تفسير سورة يوسف

التفسير القيم
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

هذا الكلام متضمن لوجوه من المكر :
أحدها : قولهن ﴿ امرأة العزيز تراود فتاها ﴾ ولم يسموها باسمها، بل ذكروها بالوصف الذي ينادى عليها بقبيح فعلها بكونها ذات بعل، فصدور الفاحشة منذات الزوج أقبح من صدورها ممن لا زوج لها.
الثاني : أن زوجها عزيز مصر، ورئيسها، وكبيرها. ذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها.
الثالث : أن الذي تراوده مملوك لا حر، وذلك أبلغ في القبح.
الرابع : أنه فتاها الذي هو في بيتها، وتحت كنفها. فحكمه حكم أهل البيت. بخلاف من تطلب ذلك من الأجنبي البعيد.
والخامس : أنها هي المراودة الطالبة.
السادس : أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ، حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها.
السابع : أن في ضمن هذا : أنه أعف منها وأبر، وأوفى، حيث كانت هي المراودة الطالبة، وهو الممتنع، عفافا وكرما وحياء، وهذا غاية الذم لها.
الثامن : أنهن أتين بفعل المراودة، بصيغة المستقبل الدالة على الاستمرار.
والوقوع حالا واستقبالا، وأن هذا شأنها، ولم يقلن : راودت فتاها. وفرق بين قولك، فلان أضاف ضيفا، وفلان يقري الضيف ويطعم الطعام، ويحمل الكل فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته.
التاسع : قولهن :﴿ إنا لنراها في ضلال مبين ﴾ أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح، فنسبن الاستقباح إليهن ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى ولا يكدن يرين ذلك قبيحا، كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك، فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه، ولا يحسن معاونتها عليه.
العاشر : أنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط، والطلب المفرط، فلم تقتصد في حبها، ولا في طلبها :
أما العشق فقولهن :﴿ قد شغفها حبا ﴾ أي وصل حبه إلى شغاف قلبها.
وأما الطلب المفرط فقولهن :﴿ تراود فتاها ﴾ والمراودة : الطلب مرة بعد مرة فنسبوها إلى شدة العشق، وشدة الحرص على الفاحشة.
فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه، فهيأت لهن متكأ، ثم أرسلت إليهن، فجمعتهن وخبأت يوسف عليه السلام عنهن، وقيل : إنها جملته، وألبسته أحسن ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة. فلم يرعهن إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة، فراعهن ذلك المنظر البهي، وفي أيديهن مدى يقطعن بها ما يأكلن، فدهشن حتى قطعن أيديهن، وهن لا يشعرن.
وقد قيل : إنهن أبن أيديهن، ولكن الظاهر خلاف ذلك، وإنما تقطيعهن أيديهن : جرحها، وشقها بالمدى، لدهشهن بما رأين، فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي، وكانت هذه في النساء غاية في المكر.
إنما عبدوا المسميات، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة، كاللات والعزى، وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة، فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها. وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى، فما عبدوا إلا أسماء، لا حقائق لمسمياتها، وهذا كمن سمى قشور البصل لحما، وأكلها، فيقال : ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه، وكمن سمى التراب خبزا وأكله، يقال له : ما أكلت إلا اسم الخبز، بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم، فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه، وما الحكمة ثم إلا مجرد الاسم.
فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى.
فإن قيل : فكيف قال وقت ظهور براءته :﴿ وما أبرئ نفسي ﴾ ؟.
قيل : هذا قد قاله جماعة من المفسرين، وخالفهم في ذلك آخرون أجل منهم.
وقالوا : إن هذا من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف عليه السلام.
[ من قال : إن هذا القول من قول امرأة العزيز ]
والصواب معهم من وجوه :
أحدها : أنه متصل بكلام المرأة، وهو قولها :﴿ الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين * ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين * وما أبرئ نفسي ﴾ [ يوسف : ٥١. ٥٣ ] ومن جعله من قوله فإنه يحتاج إلى إضمار قول لا دليل عليه في اللفظ بوجه ما. والقول في مثل هذا لا يحذف، لئلا يوقع في اللبس، فإن غايته : أن يحتمل الأمرين. فالكلام الأول أولى به قطعا.
والثاني : أن يوسف عليه السلام لم يكن حاضرا وقت مقالتها هذه، بل كان في السجن لما تكلمت بقولها :﴿ الآن حصحص الحق ﴾ والسياق صحيح صريح في ذلك.
فإنه لما أرسل إليه الملك يدعوه قال للرسول :﴿ ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ﴾ [ يوسف : ٥٠ ]. فأرسل إليهم الملك وأحضرهن، وسألهن، وفيهن امرأته، فشهدن ببراءته ونزاهته في غيبته، ولم يمكنهن إلا قول الحق، فقال النسوة :﴿ حاش لله ما علمنا عليه من سوء ﴾ [ يوسف : ٥١ ]، وقالت امرأة العزيز :﴿ أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ﴾.
فإن قيل : لكن قوله :﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ﴾ الأحسن أن يكون من كلام يوسف عليه السلام أي إنما كان تأخيري عن الحضور مع رسوله ليعلم الملك أني لم أخنه في امرأته في حال غيبته، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، ثم إنه قال :﴿ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي إن ربي غفور رحيم ﴾ وهذا من تمام معرفته صلى الله عليه وسلم بربه ونفسه. فإنه لما أظهر براءته ونزاهته مما قذف به أخبر عن حال نفسه، وأنه لا يزكيها ولا يبرئها، فإنها أمارة بالسوء، لكن رحمة ربه وفضله هو الذي عصمه، فرد الأمر إلى الله بعد أن أظهر براءته.
قيل : هذا وإن كان قد قاله طائفة فالصواب أنه من تمام كلامها، فإن الضمائر كلها في نسق واحد يدل عليه، وهو قول النسوة :﴿ ما علمنا عليه من سوء ﴾ وقول امرأة العزيز :﴿ أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ﴾ هذه خمسة ضمائر بين بارز ومستتر، ثم اتصل بها قوله :﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ فهذا هو المذكور أولا بعينه، فلا شيء يفصل الكلام عن نظمه، ويضمر فيه قول لا دليل عليه.
فإن قيل : فما معنى قولها :﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ ؟
قيل : هذا من تمام الاعتذار، قرنت الاعتذار بالاعتراف، فقالت ذلك، أي قولي هذا وإقراري ببراءته، ليعلم أني لم أخنه بالكذب عليه في غيبته، وإن خنته في وجهه في أول الأمر، فالآن يعلم أني لم أخنه في غيبته، ثم اعتذرت عن نفسها بقولها :﴿ وما أبرئ نفسي ﴾، ثم ذكرت السبب الذي لأجله لم تبرئ نفسها، وهي أن النفس أمارة بالسوء.
فتأمل ما أعجب أمر هذه المرأة، أقرت بالحق واعتذرت عن محبوبها، ثم اعتذرت عن نفسها، ثم ذكرت السبب الحامل لها على ما فعلت، ثم ختمت ذلك بالطمع في مغفرة الله ورحمته، وأنه إن لم يرحم عبده وإلا فهو عرضة للشر.
فوازن بين هذا وبين تقدير كون هذا الكلام كلام يوسف عليه السلام لفظا ومعنى.
وتأمل ما بين التقديرين من التفاوت، ولا يستبعد أن تقول المرأة هذا وهي على دين الشرك، فإن القوم كانوا يقرون بالرب سبحانه وتعالى وبحقه، وإن أشركوا معه غيره، ولا تنس قول سيدها لها في أول الحال :﴿ واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ﴾ [ يوسف : ٢٩ ].
جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستسلام للرب وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة غيره سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام اجل غايات العبد، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء.
وقال تعالى :﴿ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ] وسواء كان المعنى : أنا ومن اتبعني يدعو إلى الله على بصيرة، أو كان الوقف عند قوله ( ادعو إلى الله ) ثم يبتدئ ﴿ على بصيرة أنا ومن اتبعني ﴾.
فالقولان متلازمان. فإنه أمره سبحانه أن يخبر أن سبيله الدعوة إلى الله. فمن دعا إلى الله تعالى. فهو على سبيل رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو على بصيرة، وهو من أتباعه. ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله، ولا هو على بصيرة، ولا هو من أتباعه. فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم، وهم خلفاء الرسل في أممهم. والناس تبع لهم. والله سبحانه قد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه وضمن له حفظه وعصمته من الناس. وهكذا المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه، وتبليغهم له، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه ولو آية، ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثا.
وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم. جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه.
وهم كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته التي ذكرها ابن وضاح في كتاب «الحوادث والبدع » له، إذ قال :«الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بكتاب الله أهل العمى، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه. وضال تائه قد هدوه، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد. فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح اثر الناس عليهم. يقبلونهم في سالف الدهر، وإلى يومنا هذا. فما نسيهم ربك. وما كان ربك نسيا، جعل قصصهم هدى، وأخبر عن حسن مقالتهم، فلا تقصر عنهم، فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة ».
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :«إن لله عند كل بدعة كيد بها للإسلام وليا من أوليائه يذب عنها، وينطق بعلاماتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله ».
ويكفي في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي ولمعاذ رضي الله عنه أيضا :«لأن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم »، وقوله صلى الله عليه وسلم :«من أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين - وضم بين إصبعيه »، وقوله صلى الله عليه وسلم :«من دعا إلى الهدى فأتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة ».
فمتى يدرك العامل هذا الفضل العظيم. والحظ الجسيم بشيء من عمله. وإنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
قال الفراء : وجماعة ﴿ ومن اتبعني ﴾ معطوف على الضمير في «أدعو » يعني ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو، وهذا قول الكلبي، قال : حق على كل من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة.
ويقوى هذا القول من وجوه كثيرة :
قال ابن الأنباري : ويجوز أن يتم الكلام عند قوله :﴿ إلى الله ﴾ ثم يبتدئ بقوله :﴿ على بصيرة أنا ومن اتبعني ﴾ فيكون الكلام على قوله جملتين، أخبر في أولاهما أنه يدعو إلى الله، وفي الثانية : بأنه من أتباعه على بصيرة، والقولان متلازمان فلا يكون الرجل من أتباعه حقا حتى يدعو إلى ما دعا إليه ويكون على بصيرة. وقول الفراء أحسن وأقرب إلى الفصاحة والبلاغة.
وإذا كانت الدعوة إلى الله اشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها : فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد أقصى يصل إليه السعي، ويكفي هذا في شرف العلم : أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء.
Icon