تفسير سورة الصافات

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

سورة الصافات مكيةوهي مائة واثنتان وثمانون آيةأي بالإجماع، وسميت باسم أول كلمة منها، من باب تسمية الشيء باسم بعضه، على حكم عادته سبحانه وتعالى في كتابه. قوله: ﴿ وَٱلصَّافَّاتِ ﴾ إلخ، والواو حرف قسم وجر، و ﴿ ٱلصَّافَّاتِ ﴾ مقسم به مجرور، وما بعده عطف عليه، وقوله:﴿ إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ ﴾[الصافات: ٤] جواب القسم، وهو المقسم عليه، والمعنى: وحق الصافات، وحق الزاجرات، وحق التاليات، وإنما خص مات ذكر، لعظم قدرها عنده، ولا يعكر عليه ما ورد من النهي عن الحلف بغير الله، لأن النهي للمخلوق، حذراً من تعظيم غير الله، وأما هو سبحانه وتعالى، فيقسم ببعض مخلوقاته للتعظيم، كقوله: والشمس، والليل، والضحى، والنجم وغير الصافات وما بعدها للتأنيث، والملائكة منزهون عن الاتصاف بالأنوثة كالذكورة. أجيب: بأنها للتأنيث اللفظي، والمنزهون عنه التأنيث المعنوي، وقوله: (الملائكة) هو أحد أقوال في تفسير الصافات، وقيل: المراد المجاهدون، أو المصلون، أو الطير تصف أجنحتها. قوله: (في العبادة) أي في مقاماتها المعلومة. قوله: (وأجنحتها في الهواء) أي ومعنى صفها بسطها. قوله: (تنتظر ما تؤمر به) أي من صعود وهبوط. قوله: ﴿ فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً ﴾ الفاء للترتيب باعتبار الوجود الخارجي، لأن مبدأ الصلاة الاصطفاف، ثم يعقبه زجر النفس، ثم يعقبه التلاوة، وهكذا ويحتمل أنها للترتيب في المزايا، ثم هو إما باعتبار الترقي: فالصافات ذوات فضل، فالزاجرات أفضل، فالتاليات أكثر فضلاً. أو باعتبار التدلي: فالصافات أعلى، ثم الزاجرات، ثم التاليات، وكل صحيح. قوله: (الملائكة تزجر السحاب) وقيل: المراد بهم العلماء تزجر العصاة. قوله: (مصدر من معنى التاليات) ويصح أن يكون مفعولاً للتاليات، والمراد بالذكر: القرآن وغيره من تسبيح وتحميد، والمراد بهم هنا، كل ذاكر من ملائكة وغيرهم.
قوله: ﴿ إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ ﴾ إن قلت: ما حكمة ذكر القسمة هنا، لأنه إن كان المقصود المؤمنين فلا حاجة له، لأنهم مصدقون ولو من غير قسم، وإن كان المقصود الكفار، فلا حاجة له أيضاً، لأنهم غير مصدقين على كل حال؟ أجيب: بأن المقصود منه، تأكيد الأدلة التي تقدم تفصيلها في سورة يس، ليزداد الذين آمنوا إيماناً، ويزداد الكافر طرداً وبعداً. قوله: ﴿ رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ إما بدل من واحد، أو خبر ثان، أو خبر لمحذوف. قوله: (أي والمغارب) أشار بذلك إلى أن في الآية اكتفاء على حد: سرابيل تقيكم الحر، وإنما اقتصر على المشارق، لأن نفعه أعم من الغروب، إن قلت: إنه تعالى جمع المشارق هنا، وحذف مقابله، وجمعهما في سأل، وثناهما في الرحمن، وأفرهما في المزمل، فما وجه الجمع بين هذه الآيات؟ أجيب: بأن الجمع باعتبار مشرق كل يوم ومغربه، لأن الشمس لها في السنة ثلاثمائة وستون مشرقاً، وثلاثمائة وستون مغرباً، فتشرق كل يوم من مشرق منها، وتغرب كل يوم في مقابله من تلك المغارب، والتثنية باعتبار مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغربهما، والإفراد باعتبار مشرق كل سنة ومغربها، وخص الجمع بهذه السور، لمناسبة جموع أولها. قوله: ﴿ ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي القربى من الأرض. قوله: ﴿ بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ ﴾ اختلف العلماء، هل الكواكب في سماء الدنيا، أو ثوابت في العرش وضوؤها يصل لسماء الدنيا، لأن السماوات شفافة لا تحجب ما وراءها؟ قوله: (بضوئها) أو نورها، ولولاه لكانت السماء شديدة الظلمة عند غروب الشمس، وقوله: (أو بها) أي أن ذات الكواكب زينة لسماء الدنيا، فإن الإنسان إذا نظر إلى الليلة المظلمة إلى السماء، ورأى هذه الكواكب مشرقة على سطح أزرق، وجدها في غاية الزينة. قوله: (المبينة بالكواكب) أي فعل قراءة التنوين مع جر الكواكب، تكون الكواكب عطفاً عليها، وبقي قراءة ثالثة سبعية وهي تنوين، ونصب الكواكب على أنه مفعول لمحذوف تقديره أعني الكواكب. قوله: (بفعل مقدر) أي معطوف على ﴿ زَيَّنَّا ﴾.
قوله: ﴿ مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴾ وكانوا لا يحجبون عن السماوات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها، فيلقونها على الكهنة، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام، منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد عليه الصلاة والسلام، منعوا من السماوات كلها، فما منهم أحد يريد استراق السمع، إلا رمي بشهاب، وهو الشعلة من النار، فلا يخطئه أبداً، فمنهم من يقتلهن ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله فيصير غولاً يضل الناس في البراري. قوله: (مستأنف) أي لبيان حالهم بعد حفظ السماء منهم وما يعتريهم من العذاب. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (أدغمت التاء في السين) أي بعد قلبها سيناً وإسكانها. قوله: (من آفاق السماء) أي نواحيها وجهاتها. قوله: (والاستثناء من ضمير يسمعون) أي و (من) في محل رفع بدل من الواو، أو في محل نصب على الاستثناء، والاستثناء على كل متصل، ويجوز أن تكون (من) شرطية، وجوابها ﴿ فَأَتْبَعَهُ ﴾ أو موصولة مبتدأ، وخبرها ﴿ فَأَتْبَعَهُ ﴾ وهو استثناء منقطع كقوله تعالى:﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ﴾[الغاشية: ٢٢-٢٣].
﴿ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ إن قلت: تقدم أن الكواكب ثابتة في السماء أو في العرش زينة، ومقتضى كونها رجوماً للشياطين، أنها تنفصل وتزول، فكيف الجمع بين ذلك؟ أجيب: بأنه ليس المراد أن الشياطين يرجمون بذات الكواكب، بل تنفصل منها شهب تنزل على الشياطين، والكواكب باقية بحالها. إن قلت: إن الشياطين خلقوا من النار، فكيف يحترقون؟ أجيب: بأن الأقوى يحرق الأضعف، كالحديد يقطع بعضه بعضاً. إن قلت: إذا كان الشيطان يعلم أنه لا يصل لمقصوده بل يصاب، فكيف يعود مرة أخرى؟ أجيب: بأنه يرجو وصوله لمقصوده وسلامته، كراكب البحر، فإنه يشاهد الغرق، المرة بعد المرة، ويعود طمعاً في السلامة. قوله: (يثقبه) أي بحيث يموت من ثقبه، وقوله: (أو يحرقه) أي يموت أيضاً، وأو في كلام المفسر للتنويع، وهو لا ينافي وصف الشهاب بالثاقب، لأن معنى الثاقب المضيء، أي الذي وأو في كلام المفسر للتنويع، وهو لا ينافي وصف الشهاب بالثاقب، لأن معنى الثاقب المضيء، أي الذي يثقب الظلام، خلافاً لما يوهمه المفسر. قوله: (أو يخيله) الخبل بسكون الباء وفتحها، الجنون والبله، ويطلق أيضاً على من فسدت أعضاؤه. قوله: ﴿ فَٱسْتَفْتِهِمْ ﴾ إلخ، المقصود من هذا الكلام، الرد على منكري البعث، حيث ادعوا أنه مستحيل، وحاصل الرد، أن يقال لهم: إن استحالته التي تدعونها، إما لعدم المادة، وهو مردود بأن غاية الأمر تصير الأجزاء تراباً، وهو قادر على أن ينزل عليه ماء فيصير طيناً، وقد خلق أباهم آدم من طين، أو لعدم القدرة وهو مردود، بأن القادر على هذه الأشياء العظام من السماوات الأرض وغيرهما، قادر على إعادتهم ثانياً، وقدرته ذاتية لا تتغير، فهذه الآية نظير قوله تعالى:﴿ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا ﴾[النازعات: ٢٧] إلخ. قوله: ﴿ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ﴾ أي أقوى خلقاً، أو أصعب أو أشق إيجاداً. قوله: ﴿ أَم مَّنْ خَلَقْنَآ ﴾ قرأ العامة بتشديد الميم، وقرئ شذوذاً بفتحها، وهو استفهام ثان، و ﴿ مِّن ﴾ مبتدأ خبر محذوف دل عليه ما قبله أي ﴿ أَشَدُّ خَلْقاً ﴾.
قوله: ﴿ لاَّزِبٍ ﴾ من باب دخل، وقوله: (يلصق باليد) أي أنه لضعفه لا قوام له بنفسه. قوله: (المعنى أن خلقهم) إلخ، التفت المفسر إلى أنه توبيخ لهم على التكبر والعناد الذي منه إنكار البعث.
قوله: ﴿ بَلْ عَجِبْتَ ﴾ إضراب عن الأمر بالاستفتاء كأنه قال: لا تستفتهم فإنهم جاهلون معاندون، لا منفعة في استفتائهم، بل انظر إلى حالك وحالهم، والمقصود منه تسليته صلى الله عليه وسلم قوله: (بفتح التاء) أي ويضمها، قراءتان سبعيتان، وعلى الضم فالمتعجب الله تعالى، ومعناه في حقه الغضب والمؤاخذة على حد﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ ﴾[آل عمران: ٥٤] والمعنى يجازيهم على تكذيبهم إياك، وقد يطلق التعجب في حق الله تعالى على الرضا والمحبة كما في الحديث:" عجب ربك من شاب ليس له صبوة "قوله: ﴿ وَ ﴾ (هُمْ) ﴿ يَسْتَسْخِرُونَ ﴾ (من تعجبك) أي أو من تعجبي، أي غضبي عليهم ومجازاتي لهم على كفرهم. قوله: (لا يتعظون) أي لقيام الغفلة بهم. قوله: ﴿ أَءِذَا مِتْنَا ﴾ إلخ، أصل الكلام: أنبعث إذا متنا، وكنا تراباً وعظاماً؟ قدموا الظرف، وكرروا الهمزة، وأخروا العامل، وعدلوا به إلى الجملة الاسمية، لقصد الدوام والاستمرار، إشعاراً بأنهم مبالغون في الإنكار. قوله: (وادخال ألف بينهما) أي وتركه، فالقراءات أربع في كل موضع، وبقي قراءتان سبعيتان أيضا: الأول بألفين، والثانية بواحدة، والعكس، وبسط تلك القراءات يعلم من كتبها. قوله: (وبفتحها) أي والقراءتان سبعيتان هنا، وفي الواقعة، وتقدم في الأعراف﴿ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ ﴾[الأعراف: ٩٨].
قوله: (للاستفهام) أي الإنكاري. قوله: (أو الضمير في لمبعوثون) أي على القراءة الثانية، فيكون مبعوثون عاملاً فيه أيضاً، إن قلت: إن ما بعد همزة الاستفهام، لا يعمل فيه ما قبلها، فكان الأولى أن يجعل مبتدأ خبره محذوف تقديره أو آباءنا يبعثون. أجيب: بأنها مؤكدة للأولى، لا مقصودة بالاستقبال، فالعبرة بتقديم المؤكد لا المؤكد. قوله: (والفاصل) أي بين المعطوف عليه، وهو ضمير الرفع المستتر، وبين المعطوف وهو ﴿ آبَآؤُنَا ﴾، فتحصل أنه على قراءة سكون الواو، ويتعين العطف على محل إن واسمها لا غير، وعلى قراءة فتحها يجوز هذا الوجه، ويجوز كونه معطوفاً على الضمير المستتر في ﴿ لَمَبْعُوثُونَ ﴾ ويكفي الفصل بهمزة الاستفهام، على حد قول ابن مالك، أو فاصل ما. قوله: ﴿ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ﴾ الجملة حالية، والعامل فيها معنى ﴿ نَعَمْ ﴾ كأنه قيل (تبعثون) والحال أنكم صاغرون لخروجهم من قبورهم، حاملين أوزارهم على ظهورهم.
قوله: ﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ ﴾ إلخ، هذه الجملة جواب شرط مقدر، أو تعليل لنهي مقدر تقديره إذا كان الأمر كذلك فإنما هي إلخ، أو لا تستصعبوه فإنما هي إلخ. قوله: (أي صيحة) ﴿ وَاحِدَةٌ ﴾ أي وهي النفخة الثانية. قوله: ﴿ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ﴾ أي ينتظرون. قوله: (لا فعل له من لفظه) أي بل من معناه وهو هلك. قوله: (وتقول لهم الملائكة) أشار بذلك إلى أن الوقف تم عند قوله: ﴿ يٰوَيْلَنَا ﴾ وما بعده كلام مستقبل، وهذا أحد احتمالات، ويحتمل أنه من كلام بعضهم لبعض، ويحتمل أنه من كلام الله تعالى تبكيتاً لهم، ويحتمل أنه من كلام المؤمنين لهم. قوله: ﴿ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ أي من مقامهم إلى الموقف، أو من الموقف إلى النار. قوله: (قرناءهم من الشياطين) هذا أحد أقوال، وقيل: المراد أزواجهم نساؤهم اللاتي على دينهم، وقيل: أشباههم وأخلاؤهم من الإنس، لأن زوج الشيء على مقاربه ومجانسه، فيقال لمجموع فردتي الخف، ولإحداهما زوج. قوله: (من الأوثان) أي كالأصنام والشمس والقمر. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾ بكسر الهمزة في قراءة العام على الاستئناف، وفي معنى التعليل، وقرئ بفتحها على حذف لام العلة، والمعنى قفوهم لأجل سؤال الله إياهم. قوله: (عن جميع أقوالهم وأفعالهم) أي لما في الحديث:" لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره في أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به "قوله: (ويقال لهم) أي والقائل خزنة جهنم. قوله: (كحالكم في الدنيا) تشبيه في المنفي. قوله: (ويقال عنهم) أي في شأنهم على سبيل التوبيخ. قوله: ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ ﴾ أي بعض الكفار يوم القيامة؛ وهذا بمعنى ما تقدم في سورة سبأ في قوله:﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ ﴾[سبأ ٣١].
قوله: (يتلاومون ويتخاصمون) أي يلوم بعضهم بعضاً، ويخاصم بعضهم بعضاً، كما قال تعالى في شأنهم﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾[الأعراف: ٣٨] بخلاف تساؤل المؤمنين في الجنة، فهو شكر وحدث بنعم الله عليهم. قوله: ﴿ عَنِ ٱلْيَمِينِ ﴾ يطلق على الحلف والجارحة المعلومة والقوة والدين والخير، والآية محتملة لتلك المعاني، والمفسر اختار الأول، وعليه فعن بمعنى من، والمعنى: كنتم تأتوننا من الجهة الني كنا نأمنكم منها؛ فتلك الجهة مصورة بحلفكم أنكم على الحق؛ إلخ. قوله: (المعنى أنكم أضللتمونا) هذا المعنى هو المراد على جميع الاحتمالات، لا على ما قاله المفسر فقط.
قوله: ﴿ قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ إلخ، أجابوا بأجوبة خمسة آخرها ﴿ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾ والمعنى إنكم لم تتصفوا بالإيمان في حال من الأحوال. قوله: (إن لو كنتم مؤمنين) أي إن لو اتصفتم بالإيمان. قوله: (فرجعتم عن الإيمان إلينا) أي بإضلالنا وإغوائنا، كأنهم قالوا لهم: إن من آمن لا يطيعنا لثبات الإيمان في قلبه، فلو حصل منكم الإيمان لما أطعتمونا. قوله: ﴿ قَوْلُ رَبِّنَآ ﴾ أي وعيده، ومفعول القول محذوف قدره بقوله: (لأملأن جهنم) إلخ. قوله: ﴿ إِنَّا لَذَآئِقُونَ ﴾ إخبار منهم عن جميع الرؤساء والأتباع بإذاقة العذاب. قوله: ﴿ فَأَغْوَيْنَاكُمْ ﴾ أي تسببنا لكم في الغواية من غير إكراه، فلا ينافي ما قبله. قوله: ﴿ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾ أي فأحببنا لكم ما قام بأنفسنا، لأن من كان متصفاً بصفة شنيعة، يجب أن يتصف بها غيره، لتهون المصيبة عليه. قوله: (يوم القيامة) أي حين التحاور والتخاصم. قوله: (كما يفعل بهؤلاء) أي عبدة الأصنام، وقوله: (غير هؤلاء) أي كالنصارى واليهود. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوۤاْ ﴾ إلخ، أي عبدة الأصنام، وسبب ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي طالب عند موته، وقريش مجتمعون عنده فقال: قولوا لا إله إلا الله، تملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فأبوا وأنفوا من ذلك وقالوا: ﴿ أَئِنَّا لَتَارِكُوۤاْ آلِهَتِنَا ﴾ إلخ. قوله: ﴿ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي يتكبرون عن قولها، وعن من يدعوهم إليها. قوله: (في همزتيه ما تقدم) أي من التحقيق فيهما، وتسهيل الثانية، بألف ودونها، فالقراءات أربع. قوله: ﴿ لَتَارِكُوۤاْ آلِهَتِنَا ﴾ من اضافة الفاعل لمفعوله، أي لتاركون آلهتنا، والمعنى لتاركون عبادتها.
قوله: ﴿ بَلْ جَآءَ بِٱلْحَقِّ ﴾ إلخ، رد عليهم بأن ما جاء به من التوحيد حق، موافق فيه المرسلين قبله. قوله: (فيه التفات) أي من الغيبة إلى الخطاب، زيادة في التقبيح عليهم. قوله: ﴿ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي فالشر يكون جزتءه بقدره، بخلاف الخير، فجزاؤه بأضعاف مضاعفة. قوله: (استثناء منقطع) أي من الواو في ﴿ تُجْزَوْنَ ﴾.
قوله: ﴿ أُوْلَئِكَ ﴾ أي عباد الله المخلصين. قوله: (إلى آخره) أي وهو قوله:﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾[الصافات: ٤٩].
قوله: ﴿ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ﴾ أي أوقاته وصفاته، فلا ينافي آية﴿ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾[غافر: ٤٠] فإن المراد غير معلوم المقدار. قوله: (بدل) أي كل من كل، لأن جميع ما يؤكل في الجنة، إنما هو على سبيل التفكه والتلذذ، فلا فرق بين الرزق والفواكه. قوله: (لا لحفظ صحة) المناسب أن يقول: لا لحفظ بنية، قوله: (بخلق أجسادهم للأبد) أي فهم يدومون بدوام الله، لا يفنون أبداً. قوله: ﴿ وَهُم مُّكْرَمُونَ ﴾ أي معظمون مبجلون بالتحية وبالكلام اللين. قوله: ﴿ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ ﴾ إما متعلق بمكرمون، أو خبر ثان، أو حال. قوله: ﴿ عَلَىٰ سُرُرٍ ﴾ قال ابن عباس: على سرر مكللة بالدر والياقوت والزبرجد، والسرير ما بين صنعاء إلى الجابية، وما بين عدن إلى إيليا. قوله: ﴿ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ أي تواصلاً وتحابياً، وقيل: الأسرة تدور كيف شاؤوا، فلا يرى أحداً قفا أحد. قوله: ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ ﴾ أي والطائف الولدان كما في آية﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴾[الواقعة: ١٧-١٨] (هو الإناء بشرابه) أي فإن لم يكن فيه شراب، فإنه يسمى قدحاً، ويطلق الكأس على الخمر نفسه، من باب تسمية الشيء باسم محله. قوله: ﴿ مِّن مَّعِينٍ ﴾ أي ظاهر العيون، أو خارج من العيون، فعلى الأول اسم مفعول كمبيع، وعلى الثاني اسم فاعل من عان بمعنى نبع، وصف به خمر الجنة، لأنه يجري كالماء النابع. قوله: ﴿ بَيْضَآءَ ﴾ إما صفة لكأس أو للخمر. قوله: ﴿ لَذَّةٍ ﴾ إما صفة مشبهة، كصعب وسهل، فتكون مشتقة، فالوصف بها ظاهر، أو مصدر فالوصف بها مبالغة، أو على حذف مضاف أي ذات لذة قوله: (ما يغتال عقولهم) أي يفسدها، وقيل: الغول صداع في الرأس، وعليه فيكون ما بعده تأسيساً. قوله: ﴿ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾ عن سببية، أي ولا هم ينزفون بسببها. قوله: (بفتح الزاي) أي مع ضم الياء، فهو مبني للمفعول، وقوله: (وكسرها) أي مع ضم الياء أيضاً، فهو مبني للفاعل وقراءتان سبعيتان، وقرئ شذوذاً بالفتح والكسر وبالفتح والضم. قوله: (من نزف الشارب) إلخ، أي فهو مأخوذ من الثلاثي والرباعي، والقراءتان السبعيتان على مقتضى أخذه من الرباعي فتدبر.
قوله: ﴿ عِينٌ ﴾ جمع عيناء، وهي الواسعة العين اتساعاً غير مفرط، بل مع الحسن والجمال قوله: ﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ شبهن هنا ببيض النعام، وفي سورة الواقعة باللؤلؤ المكنون لصفائه، وكون بياضه مشوباً ببعض صفرة مع لمعان، لأن هذه الأوصاف جمال أهل الجنة. قوله: (عما مر بهم في الدنيا) أي من الفضائل والمعارف، وما عملوه في الدنيا. قوله: ﴿ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ ﴾ أي من أهل الجنة لإخوانه في الجنة، وهذا من جملة ما يتحدثون به. قوله: (تبكيتاً) أي توبيخاً على عدم إنكار البعث. قوله: (ما تقدم) أي من القراءات الأربع، وهي تحقيق الهمزتين، وتسهيل الثانية بإدخال ألف وتركه. قوله: (مجزين) أي فهو من الدين بمعنى الجزاء. قوله: (أنكر ذلك) أي الجزاء والحساب، وقوله: (أيضاً) أي كما أنكر البعث. قوله: (لإخوانه) أي من أهل الجنة. قوله: (من بعض كوى الجنة) بضم الكاف مع القصر، وبكسرها مع القصر والمد، جمع كوة بفتح الكاف وضمها أي طبقاتها. قوله: (تشميتاً) أي فرحاً بمصيبته لأن الله نزع رحمة الكفار من قلوب المؤمنين. قوله: (مخففة من الثقيلة) أي واللام فارقة، ويصح أن تكون نافية، واللام بمعنى إلا، وعلى كل، فهي جواب القسم. قوله: ﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة عليه تقديره: أنحن مخلدون ومنعمون؟ فما نحن بميتين، إلخ. قوله: ﴿ إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأُولَىٰ ﴾ ﴿ إِلاَّ ﴾ أداة حصر، و ﴿ مَوْتَتَنَا ﴾ منصوب على المصدر، والعامل فيه قول الميتين، ويكون استثناء مفرغاً، وهو بمعنى قوله تعالى:﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ ﴾[الدخان: ٥٦].
قوله: (هو استفهام تلذذ) أي فهو من كلام بعضهم لبعض، وقيل: من كلام المؤمنين للملائكة حين يذبح الموت، ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت. قوله: (من تأييد الحياة) إلخ، لف ونشر مرتب. قوله: (الذي ذكر لأهل الجنة) أي من قوله:﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ﴾[الصافات: ٤١] إلخ.
قوله: ﴿ لِمِثْلِ هَـٰذَا ﴾ أي لا للحظوظ الدنيوية الفانية التي تزول ولا تبقى. قوله: ﴿ فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَامِلُونَ ﴾ أي ليجتهد المجتهدون في الأعمال الصالحة، فإن جزاءها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فإذا كان كذلك، فلو أفنى الإنسان عمره في خدمة ربه، ولم يشتغل بشيء سواها، لكان ذلك قليلاً بالنسبة لما يلقاه من النعيم الدائم، جعلنا الله من أهله بمنه وكرمه. قوله: (قيل يقال لهم ذلك) أي ما ذكر من الجملتين من قبل الله تعالى، وقوله: (وقيل هم يقولونه) أي يقول بعضهم لبعض، ويبعد كلاً من الاحتمالين. قوله: ﴿ فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَامِلُونَ ﴾ فإن العمل والترغيب فيه، إنما يكون في الدنيا، فالأولى أنه جملة مستأنفة من كلام الله تعالى، ترغيباً للمكلفين في عمل الطاعات. قوله: ﴿ أَذَلِكَ ﴾ معمول لمحذوف تقديره: قل يا محمد لقومك، على سبيل التوبيخ والتبكيت ﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ إلخ. قوله: (المذكور لهم) أي لأهل الجنة من قوله:﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ﴾[الصافات: ٤١] إلخ، قوله: ﴿ نُّزُلاً ﴾ تمييز لخير، وقوله: ﴿ أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ ﴾ حرف عطف، و ﴿ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ ﴾ معطوف على اسم الإشارة، وهو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه، والتقدير أم شجرة الزقوم خير نزلاً. والتعبير بخير، و ﴿ نُّزُلاً ﴾ تهكم بهم وللمشاكلة. قوله: ﴿ أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ ﴾ من التزقم، وهو البلع بشدة وإكراه للأشياء الكريهة، سميت بذلك، لأم أهل النار يكرهون على الأكل منها، وهي شجرة مسمومة، متى مست جسد أحد تورم فمات، وهي خبيثة مرة كريهة الطعم. قوله: (وهي من أخبث الشجر) أي وهي صغيرة الورق منتنة. قوله: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا ﴾ أي بسبب إخبار الله تعالى بذلك. قوله: ﴿ فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ﴾ أي امتحاناً واختباراً، هل يصدقون أم لا؟ قوله: (إذ قالوا النار تحرق الشجر فكيف تنبته) أي ولم يعلموا أن القادر لا يعجزه شيء. قوله: ﴿ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ ﴾ أي تنبت في أسفلها. قوله: (إلى دركاتها) أي منازلها، وذلك نظير شجرة طوبى لأهل الجنة، فإن أصلها في عليين، وما من بيت في الجنة إلا وفيه غصن منها.
قوله: ﴿ طَلْعُهَا ﴾ الطلع في الأصل، اسم لثمر النخل أول بروزه، فتسميه طلعاً تهكم بهم. قوله: (أي الحياة القبيحة المنظر) أي ووجه الشبه الشناعة والسم في كل، وما مشى عليه المفسر أحد أقوال ثلاثة، وقيل: شبه طلعها برؤوس الشياطين حقيقة، ووجه الشبه القباحة ونفور النفس من كل، لكن يرد عليه أنه تشبيه بغير معلوم للمخاطبين، وأجيب: بأن الشيطان وإن كان غير معلوم في الخارج، فهو معروف في الأذهان والخيالات، كالغول فإنه مرسوم في خيال كل أحد بصورة قبيحة، وقيل: الشياطين شجر في البادية معروف للمخاطبين. قوله: (لشدة جوعهم) أي ولقهرهم على الأكل منها زيادة في عذابهم. قوله: ﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا ﴾ أي على ما يأكلونه منها، إذا شبعوا وغلبهم العطش. قوله: ﴿ لَشَوْباً ﴾ بفتح الشين في قراءة العامة مصدر على أصله، وقرئ شذوذاً بضم الشين اسم بمعنى المشوب. قوله: (يفيد أنهم يخرجون منها) هذا أحد قولين، والآخر هو قول الجمهور، أنهم لا يخرجون أصلاً، لقوله تعالى:﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ﴾[المائدة: ٣٧] وحينئذ فالمعنى أنه ينوع عذابهم وهم في النار، فتارة يكون عذابهم بأكل الزقوم، وتارة بشرب الحميم، وتارة بالزمهرير، وغير ذلك من أنواع العذاب، فإذا كانوا مشغولين بأكل الزقوم وفرغوا منه، يردون إلى الاشتغال بعذاب غيره، والحال أنهم في النار لا يخرجون منها، ويمكن التوفيق بين القولين، بأن يحمل القول بأن خارجها، وعلى أنه في محل خارج عن المحل الذي يعذبونه فيه، وليس المراد أنه خارج النار بالكلية، لمعارضته صريح النص؛ فيخرجون إلى ذلك المحل للأكل والشرب، ثم يردون إلى محل العذاب الذي كانوا فيه أولاً. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ﴾ هذا تعليل لاستحقاقهم العذاب، والمعنى: أن سبب استحقاقهم للعذاب، تقليد آبائهم في الضلال، في غير شيء يتمسكون به سوى التقليد. قوله: ﴿ يُهْرَعُونَ ﴾ أي من غير تأمل ولا تدبر. قوله: ﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ ﴾ إلخ اللام فيه وفيما بعده وفيما بعده موطئة لقسم حذوف، وكل من الجملتين سبق لتسليته صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ فَٱنظُرْ ﴾ خطاب للنبي أو لكل من يتأتى منه النظر. قوله: ﴿ إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ﴾ استثناء منقطع، لأن ما قبله وعيد، وهم لم يدخلوا فيه. قوله: (لاخلاصهم في العبادة) أي على قراءة كسر اللام. قوله: (على قراءة فتح اللام) أي والقراءتان سبعيتان.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ ﴾ شروع في تفصيل ما أجمله في قوله:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ ﴾[الصافات: ٧٢] وقد ذكر في هذه السورة سبع قصص: قصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصة الذبيح، وقصة موسى وهارون، وقصة الياس، وقصة لوط، وقصة يونس، وذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم وتحذير لمن كفر من أمته. قوله: (ربي إني مغلوب) أي مقهور، وقوله: (فانتصر) أي انتقم منهم. قوله: ﴿ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ ﴾ الواو للتعظيم، وقوله: (نحن) هو المخصوص بالمدح. قوله: ﴿ وَأَهْلَهُ ﴾ أي من آمن به، ومنهم زوجته المؤمنة وأولاده الثلاثة وزوجاتهم. قوله: (فالناس كلهم من نسله) هذا هو المعتمد، وقيل كان لغير ولد نوح أيضاً نسل. قوله: (سام) إلخ، الثلاثة بمنع الصرف للعلمية والعجمة وفارس، كذلك للعلمية والتأنيث، لأنه علم على قبيلة. قوله: (والخزر) بفتح الخاء والزاي بعدهما راء مهملة، وهكذا في النسخ الصحيحة وهو الصواب، وفي بعض النسخ: والخزرج، وهو تحريف فاحش، لأن الخزرج من جملة العرب، والخزر صنف من الترك صغار الأعين، يعرفون الآن بالطرر. قوله: (وما هنالك) أي وهم قوم عند يأجوج ومأجوج، إذا طلعت عليهم الشمس، ودخلوا في أسراب لهم تحت الأرض، فإذا زالت عنهم، خرجوا إلى معايشهم وحروثهم، وقيل: هم قوم عراة، يفرش بعضهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى. قوله: (ثناء حسناً) قدره إشارة إلى أن مفعول ﴿ تَرَكْنَا ﴾ محذوف، وقوله: ﴿ سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ ﴾ كلام مستقل انشاء، ثناء من الله تعالى عن نوح، فالأول ثناء الخلق، والثاني ثناء الخالق، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من قال حين يمسي: سلام على نوح في العالمين، لم تلدغه عقرب "قوله: ﴿ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ متعلق بما تعلق به الجار قبله، والمراد بالعالمين الملائكة والثقلان. قوله: ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ تعليل لما فعل بنوح من الكرامة، في إجابة دعائه، وإبقاء ذريته، وذكر الجميل، وتسليم الله عليه في العالمين، أي فهذا الجزاء سنتنا في كل من اتصف بالإحسان كنوح. قوله: ﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ علة لكونه محسناً، وفيه إجلال لشأن الإيمان، وإظهار لفضله، وترغيب في تحصيله والثبات عليه والازدياد منه. قوله: ﴿ ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ ﴾ معطوف على ﴿ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ﴾ فالترتيب حقيقي، لأن نجاتهم بركوب السفينة، حصلت قبل غرق الباقين فتدبر.
قوله: ﴿ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ ﴾ إلخ عطف على قوله: ﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ ﴾ عطف قصة على قصة. قوله: (أي ممن اتبعه) إلخ، أي فالشيعة الأتباع والحزب. قوله: (في أصل الدين) أي وإن اختلفت فروع شرائعهما، فالأتباع في أصول الدين وهو التوحيد، لا في الفروع كالصلاة مثلاً. قوله: (وإن طال الزمان) إلخ، الجملة حالية، والمعنى أنه من أتباعه على عهده، والحال أن الزمان طال بينهما، فطول المدة لم ينسه العهد. قوله: (وهو ألفان) إلخ، هذا أحد قولين، والآخر أن بينهما ألف سنة ومائة واثنتين وأربعين سنة. قوله: (وكان بينهما هود وصالح) أي وكان قبل نوح ثلاثة: إدريس وشيت وآدم، فجملة من قبل إبراهيم من الأنبياء ستة. قوله: ﴿ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ ﴾ إلخ، معنى مجيئه توجهه بقلبه مخلصاً لربه، وفي الكلام استعارة تبعية تقريرها أن تقول: شبه إقباله على ربه مخلصاً قلبه بمجيئه بتحفة جميلة، والجامه بينهما طلب الفوز بالرضا، واشتق من المجيء جاء بمعنى أقبل بقلبه. قوله: (أي تابعه وقت مجيئه) أشار بذلك إلى أن الظرف متعلق بمحذوف دل عليه قوله: ﴿ شِيعَتِهِ ﴾ ويصح جعله متعلقاً بشيعته، لما فيها من معنى المشايعة، لكن فيه أنه يلزم عليه الفصل بينه وبين معموله بأجنبي وهو قوله: ﴿ لإِبْرَاهِيمَ ﴾ وأيضاً يلزم عليه عمل ما قبل اللام الابتدائية فيما بعدها، وأجيب: بأنه يتوسع في الظروف، ما لا يتوسع في غيرها. قوله: (من الشك وغيره) أي من الآفات والعلائق التي تشغل القلب عن شهود الرب تعالى. قوله: ﴿ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ﴾ تقدم الخلاف في كونه أبا حقيقة أو عمه، وإنما عبر بالأب، لأن العم أب، والمراد بقومه النمروذ وجماعته. قوله: (في همزتيه ما تقدم) أي وهو تحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية بألف بينهما وتركها. قوله: (وإفكاً مفعول له) أي وقدم على المفعول به، لأجل التقبيح عليهم بأنهم على إفك وباطل. قوله: (أي تعبدون غير الله) كان عليه أن يزيد قوله لأجل الافك، ليوفي بالمفعول لأجله. قوله: (إذا عبدتم غيره) أي وقت عبادتكم غيره. قوله: (أن يترككم بلا عقاب) معمول للظن، والمعنى: أي سبب حملكم على ظنكم أنه تعالى يترككم بلا عقاب حين عبدتم غيره، وأشار بقوله: (لا) إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي ليس لكم سبب ولا عذر، يحملكم على الظن المذكور، إذا انتفى السبب، انتفى المسبب بالأولى. قوله: (وكانوا نجَّامين) ذكر هذا توطئة لقوه تعالى: ﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ ﴾.
قوله: (فخرجوا إلى عيد لهم) أي وكانوا في قرية بين البصرة والكوفة يقال لها هرمز. قوله: (زعموا التبرك عليه) أي أنها تتنزل عليه البركة. قوله: ﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ ﴾ أي في علم النجوم، متفكراً في أمر يعذرونه بسببه فيتركونه قوله: (أي سأسقم) جواب عما يقال: كيف قال: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ والحال أنه لم يكن سقيماً؟ وأجيب أيضاً: بأن المعنى سقيم القلب، من عبادتكم ما لا يضر ولا ينفع، وقد أشار بقوله: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ إلى سقم مخصوص وهو الطاعون، وكان الطاعون أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون منه العدوى، فتفرقوا عن إبراهيم خوفاً منها، فهربوا إلى عيدهم، وتركوه في بيت الأصنام، قوله: (وهي الأصنام) أي وكانت اثنين وسبعين صنماً، بعضها من حجر، وبعضها من خشب، وبعضها من ذهبن وبعضها من فضة، وبعضها من نحاس، وبعضها من حديد، وبعضها من رصاص، وكان كبيرها من ذهب مكللاً بالجواهر، وكان في عينيه ياقوتتان تتقدان نوراً. قوله: وعندها الطعام) الجملة حالية. قوله: ﴿ فَقَالَ ﴾ (استهزاء بهم) إن قلت: أي فائدة في خطاب ما لا يعقل؟ أجيب: بأنه لعل عنده من يسمع كلامه من خدمتها أو غيرهم. قوله: ﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي مال في خفية، من قولهم: راغ الثعلب روغاناً: تردد وأخذ الشيء خفية. قوله: (بالقوة) أي القدرة. قوله: ﴿ فَأَقْبَلُوۤاْ إِلَيْهِ ﴾ مرتب على محذوف قدره المفسر بقوله: (فبلغ قومه) إلخ. قوله: ﴿ يَزِفُّونَ ﴾ بكسر الزاي مع فتح الياء أو ضمها قراءتان سبعيتان. قوله: (فقالوا نحن نعبدها) إلخ، أي بعد ما سألوه وأجابهم، فلما تحققوا أنه هو الذي كسرها قالوا: (نحن نعبدها) إلخ، وقد تقدم بسط ذلك في الأنبياء. قوله: (موبخاً) أي على ما وقع منهم، ولا تضر ولا تنفع. قوله: (وما مصدرية) إلخ، ذكر فيها ثلاثة أوجه، وبقي اثنان كونها استفهامية، والمعنى: وأي شيء تعلمونه وكونها نافية؟ والمعنى: ليس العمل في الحقيقة لكم، وإنما هو لله تعالى. قوله: ﴿ بُنْيَاناً ﴾ قيل بنوا له حائطاً من الحجر، طوله في السماء ثلاثون ذراعاً، وعرضه عشرون ذراعاً، وملأوه من الحطب، وأوقدوا عليه النار، ثم تحيروا في كيفية رميه، فعلمهم إبليس المنجنيق، فصنعوه ووضعوه فيه ورموه فيها، فصارت عليه برداً وسلاماً. قوله: (وأضرموه بالنار) أي أوقدوه بها. قوله: (النار الشديدة) أي فكل نار بعضها فوق بعض تسمى جحيماً من الجحمة، وهي شدة التأجج. قوله: (المقعورين) أي بإبطال كيدهم، حيث جعلت عليه برداً وسلاماً.
قوله: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ ﴾ إلخ، عطف على محذوف قدره بقوله: (فخرج) إلخ، والمعنى: لما خرج من النار سالماً، ولم يهتد من قومه أحد، هاجر وهو لوط ابن أخيه، وسارة زوجته إلى أرض الشام، وهو أول من هاجر من الخلق في طاعة الله، وقوله: ﴿ إِلَىٰ رَبِّي ﴾ أي إلى عبادة ربي وطاعته. قوله: ﴿ سَيَهْدِينِ ﴾ أي إلى ما فيه صلاح ديني وبلوغ مطالبي. قوله: (إلى حيث أمرني ربي) أي إلى مكان أمرني إلخ، وهذا متعلق بكل من ﴿ ذَاهِبٌ ﴾ ويهدين. قوله: (فلما وصل إلى الأرض المقدسة) قدره توطئة لقوله: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي ﴾ إلخ. قوله: ﴿ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ أي بعض الصالحين، يكون خليفة لي ويرث حالي. قوله: ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ ﴾ مرتب على محذوف تقديره فاستجبنا له فبشرناه، وتلك البشارة على لسان الملائكة الذين جاؤوا له في صورة أضياف، فبشروه بالغلام، ثم انتقلوا من قريته وهي فلسطين، إلى قرية لوط وهي سذوم، لإهلاك قومه، كما تقدم ذلك في سورة هود، ويأتي في الذاريات.
قوله: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ ﴾ أشار المفسر إلى أن قوله: (معه) ظرف متعلق بالسعي، وفيه أنه يلزم عليه تقدم صلة المصدر المؤول من (أن) والفعل عليه وهو لا يجوز، وأجيب: بأنه يغتفر في الظروف ما لا يغتفر في غيرها، ويصح جعله متعلقاً بمحذوف على سبيل البيان، كأن قائلاً قال: مع من بلغ السعي؟ فقيل: بلغ معه، ولا يصح جعله متعلقاً ببلغ، ولا حالاً من ضميره، لأنه يوهم اقترانهما في بلوغ السعي، لأن المصاحبة تقتضي المشاركة، مع أن المقصود، وصف الصغير بذلك فقط. قوله: ﴿ قَالَ يٰبُنَيَّ ﴾ جواب لما، والحكمة في ذلك: أن إبراهيم اتخذه الله تعالى خليلاً، والخلة هي صفاء المودة، ومن شأنها عدم مشاركة الغير مع الخليل، وكان قد سأل ربه الولد، فلما وهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، فجاءت غير الخلة تنزعها من قلب الخليل، فأمر بذبح المحبوب، لتظهر صفاء الخلة وعدم المشاركة فيها، حيث امتثل أمر ربهن وقدم محبته على محبة ولده. قوله: (أي رأيت) أشار بذلك إلى أن الرؤيا وقعت بالفعل، لما روي: أنه ليلة التروية، أن قائلاً يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح فكر في نفسه أنه من الله، فلما أمسى رأى مثل ذلك في الليلة الثانية، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهم بنحره فقال له: ﴿ يٰبُنَيَّ ﴾ إلخ، ولذلك سميت الأيام الثلاثة: بالتروية، وعرفة، والنحر، لأنه في اليوم الأول تروى، وفي الثاني عرف، وفي الثالث نحر. قوله: ﴿ أَنِّي أَذْبَحُكَ ﴾ أي أفعل الذبح، أو أمرت، به، احتمالان: ويشير للأول قوله: ﴿ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ ﴾، وللثاني. قوله: ﴿ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ ﴾.
قوله: ﴿ مَاذَا تَرَىٰ ﴾ يصح أن تكون ﴿ مَاذَا ﴾ مركبة، وحينئذ فهي منصوبة بترى، وما بعدها في محل نصب بالنظر، لأنها معلقة له، ويصح أن تكون ما استفهامية، وذا موصولة، فتكون ﴿ مَاذَا ﴾ مبتدأ وخبراً، وقوله: ﴿ تَرَىٰ ﴾ بفتحتين من الرأي، وفي قراءة سبعية ترى بالضم والكسر، والمفعولان محذوفان، أي تريني إياه من صبرك واحتمالك، وقرئ شذوذاً بضم ففتح، أي ما يخيل لك. قوله: (شاروه ليأنس) إلخ، أي وليعلم صبره وعزيمته على طاعة الله. قوله: ﴿ قَالَ يٰأَبَتِ ﴾ أي بفتح التاء وكسرها، قراءتان سبعيتان. قوله: (التاء عوض عن ياء الإضافة) أي فهي في محل جر، كما كانت الياء في محل جر. قوله: ﴿ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ ﴾ قال ابن اسحاق وغيره: لما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه: يا بني، خذ هذا الحبل والمدية، وانطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب، فلما خلا بابنه في الشعب، أخبره بما أمره الله به، فقال: ﴿ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ ﴾.
قوله: ﴿ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ أتى بها تبركاً وإشارة إلى أنه لا حول عن المعصية إلا بعصمة الله، ولا قوة على الطاعة إلا بمعونة الله. قوله: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا ﴾ أي الوالد والولد. قوله: ﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ أي صرعه ورماه على شقه فوق التل الذي هو المكان المرتفع، قال ابن عباس: لما فعل ذلك الابن قال: يا أبت اسدد رباطي كي لا أضطرب، واكفف ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء، فينقص أجري، وتراه أمي فتحزن، واستحد شفرتك، وأسرع بها على حلقي، ليكون أهون علي، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني، وإن رأيت أن ترد قميصي عليها فافعل، فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني، فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ففعل إبراهيم ما أمر به ابنه، ثم أقبل عليه وهو يبكي، والابن يبكي، فلما وضع السكين على حلقه فلم تؤثر شيئاً، فاشتدها بالحجر مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك لا تستطيع أن تقطع شيئاً، فمنعت بقدرة الله تعالى، وقيل: ضرب الله صفيحة من نحاس على حلقه، والأول أبلغ في القدرة الإلهية، وهو منع الحديد عن اللحم، فعند ذلك قال الابن: يا أبت كبني لوجهي على جبيني، فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني، فأدركتك رأفة تحول بينك وبين أمر الله، وأنا أنظر إلى الشفرة فأجزع منها، ففعل ذلك إبراهيم، ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت، فنودي ﴿ يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ ﴾ إلخ. قوله: (بمنى) يذكر ويؤنث وبصرف ويمنع من الصرف باعتبار المكان والبقعة. قوله: (وأمرَّ السكين) هذا أحد قولين مشهورين، وهو ما تقدم عن ابن عباس، والآخر: أنه لم يمرّ السكين، بل لما أضجعه وأراد أم يمرَّ السكين جاءه النداء، وبالأول استدل أهل السنة، على أن الأمور العادية لا تؤثر شيئاً، لا بنفسها، ولا بقوة أودعها الله فيها، وإنما المؤثر هو الله تعالى، فتخلف القطع في ولد إبراهيم، وتخلف الاحراق في إبراهيم. قوله: (فجملة ناديناه جواب لما) إلخ، هذا أحد أوجه ثلاثة، والثاني أنه محذوف تقديره ظهر صبرهما، أو أجز لنا لهما الأجر، والثالث أن قوله: ﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ بزيادة الواو. قوله: (بإفراج الشدة) المناسب أن يقول: بتفريج الشدة أو بفرجها، لأن الفعل فرج بالتخفيف والتشديد، فمصدره إما التفريج أو الفرج.
قوله: ﴿ وَفَدَيْنَاهُ ﴾ عطف على قوله: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ ﴾.
قوله: (قولان) أي وهما مبنيان على قولين آخرين: هل إسماعيل أكبر أو اسحاق؟ فمن قال بالأول، قال إن الذبيح اسماعيل، ومن قال بالثاني، قال إن الذبيح اسحاق، واعلم أن كلاً من القولين، قال به جماعة من الصحابة والتابعين، لكن القول بأن الذبيح اسحاق، أقوى في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة التابعين، حتى قال سعيد بن جبير: أرى إبراهيم ذبح اسحاق في المنام، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة، حتى أتى به المنحر بمنى، فلما صرف الله عنه الذبح، أمره أن يذبح به الكبش فذبحه، وسار إلى الشام مسيرة شهر في روحة واحدة، وطويت له الأدوية والجبال. وبقي قول ثالث، وهو الوقف عن الجزم بأحد القولين، وتفويض علم ذلك إلى الله تعالى. قوله: (كبش) ﴿ عَظِيمٍ ﴾ وقيل: إنه كان تيساً جبلياً أهبط عليه من ثبير. قوله: (وهو الذي قربه هابيل) أي ووصفه بالعظم، لكونه تقبل مرتين. قوله: (فذبحه السيد إبراهيم) أي وبقي قرناه معلقين على الكعبة، إلى أن احترق البيت في زمن ابن الزبير، وما بقي من الكبش أكلته السباع والطيور، لأن النار لا تؤثر فيما هو من الجنة. قوله: (مكبراً) روي أنه لما ذبحه قال جبريل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فصار سنة. قوله: (استدل بذلك) إلخ، أي وهو مذهب الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة: لا دليل فيها، لأن اسحاق وقعت بعد البشارة به مرتين، مرة بوجوده، ومرة بنبوته، فمعنى قوله: ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً ﴾ بشرنا بنبوة اسحاق بعد البشارة بوجوده. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ إما صفة لنبياً، أو حال من ضميره. قوله: ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا ﴾ خبر مقدم، وقوله: ﴿ مُحْسِنٌ ﴾ إلخ، مبتدأ مؤخر، وفيه إشارة إلى النسب، لا مدخل له في الهدى ولا في الضلال. قوله: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا ﴾ معطوف على ما قبله، عطف قصة على قصة، واللام موطئة لقسم محذوف تقديره: وعزتنا وجلالنا لقد أنعمنا إلخ؛ وتحدث الله بالامتنان على عباده من عظيم الشرف لهم، وقوله: (بالنبوة) أي المصاحبة للرسالة، لأنهما كانا رسولين، ولا مفهوم للنبوة، بل أعطاهما الله تعالى نعماً جمة دينية ودنيوية، وإنما خصها لأنها أشرف النعم. قوله: (بني إسرائيل) أي أولاد يعقوب. قوله: (أي استعباد فرعون إياهما) وسبب استيلائه عليهم: أن أصولهم قدموا مصر مع أبيهم يعقوب ليوسف حين كان ملكاً، فاستمروا بها، فلما ظهر فرعون وتكبر، استعبد ذريتهم وجعلهم خدماً للقبط.
قوله: ﴿ وَنَصَرْنَاهُمْ ﴾ الضمير عائد على موسى وهارون وقومهما. قوله: ﴿ فَكَانُواْ هُمُ ٱلْغَٰلِبِينَ ﴾ يصح أن يكون ﴿ هُمُ ﴾ ضمير فصل أول بدلاً من الواو في كانوا، والأول أظهر. قوله: (وغرهما) أي كالقصص والمواعظ. قوله: ﴿ وَهَدَيْنَاهُمَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ﴾ أي وصلناهما للدين الحق. قوله: ﴿ سَلاَمٌ ﴾ مبتدأ خبره محذوف قدره بقوله: (منا) وقوله: ﴿ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ﴾ متعلق بسلام، والمسوغ للابتداء بالنكرة قصد التعظيم، وعملها في الجار والمجرور بعدها. قوله: (كما جزيناهما) أي ما تقدم، من الإنجاء والنصر وإيتاء الكتاب وإبقاء الثناء. قوله: ﴿ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ في مثل هذه الآيات، ترغيب للمؤمنين، وإشعار بأن كل مؤمن، قابل لكل خير وصالح له. قوله: ﴿ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي الكاملين في الإيمان، البالغين الغاية فيه. قوله: ﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ ﴾ معطوف على ما قبله، عطف قصة على قصة. قوله: (بالهمز أوله وتركه) أي بناء على أنها همزة قطع أو وصل، قراءتان سبعيتان، وسبب جواز الأمرين، أنه اسم أعجمي استعملته العرب، فلم تضبط فيه همزة قطع ولا وصل. قوله: ﴿ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ خبر ﴿ إِنَّ ﴾.
قوله: (قيل هو ابن أخي هارون) إلخ، الصحيح أنه من ذرية هارون، لقول محمد بن اسحاق: هو الياس بن ياسين بن فنحاص بن معيزار بن هارون بن عمران وإلياس ابن عم اليسع. قوله: (وقيل غيره) من جملة ذلك، أنه هو إدريس، وقيل هو اليسع. قوله: (أرسل إلى قوم ببعلبك) حاصل قصته كما قال محمد بن اسحاق وعلماء السير والأخبار: لما قبض الله عز وجل حزقيل النبي صلى الله عليه وسلم، عظمت الأحداث في بني اسرائيل، وظهر فيهم الفساد والشرك، ونصبوا الأصنام وعبدوها من دون الله عز وجل، فبعث الله إليهم إلياس نبياً، وكانت الأنبياء يبعثون من بعد موسى عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل، بتجديد ما نسوا من أحكام التوراة، وكان يوشع لما فتح الشام، قسمها على بني إسرائيل، وإن سبطاً منهم حصل في قسمته بعلبك ونواحيها، وهم الذين بعث إليهم الياس، وعليهم يومئذ ملك اسمه أرحب، وكان قد أضل قومه، وجبرهم على عبادة الأصنام، وكان له صنم من ذهب، طوله عشرون ذراعاً، وله أربعة وجوه، وكان اسمه بعلاً، وكانوا قد فتنوا به وعظموه، وجعلوا له أربعمائة سادن، وجعلوهم أبناءه، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل، ويتكلم بشريعة الضلال، والسدنة، يحفظونها عنه ويبلغونها الناس، وهم أهل بعلبك، وكان الياس يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل، وهم لا يسمعون له ولا يؤمنون به، إى ما كان من أمر الملك، فإنه آمن به وصدقه، فكان الياس يقوم بأمره ويسدده ويرشده؛ ثم إن الملك ارتد واشتد غضبه على إلياس وقال: يا إلياس ما أرى ما تدعونا إليه إلا باطلاً، وهم بتعذيب إلياس وقتله، فلما أحس إلياس بالشر، رفضه وخرج عنه هارباً، ورجع الملك إلى عبادة بعل، ولحق إلياس بشواهق الجبال، فكان يأوي إلى الشعاب والكهوف، فبقي سبع سنين على ذلك خائفاً مستخفياً، يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر، وهم في طلبه قد وضعوا عليه العون، والله يستره منهم، فلما طال الأمر على الياس، وسئم الكمون في الجبال، وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون، والله يستره منهم، فلما طال الأمر على الياس، وسئم الكمون في الجبال، وطال عصيان قومه، وضاق بذلك ذرعاً، دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم، فقيل: انظر يوم كذا وكذا، فاخرج إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج الياس ومعه اليسع، حتى إذا كان بالموضع الذي أمر له، إذا أقبل فرس من نار، وقيل لونه كالنار، حتى وقف بين يدي الياس، حتى إذا كان بالموضع الذي أمر به، إذا أقبل فرس من نار، وقيل لونه كالنار، حتى وقف بين يدي الياس، فوثب عليه، فانطلق به الفرس، فناداه اليسع: يا الياس ما تأمرني. فقذف إليه الياس بكسائه من الجو الأعلى، فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني اسرائيل، وكان ذلك آخر العهد به، ورفع الله الياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش، فصار إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً، ونبأ الله تعالى اليسع، وبعثه رسولاً إلى بني اسرائيل، وأوحى الله إليه وأيده، فآمنت به بنو اسرائيل، وكانوا يعظمونه وحكم الله تعالى فيهم قائم، إلى أن فارقهم اليسع، وقد أعطى الله الياس معجزات جمة منها: تسخير الجبال له، والأسود وغيرهما، وأعطاه الله قوة سبعين نبياً، وكان على صفة موسى في الغضب والقوة. روي أن الياس والخضر يصومان رمضان كل عام ببيت المقدس، ويحضران موسم الحج كل عام، ويفترقان على أربع كلمات: بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله، بسم الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله، وقيل في الرواية غير ذلك، والياس موكل بالفيافي والقفار، والخضر موكل بالبحار، ولا يموتان إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن. وعن أنس قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا عند عند فج الناقة، فسمعت صوتاً يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد، المرحومة، المغفور لها، المستجاب لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أنس انظر ما هذا الصوت؟ فدخلت الجبل، فإذا رجل عليه ثياب بيض، أبيض الرأس واللحية، طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع، فلما رآني قال: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: نعم، قال: فارجع إليه فاقرأه السلام وقل له: هذا أخوك الياس يريد أن يلقاك، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فجاء يمشي وأنا معه، حتى إذا كنا قريباً منه، تقدم النبي وتأخرت أنا، فتحدثا طويلاً، فنزل عليهما من السماء شيء يشبه السفرة، ودعوان فأكلت معهما، وإذا فيها كمأة ورمان وحوت وكرسف، فلما أكلت قمت فتنحيت، فجاءت سحابة فحملته، وأنا أنظر إلى بياض ثيابه فيها تهوي قبل السماء. انتهى.
قوله: ﴿ أَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ الله أي تتمثلون أوامره وتجتنبون نواهيه. قوله: (وبه سمي البلد) أي ثانياً، وأما أولاً فاسمها بك فقط، فلما عبد بعل سميت بعلبك. قوله: (مضافاً إلى ربك) أي مضموماً إليه، فالتركيب مزجي لا إضافي. قوله: ﴿ تَذَرُونَ ﴾ عطف على ﴿ تَدْعُونَ ﴾ فهو داخل في حيز الإنكار. قوله: ﴿ أَحْسَنَ ٱلْخَالِقِينَ ﴾ أي المصورين، لأنه سبحانه وتعالى يصور الصورة ويلبسها الروح، وغيره يصور من غير روح. قوله: (برفع الثلاثة) إلخ، أي والقراءتان سبعيتان. قوله: (فإنهم نجوا منها) أشار بذلك إلى أن الاستثناء من الواو في ﴿ لَمُحْضَرُونَ ﴾ كأنه قال: فكذبوه فإنهم لمحضرون، إلا الذين تابوا من تكذيبهم وأخلصوا، فإنهم غير محضرين. قوله: (قيل هو الياس المتقدم) أي وعليه فهو مفرد مجرور بالفتحة للعلمية والعجمة، وهي لغة ثانية فيه. قوله: (وقيل هو) إلخ، أي وعليه، فهو مجرور بالياء لكونه جمع مذكر سالماً. قوله: (المراد به الياس) أي فأطلق الأول وأراد به ما يشمله وقومه المؤمنين به، فتحصل أن في الآية ثلاث عبارات: الياس أولها، وإلياسين وآل ياسين في آخرها، وكلها سبعية.
قوله: ﴿ وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ عطف على ما قبله أيضاً، عطف قصة على قصة. قوله: (اذكر) ﴿ إِذْ نَجَّيْنَاهُ ﴾ إلخ، قدر المفسر (اذكر) إشارة إلى أن الظرف متعلق بمحذوف، ولم يجعله متعلقاً بقوله: ﴿ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ لأنه يوهم أنه قبل النجاة لم يكن رسولاً، مع أنه رسول قبل النجاة وبعدها. قوله: ﴿ وَأَهْلَهُ ﴾ المراد بهم بنتاه. قوله: ﴿ إِلاَّ عَجُوزاً ﴾ هي امرأته. قوله: (أي وقت الصباح) بيان لمعناه في الأصل، وقوله: (يعني بالنهار) بيان للمراد منه، وقوله: ﴿ بِٱلَّيلِ ﴾ عطف على ﴿ مُّصْبِحِينَ ﴾ وهو حال أخرى. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة عليه، والتقدير: أتشاهدون ذلك فلا تعقلون؟قوله: ﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ هو ابن متى، وهو ابن العجوز التي نزل عليها الياس، فاستخفى عندها من قومه ستة أشهر، ويونس صبي يرضع، وكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتؤانسه، ولا تدخر عنه كرامة تقدر عليها، ثم إن الياس أذن له في السياحة فلحق بالجبال، ومات يونس ابن المرأة، فخرجت في أثر الياس، تطوف وراءه في الجبال حتى وجدته، فسألته أن يدعو الله لها، لعله يحيي لها ولدها، فجاء الياس إلى الصبي بعد أربعة عشر يوماً مضت من موته، فتوضأ وصلى ودعا الله، فأحيا الله تعالى يونس بن متى بدعوة الياس عليه السلام، وأرسل الله يونس إلى أهل نينوى من أرض الموصل، وكانوا يعبدون الأصنام.
قوله: ﴿ إِذْ أَبَقَ ﴾ ظرف لمحذوف تقديره اذكر، كما تقدم نظيره، وقوله: أبق: بابه فتح، والإباق في الأصل: الهروب من السيد، وإطلاقه على هروب يونس، استعارة تصريحية، فشبه خروجه بغير إذن ربه، بإباق العبد من سيده. قوله: (حين غاضب قومه) المفاعلة على بابها، لأنهم غاضبوه بعدم الانقياد له والإيمان به، وهو غضب عليهم. قوله: (فركب السفينة) أي باجتهاد منه، لظنه أنه إن بقي بينهم قتلوه، لأنهم كانوا يقتلون كل من ظهر عليه كذب، فركوب السفينة ليس معصية لربه، لا صغيرة ولا كبيرة، ومؤاخذته بحبسه في بطن الحوت على مخالفته الأولى، فإن الأولى له انتظار الإذن من الله تعالى، هذا هو الصواب في تحقيق المقام، وهناك أقوال أخر، اعتقادها يضر في العقيدة، والعياذ بالله تعالى. قوله: (فوقفت) أي من غير سبب، وقوله: (في لجة البحر) المراد به الدجلة. قوله: (فقال الملاحون) إلخ، أي وكان من عادتهم أن السفينة إذا كان فيها آبق أو مذنب لم تسر. قوله: (قارع أهل السفينة) أي غالبهم، قبل مرة واحدة، وقيل ثلاثاً. قوله: (فألقوه في البحر) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ ﴾ مرتب على محذوف قوله: (أي آت بما لا يلام عليه) أي أو المعنى وهو مليم نفسه. قوله: (بقوله كثيراً) استفيدت الكثرة من جعله من المسبحين. قوله: (قبراً له) أي بأن يموت فيبقى في بطنه ميتاً، وقيل: بأن يبقى على حياته. قوله: ﴿ فَنَبَذْنَاهُ ﴾ أي أمرنا الحوت بنبذه فنبذه. قوله: ﴿ بِٱلْعَرَآءِ ﴾ أي بالأرض المتسعة التي لا نبات بها. قوله: (من يومه) أي فالتقمه ضحى ونبذه عشية، وما ذكره المفسر خمسة أقوال: الأول للشعبي، والثاني لمقاتل، والثالث لعطاء، والرابع للضحاك، والخامس للسدي. قوله: (الممعط) بضم الميم الأولى، وتشديد الثانية مفتوحة، بعدها عين مهملة، بعدها طاء مهملة أيضاً أي المنتوف الشعر. قوله: (وهي القرع) خص بذلك، لأنه بارد الظل، لين الملمس، كبير الورق، لا يعلوه الذباب، وما ذكره المفسر أحد أقوال في تفسير اليقطين، وقيل: كانت شجرة التين، وقيل: شجرة الموز، تغطى بورقه، واستظل بأغصانه، وأفطر على ثماره. قوله: (وعلة) إما بفتح الواو والعين، أو بكسر الواو وسكون العين، هي الغزالة. قوله: (كقبله) عما توهم أنه قبل خروجه لم يكن مرسلاً. قوله: (بنينوى) بكسر النون الأولى، وياء ساكنة، ونون مضمومة، وألف مقصورة بعد الواو.
قوله: ﴿ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ جعل المفسر ﴿ أَوْ ﴾ للإضراب بمعنى بل، ويصح أن تكون للشك بالنسبة للمخاطبين، أي أن الرائي يشك عند رؤيتهم، أو للإبهام بمعنى أن اببه أبهم أمرهم، أو الإباحة، أو التخيير بمعنى أن الناظر يباح له، أو بخير بين أن يحذرهم بكذا أو كذا. قوله: (عند معاينة العذاب) أي عند حضور أمارته، ولذا نفعهم إيمانهم، وأما مثل فرعون، فلم يؤمن إلا بعد حصول العذاب بالفعل، وأيضاً قوم يونس، أخلصوا في إيمانهم، وفرعون لم يخلص، وإنما إيمانه عند الغرغرة لدفع الشدة، ولو ردوا لعادوا. قوله: (بما لهم) بفتح اللام، أي بالذي ثبت لهم من النعم، وتقدم بسط قصة يونس في سورة يونس، فراجعها إن شئت. قوله: ﴿ فَٱسْتَفْتِهِمْ ﴾ الفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره: إذا علمت ما علمت ما تقدم للأمم من شركهم ومختلفتهم لأنبيائهم فاستفتهم، أي اطلب من أهل مكة الخبر، لأجل توبيخهم وإقامة الحجة عليهم. قوله: (توبيخاً لهم) أي فليس الاستفتاء على سبيل الاستعلام والإفادة، بل هو على سبيل التقريع والتوبيخ لهم. قوله: ﴿ أَلِرَبِّكَ ٱلْبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلْبَنُونَ ﴾ أي ألهذه القسمة الجائرة وجه؟ فإنهم كفروا من وجهين: الأول: نسبة الولد لله سبحانه وتعالى من حيث هو. الثاني: كونه خصوص الأنثى فإنهم لا يرضون بنسبتها لأنفسهم، بل إما أن يمسكوها على الهوان، أو يدفنوها حية، فكيف يرضونها لله عز وجل، ويختصون بالبنين؟ قوله:(فيختصون بالأسنى) أي الأشرف وهو الذكور وفي نسخة بالأبناء. قوله: ﴿ أَمْ خَلَقْنَا ٱلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً ﴾ ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة تفسر ببل والهمزة، فهو إضراب عما زعموا، ورد عليهم، وهذا بمعنى قوله تعالى:﴿ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ﴾[الزخرف: ١٩] الآية. قوله: ﴿ وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾ الجملة حالية، أي والحال أنهم معاينون لخلقهم. قوله: ﴿ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ ﴾ استئناف لبيان إبطال ما هم عليه، كأنه قيل: ليس لهم مستند، إلا الكذب الصريح والافتراء القبيح. قوله: ﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون ﴾ فيه أي في قولهم: الملائكة بنات الله. قوله: (واستغنى بها) أي بهمزة الاستفهام في التوصل للنطق بالساكن، والاستفهام للتوبيخ والتقريع. قوله: ﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ أي أي شيء ثبت واستقر لكم، من حكمكم بهذا الحكم الجائر، حيث تثبتون أخس الجنسين في زعمكم لله سبحانه وتعالى؟ قوله: (بإدغام التاء في الذال) أو بتاء واحدة من غير إدغام، قراءتان سبعيتان.
قوله: ﴿ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ ﴾ انتقال من توبيخهم إلى إلزامهم الحجة بما لا وجود له، ولا يقدرون على اثباته. قوله: (التوراة) الصواب اسقاطه لأن الخطاب مع المشركين، والتوراة ليس لهم. قوله: ﴿ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ ﴾ التفات من الخطاب للغيبة، اشارة إلى أنهم يعبدون من رحمة الله، وليسوا أهلاً لخطابه. قوله: (لاجتنانهم عن الأبصار) أي استتارهم عنها. قوله: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ ﴾ هذا زيادة في تبكيتهم وتكذيبهم كأنه قيل: هؤلاء الملائكة الذين عطمتموهم وجعلتموهم بنات الله أعلم بحالكم، وما يؤول إليه أمركم ويحكمون بتعذيبكم، على سبيل التأبيد. قوله: ﴿ سُبْحَانَ ﴾ إلخ، هذا من كلام الملائكة، تنزيه لله تعالى عما وصفه به المشركون بعد تكذيبهم له، فكأنه قيل: ولقد علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون بقولهم ذلك، وقالوا سبحان الله عما يصفونه به، ولكن عباد الله المخلصين الذين نحن من جملتهم، برآء من هذا الوصف، وقوله: ﴿ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ﴾ تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين، ببيان عجزهم عن اغوائهم. قوله: (استثناء منقطع) أي من الواو في ﴿ يَصِفُونَ ﴾ وهو في قوة الاستدراك، دفع به ما يتوهم ثبوته أو نفيه، كأنه قال: تنزه الله عن وصف الكفار له تعالى، وأما وصف المؤمنين المخلصين له فلا يتنزه عنه، لأنهم لا يصفونه تعالى إلا بالكمالات. قوله: (أي على معبودكم) أشار بذلك إلى أن الضمير في (عليه) عائد على ﴿ مَآ ﴾ وعلى هذا، فالواو للمعية، و ﴿ مَآ ﴾ مفعول معه ساد مسد خبر إن. قوله: ﴿ بِفَاتِنِينَ ﴾ مفعوله محذوف قدره المفسر بقوله: (أحداً) والمعنى: إنكم مع معبودكم، لستم بمفسدين أحداً، إلا من سبقت له الشقاوة في علم الله. قوله: (إلا من هو صال الجحيم) استثناء من المفعول الذي قدره المفسر، و (صال) مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوف لالتقاء الساكنين، فهو معتل كقاض. قوله: (في علم الله تعالى) أي من علم الله أنه من أهل الجحيم، فإنه يميل إلى الكفر وأهله. قوله: ﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ هذا حكاية عن اعتراف الملائكة بالعبودية رداً على عبدتهم والمعنى: ليس منا أحد، إلا له مقام معلوم في المعرفة والعبادة، وامتثال ما يأمرنا الله تعالى به. قال ابن عباس: ما في السماوات موضع شبر، إلا وعليه ملك يصلي ويسبح، وقيل: إن هذه الثلاث آيات، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى، فتأخر جبريل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهنا تفارقني؟ فقال جبريل: ما أستطيع أن أتقدم عن مكاني هذا، وأنزل الله تعالى حكاية عن الملائكة ﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ الآيات، وفي الحديث:" ما في السماوات موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم "قوله: (أحد) قدره إشارة إلى أن في الآية حذف الموصوف وابقاء صفته وهو مبتدأ، والخبر جملة قوله: ﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ والتقدير: ما أحد منا إلا له مقام معلوم. قوله: (أقدامنا في الصلاة) أشار بذلك إلى أن المفعول محذوف. قوله: (مخففة من الثقيلة) أي واللام فارقة، والمعنى: أن قريشاً كانت تقول قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن لنا كتاباً مثل كتاب الأولين، لأخلصنا العبادة لله تعالى، وهذا نظير قوله تعالى:﴿ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ ﴾[فاطر: ٤٢].
قوله: ﴿ فَكَفَرُواْ بِهِ ﴾ الفاء للفصيحة مرتب على ما قبله. قوله: ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، والتعبير بسوف تهديد لهم، كقولك لمن تريد ضربه مثلاً: سوف ترى ما توعد به وأنت شارع فيه.
﴿ فَسَوْفَ ﴾ للوعيد لا للتعبير. قوله: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا ﴾ إلخ، هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم، وإنما صدرت هذه الجملة بالقسم، لتأكيد الاعتناء بتحقيق مضمونها، قوله: ﴿ كَلِمَتُنَا ﴾ إنما سمى الوعد بالنصر كلمة، مع أنه كلمات، لكون معنى الكل واحداً. قوله: (وهي لأغلبن أنا ورسلي) أي فيكون قوله: ﴿ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ ﴾ جملة مستأنفة، وقوله: (أو هي قوله) ﴿ إِنَّهُمْ ﴾ إلخ، أي وعليه فيكون بدلاً من ﴿ كَلِمَتُنَا ﴾ أو تفسيراً لها. قوله: ﴿ وَإِنَّ جُندَنَا ﴾ الجند في الأصل الأنصار والأعوان، والمراد منه أنصار دين الله، وهم المؤمنون، كما قال المفسر. قوله: (وإن لم ينتصر بعض منهم) إلخ، دفع بهذا ما يقال: قد شوهدت غلبة الكفار على المؤمنين في بعض الأزمان، فأجاب: بأن النصر إما في الآخرة للجميع، أو في الدنيا للبعض، فالمؤمنون منصورون على كل حال. أجيب أيضاً: بأن الأنبياء المأذون لهم في القتال، لا بد لهم من النصر في الدنيا، ولا تقع لهم هزيمة أبداً، وإنما إن وقع للكفار بعض غلبة، كما في أحد، فهو لحكم عظيمة، ولا تبيت على المؤمنين، بل ينصرون عليهم بصريح قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾[الأنفال: ٣٦] الآية، وأما غيرهم، فتارة ينصرون في الدنيا، وتارة لا، وإنما ينصرون في الآخرة. قوله: (تؤمر فيه بقتالهم) أي فكان أولاً مأموراً بالتبليغ والصبر، ثم لما كان في السنة الثانية من الهجرة، أمر صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وغزواته سبع وعشرون غزوة، قاتل في ثمان منها بنفسه: بدر وأحد والمصطلق والخندق وقريظة وخيبر وحنين والطائف.
قوله: ﴿ وَأَبْصِرْهُمْ ﴾ (إذا نزل بهم العذاب) أي من القتل والأسر، والمراد بالأمر: الدلالة على أن ذلك قريب كأنه واقع مشاهدة. قوله: (عاقبة كفرهم) أي من نزول العذاب بساحتهم. قوله: (تهديداً لهم) أي فليس الاستفهام على حقيقته، بل المقصود تهديدهم. قوله: (تكتفي بذكر الساحة) أي تستغني على سبيل الكفاية، فالمعنى: فإذا نزل بهم العذاب، فشبه العذاب بجيش هجم عليهم، فأناخ بفنائهم بغتة وهم في ديارهم، ففي ضمير العذاب استعارة بالكناية، والنزول تخييل. قوله: (بئس صباحاً) أشار بهذا إلى أن الفاعل ضمير، والتمييز محذوف، والمذكور مخصوص، والأوضح ما قاله غيره، من أن المذكور هو الفاعل، والمخصوص محذوف، وعليه فالتقدير: بئس صباح المنذرين صباحهم. قوله: (فيه اقامة الظاهر مقام المضمر) أي في التعبير بالمنذرين، وكان مقتضى الظاهر أن يقال صباحهم. قوله: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ ﴾ إلخ، الغرض منه تعليم المؤمنين أن يقولوه ولا يغفلوا عنه، لما روي عن علي كرم الله وجهه قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ إلخ، وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ * وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾.
قوله: ﴿ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ ﴾ أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذي العزة، وقيل: المراد العزة المخلوقة الكائنة بين خلقه، ويترتب على كل من القولين مسألة اليمين، فعلى الأول ينعقد بها اليمين، لأنها من صفات الله تعالى، وعلى الثاني لا ينعقد، لأنها من صفات المخلوق. قوله: ﴿ وَسَلاَمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ تعميم للرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم.
Icon