿خُذِ الْكِتَابَ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على يحيى ﴿بِقُوَّةٍ﴾: متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿خُذِ﴾؛ أي: حالة كونك متلبسًا بجدٍ واجتهادٍ ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان لأن آتى بمعنى أعطى والجملة مستأنفة أو معطوفة على قولٍ محذوف؛ أي: فقلنا له: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ﴾ ﴿صَبِيًّا﴾: حال من الهاء في ﴿آتَيْنَاهُ﴾.
﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (١٤) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)﴾.
﴿وَحَنَانًا﴾: معطوف على ﴿الْحُكْمَ﴾؛ أي: وآتيناه ﴿حَنَانًا﴾؛ أي: رحمةً ورقةً في قلبه وعطفاً على الآخرين ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿حَنَانًا﴾ ﴿وَزَكَاةً﴾ معطوف على ﴿حَنَانًا﴾. ﴿وَكَانَ تَقِيًّا﴾ فعل ناقص وخبره واسمه ضمير يعود على ﴿يَحْيَى﴾ والجملة معطوفة على ﴿آتَيْنَاهُ﴾ ﴿وَبَرًّا﴾ معطوفة على ﴿تَقِيًّا﴾
119
﴿بِوَالِدَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿بَرًّا﴾ ﴿وَلَمْ يَكُنْ﴾: جازم ومجزوم وهي فعل من الأفعال الناقصة، واسمها ضمير يعود على ﴿يَحْيَى﴾. ﴿جَبَّارًا﴾: خبرها ﴿عَصِيًّا﴾ صفة ﴿جَبَّارًا﴾ وجملة ﴿يَكُنْ﴾: معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾، ﴿وَسَلَامٌ﴾: مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة، قصد الدعاء ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ والجملة مستأنفة ﴿يَوْمَ﴾. ظرف متعلق بالسلام. ﴿وُلِدَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿يَحْيَى﴾ والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾ ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾: معطوفان على ﴿يَوْمَ وُلِدَ﴾. ﴿حَيًّا﴾: حال من نائب فاعل ﴿يُبْعَثُ﴾.
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦)﴾.
﴿وَاذْكُرْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿اذْكُرْ﴾ فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة ﴿فِي الْكِتَابِ﴾: متعلق بـ ﴿اذْكُرْ﴾ ﴿مَرْيَمَ﴾: مفعول به ولكنه على حذف مضاف؛ أي: قصة مريم وخبرها ﴿إِذِ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بالمضاف المحذوف؛ أي: واذكر قصة مريم وقت انتباذها من أهلها ﴿انْتَبَذَتْ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿مَرْيَمَ﴾. ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾: متعلق به والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾ ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾: ظرف مكان متعلق بـ ﴿انْتَبَذَتْ﴾؛ أي: في مكان شرقي ﴿شَرْقِيًّا﴾: صفة لـ ﴿مَكَانًا﴾: ويجوز أن يعرب ﴿مَكَانًا﴾ مفعولًا به على أن معنى ﴿انْتَبَذَتْ﴾ أتت.
﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨)﴾.
﴿فَاتَّخَذَتْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿اتَّخَذَتْ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿مَرْيَمَ﴾. ﴿مِنْ دُونِهِمْ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لاتخذ ﴿حِجَابًا﴾: مفعول أول لـ ﴿اتَّخَذَ﴾ والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة ﴿انْتَبَذَتْ﴾ ﴿فَأَرْسَلْنَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أرسلنا﴾: فعل وفاعل والجملة معطوفة على جملة ﴿اتَّخَذَتْ﴾ ﴿إِلَيْهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿رُوحَنَا﴾ مفعول به. ﴿فَتَمَثَّلَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿تَمَثَّلَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الروح ﴿لَهَا﴾ متعلق بـ ﴿تَمَثَّلَ﴾ والجملة: معطوفة على جملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿بَشَرًا﴾: حال
120
من فاعل ﴿تَمَثَّلَ﴾ ﴿سَوِيًّا﴾: صفة لـ ﴿بَشَرًا﴾ وسوغ وقوع الحال جامدةً وصفها بما بعدها ﴿قَالَتْ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿مَرْيَمَ﴾ والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه ﴿أَعُوذُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿مَرْيَمَ﴾. ﴿بِالرَّحْمَنِ﴾: متعلق بـ ﴿أَعُوذُ﴾. ﴿مِنْكَ﴾: متعلق به أيضًا والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة: ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِن﴾ حرف شرط ﴿كُنْتَ﴾ فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿تَقِيًّا﴾: خبرها وجواب الشرط محذوف تقديره: ﴿إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ لله تعالى فاتركني وانته عني، والجملة الشرطية: في محل النصب مقول قال.
﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الملك، والجملة: مستأنفة ﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر ﴿أَنَا﴾: مبتدأ ﴿رَسُولُ رَبِّكِ﴾ خبره والجملة: في بحر النصب مقول قال ﴿لِأَهَبَ﴾ ﴿اللام﴾، حرف جر وتعليل ﴿أَهَبَ﴾: منصوب بأن مضمرة بعد لام كي وفاعله: ضمير يعود على الملك، ﴿لَكِ﴾ متعلق به ﴿غُلَامًا﴾: مفعول به ﴿زَكِيًّا﴾: صفة له والجملة الفعلية: صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره لهبتي ﴿لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿رَسُولُ رَبِّكِ﴾. ﴿قَالَتْ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على مريم، والجملة: مستأنفة ﴿أَنَّى﴾: اسم استفهام تعجب بمعنى. كيف في محل النصب على الحال مبني على السكون ﴿يَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص ﴿لِي﴾: خبر ﴿يَكُونُ﴾ مقدم ﴿غُلَامٌ﴾ اسمها مؤخر وجملة ﴿يَكُونُ﴾: في محل النصب مقول قال ﴿وَلَمْ﴾ ﴿الواو﴾: حالة لم حرف نفي وجزم ﴿يَمْسَسْنِي﴾: مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ والنون نون الوقاية والياء ضمير المتكلم في محل النصب على المفعولية ﴿بَشَرٌ﴾: فاعل والجملة: في محل النصب حال من الياء في ﴿لِي﴾. ﴿وَلَمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لَمْ﴾ حرف نفي وجزم ﴿أَكُ﴾: فعل مضارع ناقص
121
مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ وعلامة جزمه سكون ظاهر على النون المحذوفة للتخفيف، واسمها ضمير يعود على مريم تقديره ﴿وَلَمْ أَكُ﴾ أنا ﴿بَغِيًّا﴾: خبرها منصوب والجملة الفعلية: في محل النصب على الحال معطوفة على جملة ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي﴾.
﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (٢١)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الملك والجملة: مستأنفة ﴿كَذَلِكِ﴾: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف تقديره الأمر كذلك والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَ رَبُّكِ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة معللة للجملة التي قبلها كأنه قيل: الأمر ﴿كَذَلِكِ﴾ لأنه علينا ﴿هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ...﴾ إلخ. ﴿هُوَ﴾ مبتدأ ﴿عَلَيَّ﴾ متعلق بـ ﴿هَيِّنٌ﴾. ﴿هَيِّنٌ﴾: خبر والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلِنَجْعَلَهُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة على علة محذوفة لمعلول محذوف تقديره: فعلنا ذلك لنبين به قدرتنا ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ﴾ ﴿نَجْعَلَهُ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل ﴿نَجْعَلَهُ﴾: فعل مضارع ومفعول أول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي وفاعله ضمير يعود على الله سبحانه ﴿آيَةً﴾: مفعول ثان لجعل ﴿لِلنَّاسِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿آيَةً﴾ والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل والتقدير ولجعلنا إياه ﴿آيَةً لِلنَّاسِ﴾: الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قولنا لنبين به قدرتنا ﴿وَرَحْمَةً﴾ معطوف على ﴿آيَةً﴾. ﴿مِنَّا﴾ صفة لـ ﴿رَحْمَةً﴾. ﴿وَكَانَ أَمْرًا﴾: فعل ناقص وخبره واسمه ضمير مستتر يعود على خلقه ﴿مَقْضِيًّا﴾: صفة ﴿أَمْرًا﴾: والجملة: مستأنفة.
﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (٢٣)﴾.
﴿فَحَمَلَتْهُ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره فنفخ جبريل في حبيب
122
درعها ﴿فَحَمَلَتْهُ﴾ ﴿حملته﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على مريم ومفعول به والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة ﴿فَانْتَبَذَتْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿انتبذت﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على مريم والجملة: معطوفة على جملة ﴿حملت﴾ ﴿بِهِ﴾: جار ومجرو حال من فاعل ﴿انْتَبَذَتْ﴾؛ أي: حالة كونه منتبذةً بالمولود ﴿مَكَانًا﴾: مفعول فيه أو مفعول به ﴿قَصِيًّا﴾ صفة لـ ﴿مَكَانًا﴾ ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ﴾ فعل وفاعل مؤخر و ﴿الفاء﴾ للتعقيب ﴿إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ متعلق بمحذوف حال ﴿قَالَتْ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على مريم، والجملة: مستأنفة ﴿يَالَيْتَنِي﴾ ﴿يا﴾ حرف نداءٍ والمنادى محذوف تقديره: يا هؤلاء أو يا مخاطب أو يا لمجرد التنبيه ﴿ليتني﴾ ﴿ليت﴾ حرف تمنٍ ونصبٍ والنون للوقاية، والياء ضمير المحكم اسمها ﴿مِتُّ﴾ فعل وفاعل ﴿قَبْلَ هَذَا﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿مِتُّ﴾ وجملة ﴿مِتُّ﴾: في محل الرفع خبر ليت وجملة ﴿ليت﴾ في محل النصب مقول قال ﴿وَكُنْتُ نَسْيًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على ﴿مِتُّ﴾. ﴿مَنْسِيًّا﴾: خبر ثان لكان مؤكد لـ ﴿نَسْيًا﴾؛ لأنه بمعناه ولك أن تعربه نعتاً له.
﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤)﴾.
﴿فَنَادَاهَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿نَادَاهَا﴾ فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على الملك أو على عيسى أو الجملة: معطوفة على جملة ﴿قَالَتْ﴾ ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾: متعلق بـ ﴿نَادَاهَا﴾؛ أي: في مكانٍ أسفل من مكانها، أو متعلق بمحذوف حالٍ من فاعل ﴿نَادَاهَا﴾؛ أي: ناداها وهو تحتها ﴿أَلَّا﴾ ﴿أَن﴾: مفسرة لأن النداء فيه معنى القول دون حروفه، و ﴿لَّا﴾ ناهية ﴿تَحْزَنِي﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَّا﴾ الناهية والجملة جملة مفسرة لـ ﴿ناداها﴾: لا محل لها من الإعراب، ويجوز أن تكون ﴿أَن﴾ مصدرية و ﴿لا﴾: نافية تحزني فعل وفاعل منصوب بها و ﴿أَن﴾ المصدرية وما بعدها: في تأويل مصدر مجرور بالباء المقدرة المتعلقة بالنداء؛ أي: و ﴿ناداها﴾ بعدم الحزن، والأول أسهل وأوضح ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق ﴿جَعَلَ رَبُّكِ﴾ فعل وفاعل ﴿تَحْتَكِ﴾: ظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلَ﴾
123
﴿سَرِيًّا﴾: مفعول أول له والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)﴾.
﴿وَهُزِّي﴾: فعل وفاعل مبني على حذت النون معطوف على قوله ﴿أَلَّا تَحْزَنِي﴾. ﴿إِلَيْكِ﴾: متعلق به. ﴿بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والباء: زائدة ﴿تُسَاقِطْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق وفاعله ضمير يعود على ﴿النَّخْلَةِ﴾؛ أي: تسقط ﴿عَلَيْكِ﴾: متعلق بـ ﴿تُسَاقِطْ﴾. ﴿رُطَبًا﴾: مفعول به ﴿جَنِيًّا﴾ صفة لـ ﴿رُطَبًا﴾. ﴿فَكُلِي﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا تم لك هذا المذكور كله وأردت بيان ما هو الأصلح لك فأقول لك ﴿كلي﴾. ﴿كلي﴾: فعل وفاعل مبني على حذف النون والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة ﴿وَاشْرَبِي﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿كلي﴾ وكذلك ﴿وَقَرِّي﴾: معطوف عليه ﴿عَيْنًا﴾: تمييز محول عن الفاعل إذ الأصل لتقرَّ عينك ﴿فَإِمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿إن﴾ حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في ميم ﴿ما﴾ الزائدة ﴿ما﴾ زائدة زيدت لتأكيد معنى الشرط مبني على السكون ﴿تَرَيِنَّ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها وعلامة جزمه حذف النون وإلياء ضمير للمؤنثة المخاطبة: في محل الرفع فاعل والنون المشددة نون التوكيد مبني على الفتح وأصله: ترأيينن بهمزة هي عين الفعل، وياء مكسورة هي لامه وأخرى ساكنة هي ياء الفاعل والنون الأولى: نون علامة الرفع حذفت هنا للجازم، والنون المشددة نون التوكيد، وإنما أُعرب الفعل هنا بالجزم لعدم مباشرة نون التوكيد به ﴿مِنَ الْبَشَرِ﴾: حال من ﴿أَحَدًا﴾: لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿أَحَدًا﴾: مفعول به لأن ترى هنا بصرية تتعدى لمفعول واحد ﴿فَقُولِي﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملةً طلبيةً ﴿قولي﴾ فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل والجملة الفعلية: في محل الجزم بأن الشرطية على كونها جواب الشرط وجملة إن الشرطية: في محل
124
النصب معطوفة على جملة ﴿كلي﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه ﴿نَذَرْتُ﴾: فعل وفاعل ﴿لِلرَّحْمَنِ﴾: متعلق به، ﴿صَوْمًا﴾ مفعول به والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قُولِي﴾. ﴿فَلَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع ﴿لن﴾: حرف نفي ونصب ﴿أُكَلِّمَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿لن﴾ وفاعله: ضمير يعود على مريم ﴿الْيَوْمَ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿أُكَلِّمَ﴾ ﴿إِنْسِيًّا﴾: مفعول به وجملة ﴿أُكَلِّمَ﴾: في محل الرفع معطوفة مفرعة على جملة ﴿نَذَرْتُ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿زَكَرِيَّا﴾: يمد ويقصر من ولد سليمان بن داود - عليهم السلام - وكان نجارًا.
﴿نِدَاءً خَفِيًّا﴾؛ أي: مستورًا عن الناس لم يسمعه أحدٌ منهم.
﴿وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ ضعف ورق من الكبر إذ قد بلغ خمسًا وسبعين سنةً أو ثمانين.
وفي "المصباح": وهن يهن: من باب وعد ضعف، فهو واهن في الأمر، أو العمل، أو البدن، ووهنته: أضعفته، يتعدى ولا يتعدى في لغة، فهو موهون البدن والعظم، والأجود أن يتعدى بالهمزة، فيقال أوهنته، والوهن: بفتحتين لغةٌ في المصدر، ووهن يهن بالكسر: فيهما لغة قال أبو زيد: سمعت من العرب من يقرأ فما وهنوا بالكسر اهـ. وفي "البيضاوي": وقرىء وهن بالضم ووهن بالكسر، ونظيره كمل في الحركات الثلاث انتهى.
وفي "القاموس" وغيره: وهنه يهنه وهنا، وأوهنه أضعفه، ووهن وأوهن الرجل، دخل في الوهن من الليل، ووهن ووهن يهن ووهن يوهن وهنًا ووهنا ووهن يوهن، وهنا ضعف في الأمر أو العمل، أو البدن، وتوهن البعير. اضطجع، والطائر: أثقل من أكل الجيف، قلم يقدر على النهوض، والوهن
125
مصدر، ومن الرجال أو الإبل الغليظ القصير، والوهن من الليل: نحو منتصفه أو بعد ساعة منه، والوهن من الليل كالوهن، والوهانة من النساء الكسلى عن العمل تنعماً.
﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾؛ أي: صار الشيب كالنار، والشعر كأنه الحطب، ولقوتها وشدتها أحرقت الرأس نفسه.
﴿شَقِيًّا﴾؛ أي: خائبًا يقال: شقي بكذا؛ أي: تعب فيه ولم يحصل مقصوده منه، والمراد: أنه خائب غير مستجاب الدعوة.
﴿الْمَوَالِيَ﴾ والموالى هنا: هم الأقارب الذين يرثون الرجل وسائر العصبات من بني العم ونحوهم، والعرب تسمى هؤلاء موالى قال الشاعر:
مَهْلاً بَنِيْ عَمِّنَا مَهْلاً مَوَالِيْنَا لاَ تَنْشُرُوْا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُوْنَاً
فالموالي: جمع مولى وهو العاصب، قال في "القاموس": المولى، المالك والعبد والمعتق، والمعتق والصاحب والقريب، كابن العم ونحوه، والجار والحليف والابن، والعم والنزيل والشريك، وابن الأخت والولي والرب والناصر، والمنعم والمنعم عليه، والمحب والتابع والصهر انتهى.
﴿مِنْ وَرَائِي﴾؛ أي: من بعدي.
﴿عَاقِرًا﴾؛ أي: لا تلد يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر، إذا كانا عقيمين، وقال في "القاموس": عقرت المرأة تعقر عقرًا: من باب ضرب وعقرًا وعقارًا، وعقرت تعقر: من باب نصر عقرًا وعقارةً، وعقرت المرأة أو الناقة، صارت عاقرًا؛ أي: حبس رحمها فلم تلد، وعقر الأمر عقرًا لم ينتج عاقبةً، وعقر عقرًا: من باب فرح الرجل دهش اهـ.
﴿وَلِيًّا﴾؛ أي: ابنا، وهو أحد معانيه السابقة عن "القاموس".
﴿يَحْيَى﴾: ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وتقول في تثنية: يحييان رفعًا، ويحيين نصبًا وجرًا، على حد قوله:
126
وَاحْذِفْ مِنَ الْمَقْصُوْرِ فِي جَمْعٍ عَلَى حَدِّ الْمُثَنَّى مَا بِهِ تَكَمَّلاَ
﴿سَمِيًّا﴾: السمي المسمى؛ أي: شريكًا له في الاسم، فلم يسم أحدٌ بهذا الاسم قبله، وهو فعيل بمعنى مفعول، أصله. سميو، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء.
﴿عِتِيًّا﴾: من عتا يعتو عتوًا، والعتو اليبس في العظم والعصب والجلد، وفي "المختار": عتا من باب سما يعتو عتوًا وعتيًا بضم العين وكسرها، وهو عات فالعاتي: المجاوز للحد في الاستكبار وعتا الشيخ يعتو عتوًا بضم العين وكسرها، كبر وولى عتيًا أصله: عتوو، كقعودِ فاستثقلوا توالي الضمتين والواوين، فكسروا التاء فانقلبت الواو الأولى ياءً لمناسبة الكسرة، ثم قلبت الثانية ياءً لتدغم فيها الياء، وكسرت الفاء تخفيفًا.
﴿مِنَ الْمِحْرَابِ﴾: قال في "القاموس": المحراب الغرفة وصدر البيت، وأكرم مواضعه، ومقام الإِمام من المسجد، والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس، ومحاريب بني إسرائيل: مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها اهـ. وفي "الشهاب" وأما المحراب المعروف الآن وهو طاقٌ مجوفٌ في حائط المسجد، يصلي فيه الإِمام.. فهو محدث لا تعرفه العرب، فتسميته محراب اصطلاح للفقهاء اهـ.
وقوله: اصطلاح للفقهاء، ممنوع بل هو معنى لغوي إذ هو من أفراد المعنى اللغوي الذي ذكره في "القاموس" بقوله: ومقام الإِمام من المسجد اهـ. ذكره في "الفتوحات".
﴿عَصِيًّا﴾: صيغة مبالغة، وأصل عصيًا: عصييٌ بوزن فعيل، أدغمت الياء فيه وأتي بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل؛ لأن المنفي أصل العصيان، لا المبالغة فيه.
﴿انْتَبَذَتْ﴾ الانتباذ: الاعتزال والانفراد، فقد تخلت مريم للعبادة في مكانٍ مما يلي شرقي بيت المقدس، أو من دارها معتزلةً عن الناس، وقيل: غير ذلك
127
وفي "المصباح": وانتبذت مكانًا اتخذته بمعزل يكون بعيدًا عن القوم.
﴿بَغِيًّا﴾ البغي: الفاجرة التي تبغي الرجال، وأصله: بغوي بزنة فعول، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما - وهي الواو - بالسكون، فقلبت ياءً على القاعدة، وأدغمت في الياء وكسرت الغين لتصح الياء، فلما كان بزنة فعول.. لم تلحقه التاء، كما قال في الخلاصة:
وَلاَ تَلِيْ فَارِقَةً فَعُوْلاَ أصْلاً وَلاَ الْمِفْعَالَ وَالْمِفْعِيْلاَ
اهـ شيخنا
وفي "القاموس" و"شرحه": بغي يبغي من باب ضرب الشيء بغاءً بضم الفاء، وبغيًا بفتحها وبغيٌ وبغيةً: طلبه، وبغى الرجل: عدل عن الحق، وعصى وبغى عليه: استطال عليه، وظلمه، فهو باغ فلعل إطلاقهم كلمة البغاء على العهر والزنا، مأخوذٌ من هذا المعنى؛ لأنه من دواعي ما يطلبه أهل الخنا والفجور.
﴿قَصِيًّا﴾؛ أي: بعيدًا من أهلها.
﴿فَأَجَاءَهَا﴾ يقال: جاء وأجاء لغتان بمعنى واحد، والأصل في جاء: أن يتعدى لواحد بنفسه، فإذا دخلت عليه الهمزة.. كان القياس يقتضي تعديته، لاثنين، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل، فصار بمعنى ألجا إلى كذا، ألا تراك لا تقول جئت المكان وأجاءنيه زيد، كما تقول بلغته وأبلغنيه، ونظيره أتى حيث لم يُستعمل إلا في الإعطاء، ولم تقل أتيت المكان وآتانيه فلان.
﴿الْمَخَاضُ﴾: المخاض وجع الولادة، وفي "القاموس" مخض يمخض بتثليث الخاء في المضارع مخضاً اللبن استخرج زبده، فهو لبن مخيض وممخوض، ومخض الشيء حركه شديدًا، ومخض الرأي قلبه وتدبر عواقبه حتى ظهر له الصواب، ومخضت بكسر الخاء تمخض بفتحها الحامل مخاضاً بكسر الميم، ومخاضاً بفتحها، ومخضت بالبناء للمجهول، ومخضت بتشديد الخاء، وتمخضت الحامل: دنا ولادها وأخذها الطلق، فهي ماخض، والجمع مخض بضم الميم، وتشديد الخاء ومواخض.
128
﴿مِتُّ﴾: بكسر الميم وضمها، يقال: مات مات كخاف يخاف، ومات لموت كقال يقول. ﴿نَسْيًا﴾: النسي: بفتح النون وكسرها بمعنى المنسي: الذبح بمعنى المذبوح، وكل ما من حقه أن يطرح ويرمى ويُنسى ﴿مَنْسِيًّا﴾؛ أي: شيئًا متروكًا حقيرًا كالوتد وقطع الحبل وخرق الحيض، من كل شيءٍ حقيرٍ، فهو تأكيد لـ ﴿نَسْيًا﴾.
﴿سَرِيًّا﴾: وفي "المصباح": والسري، الجدول، وهو النهر الصغير، والجمع: سريان، مثل: رغيف ورغفان، والسريّ: الرئيس والجمع سراة، وهو عزيز لا يكاد يوجد له نظير؛ لأنه لا يُجمع فعيل على فعلة، وجمع السراة سروات، والسري فيه قولان:
أحدهما: أنه الرجل المرتفع القدر، من سرو يسرو كشرف يشرف، فهو سري، وأصله: سريو، فاعل إعلال سيد، فلامه واو، والمراد به في الآية: عيسى - عليه السلام - وقيل: السري، من سريت الثوب؛ أي: نزعته وسررت الحبل عن الفرس؛ أي: نزعته، كأن السري سرى ثوبه، بخلاف المد ثرو المزمل، قاله الراغب.
والثاني: أنه النهر الصغير، ويناسبه ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي﴾ واشتقاقه من سرى يسري؛ لأن الماء يسري فيه، فلامه على هذا ياء انتهى "سمين".
﴿رُطَبًا جَنِيًّا﴾: الرطب بضم ففتح: ما نضج من البسر قبل أن يصير ثمرًا، والجنيّ: فعيل بمعنى فاعل؛ أي: صار طريًا صالحًا للاجتناء، ﴿وَقَرِّي عَيْنًا﴾؛ أي: طيبي نفسًا ولا تغتمي، وارفضي ما أحزنك، وفي "المصباح": وقرّت العين: من باب ضرب قرة بالضم وقرورا بردت سرورًا، وفي لغةٍ أخرى من باب تعب: وأقر الله العين بالولد وغيره إقرارًا في التعدية اهـ.
والمعنى: أعطاه الله ما يسكن عينه، فلا تطمح؛ أي: لا تلتفت إلى غيره.
﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ﴾: أصله: ترأيينن بهمزة هي عين الفعل، وياء مكسورة هي لامه، وأخرى ساكنة هي ياء الضمير، والنون الأولى: علامة الرفع، والثانية: نون
129
التوكيد الثقيلة، وطريق حذل اللام أنها تحركت وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فالتقت ساكنة مع ياء الضمير، فحذفت لالتقاء الساكنين، ثم نقلت حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وهو الراء، ثم حذفت الهمزة ثم حذفت نون الرفع للجازم وهو إن الشرطية، ثم حركت ياء الضمير لالتقاءِ الساكنين، هما ياء الضمير والنون الأولى من نوني التوكيد فإنها بنونين، فصار ترين بوزن تفين.
والحاصل: أن الأعمال ستة أو سبعة: قلب الياء ألفًا، ثم حذفها، ثم نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وحذفها، ثم حذف نون الرفع، ثم إدخال نون التوكيد، ثم تحريك ياء الضمير اهـ. شيخنا.
﴿فَقُولِي﴾؛ أي: أشيري إليهم، قال الفراء: العرب تسمي كل ما أفهم الإنسان شيئًا كلامًا بأيّ طريق كان، إلا إذا أكد بالمصدر، فيكون حقيقة في الكلام، كقوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاحتراس في قوله: ﴿نِدَاءً خَفِيًّا﴾ وهو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل أو لبس أو إيهام، فيفطن لذلك حال العمل، فيأتى في صلب الكلام بما يخلصه من ذلك كله، فاحترس هنا بقوله: ﴿خَفِيًّا﴾ مما يوهم الرياء أمام الناس الذين يحكمون على الظاهر، أو اللوم على طلب الولد في إبّانِ الكبر والشيخوخة، وقيل: احتراس من مواليه الذين خافهم.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ فإنه كناية عن ذهاب القوة وضعف الجسم.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ شبه انتشار الثيب وكثرته في الرأس باشتعال النار في الحطب، واستُعير الاشتعال للانتشار، واشتق منه اشتعل بمعنى انتشر على طريق الاستعارة التبعية.
130
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً﴾ والجناس المماثل بين ﴿الْمَوَالِيَ﴾ و ﴿وَلِيًّا﴾.
ومنها: المبالغة في التضرع والدعاء، بتوسيط النداء بين جعل ومفعوله الثاني في قوله: ﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ كتوسيطه بين كان وخبرها في قوله: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ كما في "روح البيان".
ومنها: التجريد في قوله: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ والتجريد معناه أن ينتزع المتكلم من أمرِ ذي صفة أمرًا آخر يماثله في تلك الصفة مبالغةً لكمالها، فكأنه بلغ من الاتصاف بتلك الصفة إلى حيث يصح أن يُنتزع منه موصوف آخر بتلك الصفة، وهو أقسام، منها: ما يكون بمن التجريدية كقولهم: لي من فلان صديق حميم.
ومنها: الآية الكريمة كما ذكر في "إعراب القرآن".
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ﴾.
ومنها: الكناية اللَّطيفة في قوله: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ فإن المسّ كناية عن الوطْءِ الحلال، أما الزنا فإنما يقال فيه، خبث بها، أو فجر أو زنى.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾.
ومنها: الزيادةُ والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
131
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٤٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٤١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (٤٣) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (٤٥) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصة مريم، واختلاف النصارى في شأن عيسى حتى عبدوه من دون الله تعالى.. أعقبها بذكر قصة إبراهيم عليه السلام وتحطيمه الأصنام لتذكير الناس بما كان عليه خليل الرحمن، من توحيد الرب الديان، وسواء في الضلال من عبد بشرًا أو عبد حجرًا، والنصارى عبدوا
132
المسيح، ومشركو العرب عبدوا الأوثان، وعبارة أبي حيان هنا: مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر قصة مريم وابنها عيسى، واختلاف الأحزاب فيهما وعبادتهما من دون الله، وكانا من قبيل من قامت بهما الحياة.. ذكر الفريق الضال الذي عبد جمادًا، والفريقان وإن اشتركا في الضلال، فالفريق العابد الجماد منهما أضل، ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه، تذكيرًا للعرب بما كان إبراهيم عليه من توحيد الله تعالى، وتبيين أنهم سالكوا غير طريقه، وفيه صدق رسول الله - ﷺ - فيما أخبر به، وأن ذلك متلقى بالوحي.
التفسير وأوجه القراءة
٢٧ - ولما اطمأنت مريم بما رأت من الآيات، وفرغت من نفاسها.. جاءت قومها مع ولدها، راجعة إليهم عندما طهرت من نفاسها، ومضى لها أربعون يومًا، كما قال سبحانه ﴿فَأَتَتْ﴾؛ أي: جاءت مريم ﴿بِهِ﴾؛ أي: مع ولدها عيسى، فالباء بمعنى مع، وجعلها الكاشفي للتعدية ﴿قَوْمَهَا﴾؛ أي: أهلها من المكان القصي الذي اعتزلت فيه للوضع، قيس: في يوم الوضع، وقيل: بعد أربعين يومًا كما سيأتي، وجملة قوله: ﴿تَحْمِلُهُ﴾: في محل النصب حال من فاعل ﴿أتت﴾؛ أي: حالة كونها حاملةً له؛ أي: فجاءتهم مع ولدها عيسى حاملةً له، وهو ابن أربعين يومًا، روي (٢) عن ابن عباس أن يوسف انتهى بمريم إلى غار، فأدخلها فيه أربعين يومًا، حتى طهرت من النفاس، ثم حملته إلى قومها فكلمها عيسى في الطريق، فقال: يا أمّاه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي.. بكوا وحزنوا، وكانوا أهل بيتٍ صالحين.
وروي عن ابن عباس أيضًا (٣): أنها خرجت من عندهم حين شرقت الشمس، وجاءتهم عند الظهر ومعها الولد، والله أعلم.
وروي: أنّ زكريا افتقد مريم فلم يجدها في محرابها، فاغتم غمًا شديدًا
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
وقال لابن خالها يوسف: اخرج في طلبها، فخرج يقص أثرها حتى لقيها تحت النخلة، فلما رجعت إلى قومها - وهم أهل بيت صالحون - وزكريا جالس معهم.. بكوا وحزنوا ثم ﴿قَالُوا﴾ موبخين لها ﴿يَا مَرْيَمُ﴾ والله ﴿لَقَدْ جِئْتِ﴾ وفعلت ﴿شَيْئًا فَرِيًّا﴾؛ أي: منكرًا عظيمًا حين ولدت ولدًا بغير أب؛ أي: إن مريم حين أمرت أن تصوم يومها، ولا تكلم أحدًا من البشر، وأنها ستكفى أمرها، ويقام بحجّتها، سلمت أمرها إلى الله تعالى، واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها وأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك.. أعظموا ما رأوا واستنكروا، وقالوا: يا مريم، لقد جئت أمرًا عظيمًا منكرًا،
٢٨ - ثم زادوا تأكيدًا في توبيخها وتعييرها فقالوا:
﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾؛ أي: يا شبيهة هارون في العبادة، وكان هارون هذا رجلًا صالحًا من أفضل الناس من بني إسرائيل، ينسب إليه كل من عرف بالصلاح، وهارون هذا لما مات تبع جنازته أربعون ألفًا كلهم يسمون هارون، تبركًا به وباسمه، والمراد: إنك يا مريم كنت في الزهد كهارون، فكيف صرت هكذا؟ وأخرج أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وغيرهم، عن المغيرة بن شعبة قال: (بعثني رسول الله - ﷺ - إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرؤون ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ وموسى قبل عيسى بكذا بكذا، فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله - ﷺ - فقال: "ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم". وهذا التفسير النبوي، يغني عن سائر ما روي عن السلف في ذلك، أو المعنى: يا من أنت نسل هارون أخي موسى، كما يقال للتميمي يا أخا تميم، وللمصري يا أخا مصر.
﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ﴾؛ أي: ما كان أبوك عمران رجلًا زانيًا، والمرء (١) مع ألف الوصل الإنسان أو الرجل، ولا يُجمع من لفظه كما في "القاموس" وسوء بفتح السين، وبإضافة ﴿امْرَأَ﴾ إليه وهي أكثر استعمالًا من الصفة.
﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ﴾ حنة بنت فاقوذ ﴿بَغِيًّا﴾؛ أي: امرأةً زانيةً، فمن أين لك
(١) روح البيان.
هذا الولد من غير زوج؟ وهو تقرير لكون ما جاءت به فريًا منكرًا، وتنبيهٌ على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش
٢٩ - ﴿فَأَشَارَتْ﴾ مريم ﴿إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى عيسى، أن كلموه ليجيبكم، ويكون كلامه حجةً لي، والظاهر أنها حينئذ بينت نذرها، وأنها بمعزل عن محاورة الإنس، قال ابن مسعود: لما لم يكن لها حجة.. أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها، وقيل: لما أشارت إليه.. غضب القوم وقالوا: فعلت ما فعلت وتسخرين بنا، ثم ﴿قَالُوا﴾ منكرين لجوابها موبخين لها: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ﴾ ونحدث ﴿مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ﴾؛ أي: في الحجر أو السرير حالة كونه ﴿صَبِيًّا﴾؛ أي: صغيرًا ابن أربعين يومًا، والاستفهام (١) هنا للإنكار والتعجب من إشارتها إلى ذلك المولود بأن يكلمهم، قيل: أراد بالمهد حجرها، وقيل المهد بعينه وهو شيء معروف يتخذ لتنويم الصبي، أو سرير له، ولم نعهد فيما سلف صبيًا رضيعًا في الحجر يكلمه عاقل؛ لأنه لا قدرة له على فهم الخطاب، ورد الجواب، روي أن عيسى كان يرضع، فلما سمع ذلك.. ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار بسبابة يمينه، فتكلم ووصف نفسه بصفاتٍ ثمانيةٍ، أولها عبودية الله وآخرها تأمين الله له في أخوف المقامات:
١ - ٣٠ ﴿قَالَ﴾ هو عيسى: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ الذي له صفات الكمال، لا أعبد غيره، فاعترف له بالعبودية، لئلا يتخذوه إلهًا، وإنما (٢) نص عيسى على إثبات عبودية نفسه؛ لأن إزالة التهمة عن الله تعالى تفيد إزالة التهمة عن الأم؛ لأن الله تعالى لا يخص الفاجرة بولدٍ في هذه الدرجة العالية، أما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى، فكان الاشتغال بذلك أولى، قال الجنيد (٣): المعنى: إني عبد الله ولست بعبد سوء، ولا عبد طمع، ولا عبد شهوة، وفيه
(١) الشوكاني.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
إشارة إلى أن أفضل أسماء البشرية العبودية، وقال بعضهم: إن عبد الله فوق عبد الرحمن، وهو فوق عبد الرحيم، وهو فوق عبد الكريم، ولذا جعل رسول الله - ﷺ - عبد الله، وكذا عبد الحي وعبد الحق أعلى الأسماء وأمثلها؛ لأن بعض الأسماء الإلهية يدل على الذات، وبعضها على الصفات، وبعضها على الأفعال، والأولى أرفع من الثانية، وهي أرفع من الثالثة.
٢ - ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾؛ أي: الإنجيل؛ أي: حكم لي بإيتائي الكتاب في الأزل، وإن لم يكن قد نزل عليه في تلك الحال، وقيل: إنه آتاه الكتاب في تلك الحال وهو بعيد، والمعنهى: سيؤتيني الكتاب، وسكن ياء ﴿أتَانِيَ﴾ حمزة.
٣ - ﴿وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾؛ أي: وسيجعلني نبيًا، وفي هذا براءة لأمه؛ لأن الله سبحانه لا يصطفي لنبوته أولاد سفاح.
٤ - ٣١ ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا﴾؛ أي: نفاعًا للناس، معلمًا للخير آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾؛ أي: في أي مكان كنت فيه؛ أي: سيجعلني نفاعًا للعباد، هاديًا لهم إلى طريق الرشاد في أي مكان كنت فيه، وهذه (١) الأفعال الماضية هي من باب تنزيل ما لم يقع منزلة الواقع، تنبيهًا على تحقق وقوعه، لكونه قد سبق في القضاء المبرم.
٥ - ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ﴾؛ أي: أمرني بأدائها في وقتها المحدد، أمرًا مؤكداً ما دمت حيًا، إذ في إقامتها وإدامتها على الوجه الذي سنه الدين تطهر النفوس من الأرجاس، ومنع لها من ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ﴿وَ﴾ أمرني بـ ﴿الزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ في الدنيا؛ أي: وأمرني بإعطاء جزء من المال للبائس والمحتاج ما دمت حيًا في الدنيا، لما في ذلك من تطهر المال، وقال بعضهم: والظاهر (٢) أن إيصاءه بها لا يستلزم غناه، بل هي بالنسبة إلى أغنياء أمته، وعموم الخطابات الإلهية منسوب إلى الأنبياء، تهييجًا للأمة على الائتمار والانتهاء، قيل: المعنى أمرني بأداء الصلاة والزكاة إذا بلغت، وقيل أن أفعلهما
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
من الآن، قولان للمفسرين اهـ. شيخنا. وقيل: المراد أن الله تعالى صيَّره حين انفصل من أمه بالغًا عاقلًا، وهذا القول أظهر اهـ. "خازن".
قال في "بحر العلوم" وفي قوله: ﴿مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ دلالة بينة على أن العبد ما دام حيًا لا يسقط عنه التكاليف والعبادات الظاهرة، فالقول بسقوطها كما نقل عن بعض الإباحيين كفر وضلال، انتهى. وقال (١) ابن عطية، وقرأ: ﴿دِمت﴾ بضم الدال عاصم وجماعة، وقرأ: ﴿دِمْتُ﴾ بكسر الدال أهل المدينة، وابن كثير، وأبو عمرو، انتهى. والذي في كتب القراءات أن القراء السبعة قرؤوا ﴿دُمْتُ حَيًّا﴾ بضم الدال، وقد طالعنا جملةً من الشواذ، فلم نجدها لا في شواذ السبعة، ولا في شواذ غيرهم، على أنها لغة.
٦ - ٣٢ ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي﴾؛ أي: وجعلني بارًا بوالدتي، محسنًا إليها، مطيعًا لها، وفي هذا إشارة إلى أنه بلا فحل، وفيه أيضًا إيماء إلى نفي الريبة عنها، إذ لو لم تكن كذلك.. لما أمر الرسول المعصوم بتعظيمها، وقد سبق (٢) لك أنه قرىء ﴿وبرًا﴾ بكسر الباء فإما على حذف مضاف؛ أي: وذا برّ، وإما على المبالغة، جعل ذاته من فرط برّه، ويجوز أن يضمر فعل في معنى أوصاني، وهو كلفني، لأن أوصاني بالصلاة وكلفنيها واحد، ومن قرأ ﴿برًا﴾ بفتح الباء، فقال الحوفي وأبو البقاء: إنه معطوف على ﴿مُبَارَكًا﴾؛ وفيه بعد الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي ﴿أَوْصَانِي﴾ ومتعلقها، والأولى إضمار فعل؛ أي: جعلني ﴿بَرًّا﴾ وحكى الزهراوي، وأبو البقاء، أنه قرىء ﴿وبر﴾ بكسر الباء والراء عطفًا على ﴿بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾.
٧ - ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا﴾؛ أي: متكبرًا مترفعًا متعاظمًا على الناس ﴿شَقِيًّا﴾؛ أي: عاصيًا لربه، والجبار المتعظم: الذي لا يرى لأحد عليه حقًا، والشقي: العاصي لربه، وقيل: الخائب، وقيل: العاق.
٨ - ٣٣ ﴿وَالسَّلَامُ﴾ أي: الأمان من الله ﴿عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ﴾؛ أي: حين ولدت
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
بلا والدٍ طبيعي، من طعن الشيطان ﴿وَ﴾ السلام علي ﴿يَوْمَ أَمُوتُ﴾ من شدائد الموت وضغطة القبر ﴿وَ﴾ السلام علي ﴿يَوْمَ أُبْعَثُ﴾ من القبر حالة كوني ﴿حَيًّا﴾ من هول القيامة وعذاب النار، وإنما خص هذه المواضع الثلاثة لكونها أخوف من غيرها، وإنما عرَّف السلام هنا بإدخال الألف واللام عليه، بخلافه في يحيى، لأنه (١) قد تقدم لفظه في قوله: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ﴾ فهو نظير قوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾؛ أي: ذلك السلام الموجه إلى يحيى، موجه ﴿إلى﴾ وهذا على أن التعريف للعهد، والأظهر (٢) على أنه للجنس والتعريف باللعن علي أعدائه، فإن إثبات جنس السلام لنفسه، تعريض لإثبات ضده لأضداده، كما قوله تعالى: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ فإنه تعريض بأن العذاب على من كذب وتولى، فلما كلمهم عيسى بهذا الكلام.. أيقنوا ببراءة أمه، وأنها من أهل العصمة والبعد من الريبة، ولم يتكلم بعد حتى بلغ سن الكلام.
والمعنى: أي والأمنة من الله عليّ فلا يقدر أحد على ضري في هذه المواطن الثلاثة، التي هي أشق ما تهون على العباد، وقرأ (٣) زيد بن علي: ﴿يَوْمَ وُلِدْتُ﴾؛ أي: يوم ولدتني، جعله ماضيًا لحقته تاء التأنيث، ورجح ﴿وَسَلَامٌ﴾ على ﴿وَالسَّلَامُ﴾ لكونه من الله تعالى، وهذا من قول عيسى عليه السلام، وقيل: سلام عيسى أرجح؛ لأنه تعالى أقامه في ذلك مقام نفسه، فسلم نائباً عن الله.
٣٤ - ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور الذي فصلنا خصاله الحميدة هو ﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ فكذلك (٤) اعتقدوه، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشيدة، وإنه ابن يوسف النجَّار، ولا كما قالت النصارى، إنه الإله أو ابن الإله ﴿قَوْلُ الْحَقِّ﴾ بالرفع، قال الكسائي: نعت لعيسى؛ أي: ذلك المذكور هو عيسى ابن مريم قول الله الحق؛ أي: الثابت الوجود، وكلمته، وسمي قول الحق، كما سمي كلمة الله، لوقوعه بكلمة كن بلا وساطة أبٍ، والقول والقيل والمقال والقال والقول: بمعنى واحد،
(١) الفتوحات
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) القرطبي.
138
وقوله: ﴿الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ صفة لعيسى أيضًا؛ أي: ذلك عيسى ابن مريم ﴿الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ قول الحق وكلمته، ومعنى ﴿يَمْتَرُونَ﴾: يختلفون، على أنه من المماراة، أو يشكون، على أنه من المرية، وقد وقع الاختلاف في عيسى، فقالت اليهود: هو ساحر، وقالت النصارى: هو ابن الله، وكذا وقع الشك فيه من النصارى، هل هو ابن الله، أو كلمته ألقاها إلى مريم؟.
وقيل: يحتمل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: قوله السابق من الصفات الثمانية القول الحق؛ أي: الصدق الذي فيه يمترون، والحق بمعنى الصدق، وإضافة القول إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، مثل حقّ اليقين، والموصول على هذا صفة للقول.
وعلى قراءة نصب القول يكون القول مفعولًا مطلقًا، لقوله: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ وقوله: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ اعتراض؛ أي: قال: إني عبد الله قول الحق؛ أي: القول الصدق الذي فيه يمترون.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي: ﴿قول الحق﴾ برفع اللام، وقرأ زيد بن علي، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، وابن أبي إسحاق، والحسن، ويعقوب ﴿قَوْلَ الْحَقِّ﴾ بنصب اللام، وانتصابه على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، وقرأ (١) ابن مسعود والأعمش: ﴿قال﴾ بألف ورفع اللام وقرأ الحسن: ﴿قول﴾ بضم القاف ورفع اللام، وهي مصادر كالرهب والرهب والرهب، وقرأ طلبة، والأعمش في رواية زائدة: ﴿قال﴾ بألف جعله فعلًا ماضيًا ﴿الحق﴾ برفع القاف على الفاعلية، والمعنى: قال الحق وهو الله ذلك الناطق الموصوف بتلك الأوصاف هو عيسى ابن مريم، و ﴿الَّذِي﴾: على هذا خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو ﴿الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾، وقرأ علي - كرم الله وجهه - وأبو مجلز، ومعاذ القارىء، وابن يعمر، وأبو رجاء، والسلمي، وداود بن أبي هند، ونافع في روايةٍ، والكسائي وفي رواية: ﴿تمترون﴾ بتاء الخطاب، والجمهور:
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
139
بياء الغيبة.
والمعنى: أي (١) ذلك الذي فصلت نبوته، وذكرت مناقبه وأوصافه، هو عيسى ابن مريم، نقول ذلك قول الصدق الذي لا ريب فيه، لا كما يقول اليهود من أنه ساحر وحاشاه، ولا كما تقول طائفة من النصارى إنه ابن الله، ولا كما تزعم طائفة أخرى أنه هو الله، ويخلعون عليه من صفات الألوهية ما هو منه براء،
٣٥ - ثم أكد ما دل عليه سياق الكلام، من كونه ابنًا لمريم لا لغيرها، بقوله: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ﴾؛ أي: ما صح ولا استقام لله سبحانه وتعالى ﴿أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾؛ أي: أن يتخذ ولدًا؛ لأنه يلزم من اتخاذه ولدًا الحاجة، وهو نقص، فـ ﴿من﴾ (٢) صلة للكلام، و (أن) في موضع رفع اسم ﴿كَانَ﴾؛ أي: ما كان اتخاذ ولد من صفته، وقال الزجاج ﴿مِنْ﴾ في ﴿مِنْ وَلَدٍ﴾ مؤكدةٌ تدل على نفي الواحد والجماعة.
ثم نزه نفسه سبحانه فقال: ﴿سُبْحَانَهُ﴾؛ أي: تنزه الله سبحانه وتقدس عن مقالتهم هذه، ثم صرح سبحانه بما هو شأنه تعالى سلطانه، فقال: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ من الأمور؛ أي: إذا أراد أن يحدث أمرًا من الأمور، وأن يوجد شيئًا من الكائنات ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ﴾؛ أي: أحدث ﴿فَيَكُونُ﴾؛ أي: فيوجد ذلك الأمر كما قال لعيسى كن فكان من غير أب، والقول (٣) هنا مجاز عن سرعة الإيجاد، والمعنى: أنه تعالى إذا أراد تكوين الأشياء لم تمتنع عليه، ووجدت كما أرادها على الفور من غير تأخير في ذلك، كالمأمور المطيع الذي إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع.. كان المأمور به مفعولًا، لا حبس ولا إبطاء، وهو المجاز الذي يسمى التمثيل، وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة ﴿فَيَكُونُ﴾ بالنصب.
والخلاصة (٤): لا يليق بحكمة الله وكمال ألوهيته، أن يتخذ الولد؛ لأنه لو أراده.. لخلقه بقوله: ﴿كُنْ﴾ فلا حمل ولا ولادة، ولأن الولد إنما يُرغب فيه
(١) المراغي.
(٢) القرطبي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
ليكون حافظًا لأبيه، يعوله وهو حي، وذكرًا له بعد الموت، والله تعالى لا يحتاج إلى شيء من ذلك، فالعالم كله خاضع له لا حاجة له إلى ولد ينفعه، وهو حيٌّ أبدًا، ومن كان هذا شأنه، فكيف يتوهم أن يكون له ولد؟ لأن ذلك من أمارات النقص والاحتياج
٣٦ - ﴿وَ﴾ قال عيسى أيضًا ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى هو ﴿رَبِّي﴾ أي مالكي وخالقي ومعبودي ﴿وَرَبُّكُمْ﴾؛ أي: مالككم وخالقكم ومعبودكم، ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ والخطاب فيه لمعاصري رسول الله - ﷺ - من اليهود والنصارى، أمر الله تعالى أن يقول لهم: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾؛ أي: قل لهم يا محمد هذا الكلام، وقيل: الخطاب للذين خاطبهم عيسى بقوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ الآية. ذكره في "البحر" وقرأ الجمهور (١)؛ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ بكسر همزة ﴿إِنَّ﴾ عطفًا على قوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ أو على الاستئناف، ويؤيده قراءة أبيّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ بالكسر بغير واو، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، ﴿وأن الله﴾ بالواو وفتح الهمزة، وخرج على حذف حرف الجر متعلقًا بما بعده؛ أي: ولأن الله، أو بسبب أنه تعالى ﴿رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ على ما قاله الخليل، وسيبويه، وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض، عطفًا على الصلاة في قوله: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾ وبـ ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾.
﴿هَذَا﴾ الذي (٢) ذكرته من التوحيد ونفي الولد والزوجة ﴿صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ إلى الجنة وإلى رضا الله سبحانه وتعالى لا يضل سالكه، وسمي هذا القول صراطًا مستقيمًا تشبيهًا له بالطريق؛ لأنه المؤدي إلى الجنة.
والمعنى: أي (٣) هذا الذي أوصيتكم أن الله أمرني به، هو الطريق المستقيم، فمن سلكه.. نجا، ومن اتبعه.. اهتدى؛ لأنه هو الدين الذي أمر به أنبياءه، من خالفه.. ضل وغوى وسلك سبيل الردى،
٣٧ - ثم أشار إلى أنه مع وضوح الأمر في شأن عيسى، وأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، اختلفوا فيه كما قال: ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ﴾ والجماعة ﴿مِنْ﴾ اليهود
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
141
والنصارى في شأن عيسى فيما ﴿بَيْنِهِمْ﴾ فاليهود قالوا: إنه ساحر، وقالوا: إنه ابن يوسف النجار، والنصارى اختلفت فرقهم فيه، فقالت النسطورية منهم - نسبة إلى عالم يسمى نسطور -: هو ابن الله، أظهره ما شاء، ثم رفعه إليه، وقالت الملكانية - نسبة إلى الملك قسطنطين وكان فيلسوفًا عالمًا -: إنه عبد الله كسائر خلقه، وهذا الرأي هو الذي نصره الملك، ونصره غيره من شيعته، وقالت اليعقوبية - نسبة إلى عالم منهم يسمى يعقوب -: هو الله هبط إلى الأرض، ثم صعد إلى السماء، فأفرطت النصارى وغلت، وفرّطت اليهود وقصّرت.
ومن في قوله: ﴿مِنْ بَيْنِهِمْ﴾ (١): زائدة؛ أي: فاختلف الأحزاب بينهم أو حال (٢) من الأحزاب، والمعنى: حال كون الأحزاب بعضهم؛ أي: بعض النصارى، إذ بقيت منهم فرقة مؤمنةٌ يقولون: إنه عبد الله ورسوله، وقيل: البين هنا بمعنى البعد، ومن بمعنى اللام؛ أي: اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق، ذكره في "البحر"، ﴿فَوَيْلٌ﴾؛ أي: فشدة عذاب ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ واختلفوا في شأن عيسى - عليه السلام - من اليهود والنصارى، والويل: الهلاك وهو نكرة وقعت مبتدأً وخبره ما بعده، وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء، ونظيره سلام عليك، فإن أصله: منصوب نائب مناب فعله لكنه عدل به إلى الرفع على الابتداء للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ﴿مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾؛ أي: من شهود وحضور يوم عظيم، هو له، وما يجري فيه من الحساب والجزاء، وهو يوم القيامة، أو من مكان الشهود فيه للحساب، وهول الموقف أو من وقت حضوره، أو من (٣) شهادة ذلك اليوم عليهم، وهو شهادة الملائكة والأنبياء، وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر، وسوء الأعمال، وقيل: فويل لهم من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور.
(١) الشوكاني.
(٢) الفتوحات.
(٣) المراح.
(٤) الخازن.
142
٣٨ - وقوله: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ صيغة تعجبٍ لفظه لفظ الأمر، ومعناه الماضي، فعجب الله - سبحانه وتعالى - نبيه - ﷺ - منهم؛ أي (١): ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة حين لا ينفعهم السمع والبصر، أخبر - سبحانه - أنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة ما لم يسمعوا أو يبصروا في الدنيا، وقيل: معناه التهديد بما يسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدّع قلوبهم. وعبارة النسفي هنا: الجمهور على أن لفظه أمر ومعناه التعجب، والله تعالى لا يوصف بالتعجب، ولكن المراد أن أسماعهم وأبصارهم جدير بأن يُتعجب منهما بعدما كانوا صمًّا وعميًّا في الدنيا، قال قتادة: إن عموا وصموا عن الحق في الدنيا.. فما أسمعهم وما أبصرهم بالهدى يوم لا ينفعهم و ﴿بِهِمْ﴾ مرفوع المحل على الفاعلية كأكرم يزيد، فمعناه كرم زيد جدًّا ﴿لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ﴾ أقيم الظاهر مقام المضمر؛ أي: لكنهم اليوم في الدنيا بظلمهم أنفسهم حيث تركوا الاستماع والنظر حين يُجدي عليهم، ووضعوا العبادة في غير موضعها ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ وخطأٍ عن الحق ﴿مُبِينٍ﴾؛ أي: ظاهر وهو اعتقادهم عيسى إلهًا معبوداً مع ظهور آثار الحدوث فيه، إشعارًا بأن لا ظلم أشدّ من ظلمهم.
والمعنى: أي (٢) لئن كان هؤلاء الكفار الذين جعلوا لله أندادًا، وزعموا أن له ولدًا عميًا في الدنيا عن إبصار الحق، والنظر إلى حجج الله التي أودعها في الكون دالةً على وحدانيته، وعظيم قدرته، وبديع حكمته، صماً عن سماع آي كتبه، وما دعتهم إليه الرسل مما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم.. فما أسمعهم يوم قدومهم على ربهم في الآخرة، وما أبصرهم حينئذ حيث لا يُجدي السماع والإبصار شيئًا، ويعضون على أناملهم حسرةً وأسفًا ويتمنون على الله الأمانيّ، فيودّون الرجوعَ إلى الدنيا، ليتداركوا ما فاتهم من صالح العمل، ولكن هيهات هيهات، فقد فات الأوان.
صَاحِ هَلْ رَأَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعِ رَدَّ في الضَّرْعِ مَا قَرَى فِيْ الْحِلاَبِ
(١) مدارك التنزيل.
(٢) المراغي.
ومن ثم لا يجاب لهم طلب، بل يقال لكل أفاك أثيم ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣)﴾.
٣٩ - ثم أمر - سبحانه - نبيه - ﷺ - أن ينذر قومه المشركين جميعًا، فقال: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾؛ أي: وخوّف يا محمد كفار مكة والناس جميعًا ﴿يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾؛ أي: أهوال يوم السيرة والندامة، ليتوبوا عما هم عليه من الكفر والعصيان، وهو يوم القيامة سمي بذلك؛ لأن المسيء يتحسر هلا أحسن العمل والمحسن هلا زاد في الإحسان، وقوله: ﴿إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾: بدل من لوم الحسرة، أي: إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها، ولأهل الجنة بالخلود فيها، بذبح الموت، وذبحه تصوير لأن كلاً من الفريقين يفهم فهماً لا لبس فيه، أنه لا موت بعد ذلك، وقوله: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ عن ذلك اليوم وأهواله في الدنيا وكذا قوله: ﴿وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: لا يصدقون بالقيامة والبعث والمجازاة: جملتان (١) حاليتان من مفعول أنذرهم؛ أي: وأنذرهم وهم على هاتين الحالتين، أو حالان من الضمير المستتر في قوله: ﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: استقروا ﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ وهم على هاتين الحالتين السيئتين، وعلى هذا يكون قوله ﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾ اعتراضًا.
والمعنى: أي (٢) وأنذر يا محمد الناس جميعًا، يوم يتحسر الظالمون على ما فرّطوا في جنب الله، حين فرغ من الحساب، وذهب أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، ونودي كلٌّ من الفريقين: لا خروج من هذا بعد اليوم، ولا موت بعد اليوم، وهم في الدنيا غافلون عن ذلك اليوم غير مصدقين به.
روى الشيخيان، والترمذي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح يخالط بياضه سواد، فينادِي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون فيشرفون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي منادٍ: يا أهل النار
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؛ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلّهم قد رآه، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت" ثم قرأ ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩)﴾، زاد الترمذي: "ولو أنّ أحدًا مات فرحًا.. لمات أهل النار".
ولو أن أحدًا مات حزنًا.. لمات أهل النار".
٤٠ - ثم سلَّى رسوله وتوعد المشركين فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ﴾. تأكيد للضمير في ﴿إِنَّا﴾ لأنه بمعناه، فإن قيل: ما الفائدة في ﴿نَحْنُ﴾ وقد كفت عنها ﴿إِنَّا﴾.. فالجواب: أنه لما جاز في قول المعظم ﴿إِنَّا﴾ نفعل أن يوهم أن أتباعه فعلوا.. أبانت (نحن) بأنّ الفعل مضاف إليه حقيقةً، ذكر الجواب عنه ابن الأنباري، ذكره ابن الجوزي ﴿نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا﴾؛ أي: نميت سكان الأرض جميعًا، فلا يبقى بها أحد يرث الأموات، فكأنه سبحانه ورث الأرض ومن عليها حيث أماتهم جميعًا، فإن قيل: فلم قال ﴿وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ وهو يرث الآدميين وغيرهم.. فالجواب أن ﴿مَنْ﴾ تختص أهل التمييز، وغير المميزين يدخلون في معنى الأرض، ويجرون مجراها، ذكر الجواب عن هذا السؤال لابن الأنباري أيضًا.
﴿وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾؛ أي: يردون إلينا يوم القيامة، لا إلى غيرنا، فنجازي كلاً بعمله.
والمعنى: أي لا يحزنك أيها الرسول تكذيب المشركين لك فيما أتيتهم به من الحق، فإن إلينا مرجعهم ومصيرهم ومصير الخلق أجمعين، ونحن وارثو الأرض ومن عليها من الناس بعد فنائهم، ثم نجازي كلّ نفسٍ بما عملت حينئذٍ، فنجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ وقرأ الجمهور (١): ﴿يُرْجَعُونَ﴾ بالياء من تحت مبنيًا للمفعول، والأعرج: بالتاء من فوق، وقرأ السلميّ، وابن أبي إسحاق، وعيسى: بالياء من تحت مبنيًا للفاعل، وحكى الدانيّ عنهم بالتاء.
(١) الجمهور.
٤١ - قوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾؛ أي: واتل يا محمد على قومك في القرآن، أو في هذه السورة ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾؛ أي: قصة إبراهيم الخليل - عليه السلام - ونبأه وبلغها إياهم، كقوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (٦٩)﴾ وذلك (١) أن أهل الملل كانوا يعترفون بفضله، ومشركو العرب يفتخرون بكونهم من أبنائه، فأمر الله تعالى حبيبه - عليه السلام - أن يخبرهم بتوحيده الذي هو ملة إبراهيم، ليقلعوا عن الشرك، فعساهم باستماع قصته يتركون ما هم فيه من القبائح، وجملة قوله ﴿إِنَّهُ كَانَ﴾؛ أي: إن إبراهيم كان ﴿صِدِّيقًا﴾؛ أي: ملازمًا للصدق في كل ما يأتي وما يذر، مبالغًا فيه قائمًا به في جميع الأوقات ﴿نَبِيًّا﴾؛ أي: رفيع القدر عند الله، وعند الناس، فلا رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطةً بينه وبين عباده، تعليل (٢) لما تقدم من الأمر لرسول الله - ﷺ - بأن يذكره، وهي معترضة بين البدل الآتي والمبدل منه، وقرأ أبو البرهشيم ﴿إنه كان صادقًا﴾ وقوله: ﴿نَبِيًّا﴾ خبر آخر لكان مقيد (٣) للأول، مخصص له أي: كان جامعًا بين الصديقية والنبوة، وذلك أن الصديقية تلو النبوة، ومن شرطها أن لا يكون نبيًا إلا وهو صديق، وليس من شرط الصديق أن يكون نبيًا، ولأرباب الصدق مراتب: صادق، وصدوق، وصديق، فالصادق من صدق في قيامه مع الله بالله وفي الله، وهو الفاني عن نفسه، والباقي بربه، والفرق بين الرسول والنبي: أن الرسول من بعث لتبليغ الأحكام ملكًا كان أو إنسانًا، بخلاف النبي فإنه مختص بالإنسان.
فائدة (٤): عاش إبراهيم - عليه السلام - من العمر مئةً وخمسًا وسبعين سنةً، وبينه وبين آدم ألفا سنةٍ، وبينه وبين نوح ألف سنة، كما ذكره السيوطي في "التحبير".
٤٢ - وقوله: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ﴾ بدل اشتمالِ من إبراهيم؛ أي: من خبره المقدر، والمبدل منه محذوف، والبدل باعتبار ما أضيف إليه الظرف، وهو قوله: ﴿قَالَ﴾
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) الفتوحات.
146
لِأَبِيهِ}؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة إذ قال إبراهيم - عليه السلام - لأبيه آزر متلطفاً في الدعوة، مسهلًا له ﴿يَا أَبَتِ﴾؛ أي: يا أبي فإن التاء عوض عن ياء الإضافة، ولذلك لا يجتمعان في أفصح اللغات، فلا يقال: يا أبتي لامتناع الجمع بين العوض والمعوض عنه، ولا يقال أيضًا: يا أبتا في أفصح اللغات، لكون الألف بدلًا من الياء، كما بسطنا البحث عن ذلك في رسالتنا "هدية أولي العلم والإنصاف في إعراب المنادى المضاف" وقرأ ابن عامر، والأعرج، وأبو جعفر. ﴿يا أبت﴾ بفتح التاء، وقد لحن هارون هذه القراءة، وفي مصحف عبد الله ﴿واأبت﴾ بواوٍ بدل ياءٍ، ذكره في "البحر".
والاستفهام في قوله: ﴿لِمَ تَعْبُدُ﴾ للإنكار والتوبيخ، واللام فيه حرف جر دخلت على ما الاستفهامية، كما يدخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: بم، وعلام، وفيم، وإلام، ومم، وعم، وحذفت ألفها فرقًا بينها وبين ما الموصولة، إذا دخل عليها حرف الجر وقيل استعمال الأصل فيها، و (ما) في قوله: ﴿مَا لَا يَسْمَعُ﴾ عبارةُ (١) عن الصور والتماثيل؛ أي: يا أبي لم تعبد الأصنام والتماثيل التي لا تسمع ثناءَك وتضرعك لها عند عبادتك لها، مريدًا بها الثواب ﴿وَلَا يُبْصِرُ﴾ خضوعك وخشوعك بين يديه، وما تفعله من عبادته مريدًا بها الثواب، ويجوز (٢) أن يُحمل نفي السمع والإبصار على ما هو أعم من ذلك؛ أي: لا يسمع شيئًا من المسموعات، ولا يُبصر شيئًا من المبصرات ﴿وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾؛ أي: ولا ينفعك شيئًا من الأشياء، فلا يجلب لك نفعًا، ولا يدفع عنك ضررًا، أو ولا يدفع عنك شيئًا من عذاب الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فـ ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به، أو ولا يغنيك شيئًا من الإغناء، وهو القليل منه، فـ ﴿شَيْئًا﴾ مصدر؛ أي: ولأي شيء، ولأي سببٍ تعبدها، مع أن فيها ما يقتضي عدم عبادتها، وهو عدم سمعها وبصرها اهـ. شيخنا.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
147
ومعنى الآية: أي (١) واتل أيها الرسول على قومك الذين يعبدون الأصنام، ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته، ويدعون أنهم على ملته وهو الصديق النبي حين نهى قومه عن عبادتها، وقال لأبيه: ما الذي حبب إليك أن تعبد ما لا يسمع ثناءك على حين عبادتك له، ولا يبصر خشوعك وخضوعك بين يديه، ولا ينفعك فيدفع عنك ضرًا إذا استنصرت به.
وقد سلك عليه السلام في دعوته أجمل الآداب في الحجاج، واحتج بأروع البرهانات، ليرده عن غيه، ويقفه على طريق الهدى والرشاد، فاستهجن منه أن يعبد ما يستخف به كل ذي لب، ويأبى الركون إليه كل ذي عقل، فالعبادة هي القصوى في التعظيم، فلا يستحقها إلا الخالق الرازق المحيي المميت المعاقب، لا الأصنام التي لا تسمع الأصوات، ولا تنظر الأشياء، وتعجز عن جلب المنافع ودفع المضار.
وقصارى ما قال: أن الإنسان السميع البصير، يأنف أن يعبد نظيره، فكيف تعبد ما خرج عن الألوهية بفقره وضعفه واحتياجه إلى من يصنعه، وعن الإنسانية بفقد العقل، وعن الحيوانية بفقد الحواس، أما كان لك عبرة في حاجته وفقده السمع والبصر.
واعلم: أن إبراهيم - عليه السلام - أورد على أبيه الدلائل والنصائح، وصدر كلاً منها بالنداء المضمن للرفق واللين، استمالةً لقلبه، وامتثالًا لأمر ربه،
٤٣ - ثم كرر دعوته إلى الحق فقال: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي﴾؛ أي: قد وصل إلى بطريق الوحي ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ باللهِ ومعرفته ﴿مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾؛ أي: نصيب لم يصل إليك، وأنه قد تجدد لي حصول ما أتوصل به منه إلى الحق، وأقتدر به على إرشاد الضالّ ﴿فَاتَّبِعْنِي﴾ على ديني من الإيمان والتوحيد، ولا تستنكف عن التعلم مني ﴿أَهْدِكَ﴾ وأدلك ﴿صِرَاطًا سَوِيًّا﴾؛ أي: طريقًا مستقيمًا موصلًا إلى أسنى المطالب منجيًا من الضلال والمعاطب (٢)، ولم يشافهه بالجهل المفرط، وإن كان في أقصاه، ولم
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
يصف نفسه بالعلم الفائق، وإن كان كذلك، بل جعل نفسه في صورة رفيق له في مسير يكون أعرف، وذلك من باب البِرِّ والرفق واللطف.
والمعنى: أي (١) يا أبي إني وإن كنت من صلبك، وتراني أصغر منك، لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم ما لم تعلمه أنت، ولا اطلعت عليه، فاتبعني أهدك طريقًا مستقيمًا لا زيغ فيه، يوصلك إلى نيل المطلوب، وينجيك من كلّ مرهوب.
وفي قوله: ﴿قَدْ جَاءَنِي﴾ إيماء إلى أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبىء، ولم يعين ما جاءه ليشمل كل ما يوصله إلى الجنة ونعيمها، ويبعد به عن النار وعذابها.
٤٤ - ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ فإن عبادتك للأصنام عبادة له، إذ هو الذي يزينها لك، ويغريك عليها، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾؛ أي: عاصيًا له، مخالفًا لأمره، حين ترك ما أمره به من السجود لآدم، ومن أطاع من هو عاص لله سبحانه.. فهو عاص لله، ومعلوم أن طاعة العاصي تورث النقم، وتسلب النعم والتعرض (٢) لعنوان الرحمانية لإظهار كمال شناعة عصيانه، قال الكسائي: العصي والعاص بمعنى واحد،
٤٥ - ثم بين له الباعث على هذه النصائح فقال: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ﴾ إن مت على ما أنت عليه من متابعة الشيطان، وعصيان الرحمن ﴿أَنْ يَمَسَّكَ﴾ ويصيبك ﴿عَذَابٌ﴾ كائن ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ﴾ يا أبي ﴿لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾؛ أي: مقارنًا له في اللعن المخلد، والعذاب المؤبد، أو قريبًا منه في النار، تليه ويليك من الولي وهو القرب، قال الفراء (٣): معنى ﴿أخاف﴾ هنا: أعلم، وقال الأكثرون، إن الخوف هنا محمول على ظاهره؛ لأن إبراهيم غير جازم بموت أبيه على الكفر، إذ لو كان جازمًا بذلك لم يشتغل بنصحه، ومعنى الخوف على الغير هو: أن يظن وصول الضرر إلى ذلك الغير.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
والمعنى: يا أبي إني أخاف لمحبتي لك، وغيرتي عليك، أن يصيبك عذاب من الرحمن على شركك وعصيانك ﴿فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾؛ أي: قرينًا وتابعًا له في النار.
وقصارى ذلك: إني أخاف أن تكون تابعًا للشيطان في الدنيا، فيمسك عذابٌ من الرحمن في العقبى.
٤٦ - ولما دعا إبراهيم أباه إلى التوحيد، وذكر الدلائل على فساد عبادة الأوثان، وأردف ذلك بالوعظ واللطف.. قابله أبوه بجواب هو على الضد من ذلك، حيث قابله بالغلظة والفظاظة والقسوة ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ استئنافٌ بيانيٌ كأنه قيل: فماذا قال أبوه عندما سمع منه هذه النصائح الواجبة القبول؟ فقيل: قال أبوه آزر مصرًا على عناده، ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ﴾ أي: أمعرض أنت عن عبادة آلهتي، وأصنامي، ومنصرف إلى غيرها يا إبراهيم؛ أي (١): أتاركها أنت، وتارك عبادتها، والاستفهام فيه للتقريع والتوبيخ والتعجيب، وَجْهُ الإنكار (٢) إلى نفسه الرغبةُ مع ضرب من التعجب، كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلًا عن ترغيب الغير عنها، قدم الخبر على المبتدأ للاهتمام به، والأولى كونه مبتدأ، وأنت فاعله سد مسد الخبر، لئلا يلزم الفصل بين الصفة وما يتعلق بها، وهو (عن).
والخلاصة: أتكره آلهتي ولا ترغب في عبادتها يا إبراهيم، ثم توعده فقال: والله ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ وتنزجر يا إبراهيم، وترجع عما أنت فيه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتني إليه.. ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ بالحجارة، وأرمينك بها حتى تموت، أو تبعد عني، وقيل (٣) باللسان فيكون معناه لأشتمنك، وقيل: معناه لأضربنك، وقيل: لأظهرن أمرك، وقوله: ﴿وَاهْجُرْنِي﴾: معطوف على ما دل عليه، لأرجمنك؛ أي: فاحذرني واتركني ﴿مَلِيًّا﴾؛ أي: زمانًا طويلًا سالمًا مني، ولا تكلمني؛ أي: فاحذرني وأبعد عني بالمفارقة من الدار والبلد دهرًا طويلًا، من الملاوة وهو الدهر، ومنه قول مهلهل:
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ وَبَكَتْ عَلَيْهِ الْمُرْمِلاَتُ مَلِيَّا
وقيل معناه: اعتزلني سالم العرض، لا تصيبك مني معرة، واختار هذا ابن جرير، فـ ﴿مَلِيًّا﴾ على هذا: منتصب على الحال من إبراهيم، وعلى القول الأول منتصب على الظرفية.
وقد قابل (١) الأب رفق الابن بالعنف، فلم يقل: يا بني، كما قاله الابن ﴿يَا أَبَتِ﴾ وقابل وعظه بالسفاهة إذ هدده بالشتم أو بالضرب بالحجارة بقوله: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ وفي ذلك تسليةٌ للنبي - ﷺ - وتأسية له بإبراهيم فيما كان يلقى من الأذى من قومه، ويقاسيه منهم، ومن عمه أبي لهب من العنت والمكروه.
٤٧ - فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد.. ﴿قَالَ﴾ إبراهيم استئناف بياني ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾؛ أي: سلام توديع مني، وتحية مفارقة لك، ومشاركةٍ لك على ما أنت عليه، كائن عليك، لا سلام لطفٍ وإحسان لأنه ليس بدعاءٍ له كقوله: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة، ودل على جواز مشاركة المنصوح له إذا أظهر اللجاج.
والمعنى: سلمت مني لا أصيبك بمكروه بعد، ولا أشافهك بما يؤذيك ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ والسين فيه للاستقبال، أو لمجرد التأكيد؛ أي: أدعو لك ربي أن يهديك إلى الإيمان، فإن حقيقة الاستغفار للكافر: طلب التوفيق للإيمان المؤدي إلى المغفرة، كما يلوح به تعليل قوله ﴿وَاغْفِرْ لِأَبِي﴾ بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾ والاستغفار (٢) بهذا المعنى للكافر قبل تبيين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه، وإنما المحظور استدعاؤه له مع بقائه على الكفر، فإنه مما لا مساغ له عقلًا ولا نقلًا، وأما الاستغفار له بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل، وإنما الذي يمنعه السمع، ألا ترى إلى أنه عليه السلام قال لعمه أبي طالب: "لا أزال أستغفر لك ما لم أُنْه عنه" فنزل قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ الآية. ولا اشتباه في أن هذا الوعد من
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
إبراهيم، وكذا قوله ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ وما ترتب عليهما من قوله: ﴿وَاغْفِرْ لِأَبِي﴾ إنما كان قبل انقطاع رجاءه عن إيمانه، لعدم تبيّن أمره، كما قال: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾.
والمعنى: سأطلب لك من ربي الغفران، بأن يوفقك للهداية، أو ينير بصيرتك لقبول الحق، ويرشدك إلى ما فيه الخير، وجملة قوله: ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ أي: بليغًا في البر والإلطاف تعليل لما قبلها، والمعنى: سأطلب لك المغفرة من الله فإنه كان بي كثير البر واللطف. وقال الفراء: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾؛ أي: عالمًا لطيفًا، يجيبني إذا دعوته.
والمعنى (١)؛ أنه سبحانه للطفه بي، وإنعامه علي، عودني الإجابة، فإذا أنا استغفرت لك.. أغاثك بجوده وكرمه وغفر لك ذنوبك إن تبت إليه وأنبت،
٤٨ - ثم بيّن ما بيَّت النية عليه، وعزم على إنفاذه فقال: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ﴾؛ أي: أتباعد عنك، وعن قومك، بالمهاجرة بديني، حيث لم يؤثر فيكم نصائحي ﴿و﴾ أتباعد عـ ﴿مَا تَدْعُونَ﴾ وتعبدون ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى من الأوثان والأصنام، وأمر بديني وأتشاغل بعبادة ربي الذي ينفعني ويضرني، وقد روي أنه عليه السلام هاجر إلى بلاد الشام، وفي هجرته هذه تزوج سارة، ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر ﴿وَأَدْعُو رَبِّي﴾؛ أي: وأعبد ربي سبحانه وحده، وأجتنب عبادة غيره من المعبودات ﴿عَسَى أَلَّا أَكُونَ﴾؛ أي: أترجّى أن لا أكون ﴿بِدُعَاءِ رَبِّي﴾ المنعم علي ﴿شَقِيًّا﴾؛ أي: خائبًا؛ أي: أترجى عدم كوني خائبًا محرومًا بسبب دعائي وعبادتي إياه، كما خبتم أنتم وشقيتم بعبادة تلك الأوثان، التي لا تجيب دعاءَكم ولا تنفعكم ولا تضركم، وفيه تعريض (٢) لشقائهم في عبادتهم آلهتهم، وفي تصدير الكلام بـ ﴿عسى﴾: إظهار التواضع، ومراعاة حسن الأدب، والمراد بالدعاء هنا العبادة؛ لأن "الدعاء منع العبادة" قيل أراد بهذا الدعاء هو أن يهب الله له ولدًا وأهلًا يستأنس بهم في اعتزاله، ويطمئن إليهم عند وحشته، وقيل: أراد دعاءَه
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
لأبيه بالهداية،
٤٩ - وقد حقق ما عزم عليه، فحقق الله سبحانه رجاءه، وأجاب دعاءه فقال: ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ﴾؛ أي: فلما اعتزل إبراهيم أباه وقومه ﴿و﴾ اعتزل ﴿مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى بالمهاجرة إلى الشام، فارتحل من كوثي إلى الأرض المقدسة ﴿وَهَبْنَا لَهُ﴾ بعد الهجرة ﴿إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ ولده، أي: آنسنا وحشته من فراقهم بأولادٍ أكرم على الله من أبيه وقومه الكفرة؛ لأنه عاش حتى رأى يعقوب، لا عقيب المجاوزة والمهاجرة، فإن المشهور، أن الموهوب حينئذٍ إسماعيل، لقوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١)﴾ إثر دعائه بقوله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)﴾ ولعل (١) تخصيصهما بالذكر أنهما شجرة الأنبياء، أو لأنه أراد أن يذكر إسماعيل بفضل على انفراده؛ أي: اعتزل أباه وقومه الكفرة، وأصنامهم بالمهاجرة إلى الأرض المقدسة، ولم يضره فراقهم لا في دين ولا في دنيا، بل نفعه ذلك إذ أبدله (٢) بهم من هم خير منهم، ووهبه بنين وحفدة هم آباء الأنبياء من بني إسرائيل، ولهم الشأن الخطير والقدر العظيم، فقد وهبه إسحاق وولد وإسحاق يعقوب، وقاما مقامه بعد موته وورثا منه النبوة، أما إسماعيل.. فتولى الله سبحانه تربيته بعد نقله رضيعًا إلى المسجد الحرام، فأحيا تلك المشاعر العظام، ومن ثم أفرده بالذكر بقوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ...﴾ الآية.
﴿وَكُلًّا﴾؛ أي: وكل (٣) واحد من إسحاق ويعقوب، وقال مقاتل: ﴿وَكُلًّا﴾: يعني: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب؛ أي: وكل واحد منهم ﴿جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ بنبئهم (٤) الله - سبحانه وتعالى - بعلوم المعارف، وهم ينبئون الخلق بتوحيد الله، وبالإِسلام، وانتصاب (٥) ﴿وَكُلًّا﴾ على أنه المفعول الأول لـ ﴿جعلنا﴾، قدم عليه للتخصيص، لكن بالنسبة إليهم أنفسهم لا بالنسبة إلى من عداهم؛ أي: كل واحد منهم ﴿جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ لا بعضهم دون بعض
٥٠ - ﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء الثلاثة ﴿مِنْ رَحْمَتِنَا﴾؛ أي: كل خير ديني ودنيوي، مما لم يوهب لأحد من العالمين من المال
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) زاد المسير.
(٤) المراح.
(٥) الشوكاني.
153
والجاه والأتباع والذرية الطيبة؛ أي: وآتيناهم من فضلنا المديني والدنيوي ما لم نؤته أحدًا من العالمين، فآتيناهم النسل الطاهر، والذرية المباركة، وإجابة الدعاء، واللطف في القضاء، والبركة في المال والأولاد، إلى نحو أولئك من خيري الدنيا والآخرة ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء المذكورين ﴿لِسَانَ صِدْقٍ﴾؛ أي: ثناءً صادقًا ﴿عَلِيًّا﴾؛ أي: رفيعًا مشهورًا دائمًا إلى يوم القيامة، يفتخر بهم الناس، ويثنون عليهم، وتذكرهم الأمم كلها إلى يوم القيامة، بما لهم من الخصال المرضية، وتقول هذه الأمة في الصلوات الخمس: "كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" إلى قيام الساعة، إجابةً لدعوته بقوله: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)﴾.
والمراد بلسان الصدق (١): الثناء الحسن، عبر عنه باللسان لكونه يوجد به، كما عُبِّر باليد عن العطية، وإضافته إلى الصدق، ووصفه بالعلوا، للدلالة على أنهم أحقاء بما يقال فيهم من الثناء على ألسن العباد، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار، وتحول الدول، وتبدل الملل.
وهذا (٢): توبيخ لكفار مكة، إذ كان مقتضى ترضيهم وثنائهم على المذكورين، أن يتبعوهم في الدين، مع أنهم لم يفعلوا اهـ. شيخنا.
الإعراب
﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧)﴾.
﴿فَأَتَتْ﴾ الفاء: استئنافية ﴿أَتَتْ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿مَرْيَمَ﴾ ﴿بِهِ﴾ متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل المستتر في ﴿أَتَتْ﴾؛ أي: حالة كونها مصحوبةً به، كما قاله أبو البقاء، وهو حسن ولا نرى مانعًا من تعلقه بـ ﴿أَتَتْ﴾ و ﴿قَوْمَهَا﴾: مفعول به والجملة، مستأنفة ﴿تَحْمِلُهُ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول والجملة. في محل النصب حال ثانية من فاعل ﴿أَتَتْ﴾ ﴿قَالُوا﴾: فعل
(١) البيضاوي والشوكاني.
(٢) الفتوحات.
154
وفاعل والجملة، مستأنفة ﴿يَا مَرْيَمُ﴾: منادى مفرد العلم، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَال﴾ ﴿لَقَدْ﴾ اللام موطئة للقسم ﴿لَقَدْ﴾ حرف تحقيق ﴿جِئْتِ﴾: فعل وفاعل ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به ﴿فَرِيًّا﴾ صفة لـ ﴿شَيْئًا﴾ ويجوز إعراب ﴿شَيْئًا﴾ على المصدرية، أي: نوعًا من المجيء غريبًا، والجملة الفعلية: جواب القسم المحذوف وجملة القسم: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب النداء.
﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩)﴾.
﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾: منادى مضاف وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مَا﴾ نافية ﴿كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب النداء ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾: نافية ﴿كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة، معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿فَأَشَارَتْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية ﴿أشارت﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿مَرْيَمَ﴾ ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به والجملة معطوفة مفرعة على ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل والجملة: مستأنفة ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب على الحال ﴿نُكَلِّمُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على المتكلمين ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿فِي الْمَهْدِ﴾: جار ومجرور حال من اسم ﴿كَانَ﴾. ﴿صَبِيًّا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾: صلة الموصول.
﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على عيسى والجملة: مستأنفة ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾: ناصب واسمه وخبره، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾: فعل ماض ونون وقاية ومفعولان وفاعله ضمير يعود على الله،
155
والجملة الفعلية، في محل النصب حال من اسم ﴿إن﴾. ﴿وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾: فعل ونون وقاية وفاعل مستتر يعود على الله ومفعولان والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ وكذا جملة قوله: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا﴾: معطوفة على جملة قوله: ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾. ﴿أَيْنَ مَا﴾ اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية المكانية مبني على الفتح، والظرف متعلق بفعل الشرط أو بالجواب المحذوف، و ﴿كُنْتُ﴾: تامة والتاء فاعلها وهو في محل الجزم بـ ﴿أَيْنَ﴾ على كونه فعل شرط لها، ويجوز أن تكون ناقصة، والتاء اسمها و ﴿أَيْنَ مَا﴾: متعلق بمحذوف خبرها المقدم، وجواب الشرط: محذوف دل عليه ما قبله تقديره: أينما كنت جعلني مباركاً أو جوابه هو نفس المتقدم عند من يرى ذلك، وجملة الشرط في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ولا يجوز أن تكون استفهامية؛ لأنه يلزم أن يعمل فيها ما قبلها، وأسماء الاستفهام لها صدر الكلام، فتعين أن تكون شرطية لأنها منحصرة في هذين المعنيين اهـ. "كرخي" ﴿وَأَوْصَانِي﴾: فعل وفاعل مستتر ونون وقاية معطوفة على ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾. ﴿بِالصَّلَاةِ﴾: متعلق به ﴿وَالزَّكَاةِ﴾: معطوف على ﴿الصلاةِ﴾. ﴿مَا﴾ مصدرية ظرفية ﴿دُمْتُ حَيًّا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره وجملة ﴿دام﴾: صلة ﴿مَا﴾ المصدرية ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه والظرف المقدر متعلق بـ ﴿أَوْصَانِي﴾ والتقدير، ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾ مدة دوامي ﴿حَيًّا﴾.
﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)﴾.
﴿بَرًّا﴾ معطوف على ﴿مُبَارَكًا﴾؛ أي: وجعلني بارا ﴿بِوَالِدَتِي﴾: متعلق بـ ﴿بَرًّا﴾. ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا﴾ جازم وفعل مجزوم وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعولان معطوف على ﴿وَجَعَلَنِي﴾. ﴿شَقِيًّا﴾ صفة لـ ﴿جَبَّارًا﴾. ﴿وَالسَّلَامُ﴾ مبتدأ ﴿عَلَيَّ﴾ خبره والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية ﴿وُلِدْتُ﴾: فعل ونائب فاعل والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾ والظرف: متعلق بالاستقرار الذي
156
تعلق به الخبر أعني ﴿عَلَيَّ﴾ وقوله: ﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾: معطوفان على ﴿يَوْمَ وُلِدْتُ﴾. ﴿حَيًّا﴾: حال من فاعل ﴿أُبْعَثُ﴾.
﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)﴾.
﴿ذَلِكَ عِيسَى﴾ مبتدأ وخبر والجملة: مستأنفة ﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾ صفة أولى لـ ﴿عِيسَى﴾ ﴿قَوْلَ﴾: صفة ثانية له ﴿الْحَقِّ﴾: بمعنى الله مضاف إليه؛ أي: كلمة الله ﴿الْحَقِّ﴾ كما مر في مبحث التفسير ﴿الَّذِي﴾ صفة ثالثة لـ ﴿عِيسَى﴾. ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَمْتَرُونَ﴾ وجملة ﴿يَمْتَرُونَ﴾: صلة الموصول هذا على قراءة الرفع، وأما على قراءة النصب فـ ﴿قَوْلَ الْحَقِّ﴾: منصوب بفعل محذوف تقديره. قال: ﴿قَوْلَ الْحَقِّ﴾، ﴿الْحَقِّ﴾ بمعنى الصدق ﴿الَّذِي﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿قَوْلَ الْحَقِّ﴾ وجملة ﴿يَمْتَرُونَ﴾: صفة له ﴿مَا﴾: نافية ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾ ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ﴿يَتَّخِذَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللهِ﴾. ﴿مِنْ﴾ زائدة ﴿وَلَدٍ﴾: مفعول به لـ ﴿يَتَّخِذَ﴾ وجملة ﴿يَتَّخِذَ﴾: مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخرًا تقديره ما كان اتخاذ ولد لائقًا بالله وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة ﴿سُبْحَانَهُ﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره سبح ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿قَضَى أَمْرًا﴾: فعل ومفعول مفاعله ضمير يعود على ﴿اللهِ﴾ والجملة الفعلية: في محل الجر بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها ﴿فَإِنَّمَا﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾ جوازًا ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر ﴿يَقُولُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَهُ﴾: متعلق بيقول وجملة ﴿يَقُولُ﴾: جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾: مستأنفة ﴿كُنْ﴾: فعل أمر تام بمعنى أحدث، وفاعله: ضمير يعود على ذلك الأمر وجملة ﴿كُنْ﴾ في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾. ﴿فَيَكُونُ﴾: بالرفع الفاء: استئنافية ﴿يَكُونُ﴾: فعل مضارع تام وفاعله ضمير يعود على ذلك الأمر والجملة: في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره (فـ) هو ﴿يَكُونُ﴾ والجملة: مستأنفة وبالنصب هو منصوب بأن
157
مضمرة وجوبًا بعد (الفاء) السببية الواقعة في جواب الأمر والجملة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر مقيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره ليكن تكوينه فكونه.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)﴾.
﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية أو عاطفة ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي﴾ ناصب واسمه وخبره ﴿وَرَبُّكُمْ﴾ معطوف على ﴿رَبِّي﴾ والجملة: مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ كما مر في محبث التفسير، هذا على قراءة كسر همزة ﴿إن﴾ وأما على فتحها فعلى تقديره حرف جر متعلق بما بعده، تقديره: و ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾. ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره إذا عرفتم أن الله ربي وربكم وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم: ﴿اعبدوه﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة ﴿هَذَا صِرَاطٌ﴾: مبتدأ وخبر ﴿مُسْتَقِيمٌ﴾: صفة ﴿صِرَاطٌ﴾ والجملة الاسمية: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.
﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٨)﴾.
﴿فَاخْتَلَفَ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية ﴿اخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ﴾: فعل وفاعل والجملة: مستأنفة ﴿مِنْ بَيْنِهِمْ﴾: جار ومجرور حال من ﴿الْأَحْزَابُ﴾ تقديره: حالة كون المختلفين بعضهم ﴿فَوَيْلٌ﴾ الفاء: عاطفة ﴿ويل﴾ مبتدأ وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء عليهم ﴿لِلَّذِينَ﴾؛ جار ومجرور خبر المبتدأ والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة الفعلية قبلها أعني قوله: ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ﴾ عطف اسمية على فعلية ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿مِنْ مَشْهَدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ويل﴾ ﴿يَوْمٍ﴾: مضاف إليه ﴿عَظِيمٍ﴾: صفة لـ ﴿يَوْمٍ﴾ ﴿أَسْمِعْ﴾ فعل تعجب لفظه لفظ الأمر، ومعناه المضي مبني على السكون نظرًا للفظ أو بفتح مقدر على الآخر الساكن نظرًا لمعناه ﴿بِهِمْ﴾ الباء: زائدة زيدت وجوبًا لرفع قبح رفع ما لفظه
158
أمر للضمير البارز والهاء: ضمير الغائبين في محل الرفع فاعل والجملة الفعلية: جملة تعجبية لا محل لها من الإعراب ﴿وَأَبْصِرْ﴾: معطوف على ﴿أَسْمِعْ﴾. ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿أَسْمِعْ﴾ أو بـ ﴿أَبْصِرْ﴾: على سبيل التنازع ﴿يَأْتُونَنَا﴾ فعل وفاعل ومفعول والجملة: في محل الجر مضاف إليه ليوم ﴿لَكِنِ﴾ حرف استدراك ﴿الظَّالِمُونَ﴾: مبتدأ ﴿الْيَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر ﴿فِي ضَلَالٍ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ ﴿مُبِينٍ﴾: صفة ﴿ضَلَالٍ﴾ والجملة، الاستدراكية: مستأنفة.
﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٤٠)﴾.
﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾: فعل أمر ومفعول به وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة. مستأنفة ﴿يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بأنذرهم ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان بدل من ﴿يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾. ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ﴾: فعل أمر ونائب فاعل والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ والجملة، في محل النصب حال من مفعول ﴿أنذرهم﴾ أو من الضمير المستتر ﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ كما مر في مبحث التفسير ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿نَحْنُ﴾ تأكيد لاسم ﴿إِنَّ﴾ الذي هو بمعنى ﴿نَحْنُ﴾ لأنه بمعناه ﴿نَرِثُ الْأَرْضَ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله ﴿وَمَنْ﴾ اسم موصول معطوف على الأرض ﴿عَلَيْهَا﴾: جار ومجرور صلة الموصول والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿وَإِلَيْنَا﴾ متعلق بـ ﴿يُرْجَعُونَ﴾ ﴿يُرْجَعُونَ﴾: فعل ونائب فاعل والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿مَنْ﴾ الموصولة أو في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿نَرِثُ﴾.
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٤١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢)﴾.
﴿وَاذْكُرْ﴾ الواو: استئنافية ﴿اذْكُرْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على
159
محمد، والجملة: مستأنفة ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ متعلق به ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾: مفعول به ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ ﴿صِدِّيقًا﴾: خبر أول لـ ﴿كَانَ﴾. ﴿نَبِيًّا﴾: خبر ثان لها وجملة ﴿كَانَ﴾ أى محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة: ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى أو الزمان، بدل اشتمال أو المضاف المقدر أى ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والتقدير: واذكر قصة إبراهيم ﴿إِذْ قَالَ﴾، ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿لِأَبِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَالَ﴾ والجملة: أى محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يا﴾: حرف نداء ﴿أبت﴾: منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المعوضة عنها تاء التأنيث للتفخيم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالفتحة المجلوبة لمناسبة التاء؛ لأن التاء لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا ﴿أب﴾: مضاف وياء المتكلم المعوضة عنها تاء التأنيث أى محل الجر مضاف إليه، مبنية على السكون لشبهها بالحرف شبهًا وضعيًا، وتاء التأنيث المعوضة عن الياء المحذوفة حرف لا محل لها من الإعراب مبنية على الكسر، وإنما حركت لكونها على حرف واحد، وكانت الحركة كسرةً قصدًا لتعويض كسرها عن الكسر الذي كان يستحقه ما قبل الياء أى الأصل، وجملة النداء أى محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿لِمَ﴾ اللام: حرف ﴿مَ﴾ اسم استفهام أى محل الجر باللام مبني على السكون الظاهر على الألف المحذوفة، فرقا بينها وبين ما الموصولة الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَعْبُدُ﴾. ﴿تَعْبُدُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على أبي إبراهيم، والجملة: أى محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة أى محل النصب مفعول ﴿تَعْبُدُ﴾. ﴿لَا﴾ نافية ﴿يَسْمَعُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾ والجملة: صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة، لها ﴿وَلَا يُبْصِرُ﴾ معطوف على قوله ﴿لَا يَسْمَعُ﴾ وكذا جملة قوله ﴿وَلَا يُغْنِي﴾ معطوفة عليه ﴿عَنْكَ﴾ متعلق بـ ﴿يُغْنِي﴾. ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به منصوب على المصدرية أى شيئًا أو الإغناء.
{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (٤٣) يَا أَبَتِ
160
لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤)}.
﴿يَا أَبَتِ﴾: منادى مضاف والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق ﴿جَاءَنِي﴾: فعل ماض ونون وقايه ومفعول به ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءَنِي﴾. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في الرفع فاعل ﴿جاء﴾، ﴿لَمْ﴾: حرف جزم ﴿يَأْتِكَ﴾: فعل ومفعول به مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ وجزمه حذف حرف العلة، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَا﴾: والجملة: صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، وجملة ﴿جَاءَنِي﴾: في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة من في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾: على كونها جواب النداء. ﴿فَاتَّبِعْنِي﴾: ﴿الفاء﴾: قال الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنه قد جاءني أو العلم، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: ﴿اتبعني﴾. ﴿اتبعني﴾: فعل أمر ونون وقاية وياء المفعول وفاعله ضمير يعود على أبي إبراهيم، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة، في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَهْدِكَ﴾: فعل مضارع ومفعول أول مجزوم بالطلب السابق وجزمه حذف حرف العلة وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿صِرَاطًا﴾: مفعول ثان ﴿سَوِيًّا﴾: صفة ﴿صِرَاطًا﴾. ﴿يَا أَبَتِ﴾: منادى مضاف ﴿لَا﴾: ناهية جازمة ﴿تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية وفاعلة ضمير يعود على أبي إِبراهيم، والجملة: في محل النصب مقول قال على كونها جواب النداء. ﴿إِنَّ الشَّيْطَان﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على ﴿الشَّيْطَانَ﴾. ﴿لِلرَّحْمَنِ﴾: متعلق بـ ﴿عَصِيًّا﴾. ﴿عَصِيًّا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾: وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (٤٥)﴾
﴿يَا أَبَتِ﴾: منادى مضاف ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه ﴿أَخَافُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ وجملة ﴿أَخَافُ﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَنْ يَمَسَّكَ﴾: ناصب يفعل
161
مضارع ومفعول به ﴿عَذَابٌ﴾: مفعول به ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ﴾: صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾ وجملة ﴿يَمَسَّكَ﴾: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿أَخَافُ﴾ تقديره: إني أخاف مس عذاب الرحمن إياك ﴿فَتَكُونَ﴾ الفاء: عاطفة ﴿تكون﴾: فعل مضارع ناقص معطوف على ﴿يَمَسَّكَ﴾: واسمها ضمير يعود على أبي إبراهيم ﴿لِلشَّيْطَانِ﴾: متعلق بـ ﴿أَخَافُ﴾. ﴿وَلِيًّا﴾: خبر ﴿تكون﴾.
﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على أبي إبراهيم، والجملة: مستأنفة ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ﴾ إلى قوله، ﴿قَالَ سَلَامٌ﴾: مقول محكي وإن شئت قلت: ﴿أَرَاغِبٌ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري ﴿راغب﴾: مبتدأ وسوَّغ الابتداء بالنكرة اعتماده على همزة الإستفهام ﴿أَنْتَ﴾: فاعل سد مسد الخبر ﴿عَنْ آلِهَتِي﴾ متعلق بـ ﴿راغب﴾ والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ﴾: منادى مفرد العلم ﴿لَئِنْ لَم﴾ اللام: موطئة للقسم ﴿إن﴾: حرف شرط جازم ﴿لَمْ﴾ حرف نفي وجزم ﴿تَنْتَهِ﴾؛ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ وجزمه حذف حرف العلة، وفاعله: ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾، والجملة: في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ﴾: اللام: موطئة للقسم مؤكدة للأولى. ﴿أرجمن﴾: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والكاف: مفعول به وفاعله ضمير يعود على أبي إبراهيم، والجملة الفعلية، جواب القسم لا محل لها وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ وجواب ﴿إن﴾ الشرطية، محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: إن لم تنته أرجمك وجملة ﴿إن﴾: الشرطية معترضة بين القسم وجوابه لا محل لها من الإعراب ﴿وَاهْجُرْنِي﴾: فعل أمر ونون وقاية وياء مفعول، وفاعله، ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾ والجلمة الفعلية، معطوفة على جملة محذوفة، تقديرها: فاحذرني واهجرني عند من يمنع عطف الإنشائية على الخبرية على أن سيبويه يجيز عطف الجملة الخبرية على الإنشائية، فليس هذا التقدير بلازم، فيجوز عطفها على ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ﴾. ﴿مَلِيًّا﴾: ظرف زمان متعلق بـ ﴿اهجرني﴾ وقيل: هو حال من فاعل ﴿اهجرني﴾ ومعناه: سالمًا سويًا لا
162
يصيبك منى معرة.
﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨)﴾
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾، والجملة: مستأنفة ﴿سَلَامٌ﴾: مبتدأ وسوّغ الابتداء بالنكرة، ما فيه من معنى الدعاء ﴿عَلَيْكَ﴾: خبر المبتدأ والجملة الاسمية. في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿سَأَسْتَغْفِرُ﴾ (السين) حرف تنفيس للاستقبال القريب ﴿أستغفر﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾. ﴿لَكَ﴾: متعلق بـ ﴿أستغفر﴾. ﴿رَبِّي﴾: مفعول به والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿كَانَ﴾ فعل ماض واسمه ضمير يعود على الله ﴿بِي﴾: متعلق بـ ﴿حَفِيًّا﴾. ﴿حَفِيًّا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة كان في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، على كونها معللةً لما قبلها ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به وفاعله: ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾، والجملة الفعلية: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أستغفر﴾ ﴿وَمَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب معطوفة على كاف المخاطبين ﴿تَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها والعائد أو الرابط، محذوف تقديره: ما تدعونه. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل ﴿تَدْعُونَ﴾: أي: حالة كونكم مجاوزين الله ﴿وَأَدْعُو﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾. ﴿رَبِّي﴾: مفعول به والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أستغفر لك﴾. ﴿عَسَى﴾: فعل ماض ناقص من أفعال الرجاء واسمها ضمير مستتر فيه جوازًا تقديره: هو يعود على الشأن ﴿أَلَّا﴾ ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿لَّا﴾ نافية ﴿أَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بـ ﴿أن﴾ واسمه ضمير يعود على المتكلم ﴿بِدُعَاءِ رَبِّي﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿شَقِيًّا﴾، ﴿شَقِيًّا﴾: خبر ﴿أَكُونَ﴾، وجملة ﴿أَكُونَ﴾: في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر ﴿عَسَى﴾؛ تقديره عسى هو - أي: الشأن - عدم كوني ﴿شَقِيًّا﴾ بدعاء ربي، وجملة ﴿عَسَى﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
163
﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية ﴿لما﴾: ظرفية شرطية غير جازمة متعلقة بجوابها ﴿اعْتَزَلَهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾ والجملة: فعل شرط لـ ﴿لما﴾ ﴿وَمَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب معطوف على ضمير المفعول ﴿يَعْبُدُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول أو صفة الموصوفة والعائد أو الرابط محذوف تقديره: وما يعبدونه ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَعْبُدُونَ﴾؛ أي: حالة كونهم مجاوزين الله ﴿وَهَبْنَا﴾ فعل وفاعل جواب ﴿لما﴾ وجملة ﴿لما﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مستأنفة ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿وَهَبْنَا﴾. ﴿إِسْحَاقَ﴾ مفعول به ﴿وَيَعْقُوبَ﴾: معطوف عليه ﴿وَكُلًّا﴾: مفعول أوله لـ ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿جَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿نَبِيًّا﴾: مفعول ثان له، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَهَبْنَا﴾ على كونه جواب ﴿لما﴾. ﴿وَوَهَبْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَهَبْنَا﴾، الأول ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿وَهَبْنَا﴾. ﴿مِنْ رَحْمَتِنَا﴾ متعلق به أيضًا ﴿وَجَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَهَبْنَا﴾. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿لِسَانَ صِدْقٍ﴾ هو المفعول الأول لـ ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿عَلِيًّا﴾ صفة لـ ﴿لِسَانَ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَرِيًّا﴾؛ أي: شيئًا عظيمًا خارقًا للعادة، وهي الولادة بلا أب، والفري: البديع من فرى الجلد، والفري: العظيم من الأمر، يقال: أى الخير والشر، وقيل: الفرى: العجيب، وقيل: المفتعل، ومن الأول الحديث أى وصف عمر بن الخطاب "فلم أر عبقريًا يفري فريه" والفرى: قطع الجلد للخرز والإصلاح، وفي "المختار" فرى الشيء قطعه لإصلاحه، وبابه رمى، وفرى كذبًا خلقه وافتراه واختلقه، والاسم الفرية وقوله: ﴿شَيْئًا فَرِيًّا﴾؛ أي: مصنوعًا مختلقًا، وقيل عظيمًا، وأفرى الأوداج: قطعها، وأفرى الشيء: شقّه فانفرى وتفرى، أي: انشق، وقال الكسائي: أفرى الأديم: قطعه على جهة الإفساد وفراه قطعه على
164
جهة الإصلاح.
﴿فِي الْمَهْدِ﴾: والمهد: الموضع يهيأ للصبي، ويوطأ له، والجمع: مهود ومهده كمنعه بسطه، وككتاب الفراش، والأرض كالمهاد والجمع: أمهدة ومهد اهـ. "قاموس" ﴿وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾؛ أي: نفاعًا للناس حيثما توجه؛ لأنه كان يحيى الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص، ويرشد ويهدي ﴿جَبَّارًا﴾، الجبار، المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقًا ﴿شَقِيًّا﴾: والشقي: العاصي لربه ﴿الْأَحْزَابُ﴾: جمع حزبٍ وهم الجماعة و ﴿مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾: مشهد مفعل، إما من الشهادة وإما من الشهود، وهو: الحضور ومشهد يجوز أن يراد به الزمان أو المكان أو المصدر، فإذا كان من الشهادة كان المراد به الزمان، فتقديره: من وقت شهادة يوم، وأن أريد به المكان فتقديره من كان شهادة يوم، وإن أريد به المصدر فتقديره: من شهادة ذلك اليوم، وأن تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم والملائكة والأنبياء، وإذا كان من الشهود وهو الحضور فتقديره: من شهود الحساب والجزاء يوم القيامة أو من مكان الشهود فيه، وهو الموقف أو من وقت الشهود، وإذا كان مصدرًا بحالتيه المتقدمتين فتكون إضافته إلى الظرف من باب الاتساع، كقوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)﴾ ويجوز أن يكون المصدر مضافًا لفاعله على من يجعل اليوم شاهداً بينهم، إما حقيقةً وإما مجازاً اهـ "سمين".
﴿لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ﴾؛ أي: في الدنيا ﴿يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾؛ أي: يوم الندامة، هو يوم القيامة حين يندم الناس على ما فرّطوا فى جنب الله ﴿صِدِّيقًا﴾؛ أي: مبالغًا في الصدق لم يكذب قط في أقواله وأفعاله وأحواله، وفي تصديق غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله، والصديق: من أبنية المبالغة، ونظيره الضحيك والنطيق، والمراد: أنه بليغ الصدق في أقواله ﴿صِرَاطًا سَوِيًّا﴾؛ أي: طريقًا مستقيمًا موصلًا إلى نيل السعادة ﴿وَلِيًّا﴾ تليه ويليك في العذاب ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي﴾؛ أي: كاره لها ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ﴾؛ أي: لأشتمنك باللسان، أو لأرجمنك بالحجارة، من رجم يرجم من باب نصر ﴿مَلِيًّا﴾؛ أي: زمنًا طويلًا، ﴿بِي حَفِيًّا﴾؛ أي: مبالغًا فى بري
165
وإكرامي من حفي بكذا حفاوةً، إذا اعتنى به وبالغ فى إكرامه اهـ. شيخنا. وفي "المختار" حفي به بالكسر حفاوةً بفتح الحاء فهو حفي، أي: بالغ في إكرامه وإلطافه والعناية بأمره، والحفي أيضًا المستقصى فى السؤال، ومن الأول قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ ومن الثاني قوله تعالى: ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ اهـ. ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ﴾؛ أي: أترككم بالارتحال من بلادكم، وقد فعل وارتحل من بابل إلى الأرض المقدسة، وفي "القاموس" وبابل كصاحب: موضع بالعراق، وفيه أيضًا وكوثى بالضم بلدة بالعراق اهـ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التشبيه أى قوله: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ أي: شبيهة هارون في صلاحها وعبادتها.
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْد﴾.
ومنها: التعبير بالماضي عما في المستقبل في قوله: ﴿وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ وقوله: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا﴾؛ إشارةً إلى تحقق وقوعه.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ﴾ إن قلنا إن الألف واللام فيه للجنس؛ لأن فيه تعريضاً باللعنة على متَّهمي مريم وأعدائها من اليهود؛ لأن المعنى حينئذ وجنس السلام عليَّ خاصةً فقد عرَّض بأن ضده عليكم ونظيره قوله تعالى: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ اهـ "سمين" وقيل: التعريف فيه للعهد لأنه قد تقدم لفظه في قوله: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ﴾ كما مر في مبحث التفسير.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إيذانًا بكفرهم جميعًا، وإشعارًا بعلة الحكم، كما في "أبي السعود" لأن حق المقام أن يقال فويل لهم؛ أي: للأحزاب المختلفين فيه.
ومنها: التعجب في قوله: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾.
166
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾؛ أي: أهوال يوم الحسرة.
ومنها: التعبير بالماضي عما في المستقبل في قوله: ﴿إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ إشعارًا بتحقق وقوعه.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿يَا أَبَتِ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَأَدْعُو رَبِّي﴾ وقوله: ﴿بِدُعَاءِ رَبِّي﴾.
ومنها: التهديد والتقريع في قوله: ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِين﴾ والمراد جهنم فأطلق الحال وأريد المحل؛ لأن الضلال لا يحل فيه وإنما يحل في مكانه والعلاقة الحالية، وكذلك قوله: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ والغفلة: لا يحل فيها أيضًا، وإنما يحل أصحابها في أسبابها من الكفر والمعاصي.
ومنها: المجاز المرسل في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ من إطلاق اسم الآلة وهي: اللسان لأنها آلة الكلام وإرادة ما ينشأ عنها، فعبر باللسان عما يوجد باللسان، كما عبر باليد عما يُفعل باليد وهو العطاء، فهو مجاز علاقته السببية.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ﴾ فإن لفظ نحن تأكيد للضمير في ﴿إِنَّا﴾ لأنه بمعناه.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
167
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥١) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥٤) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (٦٣) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (٦٧) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (٧٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ...﴾ قدم (١) الكلام في موسى على الكلام في إسماعيل ليكون الحديث عن يعقوب وبنيه في نسقٍ واحد دون فاصل بينهما، وإسماعيل هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن - عليهما السلام - وقد أثنى عليه ربه بما هو أهله ووصفه بصفاتٍ هي مفخرة البشر ومنتهى السمو والفضل في هذه الدنيا.
(١) المراغي.
168
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أفرد كل رسول من رسله العشرة الذين سبق ذكرهم بالثناء عليه بما هو جدير به.. أردفه بذكر بعض ما جازاهم به من النعم، فقد هداهم إلى سبل الخير واصطفاهم من سائر خلقه.
قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ....﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حزب السعداء وهم الأنبياء، ومن تبعهم بإحسان ممن قاموا بحدود الدين، فاتبعوا أوامره وأدوا فرائضه، وتركوا نواهيه.. أردف هذا بذكر من خلفهم ممن أضاعوا واجباته، وأقبلوا على شهوات الدنيا ولذاتها، وأعقب هذا بذكر ما ينالهم من النكال والوبال في الآخرة، إلا من تاب وأناب فإن الله يقبل توبته، ويحسن عاقبته، ويجعله من ورثة جنة النعيم، ولا ينقصه شيئًا من جزاء أعماله.
قوله: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ....﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها؛ لما ذكر سبحانه أنه يدخل التائبين الجنة.. وصف هذه الجنة بجملة أوصافٍ كلها غاية في تعظييم أمرها، وشريف قدرها، وجليل خطرها.
قوله تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصص الأنبياء - عليهم السلام - تثبيتًا له - ﷺ - وأعقبه بذكر ما أحدثه الخلف بعدهم، وذكر جزاء الفريقين.. أعقب ذلك بقصص تأخر نزول جبريل على النبي - ﷺ - إذ زعم المشركون أن الله ودَّعه وقلاه، وقد رد عليهم زعمم وأبان لهم أن الأمر على غير ما زعموا.
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) أمر بالعبادة، والمصابرة عليها، على ما فيها من مشاق وشدائد.. أبان فائدة ذلك وهي أنها تنجيهم يوم الحشر ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)﴾
(١) المراغي.
169
وهو يوم لا ريب فيه، ولا وجه لإنكاره، فإن إعادة الإنسان أهون من بدئه، ثم ذكر ما يلقاه الكافرون يومئذٍ من الذل والهوان، ثم أردف ذلك ببيان أن جميع الخلائق ترد على النار، ولا ينجو منها إلا من اتقى ربه وأخلص عمله.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه البخاري عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - ﷺ - لجبريل: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا" فنزلت ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: أبطأ جبريل في النزول أربعين يومًا، فذكر نحوه. وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: سأل النبي - ﷺ - جبريل: "أي البقاع أحب إلى الله، وأي البقاع أبغض إلى الله فقال: ما أدري حتى أسال، فنزل جبريل وكان قد أبطأ عليه، فقال: "لقد أبطأت على حتى ظننتُ أن بربي عليَّ موجدةً، فقال: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ....﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي إسحاق عن ابن عباس أن قريشاً سألوا رسول الله - ﷺ - عن قصة أصحاب الكهف، وذي القرنين، والروح، ولم يدر كيف يجيب، فحزن واشتد عليه ذلك، وقال المشركون: إن ربه ودَّعه وقلاه، ومكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيًّا، فنزل جبريل فقال له: "يا جبريل احتبست عني حتى ساء ظني واشتقت إليك" فقال: إني إليك لأشوق ولكني عبد مأمور، إذا بعثت.. نزلت، وإذا حبست.. احتبست، فأنزل الله هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ...﴾ الآية، روى الكلبي (٢): أنها نزلت في أبيّ بن خلف، أخذ عظمًا باليًا، فجعل يفته بيده، ويذريه في الريح، ويقول: زعم فلان أنّا نبعث بعد أن نموت، ونكون مثل هذا! إن هذا لن يكون أبدًا!!
التفسير وأوجه القراءة
٥١ - ولما فرغ سبحانه عن قصة إبراهيم.. أردفه بقصة موسى لأنه يتلوه في
(١) لباب النقول.
(٢) المراغي.
170
الشرف والفضل وقدم موسى على إسماعيل لئلا يفصل بينه وبين ذكر يعقوب، فقال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى﴾؛ أي: واتل يا محمد على قومك، وعلى سائر الناس في القرآن، أو في هذه السورة قصة موسى بن عمران - عليه السلام - ﴿إِنَّهُ﴾ أي: موسى - عليه السلام - ﴿كَانَ مُخْلَصًا﴾ قرأ أهل الكوفة: عاصم، وحمزة، والكسائي، وكذا أبو رزين، ويحيى، وقتادة: بفتح اللام؛ أي: مصطفًى مختارًا، اختاره الله تعالى (١) ثم استخلصه واصطفاه على عالمي زمانه لرسالة رب العالمين، وكلامه، وقرأ الباقون: بكسر اللام؛ أي: مخلصًا في طاعته وعبادته لله تعالى، ولم يراء ولم يشرك، أو أخلص نفسه وأسلم وجهه لله.
والمعنى (٢): واتل أيها الرسول على قومك ما اتصف به موسى - عليه السلام - من صفات الجلال والكمال، التى سأقصها عليك، ليستبين لك علو قدره، وعظيم شأنه، وتلك الأوصاف:
أولها: ما ذكره بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا﴾؛ أي: إن الله تعالى أخلصه واصطفاه، وأبعد عنه الرجس وطهره من الذنوب والآثام، كما جاء في الآية الأخرى ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾.
وثانيها وثالثها: ما ذكره بقوله: ﴿كَانَ﴾ موسى - عليه السلام - ﴿رَسُولًا﴾ أرسله الله سبحانه إلى الخلق داعيًا ومبشرًا ونذيرًا، والرسول: هو من أرسله الله إلى الناس، ومعه كتاب فيه شريعته التي أرسله بها، كموسى وعيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - وقيل: الرسول إنسان أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه إلى الخلق، كهؤلاء المذكورين، وارتضى هذا القول بعضهم، وكان موسى - عليه السلام - ﴿نَبِيًّا﴾ فأنبأهم عن الله، ولذلك قدم ﴿رَسُولًا﴾ مع كونه أخص وأعلى، وقال بعضهم: تأخير ﴿نَبِيًّا﴾ لأجل رعاية الفواصل، والشعبي هو الذي ينبىء عن الله، ويخبر قومه عنه، وليس معه كتاب كيوشع - عليه السلام - وقيل: النبي: إنسان أوحي إليه بشرع يعمل به في حق نفسه، ولم يؤمر بتبليغه، كالخضر - عليه
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
171
السلام - لأنه نبي على ما رجحه أكثر العلماء، كما مر في مبحثه، فبين الرسول والنبي عموم وخصوص، وجهي، فكل رسول نبي ولا عكس، وقال النيسابوري (١): الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء، والنبي: الذي ينبىء عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص، إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك، كقوله في طه: ﴿بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ انتهى
ورابعها:
٥٢ - ما ذكره بقوله: ﴿وَنَادَيْنَاهُ﴾؛ أي: نادينا موسى ودعوناه وكلمناه ليلة الجمعة، بقولنا: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ﴿مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ﴾؛ أي: من ناحية جبل الطور اليمنى فالأيمن صفة للجانب، أي: ناديناه من ناحيته اليمنى، وهي التي تلي يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر، إذ لا يمين ولا شمال للجبل، والمراد بالطور (٢): الجبل الذي عند بيت المقدس، لا الطور الذي عند السويس؛ لأنه يكون على يسار المتوجه من مدين إلى مصر، كما هو محسوس مشاهد، أو المعنى: ناديناه من جانبه الميمون؛ أي: المبارك لموسى، من اليمن بمعنى البركة؛ لأنه سمع عنده كلام الله تعالى؛ أي: وكلمناه من الجانب الأيمن للطور؛ أي: الذي عن يمين موسى حين أقبل من مدين متوجهًا إلى مصر، وأنبأناه بأنه رسولنا، ثم واعدناه إليه؛ أي: عنده بعد إغراق آل فرعون، ورحمنا بني إسرائيل بإنزال الكتاب عليهم.
وخامسها: ما ذكره بقوله: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾؛ أي: وقربنا موسى إلينا تقريب تشريفٍ وإجلالٍ وإكرام، حالة كونه نجيًا؛ أي: مناجيًا معنا تلك الليلة؛ أي: مستمعًا كلامنا، فهو حال من أحد الضميرين في ﴿كهيعص (١)﴾: فقد شبه حاله - عليه السلام - مع ربه بحال من قَرَّبَهُ الملك لمناجاته، واصطفاه لمصاحبته، ورفع الوسائط، وقيل معناه (٣): ورفعناه مكانًا عاليًا فوق السموات، حتى سمع صرير القلم، حيث كتبت التوراة في الألواح، وفي "القاموس": ناجاه مناجاةً، إذا سارّه ونجيّ: فعيل من المناجاة، بمعنى: مناجٍ، كالجليس، وهو: المنفرد
(١) الشوكاني.
(٢) الفتوحات.
(٣) المراح.
بالمناجاة، وهي المسارة بالقول.
وقصارى ذلك (١): أنه تجاوز العالم المادي، وانغمس في العالم الروحي، فقرب من ربه، وارتقت نفسمه، حتى بلغت أقصى مناها، واستعدت للاطلاع على عالم الملكوت، ورؤية ما غاب عن عالم المادة.
وسادسها:
٥٣ - ما ذكره بقوله: ﴿وَوَهَبْنَا﴾؛ أي: لموسى ﴿مِنْ رَحْمَتِنَا﴾؛ أي: من أجل رحمتنا ورأفتنا ﴿أَخَاهُ هَارُونَ﴾ أخاه مفعول ﴿وَهَبْنَا﴾ و ﴿هَارُونَ﴾: عطف بيان لـ ﴿أَخَاهُ﴾، حالة كون هارون ﴿نَبِيًّا﴾ من الأنبياء، ليكون معه وزيرًا كما سأل ذلك ربه فقال: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩)﴾ فالهبة على ظاهرها، كما في قوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ فإن هارون كان أسنَّ من موسى، فوجب الحمل على المعاضدة والموازرة.
والمعنى: أي (٢) وجعلنا أخاه هارون نبيًا من أجل رأفتنا به، ليكون وزيرًا له ومعينًا له في تبليغ الرسالة، وهذا إشارة إلى أن النبوة ليست كسبية، بل هي من مواهب الله تعالى، يهب لمن يشاء النبوة والرسالة، لإشارة إلى أن لموسى إختصاصًا بالقربة والقبول عند الله تعالى، حتى يهب أخاه هارون النبوة والرسالة بشفاعته، كما يهب الأنبياء والرسل بشفاعة سيدنا محمد - ﷺ - لقوله - ﷺ -: "الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيمَ الخليل عليه السلام". قال بعض السلف (٣): ما شفع أحد في أحد في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيًا، قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى بأربع سنين.
٥٤ - ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ﴾؛ أي: واتل يا محمد في القرآن قصة جدك إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - على قومك، وبلغها إليهم، فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه لإبراز كمال الإعتناء بأمره، بإيراده مستقلًا، ولم يخالف أحد في أنه إسماعيل بن إبراهيم، إلا من لا يعتد به، فقال: هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى
(١) المراغي.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
173
قومه، فسلخوا جلدة رأسه، فخيَّره الله فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن إسماعيل ﴿كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾؛ أي: وافيه فيما بينه وبين الله، وكذا فيما بينه وبين الناس، ووصف الله - سبحانه وتعالى - إسماعيل بصدق الوعد، مع كون جميع الأنبياء كذلك؛ لأنه كان مشهورًا بذلك، مبالغًا فيه، وناهيك بأنه وعد الصبر من نفسه على الذبح، فوفى بذلك حيث قال: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ قيل (١) إنه لم يعد شيئًا إلا وفي به. قيل: إنه وعد رجلًا أن يقوم مكانه حتى يرجع الرجل، فوقف إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى رجع إليه الرجل، وقيل: إنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به، فوصفه الله بهذا الخلق الحسن الشريف، سئل الشعبي عن الرجل يعد الرجل ميعاداً إلى أي وقت ينتظر، فقال: إن وعده نهارًا.. فكل النهار، وإن وعده ليلًا.. فكل الليل، وسئل بعضهم عن مثل ذلك فقال: إن وعده في وقت صلاة ينتظر إلى وقت صلاة أخرى.
والوعد (٢): عبارة عن الإخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها، والوعيد الإخبار بإيصال الضرر قبل وقوعه، والعرب لا تعد عيبًا ولا خلفًا، إن يعد أحد شرًا.. لا يفعله، بل ترى ذلك كرمًا وفضلًا، كما قيل.
وَإِنِّيْ إِذَا أَوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ لَمُخْلِفٌ إِيْعَادِيْ وَمُنْجِزٌ وَعْدِيْ
وقيل:
إِذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ نَجَّزَ وَعْدَهُ وَإِنْ أَوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَقْلُ مَانِعُهْ
وفي الحديث: "من وعد لأحد على عمله ثوابًا.. فهو منجز له، ومن أوعده على عمله عقابًا.. فهو بالخيار". وفي الآية حث على صدق الوعد والوفاء به، والأصل فيه: نيته؛ لقوله - عليه السلام -: "إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف ولم يجيء للميعاد.. فلا إثم عليه".
ومعنى الآية: واتل (٣) أيها الرسول على قومك صفات أبيهم إسماعيل،
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
174
علهم يهتدون بهديه، ويحتذون حذوه، ويتخلقون بمثل ما له من مناقب وفضائل منها:
١ - ﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾؛ أي: وافي الوعد، فما وعد عدةً إلا وفي بها، حتى وعد أباه بالصبر على الذبح فقال: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ فصدق في ذلك ووفى بما قال، وامتثل حتى جاءه الفداء، وصدق الوعد (١) من الصفات التي حث عليها الدين وشدد فيها، أيَّما تشديد، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢)﴾ وقال رسول الله - ﷺ -: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث.. كذب، وإذا وعد.. أخلف، وإذا أؤتمن.. خان" وقد فقدت هذه الصفة من كثير من المسلمين، فلا تجد عالمًا ولا جاهلًا إلا وهو بمنأىً عنها، ولا سيما التجار والصناع والعمال.
٢ - ﴿وَكَانَ﴾ إسماعيل - عليه السلام - ﴿رَسُولًا﴾ إلى جرهم، الذين حلوا بمكة معه ومع أمه، وإلى العماليق، وإلى قبائل اليمن، بتبليغ شريعة إبراهيم، زمن أبيه إبراهيم - عليهما السلام - قال في "القاموس" جرهم كقنفذ حيٌّ من اليمن، تزوج فيهم إسماعيل اهـ. وقد استدل (٢) بقوله تعالى في إسماعيل ﴿وَكَانَ رَسُولًا﴾ على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته، وقيل إنه وصفه بالرسالة، لكون إبراهيم أرسله إلى جرهم، وكان إسماعيل ﴿نَبِيًّا﴾ يخبر عن الله تعالى، وكان على شريعة أبيه إبراهيم، فنبأ بها قومه، وأنذرهم وخوفهم، ولم يكن له كتابٌ أُنزل إليه بإجماع العلماء، وكذا لوط وإسحاق، ويعقوب، ومن هذا يعلم أن الرسول لا يجب أن ينزل عليه كتاب مستقل.
٣ - ٥٥ وكان إسماعيل ﴿يَأْمُرُ أَهْلَهُ﴾ الخاص (٣): وهو من اتصل به بجهة الزوجية والولادة، والعام: وهو من اتصل به بجهة الدعوة، وهم قومه، ويجوز أن يرجح الأول؛ لأن الأهم أن يقبل الرجل بالتكميل على نفسه، وعلى من هو
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
أقرب الناس إليه، قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)﴾ وقال ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ﴾ وقال: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ فإنهم إذا صلحوا.. صلح الكل، وتزيَّا بزيهم بالخير والصلاح ﴿بِالصَّلَاةِ﴾ التي هي أشرف العبادات البدنية ﴿وَالزَّكَاةِ﴾ التي هي أفضل العبادات المالية، وفيه إشارة إلى أن من حق الصالح أن ينصح للأقارب والأجانب، ويحظيهم بالفوائد الدينية.
٤ - ﴿وَكَانَ﴾ إسماعيل ﴿عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ في الأقوال والأفعال والأحوال؛ أي: مرضيًا عمله عند ربه، محمودًا فيما كلّفه به، غير مقصرٍ في طاعته، فائزًا في كل طاعاته بأعلى الدرجات، فاقتد أيها الوصول به لأنه من أجل أبائك، وعن (١) بعض الصالحين، أنه قال: نزل عندي أضياف، وعلمت أنهم أبدال من عباد الله الصالحين، فقلت لهم: أوصوني بوصية بالغة، حتى أخاف الله، قالوا: نوصيك بستة أشياء:
أولها: من كثر نومه.. فلا يطمع في رقة قلبه.
وثانيها: من كثر أكله.. فلا يطمع في قيام الليل.
وثالثها: من اختار صحبة ظالم.. فلا يطمع في استقامة دينه.
ورابعها: من كان الكذب والغيبة عادته.. فلا يطمع في أن يخرج من الدنيا مع الإيمان.
وخامسها: من كثر اختلاطه بالناس.. فلا يطمع في حلاوة العبادة.
وسادسها: من طلب رضي الناس.. فلا يطمع في رضي الله تعالى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مَرْضِيًّا﴾ وهو اسم مفعل أصله مرضوو فأُعِلّ بقلب واوه ياءً، كما سيأتي في مبحث التصريف، وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿مرضوا﴾ مصححًا، وقالت العرب أرض مسنية ومسنوَّة، وهي التي تسقى بالسواني.
٥٦ - ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمد ﴿فِي الْكِتَابِ﴾؛ أي: في القرآن ﴿إِدْرِيسَ﴾؛ أي: قصته؛
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
أي: واتل يا محمد في القرآن قصة إدريس - عليه السلام - على قومك بالثناء، والنسابون يقولون: إنه (١) جد أبي نوح، فإن نوحًا بن لمك، بن مشوشلخ، بن أخنوخ وهو إدريس النبي - عليه السلام - بن يرد، بن مهلاييل، بن قينان، بن أنوش، بن شيث، بن آدم - عليه السلام - ولد إدريس وآدم حي قبل أن يموت بمئة سنة، كذا في "روضة الخطيب" ويقولون: إنه أول من وضع الميزان والمكيال، وأول من اتخذ السلاح، وجاهد في سبيل الله، وسبق واسترق بني قابيل، وأول من خط بالقلم، ونظر في علم الحساب والنجوم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من لبس ثوب القطن، واشتقاقه من الدرس، فلُقِّب به لكثرة دراسته، إذ رُوي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفةً، وجعل الله ذلك من معجزاته، وإن تقادم العهد، وطول الزمن، وعدم وجود السند الصحيح الذي يعوَّل عليه في الرواية يجعلنا في شكٍ من كل هذا، فعلينا أن نكتفي بما جاء به الكتاب الكريم في شأنه، وقد وصفه الله بجملة صفاتٍ كلها مفاخر، ومناقب إعظام وإجلالٍ:
١ - ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن إدريس - عليه السلام - ﴿كَانَ صِدِّيقًا﴾؛ أي: ملازمًا للصدق في أحواله.
٢ - ﴿نَبِيًّا﴾ ينبىء عن الله تعالى - خبر آخر لـ ﴿كان﴾ مخصص للأول - إذ ليس كل صديق نبيًا، قال عباس بن عطاءٍ: أدنى منازل المرسلين أعلى مراتب النبيين، وأدنى مراتب النبيين أعلى مراتب الصديقين، وأدنى مراتب الصديقين أعلى مراتب المؤمنين
٥٧ - ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧)﴾؛ أي (٢): أعلينا قدره، ورفعنا ذكره في الملأ، ونحو هذا قوله لنبيه محمد - ﷺ - ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)﴾ وقيل: إن معنى رفعه ما أعطي من شرف النبوة، وقيل: إنه رفع إلى الجنة، وقيل: معنى قوله: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧)﴾؛ أي: رفعناه إلى السماء الرابعة، وهذا القول أصح. ويدل عليه ما روى أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، عن النبي - ﷺ - "أنه
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
رأى إدريس في السماء الرابعة، ليلة المعراج" متفق عليه.
وكان سبب رفعه إليها (١): أنه سار ذات يوم في حاجة، فأصابه وهج الشمس، فقال: يا رب إني قد مشيت فيها يومًا فأصابني منها ما أصابني، فكيف من يحملها مسيرة خمس مئة في يوم واحد؟ اللهم خفف عنها من ثقلها وحرها، فلما أصبح الملك.. وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف، فقال: يا رب خففت عني حر الشمس، فما الذي قضيت فيه، قال: إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها، فاجبته، قال: يا رب اجعل بيني وبينه خلةً، فأذن الله تعالى له حتى أتى إدريس ورفعه إلى السماء.
واختلف القائلون بأنه في السماء (٢)، أهو حيٌّ فيها أم ميت، فالجمهور: على أنه حيٌّ وهو الصحيح، وقالوا: أربعة من الأنبياء في الأحياء: اثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إدريس وعيسى، كما في "بحر العلوم".
٥٨ - ﴿أُولَئِكَ﴾ العشرة المذكورون في هذه السورة من زكريا إلى إدريس - عليهم الصلاة والسلام - هم ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بأنواع النعم الدينية والدنيوية، حال كونهم ﴿مِنَ النَّبِيِّين﴾ والمرسلين بيان للوصول حالة كون بعضهم ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾ بدل من النبيين، بإعادة الجار، ويجوز (٣) أن تكون ﴿مِنْ﴾ فيه للتبعيض لأن المنعم عليهم أعم من الأنبياء، وأخص من الذرية؛ يعني به إدريس ﴿وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾؛ أي: ومن ذرية من حملنا مع نوح في سفينته؛ يريد: إبراهيم؛ لأنه من ذرية سام بن نوح ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾؛ يعني: إسحاق وإسماعيل ويعقوب ﴿وَإِسْرَائِيلَ﴾ عطف على إبراهيم؛ أي: ومن ذرية إسرائيل؛ أي: يعقوب وكان منهم موسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية؛ لأن عيسى من مريم، وهي من نسل يعقوب ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا﴾؛
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
(٣) البيضاوي.
178
أي: وحالة كونهم من جملة من هديناهم، وأرشدناهم إلى الحق ﴿و﴾ من جملة من ﴿اجتبينا﴾ هم واصطفيناهم للنبوة والكرامة، قالوا: ﴿من﴾ فيه للتبيين، إن عطف على ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ وللتبعيض إن عطف على و ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾ ﴿إِذَا تُتْلَى﴾ وتقرأ ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على هؤلاء الأنبياء ﴿آيَاتُ الرَّحْمَنِ﴾؛ أي: آيات الترغيب والترهيب في كتبهم المنزلة عليهم ﴿خَرُّوا﴾؛ أي: سقطوا على الأرض حال كونهم ﴿سُجَّدًا﴾؛ أي: ساجدين جمع ساجد ﴿وَبُكِيًّا﴾؛ أي: باكين جمع باكٍ، وأصله بكويًا؛ يعني (١): إن الأنبياء قبلكم مع مالهم من علو المرتبة في شرف النسب، وكمال النفس، والزلفى من الله تعالى، كانوا يسجدون ويبكون لسماع آيات الله تعالى، فكونوا مثلهم وفي الحديث: "اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان.. فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم.. فليبك قلبه. قال صالح المريّ: قرأت القرآن على رسول الله - ﷺ - في المنام، فقال: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء اهـ. وقد استدل بهذه الآية على مشروعية سجود التلاوة.
والمعنى: أي (٢) إذا تتلى على هؤلاء الأنبياء الذين أنعم الله عليهم أدلة الله وحججه التي أنزلها عليهم في كتبه.. خروا لله سجدًا استكانةً له وتذللًا وخضوعاً لأمره، وانقيادًا له وهم باكون خشيةً منه، وحذرًا من عقابه، وقصارى ذلك إنه سبحانه أبان علو أمرهم في الدين والنسب والقرب منه. ويقول في سجود التلاوة: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا. ذكره النسفي في "تفسيره" في هذا الموضع.

فصل


وسجدة سورة مريم من عزائم سجود القرآن (٣)، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند تلاوة هذه السجدة، وقيل: يستحب لمن قرأ آية سجدة فسجد أن يدعو بما يناسب تلك السجدة، فإن قرأ سجدةَ سبحان.. قال: اللهم اجعلني من
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
179
الباكين إليك والخاشعين لك، وإن قرأ سجدة مريم.. قال: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك، وإن سجد سجدة ﴿الم﴾ السجدة... قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المتكبرين عن أمرك.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تُتْلَى﴾ بتاء التأنيث، وقرأ عبد الله، وأبو جعفر، وشيبة، وشبل بن عباد، وأبو حيوة، وعبد الله بن أحمد العجلي، عن حمزة، وقتيبة في رواية، وورش في رواية النحاس، وابن ذكران في رواية الثعلبي: بالياء، وقرأ الجمهور ﴿بكيا﴾ بضم الباء، وعبد الله، ويحيى، والأعمش، وحمزة، والكسائي: بكسرها اتباعًا لحركة الكاف، كعسيّ ودليّ، والظاهر أنه جمع لمناسبة الجمع قبله، وقال ابن عطية: ﴿وبكياً﴾ بكسر الباء هو مصدر لا يحتمل غير ذلك. انتهى.
٥٩ - ولما مدح سبحانه هؤلاء الأنبياء بهذه الأوصاف ترغيبًا لغيرهم في الاقتداء بهم، وسلوك طريقتهم.. ذكر أضدادهم تنفيرًا للناس عن طريقتهم، فقال: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ أي: جاء ووجد من بعد هؤلاء الأنبياء المذكورين وعقب عنهم ﴿خلف﴾؛ أي: عقب سوءٍ من أولادهم، وفي "الجلالين": بقي من بعد هؤلاء قوم سوء يعني اليهود والنصارى والمجوس. انتهى. قال أهل اللغة: يقال لعقب الخير: خلف بفتح اللام ولعقب الشر خلف بسكون اللام، واختلفوا (٢) فيمن نزلت هذه الآية فيه، فقيل: في اليهود، وقيل: في النصارى، وقيل في قوم من أمة محمد - ﷺ - يأتون في آخر الزمان؛ أي: جاء من بعد هؤلاء المذكورين قوم سوء ﴿أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾؛ أي: تركوا أو أخروها عن وقتها، أو ضيّعوا ثوابها بعد الأداء، بالنميمة والغيبة والكذب ونحوها، أو شرعوا فيها بلا نيةٍ، وقاموا لها بلا خضوع ولا خشوع، وقيل: كفروا بها وجحدوا وجوبها، وقيل: لم يأتوا بها على الوجه المشروع، وقيل: إقامتها في غير الجماعات، وقيل: تعطيل المساجد
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
180
والاشتغال بالصنائع والأسباب، والظاهر: أن من أخر الصلاة عن وقتها، أو ترك فرضًا من فروضها، أو شرطًا من شروطها، أو ركنًا من أركانها، فقد أضاعها، ويدخل تحت الإضاعة من تركها المرة أو حجدها دخولًا أوليًا. وقرأ عبد الله، والحسن، وأبو رزين العقيلي، والضحاك، وابن مقسم ﴿الصلوات﴾ جمعًا ﴿وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾؛ أي: ارتكبوا شهوات أنفسهم، وآثروها على طاعة الله تعالى؛ أي: فعلوا ما تشتهيه أنفسهم، وترغب إليه من المحرمات، كشرب الخمر، والدخان، والحشيش، وفعل الزنا، واللواط، وإدمان النظر إلى الأجنبيات، والاختلاط بهن، وإضاعة الوقت في استماع الملاهي والنظر إليها، كالتلفزيون والفيديو، والاشتغال بما لا يغني، من إكثار قيل وقال، والولع بقراءة الجرائد والأخبار عن تلاوة كتاب الله تعالى وقراءة الحديث، إلى نحو أولئك من الشهوات التي انهمك فيها أهل الزمان، حتى يظنونها من الأمور الدينية، لجهلهم أو لعدم مبالاتهم بدينهم، وبالجملة فالشهوات عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة، وذكر الله تعالى، كاللعب بالكريات مما لا ينفع في الحرب.
والمعنى: أي (١) فجاء من بعد الأنبياء الذين ذكروا، خلف سوءٍ خلفوهم في الأرض، كاليهود والنصارى، ومن على شاكلتهم من أهل الضلال، إذ تركوا الصلوات المفروضة عليهم، وآثروا شهواتهم على طاعة الله تعالى، فانكبوا على شرب الخمور، وشهادة الزور، ولعب الميسر، وإتيان الفاحشة خفيةً وعلانيةً.
وأخرج أحمد، وابن حبان، والحاكم، في جماعة آخرين، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - ﷺ - وتلا هذه الآية قال: "يكون خلف من بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيًّا، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن، لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر".
وأخرج أحمد، والحاكم وصححه، عن عقبة بن عامر، قال: سمعت
(١) المراغي.
181
رسول الله - ﷺ - قال: "سيهلك من أمتي أهل الكتاب، وأهل اللبن" قلت: يا رسول الله، ما أهل الكتاب؟ قال: "قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا" قلت: وما أهل اللبن؟ قال: "قوم يتبعون الشهوات، ويضيعون الصلوات" ثم ذكر عاقبة أعمالهم وسوء مآلهم فقال: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ﴾ في الآخرة ﴿غَيًّا﴾؛ أي: شرًا وخسرانًا لإهمالهم أداء واجبات الدين، وانهماكهم في المعاصي والآثام، فإن كلّ (١) شر عند العرب غي، فكل خير رشاد، وعن الضحاك: أي جزاءَ غي، كقوله تعالى: ﴿يَلْقَ أَثَامًا﴾، ؛ أي: جزاءَ أثام وقيل ﴿غَيًّا﴾؛ أي: واديًا في جهنم، يستعيذ من حرّه أوديتها، أعد للزاني، وشارب الخمر، وآكل الربا، وشاهد الزور، ولأهل العقوق، وتارك الصلاة، وقيل: الغيّ الضلال، وقيل: الخيبة، وقرىء فيما حكى الأخفش: ﴿يَلْقَوْنَ﴾ بضم الياء وفتح اللام وشد القاف
٦٠ - ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ منهم ورجع مما فرط منه من تضييع الصلوات، واتباع الشهوات، إلى طاعة الله تعالى ﴿وَآمَنَ﴾ بالله من الكفر ﴿وَعَمِلَ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾ بعد التوبة والندم، وفي هذا (٢) الاستثناء دليل على أن الآية في الكفرة، لا في المسلمين ﴿فَأُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالتوبة، والإيمان والعمل الصالح ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ بموجب الوعد المحتوم، قرأ أبو جعفر، وشيبة، وابن كثير، وابن محيصن، وأبو عمرو، ويعقوب، وأبو بكر ﴿يَدْخُلُونَ﴾ بضم الياء وفتح الخاء، وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الخاء وقرأ ابن غزوان عن طلح: ﴿سيدخلون﴾ بسين إلاستقبال مبنيًا للفاعل.
﴿وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾؛ أي: لا ينقص من أجورهم شيء، وإن كان قليلًا، فإن الله سبحانه وتعالى يوفي إليهم أجورهم، وانتصاب ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ على البدل من الجنة بدل البعض لكون جنات عدن بعضًا من الجنة، ويكون قوله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ اعتراضًا، أو حالًا كما في "البحر" قال الزجاج: ويجوز ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ بالرفع وقرىء كذلك؛ يعني: على الابتداء، والخبر ﴿الَّتِي﴾، وقرأ الجمهور (٣)
(١) روح البيان.
(٢) الشوكانى.
(٣) البحر المحيط.
﴿جَنَّاتِ﴾ نصبًا جمعًا بدلًا من الجنة كما مر آنفًا، وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وعيسى بن عمر، والأعمش، وأحمد بن موسى عن أبي عمرو ﴿جنات﴾ رفعًا جمعًا؛ أي: تلك جنات أو الخبر (التي) وقرأ الحسن بن حي وعلي بن صالح ﴿جنة عدن﴾ نصبًا مفردًا، ورويت عن الأعمش، وهي كذلك في مصحف عبد الله، وقرأ اليماني، والحسن، وإسحق الأزرق عن حمزة ﴿جنة عدن﴾ رفعًا مفردًا وقرىء بصرف ﴿عَدْنٍ﴾ ومنعه، على أنها علم لمعنى العدن وهو: الإقامة، أو علم لأرض الجنة، ومعنى قوله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾ إلخ؛ أي: لكن (١) من أنابوا إلى ربهم، وأقلعوا عن ذنبهم، وآمنوا باللهِ ورسوله، وأطاعوه فيما أمر به، وأدوا فرائضه، فأولئك يدخلهم ربهم جناته، ويغفر لهم حوباتهم، فالتوبة تجبُّ ما قبلها، كما جاء في الحديث "التائب من الذنب كمن لا ذنب له".
﴿وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾؛ أي: ولا ينقصون شيئًا من ثواب أعمالهم، إذ أفعالهم السابقة ذهبت هباءً، وصارت نسيًا منسيًا بكرم اللطيف الخبير، وعظيم حلمه على عباده،
٦١ - ولما ذكر أن التائب يدخل الجنة.. وصف هذه الجنة بأمورٍ فقال: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾؛ أي: هذه الجنة هي جنات إقامة مؤبدة، لا كجنات الدنيا، وجنات عدن علم لجنة مخصوصة، كشهر رمضان، وقد يحذف فيقال: جاء رمضان، وقيل: جنات عدن: علم لدار الثواب جميعًا، والعدن: الإقامة وهو الإنسب بمثل هذا المقام، فإن جنة عدن المخصوصة، وجنة الفردوس لا يدخلها العوام بالأصالة، لأنهما مقام المقربين ﴿الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ﴾؛ أي: وعدها إياهم حالة كونها متلبسة ﴿بِالْغَيْبِ﴾ عنهم؛ أي: والحال أنها غائبة (٢) عنهم غير حاضرة، أو حالة كونهم غائبين عنها لا يرونها، وإنما آمنوا بها بمجرد الأخبار، والتعرض لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدها وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى، وفي الإضافة في قوله: ﴿عِبَادَهُ﴾ إشارة إلى أن المراد من يعبده مخلصًا له في العبودية، لا يعبد الدنيا، والنفس والهوى، إذ كمال التشريف بالإضافة، إنما يحصل بهذا المعنى، فله جنة عدن المخصوصة ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ وَعْدُهُ﴾؛ أي: موعوده
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
الذي هو الجنة ﴿مَأْتِيًّا﴾؛ أي: يأتيه من وعد له لا محالة بغير خلف؛ لأن وعده تعالى لا يخلف، فالمأتي بمعنى المفعول من الإتيان؛ أي: مفعولًا أو بمعنى الفاعل؛ أي: جائيًا آتيًا ألبتة.
٦٢ - ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الجنان ﴿لَغْوًا﴾؛ أي: فضول كلامٍ لا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها، وفيه تنبيه على أن اللغو مما ينبغي أن يُجتنب عنه في هذه الدار ما أمكن ﴿إِلَّا سَلَامًا﴾ استثناء منقطع؛ أي: لكن يسمعون تسليم الملائكة، أو تسليم بعضهم على بعض، والمعنى: إن (١) أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم، وإنما يسمعون ما يسلمهم ﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: ولأولئك الموصوفين بالتوبة والإيمان والعمل الصالح ﴿رِزْقُهُمْ﴾؛ أي: ما يشتهون من المطاعم والمشارب ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في جنات عدن ﴿بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾؛ أي: في قدر وقت البكرة ووقت العشي من نهار أيام الدنيا؛ أي: إن (٢) الذي بين غدائهم وعشائهم في الجنة قدر ما بين غداء أحدنا في الدنيا وعشائه، إذ لا نهار ثمة ولا ليل، بل هم في نور أبدًا، وإنما وصف الجنة بذلك لأن العرب لا تعرف من العيش أفضل من الرزق بالبكرة والعشي.
وخلاصة ذلك: أنه لا بكرة في الجنة ولا عشي، إذ لا ليل ولا نهار، وإنما يؤتون بأرزاقهم في مقدار طرفي النهار، كما كانوا في الدنيا،
٦٣ - ولما ذكر أن هذه الجنة تخالف جنات الدنيا.. ذكر الدواعي التي توجب استحقاقها فقال: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ﴾؛ أي: هذه الجنة التي وصفت بهذه الصفات الشريفة هي ﴿الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾؛ أي: مجتنبًا عن الشرك والمعاصي، مطيعًا لله تعالى؛ أي: نورثها ونعطيها بغير اختيار الوارث من كان من أهل التقوى من عبادنا؛ أي: هي التي نجعلها ملكًا وميراثًا لعبادنا المتقين، الذين يطيعون الله في السر والعلن، ويحمدونه على السراء والضراء، كملك الميراث الذي هو أقوى تمليك، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: نورث من كان تقيًا من عبادنا، والمعنى (٣):
(١) الشوكاني.
(٢) المراغى.
(٣) روح البيان.
نبقيها عليهم بتقواهم ونمتعهم بها كما نبقي على الوارث مال مورثه ونمتعه به، قال في "الأسئلة المقحمة": كيف قال ﴿نُورِثُ﴾ والميراث ما انتقل من شخص إلى شخص؟ والجواب أن هذا على وجه التشبيه، أراد أن الأعمال سبب لها، كالنسب سبب ملك بلا كسب ولا تكلف، وكذا الجنة عطاء من الله ورحمة منه، خلافًا للقدرية. انتهى.
وجاء بمعنى الآية قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢)﴾ إلى أن قال ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١)﴾.
وقرأ الجمهور (١): ﴿نُورِثُ﴾ مضارع أورث وقرأ الأعمش: ﴿نورثها﴾ بإبراز الضمير العائد على الموصول، وقرأ الحسن، والأعرج، وقتادة، ورويس، وحميد، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، ومحبوب عن أبي عمرو: بفتح الواو وتشديد الراء المكسورة، من ورث المضعف.
٦٤ - قوله: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾؛ أي: قال الله سبحانه: قل يا جبريل لمحمد جوابًا عن استبطائه لنزولك: وما تتنزل الملائكة يا محمد بالوحي على الرسل وقتًا بعد وقت ﴿إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ وإذنه وإرادته على ما تقتضيه حكمته، وتدعو إليه مصلحة عباده، ويكون فيه الخير لهم. في دينهم ودنياهم، وقرأ الجمهور: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ﴾ بالنون عن جبريل نفسه والملائكة، وقرأ الأعرج ﴿يتنزل﴾ بالياء على أنه خبر من الله تعالى، ذكره في "البحر" ثم علل الملك ذلك بقوله: ﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ من الأزمنة المستقبلة ﴿وَمَا خَلْفَنَا﴾ من الأزمنة الماضية ﴿وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾؛ أي: بين الأيدي والخلف من الأزمنة الحاضرة فلا ننزل في زمانٍ دون زمان إلا بإذنه، فهو المدبر لنا في جميع الأزمنة، أو المعنى (٢)؛ أي: لربك ما قدامنا وما خلفنا من الجهات، وما نحن فيه فلا ننتقل من جهة إلى جهة، ومن مكان إلى مكان، إلا بأمره ومشيئته.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
وقصارى ذلك: أن أمرنا موكول إلى الله تعالى، يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته، لا اعتراض لأحد عليه، فلا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بإذنه عز وجل، وقيل المعنى (١): له ما سلف من أمر الدنيا، وما يستقبل من أمر الآخرة، وما بين ذلك، وهو ما بين النفختين، وقيل: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض، وقيل: ما مضى من أعمارنا وما غير منها، والحالة التي نحن فيها، وعلى هذه الأقوال كلها يكون المعنى: أن الله سبحانه هو المحيط بكل شيء، لا يخفى عليه خافيةٌ ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة، فلا تقدم على أمر إلا بإذنه، وقال: ﴿وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ ولم يقل: وما بين ذينك بالتثنية؛ لأن المراد: وما بين ما ذكرنا كما في قوله سبحانه ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾.
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ﴾ يا محمد ﴿نَسِيًّا﴾؛ أي: تاركاً لك بتأخير الوحي عنك، فعدم النزول لعدم الأمر به لحكمةٍ بالغةٍ فيه، قال أهل التفسير (٢): ﴿نَسِيًّا﴾ فعيل بمعنى فاعل من النسيان بمعنى: الترك؛ أي: تاركاً لك كما زعمت الكفرة، وإن تأخر الوحي عنك لمصلحة، أو بمعنى نقيض الذكر الذي هو الغفلة؛ أي: غافلًا عنك، والمعنى؛ أي: إنه (٣) تعالى لإحاطة علمه بملكه لا يطرأ عليه غفلة ولا نيسان، حتى يغفل عنك، وعن الإيحاء إليك، وإنما كان تأخير الوحي لحكمة علمها جل شأنه.
أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والطبراني في جماعة آخرين، عن أبي الدرداء مرفوعًا قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا، ثم تلا ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ ".
٦٥ - ثم أقام الدليل على ما تقدم بقوله هو سبحانه ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: مالكهما وخالقهما، فهو: خبر لمبتدأ محذوف كما قدرنا ﴿وَ﴾ خالق {مَا
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
186
بَيْنَهُمَا}؛ أي: ما بين السموات والأرض، ومالكه، ومن كان كذلك فالنسيان محال عليه، فإن من بيده ملكوت كل شيء، كيف يتصور أن تحوم حوله الغفلة والنسيان: ثم بيَّن ما ينبغي لرسوله أن يفعله بعد أن عرف هذا من عبادته والصبر عليها، فقال: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾ (الفاء) فيه فاء الفصيحة؛ أي: إذا عرفت يا محمد أنه الرب المسيطر على ما في السموات والأرض، وما بينهما، والقابض على أعنتها، وأردت بيان ما ينبغي لك.. فأقول لك أعبده - سبحانه وتعالى - واثبت على عبادته، والعبادة: قيام العبد بما تعبد به وتكلف من امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
وفي "التأويلات النجمية": ﴿فَاعْبُدْهُ﴾ بجسدك ونفسك وقلبك وسرك وروحك، فعبادة جسدك إياه بأركان الشريعة، وهي الائتمار بما أمرك الله به، والانتهاء عما نهاك عنه، وعبادة نفسك بآداب الطريقة، وهي ترك موافقة هواها، ولزوم مخالفة هواها، وعبادة القلب الإعراض عن الدنيا وما فيها، والإقبال على الآخرة ومكارمها، وعبادة السر خلوّه عن تعلقات الكونين اتصالًا بالله تعالى، ومحبةً. وعبادة الروح: ببذل الوجود لنيل الشهود ﴿وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: واصبر على مشاقها وشدائدها، ولا تحزن بإبطاء الوحي واستهزاء الكفرة، وشماتتهم بك، فإنه يراقبك ويراعيك، ويلطف بك في الدنيا والآخرة، وإياك أن يصدك عنها ما يحدث من إبطاء الوحي وتقوُّل المشركين الخراصين عن سببه.
وتعدية (١) الاصطبار باللام، لا بحرف الاستعلاء كقوله: ﴿وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ لتضمنه معنى الثبات للعبادة، فيما تورد عليه من الشدائد والمشاق، كقولك للمبارز اصطبر لقرنك؛ أي: أثبت له فيما يورد عليك من شدائده وحملانه.
ثم أكد الأمر بالعبادة بقوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ﴾؛ أي: هل تعلم يا محمد للرب سبحانه ﴿سَمِيًّا﴾؛ أي: مشاركًا له في اسمه؛ أي: في تسميته بلفظ الجلالة، أو برب السموات والأرض، والاستفهام (٢) فيه للإنكار، والمعنى: أنه ليس له مثل
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
187
ولا نظير حتى يشاركه في العبادة، فيلزم من ذلك أن تكون غير خالصة له سبحانه، فلما انتفى المشارك استحق الله سبحانه أن يفرد بالعبادة، وتخلص له، وهذا مبتي على أن المراد بالسمي هو الشريك في المسمى، وقيل: المراد به: الشريك في الاسم كما هو الظاهر من لغة العرب، فقيل: المعنى إنه لم يسم شيء من الأصنام ولا غيرها بالله قط، يعني: بعد دخول الألف واللام التي عوِّضت عن الهمزة، ولزمت، وقيل: المراد هل تعلم أحدًا اسمه الرحمن غيره.
قال الزجاج: تأويله - والله أعلم - هل تعلم له سميًا يستحق أن يقال له خالق، وقادر، وعالم بما كان وبما يكون، وعلى هذا لا سمي لله في جميع أسمائه؛ لأن غيره وإن سمي بشيء من أسمائه فلله سبحانه حقيقة ذلك الوصف، والمراد بنفي العلم المستفاد من الإنكار هنا نفي المعلوم على أبلغ وجه وأكمله.
والمعنى (١): هل تعلم له سبحانه شبيهًا ومثلًا يستحق العبادة، لكونه منعمًا متفضلًا بجليل النعم وحقيرها، ومن ثم يجب تعظيمه غاية التعظيم، بالاعتراف بربوبيته، والخضوع لسلطانه، روي (٢) أن بعض الجبابرة سمى نفسه بلفظ الجلالة فصهر ما في بطنه من دبره، وهلك من ساعته. وقال فرعون مصر للقبط: أنا ربكم الأعلى، ولم يقدر أن يقول أنا الله.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿هَلْ تَعْلَم﴾ بإظهار اللام عند التاء، وقرأ الأخوان حمزة، والكسائي، وهشام وعلي بن نصر، وهارون كلاهما عن أبي عمرو، والحسن، والأعمش، وعيسى، وابن محيصن: بالإدغام فيهما قال أبو عبيدة: لغتان، وعلى الإدغام أنشدوا بيت مزاحم العقيلي:
فَذَرْ ذَا وَلَكِنْ هَلْ تُعِيْنُ مُتَيَّمَاً عَلَى ضَوْءِ بَرْقٍ آخِرَ اللَّيْلِ نَاصِبِ
٦٦ - ﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ﴾ بطريق الإنكار والاستبعاد للبعث، وهو أبيّ بن خلف حين فتّ عظمًا باليًا فقال: يزعم محمد أنا نبعث بعدما نموت ونصير إلى هذه الحال!
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
188
فأل فيه للتعريف العهدي وقيل (١): اللام في الإنسان للجنس بأسره وإن لم يقل هذه المقالة إلا البعض وهم الكفرة، فقد يسند للجماعة ما قام بواحدٍ منهم ﴿أَإِذَا مَا مِتّ﴾ وكنت رميمًا ﴿لَسَوْفَ أُخْرَجُ﴾ من القبر حالة كوني ﴿حَيًّا﴾ وتقديم (٢) الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار، لما أن المنكر كون ما بعد الموت وقت الحياة، وانتصابه بفعلٍ دل عليه ﴿أُخْرَجُ﴾ وهو البعث لا به فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها لصدارتها، وهي في الأصل: للحال، وهاهنا للتأكيد المجرد؛ أي: لتأكيد معنى همزة الإنكار في ﴿أَءِنَا﴾ ولذا جاز اقترانها بسوف الذي هو حرف الاستقبال، وفي "التكملة" اللام في قوله تعالى: ﴿لَسَوْفَ﴾ ليست للتأكيد فإنه منكر، فكيف يحقق ما ينكر، وإنما كلامه حكايته لكلام النبي - ﷺ - كأنه - ﷺ - قال: إن الإنسان إذا مات لسوف يخرج حيًا، فأنكر الكافر ذلك، وحكى قوله فنزلت الآية على ذلك. حكاه الجرجاني في كتاب "نظم القرآن".
قال في "بحر العلوم" (٣): لما كانت هذه اللام لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر.. وجب تقدير مبتدأ وخبر، وأن يكون أصله لأنا سوف أخرج حيًا وما في ﴿إِذَا مَا﴾ للتوكيد أيضًا وتكرير التوكيد إنكار على إنكار. انتهى ﴿والهمزة﴾ في قوله: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ﴾ للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذول و (الواو) عاطفة للجملة المنفية على ذلك المحذوف، والذكر في الأصل هو العلم بما قد علم من قبل، ثم تخلله سهو وهم ما كانوا عالمين، فالمراد به هنا التذكر والتفكر، والتقدير: أيقول الإنسان ذلك الكلام؛ أعني قوله: ﴿أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾؛ أي: أيقول ذلك ولا يتفكر ولا يتذكر ﴿أَنَّا خَلَقْنَاهُ﴾ وأوجدناه من نطفة منتنة ﴿مِنْ قَبْل﴾؛ أي: من قبل هذه الحالة التي هو فيها الآن، وهي حالة بقائه ﴿و﴾ الحال أنه ﴿لَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ موجودًا بل كان عدمًا صرفًا، فيعلم أن من قدر على الابتداء من غير سبق مادة قدر على الإعادة بجمع المواد بعد تفريقها، وفي
(١) الشوكانى.
(٢) روح البيان.
(٣) السمرقندي.
189
هذا دليل على صحة القياس، حيث، أنكر عليه جهله في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى، فيستدل به على البعث والإعادة، قيل: لو اجتمع الخلق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار.. ما قدروا.
وقوله: ﴿وَلَمْ يَكُ﴾ أصله (١): لم يكن، حذفت النون تخفيفًا لكثرة الاستعمال، أو تشبيهًا بحروف العلة في امتداد الصوت، وقال الرضي: النون مشابه للواو في الغنة.
والمعنى: أي (٢) أيقول ذلك ولا يتفكر الإنسان المجترىء على ربه المنكر لتلك الإعادة بعد الفناء، وللأحياء بعد الممات، أن الله خلقه من قبل مماته، فانشأه بشرًا سويًا من غير شيءٍ، فليعتبر بذلك، وليعلم أن من أنشاه كذلك لا يعجز عن إحيائه بعد مماته، وإيجاده بعد فنائه.
والخلاصة: أي (٣) ألا يتفكر هذا الجاحد في أول خلقه، فيستدل بالابتداء على الإعادة، والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة؛ لأن النشأة الأولى هي إخراج لهذه المخلوقات من العدم إلى الوجود، ابتداعًا وإختراعًا، لم يتقدم عليه ما يكون كالمثال له، وأما النشأة الآخرة، فقد تقدم عليها النشأة الأولى، فكنت كالمثال لها.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿أَإِذَا﴾ بهمزة الاستفهام وقرأت فرقة - منهم ابن ذكوان بخلافٍ عنه -: ﴿إذا﴾ بدون همزة الاستفهام، وقرأ الجمهور: ﴿لَسَوْفَ﴾ باللام، وقرأ طلحة بن مصرف ﴿سأخرج﴾ بغير لام وسين الاستقبال عوض سوف، فعلى قراءته تكون إذا معمولًا لقوله: ﴿سأخرج﴾ لأن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده من الفعل فيما قبله، على أن فيه خلافًا شاذًا، وصاحبه محجوج بالسماع، قال الشاعر:
فَلَمَّا رَأَتْهُ آمِنَاً هَانَ وَجْدُهَا وَقَالَتْ أَبُوْنَا هَكَذَا سَوْفَ يَفْعَلُ
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
190
فهكذا منصوب بيفعل، وهو بحرف التنفيس، وحكى الزمخشري: أن طلحة بن مصرف قرأ: ﴿لسأخرج﴾ وقال الزمخشري: فإن قلت: لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلت: لم تجامعها إلا مخلصةً للتوكيد، كما أخلصت الهمزة في يا ألله للتعويض واضمحلّ عنها معنى التعريف. انتهى وقرأ الجمهور ﴿أُخْرَجُ﴾ مبنيًا للمفعول، وقرأ الحسن، وأبو حيوة: مبنيًا للفاعل، وقرأ أبو بحرية، والحسن، وشيبة، وابن أبي ليلى، وابن مناذر، وأبو حاتم، ومن السبعة عاصم، وابن عامر، ونافع
٦٧ - ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ﴾ خفيفًا مضارع ذكر، وقرأ باقي السبعة، بفتح الذال والكاف وتشديدهما، أصله: يتذكر أدغم التاء في الذال، وقرأ أبيّ ﴿يتذكر﴾ على الأصل، قال الزمخشري: الواو عاطفة ﴿لا يذكر﴾ على يقول، ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف.
وهذا رجوع منه إلى مذهب الجماعة، من أن حرف العطف إذا تقدمته الهمزة فإنما عطف ما بعدها على ما قبلها، وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام، وكان مذهبه أن يقدر بين الهمزة والحرف ما يصلح أن يُعطف عليه ما بعد الواو، فيُقرَّ الهمزة على حالها، وليست مقدمةً من تأخير، وقد رددنا عليه هذه المقالة،
٦٨ - ثم لما جاء - سبحانه وتعالى - بهذه الحجة التي أجمع العقلاءُ على أنه لم يكن في حجج البعث حجة أقوى منها.. أكدها بالقسم باسمه سبحانه مضافًا إلى رسوله تشريفًا وتعظيمًا، فقال: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾؛ أي: فأقسمت لك يا محمد بربك ومالك أمرك لنحشرن هؤلاء القائلين بعدم البعث، أي: لنجمعنهم بالسوق إلى المحشر، ومعنى (١): ﴿لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾ لنسوقنهم إلى المحشر بعد إخراجهم من قبورهم أحياءً، كما كانوا، (والواو) في قوله: ﴿وَالشَّيَاطِينَ﴾ للعطف على الضمير المنصوب، أو بمعنى مع، روي أن كل كافر يحشر مع شيطانه الذي يضله في سلسلة.
(١) الشوكاني.
والمعنى: أن هؤلاء الجاحدين يحشرهم الله تعالى مع شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم، وهذا ظاهر على جعل اللام في الإنسان للعهد، وهو الإنسان الكافر، وأما على جعلها للجنس فلكونه قد وُجد في الجنس من يحشر مع شيطانه ﴿لَنُحْضِرَنَّهُمْ﴾ بعد الوقوف الطويل في المحشر ﴿حَوْلَ جَهَنَّمَ﴾ من خارجها حال كونهم ﴿جِثِيًّا﴾؛ أي: جالسين (١) على الركب إهانةً لهم، أو لما يعرضهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم، جمع جاث، من جثا يجثو ويجثى جثوًا وجثيًا فيهما، جلس على ركبتيه، كما في "القاموس" وعن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿جِثِيًّا﴾؛ أي: جماعات جماعاتٍ، جمع جثوة وهي الجماعة أو المجموع، من الشراب أو الحجارة
٦٩ - ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ﴾؛ أي: لنأخذن ﴿مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ﴾؛ أي: من كل فرقةٍ وجماعة منهم ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ﴾؛ أي: من هو أشد على الرحمن الذي غمرهم إحسانه ﴿عِتِيًّا﴾؛ أي: تكبراً وجراءةً على المعاصي ومجاوزة للحدود التى سنها لخلقه، والشيعة: الفرقة تبعت ديناً من الأديان، وخصص ذلك الزمخشري فقال: هي الطائفة التي شايعت؛ أي: تبعت غاويًا من الغواة قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ ومعنى ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾؛ أي: ثم لنخرجن من كل أمة من كان أعصى لله وأعتى، فإنه ينزع من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم وأعتاهم، فإذا اجتمعوا طرحهم في جهنم، والعتي هاهنا مصدر كالعتو، وهو: التمرد في العصيان، وقيل: المعنى: لننزعن من كل أهل دين قادتهم ورؤساءَهم في الشر، وقصارى (٢) ذلك أن الله تعالى يحضرهم أولًا حول جهنم، ثم يميز بعضهم عن بعض، فمن كان أشدهم تمردًا في كفره.. خص بعذاب أعظم، فعذاب الضال المضل فوق عذاب من يضل بالتبع لغيره.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص (٣): ﴿جِثِيًّا﴾ و ﴿عِتِيًّا﴾ و ﴿صِلِيًّا﴾ بكسر الجيم والعين والصاد، والجمهور: بضمها وقرأ الجمهور ﴿أَيُّهُمْ﴾ بالرفع، وهي حركة
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
بناء على مذهب سيبويه، وحركة إعرإب على مذهب الخليل ويونس، وقرأ طلحة بن مصرف، ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء، وزائدة، عن الأعمش ﴿أيهم﴾ بالنصب مفعولًا بـ ﴿لننزعن﴾
٧٠ - ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى﴾ وأحق ﴿بِهَا﴾؛ أي: بجهنم ﴿صِلِيًّا﴾؛ أي: دخولًا، فنبدأ بهم وهم المنتزعون من كل شيعة، والمعنى؛ أي: ثم لنحن العالمون بظواهر أعمالهم وبواطنها، وبما اجترحوا من السيئات، وبما دسوا به أنفسهم من الموبقات، وبمن هم أولى بجهنم دخولًا واحتراقًا، فنبدأ بهم أولًا، ثم بمن يليهم.
وخلاصة ذلك: أنهم جميعًا يستحقون العذاب، لكنا ندخلهم في جهنم بحسب عتيهم وتجبرهم في كفرهم،
٧١ - ثم خاطب سبحانه الناس جميعًا، فقال: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ﴾؛ أي: وما منكم أيها الناس، وقيل: القسم فيه مضمر؛ أي: والله ما منكم من أحد ﴿إِلَّا وَارِدُهَا﴾؛ أي: واصل جهنم وداخلها ﴿كَانَ﴾ ورودهم إياها ﴿عَلَى رَبِّكَ﴾ يا محمد ﴿حَتْمًا﴾؛ أي: أمرًا محتومًا، أوجبه الله سبحانه على نفسه، بمقتضى وعيده ﴿مَقْضِيًّا﴾؛ أي: مفروغًا منه قضاؤه، حتى إنه لا بد من وقوعه البتة؛ أي (١): وما أحد منكم أيها الناس إلا يدنو من جهنم، ويصير حولها، قد قضى ربك بذلك، وجعله أمرًا محتومًا مفروغًا منه، روى السدي عن ابن مسعود قال: "يرد الناس جميعًا الصراط، ويقومون حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل... " في حديث طويل، وقال رسول الله - ﷺ -: "يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون بأعمالهم".
ولا يخفى (٢) أن القول بأن الورود هو المرور على الصراط، أو الورود على جهنم وهي خامدة فيه جمع بين الأدلة من الكتاب والسنة، فينبغي حمل هذه الآية على ذلك؛ لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار، مع كون الداخل من المؤمنين مبعدًا من عذابها، أو بحمله على المضي فوق الجسر
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
المنصوب عليها وهو الصراط.
٧٢ - ﴿ثُمَّ﴾ إذا مر الخلائق كلهم على النار، وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة، على قدر ما اجترحوا من الآثام والذنوب ﴿نُنَجِّي﴾ نحن ونسلم ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الشرك والمعاصي منها بحسسب أعمالهم ﴿وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: ونترك الظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في نار جهنم ﴿جِثِيًّا﴾؛ أي: جاثين جالسين على الركب كما جاؤوا، فإن قلت (١): إذا لم يكن في دخول المؤمنين عذاب، فما الفائدة فيه؟.
قلت؛ فيه وجوه:
الأول: أن يزيدهم سرورًا إذا علموا الخلاص منه.
الثاني: يزيد غم أهل النار، لظهور فضيحتهم عند المؤمنين الذين يخوفونهم بالنار.
والثالث: يرون أعداءَهم المؤمنين قد تخلصوا منها، وهم يبقون فيها.
والرابع: أن المؤمنين إذا كانوا معهم فيها.. بكتوهم فيزداد غمهم.
والخامس: أن مشاهدة عذابهم توجب مزيد التذاذهم بنعيم الجنة.
وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وجماعة (٢): ﴿وإن منهم﴾ بالهاء للغيبة على ما تقدم من الضمائر، وقرأ الجمهور: ﴿ثُمَّ﴾ بحرف العطف، وهذا يدل على أن الورود عام، وقرأ عبد الله، وابن عباس، وأبي، وعلي، والجحدري، وابن أبي ليلى، ومعاوية بن قرة، ويعقوب ﴿ثُمَّ﴾؛ أي: هناك، ووقف ابن أبي ليلى ﴿ثمة﴾ بهاء السكت، وقرأ الجمهور: ﴿نُنَجِّي﴾ بفتح النون وتشديد الجيم، وقرأ يحيى، والأعمش، والكسائي، وابن محيصن: بإسكان النون وتخفيف الجيم، وقرأ فرقة ﴿نجي﴾ بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة وقرأ علي ﴿ننحي﴾ بحاء مهملة مضارع نحَّى.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
194
الإعراب
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥١) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (٥٣)﴾.
﴿وَاذْكُرْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿اذكر﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ﴾، ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ متعلق بـ ﴿اذكر﴾، ﴿مُوسَى﴾: مفعول به ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿مُخْلَصًا﴾ خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿وَكَانَ رَسُولًا﴾: فعل ناقص وخبره واسمه ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾ الأولى ﴿نَبِيًّا﴾ خبر ثان لـ ﴿كَانَ﴾ ﴿وَنَادَيْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾ الأولى ﴿مِنْ جَانِبِ الطُّور﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ناديناه﴾. ﴿الْأَيْمَنِ﴾ صفة لـ ﴿جَانِبِ﴾ ﴿وَقَرَّبْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿ناديناه﴾. ﴿نَجِيًّا﴾ حال من أحد الضميرين في ﴿ناديناه﴾ ﴿وَقَرَّبْنَاهُ﴾ وهو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: مناجيًا ﴿وَوَهَبْنَا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿ناديناه﴾. ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿وَهَبْنَا﴾. ﴿مِنْ رَحْمَتِنَا﴾ متعلق بـ ﴿وَهَبْنَا﴾ أيضًا ومعنى ﴿مِنْ﴾ هنا للتبعيض؛ أي: بعض رحمتنا، أو للتعليل؛ أي: من أجل رحمتنا إياه ﴿أَخَاهُ﴾ مفعول به لـ ﴿وَهَبْنَا﴾. ﴿هَارُونَ﴾ بدل من ﴿أَخَاهُ﴾. ﴿نَبِيًّا﴾ حال من ﴿هَارُونَ﴾.
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥٤) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)﴾.
﴿وَاذْكُرْ﴾ فعل أمر ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ متعلق به وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾ مفعول به والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ﴾ ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾: فعل ناقص وخبره واسمه ضمير يعود على إسماعيل وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿وَكَانَ رَسُولًا﴾ فعل ناقص وخبره ﴿نَبِيًّا﴾: خبر ثان له واسمه
195
ضمير يعود على ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾ الأولى ﴿وَكَانَ﴾: فعل ناقص معطوف على ﴿كَانَ﴾: الأولى واسمه ضمير يعود على ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾. ﴿يَأْمُرُ أَهْلَهُ﴾: فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾ وجملة ﴿يَأْمُرُ﴾ في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿بِالصَّلَاةِ﴾ متعلق بـ ﴿يأمر﴾ ﴿وَالزَّكَاةِ﴾: معطوف على ﴿الصلاةِ﴾، ﴿وَكَانَ﴾: فعل ناقص معطوف على ﴿كَانَ﴾ الأولى واسمه ضمير يعود على ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾. ﴿عِنْدَ رَبِّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿مَرْضِيًّا﴾. ﴿مَرْضِيًّا﴾ خبر ﴿كَانَ﴾.
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧)﴾.
﴿وَاذْكُرْ﴾ فعل أمر معطوف على ﴿اذكر﴾ الأول وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿في الْكِتَابِ﴾: متعلق به ﴿إِدْرِيسَ﴾: مفعول به ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿كَانَ صِدِّيقًا﴾: فعل ناقص وخبره ﴿نَبِيًّا﴾: خبر ثان له واسمه ضمير يعود على ﴿إِدْرِيسَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ أي محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿وَرَفَعْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به ﴿مَكَانًا﴾: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ ﴿رفعناه﴾. ﴿عَلِيًّا﴾: صفة لـ ﴿مَكَانًا﴾ وجملة ﴿رفعناه﴾ أي محل الرفع معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (٥٨)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ والخطاب لمحمد - ﷺ - واسم الإشارة: واقع على الأنبياء المذكورين في هذة السورة، وهم عشرة: أولهم في الذكر زكريا وآخرهم إدريس ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في نحل الرفع خبر المبتدأ، أو بدل من اسم الإشارة، والجملة الاسمية، مستأنفة ﴿أَنْعَمَ الله﴾: فعل وفاعل ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْعَمَ﴾: والجملة صلة الموصول ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ حال من الموصول ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾: بدل ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ بإعادة الجار، ﴿وَمِمَّنْ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾. ﴿حَمَلْنَا﴾: فعل وفاعل والجملة: صلة الموصول، والعائد: محذوف تقديره: وممن حملناه ﴿مَعَ نُوحٍ﴾ ظرف متعلق
196
بـ ﴿حَمَلْنَا﴾ ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، معطوف على قوله: ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾ ﴿وَإِسْرَائِيلَ﴾: معطوف على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا﴾ معطوف على قوله: ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾ ﴿هَدَيْنَا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول والعائد محذوف تقديره: هديناهم ﴿وَاجْتَبَيْنَا﴾: معطوف على ﴿هَدَيْنَا﴾. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿تُتْلَى﴾ فعل مضارع مغير الصيغة ﴿عَلَيْهِمْ﴾، متعلق به ﴿آيَاتُ الرَّحْمَنِ﴾ نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾ على كونه فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿خَرُّوا﴾ فعل وفاعل ﴿سُجَّدًا﴾ حال من فاعل ﴿خَرُّوا﴾. ﴿وَبُكِيًّا﴾ معطوف على ﴿سُجَّدًا﴾ وجملة ﴿خَرُّوا﴾: جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿إِذَا﴾ مع جوابها: مستأنفة لا محل لها من الإعراب إذا أعربنا ﴿الَّذِينَ﴾ خبرًا وإذا أعربنا ﴿الَّذِينَ﴾ بدلًا فتكون هي الخبر.
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (٦٠)﴾.
﴿فَخَلَفَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة أو استئنافية ﴿خلف﴾: فعل ماض ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خلف﴾ أو حال من ﴿خَلْفٌ﴾. ﴿خَلْفٌ﴾: فاعل والجملة: معطوفة على جملة الصلة في قوله: ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾: أو مستأنفة ﴿أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿خَلْفٌ﴾ ﴿وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾. ﴿فَسَوْفَ﴾ الفاء: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره إذا عرفت قبائح هؤلاء الخلف وأردت بيان عاقبتم.. فأقول لك ﴿سوف يلقون﴾. ﴿سوف﴾: حرف تنفيس واستقبال ﴿يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ فعل وفاعل ومفعول والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة: إذا المقدرة: مستأنفة ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء متصل على الراجح ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من فاعل ﴿يَلْقَوْنَ﴾ مبني على السكون ﴿تَابَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة صلة الموصول ﴿وَآمَنَ﴾ فعل ماض معطوف على ﴿تَابَ﴾ وكذلك ﴿وَعَمِلَ﴾: معطوف عليه ﴿صَالِحًا﴾: مفعول به أو مفعول مطلق؛
197
أي: عملًا صالحًا ﴿فَأُولَئِكَ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت هذا الاستثناء وأردت بيان عاقبتهم.. فأقول لك ﴿أولئك﴾. ﴿أولئك﴾: مبتدأ ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة: في محل الرفع خبر المبتدأ ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿يَدْخُلُونَ﴾. ﴿شَيْئًا﴾: مفعول مطلق ولك أن تجعله مفعولًا ثانيًا بتضمين ﴿يُظْلَمُونَ﴾ معنى ينقصون، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا.
﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢)﴾.
﴿جَنَّاتِ﴾: بدل من الجنة منصوب بالكسرة ﴿عَدْنٍ﴾: مضاف إليه من عدن بالمكان إذا أقام، وقد جرى مجرى العلم، ولذلك ساغ وصفها بالتي ﴿الَّتِي﴾ صفة لـ ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ ﴿وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة الفعلية: صلة الموصول والعائد محذوف تقديره: وعدها الرحمن عباده ﴿بِالْغَيْبِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿عِبَادَهُ﴾؛ أي: وعدهم إياها وهم غائبون عنها لا يرونها، أو حال من ضمير ﴿الجنة﴾ العائد على الموصول؛ أي: وعدها إياهم وهي غائبة عنهم ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، والضمير في إنه يعود على ﴿الرَّحْمَنُ﴾ والمعنى: إن الرحمن كان وعده مأتيًا، أو على الشأن، لأنه مقام تعظيم وتفخيم ﴿لَا يَسْمَعُونَ﴾: فعل وفاعل والجملة: في محل النصب حال من ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَسْمَعُونَ﴾؛ أي: حالة كونهم في الجنة ﴿لَغْوًا﴾: مفعول به لـ ﴿يَسْمَعُونَ﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء منقطع ﴿سَلَامًا﴾ منصوب على الاستثناء ﴿وَلَهُمْ﴾ خبر مقدم ﴿رِزْقُهُمْ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿فِيهَا﴾: حال من ضمير ﴿رِزْقُهُمْ﴾؛ أي: حالة كونهم مستقرين فيها، والجملة: مستأنفة ﴿بُكْرَةً﴾ ظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر في قوله ﴿لَهُمْ﴾. ﴿وَعَشِيًّا﴾ معطوف على ﴿بُكْرَةً﴾.
﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (٦٣)﴾.
198
﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ﴾: مبتدأ وخبره، والجملة: مستأنفة ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿الْجَنَّةُ﴾. ﴿نُورِثُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله ولجملة: صلة الموصول، والعائد: محذوف تقديره: نورثها ﴿مِنْ عِبَادِنَا﴾ جار ومجرور حال من اسم ﴿كَانَ﴾ ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿نُورِثُ﴾ ﴿كَانَ﴾. فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿تَقِيًّا﴾ خبرها وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة الموصول.
﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو: استئنافية ﴿مَا﴾ نافية ﴿نَتَنَزَّلُ﴾ هو فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على جبريل ومن معه من الملائكة، والجملة: مستأنفة ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء من أعم الأحوال ﴿بِأَمْرِ رَبِّك﴾: الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿نَتَنَزَّلُ﴾؛ أي: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ﴾ في حال من الأحوال إلا في حالة كوننا متلبسين ﴿بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ وإذنه ﴿لَهُ﴾ جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر والجملة: في محل النصب حال من ﴿رَبِّكَ﴾. ﴿بَيْنَ﴾: ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول ﴿أَيْدِينَا﴾: مضاف إليه للظرف ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿مَا﴾ موصول في محل الرفع معطوف على ما الموصولة في قوله: ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ ﴿خَلْفَنَا﴾: ظرف ومضاف إليه صلة لـ ﴿مَا﴾ ﴿وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾: معطوف أيضًا على ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة ﴿كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ﴾.
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)﴾.
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ والجملة: مستأنفة ﴿وَمَا﴾ اسم موصول في محل الجر معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿بَيْنَهُمَا﴾ ظرف ومضاف إليه، صلة الموصول ﴿فَاعْبُدْهُ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره، إذا عرفت أنه مالك السموات والأرض، وأردت بيان ما هو اللازم لك في حقه سبحانه: فأقول لك ﴿اعبده﴾ ﴿أعبده﴾: فعل أمر ومفعول به وفاعله ضمير يعود على محمد،
199
والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، ﴿وَاصْطَبِرْ﴾: فعل أمر معطوف على ﴿فَاعْبُدْهُ﴾. وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿لِعِبَادَتِهِ﴾: متعلق بـ ﴿اصْطَبِرْ﴾. ﴿هَلْ﴾: حرف للاستفهام الإنكاري ﴿تَعْلَمُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني، لـ ﴿تَعْلَمُ﴾ ﴿سَمِيًّا﴾ مفعول أول له والجملة الفعلية: جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب.
﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (٦٧)﴾.
﴿وَيَقُولُ﴾ الواو: استئنافية ﴿يَقُولُ الْإِنْسَانُ﴾ فعل وفاعل والجملة: مستأنفة ﴿إِذَا﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان متعلق بفعل محذوف دل عليه قوله ﴿لَسَوْفَ أُخْرَجُ﴾؛ لأن (اللام): تمنع من تعلقه بـ ﴿أُخْرَجُ﴾ المذكور بعده لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها، والتقدير: أإذا ما مت أبعث ﴿مَا﴾: زائدة ﴿مِتُّ﴾ فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونه فعل شرط لها ﴿لَسَوْفَ﴾: اللام حرف ابتداء جيء بها لمجرد تأكيد الإنكار ﴿سوف﴾ حرف استقبال ﴿أُخْرَجُ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على الإنسان ﴿حَيًّا﴾: حال من فاعل ﴿أُخْرَجُ﴾ وجملة ﴿أُخْرَجُ﴾: دال على جواب إذا لا محل لها من الإعراب، أو هي الجواب، واللام زائدة، والتقدير: أأخرج حيا وقت موتي، وجملة ﴿إِذَا﴾ في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾ وساغ اجتماع اللام وهي تمحض الفعل للحال وسوف وهي تمحضه للاستقبال؛ لأن اللام هنا لمجرد التوكيد، وإنما جردت اللام من معناها لتلائم ﴿سوف﴾ دون أن تجرد ﴿سوف﴾ من معناها لتلائم اللام لأنه لو عُكس هكذا للغت ﴿سوف﴾ إذ لا معنى لها سوى الاستقبال، وأما اللام فإنها إذا جردت من الحال.. بقي لها التوكيد فلم تلغ، ﴿أَوَلَا﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف ﴿لا﴾ نافية ﴿يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ﴾: فعل وفاعل والجملة: معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيًا، ولا يذكر أنا خلقنا.. إلخ. والجملة. المحذوفة: مستأنفة لا محل لها من الإعراب ﴿أَنَّا﴾: ناصب واسمه ﴿خَلَقْنَاهُ﴾: فعل وفاعل
200
ومفعول ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَقْنَاهُ﴾ وجملة ﴿خَلَقْنَاهُ﴾: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وجملة: ﴿أن﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية فـ ﴿يذكر﴾ والتقدير: أولا يذكر الإنسان خلقنا إياه من قبل ﴿وَلَمْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية ﴿لم﴾ حرف نفي وجزم ﴿يَكُ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾: وعلامة جزمه سكون ظاهر على النون المحذوفة للتخفيف هي فعل من الأفعال الناقصة والناسخة، واسمها ضمير يعود على ﴿الْإِنْسَانُ﴾. ﴿شَيْئًا﴾: خبرها والجملة في محل النصب حال من مفعول ﴿خَلَقْنَاهُ﴾.
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨)﴾.
﴿فَوَرَبِّكَ﴾ الفاء: استئنافية. ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم ﴿رَبِّكَ﴾ مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره أقسم بربك يا محمد، والجملة المحذوفة: مستأنفة ﴿لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾: اللام موطئة للقسم ﴿نحشرن﴾: فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله؛ ضمير يعود على الله، والهاء: ضمير الغائبين في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب ﴿وَالشَّيَاطِينَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿الشَّيَاطِينَ﴾: معطوف على ضمير الغائبين، أو الواو واو المعية ﴿الشَّيَاطِينَ﴾: مفعول معه ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف و ﴿لَنُحْضِرَنَّهُمْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿نحضرنهم﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ونون توكيد ومفعول به معطوف على ﴿لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾. ﴿حَوْلَ﴾: ظرف مكان متعلق بـ ﴿نحضرن﴾ ﴿جَهَنَّمَ﴾: مضاف إليه ﴿جِثِيًّا﴾: حال من هاء ﴿نحضرنهم﴾.
﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (٦٩)﴾
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ ﴿لَنَنْزِعَنَّ﴾ اللام: موطئة للقسم ﴿ننزعن﴾ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله: ضمير يعود على الله والجملة: معطوفة على جملة ﴿لَنُحْضِرَنَّهُمْ﴾. ﴿مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ﴾: جار ومجرور إليه متعلق بـ ﴿ننزعن﴾. ﴿أَيُّهُمْ﴾ ﴿أَيُّ﴾: اسم موصول بمعنى الذي في محل النصب مفعول به، مبني على الضم، لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا لافتقارها إلى جملة
201
الصلة، وإنما حركت ليعلم أن لها أصلًا في الإعراب، وكانت الحركة ضمة إيثارًا لها بأقوى الحركات، والهاء مضاف إليه، والميم للجمع ﴿أَشَدُّ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو أشد والجملة الاسمية: صلة لأي الموصولة ﴿عَلَى الرَّحْمَنِ﴾ متعلق بـ ﴿أَشَدُّ﴾ ﴿عِتِيًّا﴾: تمييز محول عن المبتدأ المحذوف الذي هو ﴿أَشَدُّ﴾: منصوب باسم التفضيل، والأصل عتوه، أي: جراءَته على الرحمن أشد من جراءة غيره.
﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (٧٠)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿لَنَحْنُ﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتداء ﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ ﴿أَعْلَمُ﴾ خبر والجملة الاسمية: معطوفة على جملة ﴿لَنَنْزِعَنَّ﴾. ﴿بِالَّذِينَ﴾ متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾ ﴿هُمْ أَوْلَى﴾: مبتدأ وخبر ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾ ﴿صِلِيًّا﴾ تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل والجملة الاسمية صلة الموصول وفائدة هذا التمييز التخصيص بشدة العذاب، لا التخصيص بأصل العذاب لاشتراكهم فيه.
﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (٧٢)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ الواو: استئنافية ﴿إنْ﴾ نافية بمعنى: ما. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار مجرور صفة لمبتدأ محذوف تقديره: وما أحد كائن منكم ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر ﴿وَارِدُهَا﴾ خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على الورود ﴿عَلَى رَبِّكَ﴾ متعلق بـ ﴿حَتْمًا﴾. ﴿حَتْمًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿مَقْضِيًّا﴾ صفة ﴿حَتْمًا﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخ ﴿نُنَجِّي الَّذِينَ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ﴾ وما بينهما اعتراض ﴿اتَّقَوْا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿نُنَجِّي﴾: وفاعله ضمير يعود على الله ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿نذر﴾ أو بـ ﴿جِثِيًّا﴾. ﴿جِثِيًّا﴾: حال من ﴿الظَّالِمِينَ﴾: أو مفعول ثان لـ ﴿نذر﴾؛ أي: نتركهم فيها ﴿جِثِيًّا﴾.
202
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا﴾؛ أي: إن الله أخلصه واصطفاه، وأبعد عنه الرجس، وطهره من الذنوب والآثام، كما جاء في الآية الأخرى ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ ﴿نَجِيًّا﴾؛ أي: مناجيًا مكلمًا لله بلا واسطة، أصله: نجيو من نجا ينجو، اجتمعت حرفا علة فسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً، ثم أدغمت الياء في الياء فصار ﴿نَجِيًّا﴾.
﴿مَرْضِيًّا﴾ العامة على قراءته كذلك معتلًا، وأصله: مرضووٌ بواوين الأولى زائدة كهي في مضروب، والثانية لام الكلمة لأنه من الرضوان، فأعل بقلب الواو الأخيرة ياءً، لوقوعها متطرفةً، فاجتمعت الياء والواو فسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً، فأدغمت الياء في الياء فصار ﴿مَرْضِيًّا﴾ ويجوز النطق بالأصل، وقرأ ابن أبي عبلة: بهذا الأصل وهو الأكثر اهـ. "سمين".
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ﴾ قيل سمي إدريس لكثرة دراسته كتاب الله عز وجل، وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح؛ لأنه لو كان إفعيلًا من الدرس.. لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية، فكان منصرفًا، فامتناعه من الصرف دليل على عجمته، وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون، ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت، ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة.. كثرت منه أمثال هذه الهنات، ويجوز أن يكون معنى إدريس في تلك اللغة قريبًا من ذلك، فحسبه الراوي مشتقًا من الدرس، وما أجمل حرية الرأي. اهـ من "إعراب القرآن".
﴿سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾: جمع ساجدٍ وباكٍ والأول قياس كراكع وركع وعاذل وعذَّل، والثاني شاذ؛ لأن قياس فاعل من المنقوص أن يُجمع على فعلة، كقاضٍ وقضاةٍ؛ وباغٍ وبغاةٍ ورامٍ ورماةٍ وساعٍ وسعاةٍ وطاغٍ وطغاةٍ؛، فقياس باكٍ هنا أن يجمع على بكاةٍ، كما قال ابن مالك:
فِىْ نَحْوِ رَامٍ ذُوْ اطَّرَادٍ فُعَلَهْ
﴿فَخَلَفَ﴾؛ أي: وجد وحدث ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ أي: من بعد النبيين
203
المذكورين ﴿خلف﴾؛ أي: عقب، وجماعة يستعملون الخلف بسكون اللام كما هنا في الشر، فيقال خلف سوءٍ وبفتحها في الخير، فيقال: خلف صالح قال في "الكشاف" خلفه إذا عقبه، ثم قيل: في عقب الخير خَلَف بالفتح، وفي عقب السوء خلْف بالسكون، كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر، وقال اللحياني: الخلف بفتحتين الولد الصالح، والخلف بفتح فسكون الرديء ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾: كلّ شرٍ عند العرب غي، وكل خيرٍ رشاد، قال المرقش الأصغر:
فَمَنْ يَلْقَ خَيرَاً يَحْمَدِ النَّاسَ أَمْرُهُ وَمَنْ يَغْوَ لاَ يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لاَئِمَا
﴿جِثِيًّا﴾ على الركب يقال: جثا إذا قعد على ركبتيه، وهي قعدة الخائف الذليل، كما في "البحر" يجثو ويجثي جثوًا وجثايةً فهو جمع جاثٍ، وأصله: جثوو إن قلنا من جثا يجثو بواوين قلت الواو الثانية ياءً ثم الأولى كذلك، وأدغمت الياء في الياء، أو جثوى إن قلنا من جثا يجثي، فقلبت الواو ياءً وأدغمت في الياء، وعلى كلا الوجهين كسرت الثاء لتصح الياء، فالجيم مكسورة ومضمومة: قراءتان سبعيتان ﴿صِلِيًّا﴾؛ أي: دخولًا واحتراقًا، مصدر من صلي، يقال: صلي يصلى صليًا، مثل لقى يلقى لقيًا، وصلى يصلي مثل مضى يمضي مضيًا، أصله: صلوي اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً، وأدغمت في الياء، وكسرت اللام لتصح الياء، ويقال: صلى بالنار إذا قاسى حرها ﴿وَارِدُهَا﴾؛ أي: مار عليها ﴿حَتْمًا﴾؛ أي: واجبًا ﴿مَقْضِيًّا﴾؛ أي: قضي بوقوعه البتة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧)﴾ شبه المكانة العظيمة، والمنزلة السامية بالمكان العالي بطريق الاستعارة.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾؛ أي: مبالغةً في الصدق.
204
ومنها: الإشارة بالبعيد لعلو الرتبة في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ﴾ تنزيلًا لبعد المعنوي منزلة البعد الحسين.
ومنها: الجناس الناقص في قوله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ لتغير الحركات والشكل.
ومنها: تأكيد المدح بما يشبه الذم في قوله: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا﴾ وهو قسمان:
أحدهما: أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء، صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية، ومنه قول النابغة الذبياني:
وَلاَ عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ بِهِنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
فقد جعل الفلول عيبًا علي سبيل التجوز، بتًا لنفي العيب بالكلية، كأنه يقول: إن كان فلول السيف من القراع عيبًا فإنهم ذوو عيب، معناه: إن لم يكن عيبًا فليس فيهم عيب البتة؛ لأنه لا شيء سوى هذا، فهو بعد هذا التجوز والفرض استثناء متصل.
وثانيهما: أن تثبت لشيء صفة مدحٍ وتعقب ذلك بأداة استثناء، يليها صفة مدحٍ أخرى لذلك الشيء، نحو "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش".
ومنها: التشبيه التمثيلي البليغ في قوله: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (٦٣)﴾ فقد شبه عطاء الجنة لهم بالعطاء الذي لا يرد وهو: الميراث الذي يرثه الوارث، فلا يرجع فيه المورث؛ أي: نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم، كما يُبقى على الوارث مال مورثه، والوراثة أقوى لفظٍ يستعمل في التمليك والاستحقاق من حيث إنها لا تعقب بفسخٍ ولا استرجاع، ولا تبطل برد ولا إسقاط.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا﴾ وبين ﴿بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾.
ومنها: فن القسم في قوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾ وهو: أن يريد المتكلم الحلف على شيء، فيحلف بما يكون فيه، فخر له وتعظيم لشأنه، أو تنويه لقدره، أو ما يكون ذمًا لغيره، أو جاريًا مجرى الغزل والترقق، أو خارجًا
205
مخرج الموعظة والزهد، فقد أفاد القسم هنا أمرين:
أحدهما: أن العادة جرت بتأكيد الخبر باليمين.
والثاني: أن في إقسام الله تعالى باسمه مضافًا إلى رسوله - ﷺ - رفعًا منه لقدره، وتنويهًا بشأنه، كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾.
ومنها: الافتنان في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (٧٢)﴾ والافتنان أن يَفْتنَّ المتكلم، فيأتي في كلامه بفنَّين: إما متضادين أو مختلفين أو متفقين، والآية التي نحن بصددها جمعت بين المتضادين، جمعت بين الوعد والوعيد، وبين التبشير والتحذير، وما يلزم من هذين الفنين من المدح للمختصين بالبشارة، والذم لأهل النذارة.
ومنها: الالتفات في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ ففيه التفات من الغيبة في قوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾ ﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ﴾ و ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ﴾ ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (٧٠)﴾ إلى الخطاب في قوله: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ كان مقتضى السياق ﴿وإن منهم إلا واردها﴾ كما قرأ به عكرمة، وجماعة، لكن الأكثرون على أن المخاطب العالم كلهم كما في "الخازن".
ومنها: ذكر العام وإرادة الخاص في قوله: ﴿وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ﴾ المراد به الكافر، لأنه هو المنكر للبعث.
ومنها: الطباق بين ﴿مِتُّ﴾ و ﴿حَيًّا﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
206
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (٧٤) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٨٧) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (٩٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أقام الحجة على مشركي قريش، المتكبرين للبعث بعد الفناء، وللعودة إلى حياة أخرى.. أتبعه بذكر شبهة أخرى قالوها، وعارضوا بها حجة الله التي يشهد بصحتها كل منصف، ويعتقدها من له أدنى مسكة من عقل.
تلك أنهم قالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل.. لكان حالكم في
207
الدنيا أحسن وأطيب من حالنا، من قبل أن الحكيم لا يليق به أن يوقع المخلصين من أوليائه في الذل والمهانة، وأعدائه في العز والراحة، لكنا نجد الأمر على العكس من هذا، فإنا نحن الذين يمتعون برفاهية العيشى والرخاء والنعيم، وأنتم في ضنكٍ وفقرٍ وخوفٍ وذلٍ، فهذا دليل على أنا على الحق وأنتم على الباطل وقد رد الله تعالى عليهم مقالتهم بأن الكافرين قبلكم وكانوا أحسن منكم حالًا، وأكثر أموالًا، قد أبادهم الله، وأهلكهم بعذاب الاستئصال، فدل هذا على أن نعيم الدنيا لا يرشد إلى محبة الله لمن أوتوه، ولا إلى أنهم مصطفون له من بين خلقه.
قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧)...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما ذكر الدلائل على صحة البعث، ثم أورد شبه المنكرين له وأجاب عنها بما فيه مقنع لكل ذي لب.. أردف ذلك بذكر مقالتهم التي قالوها استهزاءً وطعناً في القول بالحشر والبعث.
قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١)...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر إنكار المشركين للبعث مع قيام الدليل على إمكانه بما نشاهد من أمر الخلق في النشأة الأولى.. أردف ذلك بالرد على عباد الأصنام، الذين اتخذوا أصنامهم آلهة ليعتزوا بهم يوم القيامة عند ربهم، ويكونوا شفعاء لهم لديه، فبيَّن أنهم سيكونون لهم أعداء، وأنه ما جرَّأهم على تلك الغواية إلا وسوسة الشيطان لهم، ثم طلب إلى رسوله أن لا يستعجل المشركين، فإنما هي أنفاس معدودات ثم يهلكون، ثم ذكر ما يحوط المؤمنين من الكرامة حين وفودهم إلى ربهم، وما يحيق بالمشركين من الإهانة حين يرِدون عليه.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (٨٨)﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما (٢) رد على عبدة الأوثان، وأثبت لهم بقاطع
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
208
الأدلة أنهم في ضلالهم يعمهون، وأنهم عن الحق معرضون.. أردف ذلك بالرد على من أثبت له الولد، كاليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، والمشركين الذين قالوا: الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...﴾ الآية، مناسبة الآية لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى، لما فصَّل أحوال الكافرين في الدنيا والآخرة، وبالغ في الرد عليهم.. ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين وبيّن أنه سبحانه سيغرس محبتهم في قلوب عباده، وبعد أن استقصى في السورة دلائل التوحيد والنبوة والحشر، ورد فيها على فرق المبطلين، بين أنه ذلك بلسان نبيه - ﷺ - ليبشر به المتقين، وينذر به قومًا من المشركين ذوي الجدل والمماراة.
أسباب النزولى
قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧)...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه البخاري في (ج ٥/ ص ٢٢١) قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن خباب قال: كنت قينًا في الجاهلية، وكان لى على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا أكفر حتى يميتك الله، ثم تبعث، قال: دعني حتى أموت وأبعث، فسأوتى مالًا وولدًا فأقضيك، فنزلت ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨)﴾ والحديث رواه مسلم، والترمذي، وأحمد، والطيالسي، وابن سعد، وابن جرير، والطبراني، وغيرهم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخرجه ابن جرير، عن عبد الرحمن بن عوف لما هاجر إلى المدينة.. وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة، منهم شيبة وعتبة ابنا ربيعة
(١) البخاري.
(٢) لباب النقول.
209
وأمية بن خلف، فأنزل الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦)﴾ قال: محبةً في قلوب المؤمنين.
التفسير وأوجه القراءة
٧٣ - ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على المشركين ﴿آيَاتُنَا﴾ القرآنية الناطقة بحسن حال المؤمنين، وسوء حال الكفرة حالة كونها ﴿بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: مرتلاتِ الألفاظ، مبينات المعاني، واضحاتِ الإعجاز، وهي (١) حال مؤكدة، فإن آيات الله لا ينفك عنها الوضوح، ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: الذين مردوا منهم على الكفر، ومرنوا على العناد، كنضر بن الحارث وأتباعه الفجرة ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: لفقراء المؤمنين الذين هم في خشونة عيش، ورثاثة ثياب، وضيق منزل، - واللام فيه للتبليغ - لأنهم شافهوا المؤمنين وخاطبوهم بقولهم: ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ﴾ منا ومنكم؛ أي: من المؤمنين والكافرين، كأنهم قالوا أينا ﴿خَيْرٌ﴾ وأحسن ﴿مَقَامًا﴾؛ أي: منزلًا ومسكنًا، أنحن أم أنتم، وهو موضع الإقامة ﴿وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾؛ أي: مجلسًا ومجتمعًا؛ أي: أنحن أم أنتم، قال بعض المفسرين: الندي المجلسى الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم، وقرأ الجمهور ﴿مَقَامًا﴾ بفتح الميم وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وحميد، والجعفي، وأبو حاتم عن أبي عمرو: بضم الميم واحتمل الفتح والضم أن يكون مصدرًا، أو موضع قيام، أو إقامةٍ وانتصابه على التمييز.
والمعنى: أي وإذا تتلى على المشركين آياتنا واضحات الدلالة.. قالوا مفتخرين على المؤمنين، ومحتجين على صحة ما هم عليه من الباطل: أي الفريقين منا ومنكم أوسع عيشًا، وأنعم بالًا، وأفضل مسكنًا، وأحسن مجلسًا، وأجمع عددًا، أنحن أم أنتم؟ فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل وأولئك المستخفون المستترون في دار الأرقم ابن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق، ونحو الآية قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا
(١) روح البيان.
سَبَقُونَا إِلَيْهِ}.
روي (١): أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنوها، ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخرة، فإذا سمعوا الآيات الواضحات، وعجزوا عن معارضتها، والدخل عليها.. قالوا مفتخرين بالحظوظ الدنيوية على فقراء المؤمنين: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل.. لكان حالكم في الدنيا أحسن؛ لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه في العذاب والذل، وأعداءه في العز والراحة لكن الأمر بالعكس، وقصدهم بهذا الكلام، صرفهم عن دينهم،
٧٤ - فرد الله عليهم بقوله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ وكم: خبرية بمعنى عدد كثير مفعول مقدم لـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾ و ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾: بيان لإبهامها وأهل كل عمر قرن لمن بعدهم؛ لأنهم يتقدمونهم مأخوذ من قرن الدابة، وهو: مقدمها وقوله: و ﴿هُمْ أَحْسَنُ﴾ في محل الجر على أنه صفة لقرن، وما في "الشوكاني" هنا أنه في محل نصب صفة لكم غير صواب ﴿أَثَاثًا﴾ تمييز عن النسبة وهو متاع البيت ﴿وَرِئْيًا﴾ هو المنظر والهيئة؛ أي: وقد أهلكنا قبل هؤلاء المشركن كثيرًا من أمةِ عاتيةٍ، كعاد، وثمود، وغيرهما ﴿هُمْ﴾؛ أي: أولئك القرون أحسن من هؤلاء المشركين أثاثًا ورئيًا؛ أي: أموالًا وأمتعةً، ومناظر ذات جمال وزخرف.
والمعنى (٢): كثيرًا من القرون التي كانوا أفضل منهم فيما يفتخرون به، من الحظوظ الدنيوية، كعاد، وثمود، وأضرابهم من الأمم العاتية، قبل هؤلاء؛ أي: كفار قريش أهلكناهم بفنون العذاب، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا.. لما فعلنا بهم ما فعلنا؛ أي: فإن ما أنتم (٣) أيها المشركون فيه من النعم محض استدراج لم ينفعكم الترفه شيئًا عند نزول النبلاء بكم، كما وقع للأمم الماضية، حيث كانوا في رفاهيةٍ أكثر منكم، ومع ذلك أهلكهم الله بكفرهم، ولم ينفعهم الترفه شيئًا.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
211
وخلاصة هذا (١): إن كثيرًا ممن كانوا أعظم منكم نعمةً في الدنيا، كعاد، وثمود، وأضرابهم من الأمم العاتية، قد أهلكهم الله، فلو صدق ما تدعون من أن النعمة في الدنيا تدل على الكرامة عند الله.. ما أهلك أحدًا من المتنعمين بها، وفي هذا من التهديد والوعيد ما لا يخفى، وكأنه قيل: فليترقب هؤلاء أيضًا مثل ذلك، فسيحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَرِئْيًا﴾ بالهمزة من رؤية العين، فعل بمعنى مفعول، كالطحن بمعنى المطحون، والذبح بمعنى المذبوح، وقال ابن عباس: الرأي: المنظر، وقال الحسن: معناه صوراً، وقرأ الزهري، وأبو جعفر، وشيبة، وطلحة، في رواية الهمداني، وأيوب، وابن سعدان، وابن ذكوان، وقالون: ﴿وريا﴾ بتشديد الياء من غير همز، فاحتمل أن يكون مهموز الأصل من الرواء والمنظر، سهلت همزته بإبدالها ياءً، ثم أدغمت الياء في الياء، واحتمل أن يكون من الري ضد العطش؛ لأن الريان من الماء له من الحسن والنضارة ما يستحب ويستحسن، كما له منظر حسن من وجه آخر مما يرى ويقال، وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش عن عاصم وحميد ﴿وريئًا﴾ بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعًا، وكأنه من راء وقرىء ﴿ورياءً﴾ بياء بعدها ألف وبعدها همزة، حكاها اليزيدي، وأصله: ورئاء من المراآة؛ أي: يرى بعضهم بعضًا حسنه، وقرأ ابن عباس، فيما روى عن طلحة ﴿وريًا﴾ من غير همزٍ ولا تشديدٍ، فتجاسر بعض الناس وقال: هي لحن، وليس كذلك، بل لها توجيه: بأن تكون من الرواء وقلب فصار ﴿وَرِئْيًا﴾ ثم نقلت حركة الهمزة إلى الياء، وحذفت، أو بأن تكون من الري وحذفت إحدى الياءَين تخفيفًا كما حذفت في لا سيما، والمحذوفة الثانية؛ لأنها لام الكلمة؛ لأن الثقل إنما حصل للكلمة بأنضمامها إلى الأولى، فهي أولى بالحذف، وقرأ ابن عباس أيضًا، وابن جبير، ويزيد البربري، والأعصم المكي ﴿وزيا﴾ بالزاي مشدد الياء، والزي: الهيئة الحسنة والآلات المجتمعة المستحسنة، من زويت بمعنى جمعت، فيكون أصلها: زويًا فقلبت الواو ياءً ثم
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
212
أدغمت في الياء، والزي محاسن مجموعة، وفي "التأويلات النجمية" في معنى الآية ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ من الحقائق والأسرار ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: ستروا الحق بالإنكار والاستهزاء ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ من أهل التحقيق إذا رأوهم مرتاضين مجاهدين مع أنفسهم، متحملين متواضعين متذللين متخاشعين، وهم متنعمون متمولون متكبرون متبعوا شهوات أنفسهم، ضاحكون مستبشرون ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ﴾ منا ومنكم ﴿خَيْرٌ﴾؛ أي: أفريقنا خير أم فريقكم خير ﴿مَقَامًا﴾؛ أي: منزلةً ومرتبةً في الدنيا، ووجاهةً عند الناس، وتوسعاً في المعيشة ﴿وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾؛ أي: مجلسًا ومنصبًا وحكمًا، فقال تعالى في جوابهم ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾؛ أي: أهلكنا بحب الدنيا ونعيمها، إذ أغرقناهم في بحر شهواتها، واستيفاء لذاتها، والتعزز بمناصبها ﴿هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا﴾؛ أي: استعدادًا واستحقاقًا في الكمالات الدينية منكم، كما قال - عليه الصلاة والسلام - "خياركم في الإِسلام خياركم في الجاهلية إذا فقهوا" اهـ.
٧٥ - ثم أمر سبحانه نبيه - ﷺ - أن يجيب هؤلاء المفتخرين بالمال والمنال بقوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين للمؤمنين: أي الفريقين خير مقامًا، وأحسن نديًا ﴿مَنْ﴾ شرطية ﴿كَانَ﴾ مستقرًا ﴿فِي الضَّلَالَةِ﴾؛ أي: في الكفر والجهل والغفلة عن عواقب الأمور ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾ أمر بمعنى الخبر؛ أي: يمد له الرحمن، ويزيده في شهواته، ويمهله بطول العمر، وإعطاء المال، والتمكين من التصرفات؛ أي: يمد له الرحمن مدًا، ويزيده في المال زيادةً، ويمهله في العمر إمهالًا، استدراجًا له وقطعًا للمعاذير يوم القيامة.
وإخراجه (١) على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يُفعل بموجب الحكمة، لقطع المعاذير، أو للاستدراج، واعتبار الاستقرار في الضلالة، لما أن المد لا يكون إلا للمصرين عليها، إذ رب ضال يهديه الله، والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المد من أحكام الرحمة الدنيوية.
(١) روح البيان.
213
وذكر الرحمن في هذه السورة في ستة عشر موضعًا اهـ شيخنا. وقيل (١): المراد بالآية الدعاء بالمد، والنفيس، قال الزجاج: تأويله أن الله سبحانه جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمده فيها؛ لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر، كان المتكلم يقول: أفعل ذلك وآمر به نفسي. انتهى.
وقال: بعضهم معنى ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾؛ أي (٢): فليستدرجه الرحمن استدراجًا بمد عمره، وتوسيع ماله، وتكثير ولده، أو فليمهله الرحمن إمهالًا بمد راحته على الطغيان، وإيصال نعمته على وجه الإحسان حتى يقع في العقاب والعذاب، على سبيل التدريج لا التعجيل، فيكون عقابه وعذابه أكمل وأشمل أثرًا وألمًا؛ لأن الأخذ على طريق التدريج والنعمة، أشد منه على سبيل التعجيل والنقمة، مع أن مبدأ المد مطلقًا هو الرحمن دون القهار أو الجبار؛ لأن كلاً منهما مبدأ الشدة، ولذلك عبر به لا بغيره، هذا هو الخاطر ببالي في وجه التعبير بالرحمن، وإن كانت أشدية عقاب الرحمن وجهاً، لكن وجه أشدية عقابه ما ذكرنا؛ لأنه إذا أراد العقاب.. يأتي به على وجه الرحمة والنعمة، فيكون كدراً بعد الصفاء، وألمًا بعد الراحة، وشدةً بعد الرخاء، فهذا أقوى أثرًا، والحاصل: أنه لا يتصور وقوع المد المذكور، إلا من الرحمن؛ لأنه أصله ومنشؤه. انتهى كلامه.
وقوله: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ﴾ (٣) غاية للمد الممتد، وجمع الضمير في الفعلين باعتبار معنى من، كما أن الإفراد في الضميرين الأولين باعتبار لفظها؛ أي: من كان في الضلالة يمد له الرحمن مدًا، ويستدرجهم استدراجًا، حتى إذا رأوا ما يوعدون من الله، وقوله: ﴿إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ﴾ تفصيل للموعود على سبيل البدل، فإنه إما العذاب أو الساعة؛ أي: حتى إذا رأوا الموعود لهم، إما العذاب الدنيوي، بغلبة المسلمين، واستيلائهم عليهم، وتعذيبهم إياهم قتلًا وأسرًا، وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنكال، على طريقة الخلو
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
214
دون الجمع، فإن العذاب الأخروي لا ينفك عنهم بحال، وقوله: ﴿فَسَيَعْلَمُونَ﴾ جواب الشرط؛ أي: حتى إذا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوي، أو الأخروي فقط.. فسيعلمون حينئذ ﴿مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا﴾؛ أي: منزلًا من الفريقين ﴿وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾؛ أي: أنصارًا وأعوانًا منهما، بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يحسبونه فيعلمون أنهم شر مكانًا لا خير مقامًا ويرون أنهم أضعف جندًا وأعوانًا وأنصارًا، لا أحسن نديًا كما كانوا يدعونه.
والمعنى: أنهم سيعلمون عند ذلك أنهم شر مكانًا لا خير مكانًا، وأضعف جندًا لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين، وليس المراد أن للمفتخرين هنالك جندًا ضعفاء، بل لا جند لهم أصلًا، كما في قوله سبحانه ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (٤٣)﴾.
ومعنى الآية (١): أي قل يا محمد لهؤلاء المدعين أنهم على الحق، وأنكم على الباطل: إن ما افتخرتم به من زخرف الدنيا وزينتها، لا يدل على حسن الحال في الآخرة، فقد جرت سنة الله بأن من كانوا منهمكين في الضلالة، مرخين لأنفسهم الأعنة في سلوك المعاصي والآثام، يبسط لهم نعيم الدنيا، ويطيب عيشهم فيها، ويمتعهم بأنواع اللذات، ولا يزال يمهلهم استدراجًا لهم إلى أن يشاهدوا ما وعدوا به رأى العين، إما عذابًا في الدنيا كما حصل يوم بدر، وإما مجيء الساعة وهم بها مكذبون، وعن الاستعداد لها مفرطون، وإذ ذاك يعلمون من هو شرّ من الفريقين مكانًا، وأن الأمر على عكس ما كانوا يقدرون، وسيرون أنهم شر مكانًا، وأضعف جندًا، وأقل ناصرًا من المؤمنين، وهذا رد على قولهم ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾.
وقصارى ذلك: أن من كان في الضلالة، فسنة الله أن يمد له، ويستدرجه ليزداد إثمًا، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، إما بعذاب في الدنيا يأتيه من حيث لا يحتسب، وإما بعذاب في الآخرة لا قبل له بدفعه، وحينئذ يعلم أنه كان في
(١) المراغي.
215
ضلال مبين، ويندم ولات ساعة مندم:
نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ وَالْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيْهِ وَخِيْمُ
ولا يجد عن النار محيصًا ولا مهربًا،
٧٦ - ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة.. أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا﴾ بالإيمان ﴿هُدًى﴾ بالإخلاص وبالعبادات المتفوعة على الإيمان، وبالثواب على ذلك الإيمان، وهذا كلام (١) مستأنف سيق لبيان حال المهتدين، إثر بيان حال الضالين؛ أي: ويزيد الله سبحانه وتعالى المؤمنين إيمانًا، وعملاً ويقينًا ورشدًا، كما زاد الضالين ضلالًا، ومدهم في استدراجهم، وذلك أن بعض الهدى يجر إلى البعض الآخر، والخير يدعو إلى الخير.
والمعنى: أي (٢) ويزيد الله الذين اهتدوا إلى الإيمان هدىً بما ينزل عليهم من الآيات عوضًا مما منعوا من زينة الدنيا، كرامةً لهم من ربهم، كما بسط للضالين فيها لهوانهم عليه.
ومجمل هذا: أن من كان في الضلالة من الفريقين.. يمهله الله، وينفس له في حياته، ليزداد في الإثم والغي، ويجمع له عذاب الدارين، ومن كان في الهداية منهما.. يزيد الله في هدايته، ويجمع له خيري السعادتين.
﴿وَالْبَاقِيَاتُ﴾؛ أي: والأذكار التي يبقى ثوابها لصاحبها أبد الآباد والأعمال ﴿الصَّالِحَاتُ﴾ التي تبقى عائدتها أبدًا ﴿خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ يا محمد ﴿ثَوَابًا﴾؛ أي: جزاءً مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية التي يفتخرون بها ﴿وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾؛ أي: مرجعًا وعاقبةً؛ لأن مآلها رضوان الله، والنعيم الدائم، ومآل هذه السخط والعذاب المقيم، والتفضيل (٣): للتهكم بهم، للقطع بأن أعمال الكفار لا خير فيها أصلًا والمرد هنا: مصدر كالرد، والمعنى: خير ردًا للثواب على عامليها، فليست
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
كأعمال الكفار التي خسروها. فبطلت، ذكره ابن الجوزي.
واعلم: أن الباقيات الصالحات هي أعمال الآخرة كلها، ومنها الكلمات الطيبة، قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: جلس رسول الله - ﷺ - ذات يوم وأخذ عودًا يابسًا، وأزال الورق عنه ثم قال: "إن قول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ليحط الخطايا كما يحط ورق هذه الشجرة الريح، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، فهن الباقيات الصالحات، وهي من كنوز الجنة".
والمعنى: أي (١) والطاعات التي بها تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، وتصل إلى القرب من الله، وقيل رضوانه خير عند ربك منفعةً وعاقبةً مما متع به أولئك الكفرة من النعم الفانية، التي يفخرون بها من مالٍ وولدٍ وجاهٍ ومنافعَ تحصل منها، فإن عاقبة الأولين السعادة الأبدية، وعاقبة أولئك الحسرة الدائمة، والعذاب المقيم.
وخلاصة هذا: أن الطاعات التي يبقى ثوابها لأهلها، خير عند ربهم جزاءً وخير عاقبةً من مقامات هؤلاء المشركين بالله، وأنديتهم التي يفخرون بها على أهل الإيمان في الدنيا،
٧٧ - ثم أردف سبحانه مقالة أولئك المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ (الهمزة) فيه (٢) للاستفهام التعجبي من حاله، والإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يجب أن يُرى ويقضى منها العجب داخلة على محذوف و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا التي من جملتها آيات البعث ﴿وَقَالَ﴾ مستهزئًا بها مصدرًا كلامه باليمين والله ﴿لَأُوتَيَنَّ﴾؛ أي: لأعطين في الآخرة إن بعثت ﴿مَالًا وَوَلَدًا﴾؛ أي: انظر إليه يا محمد فتعجب من حالته البديعة، وجراءَته الشنيعة، والغرض من هذا الاستفهام: التعجيب، فكأنه (٣) قال: تعجب يا محمد
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الفتوحات.
من قصة هذا الكافر، ومن مقالته المذكورة، وعطف هذه الجملة بالفاء إيذانًا بإفادة التعقيب، كأنه قيل: أخبر أيضًا بقصة هذا الكافر عقب قصة أولئك، وهذا الكافر هو العاص بن وائل، أبو سيدنا عمرو بن العاص، فهو جد عبد الله بن عمرو، أحد العبادلة المشهورة، كما مر في أسباب النزول.
وأرأيت بمعنى: أخبرنني كما قد عرفته، والموصول هو المفعول الأول والثاني هو الجملة الاستفهامية من قوله ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ﴾ و ﴿لَأُوتَيَنَّ﴾: جواب قسم محذوف، والجملة القسمية كأنها في محل نصب بالقول. اهـ شيخنا.
٧٨ - والاستفهام في قوله: ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ﴾ للإنكار، وأصله: أاطلع من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه، وطلع الثنية، فحذفت همزة الوصل وبقيت همزة الاستفهام المفتوحة؛ أي: أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة.
والمعنى: أقد بلغ من عظمة الشأن، إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به العلم الخبير، حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالًا وولدًا، وأقسم عليه ﴿أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ على ذلك؛ أي: أو اتخذ من عالم الغيب عهدًا بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين: علم الغيب، وعهد من عالمه، وقيل، العهد (١): كلمة الشهادة والعمل الصالح، فإن وعد الله بالثواب عليهما كالعهد الموثق عليه فمعنى ﴿أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾؛ أي: أم قال: لا إله إلا الله فأرحمه بها، أو أم قدم عملًا صالحًا فهو يرجوه، وقيل: المعنى انظر في اللوح المحفوظ ﴿أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾.
وقرأ الجمهور (٢)، وابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عامر: ﴿وَلَدًا﴾ أربعتهن هنا وفي الزخرف ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ﴾ بفتح الواو واللام، ويأتي الخلاف في الذي في نوح ﴿لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ﴾ وقرأ حمزة، والكسائي، وابن أبي ليلى، وابن عيسى الأصبهاني: بضم الواو وإسكان اللام، وقال الفراء: وهما لغتان كالعدم والعدم، والعرب والعرب، وليس بجمع وقيل: يجعل الولد
(١) الشوكاني مع روح البيان.
(٢) البحر المحيط زاد المسير.
بالضم جمعًا، والولد بالفتح واحدًا.
فعلى قراءة الجمهور (١): يكون المعنى على الجنس، لا ملحوظًا فيه الإفراد، وإن كان مفرد اللفظ، وعلى قراءة غيرهم، فقيل: هو جمع كأَسَدْ وأُسْد، واحتج قائل ذلك بقول الشاعر:
وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرَاً قَدْ ثَمَّرُوْا مَالًا وَوُلْدا
وقيل: هو مرادف للولد بالفتحتين، واحتجوا بقوله:
فَلَيْتَ فُلاَنَاً كَانَ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ وَلَيْتَ فُلاَنَاً كَانْ وَلَدَ حِمَارِ
وقرأ عبد الله، ويحيى بن يعمر: بكسر الواو وسكون اللام، والهمزة: في ﴿أَطَّلَعَ﴾ للاستفهام ولذلك عادلتها ﴿أَمِ﴾ وقرىء: بكسر الهمزة في الإبتداء وحذفها في الوصل، على تقدير: حذف همزة الاستفهام لدلالة ﴿أَمِ﴾ عليها كقوله:
بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ
يريد أبسبعٍ.
وقصارى ذلك: أوقد بلغ من عظم شأنه، أن ارتقى إلى علم الغيب الذي انفرد به الواحد القهار، أم أعطاه الله عهدًا موثقًا، وقال له: إن ذلك كائن لا محالة،
٧٩ - ثم زاد في تأكيد خطئه وهدده بقوله: ﴿كَلَّا﴾ حرف ردع وزجر؛ أي: ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والولد، ويجوز (٢) أن يكون معنى ﴿كَلَّا﴾؛ أي: إنه لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الله عهدًا ﴿سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾؛ أي: سنأمر الحفظة بإثبات قوله، لنجازيه به، أو سنحفظ عليه ما يقوله من الكذب والكفر والاستهزاء، فنجازيه في الآخرة، أو سنظهر ما يقول، أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾؛ أي: نزيده من العذاب عذابًا فوق عذابه، مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد، أو
(١) البحر المحيط.
(٢) زاد المسير.
نطوِّل (١) له من العذاب ما يستحقه، ونضاعفه له جزاء كفره وافترائه على الله تعالى، وأستهزائه بآياته، أو نجعل له بعض العذاب إثر بعض
٨٠ - ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُول﴾ إنه له (٢) في الجنة، فنجعله لغيره من المسلمين، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، أو نرث ما عنده من المال والولد، بإهلاكنا إياه، وإبطال ملكه، وهو مري عن ابن عباس أيضًا، وبه قال قتادة، قال الزجاج: المعنى سنسلبه المال والولد، ونجعله لغيره ﴿وَيَأْتِينَا﴾ يوم القيامة ﴿فَرْدًا﴾ وحيدًا خاليًا لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا، فضلًا أن يؤتى ثمة زائدًا، وقيل: المعنى نحرمه ما تمناه من المال والولد، ونعطيه لغيره.
وفي الآية: إشارة إلى أن (٣) أهل الغرور يدعون الإحراز للفضيلتين: المال والولد في الدنيا، والنجاة والدرجات في الآخرة، وينكرون على أهل التجرد في الإعراض عن الكسب، واعتزال النساء والأولاد، ولا يدرون أنهم يقعون بذلك في عذاب البعد، إذ لا سند لهم أصلًا.
وقرأ أبو نهيك: ﴿كلاً﴾ بالتنوين فيهما هنا، وهو مصدر من كل السيف كلاً إذا نبا عن الضرب، وأنتصابه على إضمار فعل من لفظه، تقديره: كلوا كلاً عن عبادة الله، أو عن الحق ونحو ذلك.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿سَنَكْتُبُ﴾ بالنون، والأعمش: بياءٍ مضمومةٍ والتاء مفتوحة مبنيًا للمفعول، وذكرت عن عاصم، وقرأ أبو (٥) العالية الرياحي، وأبو رجاء العطاردي: ﴿سيكتب﴾ ﴿ويرثه﴾ بياء مفتوحة، وقرأ علي بن أبي طالب ﴿ونمد له﴾ يقال مده وأمده بمعنًى.
٨١ - ﴿وَاتَّخَذُوا﴾؛ أي: واتخذ مشركوا مكة ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً﴾؛ أي: اتخذوا الأصنام آلهةً متجاوزين الله تعالى ﴿لِيَكُونُوا﴾؛ أي: ليكون الأصنام ﴿لَهُمْ﴾؛ أي:
(١) المراح.
(٢) زاد المسير.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
(٥) زاد المسير.
للمشركين ﴿عِزًّا﴾؛ أي: منعةً؛ أي: ليكون الأصنام مانعين لهم من عذاب الله تعالى؛ أي: ليتعززوا بهم، بأن يكونوا لهم وصلةً إليه تعالى، وشفعاء عنده، وأنصارًا ينجون بهم من عذاب الله تعالى.
قال بعضهم (١): كيف تظفر بالعز وأنت تطلبه في محل الذل ومكانه، إذ ذللت نفسك بسؤال الخلق، ولو كنت موفقاً لأعززت نفسك بسؤال الحق، أو بذكره، أو بالرضى لما يرد عليك منه، فتكون عزيزًا في كل حال: دنيا وآخرة.
٨٢ - ﴿كَلَّا﴾؛ أي: ليس الأمر على ما ظنوا ﴿سَيَكْفُرُونَ﴾؛ أي: سيكفر الكفرة، وينكرون حين شاهدوا سوء عاقبة كفرهم، وينكرون ﴿بِعِبَادَتِهِمْ﴾؛ أي: بعبادة الكفرة للأصنام ﴿وَيَكُونُونَ﴾؛ أي: ويكون الكفرة ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على الأصنام ﴿ضِدًّا﴾؛ أي: أعداءً؛ أي: ويكون المشركون أعداءً لآلهتهم، كافرين بعبادتها، بعد أن كانوا يحبونها كحب الله ويعبدونها.
والمعنى عليه: فيكون المشركون للآلهة ضدًا وأعداءً يكفرون بها، بعد أن كانوا يحبونها ويؤمنون، ويصح أن يكون الضمير في ﴿يكفرون﴾ ﴿وَيَكُونُونَ﴾ للآلهة والمعنى حينئذٍ ﴿كَلَّا سَيَكْفُرُونَ﴾؛ أي: سيجحد الأصنام ﴿بِعِبَادَتِهِمْ﴾؛ أي: بعبادة المشركين لها بأن ينطقها الله تعالى وتقول ما عبدتمونا ﴿وَيَكُونُونَ﴾؛ أي: وتكون الأوثان التي يرجون أن تكون لهم منعةً من العذاب ﴿ضِدًّا﴾؛ أي: أعداءً وأعوانًا بالعذاب، فإنهم وقود النار، ولأنهم عذبوا بسبب عبادتهم، وذلك أن الله تعالى يحشر آلهتهم، فينطقهم ويركب فيهم العقول، فتقول: يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك، أو المعنى عليه وتكون هذه الآلهة التي ظنوها عزًا لهم، ضدًا عليهم؛ أي: ضدًا للعز وضد العز الذل، وقرأ ابن أبي نهيك ﴿كلاً﴾ بالتنوبن وروى عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها، فعلى الضم هي بمعنى جميعًا، وانتصابها بفعل مضمر، كأنه قال: سيكفرون كلاً سيكفرون بعبادتهم، وعلى الفتح يكون مصدرًا لفعل محذوف تقديره كل هذا الرأي ﴿كلا﴾ وقراءة الجمهور: هي الصواب وهي حرف ردع وزجر، ذكره الشوكاني،
٨٣ - وبعد أن ذكر سبحانه ما لهؤلاء
(١) روح البيان.
الكفار مع آلهتهم في الآخرة.. ذكر مالهم مع الشياطين في الدنيا، وأنهم يتولونهم وينقادون لهم فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾؛ أي: ألم تعلم يا محمد ﴿أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ﴾؛ أي: سلطنا الشياطين ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ ومكناهم من إضلالهم بسبب سوء اختيارهم، حال كون تلك الشياطين ﴿تَؤُزُّهُمْ﴾؛ أي: تؤز الكافرين وتغريهم وتهيجهم على المعاصي ﴿أَزًّا﴾؛ أي: تهييجًا شديدًا. بأنواع الوساوس والتسويلات، فإن الأز والهز والاستفزاز أخوات، معناها: شدة الإزعاج وفي "العيون" الإز في الأصل: هو الحركة مع صوتٍ متصل من أزيز القدر؛ أي: غليانه.
والمعنى (١): تحثهم وتحرضهم على المعاصي تحريضًا شديدًا وفي الآية دليل على أن الله تعالى مدبر لجميع الكائنات.
وخلاصة ما سلف (٢): تعجيب رسوله محمد - ﷺ - مما حكته الآيات السالفة عن هؤلاء الكفرة، من تماديهم في الغي، وانهماكهم في الضلال، وتصميمهم على الكفر، بدون راعٍ ولا زاجرٍ، ومدافعتهم للحق مع وضوحه، وتنبيه له إلى أن ذلك إنما كان بإضلال الشياطين وإغوائهم، لا لقصور في التبليغ، وفي هذا تسلية للرسول - ﷺ - وتهوين للأمر على نفسه
٨٤ - ﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: فلا تستعجل يا محمد بطلب العقوبة عليهم حسبما تقتضيه جناياتهم، حتى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم، وتطهر الأرض من فسادهم، يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه، ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ﴾ أيام آجالهم ﴿عَدًّا﴾؛ أي: لا تعجل بهلاكهم فإنه لم يبق لهم إلا أيام محصورة، وأنفاس معدودة، فنجازيهم بها؛ أي (٣): نعد لهم الليالي والأيام والشهور والأعوام، وقيل: الأنفاس التي يتنفسونها في الدنيا، إلى الأجل الذي أجل لعذابهم، وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - إذا قرأها.. بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك، أنه كان عند
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
المأمون، فقرأ الآية، ثم قال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد:
إِنَّ الْحَبِيْبَ مِنَ الأَحْبَابِ مُخْتَلَسُ لاَ يَمْنَعُ الْمَوْتَ بَوَّابٌ وَلاَ حَرَسُ
وَكَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا فَتَىً يُعَدُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَالنَّفَسُ
والعد هنا: كناية عن القلة، ولا ينافي هذا ما مر من أنه يمد لمن كان في الضلالة؛ أي: يطول لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم، وهو قليل باعتبار عاقبته وعند العد. اهـ "شهاب".
٨٥ - ثم لما قرر سبحانه أمر الحشر، وأجاب عن شبهة منكريه.. أراد أن يشرح حال المكلفين حينئذٍ فقال: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ﴾ الظرف منصوب بفعل مقدر؛ أي: اذكر يا محمد لقومك بطريق الترغيب والترهيب، يوم يجمع أهل التقوى والطاعة ﴿إِلَى الرَّحْمَنِ﴾؛ أي: إلى ربهم الذي يغمرهم برحمته الواسعة، حال كونهم ﴿وَفْدًا﴾؛ أي: وافدين عليه، كما يفد الوفود على الملوك راكبين منتظرين لكرامتهم وإنعامهم، والوافد من يأتي بالخير، والوفد جمع وافد كريب جمع راكب، ومعنى (١) حشرهم إلى الرحمن: حشرهم إلى جنته ودار كرامته، كقوله: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ وفي "التأوبلات النجمية" إنما خص حشر وفد المتقين إلى حضرة الرحمانية؛ لأنها من صفات اللطف، ومن شأنها الجود والإنعام، والفضل والكرم، والتقريب والمواهب. انتهى.
٨٦ - ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: الكافرين والعاصين بكفرهم ومعاصيهم ﴿إِلَى جَهَنَّمَ﴾ كما تساق البهائم حالة كونهم ﴿وِرْدًا﴾؛ أي: مشاةً عطاشًا، قد تقطعت أعناقهم من العطش، وقرأ الحسن (٢)، والجحدري ﴿يحشر المتقون﴾ ﴿ويساق المجرمون﴾ مبنيًا للمفعول.
٨٧ - وجملة قوله: ﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ﴾: مستأنفة لبيان بعض ما يكون في ذلك اليوم من الأمور، والضمير فيه: إما راجع إلى المتقين خاصةً، ويكون حينئذ معنى
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
العهد في قوله: ﴿إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ الإذن في الشفاعة والمعنى؛ أي: لا يملك أحد من المتقين أيًا كان أن يشفع للعصاة، إلا من اتخذ من الله إذنًا في الشفاعة، كقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ فالشفاعة على هذا مصدر من المبني للفاعل، وإما راجع إلى المجرمين خاصةً، ويكون حينئذٍ معنى العهد الإيمان والإِسلام، والشفاعة: مصدر من المبني للمفعول، والمعنى لا يملك المجرمون؛ أي: لا يستحق المجرمون أن يشفع لهم إلا من اتخذ عند الرحمن إيمانًا؛ أي: إلا من كان منهم مسلمًا مؤمنًا؛ أي: لا يستحق (١) هؤلاء المجرمون أن يشفع لهم غيرهم، إلا من اتخذ كلمة الشهادة بالتوحيد والنبوة، ولو كانوا أهل الكبائر، وروى ابن مسعود أنه - ﷺ - قال لأصحابه ذات يوم: "أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدًا؟ " قالوا: وكيف ذلك؟ قال: "يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدًا عبدك ورسولك، فإنك إن تكلني إلى نفسي.. تقربني من الشر، وتبعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لى عهدًا توفينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع، ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة.. نادى منادٍ أين الذين لهم عند الرحمن عهد؟ فيدخلون الجنة" أخرجه الطبراني، والحاكم وصححه غيرهما.
ويحتمل عود الضمير في ﴿يَمْلِكُونَ﴾ إلى الفريقين جميعًا، وهو أولى، والمعنى حينئذ؛ أي: لا يملك الفريقان المذكوران الشفاعة إلا من استعد لذلك بما يصير به من جملة الشافعين لغيرهم، أو المشفوعين بأن يكون مؤمنًا تقيًا، فهذا معنى اتخاذ العهد عند الله تعالى
٨٨ - ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: قال الكافرون ﴿اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا﴾؛ أي: قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات الله، وهذه الجملة مستأنفة، وقرأ يحيى (٢) بن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي ﴿ولدًا﴾ بضم الواو وإسكان اللام، وقرأ
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
الباقون في الأربعة المواضع المذكورة في هذه السورة بفتح الواو واللام، وقد قدمنا الفرق بين القراءتين.
٨٩ - فقال الله تعالى وعزتي وجلالي ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ﴾ أيها القائلون بمقالكم هذا ﴿شَيْئًا إِدًّا﴾؛ أي (١): شيئًا منكرًا عظيمًا يدل على الجرأة على الله، وكمال القِحَةِ عليه سبحانه، وإنه ليغضبه أشد الغضب، ويسخطه أعظم السخط، والإد (٢) والإدة بكسرهما: العجب والأمر الفظيع، والداهية والمنكر كالأد بالفتح، كما في "القاموس" أي: فعلتم أمرًا منكرًا شديدًا لا يقادر قدره، فإن جاء وأتى يستعملان بمعنى فعل فيعديان تعديته.
وقرأ الجمهور: ﴿إِدًّا﴾ بكسر الهمزة، وعلي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن: بفتحها، وقرأ ابن عباس، وأبو العالية ﴿إِدًّا﴾ مثل مادا.
٩٠ - ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ﴾؛ أي: تقرب السموات السبع من أن ﴿يَتَفَطَّرْنَ﴾ ويتشققن مرةً بعد أخرى ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من قولهم اتخذ الرحمن ولدًا ﴿وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ﴾؛ أي: وتكاد الأرض أن تنشق وتنصدع أجزاؤها، وتنخسف بهم من ذلك القول ﴿وَتَخِرُّ الْجِبَالُ﴾؛ أي: وتكاد الجبال أن تخر وتسقط منطبقةً عليهم، وتهد ﴿هَدًّا﴾؛ أي: تسقط سقوطًا، وتنهدم هدمًا، وتنكسر كسرًا من ذلك القول، والهد: الهدم الشديد، والكسر كالهدود، كما في "القاموس" فهو (٣) مصدر مؤكد لمحذوف هو حال من الجبال.
والمعنى: إن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها، بحيث لو تصورت بصورة محسوسة، لم تطق بها هاتيك الأجرام العظام، وتفتتت من شدتها، أو إن فظاعتها في استجلاب الغضب واستيجاب السخط، بحيث لولا حلمه تعالى على أهل الأرض، وأنه لا يعاجلهم بالعقاب، لخرب العالم، وبدد قوائمه غضبًا على من تفوَّه بها.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
روي عن ابن عباس أنه قال: إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال، وجميع الخلائق، إلا الثقلين، وكادت تزول منه لعظمة الله وكماله.
وقرأ ابن كثير (١)، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: ﴿تَكَادُ﴾ بالتاء الفوقية وقرأ نافع، والكسائي: ﴿يكاد﴾ بالياء التحتية، وقرأ جميعًا ﴿يَتَفَطَّرْنَ﴾ بالياء والتاء مشددة الطاء، ووافقهما ابن كثير، وحفص عن عاصم، في ﴿يَتَفَطَّرْنَ﴾ وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: ﴿ينفطرن﴾ بالنون، وقرأ حمزة، وابن عامر في مريم: مثل أبي عمرو، وفي الشورى مثل ابن كثير، ومعنى ﴿يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾: يقاربن الانشقاق من قولهم. قال ابن قتيبة: وقوله تعالى: ﴿هَدًّا﴾؛ أي: سقوطًا.
٩١ - وقوله من: ﴿أَنْ دَعَوْا﴾ وسموا ونسبوا ﴿لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾؛ أي: من نسبتهم الولد للرحمن، بدل (٢) من الهاء في منه السابق في ﴿يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ أو منصوب (٣) بحذف اللام المتعلقة بـ ﴿تكاد﴾ أو مجرور بإضمارها؛ أي: تكاد السموات تتفطرن، والأرض تنشق، والجبال تخر؛ لأن دعوا له سبحانه ولدًا ودعوا من دعا، بمعنى سمى المتعدي إلى المفعولين، وقد اقتصر على ثانيهما، ليتناول كل ما دعي له من عيسى، وعزير، والملائكة، ونحوهم، إذ لو قيل دعوا، عيسى ولدًا.. لما علم الحكم على العموم، أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ادعى إلى فلان؛ أي: انتسب إليه،
٩٢ - وقوله: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (٩٢)﴾؛ أي: ما يصلح له (٤)، ولا يليق به اتخاذ الولد؛ لأن الولد يقتضي مجانسةً، وكل متخذ ولدًا يتخذه من جنسه، والله تعالى منزه عن أن يجانس شيئًا، أو يجانسه شيء، فمحال في حقه اتخاذ الولد، حال (٥) من فاعل ﴿قَالُوا﴾ وينبغي مضارع بغى: إذا طلب؛ أي: قالوا اتخذ الله ولدًا، والحال أنه ما يليق به - تعالى - اتخاذ الولد، ولا يتطلب له لو طلب مثلاً لاستحالته في نفسه، وذلك لأن الولد بضعة من الوالد، فهو مركب
(١) زاد المسير.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
(٤) زاد المسير.
(٥) روح البيان.
ولا بد للمركب من مؤلف، فالمحتاج إلى المؤلف لا يصلح أن يكون إلهًا
٩٣ - ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: ما كل من في السموات والأرض من الملائكة والثقلين وغيرهم ﴿إِلَّا﴾ وهو ﴿آتِي الرَّحْمَنِ﴾ سبحانه يوم القيامة حال كونه ﴿عَبْدًا﴾، أي: مقرًا بالعبودية، خاضعًا ذليلًا، كما قال ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِين﴾؛ أي: صاغرين، والمعنى: أن الخلق كلهم عبيده، فكيف يكون واحد منهم ولدًا له، فـ ﴿إن﴾ (١) نافية بمعنى ما و ﴿كُلِّ﴾: مبتدأ خبره ﴿ءَاتىِ﴾ و ﴿مِن﴾، موصوفة؛ لأنها وقعت بعد كل نكرة، وفي "العيون"، سيأتي جميع الخلائق يوم القيامة إلى الرحمن خاضعًا ذليلًا مقرًا بالعبودية، كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم؟ يعني: يلتجئون إلى ربوبيته، منقادين، كما يفعل العبيد للملوك، فلا يليق به اتخاذ الولد منهم. انتهى.
وقرأ عبد الله، وابن الزبير، وأبو حيوة، وطلحة، وأبو بحرية، وابن أبي عبلة، ويعقوب: ﴿إلا آت﴾ بالتنوين ﴿الرحمن﴾ بالنصب، والجمهور: بالإضافة، وتكرر لفظ ﴿الرَّحْمَنِ﴾ تنبيهًا على أنه لا يستحق هذا الاسم غيره، إذ أصول النعم وفروعها منه.
٩٤ - وعزتي وجلالي ﴿لَقَدْ أَحْصَاهُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى؛ أي: لقد أحصى الله جملة الخلائق، وحصرهم وأحاط بهم علمًا، بحيث لا يكاد يخرج منهم أحد من حيطة علمه، وقبضة قدرته، وملكوته، مع إفراط كثرتهم، فهم تحت أمره وتدبيره، يعلم ما خفي من أحوالهم، وما ظهر، لا يفوته شيء منها ﴿وَعَدَّهُمْ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: وعد أشخاصهم وأنفاسهم، وأفعالهم وأقوالهم وآجالهم، فكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة
٩٥ - ﴿وَكُلُّهُمْ﴾؛ أي: وكل امرىءٍ من الخلائق ﴿آتِيهِ﴾؛ أي: يأتيه سبحانه وتعالى ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ أي: آتٍ إياه سبحانه ﴿فَرْدًا﴾ وحيدًا يوم القيامة، منفردًا عن الأهالي والأموال والأولاد، وعن الاتباع والأنصار، منقطعًا إليه تعالى، محتاجًا إلى معونته ورحمته، فلا يجانسه شيء من ذلك، ليتخذه ولدًا، ولا يناسبه ليشرك به.
٩٦ - ولما ذكر سبحانه إتيان كل من في السموات وفي الأرض في حال العبودية
(١) روح البيان.
والانفراد.. آنس المؤمنين بأنه سيجعل لهم في ذلك اليوم ﴿وُدًّا﴾ فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وصدقوا برسله، وبما جاؤوهم به من عنده ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾، أي: محبة الناس لهم في الدنيا؛ أي: سيحدث لهم في القلوب محبةً من غير تعرض منهم لأسبابها، من قرابةٍ أو صداقةٍ أو اصطناع معروفٍ أو غير ذلك، سوى ما لهم من الإيمان والعمل الصالح، تخصيصًا لأوليائه بهذه الكرامة، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب، إعظاماً لهم؛ أي: إن الله تعالى وعدهم أن يؤلف بين قلوبهم في الدنيا إذا ظهر الإِسلام، وأن يحببهم إلى خلقه يوم القيامة بما يظهر من حسناتهم، وينشر من ديوان أعمالهم على رؤوس الأشهاد، والسين: إما لأن السورة مكية، وكان المؤمنون حينئذٍ ممقوتين بين الكفرة، فوعدهم الله ذلك إذا قوي الإِسلام، وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم الله إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وُدًّا﴾ بضم الواو وقرأ أبو الحارث الحنفي: بفتحها وقرأ جناح بن حبيش، ﴿وداً﴾ بكسر الواو،
٩٧ - ثم ذكر سبحانه تعظيم القرآن، خصوصًا هذه السورة، لاشتمالها على التوحيد والنبوة، وبيان حال المعاندين فقال: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ﴾؛ أي: فإنما سهلنا هذا القرآن ﴿بِلِسَانِكَ﴾؛ أي: إنزاله على لغتك (٢) (والباء): بمعنى (على) و (الفاء): لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم، كأنه قيل بعد إيحاء السورة الكريمة: بلِّغ هذا المنزل، وبشر به وأنذر، وإنما يسرناه بلسانك العربي المبين، ثم علل ما ذكره من التيسير فقال: ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ﴾؛ أي: بهذا القرآن ﴿الْمُتَّقِينَ﴾ بالجنة؛ أي: المتلبسين بالتقوى، المتصفين بها، أو الصائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهي ﴿وَتُنْذِرَ بِهِ﴾؛ أي: ولتخوف بهذا القرآن ﴿قَوْمًا لُدًّا﴾؛ أي: شديدي الخصومة، لا يؤمنون به لجاجًا وعنادًا بالعذاب، يقال: أنذره بالأمر إنذاراً، أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه، كما في "القاموس" واللد: جمع الألد وهو الشديد الخصومة، اللجوج المعاند،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
وفي "القاموس"، الألد: الخصم الشحيح، الذي لا يزيغ إلى الحق، وفي الحديث "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
والمعنى (١): أي فإنما سهلنا نزول القرآن بلغتك العربية، لتقرأه على الناس، وتبشر به من اتقى عقاب الله، فأدى فرائضه، واجتنب نواهيه، بأن له الجنة، وتنذر به من عصاه من قريش بالعذاب، وهم أهل اللدد والجدل بالهوى، ممن لا يقبل حقًا، ولا يحيد عن باطل، ولو أنزلناه بغيرها لم يتيسر التبشير به ولا الإنذار، لعدم فهم المخاطبين لغيرها.
وقصارى ذلك: بلَّغ هذا المنزل، وبشر به وأنذر، فإنما أنزلناه بلسانك العربي المبين، ليسهل على الناس حفظه،
٩٨ - ثم ختم السورة بتلك العظة البالغة فقال: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾؛ أي: وكثيرًا من الأمم الماضية، والقرون الخالية، قد أهلكنا قبل هؤلاء اللد المعاندين لك، حين سلكوا في خلاف مسلك هؤلاء، وركبوا معاصي فـ ﴿هَلْ تُحِسُّ﴾ وتجد يا محمد ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من أولئك القرون ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾؛ أي: هل تجد أحدًا منهم فتراه وتعاينه ﴿أَوْ﴾ هل ﴿تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾؛ أي: صوتًا خفيًا، لا أنهم بادوا، وخلت منهم الديار، وأقفرت المنازل، وصاروا إلى دار لا ينفع فيها إلا صالح العمل، وإن قومك لصائرون إلى مثل ما صاروا إليه إن لم يعاجلوا التوبة قبل الهلاك، والاستفهام فيه إنكاري كما أشرنا إليه آنفًا في الحل.
والمعنى: استأصلناهم بالكلية، بحيث لا يُرى منهم أحد، ولا يُسمع لهم صوت خفي، كما في "أبي السعود".
وفي هذا وعد لرسول الله - ﷺ - بالنصر والغلبة على هؤلاء المشركين، ووعيد لأولئك الكافرين الجاحدين، وحث له على التبشير والإنذار.
وقصارى ذلك: أنا أهلكناهم فلم نبق منهم أحدًا تراه، ولا تسمع له صوتًا خفيًا ولا ظاهرًا.
(١) المراغي.
229
وقرأ الجمهور: ﴿هَلْ تُحِسُّ﴾ بضم التاء وكسر الحاء، مضارع أحس الرباعي، وقرأ أبو حيوة، وأبو بحرية، وابن أبي عبلة، وأبو جعفر المدني: ﴿تُحِسُّ﴾ بفتح التاء وضم الحاء، وقرأ بعضهم: ﴿تحس﴾ بفتح التاء وكسر الحاء، من حسه إذا شعر به، ومنه الحواس الخمس والمحسوسات، وقرأ حنظلة: ﴿أو تسمع﴾ مضارع أسمعت: مبنيًا للمفعول.
وختم الله تعالى هذه السورة بموعظة بليغة، لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا، ومن الانتهاء إلى الموت.. خافوا ذلك وخافوا سوء العاقبة في الآخرة، فكانوا أقرب إلى الحذر من المعاصي.
الإعراب
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ الواو: استئنافية ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿تُتْلَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿تُتْلَى﴾ ﴿آيَاتُنَا﴾: نائب فاعل ﴿بَيِّنَاتٍ﴾: حال من ﴿آيَاتُنَا﴾: والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل والجملة: جواب ﴿وَإِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾: مستأنفة ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَالَ﴾ ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿أَيُّ﴾: استفهامية مبتدأ ﴿الْفَرِيقَيْنِ﴾ مضاف إليه ﴿خَيْرٌ﴾ خبر والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَقَامًا﴾ تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل ﴿وَأَحْسَنُ﴾: معطوف على ﴿خَيْرٌ﴾. ﴿نَدِيًّا﴾ تمييز منصوب به.
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (٧٤)﴾
﴿وَكَمْ﴾ الواو: استئنافية ﴿كم﴾: خبرية بمعنى عدد كثير في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا لـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾: مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا
230
﴿أَهْلَكْنَا﴾: فعل وفاعل والجملة: مستأنفة ﴿قَبْلَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾ ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾: تمييز غير صريح لـ ﴿كم﴾ لجره بـ ﴿مِنْ﴾ الزائدة لأن تمييز ﴿كم﴾ الخبرية كثيرًا ما يكون مجروراً بـ ﴿من﴾. ﴿هُمْ أَحْسَن﴾: مبتدأ وخبر والجملة: في محل الجر صفة لـ ﴿قَرْنٍ﴾ وليست صفةً لـ ﴿كم﴾ كما قيل لأن كم استفهاميةً أو خبريةً لا توصف ولا يوصف بها ﴿أَثَاثًا﴾: تمييز محول عن المتبدأ منصوب باسم التفضيل ﴿وَرِئْيًا﴾: معطوف على ﴿أَثَاثًا﴾.
﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (٧٥)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة: مستأنفة ﴿من﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ والخبر: جملة الشرط، أو الجواب أو هما ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ واسمها ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿فِي الضَّلَالَةِ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾ (الفاء): رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا (اللام) لام الأمر ﴿يمدد﴾ فعل مضارع مجزوم بلام الأمر ﴿لَهُ﴾ متعلق به ﴿الرَّحْمَنُ﴾ فاعل ﴿مَدًّا﴾ مفعول مطلق وجملة: ﴿يمدد﴾ في محل الجزم بمن على كونها جواب الشرط لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية وقيل ﴿حَتَّى﴾: هنا ابتدائية؛ أي: تبدأ بعدها الجمل قال الشهاب في "حاشيته" على "البيضاوي" و ﴿حَتَّى﴾: هنا حرف ابتداء، أي: تبدأ بعدها الجمل؛ أي: تستأنف، فليست جارة ولا عاطفة، وهكذا حيث دخلت على إذا الشرطية عند الجمهور. اهـ وفي "زكريا" أنها جارة، والمعنى: فيستمرون في الطغيان إلى أن يشاهدوا الموعود. اهـ ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿رَأَوْا﴾ فعل وفاعل ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به لأن رأى هنا بصرية، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف: متعلق بالجواب الآتي ﴿يُوعَدُونَ﴾: فعل ونائب فاعل صلة الموصول أو صلة لـ ﴿مَا﴾ والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يوعدونه ﴿إِمَّا﴾: حرف تفصيل وهي مانعة خلوّ تجوز الجمع ﴿الْعَذَابَ﴾: بدل من ﴿مَا﴾ الموصولة بدل تفصيل من مجمل ﴿وَإِمَّا السَّاعَةَ﴾: معطوفة على ﴿إِمَّا الْعَذَابَ﴾
231
﴿فَسَيَعْلَمُونَ﴾ (الفاء): رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾ وجوبًا لاقترانه بحرف التنفيس ﴿يعلمون﴾: فعل وفاعل والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾: مستأنفة لأن ﴿حَتَّى﴾ ابتدائية أو في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ و ﴿حَتَّى﴾: متعلقة بـ ﴿يمدد﴾ والتقدير: فيمدد لهم الرحمن مدًا إلى علمهم ﴿مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾ وقت رؤيتهم ما يوعدون ﴿مَنْ﴾، اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ ﴿يعلمون﴾: لأن علم هنا بمعنى عرف ﴿هُوَ شَرٌّ﴾ مبتدأ وخبر، ويجوز أن تكون من استفهاميةً في محل الرفع، مبتدأ أول و ﴿هُوَ﴾: مبتدأ ثان و ﴿شَرٌّ﴾ خبر المبتدأ الثاني و ﴿هُوَ﴾ وخبره خبر ﴿مَنْ﴾ وجملة ﴿مَنْ﴾ في محل النصب بـ ﴿يعلمون﴾ على أنها معلقة لها ﴿مَكَانًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل ﴿وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾: معطوف على ﴿شَرٌّ مَكَانًا﴾.
﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧)﴾.
﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة: مستأنفة ﴿اهْتَدَوْا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿هُدًى﴾ تمييز أو مفعول ثان للفعل ﴿يزيد﴾ ﴿وَالْبَاقِيَاتُ﴾: مبتدأ ﴿الصَّالِحَاتُ﴾: صفة للمبتدأ ﴿خَيْرٌ﴾ خبر ﴿الباقيات﴾ والجملة: مستأنفة ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾. ﴿ثَوَابًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ منصوب بـ ﴿خَيْرٌ﴾ ﴿وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾ معطوف على ﴿خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا﴾ ﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ الهمزة: للاستفهام التعجبي داخلة على محذوف و ﴿الفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف والتقدير: أنظرت فرأيت ﴿رأيت﴾. فعل وفاعل بمعنى أخبرني يتعدى لمفعولين ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ ﴿رأيت﴾ وجملة ﴿رأيت﴾: معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة: مستأنفة ﴿كَفَرَ﴾: فعل وفاعل مستتر ﴿بِآيَاتِنَا﴾: متعلق به، والجملة: صلة الموصول ﴿وَقَالَ﴾: فعل وفاعل مستتر معطوف على ﴿كَفَرَ﴾ ﴿لَأُوتَيَنَّ﴾ اللام: موطئة للقسم ﴿أوتين﴾ فعل مضارع مغير الصيغة في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنيون التوكيد الثقيلة ونائب فاعله وفاعله: ضمير مستتر فيه تقديره: أنا ﴿مَالًا﴾: مفعول ثان ﴿لَأُوتَيَنَّ﴾ لأنه بمعنى أعطى ﴿وَوَلَدًا﴾: معطوف على ﴿مَالًا﴾ والجملة
232
الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨)﴾.
﴿أَطَّلَعَ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري ﴿طلع﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الكافر ﴿الْغَيْبَ﴾ مفعول به والجملة الفعلية في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿رأيت﴾ علق عنها بهمزة الاستفهام ﴿أَمِ﴾: حرف عطف معادل للهمزة ﴿اتَّخَذَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الكافر ﴿عِنْدَ الرَّحْمَنِ﴾: ظرف ومضاف إليه في محل المفعول الثاني لـ ﴿اتَّخَذَ﴾ ﴿عَهْدًا﴾: مفعول أول لـ ﴿اتَّخَذَ﴾ ﴿عَهْدًا﴾: مفعول أول لـ ﴿اتَّخَذَ﴾ وجملة ﴿اتَّخَذَ﴾: معطوفة على جملة ﴿اطلع﴾.
﴿كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠)﴾.
﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر ﴿سَنَكْتُبُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله تقديره، نحن وصدره بالسين من باب ما يقوله المتوعد لخصمه سوف أنتقم منك، يعني: لا تغتر بطول الزمان، فإن الانتقام آتيك، أو ستظهر له وتعلمه أنا كتبنا ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة، في محل النصب مفعول به لـ ﴿نكتب﴾ والجملة الفعلية: مستأنفة ﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الكافر وجملة ﴿يَقُولُ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يقوله ﴿وَنَمُدُّ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿سَنَكْتُبُ﴾: وفاعله ضمير يعود على الله تقديره: نحن ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿نمد﴾ ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾: حال من ﴿مَدًّا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿مَدًّا﴾: مفعول مطلق أو مفعول به أو منصوب بنزع الخافض ﴿وَنَرِثُهُ﴾: فعل مضارع ومفعول به وفاعله ضمير يعود على الله والجملة معطوفة: على جملة ﴿نمد﴾: ﴿مَا﴾ بدل اشتمال من الهاء والمعنى نرث ما عنده من المال والأهل والولد ﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الكافر والجملة صلة ﴿مَا﴾ الموصولة والعائد محذوف تقديره: ما يقوله ﴿وَيَأْتِينَا﴾: الواو: عاطفة ﴿يأتينا﴾: فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على الكافر ﴿فَرْدًا﴾:
233
حال من فاعل ﴿يأتينا﴾: والجملة الفعلية: معطوفة على جملة ﴿نرثه﴾.
﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢)﴾.
﴿وَاتَّخَذُوا﴾ الواو: استئنافية ﴿اتخذوا﴾: فعل وفاعل ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ حال من ﴿آلِهَةً﴾ ﴿آلِهَةً﴾: مفعول ثان والأول محذوف لدلالة السياق عليه والتقدير: واتخذوا الأصنام آلهة من دون الله والجملة: مستأنفة ﴿لِيَكُونُوا﴾ (اللام): حرف جر وتعليل ﴿يكونوا﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي و (الواو) اسمها ﴿لَهُمْ﴾ حال من ﴿عِزًّا﴾ ﴿عِزًّا﴾ خبرها والجملة: في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لكونهم عزًا لهم الجار والمجرور متعلق بـ ﴿اتخذوا﴾. ﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر ﴿سَيَكْفُرُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿بِعِبَادَتِهِمْ﴾: متعلق به والجملة: مستأنفة ﴿وَيَكُونُونَ﴾: فعل مضارع ناقص واسمها ﴿عَلَيْهِمْ﴾ حال من ﴿ضِدًّا﴾. ﴿ضِدًّا﴾: خبر يكون ووحده وهو جمع لمحًا لأصله؛ لأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تثنى ولا تجمع، أو لأنه مفرد في معنى الجمع، والجملة: معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ الهمزة: للإستفهام التقريري ﴿لَمْ﴾ حرف نفي وجزم ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾: وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على محمد تقديره: أنت والجملة: مستأنفة ﴿أَنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾: متعلق به وجملة: ﴿أَرْسَلْنَا﴾: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعول ﴿تَرَ﴾. ﴿تَؤُزُّهُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به ﴿أَزًّا﴾: مفعول مطلق وفاعله ضمير يعود على ﴿الشَّيَاطِينَ﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ﴿الشَّيَاطِينَ﴾. ﴿فَلَا تَعْجَلْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك ﴿لا تعجل﴾. ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تَعْجَلْ﴾: فعل
234
مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾: الناهية وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة: مستأنفة ﴿إِنَّمَا﴾ كافة ومكفوفة ﴿نَعُدُّ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به ﴿عَدًّا﴾: مفعول مطلق وجملة: ﴿نَعُدُّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٨٧)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية بفعل محذوف تقديره: اذكر لهم يا محمد يوم نحشر المتقين والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله ﴿إِلَى الرَّحْمَنِ﴾: متعلق بـ ﴿نَحْشُرُ﴾ ﴿وَفْدًا﴾: حال من ﴿الْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: وافدين وجملة ﴿نَحْشُرُ﴾ في محل الجر مضاف إليه للظرف ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿نَحْشُرُ﴾ ﴿إِلَى جَهَنَّمَ﴾ متعلق بـ ﴿نسوق﴾. ﴿وِرْدًا﴾ حال من ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: واردين ﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة: مستأنفة مسوقة لتقرير حال الناس جميعًا مؤمنهم وكافرهم، ولا علاقة لها بالفريقين المتقدمين ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر واستثناء ﴿مَنِ﴾ اسم موصول في محل الرفع بدل من الواو في ﴿يَمْلِكُونَ﴾ أو في محل النصب على الاستثناء المتصل ﴿اتَّخَذَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنِ﴾ ﴿عِنْدَ الرَّحْمَنِ﴾: ظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لـ ﴿اتَّخَذَ﴾. ﴿عَهْدًا﴾: هو المفعول الأول له، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، وقد اختار أبو البقاء والزمخشري: أن يكون الاستثناء منقطعًا.
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل والجملة: مستأنفة ﴿اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿لَقَدْ﴾ (اللام) موطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿جِئْتُمْ شَيْئًا﴾: فعل وفاعل ومفعول و ﴿إِدًّا﴾ صفة ﴿شَيْئًا﴾ والجملة الفعلية: جواب لقسم محذوف، وجملة القسم، في محل النصب مقول
235
لقول محذوف تقديره: قال الله سبحانه والله لقد جئتم شيئًا إدًا، ﴿تَكَادُ﴾ فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة ﴿السَّمَاوَاتُ﴾: اسمها ﴿يَتَفَطَّرْنَ﴾: فعل وفاعل منه متعلق به والجملة في محل النصب خبر كاد وجملة ﴿تَكَادُ﴾: مستأنفة أو صفة لـ ﴿إِدًّا﴾ كما في "الفتوحات" ﴿وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ﴾: فعل وفاعل والجملة في محل النصب خبر لكاد المحذوفة المعلومة من السياق، والتقدير وتكاد الأرض تنشق منه، والجملة معطوفة، على جملة كاد الأول ﴿وَتَخِرُّ الْجِبَالُ﴾: فعل وفاعل ﴿هَدًّا﴾: حال من الجبال؛ أي: مهدودةً أو مفعول مطلق معنوى لـ ﴿تخر﴾ لأن الخرور والهد معناهما السقوط، والجملة الفعلية: خبر لكاد المحذوفة تقديره: وتكاد الجبال تخر هدا ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿دَعَوْا﴾: فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أن﴾ المصدرية مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين ﴿لِلرَّحْمَنِ﴾ متعلق بـ ﴿دَعَوْا﴾. ﴿وَلَدًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿دَعَوْا﴾ والأول محذوف تقديره: معبودهم لأن ﴿دَعَوْا﴾ بمعنى سموا وهي تتعدى لاثنين بنفسها، أو بالباء، وجملة ﴿دَعَوْا﴾ مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور على كونه بدلًا من ضمير ﴿مِنْهُ﴾ في قوله: ﴿يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ أو مجرور بلام جر محذوفة متعلقة بـ ﴿تَكَادُ﴾ والتقدير: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ لأجل دعوتهم ونسبتهم ﴿لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾.
﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣)﴾.
﴿وَمَا﴾ (الواو): حالية ﴿مَا﴾ نافية ﴿يَنْبَغِي﴾: فعل مضارع ﴿لِلرَّحْمَنِ﴾: متعلق به ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿يَتَّخِذَ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿وَمَا﴾ المصدرية وفاعله ضمير يعود على ﴿الرَّحْمَنُ﴾. ﴿وَلَدًا﴾ مفعول به والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، والتقدير ﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ﴾ اتخاذ ولد وجملة ﴿يَنْبَغِي﴾ في محل النصب حال من ﴿الرَّحْمَنُ﴾ في قوله: ﴿أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ﴾. ﴿إِنْ﴾: نافية ﴿كُلُّ﴾ مبتدأ ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿كُلُّ﴾ ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة الموصول ﴿والأرض﴾ معطوف على السموات ﴿إلا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿آتِي الرَّحْمَنِ﴾: خبر المبتدأ ومضاف إليه ﴿عَبْدًا﴾: حال من الضمير المستتر في ﴿آتِي﴾ والجملة الاسمية: مستأنفة.
236
﴿لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦)﴾.
﴿لَقَدْ أَحْصَاهُمْ﴾ اللام: موطئة للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿أَحْصَاهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿الرَّحْمَنِ﴾ والجملة الفعلية: جواب للقسم المحذوف لا محل لها من الإعراب وجملة القسم: مستأنفة. ﴿وَعَدَّهُمْ﴾: فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على ﴿الرَّحْمَنِ﴾. ﴿عَدًّا﴾ مفعول مطلق والجملة معطوفة على جملة ﴿أَحْصَاهُمْ﴾. ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ﴾: مبتدأ وخبر ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿آتِيهِ﴾. ﴿فَرْدًا﴾ حال من الضمير المستتر في ﴿آتِيهِ﴾ والجملة الاسمية: معطوفة على جملة القسم، أو مستانفة ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿سَيَجْعَلُ﴾: فعل مضارع ﴿لَهُمُ﴾ مفعول ثان ﴿الرَّحْمَنُ﴾ فاعل ﴿وُدًّا﴾: مفعول أول له والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة.
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (٩٨)﴾.
﴿فَإِنَّمَا﴾ الفاء: تعليلية لمعلول محذوف دل عليه السياق تقديره: بلِّغ هذا المنزّل عليك وبشر به وأنذر لأنَّا يسرناه بلسانك لتبشر به كما في "أبي السعود" ﴿إنما﴾: أداة حصر ﴿يَسَّرْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿بِلِسَانِكَ﴾ جار ومجرور حال من ضمير ﴿يَسَّرْنَاهُ﴾ تقديره: حالة كونه جاريًا على لسانك والجملة الفعلية: في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بـ (الفاء) تعليلية والجملة المعللة المحذوفة: مستأنفة ﴿لِتُبَشِّرَ﴾ (اللام) حرف جر وتعليل ﴿تبشر﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي وفاعله: ضمير يعود على محمد ﴿بِهِ﴾ متعلق به ﴿الْمُتَّقِينَ﴾: مفعول به والجملة الفعلية، مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ (اللام) تقديره: لتبشيرك به المتقين، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَسَّرْنَاهُ﴾ ﴿وَتُنْذِرَ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿تبشر﴾ وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿بِهِ﴾ متعلق به ﴿قَوْمًا﴾: مفعول به ﴿لُدًّا﴾ صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾. ﴿وَكَمْ﴾ (الواو): استئنافية ﴿كم﴾: خبرية بمعنى عدد كثير في محل النصب مفعول مقدم
237
لـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾. ﴿أَهْلَكْنَا﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة ﴿قَبْلَهُمْ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾. ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾ تمييز لـ ﴿كم﴾ مجرور بـ ﴿مِنْ﴾ الزائدة ﴿هَلْ﴾ للاستفهام الإنكاري ﴿تُحِسُّ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿مِنْهُمْ﴾ حال ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾: لأنه كان صفة لـ ﴿أَحَدٍ﴾. ﴿مِنْ﴾ زائدة ﴿أَحَدٍ﴾: مفعول به منصوب محلًا والجملة: جملة إنشائية مستأنفة ﴿أَوْ تَسْمَعُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة: معطوفة على جملة ﴿تُحِسُّ﴾. ﴿لَهُمْ﴾: حال من ﴿رِكْزًا﴾. ﴿رِكْزًا﴾: مفعول به.
التصريف ومفردات اللغة
﴿بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: ظاهرات الإعجاز ﴿مَقَامًا﴾؛ أي: مكانًا ومنزلًا بفتح الميم اسم مكان من قام الثلاثي أو مصدر ميمي وقرىء بالضم، فيكون أيضًا اسم مكان أو مصدرًا ميميًا من أقام الرباعي المزيد، والمراد، هنا: موضع القوم؛ أي: خير مكان قيام أو إقامةٍ ﴿نَدِيًّا﴾؛ أي: مجلسًا ومجتمعًا، ومثله النادي وقيل: هو المجلس يجتمع فيه لحادثة أو مشورةٍ، ومنه دار الندوة التي كان المشركون يتشاورون فيها في أمورهم، والندي فعيل، أصله: نديو لأن لامه واو يقال: ندوتهم أندوهم؛ أي: أتيت ناديهم، والنادي مثله ومنه ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧)﴾؛ أي: أهل ناديه، والندي والنادي، مجلس القوم ومتحدثهم، وقيل: هو مشتق من الندى وهو الكرم؛ لأن الكرماء يجتمعون فيه ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾ والقرن مفرد لفظًا متعدد معنًى ﴿أَثَاثًا﴾ والأثاث: متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها والمال، ويقال: أث يئث ويأث ويؤث أثاثًا وأثوثًا وأثاثةً، وأثَّ النبات أو الشعر: التف وكثر فهو أث وأثيث ﴿وَرِئْيًا﴾ والرئي: فعل بمعنى مفعول فهو المرئيُّ كالذِبح والطِحن بمعنى المذبوح والمطحون، فهو بمعنى المنظر الحسن والصورة والهيئة الحسنة والنضارة، ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾؛ أي: فليمهله بطول العمر والتمكن من سائر التصرفات ﴿مَرَدًّا﴾؛ أي: مرجعًا وعاقبةً ﴿وَوَلَدًا﴾ والولد، بفتحتين: اسم مفرد قائم مقام الجمع، وأما بالضم فالإسكان فقيل: هو كالولد بفتحتين، فيقال: ولد وولد كما يقال، عرب وعرب، وقيل: بل هو جمع ولد نحو: أسد وأسد كما في "السمين".
238
﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ﴾، أصله: أإطَّلع بفتح الهمزة الاستفهامية وكسر همزة الوصل فحذفت همزة الوصل تخفيفًا وبقيت همزة الاستفهام المفتوحة، واطلع: يتعدى بنفسه كقولهم اطلع الجبل، ويقال: اطلع الأمر، وعليه علمه، ويقال أيضًا: اطلع طلع العدو بكسر الطاء وسكون اللام عرف باطن أمرهم، وقد توهم بعضهم أنه لا يعلى إلا بعلى، فأعرب الغيب بنزع الخافض، وإنما هو من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه، وطلع الثنية: قال جرير:
إِنَّي إِذَا مُضَرٌ عَلَيَّ تَحَدَّثَتْ لاَقَيْتُ مُطَّلَعَ الْجِبَالِ وُعُوْرَاً
فمطلع اسم مكان من اطلع المشدد، أصله: اطتلع على بناء الافتعال، فقلبت التاء طاءً وأُدغمت الطاء في الطاء، وهو في البيت نصب على الظرفية، والوعور جمع وعر؛ أي: صعب يريد الشاعر: إذا تقولت عليَّ مضر ما لا أرتضيه، أو حدثتها نفسها بقتلي.. تمرست بالصعاب ولا أُبالي بها ﴿وَنَمُدُّ لَهُ﴾ مضارع مد الشيء يمده من باب نصر: أطاله وبسطه وجذبه ومد الحبل فامتد وهذا ممد الحبل.
فائدة في مبحث كلا: للنحويين في هذه اللفظة ستة مذاهب:
أحدها: وهو مذهب جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس: أنها حرف ردع وزجر وهذا معنى لائق بها، حيث وقعت في القرآن، وما أحسن ما جاءت في هذه الآية زجرت وردت ذلك القائل.
والثاني: وهو مذهب النضر بن شميل: إنها حرف تصديق بمعنى نعم، فتكون جوابًا ولا بد حينئذٍ من أن يتقدمها شيء لفظًا أو تقديرًا وقد تُستعمل في القسم.
والثالث: هو مذهب الكسائي وأبي بكر بن الأنباري ونصر بن يوسف وابن واصل: أنها بمعنى حقًا.
والرابع: وهو مذهب أبي عبد الله الباهلي: أنها رد لما قبلها، وهذا قريب من معنى الردع.
والخامس: أنها صلة في الكلام بمعنى إي كذا قيل، وفيه نظر: فإن إي
239
حرف جوابٍ ولكنه مختص بالقسم.
والسادس: أنها حرف استفتاح، وهو قول أبي حاتم، ولتقرير هذه المذاهب موضع هو أليق بها قد حققتها بحمد الله فيه. اهـ "سمين".
وذكرت كلا في القرآن في النصف الثاني منه فقط، وذكرت في خمس عشرة سورةً منه كلها مكية، وجملة ما ذكر منها في القرآن. ثلاثة وثلاثون مرة، ترجع إلى أقسام ثلاثة:
قسم: يجوز الوقف عليها، وعلى ما قبلها فيُبتدأ بها وهذا باتفاق.
وقسم: اختلف فيه، هل يجوز الوقف عليها أو يعين على ما قبلها.
وقسم: لا يجوز الوقف عليها باتفاق.
فالقسم الأول: خمسة مواضع: اللتان في هذه السورة، واللتان في سورة الشعراء، وواحدة في سورة سبأ.
والقسم الثاني: تسعة واحدة في سورة المؤمنين، وثنتان في سورة سأل سائل، وثنتان في سورة المدثر الأولى والثالثة، والأولى في سورة القيامة، والثانية في سورة ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١)﴾ والأولى في سورة الفجر، والتي في سورة ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ﴾..
والقسم الثالث: هو التسع عشرة الباقية. اهـ شيخنا عن العز بن جماعة. ﴿وَنَرِثُهُ﴾؛ أي: نسلبه منه ونأخذه بأن نخرجه من الدنيا خاليًا من ذلك، والمراد نزوي عنه ما يقوله من أنه سيناله في الآخرة.
﴿ضِدًّا﴾ وإنما وحَّد الضد وإن كان خبرًا عن جمع لأحد وجهين، إما لأنه مصدر في الأصل، والمصادر موحدة مذكرة، وإما لأنه مفرد في معنى الجمع. اهـ "خازن" وفي "القاموس" وضده في الخصومة من باب رد غلبه ومنعه برفق، والقربة ملأها وأضد غضب وضاده: خالفه، وهما متضادان. اهـ فضد كأنه مصدر سماعي أو اسم مصدر تأمل ﴿تَؤُزُّهُمْ﴾: تهيجهم وتغريهم على المعاصي بالتسويلات وتجيب الشهوات، والمراد: تعجيب الرسول - ﷺ - من أقاويل الكفرة،
240
وتماديهم في الغيِّ وتصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق على ما نطقت به الآية المتقدمة. اهـ "بيضاوي" وفي "السمين" ﴿أَزًّا﴾ مصدر مؤكد والأز والأزيز والهز والهزيز، قال الزمخشري: أخوات، وهو التهييج وشدة الإزعاج والأز أيضًا: شدة الصوت وفي "القاموس" وأزَّت القدر تؤز بالضم، وتئز بالكسر أزّاً وأزيزًا وأزازًا بالفتح: اشتد غليانه، وأز النار: أوقدها وأز الشيء حرَّكه شديدًا. اهـ.
﴿وَفْدًا﴾: الوفد مصدر وقد يفد وفداً ووفوداً ووفادةً وإفادةً وفد إلى أو على الأمير: قدم وورد رسولاً فهو وافد، والوفد أيضًا: جمع وافدٍ وهم القوم يقدمون على الملوك يستنجزون الحوائج، والمراد: يقدمون مكرمين مبجلين ركباناً ﴿إِلَى الرَّحْمَنِ﴾؛ أي: إلى دار كرامته وهي الجنة ﴿وِرْدًا﴾ والورد: القوم الواردون إلى الماء عطاشًا، قد تقطعت أعناقهم من الحطش ﴿إِدًّا﴾ بالكسر والفتح العجب، وقيل: العظيم المنكر والإدة: الشدة وآدَّني الأمر: أثقلني وعظم لي ﴿إِدًّا﴾ وفي "القاموس" الإد والإدة بكسرهما العجب، والأمر الفظيع والداهية: والمنكر كالإد بالفتح وأدَّته الداهية تؤده بالضم، وتئده بالكسر، وتأده بالفتح: دهشة ﴿يتفطرن﴾ من التفطر وهو التشقق ﴿ينفطرن﴾ من الانفطار وهو الانشقاق ﴿وَتَخِرُّ﴾ تسقط وتنهدم ﴿دَعَوْا﴾؛ أي: نسبوا وأثبتوا.
﴿وُدًّا﴾؛ أي: محبةً ومودةً وفي "المصباح" وددته أوده من باب تعب وداً بفتح الواو وضمها: أحببته والاسم: المودة ووددت لو كان كذا أيضًا ودًا وودادةً تمنيته، وفي "المختار" الود بضم الواو وفتحها وكسرها: المحبة فهي مثلثة الواو، والأرجح: الضم وبها قرأ السبعة، وقرىء في غير السبعة، بفتحها وكسرها، ويحتمل أن يكون المفتوح مصدرًا، والمضموم والمكسور اسمين. ﴿لُدًّا﴾ جمع ألد؛ أي: شديد الخصومة، وهذا الجمع من قبيل قوله: فعل لنحو أحمر وحمراء ﴿تُحِسُّ﴾ بضم التاء: مضارع أحس، وفي "المصباح": الحس والحسيس: الصوت الخفي وحسه حسًا فهو حسيس، مثل قتلته قتلًا فهو قتيل، وأحس الرجل الشيء إحساسًا علم به، يتعدى بنفسه مع الألف قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ وربما زيدت فيه الباء، فقيل: أحس به على معنى شعر به، وحسست به من باب قتل لغة والمصدر: الحس بالكسر يتعدى بالباء على معنى شعرت أيضًا
241
﴿رِكْزًا﴾ الركز: الصوت الخفي، ومنه ركز الرمح، إذا غُيِّب طرفه في الأرض، ومنه الركاز وهو المال المدفون.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ﴾ فقد شبه الغيب المجهول الملثَّم بالأسرار بجبل شامخ، الذرى لا يرقى الطير إلى مداه، فهو مجهول تتحطم عليه آمال الذين يريدون استشفاف آفاقه، وإدراك تهاويله، ثم حذف الجبل؛ أي: المشبه به وأخذ شيئًا من خصائصه ولوازمه وهو: الاطلاع والارتقاء، واستشراف مغيباته والغرض من هذه الاستعارة السخرية البالغة، كأنه يقول: أو بلغ هذا مع حقارته، وتفاهة أمره، وصغار شأنه، أن ارتقى إلى الغيب المحجب بالأسرار، المطلسم بالخفاء. اهـ من "إعراب القرآن".
ومنها: إخراج الخبر على صيغة الأمر في قوله: ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يُفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير كما يُنبىء عنه قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّر﴾ أو للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾.
ومنها: التعرض لعنوان الرحمانية لما أن المد من أحكام الرحمة الدنيوية ذكره أبو السعود.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾؛ أي: نأمر الملائكة بالكتابة، فهو من إسناد الشيء إلى سببه.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾، وفي قوله: ﴿اهْتَدَوْا هُدًى﴾، وقوله: ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾، وقوله: ﴿تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ وقوله: ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾، وقوله: ﴿لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤)﴾.
ومنها: الطباق بين: ﴿تبشر﴾ و ﴿تنذر﴾.
242
ومنها: المقابلة اللطيفة بين المتقين والمجرمين، وبين حال الأبرار والأشرار في قوله: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥)﴾، وقوله: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦)﴾.
ومنها: الجناس الناقص بين قوله: ﴿وَفْدًا﴾ ﴿وِرْدًا﴾ لاختلاف الحرف الثاني.
ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: ﴿شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾ حيث رجع الأول إلى ﴿خَيْرٌ مَقَامًا﴾ والثاني إلى ﴿وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿خَيْرٌ﴾ و ﴿شَرٌّ﴾.
ومنها: التكرار فقد تكرر ذكر الرحمن كما قلنا ست عشرة مرة في هذه السورة معظمها في خواتيمها، والفائدة فيه: أنه هو الرحمن وحده لا يستحق هذا الاسم غيره، وخلق لهم جميع متطلباتهم التي بها قوام معايشهم، فهل اعتبر الإنسان أم لا يزال الغطاء مسدولاً على عينيه، والوقر يغشي أذنيه فمن أضاف إليه ولدًا، جعله كالأناس المخلوقة وأخرجه بذاك عن استحقاق هذا الاسم الجدير به وحده.
ومنها: الإلتفات في قوله: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩)﴾ إلتفت من الغيبة إلى الخطاب، لمشافهتهم بالأمر المنكر الذي اجترحوه، والبدع العجيب الذي ارتكبوه.
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ والاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
243
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من المقاصد
١ - دعاء زكريا ربه أن يهب له ولدًا سريًا مع ذكر الأسباب التي دعته إلى ذلك.
٢ - استجابة الله دعاءه وبشارته بولد يسمى بيحيى لم يسم أحد من قبله بمثل اسمه.
٣ - تعجب زكريا من خلق ذلك الولد من أبوين، أم عاقر وأب شيخ هرم.
٤ - طلبه العلامة على أن امرأته حامل.
٥ - إيتاء يحيى النبوة والحكم صبيًا.
٦ - ما حدث لمريم من اعتزالها لأهلها، وتمثل جبريل لها بشرًا سويًا، والتجائها إلى أن يدفع عنها شر هذا الرجل، وإخباره لها أنه ملك لا بشر.
٧ - حملها بعيسى - عليه السلام - وانتباذها مكانًا قصيًا، حتى لا يراها الناس، وهي على تلك الحال.
٨ - نداء عيسى لها حين الولادة، وأمرها بهز النخلة حتى تساقط عليها رطبًا جنيًا.
٩ - مجيئها بعيسى ومقابلتها لقومها وهي على تلك الحال، وقد إنهال عليها اللوم والتعنيف بأنها فعلت ما لم يسبقها إليه أحد، من تلك الأسرة الشريفة التي اشتهرت بالصلاح والتقوى.
١٠ - كلام عيسى وهو في المهد تبرئةً لأمه ووصفه نفسه بصفات الكمال، من النبوة، والبركة والبر بوالدته، وأنه لم يكن جبارًا متكبرًا على خالقه..
١١ - اختلاف النصارى في شأنه.
١٢ - قصص إبراهيم - عليه السلام - مع أبيه آزر، ووصفه له بالجهل، وعدم التأمل في المعبودات التي يعبدها من دون الله، ثم تحذيره إياه بسوء مغبة أعماله، ورد أبيه عليه مهددًا متوعدًا.
244
١٣ - هبة الله له إسحاق ويعقوب، وإيتاؤهما الحكم والنبوة.
١٤ - قصص موسى ومناجاته ربه في الطور، والامتنان عليه بجعل أخيه هارون وزيرًا ونبيًا.
١٥ - قصص إسماعيل ووصف الله له بصدق الوعد، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.
١٦ - قصص إدريس - عليه السلام -، ووصف الله له بأنه صديق نبي، رفيع القدر، عظيم المنزلة عند ربه.
١٧ - مجيء خلفٍ من بعد هؤلاء الأنبياء، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات.
١٨ - وعد الله لمن تاب وآمن وعمل صالحًا بجنات لا لغو فيها ولا تأثيم.
١٩ - إن جبريل لا ينزل إلى الأنبياء إلا بإذن ربه.
٢٠ - إنكار المشركين للبعث استبعاداً له، ورد الله عليهم بأنه خلقهم من قبل ولم يكونوا شيئًا.
٢١ - الإخبار بأن الله يحشر الكافرين يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطين، ثم يحضرهم حول جهنم جثيًا، ثم بدئه بمن هو أشد جرمًا والله أعلم بهم.
٢٢ - الإخبار بأن جميع الخلق ترد على النار، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين جثيًا.
٢٣ - بيان أن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن فخروا على المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسًا، وأكرم منهم مكانًا.
٢٤ - تهديدهم بأنه أهلك كثيرًا ممن كان مثلهم في العتو والاستكبار، وأكثر أثاثًا ورياشًا.
٢٥ - بيان أن الله يمد للظالم ويمهله، ليجترح من السيئات ما شاء، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
245
٢٦ - النعي على المشركين باتخاذ الشركاء، وأنهم يوم القيامة سيكونون لهم أعداء.
٢٧ - نهي النبي - ﷺ - عن طلب تعجيل هلاك المشركين. إذ أن حياتهم مهما طالت فهي محدودةٌ معدودةٌ.
٢٨ - التفرقة بين حشر المتقين إلى دار الكرامة، وسوق المجرمين إلى دار الخزي والهوان.
٢٩ - النعي الشديد على من ادعى أن لله ولدًا.
٣٠ - بيان أن الله قد أنزل كتابه بلسان عربي مبين، ليبشر به المتقين، وينذر به الكافرين ذوي اللدد والخصومة (١).
والله أعلم
* * *
(١) وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد، خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، إلى هنا تم تفسير سورة مريم بإذن الله وتوفيقه، وله الحمد والشكر على إمداده وإحسانه، أوائل ليلة الثلاثاء السادسة عشرة من ربيع الأول من شهور سنة ألف وأربع مئة واثنتي عشر سنة ١٦/ ٣/ ١٤١٢، من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.
246
سورة طه
سورة طه: مكية كلها عند الجميع، قيل: إلا آيتي (١٣٠ * ١٣١) فمدنيتان، نزلت بعد سورة مريم، وآيها مئة وخمس وثلاثون آيةً، وكلماتها ألف وثلاث مئة وإحدى وأربعون، وحروفها خمسة آلاف ومئتان واثنان وأربعون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه (١):
١ - أنه لما ذكر في سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين، بعضها بطريق البسط والإيجاز، كقصص إبراهيم - عليه السلام - وبعضها موجز مجمل، كقصة موسى - عليه السلام - ثم أشار إلى بقية النبيين بالإجمال.. ذكر هنا قصة موسى التي أجملت فيما سلف، واستوعبها غاية الاستيعاب، ثم فصل قصة آدم - عليه السلام - ولم يذكر في سورة مريم إلا اسمه فحسب.
٢ - أنه روي عن ابن عباس أن هذه السورة نزلت بعد سالفتها.
٣ - أن أول هذه السورة متصل بآخر السورة السابقة، ومناسب له في المعنى، إذ ذكر في آخر تلك أنه إنما يسر القرآن بلسانه العربي المبين، ليكون تبشيراً للمتقين، وإنذاراً للمعاندين، وفي أوائل هذه ما يؤكد هذا المعنى.
ومن فضائلها: ما أخرج (٢) الدارمي وابن خزيمة في "التوحيد"، والعقيلي في "الضعفاء"، والطبراني في "الأوسط"، وابن عدي وابن مردويه، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن.. قالوا طوبى لأمةٍ ينزل عليها هذا، وطوبى لأجوافٍ تحمل هذا، وطوبى لألسنةٍ تكلمت بهذا" قال ابن خزيمة بعد إخراجه: حديث غريب وفيه نكارة.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
247
ومنها (١): ما أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس أن رسول الله - ﷺ - قال: "أعطيت السورة التي ذكرت فيها الأنعام من الذكر الأول، وأعطيت سورة طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلةً" وفيه مقال. والنافلة: الزيادة.
ومنها: ما أخرجه ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي - ﷺ - قال: "كل قرآن يوضع عن أهل الجنة، فلا يقرؤون منه شيئًا، إلا سورة طه ويس، فإنهم يقرؤون بهما في الجنة". وفيه مقال.
ومنها: ما أخرجه الدارقطني في "سننه"، عن أنس بن مالك، فذكر قصة عمر بن الخطاب مع أخته وخباب وقراءتهما طه، وكان ذلك بسبب إسلام عمر، والقصة مشهورة في كتب السير.
الناسخ والمنسوخ من هذه السورة: قال أبو (٢) عبد الله محمد بن حزم: جملة المنسوخ من هذه السورة ثلاث آيات:
أولاهن: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ (١١٤) الآية. نسخ معناها لا لفظها بقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦)﴾ الأعلى.
والآية الثانية: قوله: تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ (١٣٠) الآية. نسخ الصبر منها بآية السيف.
والآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ﴾ (١٣٥)، جميع هذه الآية منسوخ بآية السيف.
والله أعلم
* * *
(١) الشوكاني.
(٢) الناسخ والمنسوخ.
248
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (٨) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (١٠) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (١٦) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (٢٣) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٢٤) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (٣٥) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)﴾.
المناسبة
مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها (١): أنه تعالى، لما ذكر تبشير القرآن
(١) البحر المحيط.
249
بلسان الرسول - ﷺ -؛ أي: بلغته، وكان فيما علل به قوله: ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾.. أكد ذلك بقوله: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣)﴾ والتذكرة: هي البشارة والنذارة، وأن ما ادعاه المشركون من إنزاله للشقاء ليس كذلك، بل إنما نزل تذكرةً.
قوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن (١) الله سبحانه لما عظَّم كتابه والرسول الذي أنزل عليه بما كلفه به من التبليغ والإنذار والتبشير.. أتبع ذلك بما يقوي قلبه من قصص الأنبياء، وما فعلته أممهم معهم، وكيف كانت العاقبة لهم، والنصر حليفهم، ففي هذا سلوى له، وتأس بهم فيما قاموا به من الذود عن الحق، مهما أصابهم من العنت والأذى، من جراء الدعوة إليه، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾.
وبدأ بقصص موسى؛ لأن محنته كانت أشد، فقد تحمل من المكاره ما تنوء به راسيات الجبال، وقابل ذلك بعزم لا يفتر، وبقوة تفل الحديد.
وعبارة أبي حيان هنا (٢): قوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر تعظيم كتابه، وتضمن تعظيم رسوله.. أتبعه بقصة موسى ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة، وتكاليف الرسالة، والصبر على مقاساة الشدائد، كما قال تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ فقال تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩)﴾.
قوله تعالى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (٣) مناجاته لموسى، حين رأى النار التي في الشجرة، واختياره نبيًا، وإيحاءه إليه أن لا إله إلا هو، وأمره بإقامة الصلاة، لما فيها من ذكره، وتخصيصه بالعبادة دون سواه، ثم إخباره بأن الساعة آتية لا
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
250
محالة، ليجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بما دسى به نفسه جزاءً وفاقًا.. قفى على ذلك بذكر البرهانات التي آتاها موسى دلالةً على نبوته، وتصديقًا له على رسالته، فبدأ بذكر العصا التي انقلبت حيةً تسعى حين ألقاها من يده، وكان قد سأله عنها استجماعًا لقلبه، وتهدئةً لروعه في هذا المقام الرهيب، وإعلامًا بما سيكون لها بعد من عظيم الشأن، وجليل المنافع والمزايا، التي لم تكن تدور بخلده عليه السلام.
قوله تعالى: ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أن الله سبحانه لما ذكر المعجزة الأولى، الدالة على نبوة موسى عليه السلام وعلى صدق رسالته، وهي العصا وما صدر منها من الأفاعيل حين ألقاها من يده، ثم عودتها سيرتها الأولى حين أخذها من الأرض.. قفى على ذلك بذكر المعجزة الثانية التي آتاه إياها، وهي معجزة اليد، فإنه كان إذا وضع يده اليمنى إلى جنبه الأيسر تحت العضد، ثم أخرجها.. أضاءت كشعاع الشمس، تغشي البصر، ثم بذكر أمره له بالذهاب إلى فرعون لتبليغ رسالة ربه، ثم دعائه ربه أن يشرح له صدره، ويسهل له أمره، وأن يجعل له أخاه هارون نبيًا، كى يشد أزره، ويقوى على تبليغ الرسالة ويتعاونا على ذكر الله وعبادته.
قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أمر (٢) موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون.. عرف أنه كلف أمرًا عظيمًا يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فسأل ربه، ورغب في أن يشرح صدره، ليحتمل ما يرد عليه من الشدائد التي يضيق لها الصدر، وأن يسهل عليه أمره الذي هو خلافة الله في أرضه، وما يصحبها من مزاولة جلائل الخطوب، وقد علم ما عليه فرعون من الجبروت والتمرد والتسلط.
قوله تعالى: ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
251
قبلها: أن موسى - عليه السلام - لما سأل ربه أمورًا ثمانية، وكان قيامه بما كلف به لا يتم على الطريق المرضي إلا إذا أجابه إليها.. لا جرم أجابه الله تعالى إلى ما طلب، ليكون أقدر على الإبلاغ على الوجه الذي كلف به، ثم ذكره بنعمه السالفة حين كانت أمه ترضعه، وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه، فألهمها أن تصنع تابوتًا، وتضعه فيه وتلقيه في النيل، ففعلت فألقاه النيل في الساحل، فالتقطه آل فرعون وربوه في منزلهم، وألقى الله محبةً في قلوبهم له، وصار كأنه ابنهم، ثم ذكره بنجاته من القصاص حين قتل المصري وهرب إلى مدين.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢)﴾ سبب نزوله (١): ما أخرجه عبد الله بن حميد في "تفسيره"، عن الربيع بن أنس قال: كان النبي - ﷺ - يراوح بين قدميه ليقوم على كل رجل حتى نزلت آية: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢)﴾.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، أن النبي - ﷺ - كان أول ما أنزل عليه الوحي، يقوم على صدور قدميه إذا صلى فأنزل الله ﴿طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢)﴾
وروى مقاتل (٢): أن أبا جهل، والوليد بن المغيرة، ومطعم بن عدي، والنضر بن الحارث قالوا لرسول الله - ﷺ -: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال عليه السلام: "بل بعثت رحمةً للعالمين" قالوا: بل أنت تشقى، فأنزل الله الآية ردًا عليهم، وتعريفًا لمحمد - ﷺ - بأن دين الإِسلام هو السبيل إلى نيل كل فوز، وسبب إدراك كل سعادة، وما فيه المشركون هو الشقاء بعينه.
(١) لباب النقول.
(٢) المراغي.
252
Icon