قال النسائي : أخبرنا إسماعيل بن مسعود، حدثنا خالد - يعني ابن الحارث - عن ابن أبي ذئب قال : أخبرني بن عبد الرحمن، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا٢ بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات. تفرد به النسائي٣.
٢ - (٢) في ت: "يأمر"..
٣ - (٣) سنن النسائي (٢/٩٥)..
ﰡ
[وَهِيَ] (١) مَكِّيَّةٌ.
قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ -يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ-عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: أخبرني بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا (٢) بِالتَّخْفِيفِ، وَيَؤُمُّنَا بِالصَّافَّاتِ. تَفَرَّدَ بِهِ النَّسَائِيُّ (٣).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (٢) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (٣) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (٥) ﴾قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا﴾ وَهِيَ: الْمَلَائِكَةُ، ﴿فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا﴾ وَهِيَ: الْمَلَائِكَةُ، ﴿فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا﴾ هِيَ: الْمَلَائِكَةُ.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وعِكْرِمة، وَمُجَاهِدٌ، والسُّدِّيّ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: الْمَلَائِكَةُ صُفُوفٌ فِي السَّمَاءِ.
وَقَالَ (٤) مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَة، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْل، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ رِبْعِيّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فُضِّلنا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعلت صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا (٥) وجُعلت لَنَا تُربتها (٦) طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ" (٧).
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنِ المُسَيَّب بْنِ رَافِعٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفة، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم "ألا تَصُفّون كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ " قُلْنَا: وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُتِمون الصُّفُوفَ الْمُتَقَدِّمَةَ ويَتَراصون فِي الصَّفِّ" (٨).
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا﴾ أَنَّهَا تَزْجُرُ السَّحَابَ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: ﴿فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا﴾ : مَا زَجَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ. وَكَذَا رَوَى مَالِكٌ، عَنْ زيد بن أسلم.
(٢) في ت: "يأمر".
(٣) سنن النسائي (٢/٩٥).
(٤) في ت: "وروى".
(٥) في س: "مسجدا وطهورا".
(٦) في ت، س: "تربتها لنا".
(٧) صحسح مسلم برقم (٥٢٢).
(٨) صحيح مسلم برقم (٤٣٠) وسنن أبي داود برقم (٦٦١) وسنن النسائي (٢/٩٢) وسنن ابن ماجه برقم (٩٢٢).
وكذا قال ابن عباس، ومسروق، وسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة، ومجاهد، والسُّدِّيّ، وقتادة، والربيع بن أنس.
وقال السدي وغيره : معنى قوله ﴿ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ﴾ أنها تزجر السحاب.
وقال الربيع بن أنس :﴿ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ﴾ : ما زجر الله عنه في القرآن. وكذا رَوَى مالك، عن زيد بن أسلم.
وكذا قال ابن عباس، ومسروق، وسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة، ومجاهد، والسُّدِّيّ، وقتادة، والربيع بن أنس.
﴿ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ﴾ قال السدي : الملائكة يجيئون بالكتاب، والقرآن من عند الله إلى الناس. وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ﴾ [ المرسلات : ٥، ٦ ].
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ﴾ هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ تَعَالَى لَا إِلَهَ إلا هو ﴿رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أَيْ: مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، ﴿وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾ أَيْ: هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْخَلْقِ بِتَسْخِيرِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ كَوَاكِبَ (١) ثَوَابِتَ، وَسَيَّارَاتٍ تَبْدُو مِنَ الْمَشْرِقِ، وَتَغْرُبُ مِنَ الْمَغْرِبِ. وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَشَارِقِ عَنِ الْمَغَارِبِ لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾ [الْمَعَارِجِ: ٤٠]. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ [الرَّحْمَنِ: ١٧] يَعْنِي فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (٦) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (٧) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٨) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (٩) إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (١٠) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ زَيَّنَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا لِلنَّاظِرِينَ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ ﴿بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾، قُرِئَ بِالْإِضَافَةِ وَبِالْبَدَلِ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ وَالثَّوَابِتُ يَثْقُبُ ضَوْءُهَا جِرْمَ السَّمَاءِ الشَّفَّافَ، فَتُضِيءُ (٢) لِأَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ [الْمُلْكِ: ٥]، وَقَالَ: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾ [الْحِجْرِ: ١٦-١٨].
وَقَوْلُهُ هَا هُنَا: ﴿وَحِفْظًا﴾ تَقْدِيرُهُ: وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا، ﴿مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ﴾ يَعْنِي: الْمُتَمَرِّدَ الْعَاتِيَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِقَ السَّمْعَ، أَتَاهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ فَأَحْرَقَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى﴾ أَيْ: لِئَلَّا يَصِلُوا (٣) إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَهِيَ السَّمَاوَاتُ وَمِنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِذَا تَكَلَّمُوا بِمَا يُوحِيهِ اللَّهُ مِمَّا يَقُولُهُ مِنْ شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سَبَأٍ: ٢٣] وَلِهَذَا قَالَ ﴿وَيُقْذَفُون﴾ أَيْ: يُرْمَوْنَ ﴿مِنْ كُلِّ جَانِبٍ﴾ أَيْ: مِنْ كُلِّ جِهَةٍ يَقْصِدُونَ السَّمَاءَ مِنْهَا، ﴿دُحُورًا﴾ أَيْ: رَجْمًا يُدْحَرُونَ بِهِ وَيُزْجَرُونَ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ﴾ أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لَهُمْ عَذَابٌ دَائِمٌ مُوجِعٌ مُسْتَمِرٌّ، كَمَا قَالَ: ﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ [الْمُلْكِ: ٥].
وَقَوْلُهُ: ﴿إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ﴾ أَيْ: إِلَّا مَنِ اخْتَطَفَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الخطفة، وهي الكلمة يسمعها
(٢) في ت، س: "فيضئ".
(٣) في ت، س: "يصلون".
قال١ ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال : كان للشياطين مقاعد في السماء فكانوا٢ يستمعون الوحي. قال : وكانت النجوم لا تجري، وكانت الشياطين لا تُرْمى قال : فإذا سمعوا٣ الوحي نزلوا إلى الأرض، فزادوا في الكلمة تسعًا. قال : فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل الشيطان إذا قعد مقعده جاء شهاب فلم يُخْطئه حتى يُحرقَه. قال : فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال : ما هو إلا من أمْر حدث. قال : فَبَثّ جنوده، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي بين جبلي نخلة - قال وكيع : يعني بطن نخلة - قال : فرجعوا إلى إبليس فأخبروه، فقال : هذا الذي حدث. ٤
وستأتي الأحاديث الواردة مع الآثار في هذا المعنى عند قوله تعالى إخبارا عن الجن أنهم قالوا :﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا. وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾ [ الجن : ٨ - ١٠ ].
٢ - (٢) في ت، س: "قال: فكانوا"..
٣ - (٣) في أ: "استمعوا"..
٤ - تفسير الطبري (٢٣/٢٥)..
قَالَ (١) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِلشَّيَاطِينِ مَقَاعِدُ فِي السَّمَاءِ فَكَانُوا (٢) يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ. قَالَ: وَكَانَتِ النُّجُومُ لَا تَجْرِي، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَا تُرْمى قَالَ: فَإِذَا سَمِعُوا (٣) الْوَحْيَ نَزَلُوا إِلَى الْأَرْضِ، فَزَادُوا فِي الْكَلِمَةِ تِسْعًا. قَالَ: فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جعل الشَّيْطَانُ إِذَا قَعَدَ مَقْعَدَهُ جَاءَ شِهَابٌ فَلَمْ يُخْطئه حَتَّى يُحرقَه. قَالَ: فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مِنْ أمْر حَدَثَ. قَالَ: فَبَثّ جُنُودَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْ نَخْلَةَ -قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي بَطْنَ نَخْلَةَ-قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى إِبْلِيسَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هَذَا الَّذِي حَدَثَ. (٤)
وَسَتَأْتِي الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ مَعَ الْآثَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْجِنِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا. وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الْجِنِّ: ٨-١٠].
﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (١٨) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: فَسَل هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ: أَيُّمَا أَشَدُّ خُلُقًا هُمْ أَمِ (٥) السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ؟ -وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "أَمْ مَنْ عَدَدْنَا"-فَإِنَّهُمْ يُقرّون أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ؟ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا أَنْكَرُوا (٦). كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غَافِرٍ: ٥٧] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ خُلقوا مِنْ شَيْءٍ ضَعِيفٍ، فَقَالَ ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ﴾
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الْجَيِّدُ الَّذِي يَلْتَزِقُ بعضه ببعض. وقال
(٢) في ت، س: "قال: فكانوا".
(٣) في أ: "استمعوا".
(٤) تفسير الطبري (٢٣/٢٥).
(٥) في س: "أو".
(٦) في ت، أ: "أنكروه".
قال قتادة : عجب محمد صلى الله عليه وسلم، وسَخِر ضُلال بني آدم.
وَقَوْلُهُ: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ أَيْ: بَلْ عَجِبْتَ -يَا مُحَمَّدُ-مِنْ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، وَأَنْتَ مُوقِنٌ مُصَدِّقٌ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ، وَهُوَ إِعَادَةُ الْأَجْسَامِ بَعْدَ فَنَائِهَا. وَهُمْ بِخِلَافِ أَمْرِكَ، مِنْ شِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ يَسْخَرُونَ مِمَّا تَقُولُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ قَتَادَةُ: عَجِبَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسَخِر ضُلال بَنِي آدَمَ. ﴿وَإِذَا رَأَوْا آيَةً﴾ أَيْ: دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى ذَلِكَ ﴿يَسْتَسْخِرُونَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَسْتَهْزِئُونَ.
﴿وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أَيْ: إِنْ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ﴾ يَسْتَبْعِدُونَ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُونَ بِهِ، ﴿قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ﴾ أَيْ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: نَعَمْ تُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ مَا تَصِيرُونَ تُرَابًا وَعِظَامًا، ﴿وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ﴾ أَيْ: حَقِيرُونَ تَحْتَ الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النَّمْلِ: ٨٧]، وَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غَافِرٍ: ٦٠].
ثُمَّ قَالَ: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ﴾ أَيْ: إِنما هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَدْعُوهُمْ دَعْوَةً وَاحِدَةً أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْأَرْضِ، فَإِذَا هُمْ [قِيَامٌ] (١) بَيْنَ يَدَيْهِ، يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
﴿وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤) ﴾
وقال سفيان الثوري، عن سمَاك، عن النعمان بن بشير، ٣ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ قال إخوانهم :٤.
وقال شريك، عن سماك، عن النعمان قال : سمعت عمر يقول ﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ قال : أشباههم قال : يجيء صاحب الربا مع أصحاب الربا، وصاحب٥ الزّنا مع أصحاب الزّنا، وصاحب٦ الخمر مع أصحاب الخمر، وقال خُصَيْف، عن مِقْسَم، عن ابن عباس :﴿ أَزْوَاجَهُمْ ﴾ : نساءهم. وهذا غريب، والمعروف عنه الأول، كما رواه مجاهد وسعيد بن جبير، عنه :﴿ أَزْوَاجَهُمْ ﴾ : قُرَناءهم٧.
﴿ وما كانوا يعبدون من دون الله ﴾ أي : من الأصنام والأنداد، تحشر معهم في أماكنهم. وقوله :﴿ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴾ أي : أرشدوهم إلى طريق جهنم، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ].
٢ - زيادة من ت..
٣ - (٢) في أ: "بشر"..
٤ - (٣) رواه الطبري في تفسيره (٢٣/٣١)..
٥ - في ت، س، أ: "أصحاب"..
٦ - في س: "قرباؤهم"..
٧ - في س: "قرباؤهم"..
وقال سفيان الثوري، عن سمَاك، عن النعمان بن بشير، ٣ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ قال إخوانهم :٤.
وقال شريك، عن سماك، عن النعمان قال : سمعت عمر يقول ﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ قال : أشباههم قال : يجيء صاحب الربا مع أصحاب الربا، وصاحب٥ الزّنا مع أصحاب الزّنا، وصاحب٦ الخمر مع أصحاب الخمر، وقال خُصَيْف، عن مِقْسَم، عن ابن عباس :﴿ أَزْوَاجَهُمْ ﴾ : نساءهم. وهذا غريب، والمعروف عنه الأول، كما رواه مجاهد وسعيد بن جبير، عنه :﴿ أَزْوَاجَهُمْ ﴾ : قُرَناءهم٧.
﴿ وما كانوا يعبدون من دون الله ﴾ أي : من الأصنام والأنداد، تحشر معهم في أماكنهم. وقوله :﴿ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴾ أي : أرشدوهم إلى طريق جهنم، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ].
٢ - زيادة من ت..
٣ - (٢) في أ: "بشر"..
٤ - (٣) رواه الطبري في تفسيره (٢٣/٣١)..
٥ - في ت، س، أ: "أصحاب"..
٦ - في س: "قرباؤهم"..
٧ - في س: "قرباؤهم"..
٢ - زيادة من ت..
٣ - سنن الترمذي برقم (٣٢٢٨)..
٤ - تفسير الطبري (٢٣/٣٢).
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قِيلِ الْكَفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ (١) كَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، فَإِذَا عَايَنُوا أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ نَدمُوا كلَّ النَّدَمِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، ﴿وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ﴾. فَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ: ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾. وَهَذَا يُقَالُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَيَأْمُرُ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ تُميزَ الْكُفَّارَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَوْقِفِ فِي مَحْشَرِهِمْ وَمَنْشَرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ (٢) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَعْنِي بِأَزْوَاجِهِمْ أَشْبَاهَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وسعيد
(٢) في أ: "بشر".
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سمَاك، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، (٢) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ قَالَ إِخْوَانَهُمْ: (٣).
وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ النُّعْمَانِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ قَالَ: أَشْبَاهَهُمْ قَالَ: يَجِيءُ صَاحِبُ الرِّبَا مَعَ أَصْحَابِ الرِّبَا، وَصَاحِبُ (٤) الزِّنَا مَعَ أَصْحَابِ الزِّنَا، وَصَاحِبُ (٥) الْخَمْرِ مَعَ أَصْحَابِ الْخَمْرِ، وَقَالَ خُصَيْف، عَنْ مِقْسَم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أَزْوَاجَهُمْ﴾ : نِسَاءَهُمْ. وَهَذَا غَرِيبٌ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ الْأَوَّلُ، كَمَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْهُ: ﴿أَزْوَاجَهُمْ﴾ : قُرَناءهم (٦).
"وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ" أَيْ: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، تُحْشَرُ مَعَهُمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ أَيْ: أَرْشَدُوهُمْ إِلَى طَرِيقِ جَهَنَّمَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٩٧].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ أَيْ: قِفُوهُمْ حَتَّى يُسألوا عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمُ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي احْبِسُوهُمْ إِنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: (٧) حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا النُّفَيلي، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثًا يُحدّث عَنْ بِشْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٨) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى شَيْءٍ كَانَ مَوْقُوفًا مَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُغَادِرُهُ وَلَا يُفَارِقُهُ، وَإِنْ دَعَا رَجُلٌ رَجُلًا"، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ. (٩) وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُعْتَمِرٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا (١٠).
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ زَائدَةَ يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسأل عَنْهُ الرَّجُلُ جُلَسَاؤُهُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ﴾ أَيْ: كَمَا (١١) زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، ﴿بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ أَيْ: مُنْقَادُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ، لَا يُخَالِفُونَهُ وَلَا يَحِيدُونَ عنه.
(٢) في أ: "بشر".
(٣) رواه الطبري في تفسيره (٢٣/٣١).
(٤) في ت، س، أ: "أصحاب".
(٥) في س: "قرباؤهم".
(٦) في س: "قرباؤهم".
(٧) في ت: "الترمذي".
(٨) زيادة من ت.
(٩) سنن الترمذي برقم (٣٢٢٨).
(١٠) تفسير الطبري (٢٣/٣٢)
(١١) في ت: "كلما".
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَلَاوَمُونَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، كَمَا يَتَخَاصَمُونَ فِي دَرَكات النَّارِ، ﴿فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ [غَافِرٍ: ٤٧، ٤٨]. وَقَالَ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سبأ: ٣١-٣٣]. (١) قالوا لهم ههنا: ﴿إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ: كُنْتُمْ تَقْهَرُونَنَا بِالْقُدْرَةِ مِنْكُمْ عَلَيْنَا، لِأَنَّا (٢) كُنَّا أَذِلَّاءَ وَكُنْتُمْ أَعِزَّاءَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: عَنِ الْحَقِّ، الْكُفَّارُ تَقُولُهُ (٣) لِلشَّيَاطِينِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتِ الْإِنْسُ لِلْجِنِّ: ﴿إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ﴾ قَالَ: مِنْ قِبَلِ الْخَيْرِ، فَتَنْهُونَا عَنْهُ وَتُبْطِئُونَا عَنْهُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ تَأْتُونَنَا [عَنِ الْيَمِينِ] (٤) مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ، تُزَيِّنُونَ (٥) لَنَا الْبَاطِلَ، وَتَصُدُّونَا عَنِ الْحَقِّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ﴾ إيْ وَاللَّهِ، يَأْتِيهِ عِنْدَ كُلِّ خَيْرٍ يُرِيدُهُ فَيَصُدُّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ تَحُولُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخَيْرِ، وَرَدَدْتُمُونَا عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِالْخَيْرِ الَّذِي أَمَرَنَا بِهِ.
وَقَالَ يَزِيدُ الرشْك: مِنْ قِبَلِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". وَقَالَ خُصيف: يَعْنُونَ مِنْ قِبَلِ مَيَامِنِهِمْ. وَقَالَ
(٢) في أ: "لأننا".
(٣) في ت: "بقوله".
(٤) زيادة من أ.
(٥) في أ: "وتزينوا".
وَقَوْلُهُ: ﴿قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ تَقُولُ الْقَادَةُ مِنَ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ لِلْأَتْبَاعِ: مَا الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ؟ بَلْ كَانَتْ قُلُوبُكُمْ مُنْكِرَةً لِلْإِيمَانِ، قَابِلَةً لِلْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، ﴿وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ (١) أَيْ: مِنْ حُجَّةٍ عَلَى صِحَّةِ مَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَيْهِ، ﴿بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ﴾ أَيْ: بَلْ كَانَ فِيكُمْ طُغْيَانٌ وَمُجَاوَزَةٌ لِلْحَقِّ، فَلِهَذَا اسْتَجَبْتُمْ لَنَا وَتَرَكْتُمُ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَتْكُمْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَأَقَامُوا لَكُمُ الْحُجَجَ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءُوكُمْ بِهِ، فَخَالَفْتُمُوهُمْ.
﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾، يَقُولُ الْكُبَرَاءُ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ: حَقَّتْ عَلَيْنَا كَلِمَةُ اللَّهِ (٢) : إِنَّا مِنَ الْأَشْقِيَاءِ الذَّائِقِينَ الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿فَأَغْوَيْنَاكُمْ﴾ أَيْ: دَعَوْنَاكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، ﴿إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ أَيْ: دَعَوْنَاكُمْ (٣) إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَاسْتَجَبْتُمْ لَنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ أَيِ: الْجَمِيعُ فِي النَّارِ، كُلٌّ بِحَسَبِهِ، ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا﴾ أَيْ: فِي الدَّارِ الدُّنْيَا ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أَيْ: يَسْتَكْبِرُونَ أَنْ يَقُولُوهَا، كَمَا يَقُولُهَا الْمُؤْمِنُونَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنُ أَخِي ابْنِ وَهْب، حَدَّثَنَا عَمِّي، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ مُسافر -يَعْنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ-عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيرة، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وحسابه على الله، وأنزل الله في كتابه -وَذَكَرَ قَوْمًا اسْتَكْبَرُوا-فَقَالَ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (٤).
وَقَالَ (٥) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حمَّاد، عَنْ سَعِيدٍ الجُرَيري، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: يُؤْتَى بِالْيَهُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: اللَّهَ وعُزَيرًا. فَيُقَالُ لَهُمْ: خُذُوا ذَاتَ الشِّمَالِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالنَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعْبُدُ اللَّهَ وَالْمَسِيحَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: خُذُوا ذَاتَ الشِّمَالِ. ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمُشْرِكِينَ فَيُقَالُ لَهُمْ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، فَيَسْتَكْبِرُونَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، فَيَسْتَكْبِرُونَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَيَسْتَكْبِرُونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: خُذُوا ذَاتَ الشِّمَالِ -قَالَ أَبُو نَضْرَةَ: فَيَنْطَلِقُونَ أَسْرَعَ مِنَ الطَّيْرِ-قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ: ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمُسْلِمِينَ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ تَعْرِفُونَهُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لَهُمْ: فَكَيْفَ تَعْرِفُونَهُ وَلَمْ تَرَوْهُ؟ قَالُوا: نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ. قَالَ: فَيَتَعَرَّفُ لَهُمْ تَبَارَكَ وتعالى، وينجي الله المؤمنين.
(٢) في أ: "كلمة ربك".
(٣) في ت، س: "فدعوناكم".
(٤) وقد رواه مسلم في صحيحه برقم (٢١) بدون ذكر الآية من طريق يونس عن الزهري به.
(٥) في ت: "وروى".
وقال مجاهد : يعني : عن الحق، الكفار تقوله٢ للشياطين.
وقال قتادة : قالت الإنس للجن :﴿ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ﴾ قال : من قبل الخير، فتنهونا عنه وتبطئونا عنه.
وقال السدي تأتوننا [ عن اليمين ]٣ من قبل الحق، تزينون٤ لنا الباطل، وتصدونا عن الحق.
وقال الحسن في قوله :﴿ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ﴾ إيْ والله، يأتيه عند كل خير يريده فيصده عنه.
وقال ابن زيد : معناه تحولون بيننا وبين الخير، ورددتمونا عن الإسلام والإيمان والعمل بالخير الذي أمرنا به.
وقال يزيد الرشْك : من قبل " لا إله إلا الله ". وقال خُصيف : يعنون من قبل ميامنهم. وقال
عكرمة ﴿ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ﴾، قال : من حيث نأمنكم.
٢ - (٣) في ت: "بقوله"..
٣ - زيادة من أ..
٤ - في أ: "وتزينوا"..
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وَهْب، حدثنا عمي، حدثنا الليث، عن ابن مُسافر - يعني عبد الرحمن بن خالد - عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هُرَيرة، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله، فمن قال : لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله، وأنزل الله في كتابه - وذكر قوما استكبروا - فقال :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾١.
وقال٢ ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، حدثنا حمَّاد، عن سعيد الجُرَيري، عن أبي العلاء قال : يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : الله وعُزَيرًا. فيقال لهم : خذوا ذات الشمال، ثم يؤتى بالنصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : نعبد الله والمسيح. فيقال لهم : خذوا ذات الشمال. ثم يؤتى بالمشركين فيقال لهم :" لا إله إلا الله "، فيستكبرون. ثم يقال لهم :" لا إله إلا الله "، فيستكبرون. ثم يقال لهم :" لا إله إلا الله " فيستكبرون. فيقال لهم : خذوا ذات الشمال - قال أبو نضرة : فينطلقون أسرع من الطير - قال أبو العلاء : ثم يؤتى بالمسلمين فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد الله. فيقال لهم : هل تعرفونه إذا رأيتموه ؟ فيقولون : نعم. فيقال لهم : فكيف تعرفونه ولم تروه ؟ قالوا : نعلم أنه لا عِدْلَ له. قال : فيتعرف لهم تبارك وتعالى، وينجي الله المؤمنين.
٢ - في ت: "وروى"..
٢ - في ت، س: "أخبروا".
﴿إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ (٣٨) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٤) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلنَّاسِ: ﴿إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ. وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عِبَادَهُ الْمُخْلَصِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [الْعَصْرِ: ١-٣].
وَقَالَ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [التِّينِ: ٤-٦]، وَقَالَ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٧١، ٧٢]، وَقَالَ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: ٣٨، ٣٩] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ أَيْ: لَيْسُوا يَذُوقُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَلَا يُنَاقَشُونَ فِي الْحِسَابِ، بَلْ يَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، إِنْ كَانَ لَهُمْ سَيِّئَاتٌ، وَيُجْزَوْنَ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّضْعِيفِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾ قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي الْجَنَّةَ. ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَوَاكِهُ﴾ أَيْ: مُتَنَوِّعَةٌ ﴿وَهُمْ مُكْرَمُونَ﴾ أَيْ: يُخْدمون [وَيُرْزَقُونَ] (٥) وَيُرَفَّهُونَ وَيُنَعَّمُونَ، ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ فِي قَفَا بَعْضٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدَكَ (٦) الْقَزْوِينِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ (٧) حَسَّانَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بِشْرٍ، (٨) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ﴿عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بعض.
(٢) زيادة من ت، س.
(٣) في أ: "ما شرعه".
(٤) في ت، س: "أخبروا"
(٥) زيادة من أ.
(٦) في أ: "عبد الله".
(٧) في أ: "حبان".
(٨) في أ: "بشير".
وَقَوْلُهُ ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ﴾، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ١٧-١٩] فَنَزَّهَ اللَّهُ خَمْرَ الْآخِرَةِ (٢) عَنِ الْآفَاتِ الَّتِي فِي خَمْرِ الدُّنْيَا، مِنْ صُدَاعِ الرَّأْسِ وَوَجَعِ الْبَطْنِ -وَهُوَ الْغَوْلُ-وَذَهَابِهَا بِالْعَقْلِ جُمْلَةً، فَقَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ﴾ أَيْ: بِخَمْرٍ مِنْ أَنْهَارٍ جَارِيَةٍ، لَا يَخَافُونَ انْقِطَاعَهَا وَلَا فَرَاغَهَا.
قَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: خَمْرٌ جَارِيَةٌ بَيْضَاءُ، أَيْ: لَوْنُهَا مُشْرِقٌ حَسَنٌ بَهِيٌّ لَا كَخَمْرِ الدُّنْيَا فِي مَنْظَرِهَا الْبَشِعِ الرَّدِيءِ، مِنْ حُمْرَةٍ أَوْ سَوَادٍ أَوِ اصْفِرَارٍ أَوْ كُدُورَةٍ، (٣) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُنَفِّرُ الطَّبْعَ السَّلِيمَ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ أَيْ طَعْمُهَا طَيِّبٌ كَلَوْنِهَا، وَطِيبُ الطَّعْمِ دَلِيلٌ عَلَى طِيبِ الرِّيحِ، بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ يَعْنِي: لَا تُؤَثِّرُ فِيهِمْ غَوْلًا -وَهُوَ وَجَعُ الْبَطْنِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ-كَمَا تَفْعَلُهُ خَمْرُ الدُّنْيَا مِنَ القُولَنْج وَنَحْوِهُ، لِكَثْرَةِ مَائِيَّتِهَا.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْغَوْلِ هَاهُنَا: صُدَاعُ الرَّأْسِ. وَرُوِيَ هَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ صُدَاعُ الرَّأْسِ، وَوَجَعُ الْبَطْنِ. وَعَنْهُ، وَعَنِ السُّدِّيِّ: لَا تَغْتَالُ عُقُولَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَا زَالَتِ الكأسُ تَغْتَالُنا | وتَذْهبُ بالأوَّل الأوَّلِ (٤) (٥) |
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُذْهِبُ عُقُولَهُمْ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: السُّكْرُ، وَالصُّدَاعُ، وَالْقَيْءُ، وَالْبَوْلُ. فَذَكَرَ اللَّهُ خَمْرَ الْجَنَّةِ فَنَزَّهَهَا عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ، كَمَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ "الصَّافَّاتِ" (٦).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ أَيْ: عَفِيفَاتٌ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ. كَذَا قَالَ ابْنُ
(٢) في ت، س: "الجنة".
(٣) في ت: "كدرة".
(٤) في ت: "فالأول".
(٥) البيت في تفسير الطبري (٢٣/٣٥).
(٦) في ت: "والصافات".
وَقَوْلُهُ ﴿عِينٌ﴾ أَيْ: حِسَانُ الْأَعْيُنِ. وَقِيلَ: ضِخَامُ الْأَعْيُنِ. هُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَهِيَ النَّجْلَاءُ الْعَيْنَاءُ، فَوَصَفَ عُيُونَهُنَّ بِالْحُسْنِ وَالْعِفَّةِ، كَقَوْلِ زَلِيخَا فِي يُوسُفَ حِينَ جَمَّلَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ عَلَى تِلْكَ النِّسْوَةِ، فَأَعْظَمْنَهُ وَأَكْبَرْنَهُ، وَظَنَنَّ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِحُسْنِهِ وَبَهَاءِ مَنْظَرِهِ، قَالَتْ: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ [يُوسُفَ: ٣٢] أَيْ: هُوَ مَعَ هَذَا الْجَمَالِ عَفِيفٌ تَقِيٌّ نَقِيٌّ، [فَأَرَتْهُنَّ جَمَالَهُ الظَّاهِرَ وَأَخْبَرَتْهُنَّ بِجَمَالِهِ الْبَاطِنِ]. (١) وَهَكَذَا الْحُورُ الْعِينُ ﴿خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٧٠]، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ وَصَفَهُنَّ بِتَرَافَةِ الْأَبْدَانِ بِأَحْسَنِ الْأَلْوَانِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ يَقُولُ: اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ.
وَيُنْشَدُ هَاهُنَا بَيْتُ أَبِي دَهْبَلَ الشَّاعِرِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
وَهْيَ زَهْرَاء مثْلَ لُؤْلُؤَةِ الْغَوَّ | اصِ مُيِّزَتْ مِن جَوْهَرٍ مكْنُون (٢) |
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْبَيْضُ فِي عُشِّهِ مَكْنُونٌ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿ [كَأَنَّهُنَّ] (٤) بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾، يَعْنِي: بَطْنَ الْبَيْضِ (٥).
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هُوَ السِّحَاءُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ قِشْرَتِهِ الْعُلْيَا وَلِبَابِ الْبَيْضَةِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ يَقُولُ: بَيَاضُ الْبَيْضِ حِينَ يُنْزَعُ قِشْرُهُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِقَوْلِهِ: ﴿مَكْنُونٌ﴾، قَالَ: وَالْقِشْرَةُ الْعُلْيَا يَمَسُّهَا جَنَاحُ الطَّيْرِ وَالْعُشُّ، وَتَنَالُهَا الْأَيْدِي بِخِلَافِ دَاخِلِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ الصَّدَفِيِّ الدِّمْيَاطِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (٦) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قُلْتُ (٧) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ (٨) قَالَ: "رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الْجِلْدَةِ الَّتِي رَأَيْتُهَا فِي دَاخِلِ الْبَيْضَةِ، التي تلي القشر وهي الغِرْقِئ" (٩).
(٢) البيت في تفسير الطبري (٢٣/٣٧).
(٣) في ت: "مصون"
(٤) زيادة من ت.
(٥) في ت: "العين".
(٦) في ت: "وروى ابن جرير بإسناده عن أم سلمة".
(٧) في ت: "عنها قالت: قلت".
(٨) في ت، س: "أخبرني عن قول الله: "حور عين" قال: "العين: الضخام العيون شفر الحوراء مثل جناح النسر" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ الله: "كأنهن بيض مكنون".
(٩) تفسير الطبري (٢٣/٣٧) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٢٣/٣٦٧) حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ الدِّمْيَاطِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بن هاشم به، قال الهيثمي في المجمع (٧/١١٩) :"فيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدي".
وقال :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [ التين : ٤ - ٦ ]، وقال :﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [ مريم : ٧١، ٧٢ ]، وقال :﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ﴾ [ المدثر : ٣٨، ٣٩ ] ولهذا قال هاهنا :﴿ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾ أي : ليسوا يذوقون العذاب الأليم، ولا يناقشون في الحساب، بل يتجاوز عن سيئاتهم، إن كان لهم سيئات، ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، إلى ما يشاء الله تعالى من التضعيف.
وقال :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [ التين : ٤ - ٦ ]، وقال :﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [ مريم : ٧١، ٧٢ ]، وقال :﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ﴾ [ المدثر : ٣٨، ٣٩ ] ولهذا قال هاهنا :﴿ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾ أي : ليسوا يذوقون العذاب الأليم، ولا يناقشون في الحساب، بل يتجاوز عن سيئاتهم، إن كان لهم سيئات، ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، إلى ما يشاء الله تعالى من التضعيف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن عبدك١ القزويني، حدثنا حسان بن٢ حسان، حدثنا إبراهيم بن بشر، ٣ حدثنا يحيى بن معين، حدثنا إبراهيم القرشي، عن سعيد بن شرحبيل، عن زيد بن أبي أوفى قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية ﴿ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ ينظر بعضهم إلى بعض.
حديث غريب٤.
٢ - في أ: "حبان"..
٣ - في أ: "بشير"..
٤ - ورواه البخاري في التاريخ الكبير (٣/٣٨٦) في ترجمة زيد بن أبي أوفى من طريق حسان بن حسان به، وقال: "لا يتابع عليه"..
فقال تعالى هاهنا :﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ﴾ أي : بخمر من أنهار جارية، لا يخافون انقطاعها ولا فراغها.
قال مالك، عن زيد بن أسلم : خمر جارية بيضاء، أي : لونها مشرق حسن بهى لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء، من حمرة أو سواد أو أصفرار أو كدورة، ١ إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم.
وقوله عز وجل :﴿ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ﴾ أي طعمها طيب كلونها، وطيب الطعم دليل على طيب الريح، بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك.
وقوله :﴿ لا فِيهَا غَوْلٌ ﴾ يعني : لا تؤثر فيهم غولا - وهو وجع البطن. قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد - كما تفعله خمر الدنيا من القُولَنْج ونحوه، لكثرة مائيتها.
وقيل : المراد بالغول هاهنا : صداع الرأس. وروي هكذا عن ابن عباس.
وقال قتادة : هو صداع الرأس، ووجع البطن. وعنه، وعن السدي : لا تغتال عقولهم، كما قال الشاعر :
فَمَا زَالَتِ الكأسُ تَغْتَالُنا | وتَذْهبُ بالأوَّل الأوَّلِ١ ٢ |
وقوله :﴿ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ ﴾ قال مجاهد : لا تذهب عقولهم، وكذا قال ابن عباس، ومحمد بن كعب، والحسن، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني، والسدي، وغيرهم.
وقال الضحاك، عن ابن عباس : في الخمر أربع خصال : السكر، والصداع، والقيء، والبول. فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال، كما ذكر في سورة " الصافات " ٣.
٢ - البيت في تفسير الطبري (٢٣/٣٥)..
٣ - في ت: "والصافات"..
وقوله ﴿ عِينٌ ﴾ أي : حسان الأعين. وقيل : ضخام الأعين. هو يرجع إلى الأول، وهي النجلاء العيناء، فوصف عيونهن بالحسن والعفة، كقول زليخا في يوسف حين جملته وأخرجته على تلك النسوة، فأعظمنه وأكبرنه، وظنن أنه ملك من الملائكة لحسنه وبهاء منظره، قالت :﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ [ يوسف : ٣٢ ] أي : هو مع هذا الجمال عفيف تقي نقي، [ فأرتهن جماله الظاهر وأخبرتهن بجماله الباطن ]. ١ وهكذا الحور العين ﴿ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾ [ الرحمن : ٧٠ ]، ولهذا قال :﴿ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ﴾.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴾ يقول : اللؤلؤ المكنون.
وينشد هاهنا بيت أبي دهبل الشاعر في قصيدة له :
وَهْيَ زَهْرَاء مثْلَ لؤلؤة الغوّ | اص مُيِّزَتْ مِن جوهر مكْنُون١ |
وقال السدي : البيض في عشه مكنون.
وقال سعيد بن جبير :﴿ [ كَأَنَّهُنَّ ]٣ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴾، يعني : بطن البيض٤.
وقال عطاء الخراساني : هو السحاء الذي يكون بين قشرته العليا ولباب البيضة.
وقال السدي :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴾ يقول : بياض البيض حين ينزع قشره. واختاره ابن جرير لقوله :﴿ مَكْنُونٌ ﴾، قال : والقشرة العليا يمسها جناح الطير والعش، وتنالها الأيدي بخلاف داخلها، والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثنا محمد بن الفرج الصدفي الدمياطي، عن عمرو بن هاشم، عن ابن أبي كريمة، عن هشام، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة٥ رضي الله عنها، قلت٦ : يا رسول الله، أخبرني عن قول الله :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴾٧ قال :" رقتهن كرقة الجلدة التي رأيتها في داخل البيضة، التي تلي القشر وهي الغِرْقِئ " ٨.
وقال٩ ابن أبي حاتم : حدثنا أبي : حدثنا أبو غسان النهدي، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن الربيع بن أنس، عن أنس، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا حزنوا، وأنا شفيعهم إذا حبسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي عز وجل ولا فخر، يطوف علي ألف خادم كأنهن البيض المكنون - أو : اللؤلؤ المكنون " ١٠.
٢ - (٣) في ت: "مصون".
٣ - زيادة من ت..
٤ - في ت: "العين"..
٥ - في ت: "وروى ابن جرير بإسناده عن أم سلمة"..
٦ - في ت: "عنها قالت: قلت"..
٧ - في ت، س: "أخبرني عن قول الله: "حور عين" قال: "العين: الضخام العيون شفر الحوراء مثل جناح النسر" قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله: "كأنهن بيض مكنون"..
٨ - تفسير الطبري (٢٣/٣٧) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٢٣/٣٦٧) حدثنا بكر بن سهل الدمياطي حدثنا عمرو بن هاشم به، قال الهيثمي في المجمع (٧/١١٩): "فيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدي"..
٩ - في ت: "وروى"..
١٠ - (٢) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (٥/٤٨٣) من طريق منصور بن أبي الأسود عن ليث عن الربيع بن أنس به، ثم رواه من طريق حيان بن علي عن ليث عن عبيد الله بن زحر عن الربيع عن أنس به، وقال: "تابعه - أي الليث - محمد بن فضيل عن عبيد الله بن زحر"..
﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (٥١) ﴾
(٢) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (٥/٤٨٣) من طريق منصور بن أبي الأسود عن ليث عن الربيع بن أنس به، ثم رواه من طريق حيان بن علي عن ليث عن عبيد الله بن زحر عن الربيع عن أنس به، وقال: "تابعه -أي الليث- محمد بن فضيل عن عبيد الله بن زحر".
وقال العوفي، عن ابن عباس : هو الرجل المشرك، يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا.
ولا تنافي بين كلام مجاهد، وابن عباس ؛ فإن الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس، ويكون من الإنس فيقول كلاما تسمعه الأذنان، وكلاهما متعاديان، ١ قال الله تعالى :﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ] وكل منهما يوسوس، كما قال٢ تعالى :﴿ [ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ ]. مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس ﴾ [ سورة الناس ]. ولهذا ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾.
قال أبو جعفر بن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ قال : إن رجلين كانا
شريكين، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة، والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس عندك حرفة، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه، ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك، مات، فدعا صاحبه فأراه فقال : كيف٢ ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها ! فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي ابتاع٣ هذه الدار بألف دينار، وإني أسألك دارا من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه تزوج بامرأة٤ بألف دينار، فدعاه وصنع له طعاما. فلما أتاه قال : إني تزوجت امرأة بألف دينار. قال : ما أحسن هذا ! فلما انصرف قال : يا رب، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحور العين. فتصدق بألف دينار، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث. ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه فأراه فقال : إني ابتعت هذين البستانين. ٥ فقال : ما أحسن هذا ! فلما خرج قال : يا رب، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار، وأنا أسألك بستانين في الجنة. فتصدق بألفي دينار، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق، فأدخله دارا تعجبه، وإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم، ٦ فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة. قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئنك لمن المصدقين ؟ قيل له : فإنه في الجحيم. قال : هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم. فقال عند ذلك :﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ الآيات.
قال ابن جرير : وهذا يقوي قراءة من قرأ :" أئنك لمن المُصَّدّقِينَ " بالتشديد.
وقال٧ ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار أبو حفص قال : سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية :﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ قال : فقال لي : ما ذكرك هذا ؟ قلت : قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال : أما فاحفظ، كان شريكان في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له المؤمن : لا فما صنعت أنت ؟ فقال : اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا٨ قال : فقال له المؤمن : أو فعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار، ثم يموت غدا ويتركها، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار٩ أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة. قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال : لا فما صنعت أنت. قال : كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها، فاشتريت رقيقا بألف دينار، يقومون بي١٠ فيها، ويعملون لي فيها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار، يموت غدا ويتركهم، أو يموتون فيتركونه، اللهم، وإني اشتري منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة. ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال : أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا، فلانة قد مات عنها زوجها، فأصدقتها ألف دينار، فجاءتني بها ومثلها معها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية، فوضعها بين يديه، وقال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا١١ فيموت غدا فيتركها، أو يموت فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار١٢ حوراء عيناء في الجنة. ثم١٣ أصبح فقسمها بين المساكين. قال : فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال : فلبس قميصا من قطن، وكساء من صوف، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته، يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال : فجاءه رجل فقال : يا عبد الله، أتؤاجرني نفسك مشاهرة، شهرا بشهر، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سَرْقينها ؟ قال : نعم. قال : فواجره نفسه مشاهرة، شهرا بشهر، يقوم على دوابه. قال : فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه، فإذا رأى منها دابة ضامرة، أخذ برأسه فوجأ عنقه، ثم يقول له : سرقت شعير هذه١٤ البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال : لآتين شريكي الكافر، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما١٥، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : فانطلق يريده، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس، فإذا قصر مشيد في السماء، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي١٦ صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك، فقالوا له : انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية، فإذا أصبحت فتعرض له. قال : فانطلق المؤمن، فألقى نصف كسائه تحته، ونصفه فوقه، ثم نام. فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال : بلى وهذه حالي١٧ وهذه حالك. قال : أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : لا تسألني عنه. قال : فما جاء بك ؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا، ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : أقرضته : قال : من ؟ قال : المليء الوفي. قال : من ؟ قال : الله ربي. قال : وهو مصافحه فانتزع يده من يده، ثم قال :﴿ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ - قال السدي : محاسبون - قال : فانطلق١٨ الكافر وتركه. قال : فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه، رجع وتركه، يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان. قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن الجنة، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار، فيقول : لمن هذا١٩ ؟ فيقال : هذا لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوَ بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هؤلاء لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة، فيها حوراء عيناء، فيقول : لمن هذه ؟ فيقال : هذه لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ قال : فالجنة عالية، والنار هاوية. قال : فيريه الله شريكه في وسط الجحيم، من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه، فيقول ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ بمثل ما٢٠ من عليه. قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة، أشد عليه من الموت٢١.
٢ - (٣) في ت: "قال الله تعالى"..
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، أَيْ: عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَكَيْفَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا، وَمَاذَا كَانُوا يُعَانُونَ فِيهَا؟ وَذَلِكَ مِنْ حَدِيثِهِمْ عَلَى شَرَابِهِمْ، (١) وَاجْتِمَاعِهِمْ فِي تُنَادِمِهِمْ وَعِشْرَتِهِمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى السُّرُرِ، وَالْخَدَمِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يَسْعَوْنَ وَيَجِيئُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ عَظِيمٍ، مِنْ مَآكِلَ وَمُشَارِبَ وَمَلَابِسَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي شَيْطَانًا.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ الْمُشْرِكُ، يَكُونُ لَهُ صَاحِبٌ مِنْ أَهَّلَ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا.
وَلَا تَنَافِي بَيْنَ كَلَامِ مُجَاهِدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَكُونُ مِنَ الْجِنِّ فَيُوَسْوِسُ فِي النَّفْسِ، وَيَكُونُ مِنَ الْإِنْسِ فَيَقُولُ كَلَامًا تَسْمَعُهُ الْأُذُنَانِ، وَكِلَاهُمَا مُتَعَادِيَانِ، (٢) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الْأَنْعَامِ: ١١٢] وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوَسْوِسُ، كَمَا قَالَ (٣) تَعَالَى: ﴿ [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ]. مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس﴾ [سُورَةُ النَّاسِ] (٤). وَلِهَذَا ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ﴾ أَيْ: أَأَنْتَ تُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ؟! يَعْنِي: يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ وَالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ. ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: لَمُحَاسَبُونَ؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، ومحمد بن كعب القرظي: لمجزيون بأعمالنا؟.
(٢) في ت، س: "متعاونان".
(٣) في ت: "قال الله تعالى".
(٤) زيادة من ت، س، أ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ كَأَنَّهُ شِهَابٌ يَتَّقِدُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ اطَّلَعَ فَرَأَى جَمَاجِمَ الْقَوْمِ تَغْلِي. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ كُوًى إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَدُوِّهِ فِي النَّارِ اطَّلَعَ فِيهَا، فَازْدَادَ شُكْرًا.
﴿قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ﴾ يَقُولُ الْمُؤْمِنَ مُخَاطِبًا لِلْكَافِرِ: وَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُهْلِكُنِي لَوْ أَطَعْتُكَ. ﴿وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ أَيْ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيَّ لَكُنْتُ مِثْلَكَ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ حَيْثُ أَنْتَ، مُحْضَرٌ مَعَكَ فِي الْعَذَابِ، وَلَكِنَّهُ تَفَضَّلَ [عَلَيَّ] (٢) وَرَحِمَنِي فَهَدَانِي لِلْإِيمَانِ، وَأَرْشَدَنِي إِلَى تَوْحِيدِهِ ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٤٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِ مُغْبِطًا نَفْسَهُ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْخُلْدِ فِي الْجَنَّةِ (٣) وَالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ، لَا مَوْتَ فِيهَا وَلَا عَذَابَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
قَالَ (٤) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ العَدَني، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطُّورِ: ١٩]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَوْلُهُ: ﴿هَنِيئًا﴾ أَيْ: لَا يَمُوتُونَ (٥) فِيهَا. فَعِنْدَهَا قَالُوا: ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ نَعِيمٍ فَإِنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُهُ، فَقَالُوا: ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾، قِيلَ [لَهُمْ] :(٦) لَا. قَالُوا: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: لِمِثْلِ هَذَا النَّعِيمِ وَهَذَا الْفَوْزِ فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ فِي الدُّنْيَا، لِيَصِيرُوا إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ (٧).
وَقَدْ ذَكَرُوا قِصَّةَ رَجُلَيْنِ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، تَدْخُلُ فِي ضِمْنِ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ فُرَاتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْبَهْرَانِيِّ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾ قال: إن رجلين كانا
(٢) زيادة من س، أ.
(٣) في ت: "في الجنة من الخلد".
(٤) في ت: "روى".
(٥) في ت، س: "لا تموتون".
(٦) زيادة من ت، أ.
(٧) تفسير الطبري (٢٣/٤٠).
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا يُقَوِّي قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: "أَئِنَّكَ لَمِنَ المُصَّدّقِينَ" بِالتَّشْدِيدِ.
وَقَالَ (٦) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَبَّارُ أَبُو حَفْصٍ قَالَ: سَأَلْتُ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ﴾ ؟ قَالَ: فَقَالَ لِي: مَا ذَكَّرَكَ هَذَا؟ قُلْتُ: قَرَأْتُهُ آنِفًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ؟ فَقَالَ: أَمَا فَاحْفَظْ، كَانَ شَرِيكَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَحَدُهُمَا مُؤْمِنٌ وَالْآخَرُ كَافِرٌ، فَافْتَرَقَا عَلَى سِتَّةِ آلَافِ دِينَارٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَمَكَثَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَا، ثُمَّ الْتَقَيَا فَقَالَ الْكَافِرُ لِلْمُؤْمِنِ: مَا صَنَعْتَ فِي مَالِكَ؟ أَضَرَبْتَ بِهِ شَيْئًا؟ أَتَّجَرْتَ بِهِ فِي شَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُؤْمِنُ: لَا فَمَا صَنَعْتَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ بِهِ أَرْضًا وَنَخْلًا وَثِمَارًا وَأَنْهَارًا (٧) قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْمُؤْمِنُ: أَوَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَرَجَعَ الْمُؤْمِنُ حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخَذَ أَلْفَ دِينَارٍ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللهم إن فلانا -يعني شريكه الكافر-اشترى أَرْضًا وَنَخْلًا وَثِمَارًا وَأَنْهَارًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ يَمُوتُ غَدًا وَيَتْرُكُهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِهَذِهِ الْأَلْفِ دِينَارٍ (٨) أَرْضًا وَنَخْلًا وَثِمَارًا وَأَنْهَارًا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحَ فَقَسَمَهَا فِي الْمَسَاكِينِ. قَالَ: ثُمَّ مَكَثَا مَا شَاءَ اللَّهُ أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر
(٢) في ت، س: "إن صاحبي هذا قد ابتاع".
(٣) في ت، س: "امرأة".
(٤) في ت، أ: "البساتين بألفي دينار".
(٥) في ت: "وفيهما ما الله به عليم".
(٦) في ت: "وروى".
(٧) في ت، س: "وأنهار بألف دينار".
(٨) في س: "الدينار".
قال أبو جعفر بن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ قال : إن رجلين كانا
شريكين، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة، والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس عندك حرفة، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه، ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك، مات، فدعا صاحبه فأراه فقال : كيف٢ ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها ! فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي ابتاع٣ هذه الدار بألف دينار، وإني أسألك دارا من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه تزوج بامرأة٤ بألف دينار، فدعاه وصنع له طعاما. فلما أتاه قال : إني تزوجت امرأة بألف دينار. قال : ما أحسن هذا ! فلما انصرف قال : يا رب، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحور العين. فتصدق بألف دينار، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث. ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه فأراه فقال : إني ابتعت هذين البستانين. ٥ فقال : ما أحسن هذا ! فلما خرج قال : يا رب، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار، وأنا أسألك بستانين في الجنة. فتصدق بألفي دينار، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق، فأدخله دارا تعجبه، وإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم، ٦ فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة. قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئنك لمن المصدقين ؟ قيل له : فإنه في الجحيم. قال : هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم. فقال عند ذلك :﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ الآيات.
قال ابن جرير : وهذا يقوي قراءة من قرأ :" أئنك لمن المُصَّدّقِينَ " بالتشديد.
وقال٧ ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار أبو حفص قال : سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية :﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ قال : فقال لي : ما ذكرك هذا ؟ قلت : قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال : أما فاحفظ، كان شريكان في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له المؤمن : لا فما صنعت أنت ؟ فقال : اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا٨ قال : فقال له المؤمن : أو فعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار، ثم يموت غدا ويتركها، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار٩ أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة. قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال : لا فما صنعت أنت. قال : كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها، فاشتريت رقيقا بألف دينار، يقومون بي١٠ فيها، ويعملون لي فيها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار، يموت غدا ويتركهم، أو يموتون فيتركونه، اللهم، وإني اشتري منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة. ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال : أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا، فلانة قد مات عنها زوجها، فأصدقتها ألف دينار، فجاءتني بها ومثلها معها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية، فوضعها بين يديه، وقال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا١١ فيموت غدا فيتركها، أو يموت فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار١٢ حوراء عيناء في الجنة. ثم١٣ أصبح فقسمها بين المساكين. قال : فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال : فلبس قميصا من قطن، وكساء من صوف، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته، يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال : فجاءه رجل فقال : يا عبد الله، أتؤاجرني نفسك مشاهرة، شهرا بشهر، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سَرْقينها ؟ قال : نعم. قال : فواجره نفسه مشاهرة، شهرا بشهر، يقوم على دوابه. قال : فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه، فإذا رأى منها دابة ضامرة، أخذ برأسه فوجأ عنقه، ثم يقول له : سرقت شعير هذه١٤ البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال : لآتين شريكي الكافر، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما١٥، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : فانطلق يريده، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس، فإذا قصر مشيد في السماء، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي١٦ صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك، فقالوا له : انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية، فإذا أصبحت فتعرض له. قال : فانطلق المؤمن، فألقى نصف كسائه تحته، ونصفه فوقه، ثم نام. فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال : بلى وهذه حالي١٧ وهذه حالك. قال : أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : لا تسألني عنه. قال : فما جاء بك ؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا، ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : أقرضته : قال : من ؟ قال : المليء الوفي. قال : من ؟ قال : الله ربي. قال : وهو مصافحه فانتزع يده من يده، ثم قال :﴿ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ - قال السدي : محاسبون - قال : فانطلق١٨ الكافر وتركه. قال : فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه، رجع وتركه، يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان. قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن الجنة، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار، فيقول : لمن هذا١٩ ؟ فيقال : هذا لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوَ بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هؤلاء لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة، فيها حوراء عيناء، فيقول : لمن هذه ؟ فيقال : هذه لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ قال : فالجنة عالية، والنار هاوية. قال : فيريه الله شريكه في وسط الجحيم، من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه، فيقول ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ بمثل ما٢٠ من عليه. قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة، أشد عليه من الموت٢١.
قال أبو جعفر بن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ قال : إن رجلين كانا
شريكين، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة، والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس عندك حرفة، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه، ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك، مات، فدعا صاحبه فأراه فقال : كيف٢ ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها ! فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي ابتاع٣ هذه الدار بألف دينار، وإني أسألك دارا من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه تزوج بامرأة٤ بألف دينار، فدعاه وصنع له طعاما. فلما أتاه قال : إني تزوجت امرأة بألف دينار. قال : ما أحسن هذا ! فلما انصرف قال : يا رب، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحور العين. فتصدق بألف دينار، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث. ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه فأراه فقال : إني ابتعت هذين البستانين. ٥ فقال : ما أحسن هذا ! فلما خرج قال : يا رب، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار، وأنا أسألك بستانين في الجنة. فتصدق بألفي دينار، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق، فأدخله دارا تعجبه، وإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم، ٦ فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة. قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئنك لمن المصدقين ؟ قيل له : فإنه في الجحيم. قال : هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم. فقال عند ذلك :﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ الآيات.
قال ابن جرير : وهذا يقوي قراءة من قرأ :" أئنك لمن المُصَّدّقِينَ " بالتشديد.
وقال٧ ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار أبو حفص قال : سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية :﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ قال : فقال لي : ما ذكرك هذا ؟ قلت : قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال : أما فاحفظ، كان شريكان في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له المؤمن : لا فما صنعت أنت ؟ فقال : اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا٨ قال : فقال له المؤمن : أو فعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار، ثم يموت غدا ويتركها، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار٩ أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة. قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال : لا فما صنعت أنت. قال : كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها، فاشتريت رقيقا بألف دينار، يقومون بي١٠ فيها، ويعملون لي فيها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار، يموت غدا ويتركهم، أو يموتون فيتركونه، اللهم، وإني اشتري منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة. ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال : أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا، فلانة قد مات عنها زوجها، فأصدقتها ألف دينار، فجاءتني بها ومثلها معها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية، فوضعها بين يديه، وقال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا١١ فيموت غدا فيتركها، أو يموت فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار١٢ حوراء عيناء في الجنة. ثم١٣ أصبح فقسمها بين المساكين. قال : فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال : فلبس قميصا من قطن، وكساء من صوف، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته، يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال : فجاءه رجل فقال : يا عبد الله، أتؤاجرني نفسك مشاهرة، شهرا بشهر، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سَرْقينها ؟ قال : نعم. قال : فواجره نفسه مشاهرة، شهرا بشهر، يقوم على دوابه. قال : فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه، فإذا رأى منها دابة ضامرة، أخذ برأسه فوجأ عنقه، ثم يقول له : سرقت شعير هذه١٤ البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال : لآتين شريكي الكافر، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما١٥، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : فانطلق يريده، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس، فإذا قصر مشيد في السماء، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي١٦ صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك، فقالوا له : انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية، فإذا أصبحت فتعرض له. قال : فانطلق المؤمن، فألقى نصف كسائه تحته، ونصفه فوقه، ثم نام. فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال : بلى وهذه حالي١٧ وهذه حالك. قال : أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : لا تسألني عنه. قال : فما جاء بك ؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا، ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : أقرضته : قال : من ؟ قال : المليء الوفي. قال : من ؟ قال : الله ربي. قال : وهو مصافحه فانتزع يده من يده، ثم قال :﴿ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ - قال السدي : محاسبون - قال : فانطلق١٨ الكافر وتركه. قال : فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه، رجع وتركه، يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان. قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن الجنة، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار، فيقول : لمن هذا١٩ ؟ فيقال : هذا لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوَ بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هؤلاء لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة، فيها حوراء عيناء، فيقول : لمن هذه ؟ فيقال : هذه لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ قال : فالجنة عالية، والنار هاوية. قال : فيريه الله شريكه في وسط الجحيم، من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه، فيقول ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ بمثل ما٢٠ من عليه. قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة، أشد عليه من الموت٢١.
وقال الحسن البصري : في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقد.
وقال قتادة : ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي. وذكر لنا أن كعب الأحبار قال : في الجنة كوى إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار اطلع فيها، فازداد شكرا.
قال أبو جعفر بن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ قال : إن رجلين كانا
شريكين، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة، والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس عندك حرفة، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه، ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك، مات، فدعا صاحبه فأراه فقال : كيف٢ ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها ! فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي ابتاع٣ هذه الدار بألف دينار، وإني أسألك دارا من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه تزوج بامرأة٤ بألف دينار، فدعاه وصنع له طعاما. فلما أتاه قال : إني تزوجت امرأة بألف دينار. قال : ما أحسن هذا ! فلما انصرف قال : يا رب، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحور العين. فتصدق بألف دينار، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث. ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه فأراه فقال : إني ابتعت هذين البستانين. ٥ فقال : ما أحسن هذا ! فلما خرج قال : يا رب، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار، وأنا أسألك بستانين في الجنة. فتصدق بألفي دينار، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق، فأدخله دارا تعجبه، وإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم، ٦ فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة. قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئنك لمن المصدقين ؟ قيل له : فإنه في الجحيم. قال : هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم. فقال عند ذلك :﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ الآيات.
قال ابن جرير : وهذا يقوي قراءة من قرأ :" أئنك لمن المُصَّدّقِينَ " بالتشديد.
وقال٧ ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار أبو حفص قال : سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية :﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ قال : فقال لي : ما ذكرك هذا ؟ قلت : قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال : أما فاحفظ، كان شريكان في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له المؤمن : لا فما صنعت أنت ؟ فقال : اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا٨ قال : فقال له المؤمن : أو فعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار، ثم يموت غدا ويتركها، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار٩ أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة. قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال : لا فما صنعت أنت. قال : كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها، فاشتريت رقيقا بألف دينار، يقومون بي١٠ فيها، ويعملون لي فيها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار، يموت غدا ويتركهم، أو يموتون فيتركونه، اللهم، وإني اشتري منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة. ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال : أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا، فلانة قد مات عنها زوجها، فأصدقتها ألف دينار، فجاءتني بها ومثلها معها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية، فوضعها بين يديه، وقال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا١١ فيموت غدا فيتركها، أو يموت فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار١٢ حوراء عيناء في الجنة. ثم١٣ أصبح فقسمها بين المساكين. قال : فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال : فلبس قميصا من قطن، وكساء من صوف، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته، يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال : فجاءه رجل فقال : يا عبد الله، أتؤاجرني نفسك مشاهرة، شهرا بشهر، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سَرْقينها ؟ قال : نعم. قال : فواجره نفسه مشاهرة، شهرا بشهر، يقوم على دوابه. قال : فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه، فإذا رأى منها دابة ضامرة، أخذ برأسه فوجأ عنقه، ثم يقول له : سرقت شعير هذه١٤ البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال : لآتين شريكي الكافر، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما١٥، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : فانطلق يريده، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس، فإذا قصر مشيد في السماء، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي١٦ صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك، فقالوا له : انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية، فإذا أصبحت فتعرض له. قال : فانطلق المؤمن، فألقى نصف كسائه تحته، ونصفه فوقه، ثم نام. فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال : بلى وهذه حالي١٧ وهذه حالك. قال : أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : لا تسألني عنه. قال : فما جاء بك ؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا، ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : أقرضته : قال : من ؟ قال : المليء الوفي. قال : من ؟ قال : الله ربي. قال : وهو مصافحه فانتزع يده من يده، ثم قال :﴿ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ - قال السدي : محاسبون - قال : فانطلق١٨ الكافر وتركه. قال : فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه، رجع وتركه، يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان. قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن الجنة، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار، فيقول : لمن هذا١٩ ؟ فيقال : هذا لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوَ بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هؤلاء لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة، فيها حوراء عيناء، فيقول : لمن هذه ؟ فيقال : هذه لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ قال : فالجنة عالية، والنار هاوية. قال : فيريه الله شريكه في وسط الجحيم، من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه، فيقول ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ بمثل ما٢٠ من عليه. قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة، أشد عليه من الموت٢١.
قال أبو جعفر بن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ قال : إن رجلين كانا
شريكين، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة، والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس عندك حرفة، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه، ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك، مات، فدعا صاحبه فأراه فقال : كيف٢ ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها ! فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي ابتاع٣ هذه الدار بألف دينار، وإني أسألك دارا من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه تزوج بامرأة٤ بألف دينار، فدعاه وصنع له طعاما. فلما أتاه قال : إني تزوجت امرأة بألف دينار. قال : ما أحسن هذا ! فلما انصرف قال : يا رب، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحور العين. فتصدق بألف دينار، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث. ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه فأراه فقال : إني ابتعت هذين البستانين. ٥ فقال : ما أحسن هذا ! فلما خرج قال : يا رب، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار، وأنا أسألك بستانين في الجنة. فتصدق بألفي دينار، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق، فأدخله دارا تعجبه، وإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم، ٦ فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة. قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئنك لمن المصدقين ؟ قيل له : فإنه في الجحيم. قال : هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم. فقال عند ذلك :﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ الآيات.
قال ابن جرير : وهذا يقوي قراءة من قرأ :" أئنك لمن المُصَّدّقِينَ " بالتشديد.
وقال٧ ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار أبو حفص قال : سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية :﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ قال : فقال لي : ما ذكرك هذا ؟ قلت : قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال : أما فاحفظ، كان شريكان في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له المؤمن : لا فما صنعت أنت ؟ فقال : اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا٨ قال : فقال له المؤمن : أو فعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار، ثم يموت غدا ويتركها، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار٩ أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة. قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال : لا فما صنعت أنت. قال : كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها، فاشتريت رقيقا بألف دينار، يقومون بي١٠ فيها، ويعملون لي فيها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار، يموت غدا ويتركهم، أو يموتون فيتركونه، اللهم، وإني اشتري منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة. ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال : أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا، فلانة قد مات عنها زوجها، فأصدقتها ألف دينار، فجاءتني بها ومثلها معها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية، فوضعها بين يديه، وقال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا١١ فيموت غدا فيتركها، أو يموت فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار١٢ حوراء عيناء في الجنة. ثم١٣ أصبح فقسمها بين المساكين. قال : فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال : فلبس قميصا من قطن، وكساء من صوف، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته، يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال : فجاءه رجل فقال : يا عبد الله، أتؤاجرني نفسك مشاهرة، شهرا بشهر، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سَرْقينها ؟ قال : نعم. قال : فواجره نفسه مشاهرة، شهرا بشهر، يقوم على دوابه. قال : فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه، فإذا رأى منها دابة ضامرة، أخذ برأسه فوجأ عنقه، ثم يقول له : سرقت شعير هذه١٤ البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال : لآتين شريكي الكافر، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما١٥، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : فانطلق يريده، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس، فإذا قصر مشيد في السماء، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي١٦ صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك، فقالوا له : انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية، فإذا أصبحت فتعرض له. قال : فانطلق المؤمن، فألقى نصف كسائه تحته، ونصفه فوقه، ثم نام. فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال : بلى وهذه حالي١٧ وهذه حالك. قال : أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : لا تسألني عنه. قال : فما جاء بك ؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا، ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : أقرضته : قال : من ؟ قال : المليء الوفي. قال : من ؟ قال : الله ربي. قال : وهو مصافحه فانتزع يده من يده، ثم قال :﴿ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ - قال السدي : محاسبون - قال : فانطلق١٨ الكافر وتركه. قال : فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه، رجع وتركه، يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان. قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن الجنة، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار، فيقول : لمن هذا١٩ ؟ فيقال : هذا لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوَ بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هؤلاء لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة، فيها حوراء عيناء، فيقول : لمن هذه ؟ فيقال : هذه لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ قال : فالجنة عالية، والنار هاوية. قال : فيريه الله شريكه في وسط الجحيم، من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه، فيقول ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ بمثل ما٢٠ من عليه. قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة، أشد عليه من الموت٢١.
قال أبو جعفر بن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ قال : إن رجلين كانا
شريكين، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة، والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس عندك حرفة، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه، ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك، مات، فدعا صاحبه فأراه فقال : كيف٢ ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها ! فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي ابتاع٣ هذه الدار بألف دينار، وإني أسألك دارا من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه تزوج بامرأة٤ بألف دينار، فدعاه وصنع له طعاما. فلما أتاه قال : إني تزوجت امرأة بألف دينار. قال : ما أحسن هذا ! فلما انصرف قال : يا رب، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحور العين. فتصدق بألف دينار، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث. ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه فأراه فقال : إني ابتعت هذين البستانين. ٥ فقال : ما أحسن هذا ! فلما خرج قال : يا رب، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار، وأنا أسألك بستانين في الجنة. فتصدق بألفي دينار، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق، فأدخله دارا تعجبه، وإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم، ٦ فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة. قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئنك لمن المصدقين ؟ قيل له : فإنه في الجحيم. قال : هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم. فقال عند ذلك :﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ الآيات.
قال ابن جرير : وهذا يقوي قراءة من قرأ :" أئنك لمن المُصَّدّقِينَ " بالتشديد.
وقال٧ ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار أبو حفص قال : سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية :﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ قال : فقال لي : ما ذكرك هذا ؟ قلت : قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال : أما فاحفظ، كان شريكان في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له المؤمن : لا فما صنعت أنت ؟ فقال : اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا٨ قال : فقال له المؤمن : أو فعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار، ثم يموت غدا ويتركها، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار٩ أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة. قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال : لا فما صنعت أنت. قال : كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها، فاشتريت رقيقا بألف دينار، يقومون بي١٠ فيها، ويعملون لي فيها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار، يموت غدا ويتركهم، أو يموتون فيتركونه، اللهم، وإني اشتري منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة. ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال : أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا، فلانة قد مات عنها زوجها، فأصدقتها ألف دينار، فجاءتني بها ومثلها معها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية، فوضعها بين يديه، وقال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا١١ فيموت غدا فيتركها، أو يموت فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار١٢ حوراء عيناء في الجنة. ثم١٣ أصبح فقسمها بين المساكين. قال : فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال : فلبس قميصا من قطن، وكساء من صوف، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته، يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال : فجاءه رجل فقال : يا عبد الله، أتؤاجرني نفسك مشاهرة، شهرا بشهر، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سَرْقينها ؟ قال : نعم. قال : فواجره نفسه مشاهرة، شهرا بشهر، يقوم على دوابه. قال : فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه، فإذا رأى منها دابة ضامرة، أخذ برأسه فوجأ عنقه، ثم يقول له : سرقت شعير هذه١٤ البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال : لآتين شريكي الكافر، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما١٥، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : فانطلق يريده، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس، فإذا قصر مشيد في السماء، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي١٦ صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك، فقالوا له : انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية، فإذا أصبحت فتعرض له. قال : فانطلق المؤمن، فألقى نصف كسائه تحته، ونصفه فوقه، ثم نام. فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال : بلى وهذه حالي١٧ وهذه حالك. قال : أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : لا تسألني عنه. قال : فما جاء بك ؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا، ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : أقرضته : قال : من ؟ قال : المليء الوفي. قال : من ؟ قال : الله ربي. قال : وهو مصافحه فانتزع يده من يده، ثم قال :﴿ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ - قال السدي : محاسبون - قال : فانطلق١٨ الكافر وتركه. قال : فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه، رجع وتركه، يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان. قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن الجنة، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار، فيقول : لمن هذا١٩ ؟ فيقال : هذا لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوَ بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هؤلاء لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة، فيها حوراء عيناء، فيقول : لمن هذه ؟ فيقال : هذه لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ قال : فالجنة عالية، والنار هاوية. قال : فيريه الله شريكه في وسط الجحيم، من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه، فيقول ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ بمثل ما٢٠ من عليه. قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة، أشد عليه من الموت٢١.
قال٢ ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني، حدثنا حفص بن عمر العَدَني، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما، في قول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة :﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الطور : ١٩ ]، قال ابن عباس، رضي الله عنهما : قوله :﴿ هَنِيئًا ﴾ أي : لا يموتون٣ فيها. فعندها قالوا :﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾
وقال الحسن البصري : علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه، فقالوا :﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾، قيل [ لهم ] :٤ لا. قالوا :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
قال أبو جعفر بن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ قال : إن رجلين كانا
شريكين، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة، والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس عندك حرفة، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه، ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك، مات، فدعا صاحبه فأراه فقال : كيف٢ ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها ! فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي ابتاع٣ هذه الدار بألف دينار، وإني أسألك دارا من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه تزوج بامرأة٤ بألف دينار، فدعاه وصنع له طعاما. فلما أتاه قال : إني تزوجت امرأة بألف دينار. قال : ما أحسن هذا ! فلما انصرف قال : يا رب، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحور العين. فتصدق بألف دينار، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث. ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه فأراه فقال : إني ابتعت هذين البستانين. ٥ فقال : ما أحسن هذا ! فلما خرج قال : يا رب، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار، وأنا أسألك بستانين في الجنة. فتصدق بألفي دينار، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق، فأدخله دارا تعجبه، وإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم، ٦ فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة. قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئنك لمن المصدقين ؟ قيل له : فإنه في الجحيم. قال : هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم. فقال عند ذلك :﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ الآيات.
قال ابن جرير : وهذا يقوي قراءة من قرأ :" أئنك لمن المُصَّدّقِينَ " بالتشديد.
وقال٧ ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار أبو حفص قال : سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية :﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ قال : فقال لي : ما ذكرك هذا ؟ قلت : قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال : أما فاحفظ، كان شريكان في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له المؤمن : لا فما صنعت أنت ؟ فقال : اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا٨ قال : فقال له المؤمن : أو فعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار، ثم يموت غدا ويتركها، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار٩ أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة. قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال : لا فما صنعت أنت. قال : كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها، فاشتريت رقيقا بألف دينار، يقومون بي١٠ فيها، ويعملون لي فيها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار، يموت غدا ويتركهم، أو يموتون فيتركونه، اللهم، وإني اشتري منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة. ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال : أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا، فلانة قد مات عنها زوجها، فأصدقتها ألف دينار، فجاءتني بها ومثلها معها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية، فوضعها بين يديه، وقال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا١١ فيموت غدا فيتركها، أو يموت فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار١٢ حوراء عيناء في الجنة. ثم١٣ أصبح فقسمها بين المساكين. قال : فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال : فلبس قميصا من قطن، وكساء من صوف، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته، يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال : فجاءه رجل فقال : يا عبد الله، أتؤاجرني نفسك مشاهرة، شهرا بشهر، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سَرْقينها ؟ قال : نعم. قال : فواجره نفسه مشاهرة، شهرا بشهر، يقوم على دوابه. قال : فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه، فإذا رأى منها دابة ضامرة، أخذ برأسه فوجأ عنقه، ثم يقول له : سرقت شعير هذه١٤ البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال : لآتين شريكي الكافر، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما١٥، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : فانطلق يريده، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس، فإذا قصر مشيد في السماء، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي١٦ صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك، فقالوا له : انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية، فإذا أصبحت فتعرض له. قال : فانطلق المؤمن، فألقى نصف كسائه تحته، ونصفه فوقه، ثم نام. فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال : بلى وهذه حالي١٧ وهذه حالك. قال : أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : لا تسألني عنه. قال : فما جاء بك ؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا، ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : أقرضته : قال : من ؟ قال : المليء الوفي. قال : من ؟ قال : الله ربي. قال : وهو مصافحه فانتزع يده من يده، ثم قال :﴿ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ - قال السدي : محاسبون - قال : فانطلق١٨ الكافر وتركه. قال : فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه، رجع وتركه، يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان. قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن الجنة، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار، فيقول : لمن هذا١٩ ؟ فيقال : هذا لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوَ بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هؤلاء لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة، فيها حوراء عيناء، فيقول : لمن هذه ؟ فيقال : هذه لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ قال : فالجنة عالية، والنار هاوية. قال : فيريه الله شريكه في وسط الجحيم، من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه، فيقول ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ بمثل ما٢٠ من عليه. قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة، أشد عليه من الموت٢١.
٢ - في ت: "روى"..
٣ - في ت، س: "لا تموتون"..
٤ - زيادة من ت، أ..
قال٢ ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني، حدثنا حفص بن عمر العَدَني، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما، في قول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة :﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الطور : ١٩ ]، قال ابن عباس، رضي الله عنهما : قوله :﴿ هَنِيئًا ﴾ أي : لا يموتون٣ فيها. فعندها قالوا :﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾
وقال الحسن البصري : علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه، فقالوا :﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾، قيل [ لهم ] :٤ لا. قالوا :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
قال أبو جعفر بن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ قال : إن رجلين كانا
شريكين، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة، والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس عندك حرفة، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه، ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك، مات، فدعا صاحبه فأراه فقال : كيف٢ ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها ! فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي ابتاع٣ هذه الدار بألف دينار، وإني أسألك دارا من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه تزوج بامرأة٤ بألف دينار، فدعاه وصنع له طعاما. فلما أتاه قال : إني تزوجت امرأة بألف دينار. قال : ما أحسن هذا ! فلما انصرف قال : يا رب، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحور العين. فتصدق بألف دينار، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث. ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه فأراه فقال : إني ابتعت هذين البستانين. ٥ فقال : ما أحسن هذا ! فلما خرج قال : يا رب، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار، وأنا أسألك بستانين في الجنة. فتصدق بألفي دينار، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق، فأدخله دارا تعجبه، وإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم، ٦ فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة. قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئنك لمن المصدقين ؟ قيل له : فإنه في الجحيم. قال : هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم. فقال عند ذلك :﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ الآيات.
قال ابن جرير : وهذا يقوي قراءة من قرأ :" أئنك لمن المُصَّدّقِينَ " بالتشديد.
وقال٧ ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار أبو حفص قال : سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية :﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ قال : فقال لي : ما ذكرك هذا ؟ قلت : قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال : أما فاحفظ، كان شريكان في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له المؤمن : لا فما صنعت أنت ؟ فقال : اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا٨ قال : فقال له المؤمن : أو فعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار، ثم يموت غدا ويتركها، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار٩ أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة. قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال : لا فما صنعت أنت. قال : كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها، فاشتريت رقيقا بألف دينار، يقومون بي١٠ فيها، ويعملون لي فيها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار، يموت غدا ويتركهم، أو يموتون فيتركونه، اللهم، وإني اشتري منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة. ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال : أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا، فلانة قد مات عنها زوجها، فأصدقتها ألف دينار، فجاءتني بها ومثلها معها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية، فوضعها بين يديه، وقال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا١١ فيموت غدا فيتركها، أو يموت فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار١٢ حوراء عيناء في الجنة. ثم١٣ أصبح فقسمها بين المساكين. قال : فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال : فلبس قميصا من قطن، وكساء من صوف، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته، يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال : فجاءه رجل فقال : يا عبد الله، أتؤاجرني نفسك مشاهرة، شهرا بشهر، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سَرْقينها ؟ قال : نعم. قال : فواجره نفسه مشاهرة، شهرا بشهر، يقوم على دوابه. قال : فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه، فإذا رأى منها دابة ضامرة، أخذ برأسه فوجأ عنقه، ثم يقول له : سرقت شعير هذه١٤ البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال : لآتين شريكي الكافر، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما١٥، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : فانطلق يريده، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس، فإذا قصر مشيد في السماء، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي١٦ صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك، فقالوا له : انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية، فإذا أصبحت فتعرض له. قال : فانطلق المؤمن، فألقى نصف كسائه تحته، ونصفه فوقه، ثم نام. فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال : بلى وهذه حالي١٧ وهذه حالك. قال : أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : لا تسألني عنه. قال : فما جاء بك ؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا، ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : أقرضته : قال : من ؟ قال : المليء الوفي. قال : من ؟ قال : الله ربي. قال : وهو مصافحه فانتزع يده من يده، ثم قال :﴿ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ - قال السدي : محاسبون - قال : فانطلق١٨ الكافر وتركه. قال : فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه، رجع وتركه، يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان. قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن الجنة، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار، فيقول : لمن هذا١٩ ؟ فيقال : هذا لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوَ بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هؤلاء لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة، فيها حوراء عيناء، فيقول : لمن هذه ؟ فيقال : هذه لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ قال : فالجنة عالية، والنار هاوية. قال : فيريه الله شريكه في وسط الجحيم، من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه، فيقول ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ بمثل ما٢٠ من عليه. قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة، أشد عليه من الموت٢١.
٢ - في ت: "روى"..
٣ - في ت، س: "لا تموتون"..
٤ - زيادة من ت، أ..
قال٢ ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني، حدثنا حفص بن عمر العَدَني، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما، في قول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة :﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الطور : ١٩ ]، قال ابن عباس، رضي الله عنهما : قوله :﴿ هَنِيئًا ﴾ أي : لا يموتون٣ فيها. فعندها قالوا :﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾
وقال الحسن البصري : علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه، فقالوا :﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾، قيل [ لهم ] :٤ لا. قالوا :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
قال أبو جعفر بن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ قال : إن رجلين كانا
شريكين، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة، والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس عندك حرفة، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه، ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك، مات، فدعا صاحبه فأراه فقال : كيف٢ ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها ! فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي ابتاع٣ هذه الدار بألف دينار، وإني أسألك دارا من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه تزوج بامرأة٤ بألف دينار، فدعاه وصنع له طعاما. فلما أتاه قال : إني تزوجت امرأة بألف دينار. قال : ما أحسن هذا ! فلما انصرف قال : يا رب، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحور العين. فتصدق بألف دينار، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث. ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه فأراه فقال : إني ابتعت هذين البستانين. ٥ فقال : ما أحسن هذا ! فلما خرج قال : يا رب، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار، وأنا أسألك بستانين في الجنة. فتصدق بألفي دينار، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق، فأدخله دارا تعجبه، وإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم، ٦ فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة. قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئنك لمن المصدقين ؟ قيل له : فإنه في الجحيم. قال : هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم. فقال عند ذلك :﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ الآيات.
قال ابن جرير : وهذا يقوي قراءة من قرأ :" أئنك لمن المُصَّدّقِينَ " بالتشديد.
وقال٧ ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار أبو حفص قال : سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية :﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ قال : فقال لي : ما ذكرك هذا ؟ قلت : قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال : أما فاحفظ، كان شريكان في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له المؤمن : لا فما صنعت أنت ؟ فقال : اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا٨ قال : فقال له المؤمن : أو فعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار، ثم يموت غدا ويتركها، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار٩ أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة. قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال : لا فما صنعت أنت. قال : كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها، فاشتريت رقيقا بألف دينار، يقومون بي١٠ فيها، ويعملون لي فيها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار، يموت غدا ويتركهم، أو يموتون فيتركونه، اللهم، وإني اشتري منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة. ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال : أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا، فلانة قد مات عنها زوجها، فأصدقتها ألف دينار، فجاءتني بها ومثلها معها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية، فوضعها بين يديه، وقال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا١١ فيموت غدا فيتركها، أو يموت فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار١٢ حوراء عيناء في الجنة. ثم١٣ أصبح فقسمها بين المساكين. قال : فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال : فلبس قميصا من قطن، وكساء من صوف، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته، يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال : فجاءه رجل فقال : يا عبد الله، أتؤاجرني نفسك مشاهرة، شهرا بشهر، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سَرْقينها ؟ قال : نعم. قال : فواجره نفسه مشاهرة، شهرا بشهر، يقوم على دوابه. قال : فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه، فإذا رأى منها دابة ضامرة، أخذ برأسه فوجأ عنقه، ثم يقول له : سرقت شعير هذه١٤ البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال : لآتين شريكي الكافر، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما١٥، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : فانطلق يريده، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس، فإذا قصر مشيد في السماء، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي١٦ صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك، فقالوا له : انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية، فإذا أصبحت فتعرض له. قال : فانطلق المؤمن، فألقى نصف كسائه تحته، ونصفه فوقه، ثم نام. فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال : بلى وهذه حالي١٧ وهذه حالك. قال : أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : لا تسألني عنه. قال : فما جاء بك ؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا، ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : أقرضته : قال : من ؟ قال : المليء الوفي. قال : من ؟ قال : الله ربي. قال : وهو مصافحه فانتزع يده من يده، ثم قال :﴿ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ - قال السدي : محاسبون - قال : فانطلق١٨ الكافر وتركه. قال : فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه، رجع وتركه، يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان. قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن الجنة، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار، فيقول : لمن هذا١٩ ؟ فيقال : هذا لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوَ بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هؤلاء لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة، فيها حوراء عيناء، فيقول : لمن هذه ؟ فيقال : هذه لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ قال : فالجنة عالية، والنار هاوية. قال : فيريه الله شريكه في وسط الجحيم، من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه، فيقول ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ بمثل ما٢٠ من عليه. قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة، أشد عليه من الموت٢١.
٢ - في ت: "روى"..
٣ - في ت، س: "لا تموتون"..
٤ - زيادة من ت، أ..
وقال ابن جرير : هو من كلام الله تعالى، ومعناه : لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون في الدنيا، ليصيروا إليه في الآخرة١.
قال أبو جعفر بن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ قال : إن رجلين كانا
شريكين، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة، والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس عندك حرفة، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه، ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك، مات، فدعا صاحبه فأراه فقال : كيف٢ ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها ! فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي ابتاع٣ هذه الدار بألف دينار، وإني أسألك دارا من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه تزوج بامرأة٤ بألف دينار، فدعاه وصنع له طعاما. فلما أتاه قال : إني تزوجت امرأة بألف دينار. قال : ما أحسن هذا ! فلما انصرف قال : يا رب، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحور العين. فتصدق بألف دينار، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث. ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه فأراه فقال : إني ابتعت هذين البستانين. ٥ فقال : ما أحسن هذا ! فلما خرج قال : يا رب، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار، وأنا أسألك بستانين في الجنة. فتصدق بألفي دينار، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق، فأدخله دارا تعجبه، وإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم، ٦ فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة. قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئنك لمن المصدقين ؟ قيل له : فإنه في الجحيم. قال : هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم. فقال عند ذلك :﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ الآيات.
قال ابن جرير : وهذا يقوي قراءة من قرأ :" أئنك لمن المُصَّدّقِينَ " بالتشديد.
وقال٧ ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار أبو حفص قال : سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية :﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ قال : فقال لي : ما ذكرك هذا ؟ قلت : قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال : أما فاحفظ، كان شريكان في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له المؤمن : لا فما صنعت أنت ؟ فقال : اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا٨ قال : فقال له المؤمن : أو فعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار، ثم يموت غدا ويتركها، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار٩ أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة. قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال : لا فما صنعت أنت. قال : كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها، فاشتريت رقيقا بألف دينار، يقومون بي١٠ فيها، ويعملون لي فيها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار، يموت غدا ويتركهم، أو يموتون فيتركونه، اللهم، وإني اشتري منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة. ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال : أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا، فلانة قد مات عنها زوجها، فأصدقتها ألف دينار، فجاءتني بها ومثلها معها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية، فوضعها بين يديه، وقال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا١١ فيموت غدا فيتركها، أو يموت فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار١٢ حوراء عيناء في الجنة. ثم١٣ أصبح فقسمها بين المساكين. قال : فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال : فلبس قميصا من قطن، وكساء من صوف، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته، يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال : فجاءه رجل فقال : يا عبد الله، أتؤاجرني نفسك مشاهرة، شهرا بشهر، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سَرْقينها ؟ قال : نعم. قال : فواجره نفسه مشاهرة، شهرا بشهر، يقوم على دوابه. قال : فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه، فإذا رأى منها دابة ضامرة، أخذ برأسه فوجأ عنقه، ثم يقول له : سرقت شعير هذه١٤ البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال : لآتين شريكي الكافر، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما١٥، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : فانطلق يريده، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس، فإذا قصر مشيد في السماء، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي١٦ صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك، فقالوا له : انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية، فإذا أصبحت فتعرض له. قال : فانطلق المؤمن، فألقى نصف كسائه تحته، ونصفه فوقه، ثم نام. فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال : بلى وهذه حالي١٧ وهذه حالك. قال : أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : لا تسألني عنه. قال : فما جاء بك ؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال : لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا، ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : أقرضته : قال : من ؟ قال : المليء الوفي. قال : من ؟ قال : الله ربي. قال : وهو مصافحه فانتزع يده من يده، ثم قال :﴿ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ - قال السدي : محاسبون - قال : فانطلق١٨ الكافر وتركه. قال : فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه، رجع وتركه، يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان. قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن الجنة، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار، فيقول : لمن هذا١٩ ؟ فيقال : هذا لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوَ بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هؤلاء لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة، فيها حوراء عيناء، فيقول : لمن هذه ؟ فيقال : هذه لك. فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ قال : فالجنة عالية، والنار هاوية. قال : فيريه الله شريكه في وسط الجحيم، من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه، فيقول ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ بمثل ما٢٠ من عليه. قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة، أشد عليه من الموت٢١.
﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) ﴾
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ (١٣) مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنْ مَآكِلَ وَمُشَارِبَ وَمَنَاكَحَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَاذِّ -خَيْرٌ ضِيَافَةً وَعَطَاءً ﴿أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ ؟ أَيِ: الَّتِي فِي جَهَنَّمَ.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ شَجَرَةً وَاحِدَةً مُعَيَّنَةً، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهَا شَجَرَةٌ تَمْتَدُّ فُرُوعُهَا إِلَى جَمِيعِ مَحَالِّ جَهَنَّمَ كَمَا أَنَّ شَجَرَةَ طُوبَى مَا مِنْ دَارٍ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا وَفِيهَا مِنْهَا غُصْنٌ.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ جِنْسَ شَجَرٍ، يُقَالُ لَهُ: الزَّقُّومُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٠]، يَعْنِي الزَّيْتُونَةَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٥١، ٥٢].
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ﴾، قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَتْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، فافتتن بها أهل الضلالة،
(٢) في ت، س: "الدنيا بألف دينار".
(٣) في ت: "دينار".
(٤) في ت: "هذه الدابة".
(٥) في ت: "هذه الدابة".
(٦) في ت، س: "يوما بيوم".
(٧) في ت، س: "لي على".
(٨) في ت: "حالتي".
(٩) في ت، س: "وانطلق".
(١٠) في أ: "هذه".
(١١) في ت، س: "ما قد".
(١٢) وهذا من أخبار بني إسرائيل التي لا يعتمد عليها.
(١٣) في أ: "ذكرته".
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ﴾ قَالَ أَبُو جَهْلٍ -لَعَنَهُ اللَّهُ-: إِنَّمَا الزَّقُّومُ التَّمْرُ وَالزُّبْدُ أَتَزَقَّمُهُ.
قُلْتُ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّمَا أَخْبَرْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ اخْتِبَارًا تَخْتَبِرُ (١) بِهِ النَّاسَ، مَنْ يُصَدِّقُ مِنْهُمْ مِمَّنْ يُكَذِّبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٦٠].
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ أَيْ: أَصْلُ مَنْبَتِهَا فِي قَرَارِ النَّارِ، ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ تَبْشِيعٌ [لَهَا] (٢) وَتَكْرِيهٌ لِذِكْرِهَا.
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: شُعُورُ الشَّيَاطِينِ قَائِمَةٌ إِلَى السَّمَاءِ.
وَإِنَّمَا شَبَّهَهَا بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ أَنَّ الشَّيَاطِينَ قَبِيحَةُ الْمَنْظَرِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ، رُءُوسُهَا بَشِعَةُ الْمَنْظَرِ.
وَقِيلَ: جِنْسٌ مِنَ النَّبَاتِ، طَلْعُهُ فِي غَايَةِ الْفَحَاشَةِ.
وَفِي هَذَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ نَظَرٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى وَأُولَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الَّتِي لَا أَبْشَعَ مِنْهَا، وَلَا أَقْبَحَ مِنْ مَنْظَرِهَا، مَعَ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَالطَّبْعِ، فَإِنَّهُمْ لَيَضْطَرُّونَ إِلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ إِلَّا إِيَّاهَا، وَمَا (٣) فِي مَعْنَاهَا، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] :(٤) ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ. لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ [الْغَاشِيَةِ: ٦، ٧].
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي بِحَارِ الدُّنْيَا، لَأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَعَايِشَهُمْ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامَهُ؟ ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، (٥) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي شرب الحميم على الزقوم.
(٢) زيادة من ت، س، أ.
(٣) في ت، س: "أو ما هو".
(٤) زيادة من ت، س.
(٥) سنن الترمذي برقم (٢٥٨٥) والنسائي الكبرى برقم (١١٠٧٠) وسنن ابن ماجه برقم (٤٣٢٥).
وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعْنِي يَمْزُجُ لَهُمُ الْحَمِيمَ بِصَدِيدٍ وَغَسَّاقٍ، مِمَّا يَسِيلُ مِنْ فُرُوجِهِمْ وَعُيُونِهِمْ.
وَقَالَ (١) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَيْوَة بْنُ شُرَيح الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا بَقيَّة بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ بْنُ بُسْرٍ (٢) عَنْ (٣) أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:"يُقَرَّبُ -يَعْنِي إِلَى أَهْلِ النَّارِ-مَاءٌ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ فِيهِ. (٤) فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ" (٥).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَعْفَرٍ وَهَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، (٦) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِذَا جَاعَ أَهْلُ النَّارِ اسْتَغَاثُوا بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، فَأَكَلُوا مِنْهَا فَاخْتَلَسَتْ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ [فِيهَا]. (٧) فَلَوْ أَنَّ مَارًّا يَمُرُّ بِهِمْ يَعْرِفُهُمْ لَعَرَفَ وُجُوهِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَيْهِمُ الْعَطَشَ فَيَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ -وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ-فَإِذَا أَدْنَوْهُ مِنْ أَفْوَاهِهِمُ اشْتَوَى مِنْ حَرِّهِ لُحُومُ وُجُوهِهِمُ الَّتِي قَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْجُلُودُ، وَيُصْهَرُ مَا فِي بُطُونِهِمْ، فَيَمْشُونَ تَسِيلُ أَمْعَاؤُهُمْ وَتَتَسَاقَطُ جُلُودُهُمْ، ثُمَّ يُضْرَبُونَ بِمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَسْقُطُ كُلُّ عُضْوٍ عَلَى حِيَالِهِ، يَدْعُونَ بِالثُّبُورِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ﴾ أَيْ: ثُمَّ إِنَّ مَرَدَّهُمْ بَعْدَ هَذَا الْفَصْلِ لَإِلَى نَارٍ تَتَأَجَّجُ، وَجَحِيمٍ تَتَوَقَّدُ، وَسَعِيرٍ تَتَوَهَّجُ، فَتَارَةً فِي هَذَا وَتَارَةً فِي هَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٤٤]. هَكَذَا تَلَا قَتَادَةُ هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ حَسَنٌ قَوِيٌّ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ" وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ. ثُمَّ قَرَأَ: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ [الْفُرْقَانِ: ٢٤].
وَرَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَيَسَرَةَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ هَؤُلَاءِ وَيَقِيلَ هَؤُلَاءِ. قَالَ سُفْيَانُ: أَرَاهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾، ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ".
قُلْتُ: عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَكُونُ "ثُمَّ" عَاطِفَةً لِخَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا جَازَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ فَاتَّبَعُوهُمْ فِيهَا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ قال
(٢) في س، أ: "بشير".
(٣) في ت: "بإسناده".
(٤) في ت، أ: "فروة رأسه في فيه".
(٥) ورواه أحمد في مسنده (٥/٢٦٥) والحاكم في المستدرك (٢/٣٥١) مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ صفوان بن عمرو به.
(٦) في ت: "وروى أيضا بإسناده"
(٧) زيادة من ت.
وقال مجاهد :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ﴾ قال أبو جهل - لعنه الله - : إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه.
قلت : ومعنى الآية : إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختبارا تختبر١ به الناس، من يصدق منهم ممن يكذب، كقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٦٠ ].
وقوله :﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ﴾ أي : أصل منبتها في قرار النار.
وقال مجاهد :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ﴾ قال أبو جهل - لعنه الله - : إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه.
قلت : ومعنى الآية : إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختبارا تختبر١ به الناس، من يصدق منهم ممن يكذب، كقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٦٠ ].
وقوله :﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ﴾ أي : أصل منبتها في قرار النار.
قال وهب بن منبه : شعور الشياطين قائمة إلى السماء.
وإنما شبهها برءوس الشياطين وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين ؛ لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر.
وقيل : المراد بذلك ضرب من الحيات، رءوسها بشعة المنظر.
وقيل : جنس من النبات، طلعه في غاية الفحاشة.
وفي هذين الاحتمالين نظر، وقد ذكرهما ابن جرير، والأول أقوى وأولى، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم، رحمه الله : حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، وقال :«اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا، لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه ؟ ».
ورواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من حديث شعبة، ٣ وقال الترمذي : حسن صحيح.
٢ - زيادة من ت، س..
٣ - سنن الترمذي برقم (٢٥٨٥) والنسائي الكبرى برقم (١١٠٧٠) وسنن ابن ماجه برقم (٤٣٢٥)..
وقال غيره : يعني يمزج لهم الحميم بصديد وغساق، مما يسيل من فروجهم وعيونهم.
وقال١ ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح الحضرمي، حدثنا بَقيَّة بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، أخبرني عبيد بن بسر٢ عن٣ أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول :" يقرب - يعني إلى أهل النار - ماء فيتكرهه، فإذا أدنى منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه فيه. ٤ فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره " ٥.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن رافع، حدثنا يعقوب بن عبد الله، عن جعفر وهارون بن عنترة، ٦ عن سعيد بن جبير قال : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم [ فيها ]. ٧ فلو أن مارا يمر بهم يعرفهم لعرف وجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل - وهو الذي قد انتهى حره - فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود، ويصهر ما في بطونهم، فيمشون تسيل أمعاؤهم وتتساقط جلودهم، ثم يضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حياله، يدعون بالثبور.
٢ - (٢) في س، أ: "بشير"..
٣ - (٣) في ت: "بإسناده"..
٤ - في ت، أ: "فروة رأسه في فيه"..
٥ - ورواه أحمد في مسنده (٥/٢٦٥) والحاكم في المستدرك (٢/٣٥١) من طريق عبد الله بن المبارك عن صفوان بن عمرو به..
٦ - في ت: "وروى أيضا بإسناده".
٧ - زيادة من ت..
وقال السدي في قراءة عبد الله :" ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم " وكان عبد الله يقول : والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. ثم قرأ :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ﴾ [ الفرقان : ٢٤ ].
وروى الثوري، عن ميسرة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء. قال سفيان : أراه، ثم قرأ :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ﴾، ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ".
قلت : على هذا التفسير تكون " ثم " عاطفة لخبر على خبر.
﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى. وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ فِيهِمْ مُنْذِرِينَ، يُنْذِرُونَ بَأْسَ اللَّهِ، وَيُحَذِّرُونَهُمْ سَطْوَتَهُ وَنِقْمَتَهُ، مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَعَبَدَ غَيْرَهُ، وَأَنَّهُمْ تَمَادَوْا عَلَى مُخَالَفَةِ رُسُلِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ. فَأَهْلَكَ الْمُكَذِّبِينَ وَدَمَّرَهُمْ، وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ وَنَصَرَهُمْ وَظَفَّرَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ. إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾
﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) ﴾
٢ - (٢) في ت، أ: "المجيبون كنا له"..
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَنْ أَكْثَرِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْ سَبِيلِ النَّجَاةِ، شَرَعَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فَذَكَرَ نُوحًا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ، [فَإِنَّهُ] (١) لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ تَكْذِيبُهُمْ، وَكُلَّمَا دَعَاهُمُ ازْدَادُوا نُفْرَةً، فَدَعَى رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَغَضِبَ اللَّهُ لِغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ أَيْ: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٢) لَهُ. ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾، وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالْأَذَى، ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمْ تَبْقَ إِلَّا ذُرِّيَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ قَالَ: النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (٣).
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سُمْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ قَالَ: "سَامٌ، وَحَامٌ وَيَافِثُ".
وَقَالَ (٤) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ؛ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ (٥) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ، وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَقَدِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سعيد -وهو ابن أبي عروبة-
(٢) في ت، أ: "المجيبون كنا له".
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) في ت: "وروى".
(٥) في ت: "النبي"
وقال مجاهد : يعني لسان صدق للأنبياء كلهم.
وقال قتادة والسدي : أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين. قال الضحاك : السلام والثناء الحسن.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ (٢) بْنِ حُصين، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. (٣) وَالْمُرَادُ بِالرُّومِ هَاهُنَا: هُمُ الرُّومُ الأوَل، وَهُمُ الْيُونَانُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى رُومِيِّ بْنِ لَيْطِيِّ بْنِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: وَلَدُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثَةٌ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ، وَوَلَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةً، فَوَلَدَ سامُ العربَ وفارسَ وَالرُّومَ، وَوَلَدَ يافثُ التُّرْكَ وَالصَّقَالِبَةَ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَوَلَدَ حامُ القبطَ وَالسُّودَانَ وَالْبَرْبَرَ. وَرُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ نَحْوُ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُذْكَرُ بِخَيْرٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي لِسَانَ صِدْقٍ لِلْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ فِي الْآخَرِينَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: السَّلَامُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ مُفَسِّرٌ لِمَا أَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَالْأُمَمِ.
﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ أَيْ: هَكَذَا نَجْزِي مَنْ أَحْسَنَ مِنَ الْعِبَادِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، نَجْعَلُ (٤) لَهُ لسانَ صدْق يُذَكَرُ بِهِ بَعْدَهُ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيِ الْمُصَدِّقِينَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُوقِنِينَ، ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ﴾ أَيْ: أَهْلَكْنَاهُمْ، فَلَمْ تبْق (٥) مِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ، وَلَا ذِكْرَ لَهُمْ وَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ، وَلَا يُعَرَفُونَ إِلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْقَبِيحَةِ.
﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ (٨٣) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٧) ﴾
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ﴾ يَقُولُ: مِنْ أَهْلِ دِينِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى مِنْهَاجِهِ وَسُنَّتِهِ.
﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
(٢) في س: "عمر".
(٣) حديث عمران بن حصين: رواه الطبراني في المعجم الكبير (١٨/١٤٦) مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ وسمرة بن جندب به.
(٤) في ت، س: "يجعل".
(٥) في ت، أ: "يبق".
وقال١ ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن عَوْف : قلت لمحمد بن سِيرين : ما القلب السليم ؟ قال : يعلم٢ أن الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
وقال الحسن : سليم من الشرك، وقال عروة : لا يكون لعانا.
٢ - (٢) في ت: "تعلم"..
وَقَالَ الْحَسَنُ: سَلِيمٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَقَالَ عُرْوَةُ: لَا يَكُونُ لَعَّانًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ : أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ. فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: [يَعْنِي] :(٣) مَا (٤) ظَنُّكُمْ بِهِ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِكُمْ إِذَا لَاقَيْتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ؟!
﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ (٩٨) ﴾
إِنَّمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْمِهِ ذَلِكَ، لِيُقِيمَ فِي الْبَلَدِ إِذَا ذَهَبُوا إِلَى عِيدِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَزِفَ خروجُهم إِلَى عِيدٍ لَهُمْ، فَأَحَبَّ أَنْ يَخْتَلِيَ بِآلِهَتِهِمْ لِيَكْسِرَهَا، فَقَالَ لَهُمْ كَلَامًا هُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَهموا مِنْهُ أَنَّهُ سَقِيمٌ عَلَى مُقْتَضَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ، ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ تَفَكَّرَ: نَظَرَ فِي النُّجُومِ: يَعْنِي قَتَادَةُ: أَنَّهُ نَظَّرَ فِي (٥) السَّمَاءِ مُتَفَكِّرًا فِيمَا يُلْهِيهِمْ (٦) بِهِ، فَقَالَ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ أَيْ: ضَعِيفٌ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (٧) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، غَيْرَ ثَلَاثِ كَذْبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، وَقَوْلُهُ ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٦٢]، وَقَوْلُهُ فِي سَارَةَ: هِيَ أُخْتِي" (٨) فَهُوَ حَدِيثٌ مُخَرَّجٌ فِي الصِّحَاحِ (٩) وَالسُّنَنِ مِنْ طَرُقٍ (١٠)، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْكَذِبِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يُذَمُّ فَاعِلُهُ، حَاشَا وَكَلَّا وَإِنَّمَا أُطْلِقَ الْكَذِبُ على هذا
(٢) في ت: "تعلم".
(٣) زيادة من س، أ.
(٤) في ت: "فما".
(٥) في ت، س: "إلى".
(٦) في س: "يكيدهم".
(٧) في ت: "فأما الحديث الذي رواه البخاري وأهل السنن عن أبي هريرة"
(٨) تفسير الطبري (٢٣/٤٥) في السنن الكبرى برقم (٨٣٧٤) من طريق حماد بن أسامة به.
(٩) في ت: "الصحيح".
(١٠) جاء من طريق أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: رواه البخاري في صحيحه برقم (٥٠٨٤) زمسلم في صحيحه برقم (٢٣٧١) من طريق جرير بن حازم به، ورواه البخاري في صحيحه برقم (٣٣٥٨) من طريق حماد بن زيد به. وجاء مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: رواه الترمذي في السنن برقم (٣١٦٦) من طريق محمد بن إسحاق به، ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (٨٣٧٥) من طريق شعيب بن أبي حمزة به.
وَقَالَ (٣) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَة (٤)، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَلِمَاتِ إِبْرَاهِيمَ الثَّلَاثِ التي قال: "ما منها كلمة إلا ما حمل بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، وَقَالَ ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾، وَقَالَ لِلْمَلِكِ حِينَ أَرَادَ الْمَرْأَةَ: هِيَ أُخْتِي" (٥).
قَالَ سُفْيَانُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ يَعْنِي: طَعِينٌ. وَكَانُوا يَفِرُّونَ مِنَ الْمَطْعُونِ، فَأَرَادَ أَنْ يَخْلُوَ بِآلِهَتِهِمْ. وَكَذَا قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾، فَقَالُوا لَهُ وَهُوَ فِي بَيْتِ آلِهَتِهِمْ: اخْرُجْ. فَقَالَ: إِنِّي مَطْعُونٌ، فَتَرَكُوهُ مَخَافَةَ الطَّاعُونِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَأَى نَجْمًا طَلَعَ فَقَالَ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ كَابَدَ نَبِيُّ اللَّهِ عَنْ دِينِهِ (٦) ﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾.
وَقَالَ آخَرُونَ: فَقَالَ (٧) :﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُسْتَقْبَلُ، يَعْنِي: مَرَضَ الْمَوْتِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ أَيْ: مَرِيضُ الْقَلْبِ مِنْ عِبَادَتِكُمُ الْأَوْثَانَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: خَرَجَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عِيدِهِمْ، فَأَرَادُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ، فَاضْطَجَعَ عَلَى ظَهْرِهِ وَقَالَ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، وَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي السَّمَاءِ فَلَمَّا خَرَجُوا أَقْبَلَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَكَسَرَهَا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ أَيْ: إِلَى عِيدِهِمْ، ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ﴾ أَيْ: ذَهَبَ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ خَرَجُوا فِي سُرْعَةٍ وَاخْتِفَاءٍ، ﴿فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ﴾، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ وَضَعُوا بَيْنَ أَيْدِيهَا طَعَامًا قُرْبَانًا لتُبرّك لَهُمْ فِيهِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى بَيْتِ الْآلِهَةِ، فَإِذَا هُمْ (٨) فِي بَهْوٍ عَظِيمٍ، وَإِذَا مُسْتَقْبِلُ بَابِ الْبَهْوِ صَنَمٌ عَظِيمٌ، إِلَى جَنْبِهِ [صَنَمٌ آخَرُ] (٩) أَصْغَرُ مِنْهُ، بَعْضُهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ، كُلُّ صَنَمٍ يَلِيهِ أَصْغَرُ مِنْهُ، حَتَّى بَلَغُوا بَابَ الْبَهْوِ، وَإِذَا هُمْ قَدْ جَعَلُوا طَعَامًا وَضَعُوهُ بَيْنَ أَيْدِي الْآلِهَةِ، وَقَالُوا: إِذَا كَانَ حِينَ نَرْجِعُ وَقَدْ بَرَكَت الآلهةُ فِي طَعَامِنَا أَكَلْنَاهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ والسلام، إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الطَّعَامِ قَالَ: ﴿أَلا تَأْكُلُونَ. مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ﴾ ؟!
(٢) رواه البيهقي في السنن الكبرى (١٠/١٩٩) من طريق داود بن الزبرقان عن سعيد عن قتادة عن زرارة عن عمران بن حصين مرفوعا. ورواه أيضا من طريق عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قتادة عن مطرف عن عمران بن الحصين موقوفا وقال: "هذا هو الصحيح موقوفا".
(٣) في ت: "وروى".
(٤) في ت: "بإسناده".
(٥) ورواه الترمذي في السنن برقم (٣١٤٨) حدثنا ابن أبي عمر عن سفيان به فذكر حديث الشفاعة مطولا، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" وعلي بن زيد بن جدعان أجمع الأئمة على ضعفه.
(٦) في ت، أ: "ذنبه".
(٧) في ت، س: "أراد".
(٨) في أ: "هن".
(٩) زيادة من ت، أ.
فأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا : حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو أسامة، حدثني هشام، عن محمد، عن أبي هريرة١ ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، غير ثلاث كذبات : ثنتين في ذات الله، قوله :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾، وقوله ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ [ الأنبياء : ٦٢ ]، وقوله في سارة : هي أختي " ٢ فهو حديث مخرج في الصحاح٣ والسنن من طرق٤، ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث :" إن [ في ]٥ المعاريض لمندوحة عن الكذب " ٦
وقال٧ ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نَضْرَة٨، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال :" ما منها كلمة إلا ما حمل بها عن دين الله تعالى، فقال :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾، وقال ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ﴾، وقال للملك حين أراد المرأة : هي أختي " ٩.
قال سفيان في قوله :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ يعني : طعين. وكانوا يفرون من المطعون، فأراد أن يخلو بآلهتهم. وكذا قال العوفي عن ابن عباس :﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾، فقالوا له وهو في بيت آلهتهم : اخرج. فقال : إني مطعون، فتركوه مخافة الطاعون.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب : رأى نجما طلع فقال :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ كابد نبي الله عن دينه١٠ ﴿ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾.
وقال آخرون : فقال١١ :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ بالنسبة إلى ما يستقبل، يعني : مرض الموت.
وقيل : أراد ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ أي : مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله عز وجل.
وقال الحسن البصري : خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم، فأرادوه على الخروج، فاضطجع على ظهره وقال :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾، وجعل ينظر في السماء فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها. رواه ابن أبي حاتم. ولهذا قال تعالى :﴿ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴾
٢ - تفسير الطبري (٢٣/٤٥) في السنن الكبرى برقم (٨٣٧٤) من طريق حماد بن أسامة به..
٣ - في ت: "الصحيح"..
٤ - جاء من طريق أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة: رواه البخاري في صحيحه برقم (٥٠٨٤) زمسلم في صحيحه برقم (٢٣٧١) من طريق جرير بن حازم به، ورواه البخاري في صحيحه برقم (٣٣٥٨) من طريق حماد بن زيد به. وجاء من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: رواه الترمذي في السنن برقم (٣١٦٦) من طريق محمد بن إسحاق به، ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (٨٣٧٥) من طريق شعيب بن أبي حمزة به..
٥ - زيادة من ت، س، أ..
٦ - (٢) رواه البيهقي في السنن الكبرى (١٠/١٩٩) من طريق داود بن الزبرقان عن سعيد عن قتادة عن زرارة عن عمران بن حصين مرفوعا. ورواه أيضا من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن مطرف عن عمران بن الحصين موقوفا وقال: "هذا هو الصحيح موقوفا"..
٧ - (٣) في ت: "وروى"..
٨ - في ت: "بإسناده"..
٩ - ورواه الترمذي في السنن برقم (٣١٤٨) حدثنا ابن أبي عمر عن سفيان به فذكر حديث الشفاعة مطولا، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" وعلي بن زيد بن جدعان أجمع الأئمة على ضعفه..
١٠ - في ت، أ: "ذنبه"..
١١ - في ت، س: "أراد"..
قال السدي : دخل إبراهيم، عليه السلام إلى بيت الآلهة، فإذا هم١ في بَهْوٍ عظيم، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه [ صنم آخر ]٢ أصغر منه، بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه، حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما وضعوه بين أيدي الآلهة، وقالوا : إذا كان حين نرجع وقد بَرَكَت الآلهةُ في طعامنا أكلناه، فلما نظر إبراهيم، عليه والسلام، إلى ما بين أيديهم من الطعام قال :﴿ أَلا تَأْكُلُونَ. مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ﴾ ؟ !.
٢ - زيادة من ت، أ..
قال السدي : دخل إبراهيم، عليه السلام إلى بيت الآلهة، فإذا هم١ في بَهْوٍ عظيم، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه [ صنم آخر ]٢ أصغر منه، بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه، حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما وضعوه بين أيدي الآلهة، وقالوا : إذا كان حين نرجع وقد بَرَكَت الآلهةُ في طعامنا أكلناه، فلما نظر إبراهيم، عليه والسلام، إلى ما بين أيديهم من الطعام قال :﴿ أَلا تَأْكُلُونَ. مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ﴾ ؟ !.
٢ - زيادة من ت، أ..
وقال قتادة والجوهري : فأقبل عليهم ضربا باليمين.
وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى ؛ ولهذا تركهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، كما تقدم في سورة الأنبياء تفسير ذلك.
وهذه القصة هاهنا مختصرة، وفي سورة الأنبياء مبسوطة، فإنهم لما رجعوا ما عرفوا من أول وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا، فعرفوا أن إبراهيم، عليه السلام، هو الذي فعل ذلك.
٢ - (٢) خلق أفعال العباد (ص٧٣)..
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْجَوْهَرِيُّ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ.
وَإِنَّمَا ضَرَبَهُمْ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ وَأَنْكَى؛ وَلِهَذَا تَرَكَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ تَفْسِيرُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ هَاهُنَا: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ : قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَيْ يُسْرِعُونَ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ هَاهُنَا مُخْتَصَرَةٌ، وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ مَبْسُوطَةٌ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا مَا عَرَفُوا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى كَشَفُوا وَاسْتَعْلَمُوا، فَعَرَفُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا جَاءُوا لِيُعَاتِبُوهُ أَخْذَ فِي تَأْنِيبِهِمْ وَعَيْبِهِمْ، فَقَالَ: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ ؟! أَيْ: أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ مَا أَنْتُمْ تَنْحِتُونَهَا وَتَجْعَلُونَهَا بِأَيْدِيكُمْ؟! ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى "الَّذِي" تَقْدِيرُهُ: وَاللَّهُ خَلْقَكُمْ وَالَّذِي تَعْمَلُونَهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ متلازم، والأول أظهر؛ لما رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ "أَفْعَالِ الْعِبَادِ"، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ مَرْوَانَ (١) بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ ربْعِيّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ" (٢). وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾
فَعِنْدَ ذَلِكَ لَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ عَدَلُوا إِلَى أَخْذِهِ بِالْيَدِ وَالْقَهْرِ، فَقَالُوا: ﴿ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ وَأَظْهَرَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَعْلَى حَجَّتَهُ وَنَصَرَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ﴾
﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) ﴾
(٢) خلق أفعال العباد (ص٧٣).
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تُلقى إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلما من غير حجة. وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾. ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا :﴿ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾ [ الحجر : ٥٣ ]. وقال تعالى :﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ]، أي : يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب، فيكون من ذريته عقب ونسل. وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير ؛ لأن الله [ تعالى ]٢ قد وعدهما بأنه سيعقب، ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا، وإسماعيل وصف هاهنا بالحليم ؛ لأنه مناسب لهذا المقام.
٢ - (٢) زيادة في ت..
وعن ابن عباس ومجاهد وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخراساني، وزيد بن أسلم، وغيرهم :﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ﴾ يعني : شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل، ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ قال عبيد بن عمير : رؤيا الأنبياء وَحْي، ثم تلا هذه الآية :﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا أبو عبد الملك الكرندي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسرائيل بن يونس، عن سِمَاك، عن عكرمة١، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" رؤيا الأنبياء في المنام وَحْي " ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه٢.
وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه.
﴿ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾ أي : امض لما أمرك٣ الله من ذبحي، ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ أي : سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل. وصدق، صلوات الله وسلامه عليه، فيما وعد ؛ ولهذا قال الله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [ مريم : ٥٤، ٥٥ ].
٢ - (٢) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٢/٦) من وجه آخر عن سماك: فرواه من طريق الفريابي عن سفيان عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به..
٣ - (٣) في أ: "أنزل"..
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (١) : إِنَّهُ بَعْدَ مَا نصره الله على قومه وأيس من
وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، حَتَّى نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَمَا أَظُنُّ ذَلِكَ تُلقى إِلَّا عَنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأُخِذَ ذَلِكَ مُسَلَّمًا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ. وَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ شَاهِدٌ وَمُرْشِدٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْبِشَارَةَ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ الذَّبِيحُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. وَلَمَّا بَشَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْحَاقَ قَالُوا: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ [الْحِجْرِ: ٥٣]. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هُودٍ: ٧١]، أَيْ: يُولَدُ لَهُ فِي حَيَاتِهِمَا وَلَدٌ يُسَمَّى يَعْقُوبُ، فَيَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ عَقِبٌ وَنَسْلٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُؤْمَرَ بِذَبْحِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ [تَعَالَى] (٢) قَدْ وَعَدَهُمَا بِأَنَّهُ سَيُعْقَبُ، وَيَكُونُ لَهُ نَسَلٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ بُعْدَ هَذَا أَنْ يُؤْمَرَ بِذَبْحِهِ صَغِيرًا، وَإِسْمَاعِيلُ وُصِفَ هَاهُنَا بِالْحَلِيمِ؛ لِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِهَذَا الْمَقَامِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ أَيْ: كَبِرَ وَتَرَعْرَعَ وَصَارَ يَذْهَبُ مَعَ أَبِيهِ وَيَمْشِي مَعَهُ. وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَذْهَبُ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَتَفَقَّدُ وَلَدَهُ وَأُمَّ وَلَدِهِ بِبِلَادِ "فَارَانَ" وَيَنْظُرُ فِي أَمْرِهِمَا، وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرْكَبُ عَلَى الْبُرَاقِ سَرِيعًا إِلَى هُنَاكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وعِكْرِمة، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرِهِمْ: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ يَعْنِي: شَبَّ وَارْتَحَلَ وَأَطَاقَ مَا يَفْعَلُهُ أَبُوهُ مِنَ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ، ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْي، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الملك الكرندي، حدثنا
(٢) زيادة في ت.
وَإِنَّمَا أَعْلَمُ ابْنَهُ بِذَلِكَ لِيَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ، وَلِيَخْتَبِرَ صَبْرَهُ وَجَلَدَهُ وَعَزْمَهُ مِنْ صِغَرِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ أَبِيهِ.
﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ أَيِ: امْضِ لِمَا أَمَرَكَ (٣) اللَّهُ مِنْ ذَبْحِي، ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ أَيْ: سَأَصْبِرُ وَأَحْتَسِبُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَصَدَقَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فِيمَا وَعَدَ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٥٤، ٥٥].
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أَيْ: فَلَمَّا تَشَهَّدَا وَذَكَرَا اللَّهَ تَعَالَى (٤) إِبْرَاهِيمُ عَلَى الذَّبْحِ وَالْوَلَدُ عَلَى شَهَادَةِ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: ﴿أَسْلَمَا﴾، [يَعْنِي] (٥) : اسْتَسْلَمَا وَانْقَادَا؛ إِبْرَاهِيمُ امْتَثَلَ أمْرَ اللَّهِ، وَإِسْمَاعِيلُ طَاعَةَ اللَّهِ وَأَبِيهِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَمَعْنَى ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أَيْ: صَرَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَذْبَحَهُ مِنْ قَفَاهُ، وَلَا يُشَاهِدَ وَجْهَهُ عِنْدَ ذَبْحِهِ، لِيَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ (٦) وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ : أَكَبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْج (٧) وَيُونُسُ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الغَنَويّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ (٨)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِالْمَنَاسِكِ (٩) عَرَض لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ السَّعْيِ، فَسَابَقَهُ فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتِ، وثَمّ تَلَّه لِلْجَبِينِ، وَعَلَى إِسْمَاعِيلَ قَمِيصٌ أَبْيَضُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَتِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي ثَوْبٌ تُكَفِّنُنِي فِيهِ غَيْرُهُ، فَاخْلَعْهُ حَتَّى تُكَفِّنَنِي فِيهِ. فَعَالَجَهُ لِيَخْلَعَهُ، فنُوديَ مِنْ خَلْفِهِ: ﴿أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾، فَالْتَفَتَ إِبْرَاهِيمُ فَإِذَا بِكَبْشٍ أَبْيَضَ أَقْرَنَ أَعْيَنَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَتْبَعُ ذَلِكَ الضَّرْبَ مِنَ الْكِبَاشِ.
وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي "الْمَنَاسِكِ" بِطُولِهِ (١٠). ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ بِطُولِهِ عَنْ يُونُسَ، عَنْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير (١١)، عن ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: "إِسْحَاقُ" (١٢). فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَسْمِيَةِ الذَّبِيحِ (١٣) رِوَايَتَانِ، وَالْأَظْهَرُ عَنْهُ إِسْمَاعِيلُ، لِمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
(٢) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٢/٦) من وجه آخر عن سماك: فرواه من طريق الفريابي عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ به.
(٣) في أ: "أنزل".
(٤) في ت، س، أ: "عز وجل".
(٥) زيادة من ت، وفي أ: "بمعنى".
(٦) في ت: "ومجاهد وغيرهما".
(٧) في أ: "شريج".
(٨) في ت: "بإسناده".
(٩) في أ: "لما أمر الله إبراهيم عليه السلام بالمناسك".
(١٠) المسند (١/٢٩٧)
(١١) في ت: "بسنده".
(١٢) المسند (١/٣٠٦).
(١٣) في أ: "الذبح".
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: اجْتَمَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَعْبٌ، فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ كَعْبٌ يُحَدِّثُ عَنِ الكُتُب، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً، وَإِنِّي قَدْ خَبَأتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ". فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نَعَمْ. قَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي -أَوْ: فِدَاهُ أَبِي وَأُمِّي-أَفَلَا أُخْبِرُكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ إِنَّهُ لَمَّا أُريَ ذَبْحَ ابْنِهِ إِسْحَاقَ قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنْ لَمْ أَفْتِنْ هَؤُلَاءِ عِنْدَ هَذِهِ لَمْ أَفْتِنْهُمْ أَبَدًا. فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بِابْنِهِ لِيَذْبَحَهُ، فَذَهَبَ الشَّيْطَانُ فَدَخَلَ عَلَى سَارَةَ، فَقَالَ: أَيْنَ ذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ بِابْنِكِ؟ قَالَتْ: غَدَا بِهِ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ. قَالَ: لَمْ يَغْدُ لِحَاجَةٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ بِهِ لِيَذْبَحَهُ. قَالَتْ: وَلِم يَذْبَحُهُ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ. قَالَتْ: فَقَدْ أَحْسَنَ أَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ. فَذَهَبَ الشَّيْطَانُ فِي أَثَرِهِمَا فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَيْنَ يَذْهَبُ بِكَ أَبُوكَ؟ قَالَ: لِبَعْضِ حَاجَتِهِ. قَالَ: (٣) إِنَّهُ (٤) لَا يَذْهَبُ بِكَ لِحَاجَةٍ، وَلَكِنَّهُ يَذْهَبُ بِكَ لِيَذْبَحَكَ. قَالَ: وَلِمَ يَذْبَحُنِي؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَيَفْعَلَنَّ. قَالَ: فَيَئِسَ مِنْهُ فَلَحِقَ (٥) بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: أَيْنَ غَدَوْتَ بِابْنِكَ؟ قَالَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: فَإِنَّكَ لَمْ تَغْدُ بِهِ لِحَاجَةٍ، وَإِنَّمَا غَدَوْتَ بِهِ لِتَذْبَحَهُ قَالَ: وَلم أذْبَحه؟ قَالَ: تَزْعُمُ أَنَّ رَبَّكَ أَمَرَكَ بِذَلِكَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَنِي (٦) بِذَلِكَ لَأَفْعَلَنَّ. قَالَ: فَتَرَكَهُ وَيَئِسَ أَنْ يُطَاعَ (٧).
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْب، عَنْ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدِ (٨) بْنِ جَاريَةَ الثَّقَفِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ كَعْبًا قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ... فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِسْحَاقَ أَنِّي أَعْطَيْتُكَ دَعْوَةً أَسْتَجِيبُ لَكَ فِيهَا. قَالَ إِسْحَاقُ: اللَّهُمَّ، إِنِّي أَدْعُو (٩) أَنْ تَسْتَجِيبَ لِي: أيُّما عَبْد لَقِيَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ والآخرين، لا يشرك بك شيئًا، فأدخله
(٢) في س: "وشح".
(٣) في أ: "فقال".
(٤) في س: "فإنه".
(٥) في ت، س: "فيئس منه فتركه فلحق".
(٦) في أ: "كان أمرني ربي".
(٧) تفسير عبد الرزاق (٢/١٢٣)
(٨) في أ: "أسد".
(٩) في ت، س: "أدعوك".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ (١)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (٢) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَغْفِرَ لِنِصْفِ أُمَّتِي، وَبَيْنَ أَنْ أَخْتَبِئَ شَفَاعَتِي، فَاخْتَبَأْتُ شَفَاعَتِيَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تُكَفِّرَ الجَمْ (٣) لِأُمَّتِي، وَلَوْلَا الَّذِي سَبَقَنِي إِلَيْهِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ لَتَعَجَّلْتُ فِيهَا دَعْوَتِي، إِنِ اللَّهَ لَمَا فَرَّجَ عَنْ إِسْحَاقَ كرْبَ الذَّبْحِ قِيلَ لَهُ: يَا إِسْحَاقُ، سَلْ تُعْطَهُ. فَقَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَتَعَجَّلَنَّهَا قَبْلَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، اللَّهُمَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئًا فَاغْفِرْ لَهُ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ".
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مُنْكَرٌ (٤). وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ مُدْرَجَة، وَهِيَ قَوْلُهُ: "إِنِ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَّجَ عَنْ إِسْحَاقَ" إِلَى آخِرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَالْأَشْبَهُ أَنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ "إِسْمَاعِيلَ"، وَإِنَّمَا حَرَّفُوهُ بِإِسْحَاقَ؛ حَسَدًا مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِلَّا فَالْمَنَاسِكُ وَالذَّبَائِحُ إِنَّمَا مَحِلُّهَا بِمِنَى مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ، حَيْثُ كَانَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ [عَلَيْهِمَا السَّلَامُ] (٥)، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ بِبِلَادِ كَنْعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ أَيْ: قَدْ حَصَلَ المقصودُ مِنْ رُؤْيَاكَ بِإِضْجَاعِكَ وَلَدَكَ لِلذَّبْحِ
وَذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ أمَرّ السِّكِّينَ عَلَى رَقَبَتِهِ فَلَمْ تَقْطَعْ شَيْئًا، بَلْ حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ صَفِيحَةٌ مِنْ نُحَاسٍ وَنُودِيَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ أَيْ: هَكَذَا نَصْرِفُ عَمَّنْ أَطَاعَنَا الْمَكَارِهَ وَالشَّدَائِدَ، وَنَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطَّلَاقِ: ٢، ٣].
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَالْقِصَّةِ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ عَلَى صِحَّةِ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ، خِلَافًا لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالدَّلَالَةُ مِنْ هَذِهِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ لِإِبْرَاهِيمَ ذَبْحَ وَلَدِهِ، ثُمَّ نَسَخَهُ عَنْهُ وَصَرَفَهُ إِلَى الْفِدَاءِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِهِ أَوَّلًا إِثَابَةَ الْخَلِيلِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى ذَبْحِ وَلَدِهِ وَعَزْمِهِ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ﴾ أَيِ: الِاخْتِبَارُ الْوَاضِحُ الْجَلِيُّ؛ حَيْثُ أُمِرَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، فَسَارَعَ إِلَى ذَلِكَ مُسْتَسْلِمًا لِأَمْرِ اللَّهِ، مُنْقَادًا لِطَاعَتِهِ؛ وَلِهَذَا قال تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: ٣٧].
(٢) زيادة من ت.
(٣) في أ: "أن تكون أعم".
(٤) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٦٠٣) وابن عدي في الكامل (٤/٢٧٢) مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ به، وذكره ابن أبي حاتم في العلل (٢/٢١٩) وقال: "سألت أبي، فقال: هذا حديث منكر".
(٥) زيادة من أ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَبْشٌ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ الْعَطَّارُ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ (٢)، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الصَّخْرَةُ الَّتِي بِمِنَى بِأَصْلِ ثَبِيرٍ هِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَبَحَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ فِدَاءَ ابْنِهِ، هَبَطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبِيرٍ كَبْشٌ أَعْيَنُ أَقْرَنُ لَهُ ثُغَاءٌ، فَذَبَحَهُ، وَهُوَ الْكَبْشُ الَّذِي قَرّبه ابْنُ آدَمَ فَتُقُبِّلَ مِنْهُ، فَكَانَ مَخْزُونًا حَتَّى فُدِيَ بِهِ إِسْحَاقُ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْكَبْشُ يَرْتَعُ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى تَشَقَّقَ عَنْهُ ثَبِيرٌ، وَكَانَ عَلَيْهِ عِهْن أَحْمَرُ.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ كَانَ اسْمَ كَبْشِ إِبْرَاهِيمَ: جَرِيرٌ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: ذَبَحَهُ بِالْمَقَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذَبَحَهُ بِمِنَى عِنْدَ الْمَنْحَرِ (٣). وَقَالَ هُشَيْم، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ؛ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ أَفْتَى الَّذِي جَعَلَ عَلَيْهِ نَذْرًا أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ، فَأَمَرَهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَوْ كُنْتُ أَفْتَيْتُهُ بِكَبْشٍ لَأَجْزَأَهُ أَنْ يَذْبَحَ كَبْشًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ فُدي بِكَبْشٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ قَالَ: وَعْلٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا فُدِيَ إِسْمَاعِيلُ إِلَّا بِتَيْسٍ مِنَ الأرْوَى، أُهْبِطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبِيرٍ (٤).
وَقَدْ قَالَ (٥) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ خَالِهِ مُسافع (٦)، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ -وَلدت عَامَّةَ أَهْلِ دَارِنَا-أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ -وَقَالَ (٧) مَرَّةً: إِنَّهَا سَأَلَتْ عُثْمَانَ: لِمَ دَعَاكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: قَالَ: "إِنِّي كنتُ رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ، حِينَ دَخَلْتُ الْبَيْتَ، فَنَسِيتُ أَنْ آمُرَكَ أَنْ تُخَمِّرَهُمَا، فَخَمَّرْهما، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ". قَالَ سُفْيَانُ: لَمْ يَزَلْ قَرْنَا الْكَبْشِ مُعَلَّقَيْنِ (٨) فِي الْبَيْتِ حتى احترق البيت، فاحترقا (٩).
(٢) في أ: "خيثم".
(٣) في أ: "النحر".
(٤) في أ: "ثبين".
(٥) في ت: "وروى".
(٦) في أ: "شافع".
(٧) في أ: "وقالت".
(٨) في أ: "معلقة".
(٩) المسند (٤/٦٨).
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ السَّلَفِ فِي أَنَّ الذَّبِيحَ مَنْ هُوَ؟:
ذِكْرُ مَنْ قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (٢) :
قَالَ حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: قَالَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِلْمَلِكِ فِي وَجْهِهِ: تَرْغَبُ أَنْ تَأْكُلَ مَعِي، وَأَنَا -وَاللَّهِ-يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ، ابْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ: إِنَّ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ لِلْمَلِكِ كَذَلِكَ أَيْضًا.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، يَقُولُونَ: يَا إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَبِمَ قَالُوا ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَعْدِلْ بِي شَيْءٌ قَطُّ إِلَّا اخْتَارَنِي عَلَيْهِ. وَإِنَّ إِسْحَاقَ جَادَ لِي بِالذَّبْحِ، وَهُوَ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَجْوَدُ. وَإِنَّ يَعْقُوبَ كُلَّمَا زِدْتُهُ بَلَاءً زَادَنِي حُسْنَ ظَنٍّ".
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ قَالَ: افْتَخَرَ رَجُلٌ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، ابْنُ الْأَشْيَاخِ الْكِرَامِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ، ابْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ [صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ] (٣).
وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَذَا رَوَى عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إِسْحَاقُ. وَعَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلَ ذَلِكَ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَأَبُو مَيْسَرَةَ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ، وَمَكْحُولٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ حَاضِرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْهُذَيْلِ، وَابْنُ سَابِطٍ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَتَقَدَّمَ رِوَايَتُهُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ إِسْحَاقُ.
وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ، بْنِ جَارِيَةَ (٤)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، أَنَّهُ قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ (٥).
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-كُلُّهَا مَأْخُوذَةٌ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ جَعَلَ يُحَدِّثُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ كُتُبِهِ، فَرُبَّمَا اسْتَمَعَ لَهُ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَتَرَخَّصَ النَّاسُ فِي اسْتِمَاعِ مَا عِنْدَهُ، وَنَقَلُوا عَنْهُ غَثَّهَا وَسَمِينَهَا، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ -والله أعلم-حاجة إلى حرف
(٢) زيادة من ت، س.
(٣) زيادة من ت.
(٤) في أ: "والعلاء بن حارث".
(٥) ورواه الطبري في تفسيره (٢٣/٥٢).
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عبد الْمُطَّلِبِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ قَالَ: هُوَ إِسْحَاقُ (٢).
فَفِي إِسْنَادِهِ ضَعِيفَانِ (٣)، وَهَمَا الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ الْبَصَرِيُّ، مَتْرُوكٌ. وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ مُنْكَرُ الحدث. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، بِهِ مَرْفُوعًا. (٤). ثُمَّ قَالَ: قَدْ رَوَاهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الْأَحْنَفِ، عَنِ الْعَبَّاسِ قَوْلُهُ، وَهَذَا (٥) أَشْبَهُ وَأَصَحُّ.
[ذِكْرُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَقْطُوعُ بِهِ] (٦).
قَدْ تَقَدَّمَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إِسْحَاقُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، هُوَ إِسْمَاعِيلُ عليه لسلام.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ (٧) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُفْدَى إِسْمَاعِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَزَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَكَذَبَتِ الْيَهُودُ (٨).
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. وَكَذَا قَالَ يُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ (٩) مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ مِنِ ابْنَيْ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بذبحه
(٢) تفسير الطبري (٢٣/٥٢).
(٣) في ت: "لأن في سنده ضعيفين".
(٤) في ت: "مرفوعا قال: هو إسحاق".
(٥) في ت: "وهو".
(٦) زيادة من ت، س.
(٧) في ت: "وروى ابن جرير بإسناده".
(٨) تفسير الطبري (٢٣/٥٢).
(٩) في ت: "وروى".
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بِرَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ (٣) الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ؛ أَنَّهُ (٤) ذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ إِذْ كَانَ مَعَهُ بِالشَّامِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا كُنْتُ أَنْظُرُ فِيهِ، وَإِنِّي لَأَرَاهُ كَمَا قُلْتَ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ كَانَ عِنْدَهُ بِالشَّامِ، كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ يَرَى أَنَّهُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ ذَلِكَ -قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: وَأَنَا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ-فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أيُّ ابْنَيْ إِبْرَاهِيمَ أُمِر بِذَبْحِهِ؟ فَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ يَهُودَ لَتَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْسُدُونَكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أَبَاكُمُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ، وَالْفَضْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْهُ لِصَبْرِهِ لِمَا أُمِرَ بِهِ، فَهُمْ يَجْحَدُونَ ذَلِكَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، بِكَوْنِ (٥) إِسْحَاقَ أَبُوهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا كَانَ، وَكُلٌّ قَدْ كَانَ طَاهِرًا طَيِّبًا مُطِيعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (٦)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الذَّبِيحِ، مَنْ هُوَ؟ إِسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ؟ فَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ. ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: الصَّحِيحُ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَبِي صَالِحٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبَ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَكَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ (٧).
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا غَرِيبًا فَقَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْخَطَّابِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ الله بن محمد العتبي -من ولد عتبة بْنِ أَبِي سُفْيَانَ-عَنْ أَبِيهِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ: كُنَّا عند معاوية بن
(٢) في أ: "ما أوعده".
(٣) في أ: "بردة".
(٤) في ت: "به".
(٥) في أ: "لأن".
(٦) رواه الطبري في تفسيره (٢٣/٥٤).
(٧) معالم التنزيل للبغوي (٧/٤٧).
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا. وَقَدْ رَوَاهُ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: حَدَّثَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا عبيد الله (٣) بن محمد العتبي -من ولد عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الصُّنَابِحِيُّ قَالَ: حَضَرْنَا مَجْلِسَ مُعَاوِيَةَ، فَتَذَاكَرَ الْقَوْمُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَذَكَرَهُ. كَذَا كَتَبْتُهُ مِنْ نُسْخَةٍ مَغْلُوطَةٍ (٤).
وَإِنَّمَا عَوَّلَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي اخْتِيَارِهِ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾، فَجَعَلَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ هِيَ الْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذَّارِيَاتِ: ٢٨]. وَأَجَابَ عَنِ الْبِشَارَةِ بِيَعْقُوبَ بِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، أَيِ الْعَمَلَ. وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ وُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ مَعَ يَعْقُوبَ أَيْضًا. قَالَ: وَأَمَّا الْقَرْنَانِ اللَّذَانِ كَانَا مُعَلَّقَيْنِ بِالْكَعْبَةِ فَمِنَ الْجَائِزِ أَنَّهُمَا نُقِلَا مِنْ بِلَادِ الشَّامِ. قَالَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مِنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ ذَبَحَ إِسْحَاقَ هُنَاكَ. هَذَا مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلَيْسَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِمَذْهَبٍ وَلَا لَازِمٍ، بَلْ هُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَالَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ عَلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ أَثْبَتُ وَأَصَحُّ وَأَقْوَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (٥).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، لَمَّا تَقَدَّمَتِ الْبِشَارَةُ بِالذَّبِيحِ -وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ-عَطَفَ بِذِكْرِ الْبِشَارَةِ بِأَخِيهِ إِسْحَاقَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي سُورَتَيْ (٦) هُودٍ" وَ "الْحِجْرِ" (٧).
وَقَوْلُهُ: ﴿نَبِيًّا﴾ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ: سَيَصِيرُ مِنْهُ نَبِيٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قَالَ: بَشَّرَ بِنُبُوَّتِهِ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٥٣] قَالَ: كَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى، وَلَكِنْ أَرَادَ: وَهَبَ لَهُ نُبُوَّتَهُ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُدَ يُحَدِّثُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قَالَ: إِنَّمَا بَشَّرَ بِهِ نَبِيًّا حِينَ فَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الذَّبْحِ، وَلَمْ تَكُنِ الْبِشَارَةُ بِالنُّبُوَّةِ عِنْدَ مَوْلِدِهِ (٨).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عن داود، عن عكرمة،
(٢) تفسير الطبري (٢٣/٥٤).
(٣) في أ: "عبد الله".
(٤) في أ: "من نسخة كذا والله أعلم".
(٥) وقد حرر هذه المسألة الإمام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى. انظر المواضع في: الفهرس العام (٣٦/٣٢).
(٦) في ت: "سورة".
(٧) سورة هود، الآية: ٧١، وسورة الحجر، الآية: ٥٣.
(٨) تفسير الطبري (٢٣/٥٧).
وذكر السدي وغيره أنه أمَرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئًا، بل حال بينها وبينه صفيحة من نحاس ونودي إبراهيم، عليه السلام، عند ذلك :﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾. وقوله :﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ أي : هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا، كقوله تعالى :﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [ الطلاق : ٢، ٣ ].
وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل، خلافا لطائفة من المعتزلة، والدلالة من هذه ظاهرة ؛ لأن الله تعالى شرع لإبراهيم ذَبْحَ ولده، ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء، وإنما كان المقصود من شرعه أولا إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ﴾
وذكر السدي وغيره أنه أمَرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئًا، بل حال بينها وبينه صفيحة من نحاس ونودي إبراهيم، عليه السلام، عند ذلك :﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾. وقوله :﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ أي : هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا، كقوله تعالى :﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [ الطلاق : ٢، ٣ ].
وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل، خلافا لطائفة من المعتزلة، والدلالة من هذه ظاهرة ؛ لأن الله تعالى شرع لإبراهيم ذَبْحَ ولده، ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء، وإنما كان المقصود من شرعه أولا إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ﴾
وقال الثوري أيضا، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفًا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار، حدثنا داود العطار، عن ابن خثيم٢، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء ابنه، هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء، فذبحه، وهو الكبش الذي قَرّبه ابن آدم فتقبل منه، فكان مخزونا حتى فدي به إسحاق.
وروي أيضا عن سعيد بن جبير أنه قال : كان الكبش يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير، وكان عليه عِهْن أحمر.
وعن الحسن البصري : أنه كان اسم كبش إبراهيم : جرير.
وقال ابن جريج : قال عبيد بن عمير : ذبحه بالمقام. وقال مجاهد : ذبحه بمنى عند المنحر٣. وقال هُشَيْم، عن سيار، عن عكرمة ؛ أنّ ابن عباس كان أفتى الذي جعل عليه نذرًا أن ينحر نفسه، فأمره بمائة من الإبل. ثم قال بعد ذلك : لو كنت أفتيته بكبش لأجزأه أن يذبح كبشا، فإن الله تعالى قال في كتابه :﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه فُدي بكبش. وقال الثوري، عن رجل، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله :﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ قال : وَعْلٌ.
وقال محمد بن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن أنه كان يقول : ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأرْوَى، أهبط عليه من ثبير٤.
وقد قال٥ الإمام أحمد : حدثنا سفيان، حدثنا منصور، عن خاله مُسافع٦، عن صفية بنت شيبة قالت : أخبرتني امرأة من بني سليم - وَلدت عامة أهل دارنا - أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة - وقال٧ مرة : إنها سألت عثمان : لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قال :" إني كنتُ رأيت قرني الكبش، حين دخلت البيت، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما، فَخَمَّرْهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي ". قال سفيان : لم يزل قرنا الكبش معلقين٨ في البيت حتى احترق البيت، فاحترقا٩.
وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل، عليه السلام، فإن قريشا توارثوا قرني الكبش الذي فدي به إبراهيم١٠ خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل، إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم.
فصل في ذكر الآثار الواردة عن السلف في أن الذبيح من هو ؟ :
ذكر من قال : هو إسحاق [ عليه السلام ]١١ :
قال حمزة الزيات، عن أبي ميسرة، رحمه الله، قال : قال يوسف، عليه السلام، للملك في وجهه : ترغب أن تأكل معي، وأنا - والله - يوسف بن يعقوب نبي الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله.
وقال الثوري، عن أبي سنان، عن ابن أبي الهذيل : إن يوسف، عليه السلام، قال للملك كذلك أيضا.
وقال سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه قال :" قال موسى : يا رب، يقولون : يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبم قالوا ذلك ؟ قال : إن إبراهيم لم يعدل بي شيء قط إلا اختارني عليه. وإن إسحاق جاد لي بالذبح، وهو بغير ذلك أجود. وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن ".
وقال شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص قال : افتخر رجل عند ابن مسعود فقال : أنا فلان بن فلان، ابن الأشياخ الكرام. فقال عبد الله : ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله [ صلوات الله وسلامه عليهم ]١٢.
وهذا صحيح إلى ابن مسعود، وكذا روى عكرمة، عن ابن عباس أنه إسحاق. وعن أبيه العباس، وعلي بن أبي طالب مثل ذلك. وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، وعبيد بن عمير، وأبو ميسرة، وزيد بن أسلم، وعبد الله بن شقيق، والزهري، والقاسم بن أبي بزة، ومكحول، وعثمان بن حاضر، والسدي، والحسن، وقتادة، وأبو الهذيل، وابن سابط. وهو اختيار ابن جرير. وتقدم روايته عن كعب الأحبار أنه إسحاق.
وهكذا روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، عن أبي سفيان بن العلاء، بن جارية١٣، عن أبي هريرة، عن كعب الأحبار، أنه قال : هو إسحاق١٤.
وهذه الأقوال - والله أعلم - كلها مأخوذة عن كعب الأحبار، فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر، رضي الله عنه عن كتبه، فربما استمع له عمر، رضي الله عنه، فترخص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا عنه غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة - والله أعلم - حاجة إلى حرف واحد مما عنده. وقد حكى البغوي هذا القول بأنه إسحاق عن عمر، وعلي، وابن مسعود، والعباس، ومن التابعين عن كعب الأحبار، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، ومقاتل، وعطاء، والزهري، والسدي - قال : وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس١٥. وقد ورد في ذلك حديث - لو ثبت لقلنا به على الرأس والعين، ولكن لم يصح سنده - قال ابن جرير :
حدثنا أبو كريب، حدثنا زيد بن حباب، عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال : هو إسحاق١٦.
ففي إسناده ضعيفان١٧، وهما الحسن بن دينار البصري، متروك. وعلي بن زيد بن جدعان منكر الحدث. وقد رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن مسلم بن إبراهيم، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، به مرفوعا. ١٨. ثم قال : قد رواه مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن الأحنف، عن العباس قوله، وهذا١٩ أشبه وأصح.
[ ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل - عليه السلام - وهو الصحيح المقطوع به ]٢٠.
قد تقدمت الرواية عن ابن عباس أنه إسحاق. قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، ويوسف بن مهران، ومجاهد، وعطاء، وغير واحد، عن ابن عباس، هو إسماعيل عليه لسلام.
وقال ابن جرير : حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح٢١ عن ابن عباس أنه قال : المفدى إسماعيل، عليه السلام، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود٢٢.
وقال إسرائيل، عن ثور، عن مجاهد، عن ابن عمر قال : الذبيح إسماعيل.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هو إسماعيل. وكذا قال يوسف بن مهران.
وقال الشعبي : هو إسماعيل، عليه السلام، وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة.
وقال٢٣ محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، وعمرو بن عبيد، عن الحسن البصري : أنه كان لا يشك في ذلك : أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل.
قال ابن إسحاق : وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول : إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل. وإنا لنجد ذلك في كتاب الله، وذلك أن الله حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾. يقول الله تعالى :﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾، يقول بابن وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من [ الله ]٢٤ الموعد بما وعده٢٥، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل.
وقال ابن إسحاق، عن بريدة بن سفيان بن فروة٢٦ الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم ؛ أنه٢٧ ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام، فقال له عمر : إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت. ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام، كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك - قال محمد بن كعب : وأنا عند عمر بن عبد العزيز - فقال له عمر : أيُّ ابني إبراهيم أُمِر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق، بكون٢٨ إسحاق أبوهم، والله أعلم أيهما كان، وكل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لله عز وجل. ٢٩
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله : سألت أبي عن الذبيح، من هو ؟ إسماعيل أو إسحاق ؟ فقال : إسماعيل. ذكره في كتاب الزهد.
وقال ابن أبي حاتم : وسمعت أبي يقول : الصحيح أن الذبيح إسماعيل، عليه السلام. قال : وروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح أنهم قالوا : الذبيح إسماعيل.
وقال البغوي في تفسيره : وإليه ذهب عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، والسدي، والحسن البصري، ومجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، وهو رواية عن ابن عباس، وحكاه أيضا عن أبي عمرو بن العلاء٣٠.
وقد روى ابن جرير في ذلك حديثا غريبا فقال : حدثني محمد بن عمار الرازي، حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، حدثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابي، عن عبيد الله بن محمد العتبي - من ولد عتبة بن أبي سفيان - عن أبيه : حدثني عبد الله بن سعيد، عن الصنابحي قال : كنا عند معاوية بن أبي سفيان، فذكروا الذبيح : إسماعيل أو إسحاق ؟ فقال على الخبير٣١ سقطتم، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل فقال : يا رسول الله، عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له : يا أمير المؤمنين، وما الذبيحان ؟ فقال : إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله أمرها عليه، ليذبحن أحد ولده، قال : فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا : افد ابنك بمائة من الإبل. ففداه بمائة من الإبل، وإسماعيل الثاني٣٢.
وهذا حديث غريب جدا. وقد رواه الأموي في مغازيه : حدثنا بعض أصحابنا، أخبرنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن القرشي، حدثنا عبيد الله٣٣ بن محمد العتبي - من ولد عتبة بن أبي سفيان - حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا الصنابحي قال : حضرنا مجلس معاوية، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق، وذكره. كذا كتبته من نسخة مغلوطة٣٤.
وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى :﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ﴾، فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله :﴿ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾ [ الذاريات : ٢٨ ]. وأجاب عن البشارة بيعقوب بأنه قد كان بلغ معه السعي، أي العمل. ومن الممكن أنه قد كان ولد له أولاد مع يعقوب أيضا. قال : وأما القرنان اللذان كانا معلقين بالكعبة فمن الجائز أنهما نقلا من بلاد الشام. قال : وقد تقدم أن من الناس من ذهب إلى أنه ذبح إسحاق هناك. هذا ما اعتمد عليه في تفسيره، وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم، بل هو بعيد جدا، والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على
٢ - (٢) في أ: "خيثم"..
٣ - (٣) في أ: "النحر"..
٤ - في أ: "ثبين"..
٥ - في ت: "وروى"..
٦ - في أ: "شافع"..
٧ - في أ: "وقالت"..
٨ - في أ: "معلقة"..
٩ - المسند (٤/٦٨)..
١٠ - في ت: "إسماعيل"..
١١ - (٢) زيادة من ت، س..
١٢ - (٣) زيادة من ت..
١٣ - في أ: "والعلاء بن حارث"..
١٤ - ورواه الطبري في تفسيره (٢٣/٥٢)..
١٥ - معالم التنزيل للبغوي (٧/٤٦)..
١٦ - (٢) تفسير الطبري (٢٣/٥٢)..
١٧ - (٣) في ت: "لأن في سنده ضعيفين"..
١٨ - في ت: "مرفوعا قال: هو إسحاق"..
١٩ - في ت: "وهو"..
٢٠ - زيادة من ت، س..
٢١ - في ت: "وروى ابن جرير بإسناده"..
٢٢ - تفسير الطبري (٢٣/٥٢)..
٢٣ - في ت: "وروى"..
٢٤ - زيادة من أ..
٢٥ - (٢) في أ: "ما أوعده"..
٢٦ - (٣) في أ: "بردة"..
٢٧ - في ت: "به"..
٢٨ - في أ: "لأن"..
٢٩ - رواه الطبري في تفسيره (٢٣/٥٤)..
٣٠ - معالم التنزيل للبغوي (٧/٤٧)..
٣١ - في س: "الخبر"..
٣٢ - (٢) تفسير الطبري (٢٣/٥٤)..
٣٣ - (٣) في أ: "عبد الله"..
٣٤ - في أ: "من نسخة كذا والله أعلم"..
وقوله :﴿ نَبِيًّا ﴾ حال مقدرة، أي : سيصير منه نبي من الصالحين.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، عن داود، عن عكرمة قال : قال ابن عباس، رضي الله عنهما : الذبيح إسحاق. قال : وقوله :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ قال : بشر بنبوته. قال : وقوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ﴾ [ مريم : ٥٣ ] قال : كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد : وهب له نبوته.
وحدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان قال : سمعت داود يحدث، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ قال : إنما بشر به نبيا حين فداه الله من الذبح، ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده٣.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان الثوري، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ قال : بشر به حين ولد، وحين نبئ.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ قال : بعد ما كان من أمره، لما جاد لله بنفسه، وقال الله :﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ﴾.
٢ - سورة هود، الآية: ٧١، وسورة الحجر، الآية: ٥٣..
٣ - تفسير الطبري (٢٣/٥٧)..
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قَالَ: بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، لَمَّا جَادَ لِلَّهِ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ اللَّهُ: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [هُودٍ: ٤٨].
﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) ﴾
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالنَّجَاةِ بِمَنْ آمَنَ مَعَهُمَا مِنْ قَهْرِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَمَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ فِي حَقِّهِمْ مِنَ الْإِسَاءَةِ الْعَظِيمَةِ، مِنْ قَتْلِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ، وَاسْتِعْمَالِهِمْ فِي أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ نَصَرَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَقَرَّ أَعْيُنَهُمْ مِنْهُمْ، فَغَلَبُوهُمْ وَأَخَذُوا أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَمَا كَانُوا جَمَّعُوهُ طُولَ حَيَاتِهِمْ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى الْكِتَابَ الْعَظِيمَ الْوَاضِحَ الْجَلِيَّ الْمُسْتَبِينَ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٤٨].
وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أَيْ: فِي (١) الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ﴾ أي: أبقينا لها (٢) مِنْ بَعْدِهِمَا ذِكْرًا جَمِيلًا وَثَنَاءً حَسَنًا، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾
﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (١٢٦) ﴾
(٢) في ت، س: "لهما".
وقال وَهْب بن منَبِّه : هو إلياس بن ياسين٣ بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، بعثه الله في بني إسرائيل بعد حزقيل، عليهما السلام، وكانوا قد عبدوا صنما يقال له :" بعل "، فدعاهم إلى الله، ونهاهم عن عبادة ما سواه. وكان قد آمن به ملكهم ثم ارتد٤، واستمروا على ضلالتهم، ولم يؤمن به منهم أحد. فدعا الله عليهم.
فحبس عنهم القطر ثلاث سنين، ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم، ووعدوه٥ الإيمان به إن هم أصابهم المطر. فدعا الله لهم، فجاءهم الغيث فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر، فسأل الله أن يقبضه إليه. وكان قد نشأ على يديه اليسع بن أخطوب، عليه السلام، فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا وكذا، فمهما جاءه فليركبه ولا يهبه، فجاءته فرس من نار فركب٦، وألبسه الله النور وكساه الريش، وكان يطير مع الملائكة ملكا إنسيا سماويا أرضيا، هكذا حكاه وهب عن أهل الكتاب، والله أعلم بصحته.
٢ - (٢) في ت: "وقال ابن أبي حاتم بإسناده"..
٣ - في ت: "شبي" وفي س: "تبي"..
٤ - (٢) في ت: "ارتدوا"..
٥ - (٣) في ت، س: "فوعدوه"..
٦ - في ت، س: "فركبه"..
قال قتادة وعكرمة : وهي لغة أهل اليمن. وفي رواية عن قتادة قال : هي لغة أزد شنوءة.
وقال ابن إسحاق : أخبرني بعض أهل العلم أنهم كانوا يعبدون امرأة اسمها :" بعل ".
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه : هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها :" بعلبك "، غربي دمشق.
وقال الضحاك : هو صنم كانوا يعبدونه.
وقوله :﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلا ﴾ أي : أتعبدون صنما ؟ ﴿ وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ﴾
قَالَ (١) قَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، يُقَالُ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ رَبِيعَةَ (٢)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ. وَكَذَا قال الضحاك.
(٢) في ت: "وقال ابن أبي حاتم بإسناده".
فَحَبَسَ عَنْهُمُ الْقَطْرَ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَكْشِفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَوَعَدُوهُ (٣) الْإِيمَانَ بِهِ إِنْ هُمْ أَصَابَهُمُ الْمَطَرُ. فَدَعَا اللَّهَ لَهُمْ، فَجَاءَهُمُ الْغَيْثُ فَاسْتَمَرُّوا عَلَى أَخْبَثِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ نَشَأَ عَلَى يَدَيْهِ الْيَسَعُ بْنُ أَخْطُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأُمِرَ إِلْيَاسُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَمَهْمَا جَاءَهُ فَلْيَرْكَبْهُ وَلَا يَهَبْهُ، فَجَاءَتْهُ فَرَسٌ مِنْ نَارٍ فَرَكِبَ (٤)، وَأَلْبَسَهُ اللَّهُ النُّورَ وَكَسَاهُ الرِّيشَ، وَكَانَ يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ مَلَكًا إِنْسِيًّا سَمَاوِيًّا أَرْضِيًّا، هَكَذَا حَكَاهُ وَهْبٌ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.
﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ﴾ أَيْ: أَلَا تَخَافُونَ اللَّهَ فِي عِبَادَتِكُمْ غَيْرَهُ؟.
﴿أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: ﴿بَعْلا﴾ يَعْنِي: رَبًّا.
قَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هِيَ لُغَةُ أَزْدِ شَنُوءَةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ امْرَأَةً اسْمُهَا: "بَعْلٌ".
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ: هُوَ اسْمُ صَنَمٍ كَانَ يَعْبُدُهُ أَهْلُ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: "بَعْلَبَكُّ"، غَرْبِيَّ دِمَشْقَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ صَنَمٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلا﴾ أَيْ: أَتَعْبُدُونَ صَنَمًا؟ ﴿وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ أَيْ: هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ أَيْ لِلْعَذَابِ يَوْمَ الْحِسَابِ.
﴿إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ أَيِ: الْمُوَحِّدِينَ مِنْهُمْ. وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ مُثْبَتٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ أَيْ: ثَنَاءً جَمِيلًا.
﴿سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾ كَمَا يُقَالُ فِي إِسْمَاعِيلَ: إِسْمَاعِينُ. وَهِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ. وَأَنْشَدَ بَعْضُ بَنِي نُمَيْرٍ فِي ضَبِّ صَادَه.
يَقُولُ رَبّ السُّوقِ لَمَّا جِينَا | هَذَا وربِّ الْبَيْتِ إسْرَائينا (٥) |
وَقَرَأَ آخَرُونَ: "سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ"، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَآخَرُونَ: " سَلامٌ عَلَى آلْ يَاسِينَ" يَعْنِي: آلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ قد تقدم تفسيره (٧).
(٢) في ت: "ارتدوا".
(٣) في ت، س: "فوعدوه".
(٤) في ت، س: "فركبه".
(٥) البيت في تفسير الطبري (٢٣/٥٧).
(٦) فس أ: "شائغ".
(٧) في ت: "كما تقدم من تفسيرها".
يَقُولُ رَبّ السوق لما جينا | هذا وربِّ البيت إسْرَائينا١ |
وقرأ آخرون :" سلام على إدراسين "، وهي قراءة عبد الله بن مسعود. وآخرون :" سَلامٌ عَلَى آلْ يَاسِينَ " يعني : آل محمد صلى الله عليه وسلم.
٢ - فس أ: "شائغ"..
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ لُوطٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ بَعَثَهُ إِلَى قَوْمِهِ.
فَكَذَّبُوهُ، فَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ هُوَ وَأَهْلُهُ.
إِلَّا امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا هَلَكَتْ مَعَ مَنْ هَلَكَ مِنْ قَوْمِهَا.
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، وَجَعَلَ مَحِلَّتَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً قَبِيحَةَ الْمَنْظَرِ وَالطَّعْمِ وَالرِّيحِ، وَجَعَلَهَا بِسَبِيلٍ مُقِيمٍ يَمُرُّ بِهَا الْمُسَافِرُونَ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ وَلِهَذَا قال: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ أَيْ: أَفَلَا تَعْتَبِرُونَ بِهِمْ كَيْفَ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَتَعْلَمُونَ أَنَّ لِلْكَافِرِينَ أَمْثَالَهَا؟
﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (١٤٨) ﴾
قَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ يُونُسَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متَّى ونَسَبَه إِلَى أُمِّهِ" (١) وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ: "إِلَى أَبِيهِ".
وَقَوْلُهُ: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمُوَقَّرُ، أَيِ: الْمَمْلُوءُ بِالْأَمْتِعَةِ.
﴿فَسَاهَمَ﴾ أَيْ: قَارَعَ ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ أَيِ: الْمَغْلُوبِينَ. وَذَلِكَ أَنَّ السَّفِينَةَ تَلَعَّبَت (٢) بِهَا الْأَمْوَاجُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأَشْرَفُوا عَلَى الْغَرَقِ، فَسَاهَمُوا عَلَى مَنْ تَقَعُ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ، لِتَخِفَّ بِهِمُ السَّفِينَةُ، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ يُونُسَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (٣) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُمْ يَضِنُّونَ (٤) بِهِ أَنْ يُلْقَى مِنْ بَيْنِهِمْ، فَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ لِيُلْقِيَ نَفْسَهُ وَهُمْ يَأْبَوْنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى حُوتًا مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ أَنْ يَشُقَّ الْبِحَارَ، وَأَنْ يَلْتَقِمَ، يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا يَهْشِمُ لَهُ لَحْمًا، وَلَا يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا (٥). فَجَاءَ ذَلِكَ الْحُوتُ وَأَلْقَى يُونُسُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَفْسَهُ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَذَهَبَ بِهِ فَطَافَ بِهِ الْبِحَارَ كُلَّهَا. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ يُونُسُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، حَسَبَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ وَرَجْلَيْهِ وَأَطْرَافَهُ فَإِذَا هُوَ حَيٌّ، فَقَامَ يُصَلِّي فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ دُعَائِهِ: "يَا رَبِّ، اتخذتُ لَكَ مَسْجِدًا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ" وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا لَبِثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ جُمْعَة (٦) قَالَهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ. وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، قَالَهُ أَبُو مالك.
(٢) في أ: "تلعب".
(٣) في ت: "عليه السلام".
(٤) في ت: "يظنون".
(٥) في س: فلا تهشم له لحما ولا تكسر له عظما".
(٦) في ت، س، أ: "سبعة".
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ. وَفِي شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
وَأنْتَ بفَضلٍ منْكَ نَجَّيتَ يُونُسًا | وَقَدْ بَاتَ فِي أضْعَاف حُوتٍ ليَالِيا (٣) |
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَالضَّحَّاكُ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: ﴿فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ يَعْنِي: الْمُصَلِّينَ.
وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُصَلِّينَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ فِي جَوْفِ أَبَوَيْهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ: ﴿فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ هُوَ قَوْلُهُ: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٧، ٨٨] قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي حَدَّثَنَا أَبُو صَخْرٍ (٥) : أَنَّ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ حَدّثه: أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّ أَنْسًا يَرْفَعُ الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-"أَنَّ يُونُسَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٦) حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذِهِ الْكَلَمَّاتِ، وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَأَقْبَلَتِ الدَّعْوَةُ تَحُفُّ بِالْعَرْشِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، هَذَا صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ غَرِيبَةٍ؟ فَقَالَ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: يَا رَبِّ، وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدِي يُونُسُ. قَالُوا: عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ، وَدَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؟ قَالُوا: يا رب، أو لا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فتنجِّيه فِي الْبَلَاءِ؟ قَالَ: بَلَى. فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بالعرَاء".
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، بِهِ (٧) (٨) زَادَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَالَ أَبُو صَخْرٍ حُمَيد بْنُ زِيَادٍ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ قُسيَط وَأَنَا أُحَدِّثُهُ هَذَا الْحَدِيثَ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: طُرِحَ بِالْعَرَاءِ، وَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْيَقْطِينَةَ. قُلْنَا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَا الْيَقْطِينَةُ، قَالَ: شَجَرَةُ الدُّباء. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَهَيَّأ اللَّهُ لَهُ أرْويَّة وَحْشِيَّةً تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ -أَوْ قَالَ: هَشَاشِ الْأَرْضِ-قَالَ: فَتَتَفشَّح (٩) عَلَيْهِ فَتَرْويه مِنْ لَبَنِهَا كُلَّ عَشيَّة وبُكرةٍ حتى نَبَت.
(٢) في أ: "ونقله".
(٣) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٢٨).
(٤) سيأتي تخريجه عند الآية: ٣٨ من سورة الزمر.
(٥) في ت: "بإسناده".
(٦) في ت، س: "عليه السلام".
(٧) بياض في س.
(٨) تفسير الطبري (٢٣/٦٤).
(٩) في ت، س: "فتنفشخ".
فَأَنْبَتَ يَقْطينًا عَلَيه برَحْمَةٍ | مِن اللَّهِ لَولا اللهُ أُلْفِيَ ضَاحيا (١) |
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَنَبَذْنَاهُ﴾ أَيْ: أَلْقَيْنَاهُ ﴿بِالْعَرَاءِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ: وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ بِهَا نَبْتٌ وَلَا بِنَاءٌ. قِيلَ: عَلَى جَانِبِ دِجْلَةَ. وَقِيلَ: بِأَرْضِ الْيَمَنِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ أَيْ: ضَعِيفُ الْبَدَنِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَهَيْئَةِ الصَّبِيِّ: (٣) حِينَ يُولَدُ، وَهُوَ الْمَنْفُوسُ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا.
﴿وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ قَالَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَهِلَالُ بْنُ يَسَاف وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ (٤) وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا كُلُّهُمْ: الْيَقْطِينُ هُوَ الْقَرْعُ.
وَقَالَ هُشَيم، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير: كُلُّ شَجَرَةٍ لَا سَاقَ لَهَا فَهِيَ مِنَ الْيَقْطِينِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: كُلُّ شَجَرَةٍ تَهْلِك مِنْ (٥) عَامِها فَهِيَ مِنَ الْيَقْطِينِ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْقَرْعِ فَوَائِدَ، مِنْهَا: سُرْعَةُ نَبَاتِهِ، وتظليلُ وَرَقِهِ لِكِبَرِهِ، وَنُعُومَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا الذُّبَابُ، وَجَوْدَةُ أَغْذِيَةِ ثَمَرِهِ، وَأَنَّهُ يُؤْكَلُ نَيِّئًّا وَمَطْبُوخًا بِلُبِّهِ وَقِشْرِهِ أَيْضًا. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبّ الدُّبَّاء، وَيَتَتَبَّعُهُ (٦) مِنْ حَوَاشي الصَّحْفة (٧) (٨).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ رَوَى شَهْر بْنِ حَوْشَب، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَةُ يُونُسَ بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو (٩) هِلَالٍ عَنْ شَهْرٍ، بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِدٍ: أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِمَهُ الْحُوتُ.
قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أَوَّلًا أُمِرَ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحُوتِ، فَصَدَّقُوهُ كُلُّهُمْ وَآمَنُوا بِهِ. وَحَكَى الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى أُمَّةٍ أُخْرَى بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحُوتِ، كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ-: بَلْ يَزِيدُونَ، وَكَانُوا مِائَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا.
(٢) سورة الأنبياء، الآية: ٨٧.
(٣) في أ: "الصبي يعني".
(٤) في ت: "وابن عباس وغيرهما من التابعين"
(٥) في ت: "في".
(٦) في أ: "ويتبعه".
(٧) في ت: "القصعة".
(٨) رواه البخاري في صحيحه برقم (٥٤٣٩) مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٩) في أ: "ابن".
٢ - (٣) في ت: "عليه السلام"..
٣ - في ت: "يظنون"..
وقال مُجَالد٣، عن الشعبي : التقمه ضحى، وقذفه٤ عشية.
والله أعلم بمقدار ذلك. وفي شعر أمية بن أبي الصلت :
وَأنْتَ بفَضلٍ منْكَ نَجَّيتَ يُونُسًا | وَقَدْ بَاتَ فِي أضْعَاف حُوتٍ ليَالِيا٥ |
٢ - في ت، س، أ: "سبعة"..
٣ - في ت: "مجاهد".
٤ - (٢) في أ: "ونقله"..
٥ - (٣) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٢٨)..
وقال ابن عباس، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك، وعطاء بن السائب، والسدي، والحسن، وقتادة :﴿ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴾ يعني : المصلين.
وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك. وقال بعضهم : كان من المسبحين في جوف أبويه. وقيل : المراد :﴿ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴾ هو قوله :﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٨٧، ٨٨ ] قاله سعيد بن جبير وغيره.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، حدثنا عمي حدثنا أبو صخر٢ : أن يزيد الرّقاشي حَدّثه : أنه سمع أنس بن مالك - ولا أعلم إلا أنّ أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - " أن يونس النبي صلى الله عليه وسلم٣ حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات، وهو في بطن الحوت، فقال : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين. فأقبلت الدعوة تحف بالعرش، قالت الملائكة : يا رب، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيده غريبة ؟ فقال : أما تعرفون ذلك ؟ قالوا : يا رب، ومن هو ؟ قال : عبدي يونس. قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل، ودعوة مستجابة ؟ قالوا : يا رب، أو لا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجِّيه في البلاء ؟ قال : بلى. فأمر الحوت فطرحه بالعرَاء ".
ورواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب، به٤ ٥ زاد ابن أبي حاتم : قال أبو صخر حُمَيد بن زياد : فأخبرني ابن قُسيَط وأنا أحدثه هذا الحديث : أنه سمع أبا هريرة يقول : طرح بالعراء، وأنبت الله عليه اليقطينة. قلنا : يا أبا هريرة، وما اليقطينة، قال : شجرة الدُّباء. قال أبو هريرة : وَهَيَّأ الله له أرْويَّة وحشية تأكل من خشاش الأرض - أو قال : هشاش الأرض - قال : فَتَتَفشَّح٦ عليه فَتَرْويه من لبنها كل عَشيَّة وبُكرةٍ حتى نَبَت.
وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتا من شعره :
فَأَنْبَتَ يَقْطينًا عَلَيه برَحْمَةٍ | مِن الله لَولا اللهُ ألفى ضَاحيا٧ |
٢ - في ت: "بإسناده"..
٣ - في ت، س: "عليه السلام"..
٤ - بياض في س..
٥ - تفسير الطبري (٢٣/٦٤)..
٦ - في ت، س: "فتنفشخ"..
٧ - البيت في السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٢٨)..
٨ - (٢) سورة الأنبياء، الآية: ٨٧..
وقال ابن عباس، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك، وعطاء بن السائب، والسدي، والحسن، وقتادة :﴿ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴾ يعني : المصلين.
وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك. وقال بعضهم : كان من المسبحين في جوف أبويه. وقيل : المراد :﴿ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴾ هو قوله :﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٨٧، ٨٨ ] قاله سعيد بن جبير وغيره.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، حدثنا عمي حدثنا أبو صخر٢ : أن يزيد الرّقاشي حَدّثه : أنه سمع أنس بن مالك - ولا أعلم إلا أنّ أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - " أن يونس النبي صلى الله عليه وسلم٣ حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات، وهو في بطن الحوت، فقال : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين. فأقبلت الدعوة تحف بالعرش، قالت الملائكة : يا رب، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيده غريبة ؟ فقال : أما تعرفون ذلك ؟ قالوا : يا رب، ومن هو ؟ قال : عبدي يونس. قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل، ودعوة مستجابة ؟ قالوا : يا رب، أو لا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجِّيه في البلاء ؟ قال : بلى. فأمر الحوت فطرحه بالعرَاء ".
ورواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب، به٤ ٥ زاد ابن أبي حاتم : قال أبو صخر حُمَيد بن زياد : فأخبرني ابن قُسيَط وأنا أحدثه هذا الحديث : أنه سمع أبا هريرة يقول : طرح بالعراء، وأنبت الله عليه اليقطينة. قلنا : يا أبا هريرة، وما اليقطينة، قال : شجرة الدُّباء. قال أبو هريرة : وَهَيَّأ الله له أرْويَّة وحشية تأكل من خشاش الأرض - أو قال : هشاش الأرض - قال : فَتَتَفشَّح٦ عليه فَتَرْويه من لبنها كل عَشيَّة وبُكرةٍ حتى نَبَت.
وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتا من شعره :
فَأَنْبَتَ يَقْطينًا عَلَيه برَحْمَةٍ | مِن الله لَولا اللهُ ألفى ضَاحيا٧ |
٢ - في ت: "بإسناده"..
٣ - في ت، س: "عليه السلام"..
٤ - بياض في س..
٥ - تفسير الطبري (٢٣/٦٤)..
٦ - في ت، س: "فتنفشخ"..
٧ - البيت في السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٢٨)..
٨ - (٢) سورة الأنبياء، الآية: ٨٧..
﴿ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ : أي : ضعيف البدن. قال ابن مسعود رضي الله عنه : كهيئة الفرخ ليس عليه ريش، وقال السدي : كهيئة الصبي حين يولد، وهو المنفوس. وقاله ابن عباس، وابن زيد أيضا.
وقال هُشَيم، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جُبَير : كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين. وفي رواية عنه : كل شجرة تَهْلِك من عَامِها فهي من اليقطين.
وذكر بعضهم في القرع فوائد، منها : سرعة نباته، وتظليلُ ورقه لكبره، ونعومته، وأنه لا يقربها الذباب، وجودة أغذية ثمره، وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا بلبه وقشره أيضا. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحِبّ الدُّبَّاء، ويتتبعه من حَوَاشي الصَّحْفة.
وقوله :﴿ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ : قال ابن عباس - في رواية عنه - : بل يزيدون، وكانوا مائة وثلاثين ألفا. وعنه : مائة ألف وبضعةً وثلاثين ألفا. وعنه : مائة ألف وبضعةً وأربعين ألفا. وقال سعيد بن جبير : يزيدون سبعين ألفا.
وقال مكحول : كانوا مائة ألف وعشرة آلاف، رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الرحيم البَرْقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال : سمعت زُهَيرًا عمن سمع أبا العالية قال : حدثني أبي بن كعب : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾، قال :" يزيدون عشرين ألفا ".
ورواه الترمذي عن علي بن حُجْر، عن الوليد بن مسلم، عن زُهَير، عن رجل، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، به، وقال : غريب. ورواه ابن أبي حاتم من حديث زهير، به٤.
قال ابن جرير : وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في ذلك : معناه إلى المائة الألف٥، أو كانوا يزيدون عندكم، يقول : كذلك كانوا عندكم.
وهكذا سلك ابن جرير هاهنا ما سلكه عند قوله تعالى :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [ البقرة : ٧٤ ]، وقوله ﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾ [ النساء : ٧٧ ]، وقوله :﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ [ النجم : ٩ ] أن المراد ليس أنقص من ذلك، بل أزيد.
٥ - في أ: "ألف"..
﴿ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ أي : إلى وقت آجالهم، كقوله :﴿ فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [ يونس : ٩٨ ].
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَزِيدُونَ سَبْعِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ مَكْحُولٌ: كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَعَشَرَةَ آلَافٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ البَرْقي (١)، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ زُهَيرًا عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا الْعَالِيَةِ قَالَ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾، قَالَ: "يَزِيدُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا" (٢).
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْر، عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ زُهَير، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، بِهِ، وَقَالَ: غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ، بِهِ (٣).
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: مَعْنَاهُ إِلَى الْمِائَةِ الْأَلْفِ (٤)، أَوْ كَانُوا يَزِيدُونَ عِنْدَكُمْ، يَقُولُ: كَذَلِكَ كَانُوا عِنْدَكُمْ.
وَهَكَذَا سَلَكَ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا مَا سَلَكَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [الْبَقَرَةِ: ٧٤]، وَقَوْلِهِ ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ [النساء: ٧٧]، وقوله: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النَّجْمِ: ٩] أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ أَنْقَصُ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ أَزْيَدُ.
وَقَوْلِهِ: ﴿فَآمَنُوا﴾ أَيْ: فَآمَنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يُونُسُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، جَمِيعُهُمْ. ﴿فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ أَيْ: إِلَى وَقْتِ آجَالِهِمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يُونُسَ: ٩٨].
﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ﴾
(٢) تفسير الطبري (٢٣/٦٧).
(٣) سنن الترمذي برقم (٣٢٢٩).
(٤) في أ: "ألف".
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَعْلِهِمْ لِلَّهِ الْبَنَاتِ، سُبْحَانَهُ، وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، أَيْ: مِنَ الذُّكُورِ، أَيْ: يَودّون لِأَنْفُسِهِمُ الْجَيِّدَ. ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [النَّحْلِ: ٥٨] أَيْ: يَسُوءُهُ ذَلِكَ، وَلَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ إِلَّا الْبَنِينَ. يَقُولُ تَعَالَى: فَكَيْفَ نَسَبُوا إِلَى الله
وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ أَيْ: كَيْفَ حَكَمُوا عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ وَمَا شَاهَدُوا خَلْقَهُمْ؟ كَقَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ١٩] أَيْ: يُسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ﴾ أَيْ: مِنْ كَذِبِهِمْ ﴿لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ﴾ أَيْ: صَدَرَ مِنْهُ الْوَلَدُ ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فَذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْمَلَائِكَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ، فَأَوَّلًا جَعَلُوهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ، فَجَعَلُوا لِلَّهِ وَلَدًا. وَجَعَلُوا ذَلِكَ الْوَلَدَ أُنْثَى، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَكُلٌّ مِنْهَا كَافٍ فِي التَّخْلِيدِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: ﴿أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ﴾ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَحْمِلُهُ عَنْ (١) أَنْ يَخْتَارَ الْبَنَاتِ دُونَ الْبَنِينَ؟ كَقَوْلِهِ: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٤٠] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ أَيْ: مَا لَكُمْ عُقُولٌ تَتَدَبَّرُونَ بِهَا مَا تَقُولُونَ؟.
﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ. أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ﴾ أَيْ: حُجَّةٌ عَلَى مَا تَقُولُونَهُ.
﴿فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَيْ: هَاتُوا بُرْهَانًا عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَنِدًا إِلَى كِتَابٍ مُنزل مِنَ السَّمَاءِ عَنِ اللَّهِ: أَنَّهُ اتَّخَذَ مَا تَقُولُونَهُ، فَإِنَّ مَا تَقُولُونَهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُهُ (٢) إِلَى عَقْلٍ، بَلْ لَا يُجَوّزُه الْعَقْلُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: الملائكةُ بناتُ اللَّهِ. فَسَأَلَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَمَنْ أُمَّهَاتُهُنَّ؟ قَالُوا: بَنَاتُ سَرَوات الْجِنِّ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ﴾ أَيِ: الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَيْهِمْ ذَلِكَ: ﴿إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ أَيْ: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمُحْضَرُونَ فِي الْعَذَابِ يَوْمَ الْحِسَابِ لِكَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ وَافْتِرَائِهِمْ، وَقَوْلِهِمُ الْبَاطِلَ بِلَا عِلْمٍ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ (٣) ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ قَالَ: زَعَمَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ وَإِبْلِيسُ أَخَوَانِ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ (٤).
وَقَوْلُهُ: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أَيْ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَعَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الظَّالِمُونَ الْمُلْحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ مِنْ مُثْبَتٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، وَهُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلْحَقِّ الْمُنَزَّلِ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ وَمُرْسَلٍ. وَجَعَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾، وفي هذا الذي قاله نظر.
(٢) في س: "إسناده".
(٣) في ت: "وعن".
(٤) تفسير الطبري (٢٣/٦٩).
وقال العوفي : عن ابن عباس في قوله :﴿ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ﴾ قال : زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان. حكاه ابن جرير.
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْمُشْرِكِينَ ﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ. إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾ أَيْ: مَا يَنْقَادُ (١) لِمَقَالِكُمْ وَمَا (٢) أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْعِبَادَةِ الْبَاطِلَةِ مَنْ هُوَ أَضَلُّ مِنْكُمْ مِمَّنْ ذُري لِلنَّارِ. ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٧٩]. فَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يَنْقَادُ لِدِينِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ [الذَّارِيَاتِ: ٨، ٩] أَيْ: إِنَّمَا يَضِلُّ بِهِ مَنْ هُوَ مَأْفُوكٌ وَمُبْطِلٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنزها لِلْمَلَائِكَةِ مِمَّا نَسَبوا (٣) إِلَيْهِمْ مِنَ الْكُفْرِ بِهِمْ وَالْكَذِبِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ: ﴿وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ أَيْ: لَهُ مَوْضِعٌ مَخْصُوصٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَقَامَاتِ الْعِبَادَةِ (٤) لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يَتَعَدَّاهُ (٥).
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ لِمُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ سَعْدٍ (٦)، عَنْ أَبِيهِ -وَكَانَ مِمَّنْ بَايَعَ يَوْمَ الْفَتْحِ-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا لِجُلَسَائِهِ: "أطَّت السَّمَاءُ وحُقّ لَهَا أَنْ تَئِطّ، لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعَ قَدَم إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ". ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ (٧).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِهِ: ﴿وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ قَالَ: كَانَ مَسْرُوقٌ يَرْوي عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا مَوْضِعٌ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ". فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ (٨).
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَسْرُوقٍ: عَنِ (٩) ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ لَسَمَاءٍ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا عَلَيْهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ أو قدماه، ثم قرأ عبد اللَّهِ: ﴿وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يُصَلُّون الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا، حَتَّى نَزَلَتْ: ﴿وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾، فَتَقَدَّمَ الرجال وتأخر النساء.
(٢) في س: "ولما".
(٣) في أ: "نسبوهم".
(٤) في ت، س، أ: "العبادات".
(٥) في س: "لا تتجاوزه ولا نتعداه"
(٦) في أ: "سعيد".
(٧) تاريخ دمشق لابن عساكر (١٥/٢٧٧ "القسم المخطوط").
(٨) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (٥٠٨) والمروزي في تعظيم قدر الصلاة برقم (٢٥٣) من طريق عبيد بن سليمان عن الضحاك به.
(٩) في ت: "وعن".
وَقَالَ أَبُو نَضْرَة: كَانَ عُمَرُ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، اسْتَوُوا قِيَامًا، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ هَدْيَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾، تَأَخَّرْ يَا فُلَانُ، تَقَدَّمْ يَا فُلَانُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُكَبِّرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي، حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فُضِّلنا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعلت صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا" الْحَدِيثَ (١).
﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ أَيْ: نَصْطَفُّ فَنُسَبِّحُ الرَّبَّ وَنُمَجِّدُهُ وَنُقَدِّسُهُ وَنُنَزِّهُهُ عَنِ النَّقَائِصِ، فَنَحْنُ عَبِيدٌ لَهُ، فُقَرَاءُ إِلَيْهِ، خَاضِعُونَ لَدَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: ﴿وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ الْمَلَائِكَةُ، ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾ الْمَلَائِكَةُ، ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ : الْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾، يَعْنِي: الْمُصَلُّونَ، يَثْبُتُونَ (٢) بِمَكَانِهِمْ مِنَ الْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٦-٢٩].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ أَيْ: قَدْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ يَا مُحَمَّدُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَنْ يُذَكِّرُهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مَنْ أَمْرِ الْقُرُونِ الْأَوْلَى، وَيَأْتِيهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا﴾ [فَاطِرٍ: ٤٢]، وَقَالَ: ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٥٦، ١٥٧] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا:: ﴿فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾، وَعِيدٌ أَكِيدٌ وَتَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، عَلَى كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-وَتَكْذِيبِهِمْ -رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم.
(٢) في ت: "ينبئون".
وقال ابن عساكر في ترجمته لمحمد بن خالد بسنده إلى عبد الرحمن بن العلاء بن سعد، عن أبيه - وكان ممن بايع يوم الفتح - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه :" أطَّت السماء وحُقّ لها أن تَئِطّ، ليس فيها موضع قَدَم إلا عليه ملك راكع أو ساجد ". ثم قرأ :{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ.
وقال الضحاك في تفسيره :﴿ وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾ قال : كان مسروق يَرْوي عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم ". فذلك قوله :﴿ وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾.
وقال الأعمش، عن أبي إسحاق، عن مسروق : عن٧ ابن مسعود رضي الله عنه قال : إن في السماوات لسماء ما فيها موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه، ثم قرأ عبد الله :﴿ وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾ وكذا قال سعيد بن جبير.
وقال قتادة : كانوا يُصَلُّون الرجال والنساء جميعًا، حتى نزلت :﴿ وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾، فتقدم الرجال وتأخر النساء.
وقال أبو نَضْرَة : كان عمر إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه، ثم قال : أقيموا صفوفكم، استووا قياما، يريد الله بكم هدي الملائكة، ثم يقول :﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ﴾، تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر، رضي الله عنه. رواه ابن أبي، حاتم وابن جرير.
وفي صحيح مسلم عن حذيفة، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فُضِّلنا على الناس بثلاث : جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدًا، وتربتها طهورا " الحديث.
وقال ابن عباس، ومجاهد :﴿ وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾ الملائكة، ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ﴾ الملائكة، ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴾ : الملائكة يسبحون الله عز وجل.
وقال قتادة :﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴾، يعني : المصلون، يثبتون بمكانهم من العبادة، كما قال تعالى :﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٦ - ٢٩ ].
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ أَيْ: تَقَدَّمَ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ٢١]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ﴾ [غَافِرٍ: ٥١] ؛ وَلِهَذَا قَالَ:: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ نُصْرَتِهِمْ عَلَى قَوْمِهِمْ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ، وَكَيْفَ أَهْلَكَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ، وَنَجَّى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ.
﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ أَيْ: تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ.
وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ﴾ أَيِ: اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ لَكَ، وَانْتَظِرْ إِلَى وَقْتٍ مُؤَجَّلٍ، فَإِنَّا سَنَجْعَلُ لَكَ الْعَاقِبَةَ وَالنُّصْرَةَ وَالظَّفَرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: غيَّى (١) ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ. وَمَا بَعْدَهَا أَيْضًا فِي مَعْنَاهَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ أَيْ: أَنْظِرْهُمْ وَارْتَقِبْ مَاذَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ عَلَى مُخَالَفَتِكَ (٢) وَتَكْذِيبِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ: ﴿فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ أَيْ: هُمْ إِنَّمَا يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ لِتَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ (٣)، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَيُعَجِّلُ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ، وَمَعَ هَذَا أَيْضًا كَانُوا مِنْ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ وَالْعُقُوبَةَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ﴾ أَيْ: فَإِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ بِمَحِلَّتِهِمْ، فَبِئْسَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمُهُمْ، بِإِهْلَاكِهِمْ وَدَمَارِهِمْ (٤).
قَالَ السُّدِّيُّ: ﴿فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ﴾ يَعْنِي: بِدَارِهِمْ، ﴿فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ﴾ أَيْ: فَبِئْسَ مَا يُصْبِحُونَ، أَيْ: بِئْسَ الصَّبَاحُ صَبَاحُهُمْ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْب، عَنْ أَنَسِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: صَبَّح رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا خَرَجُوا بِفُؤُوسِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ وَرَأَوُا الْجَيْشَ، رَجَعُوا [وَهُمْ] (٥) يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ" (٦) وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ حُميد، عَنْ أَنَسٍ (٧).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوح، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ بْنِ أَبِي عَرُوَبة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ بن مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: لَمَّا صَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، وقد أخذوا مساحيهم وغَدَوا إلى حروثهم
(٢) في ت، أ: "بمخالفتك".
(٣) في أ: "لتكذيبك وكفرهم بك".
(٤) في أ: "وبإدمارهم".
(٥) زيادة من أ.
(٦) صحيح البخاري برقم (٣٧١) وصحيح مسلم برقم (١٣٦٥)
(٧) صحيح البخاري برقم (٤١٩٧)
قال السدي :﴿ فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ ﴾ يعني : بدارهم، ﴿ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ﴾ أي : فبئس ما يصبحون، أي : بئس الصباح صباحهم ؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن عُلَيَّةَ، عن عبد العزيز بن صُهَيْب، عن أنس، رضي الله عنه، قال : صَبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش، رجعوا وهم يقولون : محمد والله، محمد والخميس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" الله أكبر، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " ورواه البخاري من حديث مالك، عن حُميد، عن أنس.
وقال الإمام أحمد : حدثنا رَوح، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوَبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة قال : لما صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وقد أخذوا مساحيهم وغَدَوا إلى حروثهم وأرضيهم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولوا مدبرين، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم :" الله أكبر، الله أكبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " لم يخرجوه من هذا الوجه، وهو صحيح على شرط الشيخين.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾
تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِذَلِكَ.
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٢) ﴾
يُنَزِّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ وَيُقَدِّسُهَا وَيُبَرِّئُهَا عَمَّا يَقُولُهُ الظَّالِمُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْمُعْتَدُونَ -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا-وَلِهَذَا قَالَ: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ﴾، أَيْ: ذِي الْعِزَّةِ الَّتِي لَا تُرَامُ، ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أَيْ: عَنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِينَ الْمُفْتَرِينَ.
﴿وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ أَيْ: سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ فِي رَبِّهِمْ، وَصِحَّتِهِ وَحَقِّيَّتِهِ (٣).
﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَلَمَّا كَانَ التَّسْبِيحُ يَتَضَمَّنُ التَّنْزِيهَ وَالتَّبْرِئَةَ (٤) مِنَ النَّقْصِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ، وَيَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ الْكَمَالِ، كَمَا أَنَّ الْحَمْدَ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ مُطَابَقَةً، وَيَسْتَلْزِمُ التَّنْزِيهَ مِنَ النَّقْصِ -قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إذا سلمتم عليَّ فسلموا عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ". هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ، عَنْهُ كَذَلِكَ (٥).
وَقَدْ أَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْأَعْيَنُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ صَاعِقَةٌ قَالَا حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ فَسَلَّمُوا عَلَى الْمُرْسَلِينَ" (٦).
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا نُوحٌ، حَدَّثَنَا أَبُو هَارُونَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أنه كَانَ إِذَا سَلَّمَ (٧) قَالَ: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
(٢) المسند (٢/٢٨)
(٣) في أ: "وحقيقته"
(٤) في أ: "والتنزيه"
(٥) تفسير الطبري (٢٣/٧٤).
(٦) ورواه ابن مردويه وابن سعد كما في الدر المنثور (٧/١٤٠) من طريق سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طلحة به مرفوعا.
(٧) في س، أ: "إذا أراد أن يسلم".
وَقَالَ (٢) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ (٣) أَبِي إِسْحَاقَ (٤)، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلْيَقُلْ آخِرَ مَجْلِسِهِ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (٥) وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُتَّصِلٍ مَوْقُوفٍ عَلَى (٦) عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَهْلَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَبِي صَفِيَّةَ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَكُنْ آخِرُ كَلَامِهِ فِي مَجْلِسِهِ: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (٧).
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَخْرِ بْنِ أَنَسٍ (٨)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَالَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَدِ اكْتَالَ بِالْجَرِيبِ الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ" (٩).
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. وَقَدْ أَفْرَدْتُ لَهَا جُزْءًا عَلَى حِدَةٍ، فَلْتُكْتَبْ هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى (١٠).
آخر تفسير سورة الصافات.
(٢) في ت: "وروى".
(٣) في أ: "عن".
(٤) في ت: "بسنده".
(٥) وذكره السيوطي في الدر (٧/١٤١) ولم يعزه لغيره، وهو مرسل.
(٦) في ت: "بسنده".
(٧) معالم التنزيل للبغوي (٧/٦٦) ورواه الواحدي في الوسيط (٣/٥٣٦) عن الأصبغ بن نباتة به، والأصبغ بن نباتة ضعفه الأئمة.
(٨) في أ: "الأنسي".
(٩) المعجم الكبير (٥/٢١١) من طريق عبد المنعم بن بشير عن عبد الله بن محمد الأنسي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عن أبيه مرفوعا. قال الهيثمي في المجمع (١٠/١٠٣) :"فيه عبد المنعم بن بشير، وهو ضعيف جدا".
(١٠) كذا ولم أجد إثباته في النسخ، والأحاديث التي وردت في كفارة المجلس جاءت عن جمع من الصحابة والتابعين وهم: ١-
أبو هريرة: قال الترمذي في سننه برقم (٣٤٣٣) : أخبرنا أبو عبيدة بن أبي السفر -أحمد بن عبد الله الهمداني- حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني موسى بن عقبة عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلَّا غُفِرَ له ما كان في مجلسه ذلك".
٤٨
قال الحافظ ابن كثير: "عَلَّلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَنَسَبُوا الْوَهْمَ فِيهِ إِلَى ابْنِ جُرَيْجٍ"، عَلَى أَنَّ أَبَا دَاوُدَ قد رواه في سننه برقم (٤٨٥٨) من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بنحوه. ٢-
أبو برزة الأسلمي:
قال أبو داود في السنن برقم (٤٨٥٩) : حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي وعثمان بن أبي شيبة، أن عبدة بن سليمان أخبرهم عن الحجاج بن دينار عن أبي هاشم عن أبي العالية عن أبي برزة الأسلمي قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك"، فقال رجل: يا رسول الله، إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى، قال: "كفارة لما يكون في المجلس"، ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٢٥٩)، والحاكم في المستدرك (١/٥٣٧) من طريق الحجاج بن دينار به. ٣-
رافع بن خديج:
قال النسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٢٦٠) : أخبرنا عبيد الله بن إبراهيم بن سعد قال: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا مصعب بن حيان -أخو مقاتل بن حيان- عن مقاتل بن حيان، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي، عن رافع بن خديج قال: كان رسول الله ﷺ بأخرة إذا اجتمع إليه أصحابه فأراد أن ينهض قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، عملت سوءا، وظلمت نفسي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"، قال: فقلنا يا رسول الله، إن هذه الكلمات أحدثتهن؟ قال: "أجل جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، هن كفارات المجلس"، ورواه الحاكم في المستدرك (١/٥٣٧) من طريق يونس بن محمد به. ٤-
عبد الله بن عمرو بن العاص:
قال أبو داود في السنن برقم (٤٨٥٧) : حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو أن سعيد بن هلال حدثه أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدثه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر إلا ختم له بهن عليه كما يختم بالخاتم على الصحيفة: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا انت، أستغفرك وأتوب إليك.
هكذا رواه أبو داود موقوفا، وقد رواه الطبراني من وجه آخر مرفوعا، قال الهيثمي في المجمع (١٠/١٤٢) :"وفيه محمد بن جامع العطار وثقه ابن حيان وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح. ٥-
عبد الله بن مسعود:
قال الطبراني في المعجم الكبير (١٠/٢٠٣) : حدثنا أحمد بن زهير التستري، حدثنا عثمان بن حفص التومني، حدثنا يحيى ابن كثير، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "كفارة المجلس أن يقول العبد: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله، أستغفرك وأتوب إليك". ٦-
عائشة:
قال الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٤٦١١) "مجمع البحرين": حدثنا محمد بن أحمد الرقام، حدثنا أحمد بن المقدام العجلي، حدثنا النضر بن أبي النضر، عن عمرو بن عبد الجبار، عن الحكم بن عتيبة، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ إذا رفع رأسه إلى سقف البيت قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك" قالت عائشة: فسألته عنهن، فقال: "أمرت بهن".
قال الطبراني: لم يروه عن الحكم إلا عمرو، ولا عنه إلا النضر تفرد به أبو الأشعث.
وفي إسناده من لا يعرف.
ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة من وجه آخر، فرواه من طريق سعيد بن الحكم، عن خلاد بن سليمان، عن خالد بن أبي عمران، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: ما جلس رسول اله ﷺ مجلسا، ولا تلا قرآنا إلا ختم ذلك بكلمات، فقلت: يا رسول الله أراك ما تجلس ولا تتلو قرآنا، ولا تصلي إلا ختمت بهؤلاء الكلمات قال: "نعم، من قال خيرا كان له طابعا على ذلك الخير، ومن قال شرا كن كفارة له: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك". ٧-
جبير بن مطعم:
قال الطبراني في المعجم الكبير (٢/١٣٨) : حدثنا العباس بن حمدان الحنفي، حدثنا عبد الجبار بن العلاء حدثنا ٤٩ سفيان حدثني ابن عجلان عن مسلم بن أبي مريم، عن نافع بن جبير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: سبحان الله وبحمده، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقالها في مجلس ذكر؛ كان كالطابع يطبع عليه، ومن قالها في مجلس لغو، كانت كفارة له" ثم رواه من طريق خالد بن يزيد العمري، عن داود بن قيس، عن نافع ابن جبير بنحوه. ٨-
الزبير بن العوام:
قال الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٤٦٠٦) "مجمع البحرين": حدثنا محمد بن علي الطرائفي الرقي، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا الحسن بن محمد بن أعين قال: كتب محمد بن سلمة النصيبي يذكر أن عبد العزيز بن صهيب حدثه عن خباب مولى الزبير بن العوام عن الزبير قال: قلنا: يا رسول الله، إنا إذا قمنا من عندك أخذنا في حديث الجاهلية فقال: "إذا جلستم تلك المجالس التي تخافون فيها على أنفسكم فقولوا عند مقامكم: سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، يكفر عنكم ما أصبتم" قال الطبراني: لا يروى عن الزبير إلا بهذا الإسناد، تفرد به محمد بن علي. وفي إسناده من لا يعرف. ٩-
أنس بن مالك:
قال البزار في مسنده برقم (٣١٢٣) "كشف الأستار": حدثنا عمر بن موسى الشامي، حدثنا عثمان بن مطر، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة المجلس أن تقول سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك"، قال البزار: لا نعلمه يروي عن أنس إلا من هذا الوجه، وعثمان لين الحديث روى عنه مسلم وغيره، ورواه الطبراني في الأوسط برقم (٤٦١٠) "مجمع البحرين" من طريق عثمان بن مطر به. ١٠-
أم سلمة:
قال الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٤٦٠٩) "مجمع البحرين": حدثنا عبد الرحمن بن سلم، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا حفص بن غياث، عن عاصم، عن الشعبي، عن أم سلمة قالت: كان رسول الله ﷺ قبل أن يموت يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، قلت: يا رسول الله، إني أراك تكثر أن تقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك قال: "إني أمرت بأمر فقرأ: "إذا جاء نصر الله والفتح" قال الطبراني: لم يروه عن عاصم إلا حفص تفرد به سهل. ١١-
السائب بن يزيد:
قال الإمام أحمد في مسنده (٣/٤٥٠) : حدثنا يونس، عن ليث، عن يزيد -يعني ابن الهاد- عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر قال: بلغني أن رسول الله ﷺ قال: "ما من إنسان يكون في مجلس فيقول حين يريد أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك؛ إلا غفر له ما كان في ذلك المجلس"، فحدثت هذا الحديث يزيد بن خصيفة، قال: هكذا حدثني السائب بن يزيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٧/١٥٤) من طريق الليث به.
وقال الهيثمي في المجمع (١٠/١٤١) :"رجالهما رجال الصحيح". ١٢-
إسماعيل بن عبد الله بن جعفر:
وسياق حديثه في الذي قبله وهو مرسل. ١٣-
عمر بن الخطاب:
لم أقع على إسناده، وقد ذكره ا
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا سلمتم عليَّ فسلموا على المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين ». هكذا رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث سعيد، عنه كذلك.
وقد أسنده ابن أبي حاتم، رحمه الله، فقال : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا أبو بكر الأعين، ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة قالا حدثنا حسين بن محمد، حدثنا شيبان، عن قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك، عن أبي طلحة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين ".
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا نوح، حدثنا أبو هارون، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سلم قال :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
ثم يسلم. إسناده ضعيف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمار بن خالد الواسطي، حدثنا شبابة، عن يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ وروي من وجه آخر متصل موقوف على علي، رضي الله عنه.
قال أبو محمد البغوي في تفسيره : أخبرنا أبو سعيد أحمد بن شريح، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا إبراهيم بن سهلويه، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا وكيع، عن ثابت بن أبي صفية، عن الأصبغ بن نباتة، عن علي، رضي الله عنه، قال : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
وروى الطبراني من طريق عبد الله بن صخر بن أنس، عن عبد الله بن زيد بن أرقم، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :«من قال دبر كل صلاة :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ثلاث مرات، فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر ».
وقد وردت أحاديث في كفارة المجلس : سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وقد أفردت لها جزءا على حدة، فلتكتب هاهنا إن شاء الله تعالى.
__________