" بسم الله " تشير إلى سموه في أزله، وعلوه في أبده، وسموه في أزله نفي البداية عنه بحق القدم، وعلوه في أبده نفي الانتهاء عنه باستحالة العدم ؛ فمعرفة سموه توجب للعبد سموا، ومعرفة علوه توجب للعبد علوا.
ﰡ
قضينا لك قضاءَ بَيَّناً، وحكمنا لك َ بتقويةِ دينِ الإسلام، والنصرةِ على عدوِّك، وأكرمناكَ بفتح ما انغلق على قلبِ مَنْ هو غيرك - مِنْ قِبْلِك - بتفصيلِ شرائعِ الإسلام، وغير ذلك من فتوحات قلبه صلوات الله عليه.
نزلت الآيةُ في فتحِ مكة، ويقال في فتح الحُديبية.
ويقال : هديناك إلى شرائع الإسلام، وَيَسَّرْنا لك أمورَ الدين.
كلا القسمين - المتقدِّم والمتأخِّر - كان قبلَ النبوة.
ويقال :﴿ مَا تَقَدَّمَ ﴾ من ذَنْبِ آدمِ بحُرْمتك، ﴿ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ : من ذنوب أُمَّتك.
وإذا حُمِلَ على تَرْك الأوْلَى فقد غفر له جميع ما فعل من قبيل ذلك، قبل النبوة وبعدها.
ولمَّا نزلت هذه الآية قالوا : هنيئاً لك ! فأنزل الله تعالى :﴿ لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾. . . ويقال. حسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقربين.
﴿ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾.
يتم نعمته عليك بالنبوة، وبوفاء العاقبة، ويبسط الشريعة، وبشفاعته لأمته، وبرؤية الله غداً، وبإظهار دينه على الأديان، وبأنه سيد ولد آدم، وبأنه أقْسَمَ بحياتِهِ، وخصَّه بالعيان. وبسماعِ كلامه سبحانه ليلةَ المعراج، وبأن بَعَثَه إلى سائِرِ الأمم. . وغير ذلك من مناقبه.
﴿ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ يثبتك على الصراط المستقيم، ويزيدك هدايةً على هداية، ويهدي بك الخَلْقَ إلى الحقِّ.
ويقال : يهديك صراطاً مستقيماً بترك حَظِّك.
ويقال : ينصرك على هواك ونَفْسِك، وينصرك بحُسْنِ خُلُقِك ومقاساةِ الأذى من قومك.
ويقال نصراً عزيزاً : مُعِزَّاً لك ولمن آمن بك.
وهكذا اشتملت هذه الآية على وجوهٍ من الأفضال أكْرَمَ بها نبيَّه - صلى الله عليه وسلم- وخصَّه بها من الفتح والظَّفَرِ على النَّفْس والعدو، وتيسير ما انغلق على غيره، والمغفرة، وإتمام النعمة والهداية والنصرة. . ولكلٍّ من هذه الأشياء خصائصُ عظيمةٌ.
السكينةُ ما يسكن إليه القلبُ من البصائر والحُجَج، فيرتقي القلبُ بوجودِها عن حدِّ الفكرة إلى رَوْحِ اليقين وثَلَج الفؤاد، فتصير العلومُ ضروريةٌ. . . وهذا للخواصَّ.
فأمّا عوامُّ المسلمين فالمرادُ منها : السكون والطمأنينة ُواليقين.
ويقال : من أوصافِ القلب في اليقين المعارف والبصائر والسكينة.
وفي التفاسير : السكينة ريح هفَّافة. وقالوا : لها وجهٌ كوجه الإنسان. وقيل لها جناحان.
﴿ لِيَزْدَادُواْ إِيَماناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ﴾.
أي يقيناً مع يقينهم وسكوناً مع سكونهم. تطلع أقمارُ عين اليقين على نجوم علم اليقين، ثم تطلع شمسُ حقِّ اليقين على بَدْرِ عين اليقين.
﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾.
﴿ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ وقيل : هي جميع القلوب الدالَّةِ على وحدانية الله.
ويقال : مُلْكُ السماواتِ والأَرضِ وما به من قوىً تقهر أعداءَ اللَّهِ.
ويقال : هم أنصارُ دينه.
ويقال : ما سلَّطه الحقُّ على شيءٍ فهو من جنوده، سواء سلَّطَه على ولِّيه في الشدة والرخاء، أو سلَّطَه على عدوِّه في الراحة والبلاء.
يَسْتَرُ ذنوبَهم ويحطها عنهم. . وذلك فوزٌ عظيم، وهو الظَّفَرُ بالبغية.
وسُؤْلُ كلِّ أحدٍ ومأمولُه، ومُبْتغاه ومقصودُه مختلِفٌ. . . وقد وَعَدَ الجميعَ ظَفَراً به.
يعذبهم في الآجل بعذابهم وسوء عقابهم.
و﴿ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ : هو ما كان بغير الإذن ؛ ظنوا أَنَّ الله لا ينصر دينَه ونَبيَّه عليه السلام.
﴿ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ﴾ : عاقبته تدور عليهم وتحيقُ بهم.
﴿ وَلَعَنَهُمْ ﴾ : أبعدهم عن فضله، وحقت فيهم كلمتُه، وما سبقت لهم- من الله سبحانه - قِسْمِتُه.
﴿ أَرْسَلْناكَ شَاهِداً ﴾ : على أُمَّتِكَ يوم القيامة. ويقال : شاهداً على الرُّسُلِ والكتب.
ويقال : شاهداً بوحدانيتنا وربوبيتنا. ويقال : شاهداً لأمتك بتوحيدنا. ﴿ وَمُبَشِّراً ﴾ : لهم مِنَّا بالثواب، ﴿ وَنَذِيراً ﴾ للخَلْق ؛ زاجِراً ومُحَذِّراً من المعاصي والمخالفات.
ويقال : شاهداً مِنْ قِبَلنا، ومُبَشِّراً بأمرنا، ونذيراً من لَدُنَّا ولنا ومِنَّا.
قرئ :" ليؤمنوا " بالياء ؛ لأن ذكر المؤمنين جرى، أي ليؤمن المؤمنون بالله ورسوله ويعزروه وينصروه أي الرسول، ويوقروه : أي : يُعَظِّموا الرسولَ. وتُسَبِّحوه : أي تُسَبِّحوا الله وتنزهوه بكرة وأصيلاً.
وقرئ :" لتؤمنوا " - بالتاء - أيها المؤمنون بالله ورسوله وتُعَزروه - على المخاطَبة. وتعزيرُه يكون بإيثاره بكلِّ وجه على نَفْسك، وتقديمِ حُكْمهِ على حُكمِك. وتوقيرُه يكون باتباع سُنَّتِه، والعلم بأنه سيِّدُ بَريَّته.
وهذه البيعة هي بيعة الرضوان بالحديبية تحت سَمُرَة.
وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعث عثمانَ رضي الله عنه إلى قريش ليُكلِّمَهم فأرجفوا بقَتْلِه. وأتى عروة بن مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال :
جئتَ بأوشاب الناس لتفضَّ بَيْضَتَكَ بيدك، وقد استعدت قريش لقتالك، وكأنِّي بأصحابك قد انكشفوا عنك إذا مسَّهم حرُّ السلاح ! فقال أبو بكر : أتظن أنَّ نسلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟
فبايعهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أن يُقاتِلوا وألا يهربوا، فأنزل الله تعالى :﴿ إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ﴾ : أي عقْدُك عليهم هو عقد الله.
قوله جلّ ذكره :﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيِهمْ ﴾.
أي ﴿ يَدُ اللَّهِ ﴾ : في المنة عليهم بالتوفيق والهداية :﴿ فَوْقَ أَيْدِيِهمْ ﴾ بالوفاء حين بايعوك.
ويقال : قدرة الله وقوته في نصرة دينه ونصرة نبيِّه صلى الله عليه وسلم فوقَ نَصْرِهم لدين الله ولرسوله.
وفي هذه الآية تصريحٌ بعين الجمع كما قال :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [ الأنفال : ١٧ ].
قوله جلّ ذكره :﴿ فَمَنَ نَّكَثَ فإِِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾.
أي عذابُ النكثِ عائدٌ عليه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾.
أي من قام بما عاهد الله عليه على التمام فسيؤتيه أجراً عظيماً.
وإذا كان العبد بوصف إخلاصِه، ويعامِل اللَّهَ في شيءٍ هو به متحقِّقٌ، وله بقلبه شاهدٌ فإنَّ الوسائطَ التي تُظْهِرُهاَ أماراتُ التعريفاتِ تجعله محواً في أسرارِه. . . والحكم عندئذ راجعٌ.
لمَّا قَصَدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية تخلَّفَ قومٌ من الأعراب عنه. قيل : هم أسلم وجهينة وغفار ومزينة وأشجع، وقالوا :﴿ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ﴾ وليس لنا مَنْ يقوم بشأننا وقالوا : انتظروا ماذا يكون ؛ فما هم من قريش إلاَّ أكَلَهُ رأسٍ. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوه مُعْتَذِرين بأنه لم يكن لهم أحدٌ يقوم بأَمورهم ! وقالوا : استغفر لنا.
فأطلعه الله – سبحانه - على كذبهم ونفاقهم ؛ وأنهم لا يقولون ذلك إخلاصاً، وعندهم سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، فإنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعَا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَا ﴾.
فضَحَهم. ويقال : ما شغل العبد عن الله شُؤمٌ عليه.
ويقال : عُذْرُ المماذِقِ وتوبةُ المنافِق كلاهما ليس حقائق.
حسبتم أن لن يرجعَ الرسول والمؤمنون من هذه السفرة إلى أهليهم أبداً، وزَيَّنتْ لكم الأماني ألا يعودوا، وأنَّ الله لن ينصرهم. ﴿ وَكُنتُمْ قَوْمَا بُوراً ﴾ أي هالكين فاسدين.
ويقال : إنَّ العدوَّ إذا لم يقدر أن يكيدَ بيده يتمنَّى ما تتقاصر عنه مُكنتُهُ، وتلك صفةُ كلِّ عاجز، ونعتُ كلّ لئيم، ثم إن الله – سبحانه - يعكس ذلك عليه حتى لا يرتفع مراده
﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ [ فاطر : ٤٣ ].
ويقال : من العقوبات الشديدة التي يعاقِبُ اللَّهُ بها المُبْطِل أنْ يتصوَّرَ شيئاً يتمنَّاه يوطّن نَفَسْه عليه لفرط جَهْله. ويُلقى الحقُّ في قلبه ذلك التمني حتى تسول له نفسهُ أن ذلك كالكائن. . ثم يعذبه الله بامتناعه.
وما هو آتٍ فقريب. . . وإنَّ الله ليرخي عنانَ الظَّلَمةِ ثم لا يفلتون من عقابه. وكيف - وفي الحقيقة - ما يحصل منهم هو الذي يجريه عليهم ؟
يغفرُ - وليس له شريك يقول له : لا تفعل، ويعذّب من يشاء - وليس هناك مانعٌ عن فعله يقول له : لا تفعل.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لما رجعوا من الحديبية وعدهم اللَّهُ خيبرَ، وأنَّ فيها سيظفرُ بأعدائه، فلمَّا هَمَّ بالخروج أراد هؤلاء المخلفون أن يتبعوه لما علموا في ذلك من الغنيمة، فقال النبي صلى الله عليه ويسلم :" إنما يخرج معي إلى خيبر من خرج إلى الحديبية والله بذلك حكم ألا يخرجوا معنا ".
فقال المتخلفون : إنما يقول المؤمنون ذلك حَسداً لنا ؛ وليس هذا من قول الله ! فأنزل اللَّهُ تعالى ذلك لتكذيبهم، ولبيان حكمه ألا يستصحبَهم فهم أهل طمع، وكانت عاقبتُهم أنهم لم يجدوا مرادَهم ورُدُّوا بالمذلة وافتضح أمرهم.
جاء في التفاسير أنهم أهلُ اليمامة أصحاب مسيلمة - وقد دعاهم أبو بكر وحاربهم، فالآية تدل على إمامته. . . وقيل هم أهل فارس - دعاهم عمر بن الخطاب وحاربهم ؛ فالآيةُ تدل عل صحة إمامته. وصحة إمامته تدل على صحة إمامة أبي بكر. ﴿ أُوْلِي بَأسٍ شَدِيدٍ ﴾ أولى شدَّة. فإنْ أطعتُم استوجبتم الثواب، وإن تخلَّفْتم استحقَقْتُم العقاب. ودلت الآيةُ على أن يجوز أن تكون للعبد بدايةٌ غيرُ مُرضية ثم يتغير بعدها إلى الصلاح - كما كان لهؤلاء وأنشدوا :
إذا فَسَدَ الإنسانُ بعد صلاحه | فَرِّج له عَوْدَ الصلاح. . لعلَّه |
وهؤلاء أصحاب الأعذار. . . رفع عنهم الحَرَج في تخلفهم عن الوقعة في قتال المشركين.
وكذلك مَنْ كان لهُ عذرٌ في المجاهدة مع النفس. " فإنَّ الله يحُبُّ أن تؤتى رُخصَهُ كما يحب أن تؤتى عزائمه ".
هذا بيعة الرضوان، وهي البيعة تحت الشجرة بالحديبية، وسميت بيعة الرضوان لقوله تعالى :﴿ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عِنِ. . . الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وكانوا ألفاً وخمسمائة وقيل وثلاثمائة وقيل وأربعمائة. وكانوا قصدوا دخولَ مكة، فلما بلغ ذلك المشركين قابلوهم صادِّين لهم عن المسجد الحرام مع أنه لم يكن خارجاً لحرب، فقصده المشركون، ثم صالحوه على أن ينصرفَ هذا العام، ويقيم بها ثلاثاً ثم يخرج، ( وأن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا ) وكان النبي قد رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، فبشر بذلك أصحابه، فلما صدهم المشركون خامر قلوبَهم، وعادت إلى قلوب بعضهم تهمةٌ حتى قال الصَّدِّيقُ : لم يَقُلْ العام ! فسكنت قلوبهم بنزول الآية ؛ لأن الله سبحانه علم في قلوبهم من الاضطراب والتشكك. فأنزل السكينة في قلوبهم. وثبَّتهم باليقين. ﴿ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ﴾ هو فتحُ خيبر بعد مدة يسيرة، وما حصلوا عليه من مغانم كثيرةٍ من خيبر. وقيل ما يأخذونه إلى يوم القيامة.
وفي الآية دليلٌ على أنه قد تخطر ببال الإنسان خواطرُ مُشكِّكة، وفي الرَّيب موقعة، ولكن لا عبرة بها ؛ فإنّ الله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً لازم التوحيدُ قلبَه، وقارن التحقيق سِرَّه فلا يضرُّه كيدُ الشيطان، قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّن الشَّيَطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٢٠١ ].
﴿ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ﴾ لما خرجوا من المدينة حرسهم اللَّهُ، وحفظ عيالهم، وحمى بَيْضَتهم حين هبَّ اليهود في المدينة بعد خروج المسلمين، فمنعهم اللَّهُ عنهم.
أو يقال : كفَّ أيدي الناس من أهل الحديبية.
﴿ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾.
لتكون هذه آيةٌ للمؤمنون وعلامةٌ يَسْتدلُّون بها على حراسة الله لهم.
﴿ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ : في التوكل على الله والثقة به.
ويقال : كفُّ أيدي الناس عن العبد هو أنْ يَرْزُقَه من حيث لا يحتسب، لئلا يحتاجَ إلى أن يتكفَّفَ الناس.
ويقال : أنْ يَرْفَعَ عنه أيدي الظَّلَمة.
ويقال : ألا تحمله المطالبةُ بسبب كثرة العيال ونفقتهم الكبيرة على الخطر بدينه ؛ فيأخذ من الأشياء - برخصة التأويل - ما ليس بطيِّبٍ.
قيل : فتح الروم وفارس. وقيل : فتح مكة.
وكان الله على كل شيءٍ قديراً : فلا تُعلِّقوا بغيره قلوبكم.
يعني : خيبر وأسد وغطفان وغيرهم - لو قاتلوكم لانهزموا، ولا يجدون من دون الله ناصراً.
أي سُنَّةُ اللَّهِ خذلانُهم ولن تَجد لسنة الله تحويلاً.
قيل إن سبعين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون قتله ( فأخذناهم سِلْماً فاستحييناهم ) فأنزل اللَّهُ هذه الآيةَ في شأنهم.
وقيل أخذ اثني عشر رجلاً من المشركين - بلا عَهْدٍ - فَمنَّ عليهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم وقيل : هم أهل الحديبية كانوا قد خرجوا لمنع المسلمين، وحصل ترامي الأحجار بينهم ؛ فاضطرهم المسلمون إلى بيوتهم، فأنزل اللَّهُ هذه الآية يمن عليهم حيث كف أيدي بعضهم عن بعض عن قدرة المسلمين، لا من عجزٍ ؛ فأما الكفار فكفُّوا أيديهم رُعْباً وخوفاً ؛ وأمَّا المسلمون فَنَهياً مِنْ قِبَلِ الله، لما في أصلابهم من المؤمنين - أراد الله أن يخرجوا، أو لِمَا عَلِمَ أن قوماً منهم يؤمنون.
والإشارة فيه : أن من الغنيمة الباردة والنعم السنية أن يَسْلَم الناسُ منك، وتسلم منهم. وإن الله يفعل بأوليائه ذلك، فلا من أَحد عليهم حَيف، ولا منهم على أحد حيفٌ ولا حسابٌ ولا مطالبة ولا صلحٌ ولا معاتبة، ولا صداقة ولا عداوة. وكذا من كان بالحق - وأنشدوا :
فلم يبْقَ لي وقتٌ لِذكرِ مُخَالِفٍ | ولم يبق لي قلبٌ لذكر موافق |
﴿ كَفَرُواْ ﴾ وجحدوا، ﴿ وَصَدُّكُمْ ﴾ ومنعوكم عن المسجد الحرام سنة الحديبية.
﴿ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً ﴾ : أي منعوا الهَدْيَ أن يبلغَ مَنحرَه، فمعكوفاً حالٌ من الهدي أي محبوساً.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق تلك السَّنَة سبعين بَدَنَةٌ.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةُ بِغَيْرِ عِلْمٍ لّيُدخِلَ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾.
لو تسلطتم عليهم لأصابتهم معرة ومضرَّة منكم بغير علم لَسَّلْطناكم عليهم ولأظفرناكم بهم. وفي هذا تعريفٌ للعبد بأن أموراً قد تنغلق وتَتَعَسّر فيضيق قلب الإنسان. . ولله في ذلك سِرُّ، ولا يعدم ما يجري من الأمر أن يكون خيراً للعبد وهو لا يدري. . . كما قالوا :
كم مرة حفَّت بك المكاره | خير لك اللَّهُ. . . وأنت كاره |
يعني الأنفة ؛ أي دَفَعْتهم أنفةُ الجاهلية أن يمنعوكم عن المسجد الحرام سَنَةَ الحديبية، فأنزل اللَّهُ سكينته في قلوب المؤمنين حيث لم يقابلوهم بالخلاف والمحاربة، ووقفوا واستقبلوا الأمر بالحِلْم.
﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ وهي كلمة ُ التوحيد تَصْدُرُ عن قلبِ صادق : فكلمةُ التقوى يكون معها الاتقاءُ من الشَّرْك.
﴿ وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا ﴾ حسب سابق حُكْمِه وقديم علمه. . . ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيء عَلِيماً ﴾.
ويقال : الإلزامُ في الآية هو إلزامُ إكرامٍ ولطف، لا الإلزام إكراهٍ وعُنْفٍ ؛ وإلزامُ برِّ لا إلزام جبر. . .
وكم باسطين إلى وَصْلنا | أكفهمو. . لم ينالوا نصيبا ! |
ويقال : هي أن تكون لك حاجةٌ فتسأل الله ولا تُبديها للناس.
ويقال : هي سؤالك من الله أن يحرُسَك من المطامع.
أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه ؛ صدقه فيما أره من دخول مكة ﴿ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ﴾ كذلك أراه لما خرج إلى الحديبية وأَخبر أصحابه. فوطَّن أصحابه نفوسهم على دخول مكة في تلك السنة. فلمَّا كان من أمر الحديبية عاد إلى قلوب بعض المسلمين شيء، حتى قيل لهم لم يكن في الرؤيا دخولهم في هذا العام، ثم أَذن الله في العام القابل، فأنزل الله :﴿ لَّقَدَ صََدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ ﴾ فكان ذلك تحقيقاً لما أراه، فرؤياه صلوات الله حق ؛ لأن رؤيا الأنبياء حق.
وكان في ذلك نوعُ امتحانٍ لهم :﴿ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ ﴾ أنتم من الحكمة في التأخير.
وقوله :﴿ إِن شَاءَ اللَّهُ ﴾ معناه إذ شاء الله كقوله :﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾.
وقيل قالها على جهة تنبيههم إلى التأدُّب بتقديم المشيئة في خطابهم.
وقيل يرجع تقديم المشيئة إلى : إن شاء الله آمنين أو غير آمنين.
وقيل : يرجع تقديم المشيئة إلى دخول كلِّهم أو دخول بعضهم ؛ فإنْ الدخول كان بعد سنة، ومات منهم قومٌ.
أرسل رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الحنفي، وشريعة الإسلام ليظهره على كل ما هو دين ؛ فما من دينٍ لقوم إلا ومنه في أيدي المسلمين سِرُّ ؛ وللإسلام العزة والغلبة عليه بالحجج والآيات.
وقيل : ليظهره وقت نزول عيسى عليه السلام.
وقيل : في القيامة حيث يظهر الإسلامُ على كل الأديان.
وقيل : ليظهره على الدين كله بالحجة والدليل.
﴿ أَشِدَّاءُ ﴾ جمع شديد، أي فيهم صلابةٌ مع الكفار.
﴿ رُحَمَاءُ ﴾ جمع رحيم، وصَفَهَم بالرحمة والتوادِّ فيما بينهم.
﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ﴾.
تراهم راكعين ساجدين يطلبون من الله الفضل والرضوان.
﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾.
أي علامة التخشع التي على الصالحين.
ويقال : هي في القيامة يوم تَبْيَضُّ وجوهٌ، وأنهم يكونون غداً محجلين.
وقد قال صلى الله عليه وسلم :" من كثرت صلاته بالليل حَسُنَ وجههُ بالنهار ".
ويقال في التفسير :" معه " أبو بكر، و﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ﴾ عمر ؛ و﴿ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ عثمان، و﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ﴾ عليُّ رضي الله عنهم.
وقيل : الآيةُ عامةٌ في المؤمنين.
﴿ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ فَئَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾.
هذا مثلهم في التوراة، وأما مثلهم في الإنجيل فكزرع أخرج شطأه أي : فراخه.
يقال : أشطأ الزرعُ إذا أخرج صغاره على جوانبه. ﴿ فَئَازَرَهُ ﴾ أي عاونه.
﴿ فَاسْتَغْلَظَ ﴾ أي غلظُ واستوى على سوقه ؛ وآزرت الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض. يعجب هذا الزرعُ الزرَّاع ليغيظ بالمسلمين الكفار ؛ شَبَّهَ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالزرع حين تخرج طاقة واحدة ينبت حولها فتشتد، كذلك كان وحده في تقوية دينه بمن حوله من المسلمين.
فمَنْ حمل الآية على الصحابة : فمن أبغضهم دخل في الكفر، لأنه قال :﴿ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾ أي بأصحابه الكفارَ. ومَنْ حمله على المسلمين ففيه حُجَّة على الإجماع، لأنَّ من خالف الإجماع - فالله يغايظ به الكفارَ- فمخالفُ الإجماع كافرٌ.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾.
وَعد المؤمنين والمؤمنات مغفرة للذنوب، وأجراً عظيماً في الجنة فقوله :" منهم " للجنس أو للذين ختم لهم منهم بالإيمان.