تفسير سورة الجاثية

فتح البيان
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الجاثية
وتسمى الشريعة قاله الخازن هي ست أو سبع وثلاثون آية
وهي مكية كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة، وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها، وهي قوله :﴿ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ إلى﴿ أَيَّامَ اللَّهِ ﴾ فإنها نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب. ذكره الماوردي، وقال المهدوي والنحاس :( إنها نزلت في عمر شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة فأراد أن يبطش به، فأنزل الله : قل للذين آمنوا ) الآية ثم نسخت بآية القتال فالسورة كلها مكية على هذا من غير استثناء.

حم) قد تقدم الكلام على هذا في فاتحة سورة غافر، وما بعدها والله أعلم بمراده به
(تنزيل الكتاب) أي القرآن مبتدأ (من الله) خبره (العزيز) في ملكه (الحكيم) في صنعه، ثم أخبر سبحانه بما يدل على قدرته الباهرة فقال:
(إن في السموات والأرض) أي في خلقهما (لآيات) دالة على قدرة الله ووحدانيته (للمؤمنين) قال الزجاج: ويدل على أن المعنى في خلقهما قوله:
(وفي خلقكم) أنفسكم على أطوار مختلفة، قال مقاتل: من تراب، ثم من نطفة إلى أن يصير إنساناً، وحاصل ما ذكر هنا من الدلائل ستة على ثلاث فواصل، الأولى للمؤمنين الثانية يوقنون، الثالثة يعقلون، ووجه التغاير بينها أن المنصف من نفسه إذا نظر في السموات والأرض وأنه لا بد لهما من صانع آمن، وإذا نظر في خلق نفسه ونحوها إزداد إيماناً فأيقن، وإذا
417
نظر في سائر الحوادث عقل واستحكم علمه.
(و) في خلق (ما يبث) أي ما يفرقه وينشره (من دابة آيات) وللنحاة في هذا الموضع كلام طويل في رفع آيات ونصبها، والبحث في مسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين، وحجج المجوزين له، وجوابات المانعين منه مقرر في علم النحو، مبسوط في مطولاته (لقوم يوقنون) يعني أنه لا إله إلا هو.
418
(واختلاف الليل والنهار) أي في تعاقبهما أو تفاوتهما في الطول والقصر والظلام والضياء وذهابهما ومجيئهما (وما أنزل الله من السماء من رزق) معطوف على اختلاف والرزق المطر لأنه سبب لكل ما يرزق الله العباد به (فأحيا به الأرض بعد موتها) إيحاء الأرض إخراج نباتها، وموتها خلوها عن النبات ويبسها.
(وتصريف الرياح) في مهابها أي أنها تهب تارة من جهة وتارة من أخرى، وتارة تكون حارة وتارة تكون باردة، وتارة نافعة وتارة ضارة، والرياح أربعة بحسب جهات الأفق (آيات لقوم يعقلون) مراد الله سبحانه في كتابه، ويفهمون الدليل فيؤمنون.
(تلك آيات الله نتلوها عليك) أي هذه الآيات المذكورة هي حجج الله وبراهينه (بالحق) أي محقين أو متلبسة بالحق، أو الباء للسببية فتتعلق بنفس الفعل (فبأي حديث بعد الله وآياته) أي حججه، قيل: إن المقصود فبأي حديث بعد آيات الله، وذكر الاسم الشريف ليس إلا لقصد تعظيم الآيات فيكون من باب أعجبني زيد وكرمه، وقيل المراد بعد حديث الله، هو القرآن كما في قوله: (الله نزل أحسن الحديث) وهو المراد بالآيات، والعطف لمجرد التغاير العنواني (يؤمنون) قرأ الجمهور بالفوقية وقرىء بالتحتية والمعنى يؤمنون بأي حديث، وإنما قدم عليه لأن الاستفهام له صدر الكلام.
(ويل) واد في جهنم أو كلمة عذاب (لكل أفاك أثيم) أي لكل كذاب كثير الإثم مرتكب لما يوجبه ثم وصف هذا الأفاك بصفة أخرى فقال
(يسمع آيات الله) أي القرآن (تتلى عليه ثم يصر) على كفره، ويقيم على ما كان عليه، حال كونه (مستكبراً) أي متمادياً على كفره، متكبراً على الإيمان، ومتعظماً في نفسه عن الانقياد للحق، والإصرار مأخوذ من إصرار الحمار على العانة، وهو أن ينحى عليها، صاراً أذنيه، وثم للتراخي الرتبي عند العقل، أي إصراره على الكفر بعد ما قررت له الأدلة المذكورة وسمعها مستبعد في العقول، قال مقاتل: إذا سمع من آيات القرآن شيئاً اتخذها هزواً، وجملة (كأن لم يسمعها) في محل نصب على الحال، أو مستأنفة، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف.
(فبشره بعذاب أليم) هذا من باب التهكم، أي فبشره على إصراره واستكباره وعدم استماعه إلى الآيات بعذاب شديد الألم قيل: نزلت في النضر ابن الحرث، وما كان يشتري من أحاديث العجم، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن، والآية عامة في كل من كان مضاداً لدين الله.
(وإذا علم من آياتنا شيئاًً) قرأ الجمهور بفتح العين وكسر اللام مخففة على البناء للفاعل وقرىء على البناء للمفعول، والمعنى أنه إذا وصل إليه وبلغه شيء وعلم أنه من آيات الله (اتخذها) أي الآيات (هزواً) وقيل الضمير في اتخذها عائد إلى شيء لأنه عبارة عن الآيات، والأول أولى.
(أولئك) أي كل أفاك متصف بتلك الصفات (لهم عذاب مهين) بسبب ما فعلوا من الإصرار والاستكبار عن سماع آيات الله، واتخاذها هزواً، والعذاب المهين هو المشتمل على الإذلال والفضيحة.
419
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)
420
(من ورائهم) أي من وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا والتكبر عن الحق (جهنم) فإنها من قدامهم، لأنهم متوجهون إليها، وعبر عن القدام بالوراء كقوله: (من ورائه جهنم) والوراء مستعمل بمعنى الأمام كما يستعمل بمعنى الخلف، وهو مشترك بين المعنيين، فيستعمل في الشيء وضده، كالجون يستعمل في الأبيض والأسود على سبيل الاشتراك، وقيل: جعلها باعتبار إعراضهم عنها، كأنها خلفهم، وقيل الوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام.
(ولا يغني) أي لا يدفع (عنهم ما كسبوا) من أموالهم وأولادهم (شيئاًً) من عذاب الله، ولا ينفعهم بوجه من وجوه النفع (ولا) يغني عنهم (ما اتخذوا من دون الله أولياء) من الأصنام، وما في الموضعين إما مصدرية أو موصولة، وزيادة لا في الجملة الثانية للتأكيد (ولهم عذاب عظيم) في جهنم التي هي من ورائهم.
(هذا) أي القرآن (هدى) للمهتدين به (والذين كفروا بآيات
420
ربهم) القرآنية (لهم عذاب من رجز أليم) الرجز أشد العذاب، قرأ الجمهور أليم بالجر صفة للرجز، وقرىء بالرفع صفة لعذاب.
421
(الله الذي سخر لكم البحر) أي جعله على صفة تتمكنون بها من الركوب عليه بأن جعله أملس السطح، يطفو عليه ما يتخلله كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه (لتجري الفلك فيه بأمره) أي بإذنه وإقداره لكم (ولتبتغوا من فضله) بالتجارة تارة والغوص للدر والمعالجة للصيد وغير ذلك (ولعلكم تشكرون) أي ولكي تشكروا النعم التي تحصل لكم بسبب هذا التسخير للبحر.
(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) أي سخر لعباده جميع ما خلقه في سمواته وأرضه، مما يتعلق به مصالحهم ويقوم به معايشهم ومما سخره لهم من مخلوقات السموات الشمس والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح، وجميعاً حال من ما في السموات أو تأكيد له، وقوله (منه) متعلق بمحذوف هو صفة لجميعاً أي كائناً منه، أو متعلق بسخر، أو حال من ما في السموات، أو خبر لمبتدأ محذوف والمعنى أن كل ذلك رحمة منه لعباده، وقال ابن عباس (جميعاً منه) أي منه النور والشمس والقمر وكل شيء هو من الله، وعن طاوس قال: " جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق؟ قال من الماء والنور والظلمة والهواء والتراب، قال فمم خلق هؤلاء؟ قال لا أدري، ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله فقال: مثل قول عبد الله بن عمرو فأتى ابن عباس فسأله مم خلق الخلق؟ فقال من الماء والنور والظلمة والريح والتراب، قال فمم خلق هؤلاء فقرأ ابن عباس وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، فقال الرجل ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي ﷺ ".
(إن في ذلك) المذكور من التسخير (لآيات لقوم يتفكرون) خص
421
المتفكرين لأنه لا ينتفع بها إلا من تفكر فيها، فإنه ينتقل من التفكير إلى الاستدلال بها على التوحيد
422
(قل للذين آمنوا يغفروا) أي قل لهم اغفروا يغفروا أي يعفوا ويصفحوا، قاله علي بن عيسى واختاره ابن العربي. وقيل التقدير قل لهم ليغفروا، والمعنى قل لهم ليتجاوزوا.
(للذين لا يرجون أيام الله) أي عن الذين لا يرجون وقائع الله بأعدائه أي لا يتوقعونها، ومعنى الرجاء هنا الخوف، وقيل هو على معناه الحقيقي، والمعنى لا يرجون ثوابه في الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين، والأول أولى، والأيام يعبر بها عن الوقائع كما تقدم في تفسير قوله (وذكرهم بأيام الله) قال مقاتل لا يخشون مثل عذاب الله للأمم الخالية، وذلك أنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه وقيل المعنى لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه، وقيل: لا يخافون البعث.
قيل والآية منسوخة بآية السيف والأقرب أن يقال: إنه محمول على ترك المنازعة، وعلى التجاوز فيما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية وعن ابن عباس في الآية قال " كان نبي الله ﷺ يعرض عن المشركين إذا آذوه وكانوا يستهزئون به ويكذبونه فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة "، فكان هذا من المنسوخ والأولى القول بعدم النسخ.
(ليجزي) الله (قوماً) قرىء بالتحتية وقرىء بالنون أي لنجزي نحن، والجملة لتعليل الأمر بالمغفرة، والمراد بالقوم المؤمنون، أمروا بالمغفرة ليجزيهم الله يوم القيامة (بما كانوا يكسبون) في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار، والإغضاء عنهم، بكظم الغيظ، واحتمال المكروه، وقيل المعنى ليجزي الكفار بما عملوا من السيئات كأنه قال لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن، قيل المراد بالقوم كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو التنويع والأول أولى، ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم والمشركين وأعمالهم فقال:
422
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٦) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)
423
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) أي إن عمل كل طائفة من إحسان وإساءة لعامله لا يتجاوزه إلى غيره، وفيه ترغيب وترهيب، والجملة مستأنفة لبيان كيفية الجزاء (ثم إلى ربكم ترجعون) أي تصيرون فيجازي كلاً بعمله إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر.
(ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) المراد بالكتاب التوراة كذا في الكشاف وتبعه القاضي، ولعل الأولى أن يحمل الكتاب على الجنس حتى يشمل الإنجيل والزبور أيضاًً لكن جمهور المفسرين على تفسيره هنا بالتوراة لأنه ذكر بعدها الحكم ونحوه وما ذكر لا حكم فيه إذ الزبور أدعية ومناجاة، والإنجيل أحكامه قليلة جداً، وعيسى مأمور بالعمل بالتوراة والمراد بالحكم الفهم والفقه الذي يكون بهما الحكم بين الناس، وفصل خصوماتهم، وبالنبوة من بعثه الله من الأنبياء فيهم.
423
(ورزقناهم من الطيبات) أي المستلذات التي أحلها الله لهم، ومن ذلك المن والسلوى، وهذه نعم دنيوية وما قبله من الكتاب والنبوة نعم دينية.
(وفضلناهم على العالمين) من أهل زمانهم حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من كثرة الأنبياء فيهم، وفلق البحر، وغرق العدو، ونحوها، وقد تقدم بيان هذا في سورة الدخان، قال ابن عباس: لم يكن أحد من العاملين في زمانهم أكرم على الله ولا أحب إليه منهم.
424
(وآتيناهم بينات من الأمر) أي شرائع واضحات في الحلال والحرام، أو معجزات ظاهرات، وقيل: العلم بمبعث النبي ﷺ وشواهد نبوته، وتعيين مهاجره (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم) أي فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمر إلا بعد مجيء العلم إليهم ببيانه، وإيضاح معناه، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً لثبوته، وقيل المراد بالعلم يوشع بن نون فإنه آمن به بعضهم، وكفر بعضهم وقيل نبوة محمد ﷺ فاختلفوا فيها حسداً و:
(بغياً بينهم) قيل بغياً من بعضهم على بعض يطلب الرياسة (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) من أمر الدين فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
(ثم جعلناك على شريعة من الأمر) ثم للاستئناف والشريعة في اللغة المذهب والملة والمنهاج ويقال لمشرعة الماء وهي مورد شاربيه شريعة، والجمع شرائع، فاستعير ذلك للدين لأن العباد يردون ما تحيا به نفوسهم، ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد، فالمراد بالشريعة هنا ما شرعه الله لعباده من الدين، أي جعلناك يا محمد على منهاج واضح من أمر الدين يوصلك إلى الحق وقال ابن عباس: على هدى من أمر دينه، قال قتادة الشريعة الأمر والنهي والحدود والفرائض البينة، لأنها طريق إلى الحق، وقال الكلبي السنة، لأنه يستن بطريقة من قبله من الأنبياء، وقال ابن زيد: الدين لأنه
424
طريق إلى النجاة وقال ابن العربي: الأمر يرد في اللغة بمعنيين أحدهما بمعنى الشأن كقوله:
(واتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد) والثاني ما يقابله النهي وكلاهما يصح أن يكون مراداً هنا وتقديره ثم جعلناك على طريقة من الدين، وهي ملة الإسلام، كما قال تعالى (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً) ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينها في الفروع حسب ما علمه سبحانه وتعالى.
(فاتبعها) أي فاعمل بأحكامها في أمتك (ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) توحيد الله وشرائعه لعباده، وهم كفار قريش ومن وافقهم، ثم علل النهي عن اتباع أهوائهم فقال:
425
(إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاًً) أي لا يدفعون عنك شيئاًً مما أراده الله بك إن اتبعت أهوائهم.
(وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) أي أنصار ينصر بعضهم بعضاً لأن الجنسية علة الانضمام قال ابن زيد إن المنافقين أولياء اليهود (والله ولي المتقين) أي ناصرهم، والمراد بالمتقين الذين أتقوا الشرك والمعاصي والإشارة بقول
(هذا) إلى القرآن أو إلى اتباع الشريعة.
(بصائر للناس) أي براهين، ودلائل لهم فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين وبينات تبصرهم وجه الفلاح، ومعالم يتبصرون بها في الأحكام والحدود جعل ذلك بمنزلة البصائر في القلوب ليتوصل بكل واحد منها إلى تحصيل العرفان واليقين، وجمع الخبر باعتبار ما في المبتدأ من تعدد الآيات. والبراهين، وقرىء هذه بصائر أي هذه الآيات لأن القرآن بمعناها.
(وهدى) أي رشد وطريق يؤدي إلى الجنة لمن عمل به (ورحمة) من الله في الآخرة (لقوم يوقنون) أي من شأنهم الإيقان وعدم الشك والتزلزل بالشبهة.
425
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٣)
426
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) أم هي المنقطعة المقدرة ببل، والهمزة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان بطريق إنكار الواقع واستقباحه، والتوبيخ عليه، والاجتراح الاكتساب، ومنه الجوارح، وقد تقدم في المائدة، والجملة مستأنفة سيقت لبيان تباين حالي المسيئين والمحسنين إثر بيان حالي الظالمين والمتقين، وهو معنى قوله:
(أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات)؟ أي نسوي بينهم مع اجتراحهم السيئات وبين أهل الحسنات، قيل نزلت في قوم من المشركين، وقيل المسيئون عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، والمحسنون علي وحمزة وعبيدة بن الحرث حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم والعموم أولى.
(سواء محياهم ومماتهم) في دار الدنيا، وفي الآخرة؟ كلا لا يستوون في شيء منهما، فإن حال أهل السعادة فيهما غير حال أهل الشقاوة، فهؤلاء في عز الإيمان والطاعة وشرفهما في المحيا، وفي رحمة الله تعالى ورضوانه في الممات، وأولئك في ذل الكفر والمعاصي وهو أنهما في المحيا، وفي لعنة الله
426
والعذاب الخالد في الممات، وشتان بينهما، وقيل المراد إنكار أن يستووا في الممات، كما استووا في الحياة.
قرأ الجمهور سواء بالرفع على أنه خبر مقدم، والمبتدأ محياهم ومماتهم والمعنى إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم سواء، وقرىء بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، في قوله: كالذين آمنوا، أو على أنه مفعول ثان لحسب، واختار قراءة النصب أبو عبيدة، وقال: معناه نجعلهم سواء، وقرىء محياهم ومماتهم بالنصب على معنى سواء في محياهم ومماتهم. ولما سقط الخافض انتصب.
(ساء ما يحكمون) أي ساء حكمهم هذا الذي حكموا به وقال مجاهد في الآية المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر، وقال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري، ولقد رأيته قام ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد، ويبكي (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) الآية، وعن الفضيل أنه بلغها فجعل يرددها ويبكي ويقول يا فضيل ليت شعري من أي الفريقين أنت؟.
427
(وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) المقتضي للعدل بين العباد وهذا كالدليل لما قبله من نفي الاستواء، ومحل بالحق النصب على الحال من الفاعل، أو المفعول، أو الباء للسببية (ولتجزى كل نفس ما كسبت) أي خلق الله إياهما ليدل بهما على قدرته ولتجزى، أو اللام للصيرورة قاله ابن عطية أي صار الأمر من حيث اهتدى بها قوم وضل بها قوم آخرون (وهم) أي النفوس المدلول عليها بكل نفس.
(لا يظلمون) بنقص ثواب، أو زيادة عقاب وتسميته ذلك ظلماً مع أنه ليس كذلك على ما عرف من قاعدة أهل السنة لبيان غاية تنزه ساحة لطفه تعالى عما ذكر، بتنزيله منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه، أو سماه ظلماً
427
نظراً إلى صدوره منا كما في الابتلاء والاختبار، ثم عجب سبحانه من حال الكفار فقال:
428
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال الحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاًً إلا ركبه وقال عكرمة يعبد ما يهواه أو يستحسنه فإذا استحسن شيئاًً وهواه، اتخذه إلهاً، قال سعيد بن جبير؛ كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر.
وقال ابن عباس: ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان، والمعنى هو مطواع لهوى النفس، يتبع ما يدعوه إليه فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه.
(وأضله الله على علم) قد علمه، قال ابن عباس: يقول أضله في سابق علمه تعالى، وقيل المعنى أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه، وقال مقاتل على علم منه أنه ضال لأنه يعلم أن الصنم لا ينفع ولا يضر، قال الزجاج: على سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه، وقال الكرخي: أضله وهو عالم بالحق، وهذا أشد تشنيعاً عليه.
(وختم) أي طبع (على سمعه) حتى لا يسمع الوعظ (و) طبع على (قلبه) حتى لا يفقه الهدى ولا يعقله (وجعل على بصره غشاوة) أي ظلمة وغطاء حتى لا يبصر الرشد، قرأ الجمهور غشاوة بالألف مع كسر الغين وقرىء بغير ألف مع فتح الغين. وقرأ ابن مسعود والأعمش كقراءة الجمهور مع فتح الغين، وهي لغة ربيعة، وقرىء بضمها وهي لغة عكل.
(فمن يهديه من بعد الله) أي بعد إضلال الله له أي لا يهتدي (أفلا تذكرون) تذكر اعتبار، حتى تعلموا حقيقة الحال؛ قال الواحدي: ليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة، لأن الله صرح بمنعه إياه عن الهدى حتى أخبر أنه ختم على سمعه وقلبه وبصره، ثم بين سبحانه بعض جهالاتهم وضلالاتهم فقال:
428
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧)
429
(وقالوا) أي منكرو البعث (ما هي إلا حياتنا الدنيا) أي ما الحياة إلا الحياة التي نحن فيها (نموت ونحيا) أي يصيبنا الموت والحياة فيها وليس وراء ذلك حياة، وقيل نموت نحن ويحيا فيها أولادنا، وقيل نكون نطفاً ميتة ثم نصير أحياء، وقيل في الآية تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وكذا قرأ ابن مسعود وعلى كل تقدير فمرادهم بهذه المقالة إنكار البعث وتكذيب الآخرة وقيل: هذا من كلام من يقول بالتناسخ أي بموت الرجل ثم تجعل روحه في موات فيحيا به.
(وما يهلكنا إلا الدهر) أي مرور الليالي والأيام، والدهر في الأصل مدة بقاء العالم، من دهره إذا غلبه. وفي القاموس: دهرهم أمر كمنع نزل بهم مكروه، فهم مدهور بهم، ومدهورون، وقرىء إلا دهر يمر قال مجاهد يعني السنين والأيام انتهى.
كانوا يزعمون أن مرورها هو المؤثر في هلاك الأنفس وينكرون ملك الموت وقبض الأرواح بإذن الله، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان، ألا ترى أن أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان؟ وقال قتادة: إلا العمر؛ والمعنى واحد؛ وقال قطرب المعنى وما يهلكنا إلا الموت وقال عكرمة: وما يهلكنا إلا الله.
429
عن أبي هريرة قال: " كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يحيينا ويميتنا، فيسبون الدهر، فقال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم بسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم الحديث "، وفي الموطأ عنه أن رسول الله ﷺ قال: " لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر "، وقد استدل بهذا الحديث من قال: إن الدهر من أسماء الله تعالى، ومرادهم بهذا الحصر إنكار أن يكون الموت بواسطة ملك الموت وإضافة الحوادث إلى الدهر والزمان، وأن المؤثر في هلاك الأنفس هو مرور الأيام والليالي (١).
(وما لهم بذلك) أي بنسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك وما يتعلق بها على الإستقلال (من علم) ثم بين كون ذلك صادراً منهم لا عن علم فقال: (إن هم إلا يظنون) أي ما هم إلا قوم غاية ما عندهم الظن، فما يتكلمون إلا به، ولا يستندون إلا إليه.
_________
(١) روى مسلم ٤/ ١٧٦٣ لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله.
430
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) أي إذا تليت آيات القرآن على المشركين حال كونها واضحات ظاهرة المعنى والدلالة على البعث أو مبينات لما يخالف معتقدهم قاله الكرخي.
(ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا) أحياء (إن كنتم صادقين) أنا نبعث بعد الموت أي ما كان لهم حجة ولا متمسك ولا متشبث يتعلقون ويعارضون به إلا هذا القول الباطل الذي ليس من الحجة في شيء وإنما سماه حجة مع أنه ليس بحجة لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته، وساقوه مساقها فسمي حجة على سبيل التهكم، أو لأنه في حسابهم وتقديرهم حجة، ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ أن يرد عليهم فقال:
(قل الله يحييكم) في الدنيا (ثم يميتكم) عند انقضاء آجالكم (ثم يجمعكم إلى) أي في (يوم القيامة) بالبعث والنشور (لا ريب فيه) أي في جمعكم لأن من قدر على ابتداء الخلق قدر على إعادته، وفي هذا رد لقولهم، (وما يهلكنا إلا الدهر).
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) بذلك لإعراضهم عن التفكر بالدلائل، فلهذا حصل معهم الشك في البعث وجاءوا في دفعه بما هو أوهن من بيت العنكبوت، ولو نظروا حق النظر لحصلوا على العلم اليقين، واندفع عنهم الريب، وأراحوا أنفسهم من ورطة الشك والحيرة، ثم لما ذكر سبحانه ما أحتج به المشركون وما أجاب به عليهم ذكر اختصاصه بالملك فقال:
(ولله ملك السموات والأرض) أي هو المتصرف فيهما وحده كما أراد لا يشاركه أحد من عباده، وهو شامل للإحياء والإماتة المذكورين قبله، وللجمع والبعث، وللمخاطبين غيرهم، ثم توعد أهل الباطل فقال:
(ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) أي المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل، يظهر في ذلك اليوم خسرانهم، لأنهم يصيرون إلى النار، والعامل في يوم هو يخسر، ويومئذ بدل منه، والتنوين عوض عن المضاف إليه المدلول عليه بما أضيف إليه المبدل منه فيكون التقدير: ويوم تقوم الساعة يوم تقوم الساعة فيكون بدلاً توكيدياً، والأولى أن يكون العامل في يوم هو ملك أي ولله ملك يوم تقوم الساعة، ويكون يومئذ معمولاً ليخسر، والجملة مستأنفة من حيث اللفظ، وإن كان لها تعلق بما قبلها من حيث المعنى أفاده السمين، وقال التفتازاني وهذا بالتأكيد أشبه، وأنىّ يتأتى أن هذا مقصود بالنسبة دون الأول؟ وقال الحفناوي: اليوم في البدل بمعنى الوقت، والمعنى وقت أن تقوم الساعة، وتحشر الموتى فيه، وهو جزء من يوم تقوم الساعة فإنه يوم متسع مبدؤه من النفخة الأولى، فهو بدل البعض. والعائد مقدر ولما كان خسرانهم وقت حشرهم كان هو المقصود بالنسبة.
431
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢)
432
(وترى كل أمة) الخطاب لكل من يصلح له أو للنبي صلى الله عليه وسلم، والأمة الملة والرؤية بصرية أو علمية، وفيه بعد ومعنى قوله: (جاثية) مستوفزة والمستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه، وأطراف أنامله قال الضحاك: وذلك عند الحساب، وقيل معنى جاثية مجتمعة، قال ابن عباس، وقال الفراء: المعنى وترى أهل كل دين مجتمعين، وقال عكرمة متميزة عن غيرها، وقال مؤرج: معناه بلغة قريش خاضعة، وقال الحسن باركة على الركب والجثو الجلوس على الركب تقول: جثا يجثو ويجثي جثواً.
وجثياً إذا جلس على ركبتيه، والأول أولى، ولا ينافيه ورود هذا اللفظ لمعنى آخر في لسان العرب، وقد ورد إطلاق الجثوة على الجماعة من كل شيء في لغة العرب.
وعن عبد الله بن بأبأه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين "، ثم قرأ سفيان هذه الآية أخرجه البيهقي في البعث، وعبد الله ابن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم وسعيد بن منصور.
وعن ابن عمر في الآية قال: " كل أمة مع نبيها حتى يجيء رسول الله
432
صلى الله عليه وسلم على كوم قد علا الخلائق، فذلك المقام المحمود "، وظاهر الآية أن هذه الصفة تكون لكل أمة من الأمم من غير فرق بين أهل الأديان المتبعين للرسل وغيرهم من أهل الشرك، وقال يحيى بن سلام: هو خاص بالكفار، والأول أولى ويؤيده قوله:
(كل أمة تدعى إلى كتابها) وقوله فيما سيأتي، فأما الذين آمنوا الخ، ومعنى إلى كتابها إلى الكتاب المنزل عليها؛ وقيل إلى صحيفة أعمالها وقيل: إلى حسابها، وقيل اللوح المحفوظ؛ والأول أولى قرأ الجمهور كل أمة بالرفع على الابتداء، وخبره تدعى، وقرىء بالنصب على البدل من كل أمة.
(اليوم) أي يقال لهم اليوم (تجزون ما كنتم تعملون) من خير وشر
433
(هذا كتابنا) لا منافاة بين هذا وقوله كتابها لأنه كتابهم بمعنى أنه مشتمل على أعمالهم، وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه وإليه أشار في التقرير قاله الكرخي.
(ينطق عليكم) بما عملتم (بالحق) بلا زيادة ونقصان وهذا من تمام ما يقال لهم، والقائل بهذا هم الملائكة، وقيل: هو من قول الله سبحانه أي يشهد عليهم؛ وهو استعارة، يقال: نطق الكتاب بكذا أي بيّن وقيل: إنهم يقرأونه فيذكرهم ما عملوا فكأنه ينطق عليهم دليله قوله تعالى:
(وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) قال ابن عباس هو أم الكتاب فيه أعمال بني آدم، وقيل هو ديوان الحفظة، ومحل (ينطق) النصب على الحال أو الرفع على أنه خبر آخر لاسم الإشارة.
وجملة (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) تعليل للنطق بالحق أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم أي بكتبها وتثبيتها عليكم، وليس المراد بالنسخ إبطال
433
ما في اللوح قال الواحدي: وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب منه كل عام ما يكون من أعمال بني آدم فيجدون ذلك موافقاً لما يعملونه؛ قالوا لأن الاستنساخ لا يكون إلا من أصل وقيل إن الملائكة تكتب كل يوم ما يعمله العبد فإذا رجعوا إلى مكانهم نسخوا منه الحسنات والسيئات وتركوا المباحات، وقيل إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله سبحانه أمر عز وجل أن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب، ويسقط منها ما لا ثواب فيه ولا عقاب.
وقال ابن عباس " الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم، فقام رجل فقال يا ابن عباس ما كنا نرى هذا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال إنكم لستم قوماً عرباً هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب "؟.
وعن علي بن أبي طالب " إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم "، وعن ابن عمر نحو ما روي عن ابن عباس، وعن ابن عباس أيضاًً في الآية قال: يستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان ما استنسخ الملك من أم الكتاب، وأخرج نحوه الحاكم عنه، وصححه.
وأخرج الطبراني عنه أيضاًً في الآية قال: " إن الله وكل ملائكة ينسخون من ذلك العام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبل، فيتعارضون به حفظة الله على العباد عشية كل خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم ذلك، ليس فيه زيادة ولا نقصان ".
434
(فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته) التي من جملتها الجنة قاله البيضاوي، وهذا تفصيل لحال الفريقين، فالمؤمنون يدخلهم الله برحمته الجنة، وفسر المحلي كالزمخشري الرحمة بنفس الجنة، وهو
434
أظهر (ذلك) الإدخال في رحمته (هو الفوز المبين) أي الظاهر الواضح لخلوصه عن الأكدار والشوائب التي تخالطه.
435
(وأما الذين كفروا) فيقال لهم: (أفلم تكن آياتي) أي القرآن (تتلى عليكم) الاستفهام للتوبيخ لأن الرسل قد أتتهم وتلت عليهم آيات الله فكذبوا أو لم يعملوا بها (فاستكبرتم) أي تكبرتم عن قبولها وعن الإيمان بها.
(وكنتم قوماً مجرمين) أي من أهل الإجرام وهي الآثام والاجترام الاكتساب يقال فلان جريمة أهله إذا كان كاسبهم فالمجرم من كسب الآثام بفعل المعاصي.
(و) كنتم (إذا قيل) لكم أيها الكفار: (إن وعد الله حق) أي وعده بالبعث والحساب، والجزاء، أو بجميع ما وعد به من الأمور المستقبلة واقع لا محالة، والعامة على كسر الهمزة لأنها محكية بالقول وقرىء بفتحها وذلك مخرج على لغة سليم يجرون القول مجرى الظن مطلقاً قاله السمين.
(والساعة) قرأ الجمهور بالرفع على الابتداء أو العطف على موضع اسم إن وقرىء بالنصب على اسم إن أي القيامة (لا ريب فيها) أي في وقوعها (قلتم) استغراباً واستبعاداً وإنكاراً لها:
(ما ندري ما الساعة) أي أيُّ شيء هي (إن نظن إلا ظناً) أي نحدس حدساً، ونتوهم توهماً، قال المبرد: تقديره إن نحن إلا نظن ظناً وقيل التقدير إن نظن إلا أنكم تظنون ظناً، وقيل: إن نظن مضمن معنى نعتقد أي ما نعتقد إلا ظناً لا علماً، وقيل: إن ظناً له صفة مقدرة أي إلا ظناً بيناً وقيل إن الظن يكون بمعنى العلم والشك، فكأنهم قالوا ما لنا اعتقاد إلا الشك، ولعل ذلك قول بعضهم، تحيروا بين ما سمعوا من آبائهم وما تلي عليهم في أمر الساعة (وما نحن بمستيقنين) أي لم يكن لنا يقين بذلك ولم يكن معنا إلا مجرد الظن أن الساعة آتية.
435
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٤) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)
436
(وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) أي ظهر لهم سيئات أعمالهم على الصورة التي هي عليها أي جزاؤها (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) أحاط بهم ونزل عليهم جزاء أعمالهم بدخولهم النار
(وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) أي نترككم في النار كما تركتم العمل لهذا اليوم والنسيان أريد به الترك مجازاً إما بعلاقة السببية أو لتشبهه في عدم المبالاة، وأضاف اللقاء إلى اليوم توسعاً لأنه أضاف إلى الشيء ما هو واقع فيه كمكر الليل (ومأواكم النار) أي مسكنكم ومستقركم الذي تأوون إليه (وما لكم من ناصرين) ينصرونكم فيمنعون عنكم العذاب.
(ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً) أي ذلك العذاب العظيم، بسبب أنكم اتخذتم القرآن هزواً ولعباً (وغرتكم الحياة الدنيا) أي خدعتكم بزخارفها وأباطيلها فظننتم أنه لا دار غيرها ولا بعث ولا نشور.
(فاليوم لا يخرجون منها) أي من النار، قرأ الجمهور بضم الياء، وفتح الراء مبنياً للمفعول وقرىء بفتح الياء وضم الراء مبنياً للفاعل وهما سبعيتان والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لتحقيرهم، وللإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب (ولا هم يستعتبون) أي لا يسترضون ولا يطلب منهم الرجوع إلى طاعة الله لأنه يوم لا تقبل فيه توبة ولا تنفع فيه معذرة.
(فللَّه الحمد) أي الوصف بالجميل، على وفاء وعده في المكذبين (رب السموات ورب الأرض رب العالمين) أي خالق ما ذكر لا يستحق الحمد سواه، والعالم ما سوى الله وجمع لاختلاف أنواعه، قرأ الجمهور رب في المواضع الثلاثة بالجر على الصفة للاسم الشريف، أو البيان أو البدل وقرىء بالرفع في الثلاثة على تقدير مبتدأ أي هو رب السموات الخ.
(وله الكبرياء في السموات والأرض) أي الجلال والعظمة والسلطان، وخص السموات والأرض لظهور آثار ذلك فيهما، وهو القهر والتصرف لأنفسها لأنها صفة ذاتية للرب تعالى، وإظهارهما في موضع الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء.
(وهو العزيز الحكيم) أي العزيز في سلطانه فلا يغالبه مغالب والحكيم في كل أفعاله وأقواله، وجميع أقضيته، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تبارك وتعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار " أخرجه ابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود وابن ماجة والبيهقي.
437
خاتمة الجزء الثاني عشر
تم بعون الله تعالى الجزء الثاني عشر ويليه الجزء الثالث عشر وأوله: سورة الأحقاف.
438
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الثالث عشر
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
1
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
2
فتح البيان في مقاصد القرآن
3
الجزء الثالث عشر
ويشتمل على:
- سورة الأحقاف
- سورة محمد
- سورة الفتح
- سورة الحجرات
- سورة ق
- سورة الذاريات
- سورة الطور
- سورة النجم
- سورة القمر
- سورة الرحمن
- سورة الواقعة
- سورة الحديد
5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة الأحقاف
(وهي أربع أو خمس وثلاثون آية)
وهذا الاختلاف مبني على أن حم آية أو لا وهي مكية، قال القرطبي: في قول جميعهم، قال ابن عباس وابن الزبير: نزلت بمكة، وقال المحلي: إلا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الآية وإلا (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ) وإلا (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) الثلاث آيات، يعني آخرها قوله (إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وعن ابن مسعود قال: " أقرأني رسول الله - ﷺ - سورة الأحقاف وأقرأها آخر فخالف قراءته، فقلت من أقرأكها؟ قال: رسول الله - ﷺ - فقلت والله لقد أقرأني رسول الله - ﷺ - غير ذا فأتينا رسول الله - ﷺ - فقلت: يا رسول الله ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال بلى، وقال الآخر ألم تقرئني كذا وكذا قال بلى فتعمر وجه رسول الله - ﷺ - فقال ليقرأ كل واحد منكما ما سمع فإنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف، والأحقاف واد باليمن كانت فيه منازل عاد وقيل جمع حقف وهو التل من الرمل.
7

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (٦)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

9
Icon