ﰡ
مكية حكاه القرطبي في تفسيره عن الحسن وعكرمة إلا آيتين منها قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ إلى قوله: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية.
وهي امتداد لما في سورة الرعد، وتوضيح لما أجمل فيها أو اختصار لما وضح في سابقتها، ألا ترى أن كلا منهما تكلم عن القرآن وعن الآيات الكونية، وإثبات البعث.
وضرب الأمثال للحق والباطل، والكلام على مكر الكفار وعاقبته إلى آخر ما في السورة.
نعمة إنزال القرآن وإرسال النبي وأثرهما [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتيسيره وتسهيله وَوَيْلٌ الويل الهلاك والعذاب يَسْتَحِبُّونَ يؤثرونها لمحبتهم لها يَبْغُونَها عِوَجاً يطلبون لها زيغا وميلا.
استفتاح لسورة إبراهيم موافق لأغلب السور المكية التي بدأت بذكر حروف تنطق بمسمياتها هكذا ألف لام. را، وفي السورة ذكر للقرآن وإثبات للتوحيد والبعث، وذكر لبعض القصص.
المعنى:
هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد لتخرج الناس من ظلمات الكفر والجهل والضلالة إلى نور الإيمان والعلم والهداية، أخرج القرآن الكريم بما فيه من أصول الحكم الصحيح السليم، وأسس العمران والحياة الكريمة والمدنية الفاضلة التي هي أمنية الفلاسفة قديما، وحاول الإتيان بها الأنبياء والرسل السابقون، أخرج الناس من الظلمات التي كانت تغشاهم والجهالات والضلالات إلى نور الدين والحق والفضيلة والمجتمع الكامل!.
أخرجتهم يا محمد بدعوتك وهدايتك وبشارتك وإنذارك بأمر الله وإذنه وتسهيله وتيسيره ولطفه وتوفيقه، وأسند الفعل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه الداعي والهادي إلى ذلك، أخرجتهم من الظلمات إلى النور الذي هو صراط الله العزيز الحميد، وصراطه شرعه لعباده وطريقه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا نقص لأنه صراط العزيز الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، الكامل في استحقاق الحمد والمحمود في الأرض وفي السماء الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف ١٥٨] ثم توعد من لم يعترف بربوبيته ووصفه بهذه الأوصاف، وكفر بالقرآن والوحى فقال: الويل والهلاك للكافرين الجاحدين.. يولولون ويضجون من العذاب الشديد الذي صاروا فيه، الكافرون الذين يستحبون ويفضلون الحياة الدنيا على الآخرة بل رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وهم عن الآخرة هم عنها غافلون، وهم الذين يصدون عن سبيل الله كل من أراد الإسلام، ويصرفونه عنه، ويبغون لسبيل الله عوجا وميلا، لموافقة أهوائهم وأغراضهم.
ولما من على الناس بإنزال القرآن وهدايته وأثره بين لهم أن من كمال النعمة أن كل رسول يكون بلغة قومه.
وما أرسلنا من رسول إلا كان بلسان قومه وبلغتهم ليبين لهم شرعه ويوضحه بلسانهم ولهجتهم وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ «١» وذلك حتى لا يكون على الله حجة، وهنا يظهر سؤال: إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل للناس جميعا قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «٢» فإذا قطعت الحجة عند العرب فغيرهم يقولون: لم نفهم ما قال، ولم نع كتابه، وهلا نزل بالألسنة كلها حتى يتسنى خطابه للكل.
والجواب: أن نزوله بكل لغة لا حاجة له لأن الترجمة تكفى في ذلك ولو كتب بكل لغة لتعددت أساليبه وألفاظه وتعددت طبعا معانيه، وذلك يؤدى إلى الطعن فيه كما حصل للكتب السماوية الأخرى، ولأصبح لكل أمة قرآن يدعو إلى غير ما يدعو إليه الثاني ضرورة اختلاف اللغات في الصياغة والدلالة على المعنى، بقي لماذا اختار الله العربية لغة القرآن؟ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن كانت رسالته إلى الثقلين لكن لما كان العرب قومه وكانوا أخص به وأقرب، وقد تهيأت الظروف كلها لظهور دينه ورسالته في جزيرة العرب فكانت لغتهم أولى حتى لا تكون لهم حجة في تكذيبه فإنه واحد منهم ونشأ بينهم ويتكلم بلغتهم فإذا فهموا دينه وصدقوا به وأسلموا كانوا هم الدعاة والمترجمين في جميع الآفاق ولكل اللغات، وقد كان ذلك كذلك.
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم تلك الشرائع باللغة التي ألفوها ومع ذلك فإن المضل والهادي هو الله- عز وجل-، والبيان لا يوجب الهداية إلا إذا جعله الله سببا فيها: وهو العزيز الذي لا يغلب الحكيم في كل أفعاله.
(٢) سورة الأعراف الآية ١٥٨.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
المفردات:
بِأَيَّامِ اللَّهِ المراد وقائعه في الأمم السابقة، وحوادثه الشديدة الشاملة للنعم والنقم صَبَّارٍ شَكُورٍ كثير الصبر والشكر يَسُومُونَكُمْ المراد يذيقونكم العذاب السيئ الشديد وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يبقونهم أحياء للذل والعار تَأَذَّنَ أذن إذنا بليغا.
هكذا كل رسول مهمته إخراج الناس من الظلمات إلى النور، والتذكير بنعمة الله.
وكما أرسلناك يا محمد لتخرج الناس من ظلمات الجهل والشرك والضلالة إلى نور الإسلام والعلم والهداية فقد أرسلنا موسى مؤيدا بآياتنا التسع التي مرت في سورة الأعراف، وقلنا له: أخرج قومك يا موسى من الظلمات إلى النور، والمعنى أمرهم بالتوحيد الخالص والإيمان بالله إيمانا كاملا ليخرجوا من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى والإيمان.
وذكرهم بأيام الله التي مرت على أمم الأنبياء السابقة، وكيف نجا المؤمنون وهلك الكافرون؟!! وذكرهم بأس الله وشدائده وانتقاماته ممن كذب رسالته كقوم عاد وثمود وقوم هود وإخوان لوط، ففي التذكير بأيام الله ترغيب وترهيب، ولقد كان لموسى مع قومه أيام فيها محنة وبلاء وأيام فيها نعم ونجاة وكلها من أيام الله.
إن في ذلك التنبيه والتذكير لدلائل على وحدانية الله وقدرته لكل صبار في المحنة والشدة، شكور في المنحة والعطية.
ولقد قيل: نعم العبد عبد إذا ابتلى صبري وإذا أعطى شكر،
وفي الحديث «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له».
وفي هذه إشارة إلى أن الواجب على المسلم أن يكون صابرا شكورا.
وقد كان موسى ممتثلا أمر ربه فأخذ يذكر قومه بنعم الله عليهم. واذكر وقت قول موسى لقومه والمراد ذكر ما حصل فيه اذكروا نعمة الله عليكم إذا أنجاكم من فرعون وآله فقد كانوا يذيقونكم العذاب، ويكلفونكم من الأعمال مالا تطيقون مع القهر والإذلال، وكانوا يذبحون أبناءكم خوفا من ظهور ولد يضيع على يده الملك كما فسرت الرؤيا لفرعون مصر، وكانوا يتركون النساء أحياء أذلاء وفي ذلك أعظم ألوان البلاء.
نعم فيما ذكر ابتلاء واختبار عظيم فالنعم والنقم بلاء للإنسان ليعرف أيشكر أم يكفر؟!! وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [سورة الأعراف آية ١٦٨] وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً
[سورة الأنبياء آية ٣٥].
الحديث «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه»
بهذا يعلم أن فائدة الشكر تعود على الشاكر فقط لا على غيره، فمن شكر أعطى ومن كفر حرم.
وقال موسى: إن تكفروا نعمة الله عليكم وتجحدوا فضلها أنتم ومن في الأرض جميعا لم تضروا بذلك أحدا، ولم تنقصوا في ملك الله شيئا بل أضررتم أنفسكم إذ حرمتموها من المزيد من النعم، وعرضتموها للعذاب الشديد، وإن الله لغنى عن شكركم غير محتاج لعملكم، فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن ٦] نعم. الله مستغن عن حمدكم وشكركم، مستوجب للحمد لكثرة نعمه وأياديه وإن لم يحمده الحامدون.
بعض أنباء الأمم السابقة [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٩ الى ١٢]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)
مُرِيبٍ الريب: اضطراب النفس وقلقها فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعهما على أكمل نظام بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة قوية ظاهرة.
المعنى:
يقول الله- تبارك وتعالى- ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم؟ ألم تعلموا أخبارهم وتقفوا على أحوالهم المهمة كأخبار قوم نوح. وعاد. وثمود. وأمم جاءت بعدهم لا يعلمهم إلا الله- سبحانه وتعالى- وصدق الله وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
هؤلاء جاءتهم رسلهم بالآيات البينات والحجج الواضحات التي تثبت صدقهم، وتؤيد دعواهم الرسالة عن الله: فما كان من القوم إلا أنهم ردوا أيديهم في أفواههم غيظا وحنقا، وعضوا أيديهم أسفا وألما عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [سورة آل عمران آية ١١٩] والمراد أنهم كذبوا واستهزءوا.
وللعلماء في تفسير هذه الجملة [ردوا أيديهم في أفواههم] آراء كثيرة كلها تدور حول الإنكار والتكذيب والسخرية بالرسل.
وقالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به من الآيات البينات على زعمكم، وإنا لفي شك عظيم مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله وحده وترك ما سواه، وقد قيل: كيف صرحوا
قالت لهم رسلهم: أفي الله شك؟!! أفي وحدانيته شك أم في وجوده شك؟!! وكل الدلائل والشواهد تدل على وجوده- سبحانه- وعلى تفرده بالألوهية والعبادة وكيف تشكون في الله فاطر السموات والأرض؟ إذ الذي خلقهما على هذا النظام البديع المحكم، وخلق كل ما فيهما من عوالم لا يحصيها إلا هو ينبغي ألا يشك في وحدانيته ووجوده، وهو الذي يدعوكم إلى الإيمان الكامل ليغفر لكم بعض ذنوبكم وهذا الدعاء منه وحده دليل على تفرده بالألوهية، وهو الذي إن استجبتم إليه وآمنتم به واستقمتم على صراطه يؤخركم إلى أجل مسمى عنده بلا عذاب في الدنيا حتى الموت.
وهل سكت الكفار وأسلموا لله أم اعترضوا على ذلك؟
قالوا: ما هذا؟ كيف نؤمن بكم وننقاد لكم؟ وما أنتم إلا بشر مثلنا تأكلون مما نأكل وتشربون مما نشرب، ولا نرى لكم علينا من فضل حتى نجعلكم قادة وحكاما وأئمة وأنبياء.
وأنتم تريدون أن تصدونا عن عبادة ورثناها عن آبائنا من قبل؟ وآباؤنا أبعد نظرا، وأحسن قولا، أفنتركهم ونتبعكم؟! على أننا لا يمكن أن تترك ما ألفناه إلا بحجة وبرهان وقوة وسلطان، أما ذكر السموات والأرض وعجائبهما فهذا ليس دليلا على صحة ما أتيتم به.
أما رد الأنبياء على شبههم الثلاثة، أنتم بشر، تدعوننا إلى ترك عبادة الآباء، وهاتوا حجة ودليلا على ما تقولون.
فقالت لهم رسلهم: ما نحن إلا بشر مثلكم نأكل ونشرب، ونمشي في الأسواق ونبحث عن الأرزاق، ونأتى النساء إلخ. ولكن هذا لا يمنع أن الله يمن على من يشاء من عباده بالنبوة والرسالة اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام آية ١٢٤] وقد منّ الله علينا بالرسالة ولا حرج على فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده.
أما طلبكم الحجة والبرهان بعد أن قدمنا لكم من المعجزات فأمره إلى الله ولا دخل
أما تقليدكم الآباء لأنهم آباء ولو كانوا في ضلال مبين فهذا شيء يجب أن يدخل في الحسبان ويرد عليه بالبرهان.
بعد هذا النقاش انتقلت المسألة إلى العمل والانتقام من الأنبياء فقال لهم الأنبياء:
إنا لا نخاف تهديدكم، ولا يضيرنا وعيدكم، بل نحن نتوكل على الله وحده، ونعتمد عليه ولا نقيم وزنا لما تفعلون، وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون فهم أحق به وأولى من غيرهم.
وما لنا ألا نتوكل على الله؟ وكيف لا يكون هذا، وأى شيء عرض لنا حتى لا نتوكل عليه؟ وقد هدانا لأقوم طريق وأهدى سبيل، ولنصبرن على إيذائكم وعلى الله فليستمر توكل المؤمنين، وفقنا الله إلى التوكل عليه حقا.
العاقبة للمتقين [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٣ الى ١٨]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨)
لَتَعُودُنَّ لتصيرن وكثيرا ما تستعمل عاد بمعنى صار مِلَّتِنا الملة: الشريعة والدين مَقامِي قيامي للحساب وَاسْتَفْتَحُوا طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء خابَ هلك جَبَّارٍ الجبار هو العاتي المتكبر الذي يجبر غيره على اتباع رأيه ولو باطلا صَدِيدٍ يسيل من جلودهم، من دم أو قيح يَتَجَرَّعُهُ جرعته الدواء سقيته جرعة بالشدة والقهر يُسِيغُهُ يزدرده عاصِفٍ شديد الريح.
بعد الحوار والنقاش بين الرسل وأقوامهم تأتى مرحلة العمل والحرب، وفي النهاية الغلبة للمتقين وتلك سنة الله في جميع الأزمنة ومع كل الأمم والرسل.
المعنى:
وقال الذين كفروا لرسلهم حين دعوهم إلى التوحيد وترك عبادة الأوثان، ورأوا في الرسل إصرارا على هذا الدين. قالوا: ليكونن أحد الأمرين، ولا ثالث لهما أبدا:
إما أن تخرجوا من أرضنا أو لتصيرن في ملتنا وشرعنا: وذلك كما قال قوم مدين لشعيب ومن آمن معه لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [سورة الأعراف آية ٨٨] وكما قال كفار مكة: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الإسراء آية ٧٦].
قال الكفار هذا مغرورين بقوتهم وكثرتهم، وقلة عدد المؤمنين وضعفهم فأوحى ربك إلى الأنبياء، لا تحزنوا وأبشروا. لنهلكن الظالمين من المشركين ولنسكنكم الأرض من بعدهم عقوبة لهم على قولهم. لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا ولقد كرر هذا المعنى في القرآن كثيرا كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٢١] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا
[سورة الصافات الآيات ١٧١- ١٧٣] وقال موسى لقومه: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة الأعراف آية ١٢٨].
ذلك لمن خاف مقامي وخشي حسابي، وخاف وعيدي بتجنب سخطى وغضبى.
واستفتحوا نعم استفتح كل من الأمم والرسل ألا ترى إلى قوله- تعالى- حكاية عن كفار مكة: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [سورة الأنفال آية ٣٢] الآية وإن كان هذا يدل على منتهى الحماقة وسوء الرأى، وتأصل العناد واستفتحت الرسل على أممها واستنصرت بالله.
فقال الله: وخاب كل جبار عنيد وهلك كل متكبر يجبر غيره على أخذ رأيه الباطل وهو عنيد، أمامه جهنم وبئس القرار، ويسقى من ماء صديد هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [سورة ص الآيتان ٥٧ و ٥٨] شرابهم في جهنم الصديد الذي يخرج من جوفهم، والحميم الشديد الحرارة والغساق الشديد البرودة وآخر من شكله أزواج، وعبارة القرآن تفيد أن هلاك الجبار قاعدة وقانون.. وهل يشرب شرابه بسهولة؟
أم يشربه بعسر وألم؟ فذكر الله أنه يتجرعه جرعة بعد جرعة بمنتهى الألم والشدة والقسوة ولا يكاد يسيغه من شدة كراهته له ورداءة طعمه ولونه وريحه وحرارته، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [سورة الرعد آية ١٥] وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً [سورة الكهف آية ٢٩].
ويأتيه ألم الموت وشدة نزع الروح من كل مكان في جسمه، وما هو بميت ولكنه الألم والتعب والهم والحزن، ومن وراء ذلك كله عذاب غليظ.
أليس هذا تصويرا لجهنم ومن فيها تصويرا يجعلنا نرسم لها صورة بشعة، صورة مؤلمة حقا وقانا الله شرها.
هذا جزاء الكفار، أليس لهم في الدنيا من عمل يخفف عنهم؟ فقال الله ردا: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا أى: صفتهم العجيبة الغريبة غرابة المثل هي أن أعمالهم كرماد اشتدت به الريح، أى: حملته بشدة وسرعة في يوم عاصف، ريحه شديد،
هؤلاء لا يقدرون مما كسبوا من تلك الأعمال على شيء منها، ولا يرون له أثرا في الآخرة يجازون به بل جميع أعمالهم باطلة ضائعة ذاهبة كذهاب الريح بالرماد عند شدة هبوبها وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [سورة الفرقان آية ٢٣] أعمالهم الحسنة كالبر والإعطاء والكرم، وصلة الرحم.
حوار بين أهل النار من الضعفاء والمستكبرين والشيطان [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٩ الى ٢٣]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)
وَبَرَزُوا البروز الظهور والبراز المكان الواسع لظهوره، ومنه امرأة برزة أى:
تظهر للرجال الضُّعَفاءُ العوام والأتباع اسْتَكْبَرُوا المستكبرون وهم الرؤساء الأقوياء تَبَعاً جمع تابع كخدم جمع خادم مَحِيصٍ أى: منجى ومهرب سُلْطانٍ تسلط عليكم بحجة بِمُصْرِخِكُمْ صرخ إذا استغاث والمصرخ المغيث والمستصرخ المستغيث.
بعد ما ذكر جزاء الكفار الأشقياء في الآخرة أردف ذلك ببيان قدرة الله على كل شيء ثم ذكر الحوار بين الرؤساء والضعفاء ثم بين الشيطان وأتباعه وختم المقالة بجزاء المؤمنين العاملين.
المعنى:
ألم تعلم أيها الرسول أن الله أنشأ السموات والأرض وما فيها بالحق والحكمة؟
وخلقهما على الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقهما عليه ليستدل بهما على كمال القدرة وعدم الحاجة إلى أحد من خلقه، بل إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد على شكل جديد، وما ذلك على الله بعزيز بل هو هين عليه يسير، إذ هو القادر على كل شيء قدرة ذاتية إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون.
وهذه الآية بيان لعظيم جرمهم في كفرهم بالله الواحد القهار القادر على كل شيء، وبيان أنه هو الحقيق بأن يعبد وحده ويخاف عقابه ويرجى ثوابه ولذلك أردف هذه الآية بذكر أحوال الآخرة فقال وبرزوا لله جميعا... الآيات والمعنى:
وقد كان الكفار العصاة يفعلون الفعل وهم يظنون أن الله لا يراهم فها هم الآن يراهم الكل لأنهم بارزون ظاهرون خاضعون لله.
فقال الضعفاء في العقل والتفكير كالأتباع والعوام: للذين استكبروا كالقادة والزعماء: إنا كنا لكم تابعين مقلدين في الأعمال، فكذبنا الرسل وكفرنا بالله متابعة لكم ومشايعة لرأيكم، فهل أنتم دافعون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله؟
قال القادة المتبوعون مقرين بذنبهم: لو هدانا الله ووفقنا الى الخير لهديناكم وحملناكم على الهداية وسلوك الطريق الحق.
كان عتاب الضعفاء للمستكبرين عتاب جزع وقلق فقيل لهم: يستوي عندنا جزعنا وصبرنا، إن الله قد حكم بين العباد فما لنا من محيص ولا مهرب ولا منجى من عذاب الله وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [سورة غافر الآيتان ٤٧ و ٤٨] رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [سورة الأحزاب الآيتان ٦٧ و ٦٨].
وتلك مناظرة أخرى وحوار بين الشيطان وأتباعه.
وقال الشيطان، لما قضى الأمر وأدخل الله أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار قال لأتباعه في النار:
إن الله وعدكم وعد الحق، وعدكم على ألسنة رسله، وقوله الحق ووعده الصدق وعدكم بالبعث والجزاء.
ووعدتكم أنا أنه لا جنة ولا نار، ولا حشر ولا حساب، ولئن كان شيء من ذلك فشفعاؤنا من الآلهة تشفع لنا وتمنعنا فأخلفتكم الوعد، واتبعتم زخرف القول منى، وباطله، وتركتم وعد ربكم الحق يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [سورة النساء آية ١٢٠].
يا سبحان الله! هذه مقالة الشيطان لأتباعه يوم القيامة يرويها لنا الحق- تبارك وتعالى- في ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ولا شك، يا حسرة على أتباع الشيطان ويا خيبتهم!
لكن دعوتكم إلى الضلال ووسوست لكم، وزينت الباطل فأسرعتم إلى إجابتى فلا تلوموني أبدا ولكن لوموا أنفسكم، فأنتم الذين فعلتم واخترتم واتجهتم ناحية الشر وتركتم ناحية الخير رغم دعاء الله لكم وتحذيره الشديد من سلوك سبل الشيطان وما كان منى إلا الوسوسة وزخرف القول وغروره.
يا أتباعى كلنا في الغم والألم والعذاب سواء، ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه من العذاب والنكال.
إنى كفرت اليوم بإشراككم إياى من قبل أى في الدنيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [سورة فاطر آية ١٤] وأنه يتبرأ من شرككم ويستنكره!! إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سورة الممتحنة آية ٤] ومعنى إشراكهم الشيطان مع الله طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها.
إن الظالمين لهم عذاب أليم، وهذه الجملة يحتمل أن تكون من كلام الله لهم أو حكاية لكلام إبليس لهم تسجيلا عليهم.
نرى أن الشيطان قصم ظهورهم وقطع قلوبهم بأمور:
١- كانت مواعيده باطلة، ووعد الله هو الحق وقد تركوا الحق واتبعوا الباطل.
٢- اتبعوا قوله بلا حجة ولا برهان.
٣- لا لوم لكم وإنما عليكم اللوم.
٤- قطع أملهم بأنه لا نصر عنده بل هو محتاج إلى من ينصره.
٥- إنه قد كفر بشركهم له في الدنيا وتبرأ من عملهم.
ذلك جزاء الظالمين أتباع الشياطين.
وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، واتبعوا الحق من ربهم كفّر عنهم ربهم سيئاتهم وأصلح بالهم، وأدخلهم الجنة عرفها لهم، وهي جنة عالية قطوفها دانية تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، وكان هذا كله بإذن ربهم وتحيتهم بينهم وبين أنفسهم وبينهم وبين الملائكة: سلام عليكم طبتم فنعم عقبى الصابرين..
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧)
المفردات:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا اعتمد ووضع مثلا، والمثل في كلامهم قول موجز سائر يملك الألباب ويأسر العقول لما فيه من تصوير رائع ودقة محكمة ثابِتٌ ضارب بجذوره في الأرض تُؤْتِي تعطى ثمرها كل وقت أراده الله لها اجْتُثَّتْ الاجتثاث أخذ الجثة كلها، المراد استؤصلت بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أى: القول الثابت في قلوبهم المتمكن منها.
ما تقدم كان بيان مآل السعداء من المؤمنين والأشقياء من الكافرين والعصاة، وقد ضرب الله المثل هنا للكلمة الطيبة وهي كلمة الإسلام وللكلمة الخبيثة وهي كلمة الشرك ليظهر الفرق بين الحالين، وفي المثل إلباس المعنويات لباس الحسيات ليكون أوقع في النفس، والعرب قديما جعلت الأمثال عيون كلامها، وخصتها بالحكم والنوادر وشاع بينهم ضرب المثل لما فيه من التأثير على النفوس والعقول.
ألم تعلم أيها المخاطب كيف ضرب الله مثلا واختاره وجعله في موضعه اللائق به، وجعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، والمراد بالكلمة الطيبة وهي كلمة الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أو كل كلمة في الخير، والشجرة الطيبة قيل هي شجرة النخل.
شبه الله الكلمة الطيبة وهي دليل الإيمان الثابت في قلب المؤمن الذي يرفع به عمله إلى السماء إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «١» ولا عجب فالمؤمن كلما قال كلمة الحق وشهد بكلمة التوحيد صعدت إلى السماء وأخذت حظها من الثواب الجزيل: شبه الله تلك الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة المثمرة لها أصلها الراسخ في الأرض، وفرعها في السماء الشامخ في الجوزاء، وتؤتى أكلها الطيب كل وقت وقته الله لإثمارها بإذن ربها وتيسير خالقها.
نعم إذا حلت الهداية قلب عبد، وامتلأ قلبه نورا وإسلاما فاض منه الخير والنور على قلوب كثيرة، كالشجرة الطيبة المثمرة التي يتمتع بثمرها الكثير من الناس.
وهكذا يضرب الله الأمثال للناس، وفيها زيادة فهم وتذكير لأنها تخرجهم من دائرة المعقول إلى المحسوس، ومن دائرة المعنى الجلى الذي لا يشك فيه أحد كل ذلك لعلهم يتذكرون ويتعظون!! ومثل كلمة خبيثة وهي كلمة الكفر أو ما شاكلها كشجرة خبيثة وهي الحنظل ليس لها أصل ثابت بل عروقها وجذورها طافية فوق سطح الأرض فيسهل اقتلاعها. وهذه الشجرة اجتثت من الأرض ليس لها من قرار.
وهكذا أصحاب النفوس العالية والإيمان العميق هم أصحاب الكلمة الطيبة التي تؤتى ثمرها كل حين، وينتفع بها الناس، وهي مستقرة في نفوسهم، وفروعها ممتدة إلى العوالم العلوية، وما أشبههم بالنخل أصلها مستقر وفرعها عال وثمارها دائم.
وأرباب الشهوات والنفوس الضعيفة هم أصحاب الكلمة الخبيثة التي هي كالحنظل طعما وأثرا.
إذا وجد من يفتنهم عن دينهم أو يؤثر عليهم في عقيدتهم، انظر يا أخى لبلال وصهيب وغيرهم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ثبتهم الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا.
وبعد الموت في القبر الذي هو منزل من منازل الآخرة، وفي مواقف القيامة فلا يتلعثمون، ولا يضطربون إذا سئلوا عن معتقداتهم ولا تدهشهم أحوال القيامة الغريبة عنهم.
روى عن أبى قتادة الأنصارى وأبى هريرة، وأسماء بنت أبى بكر في هذا المعنى «إنّ المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له من ربّك؟ فيقول: الله، فيقال له: من نبيّك؟ فيقول. محمد بن عبد الله، فيقال له ذلك مرات ثمّ يفتح باب إلى الجنّة فيقال له: انظر إلى منزلك من الجنّة إذا ثبتّ، وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له:
من ربك، ومن نبيك فيقول: لا أدرى كنت أسمع الناس يقولون فيقال له: لا دريت، ثم يفتح له باب إلى الجنّة فيقال: انظر إلى منزلك لو ثبتّ، ثم يفتح له باب النار فيقال له انظر إلى منزلك إذ زغت فذلك قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.
هكذا يضل الله الظالمين لسوء استعدادهم وميلهم مع شهوات النفس ويصرفهم عن الحق إلى الباطل قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [سورة الشمس الآيتان ٩ و ١٠] يفعل الله ما يشاء إذ بيده أمور كل شيء وهو على كل شيء قدير.
هكذا يفعل الكفار، وبمثل هذا يربى المؤمنون [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٨ الى ٣١]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١)
المعنى:
انظر أيها المخاطب متعجبا إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار، وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله.
عجبا لهؤلاء الكفار الذين وصفهم الله بثلاث صفات:
١- بدلوا نعمة الله كفرا، إذ شكر النعم الواجب عليهم، وضعوا مكانه الكفر والجحود فكأنهم غيروا الشكر وجعلوا بدله الكفر، وقد كان أهل مكة يسكنون حرم الله آمنين وجعلهم قواما عليه- وأكرمهم برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم من أنفسهم عزيزا عليه عنتهم حريصا عليهم، فكفروا بنعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم. ألست معى في أنهم بدلوا شكر نعمة الله كفرا؟!! ٢- وأحلوا قومهم الذين شايعوهم واتبعوهم في الكفر والضلال، دار الهلاك والبوار الذي لا هلاك بعده، وهي جهنم التي يصلونها وبئس القرار قرارهم.
٣- يا عجبا لهؤلاء بدلوا شكر النعمة كفرا، وأحلوا قومهم جهنم، وجعلوا لله أندادا وشركاء من الأصنام والأوثان لتكون عاقبة أمرهم أنهم يضلون من شايعوهم واتبعوهم..
وما كان لهذه الهنات التي وصفوا بها إلا هذا التهديد البليغ المعبر عنه بقوله: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ أى: اعملوا ما شئتم، وسيروا كما أنتم سائرون فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ومرجعكم إليها حتما.
وقد سمى الله هذا العمل تمتعا لأنهم تلذذوا به. وأحسوا غبطة بعمله، ولأنهم
هذا أمر الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وأحلوا قومهم جهنم، وتلك عاقبتهم وبعد هذا أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يأمر عباده المخلصين بالعمل المثمر النافع فهذا أوانه، وأن يربيهم تربية إسلامية على العبادة والعمل.
قل يا محمد لعبادي الذين آمنوا بالله ورسوله: أقيموا الصلاة على وجهها الكامل فهي عماد الدين، وأنفقوا مما رزقناكم الإنفاق المطلوب شرعا وعرفا، الشامل للصدقة المطلقة والمقيدة بما في ذلك الزكاة الواجبة، أنفقوا سرا في الصدقة، ما لم تكن أنت قدوة يقتدى بك الغير ولم تقصد رياء ولا سمعة فالجهر أولى، وفي الزكاة المفروضة أنفق جهرا وعلانية، امتثلوا أمر الله ورسوله من قبل أن يأتى يوم ليس فيه بيع ولا شراء ولا تجدى فيه صداقة أو صحبة، هو يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الحديد آية ١٥].
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
سَخَّرَ لَكُمُ ذلل دائِبَيْنِ دأب في العمل إذا سار فيه على عادة مطردة والمراد دائمين لا يفتران لا تُحْصُوها لا تحصروها كَفَّارٌ شديد الكفر والجحود للنعم.
من الناس من بدل شكر النعم كفرا، ومنهم من قام بالشكر الواجب عليه، وأقام شعائر الدين بالصلاة والزكاة وغيرها، وفي هذه الآيات بيان للنعم التي توجب الشكر لله حيث أنعم بها علينا وتوجب النقم والعذاب على من لم يشكر الله عليها.
المعنى:
الله- جل جلاله-، وتقدست أسماؤه، المعبود بحق. الذي لا إله غيره، ولا معبود سواه، هو الذي خلق السماوات والأرض، وما فيهن. وما في العالم العلوي من الأجرام السماوية، والكواكب السيارة، والهواء والأثير، والشمس والقمر وغير ذلك مما لا نعلمه آيات ودلائل على عظم قدرة الله، وكمال نعمه على الوجود وكذلك ما في العالم السفلى من الأرض ومعادنها والعوالم التي فيها آيات ناطقة لقوم يتفكرون.
الله- سبحانه وتعالى- هو الذي أنزل من السماء ماء، وجعل منه كل شيء حي وأخرج بسببه من الثمرات أنواعا وأشكالا مختلفة لا يعلمها إلا هو رزقا للعباد، وأحيا بالماء ميتا وصحراء مجذبة.
وهو الذي سخر لكم يا بنى آدم وذلل لكم الفلك لتجرى فوق سطح الماء فتنقلكم وتنقل متاعكم حيث تريدون فهو الذي أرشدكم لصنعها وهو الذي سخر البحر لحملها والريح والبخار لتحريكها وسبحان الله خالق كل شيء فاعبدوه.
وهو الذي سخر لكم الأنهار، وشقها في بطون الأودية وجعل منها حياة الأقاليم والأقطار. ألا ترى إلى نهر النيل والفرات وغيرهما؟! وهو الذي سخر الشمس والقمر دائبين في الحركة، دائمين لا يفتران لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «١».
وآتاكم كل ما تحتاجون إليه على حسب طاقتكم وقوتكم واستعدادكم من كل الذي هو حقيق أن تسألوه سواء سألتموه أو لم تسألوه، وذلك لأنه خلق لكم ما في الأرض جميعا، وسخر لكم قوى الطبيعة كلها حتى تكون تحت تصرفكم، والحمد لله نرى الإنسان استخدم البخار والأثير والهواء والريح والكهرباء وغيرها.
دعاء إبراهيم عليه السلام [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ الى ٤١]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
وَاجْنُبْنِي أبعدنى، وباعد بيني وبينها تَهْوِي إِلَيْهِمْ شوقا وحبا يَقُومُ الْحِسابُ يتحقق الحساب ويوجد.
هذا بيان للنعم الخاصة بالعرب لا سيما سكان الحرم بعد بيان النعم العامة وهذه هي المناسبة بين الآيات وما قبلها.
المعنى:
واذكر يا محمد وقت قول إبراهيم- عليه السلام- داعيا إلى الله طالبا منه الإجابة وقد تعود إبراهيم من ربه أن يجيبه إلى طلبه.
رب اجعل هذا البلد آمنا، لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد، ولا يصاد فيه صيد ولا يقطع فيه شجر أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [سورة العنكبوت آية ٦٧].
واجنبنى يا رب وباعد بيني وبين عبادة الأصنام أنا وبنى لصلبى، وقد استجاب الله دعاءه في بعض بنيه دون بعض.
يا رب إن الأصنام قد أضلت كثيرا من الناس، وأزالتهم عن طريق الحق والصواب إلى طريق الباطل والضلال، فمن تبعني وصدقنى فيما دعوته إليه من الإيمان الكامل والتوحيد الخالص فإنه منى، ومستن بسنتي وسائر على طريقتي، ومن عصاني فإنك غفور رحيم- في غير الشرك بالله- وقادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة عليه والهداية إلى الصراط المستقيم.
ويظهر أن سكان البلاد الزراعية كثيرا ما تشغلهم الزراعة وتوابعها عن إقامة الصلاة كاملة. ولهذا كانت النواة الأولى للإسلام في تلك البقاع.
فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات، وقد حقق الله دعاء إبراهيم- عليه السلام- وحديثا ترى الناس في كل عام، وقد تملكهم حب عميق وحنين إلى الحج وزيارة الأماكن المقدسة باذلين فيها الكثير من الأموال في الصدقات والبيع والشراء، وهذا مما يحدث في البلاد حركة تجارية تجعل التجار يجلبون إلى مكة الثمرات والأرزاق من كل قطر، كل هذا رجاء أن يشكروا تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء واجب العبادة.
وفي هذا إشارة إلى أن تحصيل المال يعين عن أداء الواجبات الدينية ربنا إنك تعلم ما تخفى قلوبنا وما تعلن، وما يخفى على الله شيء أبدا في الأرض ولا في السماء؟
إذ هو عالم الغيب والشهادة السميع البصير.
الحمد لله الذي استجاب الدعاء ووهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق وإن ربي لسميع دعائي الذي أدعو به ومجيب له، وقد عودنى ذلك.
يا رب اجعلنى مقيم الصلاة، ومؤديها كاملة تامة الأركان والشروط واجعل- أيضا- من ذريتي من يقيم الصلاة ويؤديها.
ربنا وتقبل دعائي، واقبل عبادتي فإنها خالصة لك:
ربنا اغفر لي واغفر لوالدي واغفر للمؤمنين يوم يقوم الحساب ويتحقق الميزان،
تذكير وعظة بيوم القيامة ومشاهده [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٢ الى ٥٢]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
تَشْخَصُ ترفع مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ ناظرين بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا ترجع إليهم بأبصارهم، وأصل الطرف تحريك الأجفان وسميت العين طرفا لأنه يكون بها أَجَلٍ أى زمن قريب مِنْ زَوالٍ من انتقال مُقَرَّنِينَ مشدودين مع بعض فِي الْأَصْفادِ القيود واحدها صفد سَرابِيلُهُمْ جمع سربال وهو القميص قَطِرانٍ القطران والهناء شيء كالزفت تدهن به الجمال من الجرب بَلاغٌ كفاية في العظة والتذكير..
بعد ما ذكر الله- جل شأنه- حال الذين بدلوا نعمة الله وجزاءهم، وما يجب أن يكون عليه المؤمنون من العبادة وإقامة أحكام الدين ثم ذكر مقالة إبراهيم ودعاءه لبنيه علهم يتعظون، ذكر الله هنا هذا التهديد الشديد للكفار مع ذكر بعض مشاهد يوم القيامة ليعلم الجميع عاقبة الكفر ومآله!!
المعنى:
ولا تحسبن يا محمد أن الله غافل عما يفعله الظالمون، بل هو محصيه ومحيط به وسيجازيهم على ذلك. فلا تظن أن الله يهملهم لا إنه يمهل ولا يهمل، وهو يملى للظالمين، ولكن لا عن غفلة بل عن حكمة ودقة، إذ اقتضت حكمته أن تكون الدنيا أهون عند الله من جناح بعوضة فليست محل عقوبة بل عقوبتهم يوم القيامة إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار وخطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا وأمثاله كقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام آية ١٤] وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [سورة الشعراء آية ٢١٣]
وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتطمين لخاطره.
إنما يؤخر هؤلاء الكفار وعذابهم ليوم القيامة تشخص فيه الأبصار، وترتفع إلى السماء من شدة ذهولهم، واضطراب نفوسهم.
مهطعين إلى الداعي ومسرعين نحوه، مقنعي رءوسهم ورافعيها مع دوام النظر من غير التفات إلى شيء أبدا، وكيف لا؟ وهو يوم الذهول ويوم الصاعقة والحاقة والصاخة، ويوم الفزع الأكبر لمن لم يعمل له، مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم ولا يطرفون أبدا من شدة الهول، وسوء الفزع، وأفئدتهم مضطربة متحركة كالهواء المتحرك وهذا حالهم يوم الفزع الأكبر؟
وأنذر الناس جميعا يوم يأتيهم العذاب فيقول الظالمون هلعا وجزعا: ربنا أرجعنا إلى الدنيا وأعطنا مهلة قليلة نجب فيها دعوتك إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لك، ونطيع فيها الرسل. ثم انظر إلى الرد عليهم.
أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال أبدا!!؟ يقال لهم توبيخا: ألم تقسموا في الدنيا أنكم إذا متم فلا بعث ولا حساب؟!! ولا زوال ولا انتقال لحياة أخرى! وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [سورة النحل آية ٣٨].
وقد سكنتم في مساكن الظالمين لأنفسهم، وعرفتم مآلهم وعاقبتهم. وتبين لكم كيف فعلنا بهم حينما كفروا وعصوا الرسل، وضربنا لكم الأمثال، ولكنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا..
وها هي ذي حالكم الآن تتغير عن حالهم، وقد مكروا مكرهم جهد طاقتهم، وعند الله مكرهم لا محالة فكل شيء مكتوب ومسجل عليهم وسيحاسبهم الحساب الشديد. وما كان مكرهم لتزول منه الآيات الرواسخ بل هي كالجبال الشم، وكيف يتم لهم ما أرادوا، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
وإذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن الله مخلف وعده لرسله حيث يقول كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والله لا يخلف الميعاد أصلا مع الكل فكيف يخلف وعده مع رسله وأحبابه؟ إن الله عزيز لا يغلب ذو انتقام، وهذا تذييل للآية
وبرزوا لله الواحد القهار، وترى المجرمين يومئذ مشدودين بعضهم مع بعض ومشدودين أيديهم إلى أرجلهم تراهم مقرنين ومشدودين في الأصفاد والأغلال والقيود..
سرابيلهم من قطران- يا سبحان الله أنت الواحد القهار- والكافرون يوم ذاك في غاية الذلة والضعف مقرنون في الأصفاد والأغلال، ولهم سرابيل من القطران وتغشى وجوههم النار.
وفي هذا إيلام لهم شديد لأمور:
١- كونهم في الأغلال مع بعض «فكبكبوا فيها هم والغاوون».
٢- كون قميصهم من القطران، والمراد أن جلودهم تطلى بالقطران حتى تسرع النار في الاشتعال مع سواد البشرة ونتن الرائحة.
٣- كون وجوههم تعلوها النار وتغشاها وهي محط كبرهم في الدنيا يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [سورة القمر آية ٤٨].
كل ذلك ليجزي الله كل نفس ما كسبت فمن يعمل صالحا يجز به، ومن يعمل سوءا يجز به جزاء وافيا: إن الله سريع الحساب، وشديد العقاب.
هذا القرآن الكريم بلاغ للناس، وأى بلاغ أقوى من هذا؟
ولينذروا بعقابه ويبشروا بثوابه، وليعلموا أنما هو إله واحد وليتذكر أولو الألباب والعقول الراجحة..