تفسير سورة الدّخان

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية إلا قوله‏ :‏ ‏ " ‏إنا كاشفو العذاب قليلاً‏ " ‏ الآية وهي سبع وخمسون آية وقيل تسع وخمسون

سورة الدخان
مكية، إلا قوله إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا... الآية وهي سبع وخمسون آية. وقيل تسع وخمسون [نزلت بعد سورة الزخرف] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨)
الواو في وَالْكِتابِ واو القسم، إن جعلت حم تعديدا للحروف أو اسما للسورة، مرفوعا على خبر الابتداء المحذوف وواو العطف إن كانت حم مقسما بها. وقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ جواب القسم، والكتاب المبين القرآن. والليلة المباركة: ليلة القدر. وقيل: ليلة النصف من شعبان، ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصكّ، وليلة الرحمة وقيل: بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة. وقيل في تسميتها: ليلة البراءة. والصكّ: أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة، كذلك الله عز وجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة.
وقيل: هي مختصة بخمس خصال: تفريق كل أمر حكيم وفضيلة العبادة فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك: ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنون من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا. وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان «١» ». ونزول الرحمة: قال عليه الصلاة والسلام: «إنّ الله يرحم أمّتى «٢» في هذه
(١). ذكره صاحب الفردوس من حديث ابن عمر هكذا وأخرجه أبو الفتح سليم بن أيوب في الترغيب له من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن على موقوفا. وأخرجه ابن الأخضر من رواية جعفر المدائني عن أبى يحيى العتابى حدثني بضعة وثلاثون من أصحاب النبي ﷺ أنه قال- فذكره
(٢). قوله «يرحم أمتى في هذه الليلة» لعله: من أمتى. (ع)
269
الليلة بعدد شعر أغنام بنى كلب «١» » وحصول المغفرة: قال عليه الصلاة والسلام: «إنّ الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو ساحر أو مشاحن أو مدمن خمر أو عاق للوالدين، أو مصرّ على الزنا» «٢» وما أعطى فيها رسول الله ﷺ من تمام الشفاعة، وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمّته، فأعطى الثلث منها، ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطى الثلثين، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع، إلا من شرد عن الله شراد البعير. ومن عادة الله في هذه الليلة: أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة، والقول الأكثر: أنّ المراد بالليلة المباركة:
ليلة القدر، لقوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ولمطابقة قوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ لقوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وقوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان. فإن قلت: ما معى إنزال القرآن في هذه الليلة؟ قلت: قالوا أنزل جملة واحدة من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وأمر السفرة الكرام بانتساخه في ليلة القدر وكان جبريل عليه السلام ينزله على رسول الله ﷺ نجوما نجوما. فإن قلت: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت: هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان «٣». فسر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ كأنه قيل: أنزلناه، لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا، لأنّ إنزال القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم. والمباركة: الكثيرة الخير لما يتيح «٤» الله فيها من الأمور التي يتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة. ومعنى يُفْرَقُ يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم، وجميع أمورهم منها إلى
(١). أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث عائشة مرفوعا «إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا.
فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث الحجاج؟ وسمعت محمدا يضعفه. وقال:
ابن يحيى لم يسمع من عروة، والحجاج لم يسمع من يحيى، وفي الباب عن أنس عن عائشة في الدعوات البيهقي. وفي روايته مجاهيل. ومن وجه آخر عن عائشة في الافراد للدارقطني. وفيه عطاء بن عجلان. وهو متروك.
(٢). لم أجد، هكذا. وفي ابن حبان من حديث معاذ بن جبل وقال يطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن»
وفي ابن ماجة من حديث أبى موسى كذلك. والبزار من حديث أبى بكر وفي إسناده ضعف والبزار أيضا من حديث عوف بن مالك. وفيه ابن لهيعة. ومن حديث أبى هريرة وفيه من لا يعرف. ورواه البيهقي في الشعب من حديث أبى سعيد عن عائشة. وفيها لا ينظر الله فيها إلى مشرك ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم ولا إلى عاق ولا إلى مدمن خمر وفي رواية أنس عن عائشة التي ذكرناها في التي قبلها «المدمن والعاق والمصر على الزنا وزادوا: ولا مصور ولا قتار.
(٣). قوله «ملفوفتان»
لعله من اللف والنشر المقرر في البيان، وبيانه ما بعده. (ع)
(٤). قوله «لما يتيح الله فيها» أى يقدر. (ع) [.....]
270
الأخرى القابلة. وقيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخه الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وعن بعضهم: يعطى كل عامل بركات أعماله، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه، وعلى قلوبهم هيبته. وقرئ: يُفْرَقُ بالتشديد. ويُفْرَقُ كل على بنائه للفاعل ونصب كل، والفارق: الله عزّ وجلّ، وقرأ زيد بن على رضى الله عنه: نفرق، بالنون، كل أمر حكيم:
كل شأن ذى حكمة، أى: مفعول على ما تقتضيه الحكمة، وهو من الإسناد المجازى، لأنّ الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة، ووصف الأمر به مجاز أَمْراً مِنْ عِنْدِنا نصب على الاختصاص. جعل كل أمر جزلا فخما بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال: أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا، كائنا من لدنا، وكما اقتضاء علمنا وتدبيرنا.
ويجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهى، ثم إما أن يوضع موضع فرقانا الذي هو مصدر يفرق، لأنّ معنى الأمر والفرقان واحد، من حيث أنه إذا حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به وأوجبه. أو يكون حالا من أحد الضميرين في أنزلناه: إما من ضمير الفاعل، أى: أنزلناه آمرين أمرا. أو من ضمير المفعول أى أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل فإن قلت: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ بم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يكون بدلا من قوله إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ورَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعولا له، على معنى: إنا أنزلنا القرآن، لأنّ من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم، وأن يكون تعليلا ليفرق. أو لقوله أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ورحمة: مفعولا به، وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله تعالى وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أى يفصل في هذه الليلة كل أمر. أو تصدر الأوامر من عندنا، لأنّ من عادتنا أن نرسل رحمتنا. وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عز وعلا، لأنّ الغرض في تكليف العباد تعريضهم للمنافع. والأصل: إنا كنا مرسلين رحمة منا، فوضع الظاهر موضع الضمير إيذانا بأنّ الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين، وفي قراءة زيد بن على: أمر من عندنا، على: هو أمر، وهي تنصر انتصابه على الاختصاص. وقرأ الحسن: رحمة من ربك. على: تلك رحمة، وهي تنصر انتصابها بأنها مفعول له إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وما بعده تحقيق لربوبيته، وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه. وقرئ: رب السماوات... ربكم ورب آبائكم، بالجر بدلا من ربك. فإن قلت:
ما معنى الشرط الذي هو قوله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ؟ قلت: كانوا يقرون بأن للسماوات والأرض ربا وخالقا، فقيل لهم: إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب، ثم قيل: إن هذا
271
الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم وإيقان، كما تقول: إنّ هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه واشتهر وإسخاؤه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٩ الى ١٢]
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)
ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ وأن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن، ولا عن جدّ وحقيقة: بل قول مخلوط بهزء ولعب يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ مفعول به مرتقب. يقال: رقبته وارتقبته. نحو: نظرته وانتظرته. واختلف في الدخان، فعن على بن أبى طالب رضى الله عنه وبه أخذ الحسن: أنه دخان يأتى من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة، حتى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ «١»، ويعترى المؤمن منه كهيئة الزكام، وتكون الأرض كلها كبيت أو قد فيه ليس فيه خصاص «٢». وعن رسول الله ﷺ «أوّل الآيات: الدخان، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين «٣» تسوق الناس إلى المحشر «٤» «قال حذيفة: يا رسول الله، وما الدخان؟ فتلا رسول الله ﷺ الآية وقال: «يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة.
أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمّة، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره»
وعن ابن مسعود رضى الله عنه: خمس قد مضت: الروم، والدخان، والقمر، والبطشة.
واللزام. ويروى أنه قيل لابن مسعود: إن قاصا عند أبواب كندة يقول: إنه دخان يأتى يوم القيامة فيأخذ بأنفاس الخلق، فقال: من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من علم الرجل أن يقول لشيء لا يعلمه: الله أعلم، ثم قال: ألا وسأحدّثكم أنّ قريشا لما استعصت على رسول الله ﷺ دعا عليهم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، «٥»
(١). قوله «كالرأس الحنيذ» أى المشوى، كما في الصحاح. (ع)
(٢). قوله «ليس فيه خصاص» أى: فرج. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «أبين» في الصحاح: «أبين» : اسم رجل نسب إليه عدن. (ع)
(٤). هذا أولى. وفي إسناده رواه ابن الجراح وهو متروك. وقد اعترف بأنه لم يسمع هذا الحديث.
(٥). متفق عليه دون قوله «حتى أكلوا الجيف والعلهز» وقد رواه النسائي والحاكم والطبراني من حديث ابن عباس قال «جاء أبو سفيان إلى النبي ﷺ فقال: أنشدك الله والرحم لقد أكلنا العلهز يعنى الوبر والدم فأنزل الله وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ- الآية.
واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف «١» والعلهز، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدّث الرجل «٢» فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا، فلما كشف عنهم رجعوا إلى شركهم بِدُخانٍ مُبِينٍ ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان يَغْشَى النَّاسَ يشملهم ويلبسهم، وهو في محل الجر صفة لدخان.
وهذا عَذابٌ إلى قوله مُؤْمِنُونَ منصوب المحل بفعل مضمر، وهو: يقولون. ويقولون:
منصوب على الحال، أى: قائلين ذلك. إِنَّا مُؤْمِنُونَ موعدة بالإيمان إن كشف عنهم العذاب.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٣ الى ١٦]
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب وَقَدْ جاءَهُمْ ما هو أعظم وأدخل في وجوب الادّكار من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله ﷺ من الآيات البينات من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات، فلم يذكروا وتولوا عنه، وبهتوه «٣» بأن عداسا غلاما أعجميا لبعض ثقيف هو الذي علمه، ونسبوه إلى الجنون، ثم قال إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ أى ريثما نكشف عنكم العذاب تعودون إلى شرككم لا تلبثون غب الكشف على ما أنتم عليه من التضرع والابتهال. فإن قلت: كيف يستقيم على قول من جعل الدخان قبل يوم القيامة قوله إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا؟ قلت: إذا أتت السماء بالدخان تضور «٤» المعذبون به من الكفار والمنافقين وغوّثوا وقالوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ منيبون، فيكشفه الله عنهم بعد أربعين يوما، فريثما يكشفه عنهم يرتدون لا يتمهلون، ثم قال: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يريد
(١). قوله «حتى أكلوا الجيف والعلهز» في الصحاح «العلهز» - بالكسر-: طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في زمن المجاعة. (ع)
(٢). قوله «وكان يحدث الرجل فيسمع» لعله: يحدث الرجل الرجل، ويمكن أن يجعل الفاعل ضميرا يعود على الرجل السابق. (ع)
(٣). قوله وتولوا عنه وبهتوه» رموه بما ليس فيه والتغويث قولها: وا غوثاه، كما في الصحاح أيضا. (ع)
(٤). قوله «تضور المعذبون به» التضور: الصياح والتلوي عند الألم. أفاده الصحاح. (ع)
يوم القيامة، كقوله تعالى فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى. إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أى ننتقم منهم في ذلك اليوم. فإن قلت: بم انتصب يوم نبطش؟ قلت: بما دل عليه إِنَّا مُنْتَقِمُونَ وهو ننتقم.
ولا يصح أن ينتصب بمنتقمون، لأن «إن» تحجب عن ذلك. وقرئ: نبطش، بضم الطاء.
وقرأ الحسن: نبطش بضم النون، كأنه يحمل الملائكة على أن يبطشوا بهم البطشة الكبرى.
أو يجعل البطشة الكبرى باطشة بهم. وقيل الْبَطْشَةَ الْكُبْرى: يوم بدر.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٧ الى ٢١]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)
وقرئ: ولقد فتنا، بالتشديد للتأكيد. أو لوقوعه على القوم. ومعنى الفتنة: أنه أمهلهم ووسع عليهم في الرزق، فكان ذلك سببا في ارتكابهم المعاصي واقترافهم الاثام. أو ابتلاهم بإرسال موسى إليهم ليؤمنوا، فاختاروا الكفر على الإيمان. أو سلبهم ملكهم وأغرقهم كَرِيمٌ على الله وعلى عباده المؤمنين. أو كريم في نفسه، لأنّ الله لم يبعث نبيا إلا من سراة قومه وكرامهم أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ هي أن المفسرة، لأن مجيء الرسول من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله. أو المخففة من الثقيلة ومعناه: وجاءهم بأن الشأن والحديث أدّوا إلىّ وَعِبادُ الرَّحْمنِ مفعول به وهم بنو إسرائيل، يقول: أدوهم إلىّ وأرسلوهم معى، كقوله تعالى فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ويجوز أن يكون نداء لهم على: أدوا إلىّ يا عباد الله ما هو واجب لي عليكم من الإيمان لي وقبول دعوتي واتباع سبيلي، وعلل ذلك بأنه رَسُولٌ أَمِينٌ غير ظنين قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته وَأَنْ لا تَعْلُوا أن هذه مثل الأولى في وجهيها، أى: لا تستكبروا عَلَى اللَّهِ بالاستهانة برسوله ووحيه. أو لا تستكبروا على نبىّ الله بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة واضحة أَنْ تَرْجُمُونِ أن تقتلون. وقرئ: عت، بالإدغام. ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم، فهو غير مبال بما كانوا يتوعدونه به من الرجم والقتل فَاعْتَزِلُونِ يريد: إن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمنوا، فتنحوا عنى واقطعوا أسباب الوصلة عنى، أى: فخلوني كفافا لا لي ولا علىّ، ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلاحكم ذلك.

[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]

فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤)
أَنَّ هؤُلاءِ بأن هؤلاء، أى: دعا ربه بذلك. قيل: كان دعاؤه: اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم: وقيل هو قوله رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وإنما ذكر الله تعالى السبب الذي استوجبوا به الهلاك، وهو كونهم مجرمين. وقرئ: إنّ هؤلاء، بالكسر على إضمار القول، أى: فدعا ربه فقال: إن هؤلاء فَأَسْرِ قرئ بقطع الهمزة من أسرى، ووصلها من سرى.
وفيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء، فقال: أسر بعبادي. وأن يكون جواب شرط محذوف، كأنه قيل: قال إن كان الأمر كما تقول فأسر بِعِبادِي يعنى: فأسر ببني إسرائيل، فقد دبر الله أن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده، فينجى المتقدمين ويغرق التابعين. الرهو فيه وجهان، أحدهما: أنه الساكن. قال الأعشى:
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ولا الصدور على الأعجاز تتّكل «١»
أى مشيا ساكنا على هينة. أراد موسى لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق، كما ضربه فانفلق، فأمر بأن يتركه ساكنا على هيئته، قارّا على حاله: من انتصاب الماء، وكون الطريق يبسا لا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا ليدخله القبط، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم. والثاني:
(١).
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ولا الصدور على الأعجاز تتكل
فهن معترضات والحصى رمض والريح ساكنة والظل معتدل
يتبعن سامية العينين تحسبها مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل
تهدى لنا كلما كانت علاوتنا ريح الخزامى جرى فيها الندى الخضل
للقطافى، يصف إبلا يمشين مشيا رهوا على هينة وسكينة، فلا أعجازها خادلة أى تاركة لصدورها متكلة عليها بحيث تضعف من ورائها، ولا صدورها تتكل على أعجازها بأن تضعف من قدامها، فأطلق الخذلان والاتكال وأراد لازمهما، وهو الضعف: مجازا مرسلا. وأصل تتكل توتكل، فقلبت الواو تاء وأدغمت فيما بعدها، فهن سائرات في عرض الفلوات. والحال أن الحصى حار من شدة وقع الشمس عليه. ورمض الحصى والرمل رمضا كتعب تعبا: اشتد حره من الشمس، فأطلق المصدر على اسم الفاعل مبالغة. ويجوز أنه رمض كحذر والريح ساكنة، فلا نسيم يأتى بالبرودة. أو فلا غبار يضر بالسفر والظل معتدل: كناية عن اشتداد الحر، لأنه لا يعتدل إلا بتوسط الشمس في كبد السماء يتبعن تلك المطايا ناقة حديدة البصر رافعة طرفها لتبصر أمامها، تظنها يا من تراها مجنونة. أو رائية شيئا لا تراه بقية الإبل. أو شيئا لا تراه الإبل عادة، فلذلك استغربته، تهدى لنا تلك الناقة أو الإبل بمشيها كلما وجد ارتفاعنا في الطريق ريح الخزامى. والعلاوة- بالضم-: ضد السفالة. وأما بالكسر فهي ما يعلق على البعير بعد حمله. والخزامى: نبت طيب الرائحة. والخضل: الرطب والمبتل والناعم. وضمير فيها عائد على الخزامى.
أو على الريح، لكن هذا يفيد أن السفر كان صباحا.
أن الرهو الفجوة الواسعة. وعن بعض العرب: أنه رأى جملا فالجا «١» فقال: سبحان الله، رهو بين سنامين، أى: اتركه مفتوحا على حاله منفرجا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ وقرئ بالفتح، بمعنى: لأنهم.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧)
والمقام الكريم: ما كان لهم من المجالس والمنازل الحسنة. وقيل: المنابر. والنعمة- بالفتح- من التنعم، وبالكسر- من الإنعام. وقرئ: فاكهين وفكهين.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)
كَذلِكَ الكاف منصوبة على معنى: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها وَأَوْرَثْناها أو في موضع الرفع على الأمر كذلك قَوْماً آخَرِينَ ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل: كانوا متسخرين مستعبدين في أيديهم، فأهلكهم الله على أيديهم، وأورثهم ملكهم وديارهم. إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» «٢» وقال جرير:
تبكى عليك نجوم اللّيل والقمرا «٣»
(١). قوله «أنه رأى جملا فالجا» في الصحاح «الفالج» الضخم ذو السنامين. (ع)
(٢). أخرجه البيهقي في الشعب في السبعين منه والطبري والثعلبي من حديث شريح بن عبيد الحضرمي عن النبي ﷺ قال «إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا إلا غربة على مؤمن. ما مات مؤمن في غربة غائب عنه فيها بواكيه- الحديث»
(٣).
نعى النعاة أمير المؤمنين لنا يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له وقمت فيه بأمر الله يا عمرا
الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكى عليك نجوم الليل والقمرا
لجرير، يرثى عمر بن عبد العزيز. والنعي: النداء بالموت. وقوله «يا خير» حكاية قول النعاة، أى: قائلين يا خير، ويحتمل أنه من كلام الشاعر، ففيه التفات. والأمر العظيم: الخلافة ومشاقها: شبهها بالمحسوس على طريق المكنية.
والتحصيل: تخييل. وأمر الله: شرعه، أو اكتفى به عن ذكر النهى لدلالته عليه. وعمرا: منادى مندوب، وألف الندبة منعت ضمة وجلبت فتحة. واستعمال «يا» في الندبة مع أن الأصل فيها «وا» لعدم اللبس في النداء بعد ذكر النعي. ويقال: كسفت الشمس كسوفا، وكسفها الله كسفا، وبكى على زيد وبكاء، وباكاء فبكاه، أى غلبه في البكاء، كفاخره ففخره إذا غلبه في الفخر، فكسف، وبكى: متعديان ولازمان، وطالعة: خبر الشمس.
وليست بكاسفة: خبر ثان. وتبكى عليك: حال أو خبر ثالث. ونجوم الليل: مفعول كاسفة، أى: لم تكسف الشمس نجوم الليل لانطماسها وقلة ضوئها من كثرة بكائها، فلا تقدر على منع الكواكب من الظهور. ويحتمل أن نجوم الليل مفعول تبكى. أى: تغلب نجوم الليل في البكاء عليك. وقيل: روايته هكذا وهم، والرواية: الشمس كاسفة ليست بطالعة: أى لا تطلع أبدا من حينئذ، فالأوجه أن نجوم الليل مفعول تبكى. وقيل: ظرف له، أى:
مدة نجوم... الخ. وقيل «نجوم» مرفوع على الفاعلية، والقمر: مفعول معه، ثم إن المراد بهذا حزن جميع المخلوقات عليه، لا سيما الناس العقلاء.
276
وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنّك لم تجزع على ابن طريف «١»
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضى الله عنهما: من بكاء مصلى المؤمن، وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله، ومهابط رزقه في السماء: تمثيل، ونفى ذلك عنهم في قوله تعالى فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده: فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض. وعن الحسن: فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين، يعنى: فما بكى عليهم
(١).
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ولا المال إلا من قنا وسيوف
حليف الندى ما عاش يرضى به الندى فان مات لم يرض الندى بحليف
فقد ناء فقدان الربيع وليتنا فديناه من ساداتنا بألوف
لليلى بنت طريف ترثى أخاها الوليد. وأيا: حرف نداء. والخابور: موضع كثير الشجر، نزلت شجرة منزلة العاقل، فنادته واستفهمته عن سبب إخراجه الورق، من باب تجاهل العارف ساقت المعلوم مساق المجهول، واستفهمت عنه لفرط ما بها من الجزع تيقنت أن كل الأشياء جزعت عليه حتى الشجر، فخاطبته بقولها: كأنك لم تجزع على أخى، وذكرته بكنيته تعظيما لقدره وتنويها بذكره. ومورقا: حال من كاف الخطاب، ثم قالت: هو فتى لا يحب أن يتزود إلا من التقى، ولا يحب المال إلا من الغنائم بالحرب، فقولها «إلا من قنا وسيوف» : كناية عن ذلك. والقناة:
الرماح، واحده: قناة. حليف الندى: أى ملازم له تلازم المتحالفين على الاجتماع، فهو استعارة مصرحة، ثم قالت: يرضى به أى بصحبته الندى: مدة حياته وإن طالت. وهذا ترشيح للاستعارة. وقولها: فان مات «إن» فيه بمعنى إذ، فهي لمجرد الربط لا للشك، كما ذهب إليه الكوفيون في نحو قوله تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وهذا على أنه كان قد مات كما هو ظاهر قولها فقدناه. ويحتمل أنه كان في مرض الموت، أى: شارفنا فقده مجازا، كأنه قد حصل. وشبهته بالربيع في ضمن تشبيه فقدانه فقدان الربيع يجامع عموم نفع كل: مدحته بالتقوى والشجاعة والكرم وعموم النفع والسيادة، وتنكير ألوف للتكثير، ويروى: دهمائنا، بدل سادتا. والدهماء: السواد العظيم. وظاهر التمني يدل أيضا على أنه كان قد مات، إلا أن يكون المعنى: ليتنا فديناه مما أصابه فأمرضه.
وتكرير «حليف» من باب رد العجز على الصدر [.....]
277
أهل السماء وأهل الأرض وَما كانُوا مُنْظَرِينَ لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر، ولم يمهلوا إلى الآخرة، بل عجل لهم في الدنيا.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من العذاب المهين، كأنه في نفسه كان عذابا مهينا، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم. ويجوز أن يكون المعنى: من العذاب المهين واقعا من جهة فرعون. وقرئ من عذاب المهين. ووجهه أن يكون تقدير قوله مِنْ فِرْعَوْنَ: من عذاب فرعون، حتى يكون المهين هو فرعون. وفي قراءة ابن عباس: من فرعون، لما وصف عذاب فرعون بالشدة والفظاعة قال: من فرعون، على معنى: هل تعرفونه من هو في عتوّه وشيطنته، ثم عرف حاله في ذلك بقوله إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ أى كبيرا رفيع الطبقة، ومن بينهم فائقا لهم، بليغا في إسرافه.
أو عاليا متكبرا، كقوله تعالى إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ. ومِنَ الْمُسْرِفِينَ خبر ثان، كأنه قيل: إنه كان متكبرا مسرفا.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤)
الضمير في اخْتَرْناهُمْ لبنى إسرائيل. وعَلى عِلْمٍ في موضع الحال، أى: عالمين بمكان الخيرة، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا. ويجوز أن يكون المعنى: مع علم منا بأنهم يزيغون ويفرط منهم الفرطات في بعض الأحوال عَلَى الْعالَمِينَ على عالمى زمانهم. وقيل: على الناس جميعا لكثرة الأنبياء منهم مِنَ الْآياتِ من نحو فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك من الآيات العظام التي لم يظهر الله في غيرهم مثلها بَلؤُا مُبِينٌ نعمة ظاهرة، لأن الله تعالى يبلو بالنعمة كما يبلو بالمصيبة. أو اختبار ظاهر لننظر كيف تعملون، كقوله تعالى وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦)
هؤُلاءِ إشارة إلى كفار قريش فإن قلت: كان الكلام واقعا في الحياة الثانية «١» لا في الموت «٢»، فهلا قيل: إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين؟ كما قيل: إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين؟ وما معنى قوله إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى؟ وما معنى ذكر الأولى؟
كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الأولى؟ قلت: معناه- والله الموفق للصواب-: أنه قيل لهم: إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة، كما تقدّمتكم موتة قد تعقبتها حياة، وذلك قوله عزّ وجل وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فقالوا إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى يريدون: ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة، فلا فرق إذا بين هذا وبين قوله إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا في المعنى. يقال: أنشر الله الموتى ونشرهم: إذا بعثهم فَأْتُوا بِآبائِنا خطاب للذين كانوا يعدونهم النشور: من رسول الله ﷺ والمؤمنين، أى: إن صدقتم فيما تقولون فعجلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ذلك حتى يكون دليلا على أنّ ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حق، وقيل كانوا يطلبون اليهم أن يدعوا الله وينشر لهم قصىّ بن كلاب ليشاوروه، فإنه كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل ومعاظم الشئون.
[سورة الدخان (٤٤) : آية ٣٧]
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧)
هو تبع الحميري: كان مؤمنا وقومه كافرين، ولذلك ذمّ الله قومه ولم يذمّه، وهو الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبنى سمرقند. وقيل: هدمها وكان إذا كتب قال: بسم الله الذي ملك برّا وبحرا. وعنى النبي ﷺ «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» «٣» وعنه عليه الصلاة
(١). قوله «واقعا في الحياة الثانية» أى التي ينكرونها. (ع)
(٢). قال محمود: «فان قلت: كان الكلام معهم واقعا في الحياة الثانية لا في الموت... الخ» قال أحمد:
وأظهر من ذلك أنهم لما وعدوا بعد الحياة الدنيا حالتين أخريين: الأولى منهما الموت، والأخرى حياة البعث:
أثبتوا الحالة الأولى وهي الموت، ونفوا ما بعدها، وسموها أولى مع أنهم اعتقدوا أن لا شيء بعدها، لأنهم نزلوا جحدهم على الإثبات فجعلوها أولى على ما ذكرت لهم، وهذا أولى من حمل الموتة الأولى على السابقة على الحياة الدنيا لوجهين، أحدهما: أن الاقتصار عليها لا يعتقدونه، لأنهم يثبتون الموت الذي يعقب حياة الدنيا، وحمل الحصر المباشر للموت في كلامهم على صفة لم تذكر لا على نفس الموت المشاهد لهم: فيه عدول عن الظاهر بلا حاجة. الثاني:
أن الموت السابق على الحياة الدنيا لا يعبر عنه بالموتة، فان الموتة فعلة فيها إشعار بالتجدد والطريان. والموت السابق على الحياة الدنيا أمر مستصحب لم تتقدمه حياة طرأ عليها هذا، مع أن في بقية السورة قوله تعالى لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وإنما عنى ب الْمَوْتَةَ الْأُولى هنا: الموت المتعقب للحياة الدنيا فقط، ففيه إرشاد لما ذكرته، والله أعلم.
(٣). أخرجه أحمد والطبراني والطبري وابن أبى حاتم من حديث سهل بن سعد وفيه ابن لهيعة عن عمرو بن جابر. وهما ضعيفان. وروى حبيب عن مالك عن أبى حازم عن سهل مثله قال الدارقطني: تفرد به حبيب وهو متروك. وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في معجمه وابن مردويه قال محمد بن زكريا. عن أبى حذيفة عن سفيان.
والسلام «ما أدرى أكان تبع نبيا أو غير «١» نبى» وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كان نبيا.
وقيل: نظر إلى قبرين بناحية حمير قال: هذا قبر رضوى وقبر حبى بنت تبع لا تشركان بالله شيئا. وقيل: هو الذي كسا البيت. وقيل لملوك اليمن: التبابعة، لأنهم يتبعون، كما قيل: الأقيال، لأنهم يتقيلون «٢». وسمى الظل «تبعا» لأنه يتبع الشمس. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى أَهُمْ خَيْرٌ ولا خير في الفريقين؟ قلت: معناه أهم خير في القوّة والمنعة، كقوله تعالى أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ بعد ذكر آل فرعون. وفي تفسير ابن عباس رضى الله عنهما: أهم أشدّ أم قوم تبع.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٨ الى ٤٢]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢)
وَما بَيْنَهُما وما بين الجنسين. وقرأ عبيد بن عمير: وما بينهن. وقرأ: ميقاتهم بالنصب على أنه اسم إن، ويوم الفصل: خبرها، أى: إنّ ميعاد حسابهم وجزائهم في يوم الفصل لا يُغْنِي مَوْلًى أىّ مولى كان من قرابة أو غيرها عَنْ مَوْلًى عن أى مولى كان شَيْئاً من إغناء، أى: قليلا منه وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ الضمير للموالي، لأنهم في المعنى كثير، لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ في محل الرفع على البدل من الواو في يُنْصَرُونَ أى: لا لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله. ويجوز أن ينتصب على الاستثناء إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ لا ينصر منه من عصاه الرَّحِيمُ لمن أطاعه.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٧]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧)
(١). أخرجه الثعلبي من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبى ذئب عن المقبري عن أبى هريرة بهذا.
والمعروف بهذا الاسناد «ما أدرى العيني هو أم لا، وما أدرى أعزير نبى أم لا» أخرجه أبو داود. وكذا الحاكم لكن قال: ذو القرنين بدل «عزير» قال الدارقطني تفرد به عبد الرزاق وغيره أرسله.
(٢). قوله «لأنهم يتقيلون» في الصحاح: تقيل شرب نصف النهار، وتقيل فلان أباه: تبعه. (ع)
280
قرئ: إنّ شجرت الزقوم، بكسر الشين، وفيها ثلاث لغات: شجرة، بفتح الشين وكسرها وشيرة، بالياء. وروى أنه لما نزل أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ قال ابن الزبعرى: إنّ أهل اليمن يدعون أكل الزبد والتمر: التزقم، فدعا أبو جهل بتمر وزبد فقال: تزقموا فإنّ هذا هو الذي يخوّفكم به محمد، فنزل إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ وهو الفاجر الكثير الآثام. وعن أبى الدرداء أنه كان يقرئ رجلا فكان يقول طعام اليثيم، فقال: قل طعام الفاجر «١» يا هذا.
وبهذا يستدل على أنّ إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها. ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على شريطة، وهي: أن يؤدى القارئ المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها شيئا. قالوا: وهذه الشربطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة، لأنّ في كلام العرب خصوصا في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بإذائه لسان من فارسية وغيرها، وما كان أبو حنيفة رحمه الله يحسن الفارسية، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر وروى على بن الجعد عن أبى يوسف عن أبى حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية كَالْمُهْلِ قرئ بضم الميم وفتحها، وهو دردى «٢» الزيت. ويدل عليه قوله تعالى يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ مع قوله فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ وقيل: هو ذائب الفضة والنحاس، والكاف رفع خبر بعد خبر، وكذلك يَغْلِي وقرئ بالتاء للشجرة، وبالياء للطعام. والْحَمِيمِ الماء الحار الذي انتهى غليانه: يقال للزبانية خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ فقودوه بعنف وغلظة، وهو أن يؤخذ بتلبيب «٣» الرجل فيجر إلى حبس أو قتل. ومنه: العتلّ وهو الغليظ الجافي. وقرئ بكسر التاء وضمها إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ إلى وسطها ومعظمها. فإن قلت: هلا قيل: صبوا فوق رأسه من الحميم، كقوله تعالى يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ لأنّ الحميم هو المصبوب لا عذابه؟ قلت: إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدّته، إلا أن صب العذاب طريقة الاستعارة، كقوله:
(١). قال محمود: «نقل أن أبا الدرداء أقرأها رجلا فلم يقم النطق بالأثيم وجعل يقول طعام اليثيم... الخ» قال أحمد: لا دليل فيه لذلك. وقول أبى الدرداء محمول على إيضاح المعنى ليكون وضوح المعنى عند المتعلم عونا على أن يأتى بالقراءة كما أنزلت. على هذا حمله القاضي أبو بكر في كتاب الانتصار، وهو الوجه، والله أعلم.
(٢). قوله «وهو دردى الزيت» لعله: ردى الزيت كعبارة النسفي. (ع)
(٣). قوله «وهو أن يؤخذ بتلبيب الرجل» الذي في الصحاح: لبهت الرجل تلبيبا، إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة، ثم جررته اه ويجوز أنه أراد بتلبيب الرجل: ثيابه من عند صدره ونحره. (ع)
281
فإن قلت : هلا قيل : صبوا فوق رأسه من الحميم، كقوله تعالى :﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ الحميم ﴾ [ الحج : ١٩ ] لأنّ الحميم هو المصبوب لا عذابه ؟ قلت : إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدّته، إلا أنّ صب العذاب طريقة الاستعارة، كقوله :
صُبَّتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ الدَّهْرِ مِنْ صَبَبِ ***
وكقوله تعالى :﴿ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ﴾ [ البقرة : ٢٥٠ ] فذكر العذاب معلقاً به الصب، مستعاراً له، ليكون أهول وأهيب.
يقال :﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ( ٤٩ ) ﴾ على سبيل الهزؤ والتهكم بمن كان يتعزز ويتكرم على قومه. وروي أنّ أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني، فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً. وقرىء :«إنك » بمعنى : لأنك. وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قرأ به على المنبر.
﴿ إِنَّ هذا ﴾ العذاب، أو إن هذا الأمر هو ﴿ مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ﴾ أي تشكون، أو تتمارون وتتلاجون.
صبّت عليه صروف الدّهر من صبب «١»
وكقوله تعالى أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً فذكر العذاب معلقا به الصب، مستعارا له، ليكون أهول وأهيب يقال ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ على سبيل الهزؤ والتهكم بمن كان يتعزز ويتكرم على قومه.
وروى أنّ أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين جبليها أعز ولا أكرم منى، فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بى شيئا. وقرئ: إنك، بمعنى: لأنك. وعن الحسن ابن على رضى الله عنهما أنه قرأ به على المنبر إِنَّ هذا العذاب. أو إن هذا الأمر هو ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أى تشكون. أو تتمارون وتتلاجون.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٥١ الى ٥٧]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧)
قرئ: في مقام، بالفتح: وهو موضع القيام، والمراد المكان، وهو من الخاص الذي وقع مستعملا في معنى العموم. وبالضم: وهو موضع الإقامة. وأَمِينٍ من قولك: أمن الرجل أمانة فهو أمين. وهو ضد الخائن، فوصف به المكان استعارة، لأنّ المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره. قيل: السندس: ما رق من الديباج. والإستبرق:
ما غلظ منه وهو تعريب استبر. فإن قلت: كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمى؟ قلت: إذا عرب خرج من أن يكون عجميا، لأن معنى التعريب أن يجعل عربيا بالتصرف فيه، وتغييره عن منهاجه، وإجرائه على أوجه الإعراب كَذلِكَ الكاف مرفوعة على:
الأمر كذلك. أو منصوب على: مثل ذلك أثبناهم وَزَوَّجْناهُمْ وقرأ عكرمة: بحور عين، على الإضافة: والمعنى: بالحور من العين، لأن العين إما أن تكون حورا أو غير حور، فهؤلاء
(١).
كم امرئ كان في خفض وفي دعة صبت عليه صروف الدهر من صبب
الصبب: مكان الصباب الماء وانحداره. يقول: كثير من الناس كان في لين عيش وفي راحة، توالت عليه حوادث الدهر كأنها سيل منحدر من صبب، فاستعار الصب لنزول الحوادث بالشخص على طريق التصريح، والصب ترشيح أو شبه الحوادث بالسيل على سبيل المكنية. والصبب: تخييل. والصب: ترشيح. والصروف: جمع صرف، كحروف جمع حرف: مكاره الزمن ومصائبه.
من الحور العين «١» لا من شهلهن مثلا. وفي قراءة عبد الله: بعيس عين: والعيساء: البيضاء تعلوها حمرة وقرأ عبيد بن عمير: لا يذاقون فيها الموت. وقرأ عبد الله: لا يذوقون فيها طعم الموت. فإن قلت: كيف استثنيت الموتة الأولى- المذوقة قبل دخول الجنة- من الموت المنفي ذوقه فيها؟ قلت: أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتة، فوضع قوله إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل، فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها «٢». وقرئ ووقاهم بالتشديد فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ عطاء من ربك وثوابا، يعنى: كل ما أعطى المتقين من نعيم الجنة والنجاة من النار. وقرئ: فضل، أى. ذلك فضل.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ فذلكة للسورة. ومعناها: ذكرهم بالكتاب المبين فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أى: سهلناه، حيث أنزلناه عربيا بلسانك بلغتك إرادة أن يفهمه قومك فيتذكروا فَارْتَقِبْ فانتظر ما يحل بهم إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ما يحل بك متربصون الدوائر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» «٣» وعنه عليه السلام:» من قرأ حم التي يذكر فيها الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له» «٤».
(١). قوله «من الحور العين» لعله: من حور العين. (ع)
(٢). قال محمود: «إنما استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقه فيها... الخ» قال أحمد: هذا الذي ذكره مبنى على أن الموتة بدل، على طريقة بنى تميم المجوز فيها البدل من غير الجنس. وأما على طريقة الحجازيين، فانتصبت الموتة استثناء منقطعا. وسر اللغة التميمية: بناء النفي المراد على وجه لا يبقى للسامع مطمعا في الإثبات، فيقولون: ما فيها أحد إلا حمار، على معنى: إن كان الحمار من الأحدين ففيها أحد، فيعلقون الثبوت على أمر محال حتما بالنفي. وعليه حمل الزمخشري قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ أى إن كان الله ممن في السماوات والأرض، ففي السماوات والأرض من يعلم الغيب، فإذا نفر السامع من ثبوت الأول تعدت النفرة إلى ثبوت الثاني، فجزمت بالنفي، والله أعلم.
(٣). أخرجه الترمذي أيضا وابن عدى والشعبي والبيهقي في الشعب من رواية عمر بن خثعم عن يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة عن أبى هريرة، وقال: غريب، وعمر بضعف. قال محمد: إنه منكر الحديث. قلت: وهو بمعنى الذي قبله.
(٤). أخرجه الترمذي وأبو يعلى وابن السنى في اليوم والليلة» والبيهقي في الشعب وقال تفرد به أبو المقدام.
وهو ضعيف. وعن الحسن عن أبى هريرة وقال الترمذي: أبو المقدام ضعيف والحسن لم يسمع من أبى هريرة.
Icon