ﰡ
خاتمة سورة الفاطر
عليك ايها السالك المتشمر لاعداد زاد يوم المعاد وفقك الله على إتمامه ان تلف شملك وتجمع همك المركوز الى الآخرة التي هي دار الخلود والقرار وتجتهد في رفع الموانع ودفع الشواغل العائقة عن هذا الميل فلك ان تنقطع عن مطلق مألوفاتك ومشتهياتك التي هي اسباب الأخذ والبطش وانواع العقاب والعتاب الإلهي وتنخلع من لوازم تعيناتك المشتملة على انواع الفتن واصناف المحن حسب ما يسر الله عليك معرضا عن الدنيا الدنية ومستلذاتها البهيمية ومشتهياتها الشهية إذ لا قرار لها ولا مدار لما يترتب عليها بل كلها فان زائل وباطل بلا طائل مورث لانواع الحسرات في النشأة الاولى ولأشد العذاب والزفرات في النشأة الاخرى والمؤيد من عند الله بالعقل المفاض المميز بين الصلاح والفساد وبين الفاني والباقي المرشد الهادي نحو فضاء التوحيد وبالجملة المتفطن المتذكر اللبيب الأريب كيف يختار الفاني على الباقي واللذات الجسمانية الزائلة سريعا الجالبة للاخزان الطويلة على اللذات الروحانية القارّة المستتبعة للحالات العلية والمقامات السنية التي لا يعرضها انقراض ولا انقضاء ولا نفوذ ولا انتهاء. رب اختم بفضلك عواقب أمورنا بالخير والحسنى انك على ما تشاء قدير وبرجاء الراجين جدير
[سورة يس]
فاتحة سورة يس
لا يخفى على من ترقى عن حضيض الجهل واودية الضلال الى أوج المعرفة وفضاء الوصال ومن مهاوي الإمكان واغوار التعينات المقتضية لانواع الانحرافات والضلالات الى استقامة الحالات وارتفاع المقامات وعلو الدرجات في سبيل السعادات ونيل المرادات ومن دركات التلون وظلمات التقليد الى درجات اليقين ونور التوحيد ومقر التمكين والتقرر فيه بلا تذبذب وتزلزل ان الوصول والنيل الى مقعد الصدق الذي هو مقصد ارباب المحبة الخالصة والمودة الصادقة انما هو بالاستقامة والاعتدال في عموم الأوصاف والأفعال مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط المذمومين عقلا وشرعا بحيث لا يبقى له انحراف عن صراط الله الأقوم الأعدل ليتيسر له التحقق في مرتبة التخلق بأخلاقه واللياقة برتبة النيابة واخلافه وأكمل المتخلقين وأليقهم للخلافة نبينا صلّى الله عليه وسلّم لذلك ختم بعثته صلّى الله عليه وسلّم امر الرسالة والنبوة وتم به صلّى الله عليه وسلّم مكارم الأخلاق ولم يبق بعثته صلّى الله عليه وسلّم شائبة شبهة في توحيد الذات وسقوط عموم الإضافات ولهذا قد اضمحل دون ظهور شرعه صلّى الله عليه وسلّم جميع الرسوم والعادات لذلك أشار سبحانه الى كمال مرتبته الجامعة بجميع المراتب وخاطبه خطاب تعظيم وتكريم بعد ما تيمن باسمه الجامع لجميع الأسماء والصفات فقال بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم باسمه الجامع الرَّحْمنِ على عموم عباده بإرساله صلّى الله عليه وسلّم إليهم وبعثه عليهم الرَّحِيمِ عليه صلّى الله عليه وسلّم حيث جعله مستويا على صراط مستقيم هو صراط توحيده الذاتي
[الآيات]
يس يا من تحقق بينبوع بحر
وَحق الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ المحكم نظمه وأسلوبه المتقن معناه وفحواه
إِنَّكَ يا أكمل الرسل وخاتم الأنبياء المبعوث الى كافة البرايا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ المتمكنين
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى التوحيد الذاتي بلا عوج وانحراف وكيف لا يكون القرآن العظيم حكيما مع انه
تَنْزِيلَ اى منزل من عند الْعَزِيزِ الغالب القادر على جميع المقدورات على الوجه الأحكم الأبلغ الرَّحِيمِ في انزاله على الأنام ليوقظهم عن نوم الغفلة ونعاس النسيان انما انزل الحكيم المنان عليك يا أكمل الرسل هذا القرآن
لِتُنْذِرَ أنت قَوْماً لم يبعث فيهم نذير من قبلك بل ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ الأقربون ايضا إذ هم ليسوا من اهل الكتاب وتابعي الملة لتمادى مدة فترة الرسل بعد عيسى صلوات الله عليه وسلامه او المعنى لتنذر قوما بالذي انذر به آباؤهم الأبعدون وبعد ما قد تطاول ايام الفترة انقطع عنهم اثر الإنذار وصار كأن لم يكن شيأ مذكورا وبالجملة فَهُمْ غافِلُونَ
اى القوم الذين قد أرسلت إليهم يا أكمل الرسل ذاهلون عن الإنذار والمنذر بل عن مطلق الرشد والهداية إذ هم متولدون في زمان فترة الرسل وكيف لا ينذرهم سبحانه ولا يرسل إليهم من يصلح أحوالهم
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ وسبق الحكم من الله ومضى القضاء منه سبحانه عَلى أَكْثَرِهِمْ اى اكثر اهل مكة بالكفر والعذاب وعدم الوصول الى خير المنقلب والمآب وبعد ما قد ثبت في حضرة علمه سبحانه كفرهم وضلالهم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا يصدقون برسوله وكتابه أصلا وكيف يؤمنون أولئك المصرون على الكفر والعناد المقضيون المحكومون عليهم من لدنا بالشقاوة الازلية
إِنَّا بمقتضى قهرنا وجلالنا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ التي هي سبب التفاتهم وتمايلهم نحو الحق وآلة انعطافهم للاطاعة والانقياد بالدين القويم أَغْلالًا وصيرناهم مغلولين من الأيدي الى الأعناق بحيث لا يمكنهم الطأطأة والانخفاض أصلا ولا بد للتدين والانقياد من التذلل والخشوع وكيف يمكنهم هذا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ اى اغلالهم منتهية الى لحيهم فَهُمْ مُقْمَحُونَ رافعون رؤسهم مضطرون برفعها بسبب تلك الأغلال الضيقة بحيث لا يسع لهم الالتفات يمنة ويسرة وفوقا وتحتا ألا وهي أغلال الأماني والآمال وسلاسل الحرص والطمع لمزخرفات الدنيا الدنية وما يترتب عليها من اللذات الوهمية والشهوات البهيمية بل
وَجَعَلْنا لهم من كمال غضبنا إياهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ اى قدامهم سَدًّا حجابا كثيفا وَمِنْ خَلْفِهِمْ ايضا سَدًّا غطاء غليظا فصاروا محفوفين بين الحجب الكثيرة المانعة عن ابصار نور الهداية والتوحيد وبالجملة فَأَغْشَيْناهُمْ اى قد اعمينا عيون بصائرهم وأبصارهم التي هي سبب رؤية الآيات ودرك الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الشواهد الظاهرة والآيات الباهرة حتى ترشدهم الى الهداية والايمان فحرموا عن قبول الحق وانصرفوا عن صراطه فهلكوا في تيه الغواية والضلال. أعاذنا الله وعموم عباده عن ذلك وَبعد ما قد سجلنا عليهم الكفر وحكمنا بشقاوتهم حكما مبرما لا يفيدهم إنذارك يا أكمل الرسل وارشادك إياهم بل
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بك وبدينك وكتابك أصلا إذ قد ختمنا نحن على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة غليظة مانعة عن قبول الحق والتذكر به وابصار علاماته وبالجملة هم مقضيون في سابق علمنا ولوح قضائنا بالعذاب الأليم والضلال البعيد فلا تتعب نفسك يا أكمل الرسل في هدايتهم وإرشادهم انك لا تهدى من أحببت من قرابتك وارحامك ولكن الله يهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ان الله عليم بما يصنعون من الكفر والإصرار
إِنَّا من مقام عظيم جودنا وكمال قدرتنا نَحْنُ نُحْيِ ونهدي حسب اقتضاء تجلياتنا اللطفية الجمالية الْمَوْتى الهلكى الهالكين بموت الجهل والضلال التائهين في بيداء الوهم والخيال حيارى وسكارى مدهوشين محبوسين مسجونين في مضيق الإمكان بحياة العلم والايمان والتوحيد والعرفان وَنَكْتُبُ في لوح قضائنا وحضرة علمنا جميع ما قَدَّمُوا واسلفوا لأنفسهم من خير وشر وحسنة وسيئة بحيث لا يشذ منها شيء لنجازيهم بها على مقتضاها وَنكتب ايضا آثارَهُمْ من السنن المستحسنة والأخلاق المحمودة والآداب المرضية المقبولة وكذا ايضا مما سنوا ووضعوا من أسوأ العادات واخس الأخلاق وأقبحها وَبالجملة كُلَّ شَيْءٍ صدر ويصدر عن عبادنا قد أَحْصَيْناهُ وفصلناه بحيث لا يشذ عن حيطة احصائنا وتفصيلنا شيء من نقير وقطمير بل الكل مكتوب مثبت فِي إِمامٍ مُبِينٍ هو لوح قضائنا المحفوظ وحضرة علمنا المحيط
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا اى مثل يا أكمل الرسل للمشركين المصرين على الشرك والطغيان مثلا من الذين خلوا من قبلهم مصرين على الضلال والعناد أمثالهم بحيث لا ينفعهم إنذار منذر وارشاد مرشد يعنى أَصْحابَ الْقَرْيَةِ المصرين على الشرك والعناد المنهمكين في بحر الغفلة والغرور والقرية هي انطاكية والمبشر المنذر هو عيسى صلوات الرحمن عليه وسلامه اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ جاءَهَا اى الى اهل القرية الْمُرْسَلُونَ تترى من قبل عيسى عليه السلام ليرشدوا أهلها الى الايمان والتوحيد
إِذْ أَرْسَلْنا وأمرنا لنبينا عيسى عليه السلام أولا بالإرسال إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ هما يونس ويحيى وقيل غيرهما فلما جاءا إليهم واظهرا دعوتهم الى التوحيد وكانوا من عبدة الأصنام فَكَذَّبُوهُما اى فاجؤا بتكذيبهما بلا تراخ ومهلة وتأمل وتدبر وبعد ما كذبوهما ولم يقبلوا منهما دعوتهما بل ضربوهما وحبسوهما واستهزؤا بقولهما ودعوتهما فَعَزَّزْنا اى قد قوينا وايدناهما بِثالِثٍ اى برسول ثالث وهو شمعون فَقالُوا اى الرسل بعد ما صاروا جماعة إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ من قبل عيسى المرسل من قبل الحق على الحق لترويج كلمة الحق ننذركم بالعذاب الشديد النازل عليكم بشؤم ما أنتم عليه من الباطل الفاسد ألا وهو عبادة الأوثان وندعوكم الى طريق الحق الحقيق بالالوهية والربوبية المستحق للمعبودية والعبودية ونرشدكم ونهديكم الى دينه المنزل عليه من قبل ربه وبعد ما سمع المشركون منهم ما سمعوا
قالُوا في جوابهم مستبعدين منكرين ما أَنْتُمْ ايها المدعون للرسالة من عند الله الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد على ظنكم وزعمكم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا مناسبة لكم مع مرسلكم الذي ليس هو من جنس البشر فلا بد من المناسبة بين المرسل والمرسل وَدعواكم الإنزال والإرسال من عند الإله المنزه عن المكان والجهة ما هي
قالُوا في جوابهم ايضا على سبيل المبالغة والتأكيد تتميما لأمر التبليغ والرسالة رَبُّنا الذي قد أرسلنا إليكم بوحيه والهامه يَعْلَمُ بعلمه الحضوري إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ من عنده على مقتضى ارادته واختياره إذ لا يجرى في ملكه الا ما يشاء ولا يقع فيه الا ما يريد
وَمالنا شغل بايمانكم وقبولكم ولا بكفركم وطغيانكم بل ما عَلَيْنا بمقتضى وحى الله إلينا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اى التبليغ الصريح والبيان الواضح الموضح للرسالة بلا فوت شيء منها وتقصير وتهاون منا بأدائها وامر اهتدائكم وايمانكم انما هو مفوض اليه سبحانه وفي مشيته لا علم لنا به وبعد ما سمعوا من الرسل المبالغة والتأكيد انصرفوا عن المقاولة نحو التهديد بالقتل والرجم حيث
قالُوا متطيرين متشأمين من نزولهم ومجيئهم مستبعدين دعوتهم منكرين لها إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ اى قد تشأمنا بقدومكم إذ منذ قدمتم ما نزل القطر علينا فاخرجوا من ارضنا وارجعوا الى أوطانكم سالمين وانتهوا عن دعوتكم هذه ولا تتفوهوا بها بعد والله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن هذياناتكم ومفترياتكم لَنَرْجُمَنَّكُمْ البتة بالحجارة وَبالجملة لو لم تنتهوا ولم تكفوا عما أنتم عليه من دعوى الرسالة لَيَمَسَّنَّكُمْ وليحيطن عليكم مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وبعد ما سمعتم ايها الغرباء كلامنا هذا فعليكم الإصغاء والقبول والعمل بمقتضاه والا فقد لحق بكم ما لحق من المكروهات التي سمعتم
قالُوا اى الرسل بعد ما سمعوا منهم وتفرسوا بغلظتهم وتشددهم في الإنكار والجحود طائِرُكُمْ مَعَكُمْ اى سبب شؤمكم انما هو من انفسكم وبسوء صنيعكم وأعمالكم أَلم تنتهوا ولم تتفطنوا انكم إِنْ ذُكِّرْتُمْ وقبلتم قولنا واتصفتم بما ذكرنا من الايمان والتوحيد لم يلحقكم شيء من المكروه ومتى لم تتعظوا ولم تتصفوا قد لحقكم ما لحقكم من القحط وعدم القطر وسيلحقكم أشد منه بشؤم انفسكم وبالجملة مجاوزون عن الحد في العناد والإلحاد عن سبل الهداية والرشد وايضا من كمال اسرافكم وافراطكم قد تطيرتم بدين الله وبدعوة رسله اليه
وَبعد ما سمعوا من الرسل ما سمعوا صمموا العزم الى قتلهم واجتمعوا لرجمهم وانتشر الخبر بين اهل المدينة وسعى من يسمع نحوهم حتى جاءَ حينئذ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ من السامعين وهو حبيب النجار وكان مؤمنا موحدا يعبد الله وكان قد لقى له الرسولان الأولان حين دخلا المدينة أولا فسلم الحبيب عليهما وتكلم معهما فقال لهما من أنتما قالا نحن رسولا عيسى النبي عليه السلام انما أرسلنا إليكم لندعوكم الى توحيد الحق وننقذكم عن عبادة الأوثان فقال أمعكما آية قال نشفى المريض ونبرئ الأكمه والأبرص فجاء بابنه المريض منذ سنين فمسحاه فقام الابن سالما فآمن لهما وصدقهما وانفصل عنهما مؤمنا واشتغل بعبادة الله فدخلا البلد واظهر الدعوة لأهلها وأنكروا عليهما واجتمعوا بقتلهما فأخبر الحبيب بذلك فجاء على الفور حال كونه يَسْعى ويذهب سريعا فلما وصل المجمع ورآهم مجتمعين عليهما فسألهما على رؤس الملأ من أنتما قالا رسولا عيسى ندعوكم الى توحيد الحق قال هل تسألان الأجر والجعل لرسالتكما قالا
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً اى اتبعوا هاديا بالحق على الحق الى الحق خالصا لوجه الحق بلا غرض نفسانى من جعل وغيره كالمتشيخة المزورين الذين يجمعون بتلبيساتهم وتغريراتهم أموالا كثيرة من الضعفاء الحمقى المتماثلين نحو أباطيلهم وتزويراتهم الزائغة وَكيف لا تتبعون ايها العقلاء الطالبون للهداية والصواب إياهم مع انهم هُمْ مُهْتَدُونَ متصفون بالرشد والهداية قولا وفعلا. ثم لما سمع القوم من الحبيب ما سمعوا عيروه وشنّعوا عليه وقالوا له لست أنت ايضا على ديننا ودين آبائنا بل ما أنت الا على دين هؤلاء المدعين
وَبعد ما تفرس الحبيب منهم الإنكار عليه ايضا قال كلاما ناشئا عن محض الحكمة والفطنة على وجه العظة والتذكير لنفسه ليتعظوا به على سبيل الالتزام إذ هو اسلم الطرق في العظة والتذكير وادخل في النصيحة والتنبيه ما لِيَ اى أىّ شيء عرض على ولحق لي لا أَعْبُدُ ولا أتوجه على وجه التذلل والانكسار المعبود الَّذِي فَطَرَنِي على فطرة العبودية اى ابدعنى وأظهرني من كتم العدم ولم أك شيأ مذكورا ورباني بأنواع اللطف والكرم وأفاض على من موائد لطفه وإحسانه سيما العقل المفاض المرشد الى المبدأ والمعاد وَكيف لا اعبد ولا أتوجه نحوه إذ إِلَيْهِ سبحانه يعنى الحق الموصوف بالأوصاف والأسماء الحسنى ونعوت الجلال والجمال لا الى غيره من اظلال الأوثان والأصنام الحادثة الهالكة في حدود ذواتها العاطلة عن الأوصاف الكاملة المنحطة عن رتبة الألوهية والربوبية تُرْجَعُونَ أنتم ايها الاظلال الهالكون التائهون في بيداء ظهوره حيارى هائمين رجوع الأضواء الى شمس الذات والأمواج الى بحر الوحدة الذاتية
أَأنكر المعبود على الحق المظهر لما في الوجود وأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً باطلة من الأوثان عاطلة عن التصرفات مطلقا منحطة عن رتبة العبودية فكيف عن الربوبية والألوهية واسميهم شفعاء مغيثين لدى الحاجة مع انه إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ القادر المقتدر على اصناف الانعام والانتقام بِضُرٍّ اى مصيبة وسوء يتعلق مشيته سبحانه على انزاله الى لا تُغْنِ ولا تدفع عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً من بأس الله وعذابه بل لا تنفعني شفاعتهم أصلا وَلا يُنْقِذُونِ بالمعاونة والمظاهرة من عذابه سبحانه ايضا وبالجملة
إِنِّي بواسطة اتخاذي إياهم شركاء لله شفعاء عنده إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية عظيمة ظاهرة إذ اختيار ما لا ينفع ولا يضر على الضار النافع المعطى المانع او ادّعاء مشاركتهم معه او شفاعتهم عنده سبحانه من أشد الضلالات وأردإ الجهالات وبالجملة
إِنِّي بعد ما تفطنت بوحدة الحق وباستقلاله في الوجود والآثار قد آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الذي هو ربي ورب جميع ما في حيطة الوجود وتحت ظله من الأكوان غيبا وشهادة واعترفت بتوحيده واستقلاله بالتصرف في ملكه وملكوته بعد ما كوشفت بوحدة ذاته فَاسْمَعُونِ يا ايها العقلاء السامعون المدركون مضمون قولي واتصفوا بما فيه وتذكروا به ان كنتم تعلمون فلما سمعوا منه توصيته وتذكيره أخذوا في قتله وإهلاكه فوطئوه بأرجلهم الى حيث يخرج امعاؤه من دبره وهو في تلك الحالة قد زاد انكشافه بربه واستولى عليه سلطان الوحدة وجذبته العناية الإلهية وأدركته الكرامة القدسية حيث
قِيلَ له من قبل الحق حينئذ اخرج من هويتك وانخلع
بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وانكشف علىّ وجذبني نحوه بعد ما ستر عنى انانيتى ومحا منى هويتى وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ المكرمين الآمنين الفائزين المستبشرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وبعد ما قتلوه ظلما وعدوانا ورفعناه مكانا عليا عناية منا إياه وأدخلناه في جنة وحدتنا مغفورا ومسرورا وكشفنا عنه غطاءه كشفا كليّا شوقيا وذوقيا شهوديا قد أخذنا في انتقام قومه منه فأهلكناهم بصيحة واحدة قد صاح بها جبرائيل عليه السلام بأمرنا إياه
وَبالجملة ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ اى قوم الحبيب وهم اهل انطاكية مِنْ بَعْدِهِ اى بعد قتله لننتقم عنهم لأجله مِنْ جُنْدٍ مِنَ جنود السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ اى وما ثبت منا وما جرى في لوح قضائنا إنزال الملائكة لإهلاكهم كما جرت سنتا لإهلاك سائر الأمم الهالكة بل
إِنْ كانَتْ اى ما كانت علة إهلاكهم وهلاكهم من قبلنا إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً او ما وقعت وصدرت منا لإهلاكهم وهلاكهم الا صيحة واحدة على القراءتين بالرفع والنصب وذلك انا بمقتضى قهرنا وجلالنا قد أمرنا جبرائيل عليه السلام بان يأخذ بعضادتي باب مدنيتهم فأخذ وصاح عليهم مرة واحدة فَإِذا هُمْ خامِدُونَ اى فاجؤا جميعا على الخمود والجمود وبعد ما سمعوا الصيحة الهائلة صاروا كالرماد بعد ما كانوا احياء كالنار المشتعلة الساطعة. ثم قال سبحانه من قبل عصاة عباده المأخوذين بشؤم ما اقترفوا من المعاصي والآثام
يا حَسْرَةً وندامة وكآبة عظيمة وحزنا شديدا عَلَى الْعِبادِ المصرين على العناد بعد ما عاينوا العذاب الدنيوي والأخروي النازل عليهم حتما بسبب انكارهم على الرسل والمرسل جميعا وتكذيبهم بجميع ما جاءوا به من عند ربهم وليس لهم حينئذ قوة المقاومة والمدافعة لذلك صاروا حيارى سكارى هائمين متحسرين بلا ناصر ومعين وشفيع حميم من رسول ونبي كريم إذ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ في نشأتهم الاولى يصلح أحوالهم وأعمالهم لئلا يترتب عليها الوبال والنكال الموعود في النشأة الاخرى إِلَّا كانُوا من غاية كبرهم وخيلائهم بِهِ اى بالرسول المصلح المرشد لهم يَسْتَهْزِؤُنَ ويستحقرونه ويستنكفون عن قبول دعوته ودينه وينكرون عليه كهؤلاء المسرفين المشركين معك يا أكمل الرسل
أَيستهزؤن معك يعنى اهل مكة وينكرون بدينك وكتابك لَمْ يَرَوْا اى لم يخبروا ولم يعلموا كَمْ أَهْلَكْنا اى كثرة إهلاكنا واستئصالنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الماضية ولم يعتبروا مما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم وانكارهم على رسله مع أَنَّهُمْ اى الأمم الهالكة السالفة إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ اى لا يرجعون الى هؤلاء المفسدين المسرفين في تكذيبك وإنكارك يا أكمل الرسل في نشأتهم هذه بل مضوا وانقرضوا الى حيث لم يعودوا الى ما كانوا وهؤلاء ايضا سينقرضون هم وأثرهم فلم لم يتنبهوا ولم يعتبروا مما جرى عليهم مع انهم ان أخذوا هؤلاء ايضا أمثالهم صاروا كأن لم يكونوا شيأ مذكورا أمثالهم
وَبالجملة إِنْ كُلٌّ اى ما كل من الفرق والأحزاب المنقرضة عن الدنيا على التعاقب والترادف مردودين إلينا مجتمعين في وقت من الأوقات بل لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ يعنى لا يجتمعون جميعا الا لدينا في يوم العرض والجزاء وفي حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المحفوظ وبالجملة لا اجتماع لهم بعد انقراضهم ما داموا مسجونين في سجن الإمكان مقيدين بسلاسل التعينات وأغلال الهويات
وَآيَةٌ عظيمة منا دالة على كمال قدرتنا على جمعهم وإحضارهم يوم الجزاء لَهُمُ ان يستدلوا بها على صدقها الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ اى اليابسة الجامدة التي أَحْيَيْناها وخضرناها في وقت الربيع بانزال قطرات الماء المترشحة من بحر الحياة عليها وَأَخْرَجْنا بها مِنْها حَبًّا اى جنسا من الحبوبات التي يقتاتون بها فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وبه يعيشون ويتنعمون كذلك في يوم النشور نحيى حسب قدرتنا الكاملة الأبدان المائتة الجامدة اليابسة المتلاشية في أراضي الأجداث بانزال الرشحات الفائضة من بحر حياة الوجود بمقتضى الجود فاعدناهم احياء كما ابدعناهم أولا من العدم
وَايضا من جملة الآيات التي تدل على قدرتنا انا جَعَلْنا فِيها اى في الأرض جَنَّاتٍ بساتين ومتنزهات مملوة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ومن سائر ما يتفكهون به تتميما لتنعمهم وترفههم وَفَجَّرْنا اى قد أخرجنا وأجرينا فِيها اى في خلال البساتين مِنَ الْعُيُونِ والينابيع الجارية التي لا صنع لهم في إجرائها وإخراجها عناية منا إياهم إبقاء لنضارتها ونزاهتها لهم كل ذلك
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ اى من ثمر ما ذكر وقوته ويقوموا أمزجتهم بأنواع ما وهبنا عليهم من النعم حتى يقوموا ويواظبوا على شكرها أداء لحقوقنا الواجبة عليهم وَكذا علمناهم واقدرناهم على عموم ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ من إنشاء المزارع والبساتين والعقارات واجراء الأنهار والقنوات وحفر الآبار أَينكرون على كمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا فَلا يَشْكُرُونَ نعمنا الفائضة إياهم على التعاقب والتوالي ولا ينسبونها إلينا بل الى الوسائل والأسباب العادية جهلا وعنادا طغيانا وكفرانا
سُبْحانَ القادر المقتدر القيوم المطلق المنزه المقدس عن الشبيه والنظير المتبرى عن الشريك والوزير المستقل في التصرف والتدبير الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وقدر الأصناف المتوالدة المتزايدة برمتها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من الشجر والنبات باجناسهما وأنواعهما واصنافهما وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ اى ذكورهم وإناثهم أنواعا وأصنافا واشخاصا وكذا من جميع ما يعلمون من أجناس الحيوانات وأنواعها وأصنافها وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ايضا من المخلوقات التي لا اطلاع لهم عليها إذ ما من مخلوق الا وقد خلق شفعا إذ الفردية والوترية والصمدية لوجوب الوجود والقيومية المطلقة من أخص أوصاف الربوبية والألوهية لا شركة فيها للمصنوع المربوب أصلا إذ لا يتوهم التعدد والكثرة في الوجود المطلق الذي هو عبارة عن الواجب قطعا
وَايضا آيَةٌ عظيمة منا إياهم حق لَهُمُ ان تتأملوا وتستدلوا بها على كمال قدرتنا وحكمتنا وعلمنا وارادتنا اللَّيْلُ المظلم اى العدم الأصلي حين نَسْلَخُ ننزع ونظهر مِنْهُ اى من الليل المظلم النَّهارَ المضيء اى نور الوجود الفائض منا إياهم حسب امتداد اظلال أسمائنا وصفاتنا عليهم فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ مستقرون في ظلمة العدم لولا افاضة جود الوجود عليهم
وَايضا من جملة آياتنا العظام الشَّمْسُ المضيئة المشرقة على صفائح الكائنات كاشراق نور الوجود الفائض منا على هياكل
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ وقد عينا ايضا لأجله حسب قدرتنا الغالبة وحكمتنا البالغة مع انه مرآة خالية عن النور الذاتي قابلة لان يكسبه من قرص الشمس حسب المقابلة والمحاذاة بينهما لذلك جعلنا له مَنازِلَ متفاوتة في الوضع مع الشمس فعند تمام المقابلة والمحاذاة يبدو بدرا كاملا بلا نقصان في قرصه أصلا ثم ينقص شيئا فشيئا يوما فيوما حَتَّى عادَ القمر في آخر المنازل الثمانية والعشرين التي وضعت له كما في علم التنجيم والتقويم لاستفادته النور من الشمس كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ اى كعذق النخلة العتيقة التي عليها الشماريخ المعوجة المصغرة من طول المدى وكذا عينا بمقتضى قدرتنا وحكمتنا لسير كل واحد منهما حسب الفصول الاربعة مقدارا من الزمان بحيث لا يتخلف سيرهما عنه لينتظم امر المعاش لذلك
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها اى لا يتيسر ولا يصح لها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ اى تسرع في سيرها الى ان تدرك القمر بل هي بطيئة السير بحيث تقطع البروج الاثنى عشر في سنة والقمر سريع السير يقطعها في شهر وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ اى لا يسع ولا يتيسر له ان يسبق ويدخل في النهار بل لكل منهما مدة مخصوصة مقدرة من عند العليم الحكيم لا يسع له التجاوز عنها وَكذلك كُلٌّ اى كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارات فِي فَلَكٍ مخصوص معين من الأفلاك السبعة يَسْبَحُونَ يسيرون فيه ويدورون على الانبساط والاستقلال بلا توهم السبق والإدراك
وَايضا آيَةٌ عظيمة منا إياهم لَهُمْ ان يستدلوا بها على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا وحولنا وقوتنا ويواظبوا على شكر نعمتنا وتلك الآية أَنَّا من كمال تربيتنا وتدبيرنا إياهم قد حَمَلْنا أولا عند طوفان نوح عليه السلام ذُرِّيَّتَهُمْ اى آباءهم وأسلافهم فان اسم الذرية كما يطلق على الأبناء كذلك يطلق على الآباء ايضا باعتبار انهم كانوا أبناء لآباء أخر فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملو منهم ومن سائر الحيوانات التي لا تعيش في الماء عناية منا إياهم وإبقاء لنسلهم
وَخَلَقْنا لَهُمْ اى قدرنا وجعلنا لهم اليوم بتعليم منا إياهم سفنا مِنْ مِثْلِهِ اى من جنسه وهي ما يَرْكَبُونَ عليها في متاجرهم وأسفارهم في البحار
وَإِنْ نَشَأْ افناءهم واستئصالهم بالمرة نُغْرِقْهُمْ بالطوفان فَلا صَرِيخَ لا معين ولا مغيث لَهُمْ حينئذ ينصرهم وينجيهم من الغرق وَلا هُمْ ايضا يُنْقَذُونَ لا بناصرهم ولا بأنفسهم من تلك المهلكة
إِلَّا رَحْمَةً ناشئة مِنَّا قد أدركتهم وانجتهم من الغرق وَبعد انجائنا إياهم أمهلنا لهم ليكون مَتاعاً وتمتيعا لهم ولا خلافهم إِلى حِينٍ اى الى قيام الساعة كي نختبرهم هل يصلون الى ما جبلوا لأجله من المعرفة والتوحيد والهداية والايمان مع انا قد أرسلنا إليهم الرسل والأنبياء مبشرين ومنذرين والى أسلافهم ايضا
وَ؟؟؟؟؟ هم اى أسلافهم في غاية تعنتهم وعنادهم إِذا قِيلَ لَهُمُ على؟؟؟؟؟ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مما جرى على اسلافكم من الوقائع؟؟؟؟؟ المهائلة والنوائب الشديدة إليهم يشؤم مفاسدهم وطغيانهم على الله وعلى أنبيائه ورسله بالخروج عن إطاعتهما وانقيادهما وَاحذروا عن ما خَلْفَكُمْ من العذاب الموعود
وَهم ايضا أمثالكم ايها الأخلاف المفرطون في الاعراض عن الحق وسبيله بل ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مشيرة لهم الى ما يعنيهم ويليق بحالهم رادعة لهم عما لا يعنيهم مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الصادرة عن محض الحكمة والعدالة إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ مكذبين لها مستهزئين ممن جاء به أمثالكم
وَبالجملة هم من كمال قسوتهم وبغيهم أمثالكم إِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح وتنبيها لهم على محض الخير أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من فواضل نعمكم الى الفقراء الفاقدين لها لتتصفوا بالكرم وتفوزوا بمرتبة الإيثار قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وكذبوا منهم بآيات الله بعد ما سمعوا الأمر الإلهي الوارد على الانفاق من ألسن المرسلين لِلَّذِينَ آمَنُوا اى المصدقين الممتثلين بأوامر الله ونواهيه ايمانا واحتسابا على سبيل الإنكار والاستبعاد أَنُطْعِمُ اى أتأمروننا ايها الجاهلون الضالون ان نعطى ونطعم مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ القادر المقتدر على اطعام عباده جملة أَطْعَمَهُ وبعد ما لم يشأ مع قدرته لم يطعمهم فأنتم من تلقاء انفسكم تأمروننا بالاطعام وبالجملة إِنْ أَنْتُمْ اى ما أنتم بدينكم هذا أوامركم بما لا يشاء ولا يرضى منه سبحانه إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية عظيمة ظاهرة ادّعيتم الايمان بالله وأمرتم بخلاف مشيته وارادته
وَمهما سمعوا من المؤمنين أمثال هذه الأوامر الجالبة لروح الله ورحمته في اليوم الموعود يَقُولُونَ على سبيل الاستهزاء والتهكم مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي أوعدتمونا به عينوا لنا وقته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم يعنون به صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. ثم قال سبحانه في جواب هؤلاء الضالين المبطلين
ما يَنْظُرُونَ وينتظرون هؤلاء المنكرون المعاندون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هائلة تَأْخُذُهُمْ بغتة وَهُمْ حين وقوعها يَخِصِّمُونَ اى يختصمون ويتخاصمون اى بعضهم مع بعض في العقود والمعاملات ومتى ما جاءتهم الصيحة الفظيعة الفجيعة
فَلا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون تَوْصِيَةً وإيصاء كما هو المعروف من الناس في حال النزع اى لا يمهلهم الفزع المهلك مقدار ان يأتوا بالوصية وَلا يمهلهم ايضا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ اى ينقلبون الى بيوتهم ويتكلمون مع أهليهم
وَبالجملة متى سمعوا الصيحة الاولى ماتوا فجاءة بلا امهال لهم ساعة وطرفة وبعد ما ماتوا بالصيحة الاولى وصاروا كسائر الأموات نُفِخَ فِي الصُّورِ مرة اخرى بعد الصيحة الاولى فَإِذا هُمْ اى جميع الأموات صاروا احياء قائمين هائمين خارجين مِنَ الْأَجْداثِ اى القبور إِلى رَبِّهِمْ الذي يناديهم للعرض والجزاء يَنْسِلُونَ يذهبون ويسرعون طوعا وكرها إذ لا مرجع لهم سواه ولا ملجأ الا هو. ثم لما أفاقوا من ولههم وحيرتهم ورأوا مقدمات العذاب والنكال
قالُوا اى بعضهم لبعض متحيرين متحسرين يا وَيْلَنا وهلكنا تعال تعال فهذا أوانك مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا اى قبورنا التي قد كنا مقبورين مستورين فيها يعنى كل منا مستور عن صاحبه وان كان هناك عذاب ايضا لكن لا تفضيح فيه او المعنى من أيقظنا عن نومنا الذي كنا عليه قبل النفخة الثانية المحيية او بعد النفخة الاولى المميتة وبالجملة انما قالوا ما قالوا تحسرا وتحزنا ثم قيل لهم من قبل الحق هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ اى يومكم هذا هو اليوم الموعود الذي قد وعده الرحمن وأخبره على ألسنة رسله وكتبه لينقذكم من عذابه بمقتضى سعة رحمته وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ في جميع ما جاءوا به من قبل ربهم من الأمور المتعلقة بالنشأة الاخرى وأنتم من
إِنْ كانَتْ اى ما كانت الفعلة منا في امر البعث وقيام الساعة وحشر الأموات إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صادرة بأمرنا فجاءة ألا وهي الصيحة الثانية او ما وقعت الفعلة منا وبأمرنا الا صيحة واحدة فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ اى كل الأموات مجموعون لَدَيْنا مُحْضَرُونَ عندنا مع انه ما صدر عنا في إحضارهم وجمعهم الا صيحة واحدة دفعية
فَالْيَوْمَ اى بعد ما حضر الكل لدينا واجتمع عندنا للعرض والحساب وتنقيد الأعمال وجزاء الأفعال الصادرة عنهم في دار الاختبار لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ولا تنقص من أجور أعمالها الصالحة وَلا تزاد ايضا على فاسدها على مقتضى عدلنا بل لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بمقتضى عملهم ان خيرا فخير وان شرا فشر ثم فصل سبحانه احوال الأنام في النشأة الاخرى فقال
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ألا وهم الواصلون الى مقر التوحيد والمعرفة علما وعينا وحقا الْيَوْمَ اى يوم القيامة المعد للجزاء فِي شُغُلٍ عظيم من انواع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات القالعة لعرق التقليدات والتخمينات التي هي من لوازم الإمكان الذي هو من أسفل دركات النيران فاكِهُونَ فرحون متلذذون ابدا بلا انقراض وانقضاء أصلا بل
هُمْ في شهودهم وَكذا أَزْواجُهُمْ التي هي نتائج أعمالهم الصالحة متمكنون فِي ظِلالٍ هي ظلال الأسماء والصفات الإلهية عَلَى الْأَرائِكِ اى هم على السرر العلية والدرجات السنية مُتَّكِؤُنَ متمكنون راسخون ثابتون لا يتحولون منها ولا ينقلبون
لَهُمْ فِيها عناية منا إياهم فاكِهَةٌ كثيرة من تجددات المعارف والحقائق وتلذذات الكشوفات والشهودات على مقتضى التجليات الإلهية وَبالجملة لَهُمْ فيها ما يَدَّعُونَ ويتمنون من مقتضيات التجليات المتشعشعة حسب الشئون والتطورات الإلهية التي لا نهاية لها بلا تناه وتكرر وقيل لهم من قبل الحق حينئذ
سَلامٌ اى تسليم وترحيب لهم وتكريم قَوْلًا ناشئا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ اى مرب مشفق لهم يربيهم بمقتضى سعة رحمته على فطرة التوحيد ويوصلهم الى مقر الوحدة الذاتية بعد ما رفعوا الشواغل المانعة عن التوجه إليها ورفضوا العلائق العائقة عن التمكن دونها والتحلي بها
وَقيل حينئذ للمشركين المصرين على الشرك والعناد امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ المفرطون المسرفون في الاعراض عن الله بمتابعة الشيطان المضل المغوى عن طريق توحيده وانصرفوا عن اهل التوحيد واليقين. ثم قرعهم سبحانه وعاتبهم زجرا لهم وطردا على وجه العموم لئلا يأمن ايضا المؤمنون المخلصون مع اطمئنانهم على الايمان ورسوخهم في العرفان
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ ولم آخذ منكم موثقا وثيقا في مبدأ فطرتكم بألسنة استعداداتكم واقوال قابلياتكم أَنْ لا تَعْبُدُوا اى بان لا تعبدوا الشَّيْطانَ ولا تطيعوا امره ولا تقبلوا منه وسوسته وقوله المبعد المحرف لكم عن طريق توحيده وبالجملة انما أحذركم يا ابن آدم عن أطاعته وانقياده إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة والنزاع يريد ان يصدكم عما جبلتم عليه باغرائه واغوائه
وَأَنِ اعْبُدُونِي ووحدونى واعتقدوا كمال أسمائي وأوصافي واستقلالى في عموم تدبيراتى وتصرفاتي في ملكي وملكوتي وامتثلوا امرى ولا تشركوا معى في الوجود شيأ من مظاهري ومصنوعاتى هذا الموثوق صِراطٌ
موصل الى توحيدي فاتخذوه سبيلا ولا تركنوا الى الذين ضلوا عن طريقي وظلموا أنفسهم بالخروج عن مقتضى حدودي واوامرى واحكامى وحكمى وتذكيراتى
وَكيف تعبدون الشيطان وتتبعون اثره وتنقادون امره ايها العقلاء المجبولون في فطرة الهداية والرشد مع انه لَقَدْ أَضَلَّ واغوى هذا المضل المغوى مِنْكُمْ يا بنى آدم جِبِلًّا كَثِيراً وجماعة متعددة من بنى نوعكم فانحرفوا بإضلاله عن سواء السبيل ونقضوا باغوائه واغرائه المواثيق الوثيقة والعهود المعهودة فحرموا بذلك عن الجنة الموعودة لهم فاستحقوا جهنم البعد ونيران الخذلان أَتعبدون الشيطان وتقتفون اثره فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ اى لم تستعملوا عقولكم في فظاعة امره وشدة عداوته ووخامة عاقبة متابعته وفيما يترتب على إضلاله من العذاب المخلد والنكال المؤبد فتختارون متابعته ويقبلون منه تقريره وتتركون طريق الحق أفلا تعقلون ايها المسرفون المفرطون وقيل لهم حينئذ مشيرا الى منقلبهم ومثواهم
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي قد كُنْتُمْ ايها الضالون المغرورون تُوعَدُونَ في النشأة الاولى بألسنة الرسل والكتب
اصْلَوْهَا وادخلوها الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ اى بشؤم ما تنكرون بذات الله وبكمال أسمائه وصفاته وبما تكذبون كتبه ورسله وتعرضون عنهم وعن دعوتهم ظلما وعدوانا وبعد ما عاينوا العذاب وانواع النكال وعلموا ان اسبابها ما هي الا أفعالهم الصادرة عنهم في دار الاختبار عزموا الى الإنكار وقصدوا ان يقولوا معتذرين والله ما كنا يا ربنا مشركين لك مكذبين كتبك ورسلك فيقول الله
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ونمنعها عن الكلام والتكلم حتى لا يتفوهوا بالأعذار الكاذبة وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ بما صدر عنهن ظلما وعدوانا وَتَشْهَدُ ايضا أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بها من المعاصي والسعى في طلب المنهيات والمحرمات وبالجملة انطق الله العزيز العليم الخبير الحكيم جميع جوارحهم واركانهم فاعترف كل منها بما اقترف به صاحبه وفي الحديث صلوات الله وسلامه على قائله وحينئذ يقال للعبد كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا ثم قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقى فينطق كل بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول للجوارح بعد ما أقرت واعترفت بعد الكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل انتهى الحديث والسر في إنطاق الله سبحانه الأعضاء والجوارح بما صدر عنها هو الإشارة الى ان الالتفات الى السوى والأغيار مطلقا مضر لذوي الألباب والاعتبار وسبب تفضيح وتخذيل لدى الملك الجبار الغيور القهار فلا تذهب الا الى الله ولا تصحب الا مع الله ولا تعتمد الا بالله ولا تتوكل الا على الله وبالجملة فاتخذ الله وكيلا وكفاك سبحانه حسيبا وكفيلا. رزقك الله وإيانا حلاوة صحبته وجنبك وإيانا عن الالتفات الى غيره بمنه وجوده. ثم قال سبحانه اظهار الكمال قدرته واختياره
وَكما ختمنا على أفواههم حينئذ وطبعنا على قلوبهم قبل ذلك حين لم يقبلوا دعوة الرسل لَوْ نَشاءُ ان نعميهم ونذهب بأبصارهم لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ وصيرناهم مطموسة ممسوجة كسائر أعضائهم بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق فَاسْتَبَقُوا وبادروا الصِّراطَ والطريق المعهود لهم وهم قد مروا عليها مرارا كثيرة فَأَنَّى يُبْصِرُونَ فكيف يبصرونه بعد ما صاروا مطموسين بل
وَلَوْ نَشاءُ ان نسقطهم عن رتبة التكليف ودرجة الاعتبار لَمَسَخْناهُمْ واخرجناهم عن الرتبة الانسانية الى الحيوانية بل عن الحيوانية الى الجمادية ايضا الى ان صاروا جامدين خامدين عَلى مَكانَتِهِمْ كالجمادات الاخر بحيث لا يسع لهم ان يتحولوا عنها أصلا فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ يعنى لو نشاء مسخهم
وَكيف لا نقدر على الطمس والمسخ مع انا بمقتضى قدرتنا وقوتنا مَنْ نُعَمِّرْهُ منهم ونطول عمره في الدنيا نُنَكِّسْهُ ونضعفه فِي الْخَلْقِ بالآخرة الى ان نرده الى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيأ ثم نميت الكل ونصيرهم ترابا وعظاما ولا شك ان من قدر على الأحياء والاماتة والتطويل والتنكيس فهو قادر على المسخ والتطميس فمن اين يتأتى لهم ان ينكروا قدرتنا واختيارنا في أفعالنا واستقلالنا في تصرفات ملكنا وملكوتنا أَفَلا يَعْقِلُونَ ولا يتأملون آثار قدرتنا الغالبة الكاملة الظاهرة على الآفاق والأنفس أولئك العقلاء المتأملون حتى يتفطنوا ويتيقنوا بها. ثم لما قال كفار مكة خذلهم الله ان محمدا شاعر وما جاء به مفترى الى ربه من جملة الاشعار والقياسات المخيلة المشتملة على الترغيبات والتنفيرات والمواعيد والوعيدات وادعاء النبوة والوحى والمعجزة ما هو الا قول باطل وزور ظاهر رد الله عليهم قولهم هذا على وجه المبالغة والتأكيد فقال وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ اى ما جعلنا فطرته الاصلية واستعداده الجبلي قابلة على القياسات الشعرية المبتنية على محض الكذب والخيال المرغب والمنفر بل ما جعلناها الا منزهة عنها بريئة عن أمثالها طاهرة عن ادناس الطبيعة مطلقا خالصة عن شوائب الإمكان ولوث الجهل والتقليد متحلية باليقين والبرهان المنتهى الى الكشف والعيان ثم الى الحق الذي هو منتهى الأمر في باب العرفان وَما يَنْبَغِي لَهُ ويليق بشأنه وبشأن كتابه المنزل عليه ان ينسب هو وهو الى الشعر والشعراء الذين هما ابعد بمراحل عن ساحتي عز جلالهما بل إِنْ هُوَ اى ما الكلام المنزل على خير الأنام إِلَّا ذِكْرٌ عظة وتذكير ناشئ عن العلم والحكمة المتقنة الإلهية مشيرا الى التوحيد الذاتي منبها عليه وَقُرْآنٌ مُبِينٌ مشتمل على احكام ظاهرة وآيات واضحة وبينات لائحة محتو على الأوامر والنواهي الإلهية والحدود والقوانين الموضوعة بالوضع الإلهي بين عباده ليوصلهم الى طريق توحيده منزل على رسوله المستعد لحمله وقبوله
لِيُنْذِرَ أنت يا أكمل الرسل بالتبليغ ان قرئ على صيغة الخطاب او القرآن ان قرئ على الغيبة مَنْ كانَ حَيًّا بحياة الايمان موفقا من عندنا باليقين والعرفان معدودا عن عداد السعداء في حضرة علمنا ولوح قضائنا وَالا يَحِقَّ الْقَوْلُ ويصدر الحكم منا بلحوق العذاب حتما عَلَى الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والعناد المائتين بموت الجهل والإنكار
أَينكرون أولئك المنكرون المشركون توحيدنا ويكفرون نعمنا الفائضة عليهم على التعاقب والتوالي وَلَمْ يَرَوْا ولم يعلموا أَنَّا بمقتضى جودنا خَلَقْنا لَهُمْ بمحض قدرتنا وحكمتنا مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا بلا صنع لهم وتسبب ومظاهرة أَنْعاماً أجناسا وأنواعا وأصنافا فَهُمْ لَها مالِكُونَ متصرفون فيها ضابطون لها قاهرون عليها
وَكيف لا يملكون ولا يتصرفون فيها بأنواع التصرفات مع انا قد ذَلَّلْناها وسخرناها اى أجناس الانعام مع كمال قوتها وقدرتها لَهُمْ ولم نجعلها آبية وحشية عنهم بل مقهورة لهم مذللة لحكمهم لذلك فَمِنْها رَكُوبُهُمْ اى مراكبهم التي يركبون عليها كالإبل والخيل وَمِنْها يَأْكُلُونَ من لحومها وشحومها
وَمع ذلك لَهُمْ فِيها اى في الانعام مَنافِعُ كثيرة من أصوافها واوبارها واشعارها ونتائجها وَمَشارِبُ من ألبانها أَفَلا يَشْكُرُونَ
وَمن علامة كفرانهم بنعم الله ونسيانهم حقوق كرمه انهم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية اولياء وسموهم آلِهَةً مستحقة للعبادة والرجوع في المهمات وكشف عموم الملمات لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ بهم وبشفاعتهم عن بأس الله وبطشه مع انهم جمادات
لا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون نَصْرَهُمْ اى نصر عابديهم بل وَهُمْ اى العابدون لَهُمْ اى للمعبودين جُنْدٌ مُحْضَرُونَ حولهم حافظون لهم مزينون إياهم بأنواع التزيينات وبالجملة هم اى العابدون منسلخون عن مقتضى العقل بعبادتهم إياهم واتخاذهم اولياء شفعاء وتسميتهم آلهة دون الله وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل حالهم وحال معبوداتهم فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ لك بانك شاعر او مجنون وبان كتابك شعر او من أساطير الأولين وبانك كاذب في دعوى الرسالة والنبوة وبان اخبارك بالبعث زور باطل إِنَّا نَعْلَمُ بحضرة علمنا الحضوري عموم ما يُسِرُّونَ ويضمرون في صدورهم وضمائرهم من الكفر والإنكار بتوحيدنا وباستقلالنا في ملكنا وملكوتنا وَايضا نعلم جميع ما يُعْلِنُونَ من الفسوق والعصيان والخروج عن مقتضى الحدود ظلما وعدوانا فنجازيهم على مقتضى علمنا بهم وبأعمالهم. ثم لما بالغ الكفرة المنكرون المصرون في انكار البعث وتكذيبه وجادلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على وجه العناد والمكابرة حتى اتى ابى بن خلف بعظم بال وفته عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال متعجبا على سبيل الإنكار مستبعدا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما كذلك انا لمخرجون مبعوثون هيهات هيهات لما توعدوننا رد الله عليهم وعلى عموم من أنكر قدرته على البعث فقال
أَينكر المنكر المصر قدرتنا على اعادة الروح الى الأبدان وَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ المجبول على الدراية والشعور ولم يتذكر ولم يعلم أَنَّا خَلَقْناهُ وقدرنا وجوده أولا مِنْ نُطْفَةٍ مهينة وهي أرذل من التراب وانزل رتبة فَإِذا هُوَ اليوم بعد ما قد سويناه رجلا كاملا في العقل والرشد خَصِيمٌ مُبِينٌ مجادل مكابر زعيم ظاهر المراء والمجادلة معنا منكرا لقدرتنا مع انه قد كان جمادا أرذل في نهاية الرذالة والخساسة
وَما يستحيى منا ومن قدرتنا حتى ضَرَبَ لَنا مَثَلًا موضحا لنفى قدرتنا وَقد نَسِيَ خَلْقَهُ اى خلقنا إياه ومن كمال نسيانه وضلاله قالَ متعجبا مستبعدا على سبيل الإنكار مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ البالية وَالحال انه هِيَ رَمِيمٌ بال في غاية البلى بحيث تفتت اجزاؤها وتطيرت بالرياح
قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم بعد ما قد بالغوا في الإنكار والاستبعاد يُحْيِيهَا اى العظام ويعيد الروح إليها القادر المقتدر الَّذِي أَنْشَأَها اى أوجدها وابدعها أَوَّلَ مَرَّةٍ من كتم العدم إنشاء إبداعيا بلا سبق مادة ومدة وَان استبعدوا واستحالوا جمع الاجزاء المنبثة المفتتة الممتزجة بعضها مع بعض الى حيث يستحيل امتيازها وافتراقها أصلا قل هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ ومخلوق من نقير وقطمير عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يغيب عن حيطة حضرة علمه ذرة ولا يشتبه عليه شيء من معلوماته فله سبحانه ان يميز أجزاء كل شخص شخص ويركبها على الوجه
الَّذِي كان عليه في النشأة الاولى ثم يعيد الروح اليه فصار حيا كما كان وما ذلك على الله بعزيز وكيف لا يقدر العليم الحكيم على امتياز أجزاء الأنام والتيامها واعادة الروح إليها إذ هو القادر المقتدر الذي جَعَلَ لَكُمْ ايها المكلفون حسب علمه وقدرته مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ الرطب الذي يتقاطر منه الماء ناراً مع ان بين الماء والنار من التضاد وكيف تنكرون إخراج النار من الشجر الرطب فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ
أَينكر المنكرون قدرتنا على البعث وحشر الموتى وَلَيْسَ القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ أوجد واظهر السَّماواتِ اى العلويات وما فيها وَالْأَرْضَ اى السفليات وما عليها بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ويعيدهم احياء كما كانوا بَلى من قدر على خلق السموات العلى والأرضين السفلى قادر على بعث الموتى وحشرهم في النشأة الاخرى بالطريق الاولى وَكيف لا هُوَ الْخَلَّاقُ المبالغ في تكثير الخلق والإيجاد ابداعا وإبداء واعادة الْعَلِيمُ بعموم المعلومات والمقدورات ازلا وابدا على التفصيل بحيث لا يخرج عن حيطة حضوره ذرة من ذرائر ما كان ويكون بل الكل عنده ممتاز محفوظ وبالجملة لا تستبعدوا ايها الجاهلون بالله وبعلمه وقدرته وسائر أوصافه الكاملة وأسمائه العامة الشاملة أمثال هذا بل بالنسبة اليه سبحانه سهل يسير وكيف لا يسهل عليه سبحانه أمثال هذا
إِنَّما أَمْرُهُ وشأنه انه إِذا أَرادَ شَيْئاً اى تعلق ارادته بتكوين شيء من معلوماته ومقدوراته أَنْ يَقُولَ لَهُ بعد ما تعلق عليه ارادته كُنْ المؤدى لأمره وحكمه فَيَكُونُ المأمور المحكوم على الفور بلا تراخ ومهلة والتعقيب انما ينشأ من العبارة والا فلا تأخير ولا تعقيب في سرعة نفوذ قضائه سبحانه وبالجملة إياك إياك ومحتملات الألفاظ ومنطوقات العبارات فإنها بمعزل عن ادراك كيفية امر الله وشأن حكمه ومضاء قضائه على وجهه ومتى سمعت ما سمعت من كمال قدرة الله ومتانة حكمه وحيطة علمه وقدرته وشمول ارادته واستقلال اختياره
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وله التصرف بالاستحقاق والاستقلال في ملكه وملكوته يعنى تنزه وتقدس ذات من في يده وقبضة قدرته مقاليد الملك ومفاتيح الملكوت من ان يعجز عن اعادة الأموات احياء سيما بعد ما ابدأهم من العدم كذلك ولم يكونوا حينئذ شيأ مذكورا تعالى شأنه عما يقول الظالمون في حقه علوا كبيرا وَكيف لا يقدر سبحانه على البعث والأحياء إذ إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا غير معه في الوجود ولا اله سواه موجود مشهود تُرْجَعُونَ رجوع الأمواج الى الماء والأضواء الى الذكاء سبحان من لا يجرى في ملكه الا ما يشاء
خاتمة سورة يس
عليك ايها السالك المتدبر المتأمل في كيفية رجوع الكائنات الى الوحدة الذاتية وارتباط عموم المظاهر والمصنوعات الى المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي أزال الله عن بصر بصيرتك سبل الحول واعانك على رفع الحجب وكشف العلل ان تصفى باطنك عن الميل الى الغير والسوى مطلقا بحيث يصير باطنك مملوا بمحبة الله فتترسخ تلك المحبة فيه وتتمرن الى ان قد خفى عليك جميع خواطرك وهواجس نفسك سواها ثم تسرى من باطنك الى ظاهرك فتشغلك عن عموم مشتهياتك ومستلذاتك ومقتضيات جوارحك وقواك وبالجملة يمتلئ بها ظاهرك وباطنك فحينئذ لم يبق لك التفات الى الغير مطلقا فصرت حيرانا مدهوشا مستغرقا بمطالعة وجه الله الكريم وبعد ما صرت كذلك قد جذبك الحق عنك نفسك وستر عليك رمسك الى ان قد غبت فيه وفنيت